أولا ـ مرصد البركة

أولا ـ مرصد البركة

سرنا إلى القسم الأول من أقسام العلاج المبارك، قال لي المعلم ونحن سائران: سنذهب إلى مرصد البركة حيث نلتقي معلم البركة، فقد فتح الله عليه من الفتوح في هذا الباب ما يمكن أن يسد كل ثغرة، ويملأ كل عوز.

قلت: فهل استخلص معلم البركة من أدوية الله دواء جامعا يكتفي به الناس عن كل دواء؟

قال: لا.. هو لا يعرف الهندسة الوراثية، ولا فنون التغيير والتبديل.

قلت: فما يعرف إذن من علوم الدواء إذا لم يعرف هذا؟

قال: هيا بنا إليه.. وسيخبرك بما يعلم.

ما سرنا قليلا حتى رأينا مرصد البركة، وقد كتب على بابه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( هلم إلى الغذاء المبارك)([1])، فرأيت جمعا غفيرا من الناس من الأصحاء والمرضى، وقد عجبت لكثرتهم مع عدم تزاحمهم، فقلت للمعلم البركة: ما هذا؟ وأي ميزانية تكفي لتغذية كل هؤلاء؟

قال: هذا مرصد البركة، فكيف تسأل عن الميزانية؟

قلت: وهل يأكل أهل مركز البركة الهواء؟.. لا بد لهم من غذاء.. ولابد للغذاء من مال.

قال: ولكن البركة تحول القليل كثيرا.. والحقير عظيما.. ألم تسمع حديث جابر؟

قلت: حديث الخندق، وتكثير الطعام.

قال: أجل.. فاروه للغافلين ليعتبروا.

قلت: لقد حدث جابر قال: لما حفر الخندق رأيت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم خمصاً فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم خمصاً شديداً، فأخرجت إلي جراباً فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت ففرغت إلى فراغي وقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: لا تفضحني برَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، فجئته فساررته فقلت: يا رَسُول اللَّهِ ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير فتعال أنت ونفر معك، فصاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:( يا أهل الخندق، إن جابراً قد صنع سوراً فحيهلاً بكم)، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء)، فجئت وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك! فقلت: قد فعلت الذي قلت. فأخرجت عجيننا فبسق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيه وبارك ثم قال:( ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها)، وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو)

قال: فقد أطعم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيشا من الناس بطعام جماعة معدودة.

قلت: ولكنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: وقد كثر الطعام ببركته.. فالبركة هي سر التكثير.. وهي عامة لا تتعلق بزمان أو بأفراد.

قلت: تقصد أن هذا يمكن تعميمه.

قال: لا بصورته ولباسه.. ولكن بحقيقته وروحه.. ألم تسمع ما روي في الحديث أن أصحاب رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رَسُول اللَّهِ إنا نأكل ولا نشبع؟ قال:( فلعلكم تفترقون)، قالوا: نعم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم اللَّه يبارك لكم فيه)([2])

قلت: أهذا الحديث يدل على سبيل تحصيل البركة؟

قال: هذا يدل على سبيل من سبلها.

***

بينما نحن نسير في القاعة إذ رأينا رجلا قد امتلأ وقارا، يجمع بين الروح والجسد، والحس والمعنى، والنور والنار، والسكينة والثورة، والسلام والصراع، وقد جلس بين يديه رجل لا يكاد يختلف عني، ولولا أني تلمست بيدي أعضائي لخلتني ذلك الرجل، فسألت المعلم عنهما، فقال: أما الذي يجمع السكينة والثورة، فهو معلم البركة، وأما الذي بجانبه، فتلميذ من تلاميذ السلام امتلأ بالغيب، فأرد أن يمحو به الشهادة.

قلت: هو يشبهني كثيرا.

قال: قد يكون مظهرا من مظاهرك، أو صورة من صورك، أو تجل من تجلياتك.

قلت: ولكني بجانبك.

قال: أنت بجانبي، وهو يمثلك.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لن تعرف ذلك الآن.. فلا تعجل.

اقتربنا منهما فسمعت الذي يشبهني يقول: لا أكتمك ـ يا معلم البركة ـ أني بعد ما امتلأت قناعة بتأثير أدوية السماء في الشفاء، خطر على بالي تأسيس مستشفى روحي عظيم يبز كل المستشفيات، أو تغلق معه كل المستشفيات.. لقد قلت لنفسي: لماذا نعالج أدواء الجسد بالجسد، ولا نعالجها بالروح، فالروح أعظم من الجسد، وطاقة الروح أعظم من طاقة الجسد.. فكيف يستطيع الجسد، وهو ضعيف منهك أن يرمم بعضه بعضا؟ لا بد له من طاقة أكبر، وليس هناك من طاقة إلا طاقة الروح..

قال: ألم تسمع قوله تعالى:{ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } (الرعد:9)

قال الذي يشبهني: ماذا تقصد؟ وما الذي تريد؟

قال: الغيب لا يغني عن الشهادة، والشهادة لا تغني عن الغيب، ألا ترى اقترانهما في القرآن الكريم؟

قال الذي يشبهني: أجل فالغيب قرين الشهادة، والله يعلم بهما جميعا.

قال: وربهما جميعا.. فاعبد الله باحترامهما جميعا.

قال الذي يشبهني: وكيف؟

قال: أن تعطي لكل منهما حقه، للغيب حقه وللشهادة حقها.

قال الذي يشبهني: ولكن الشهادة أحقر من الغيب، وأين يجدي علاج الأطباء مع علاج طبيب الأطباء؟

قال: لا تحقر شيئا مما خلق الله، فإن الله ما احتقره حين خلقه، وقد كان طبيب الأطباء يغترف من بحار الغيب والشهادة، ويداوي بأدوية الغيب والشهادة.

وقد قال تعالى لأيوب u بعد أن طرق أبواب الغيب:{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (صّ:42)، فدعاه إلى اللجوء إلى صيدلية عالم الشهادة.

وقال تعالى عن يونس u:{ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} (الصافات:146)، ألا تعلم لم أنبت الله تعالى على يونس u بعد خروجه من بطن الحوت شجرة اليقطين؟

قال الذي يشبهني: أجل.. ففي كل ما ذكرته أدوية كثيرة من عالم الشهادة.

قال: فها قد أقررت إذن بتأثير عالم الشهادة.. ألا تعلم أي عبودية تمارس عندما تتناول الدواء من عالم الشهادة؟

قال الذي يشبهني: وهل في تناول الدواء عبودية؟

قال: المؤمن لا يعبد إلا الله، ولا يتحرك إلا بما تتطلبه عبودية الله، فهذا الدواء صنعة الحكيم، فإن تناولته من يد الله، وعرفت الله في تناوله وشكرته على توفيره، كما تشكر الطبيب الذي عالجك مارست بذلك عبودية الدواء.

قال الذي يشبهني: لست أدري، ما علاقة الشريعة بالدواء، فالدواء دنيا، والشريعة دين، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، وإذا كان شيء من أمر دينكم فإلي)([3])

قال: الدنيا لا تكون إلا بالدين، ولا يحفظ الدنيا إلا الدين.

قال الذي يشبهني: فكيف تجمع بين الدنيا والدين.

قال: بتطعيم الدنيا ببركات الدين.

ثم انصرف الرجل الذي يشبهني، وقد وعى ما قال له.

***

اقتربت منه، وقلت: إني أراك سكينة تحمل رياح ثورة، ونسيما يطوي إعصارا، فأيهما أنت، فإني لا أكاد أميز السلام فيك عن الصراع، والسكينة عن الثورة؟

قال: أنا النقطة التي تحت الباء.

قلت: ذاك معلمي.. معلم السلام.. ألا تعرفه؟

قال: وهو معلمي الذي تخرجت على يديه في مدرسة السلام.. وكل من تخرج على يديه ينال هذه الشهادة، ويوصف بهذا الوصف.

قلت: أكل من يتخرج من مدرسة السلام يصبح نقطة تحت باء؟

قال: وهل هناك ما هو أشرف منها.. أليست العبودية لله أعلى المراتب؟

قلت: بلى..

قال: فلن تتحقق بالعبودية حتى تتحقق بالسلام.

قلت: ولكني أرى امتزاج الصراع فيك بالسلام، والسكينة بالثورة، فأيهما أنت؟

قال: أنا السلام الذي يتحرك كتحرك النسيم العليل لتمتد الحياة بحركته.. أو يتحرك كتحرك الأمراج العاتية ليملأ الأرض بالبخار المبارك.

قلت: دعنا من كل هذا.. وخبرني.. لقد ذكر لي المعلم بأنك تصف دواء جامعا شافيا كافيا، فما اسم هذا الدواء؟

قال: هو ليس دواء فقط.. بل هو حياة يشكل الدواء أحد جوانبها.

قلت: وهل لهذا الدوء أو الحياة علاقة بالشفاء؟

قال: أجل.. شفاء كل العلل الحسية والمعنوية.. النفسية والجسدية.. الفردية والاجتماعية.

قلت: أهذا الدواء يحوي كل ذلك؟

قال: من تداوى به عوفيت نفسه، وعوفي جسده، وصار سلاما على الأرض.

قلت: فما اسمه؟

قال: نحن نسميه:( نظام الحياة المباركة)

قلت: تقصد:( مباركوبيوتيك)؟

قال: بعضهم يسميه بهذا الاسم ليشاكل به ما تعرفونه من الماكروبيوتيك.

قلت: لم؟ وما الفرق بينهما؟

قال: فرق عظيم.. فالماكروبيوتيك نظر إلى الغذاء.. وإلى يانه ويانغه أما نحن فننظر إلى بركته.. فالبركة هي سر الشفاء وسر العافية.. بل هي سر كل خير.

قلت: ولكن البركة شيء معنوي.

قال: ولكنه مؤثر.. أتريد تشبيها يشرح لك ذلك؟

قلت: ذلك ما يرضي بصيرتي، ويقنعني بما تقول.

قال: إن مثال البركة في الأشياء كمثال الروح في الجسد.. فهل يمكن للجسد أن يفعل شيئا بدون الروح؟

قلت: طبعا.. الجسد بلا روح كالتراب والحجارة لا يصلح له إلا الدفن.

قال: فأنتم كذلك تجعلون بطونكم مقابر للغذاء بما تسلبونه من بركته، فلذلك يدخل ميتا، ويخرج ميتا، وقد يصيبكم ببعض سموم الموتى.

قلت: وهل الطعام كائن حي حتى يوصف بالموت؟

قال: هو كائن حي بالبركة.. وهو جماد بنزع البركة.

قلت: فلنفرض أنه حي.. فالطعام طعام.. وهو يمر على جميع الأجهزة، ويصبح دما، وتتغذى منه الخلايا سواء قلنا بحياته أو بموته.. ببركته أو محق بركته.

قال: أرأيت لو أن قائدا من القواد رأى عدوا يريد أن يهاجم حصنه، فأرسل مجموعة من الجنود الموتى، ووضعهم رغما عنهم في مواجهة العدو، أيمكن أن يفعلوا شيئا؟

قلت: لا.. فهم موتى.. فلن يردعوا عدوا، ولن يقروا عين صديق.. ولكن لا أظن أن هناك من يفعل هذا.

قال: أنتم تفعلونه.. الغذاء المبارك هو الغذاء الذي نفخ فيه من روح البركة ما أمده بالحياة.. فلذلك إن دخل الجسم دخل حيا.. فإن اخترق الخلايا ملأها بالبركة التي تقضي على كل داء وتنزل كل عافية.

قلت: فأنت ترى أن سر التأثير لا يعود إلى المكونات، بل إلى البركة التي تكون فيها.

قال: أجل.. فلكل شيء خلقه الله تعالى من حيث أصله في منتهى الكمال، ولكن محق البركة فيه يجعله سليبا ميتا ليس له أي أثر.

قلت: هذه دعاوى، فما برهنانها؟

قال: ألم تقرأ ما ورد في قصة الخليل u عند زيارته لابنه إسماعيل.

قلت: هي قصة طويلة، فاذكر لي منها موضع الاستشهاد.

قال: لقد ورد فيها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( فلبث عنهم إبراهيم ما شاء اللَّه ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه، قالت خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على اللَّه تعالى، فقال: ما طعامكم؟ قالت اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه)، قال:( فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه)

قلت: فما موضع الشاهد من هذه القصة؟

قال: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثير الدعاء بالبركة في هذا الغذاء، ولذلك صار كافيا موافقا نافعا.

قلت: ومن لنا بالخليل u حتى يدعو لنا بمثل هذا؟

قال: لقد جعل الله تعالى للبركة أسبابا وشروطا، ونحن في هذا المستشفى نستعملها علاجا لكل الأدواء.. فنطعمهم الغذاء والدواء مطعما بالبركة التي تملؤه بالحياة، فتجعله يسري في الجسم كما يسري الجندي النشيط يقتل كل داء، ويصارع كل بلاء.

قلت: أنا لم أسلم لك بعد ما تذكره من نفخ الحياة في الطعام بسبب البركة.. فالبركة شيء معنوي.

قال: سأذكر لك ما قد يصح الاستئناس به.. لقد روى ابن مسعود قال: كنا ـ أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا! بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس معنا ماء، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( اطلبوا من معه فضل ماء)، فأتى بماء، فصبه في إناء ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه، ثم قال:( حي على الطهور المبارك، والبركة من الله)، فشربنا، قال ابن مسعود:( لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)([4])

قلت: فما موضع الشاهد من هذا النص؟

قال: فيه مواضع من الاستشهاد.. ولكن سماع الصحابة المنتجبين تسبيح الطعام، وهو يؤكل فيه من الدلاله ما فيه.. فالتسبيح سر الحياة وعلامتها وقوتها.

قلت: التسبيح عام لكل شيء، فكل شيء يسبح باسم الله.. ولكنا لا نفقه تسبيحه.

قال: من تسبيحه ما يكون شفاء.. وحينذاك يكون مباركا..

قلت: لن أجادلك في هذا.. فإني لم أر بعد تأثير هذا على المرضى، ولكني أريد أن أسألك عن سر هذا وعلاقته بما نرى من أنواع استعمال الغذاء في الشفاء.

قال: لقد رأيت الأطباء في تحليلهم لتأثير الغذاء يركزون على مكوناته من حرارة ووبرودة ورطوبة ويبوسة، أو من ين ويانغ، أو من بروتين وسكريات ودهون وفيتامين ومعادن.. ويغفلون عن شيء أكثر من هذه العناصر جميعا اسمه الحياة.. حياة الغذاء.. فالغذاء كائن حي.. أو هو أشبه بالطبيب الذي ينزل الجسم ليملأه بالعافية.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت لو أن قومك استطاعوا أن يخترعوا طبيبا مجهريا يسير عبر شبكة الدماء، ويخترق الخلايا، ويبحث بحربته عن العلل ليقلتها، ويداوي بخيوطه الجراح ويرممها..

قلت: لو فعلوا ذلك لقضوا على جميع الأمراض، ومسحوا جميع العلل.. ولكن من لهم بهذا.. وكم يحتاجون إلى طبيب بمثل هذا النوع ففي الإنسان ملايير الخلايا.

قال: فالغذاء المبارك يقوم بهذه المهمة.. وهو لا يكتفي بذلك.. بل إنه يتحول إلى خلايا ودماء مملوءة بالحياة والبركة.

قلت: تركيزك على البركة يكاد يلغي أهم شيء في الغذاء وهو عناصره ومركباته.. فلا يمكن أن نطعم من يحتاج سكريات طعاما مملوءا بالمعادن.

قال: ذلك صحيح.. ولكنك إن أطعمته سكريات وحدها قتلته.

قلت: لم أفهم قصدك.

قال: رأيت بعض قومك يبحثون عن سر الشفاء في العسل.

قلت: أعلم ذلك.. وهم يفعلون ذلك ليستخلصوه من العسل، ثم يعالجون به المرضى موضوعا في كبسولات أ وشرابا.

قال: أتدري ما مثلهم في ذلك؟

قلت: وما مثلهم؟

قال: إن مثلهم في ذلك كمثل قائد رأى جنديا قد اتشح بجميع أردية القوة، فكلف مستشاريه وخبراءه بأن يشرحوا جثة هذا الجندي، ثم يستخلصوا منه سر القوة، ليرموا بها أعداءهم.

قلت: سيقتلونه بذلك.. ولن يجدي ما استخلصوه شيئا.

قال: فكلذلك أنتم تفعلون.. أنتم تريدون أن تقتلوا العسل كما قتلتم كل غذاء وكل دواء.

قلت: لقد ذكرتني بنفر من قومي رأوا الـ ADN ورأوا سر تعلق حياة الخلية به، فراحوا يصنعونه، لكنهم فوجئوا بأن ما صنعوه ميت لا حراك له.

قال: وكذلك كل غذاء ودواء لا حياة فيه ولا بركة.

قلت: ولكنا نرى سر التأثير.

قال: لا تقل سر التأثير، بل قل: سراب التأثير.

قلت: فهمت قصدك من هذا، ولكني أريد أن أسألك سؤالا كنت سألت مثله..

قاطعني، وقال: تريد معرفة التأثير.. أو تريد معرفة الأمراض التي أمكن علاجها بهذا النظام.

قلت: لم تعد ما في نفسي.. فالبرهان على نجاعة الدواء حصول الشفاء.

قال: لم يدخل هذا المستشفى مريض إلا وخرج معافى.

قلت: أي أنواع الأمراض؟

قال: كل الأمراض النفسية والجسدية..

قلت: ولكن هناك أمراضا كثيرة عجز قومي عن علاجها.. فهل توصلتم إلى علاجها؟

قال: نعم.. ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:( تداووا فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله)

قلت: فماذا تستعملون في العلاج؟

قال: المرضى يمرون على جميع أقسام هذا المستشفى لينالوا في كل قسم ما يحقق لهم حظهم من الشفاء.. فالشفاء عملية شاملة.. ومن الخطأ العظيم تجزئتها.

قلت: كيف تجزأ؟

قال: أليس الإنسان روحا وجسدا، غيبا وشهادة؟

قلت: بلى.. وذلك مما لا يجادل فيه.

قال: ولكنكم تجزئون الإنسان فتنظرون إلى إليه ككائن حسي لا روح له.. أو لا علاقة له بالروح.. أنتم في عصر تقدم فيه الطب، ولكنه مع ذلك تأخر فيه الطب.. تأخر تأخرا عظيما.

قلت: كيف يتقدم ويتأخر، أليس هذا تناقضا؟

قال: تقدم فيه الطب باكتشافاته الكثيرة، واختراعاته التي لا يوازيها إلا اكتشافاته، فلا تظهر علة في الصباح، وإلا ويكر عليها جند الطب بالمساء.

قلت: هذا شيء جميل، وهذا تقدم محض، فكيف يكون التخلف في التقدم؟

قال: إن العلة التي ظهرت في المساء سببها الدواء الذي تناوله المريض في الصباح.

قلت: هذا شيء لا بد منه، فكل علاج يفيد ناحية قد يضر أخرى؟

قال: الخطر ليس في هذا؟

قلت: فيم إذن.

قال: في التجارة بأجساد الناس؟

قلت: لقد ذهب زمان الرقيق، فكيف يتاجر بالأجساد؟

قال: ألا ترى دعايات الأدوية وإشهاراتها، ما الفرق بينها وبين إشهارات الأغذية والملابس؟.. ثم كيف يتحول الدواء الذي تتوقف عليه حياة الإنسان إلى تجارة رائجة مربحة؟.. ثم لماذا تتنافس مراكز البحث، وتتصارع، من أجل الظفر بدواء يسد العلة، ويفرغ الجيوب؟.. ثم لماذا يحقر الطب بعضه بعضا، وغرضه واحد؟

قلت: فما الذي ينقص الطب ليتقدم؟

قال: البركة.. العلاج بالبركة، وهي تبدأ من معالجة الإنسان، لا أعضاء الإنسان؟

قلت: معالجة الإنسان، لا أعضاء الإنسان؟ ما هذا، وهل الإنسان إلا أعضاؤه؟

قال: ألم تسمع قول نبيك صلى الله عليه وآله وسلم:( المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)([5])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله)([6])

قلت: وضح ما تريد، فما وجه الإشارة في هذا؟

قال: أنتم الآن في عصر التخصصات العلمية الدقيقة، فلذلك تنظرون إلى الإنسان كمجموعة أعضاء وأجهزة، فإن دخلت إلى طبيب الأمراض التنفسية لم يلحظ منك إلا رئتيك وهما تشهقان وتزفران، وكأنك رئة تتحرك، فلا يتعامل معك إلا على أساس ذلك، ولا يبالي بعد أن يمس ببلسم الشفاء رئتيك أن تذهب بعدها إلى أي طبيب آخر.

وإن دخلت إلى طبيب أمراض القلب لم يسمع لما تقول، ولا لما تشكو بل يكتفي بسماع خفقان قلبك، ورؤية حركات بطينك وأذينك.. وهكذا مع كل الأطباء.

قلت: فما المخرج؟

قال: أن يتعامل الطب مع الإنسان.

قلت: كيف؟

قال: مع الإنسان روحا وجسدا، ونفسا وعقلا وقلبا، فيراعي طاقاته ولطائفه، ويستخدمها جميعا في الاستشفاء.

قلت: تقصد الجمع بين الغيب والشهادة؟

قال: إن كان الإنسان غيبا وشهادة، فذلك ما أقصد.

قلت: فمن الطبيب الذي استطاع أن يجمع ذلك كله؟

قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان يداوي بأدوية الغيب والشهادة؟ وعلمنا أن نداوي بالغيب والشهادة.

قلت: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن طبيبا؟

قال: فإن لم يكن طبيبا، فمن الطبيب([7]

قلت: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هاد ومعلم ورسول.

قال: والمعلم هو الذي علم الناس جميعا، والأطباء من الناس.

قلت: أهذا النظام الذي تعتمدونه ينطلق من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العلاج بالعسل والأعشاب ونحوها؟

قال: تخطئون حين تتصورون هذا.. رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن عشابا.. كان ربانيا، وقد دلنا بكل سلوكه على طرق الشفاء وطرق تناول الشفاء.. فالشفاء يستخلص من هديه كله، ومن حياته كلها.

قلت: لم أفهم هذا.. فإني لا أرى العلاج إلا ما يدخل إلى الجوف ليقوم بتدمير ما يجب تدميره، أو ترميم ما يستحق الترميم.

قال: ذلك علاج الشهادة.. وقد يدمر ما لا يستحق التدمير، أو يبني ما لا يحتاج إليه من البناء.

قال: ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي تستندون إليه في علاجكم.

قال: كان صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى الإنسان بعد أن نفخت فيه الروح.. لا قبل أن تنفخ فيه.. فلذلك كان يصف كل أنواع الأدوية..

قلت: أتقصد أن في هديه صلى الله عليه وآله وسلم كل تفاصيل الطب؟

قال: كل قوانين الطب.. لا تفاصيله.. وفي هذا المستشفى ينطلق الأطباء والخبراء من تعاليم أستاذهم الأكبر صلى الله عليه وآله وسلم ليكتشفوا دواء كل علة، ويرسموا البسمة على كل شفة.

قلت: ما الفرق بين القوانين والتفاصيل؟

قال: القوانين إلهية والتفاصيل بشرية.. ولا تفاصيل بلا قوانين.

قلت: فما الفرق بينهما؟

قال: لقد علم قومك أن أسباب كثير من العلل هي الجراثيم، وهو قانون من قوانين الصحة، فراحوا يتعرفون عليها، ويقاومونها..

قلت: أجل.. هذا صحيح.. فقد عرفت صناعة الأدوية كثيرا من المضادات الحيوية، وهي مواد اكتشفت أصلاً في العضويات الدقيقة، إلا أنها أصبحت اليوم تنتج تركيبياً على نطاق واسع لاستخدامها في عضويات دقيقة أخرى أو وقف نموها.

قال: ففيم تستعمل هذه المضادات؟

قلت: في معالجة الالتهابات الجرثومية أو الفطرية.

قال: فما أساس التعرف عليها؟

قلت: لقد كان باستور أول من لاحظ تأثير هذه المضادات، في حين أثبت ألكسندر فليمنغ لأول مرة في عام 1929 أن عفن Penicillium notatum ينتج مادة البنسلين القادرة على القضاء على بعض أنواع الجراثيم.. وفي عام 1940 تمكن العالمان فلوري وشاين من صنع كميات كافية من البنسلين للاستعمال السريري.. ويعتبر عزل الستربتوميسين من قبل واكسمان والغراميسيدين من قبل دوبوس ubos وعزل السيفالوسبورين، من أهم الاكتشافات المبكرة للمضادات الحيوية المفيدة في معالجة الالتهاب التي تصيب الإنسان.

قال: فما نتج عن هذه الاكتشافات؟

قلت: لقد نتج عنها الكثير من أنواع المضادات الحيوية، والبحث ما زال مستمرا لاكتشاف المزيد منها.

قال: فما اكتشفه باستور وغيره كان قانونا من قوانين الطب استتبع التفاصيل الكثيرة التي لا تزالون تبحثون فيها.

قلت: أجل.. وقد كرمت البشرية باستور أعظم تكريم على اكتشافه هذا.

قال: فلتكرم البشرية محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه حقيق بالتكريم.

قلت: هي تكرمه على أدوية السماء التي جاء بها.

قال: لا.. لا يكفي ذلك.. بل ينبغي أن تكرمه على أدوية الأرض، فإن ما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم يفوق كل ما ذكره أطباء العالم جميعا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ستكتشف ذلك عندما تدخل إلى أقسام هذا المستشفى لترى التفاصيل الكثيرة التي انبنت على القوانين الشفائية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: وهل أطباء هذا المستشفى ينطلقون من هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العلاج؟

قال: أجل.. وهم يعالجون كل الأمراض حتى ما استعصى على قومك منها.

قلت: فهل يعالجونها بالمضادات الحيوية؟

قال: يعالجونها بما تعجز كل أدويتكم عن علاجها.

قلت: اضرب لي مثالا على ذلك يوضح لي هذا.

قال: هل يعالج قومك المرضى بالصدقة؟

ضحكت، وقلت: لو فعلوا ذلك لرجمهم الناس بالحجارة.

قال: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يداوي الناس بالصدقة، بل قال:( داووا مرضاكم بالصدقة)، وفي حديث آخر:( ما عولج مريض بأفضل من الصدقة)([8])

قلت: فهل لذلك علاقة بالبركة التي تستعملونها علاجا؟

قال: أجل..

قلت: فما محلها منه؟

قال: تقوم البركة على استمداد الشفاء من الطبيب الأول، والصدقة سبيل من سبل نزول الدواء منه.

قلت: فهل تعالجون بهذا في هذا المستشفى؟

قال: نعالج به وبغيره.. نعالج بكل ما يرتبط بالبركة.. فنحن نبحث عنها كما تبحثون في مخابركم عن العناصر والمركبات.

قلت: ولكن البركة بين قومي صارت لعبة بين أيدي المشعوذين.. فلذلك أساء الناس الظن بها.

قال: الباطل لا يمحق الحق، والمنكر لا يبطل المعروف، والحقيقة لا تضرها دعاوى الجاهلين.

***

 قلت: حدثتني عن علاجك، فحدثني عنك.. فهل أنت من مدائن السلام.. أم من مدائن الصراع؟

قال: كل من تراه في مدائن السلام هرب من أرض الصراع.. ولست غريبا عنهم في ذلك.

قلت: لقد عرفت الكثير في هذا المستشفى.. فما اسمك في أرض الصراع.

قال: لا يهمك اسمي.. فالاسم قناع من الأقنعة التي تغفلون بها عن الحقائق.

قلت: أتخاف على نفسك من شركات الغذاء والأدوية وهيئات الرقاة أن تنصب لك كمينا أو تدس لك سما؟

قال: من تعلم السلام لا يعرف الخوف.. ولا يدب إلى قلبه ما يدب إلى قلوب الغافلين.

قلت: فلم لا تذكر اسمك إذن؟

قال: من عرفه نسي اسمه.. ألم تسمع قول أبي يزيد:( كنا بنا، ففنينا عنا، فصرنا بلا نحن)

قلت: بلى.. وقد سأله رجل لا يعرفه عن أبي يزيد، فقال: أنا منذ ثلاثين سنة أبحث عنه، ولم أجده.

قال: فأعلم قومك أنهم لن يفلحوا حتى ينزعوا هذه الألقاب التي يعبدونها من دون الله.. فالله لا يبارك إلا فيمن لبس لباس العبودية.

قلت: إن لم تنبئني باسمك، فأنبئني عنك.. هل كنت في أرض الصراع طبيبا؟.. وهل كان المرضى يأتونك ويزدحمون على بابك؟.. وبم كنت تعالجهم؟

قال: لم أكن طبيا.. ولم يكن الناس يعرفونني.. ولكن قلبي كان يمتلئ ألما حين أرى خلقا كثيرا من خلق الله لعبة بين أيدي الأطباء والمشعوذين.. يستغلون حاجتهم إلى الشفاء ليذيقوهم ألوان الألم.

قلت: أبين قومك مشعوذون؟

قال: وهل خلا شعب من الشعوب من المشعوذين؟.. أليس أولئك الدجالون الذي يلبسون عباءة القرآن الكريم من أخطر المشعوذين؟..

قلت: تقصد الرقاة..

قال: وهل هناك غيرهم من المحرفين لدين الله.. المتلاعبين بالمرضى.

قلت: علمت موقفكم منهم.. فقد تجولت في أنحاء المستشفى وأبصرت الحملة التشديدة التي يحملها هذا المستشفى على هؤلاء.

قال: ليسوا وحدهم.. بل هم مع أطباء قومك خليط واحد.. لا يتقون الله في المرضى.. ولا يتألمون لما يصيبهم.

قلت: علمت ما أصابك من هم وألم بسبب هؤلاء.. فما الذي حولك إلى هذا السبيل.. هل مرضت أو مرضت أمك وأختك بالسل كما مرض جورج اوشاوا وأمه وأخته؟

قال: أجل.. لقد ابتلاني الله بمرض خطير.. ذهبت لأجله إلى الأطباء، فلعبوا بي ما شاء لهم أن يلعبوا.. ثم ذهبت إلى الرقاة، فوصفوا لي من فنون الدجل ما وصفوا.. وبعد أن عضني اليأس بنابه.. وجلست في البرزخ الذي بين الموت والحياة.. لاح لي من سماء الأمل بصيصا من نور.. فلاحظته بعين بصريتي.. ثم وجدت يدي تمتد إليه لتشرب من كأسه العذبة شرابا لن أنسى مذاقه..

قلت: فما فعل هذا الشراب العجيب؟

قال: لقد سرى في أوصالي.. وتشربته عروقي.. ونشطت له خلاياي.. ونهضت من مرضي بقوة لم أدر سرها.. ونشاط لا أعرف سببه.. وبعد بحث عن العلة هداني الله إلى البركة..

قلت: وكيف عرفت أنها البركة.. ولم تكن آثار تلك الأدوية التي استعملتها.. ولا الرقى التي قرئت عليك؟

قال: لقد أيأسني الأطباء من حالتي.. أعلموني أن ما أتناوله ما هو إلا مجرد أدوية مهدئة سرعان ما يزول أثرها.. أماالمرض فهو قائم في مكانه.. بل نشط غاية النشاط.. وأنه لن يبرح حتى يجتث شجرتي من أصولها.

قلت: فعندما شفيت ماذا قالوا؟

قال: تعجبوا كثيرا.. أعادوا تحليلاتهم وجميع ما يستعملونه للكشف.. فرأوا جسمي ببراءة الطفولة وصفاء الجمال.

قلت: والرقاة؟

قال: هم أيضا ملأوا قلبي يأسا بعد أن استلوا كل ما في جيبي من أموال.

قلت: فلم لم تكتف بشفائك، وذهبت تبحث عن سر الشفاء الذي حصل لك؟

قال:لقد ملأ الله قلبي حنانا ورحمة.. فكانت مدامعي تنهمر للآلام وقلبي يتفطر للأنين.. فلذلك سرت بين المرضى أبشرهم، وبين المعلولين أمسح الكآبة عنهم.

قلت: فهل وجدت سر ابتسامة الأنين؟

قال: من بحث بنفسه لن يجد إلا السراب؟

قلت: فبمن بحثت إذن؟

قال: بحثت عن الطبيب الذي يملك كل ألوان الشفاء.. فمن وجد الطبيب وجد الشفاء.. ألم تسمع قول الحكيم:( سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه)

قلت: فمن وصل إلى الطبيب وصل إلى الشفاء؟

قال: أجل.. بل يصل إلى ما هو فوق الشفاء.. إلى المعرفة.. ومن عرف الله لم يعالج جسده فقط.. بل يعالج روحه وكيانه وواقعه.

 قلت: فقد وجدت العلاج في المعرفة؟

قال: المعرفة هي مبدأ العلاج.. ألم تسمع قول المسيح u للقعيد:( إيمانك شفاك)

قلت: بلى..

قال: فلذلك يبدأ المريض عندنا بقسم الغيبة.. فلا يحضر حتى يغيب.. ولا يعالج جسده حتى تعالج روحه.

قلت: فكيف اختاروك معلما للبركة في هذا المستشفى؟

قال: لقد هداني الله إلى هذا النظام.. فاختارني أهل الحل والعقد في مدائن السلام إلى تنفيذه.

قلت: وهل يحتاج تنفيذه إلى مستشفى؟

قال: لا.. ولا إلى دجالين يقومون بابتزاز الناس بالتجارة فيه.. فهو يقوم على الإخلاص.

قلت: فأين يعالج المريض به؟

قال: في بيته أو في السوق أو في المعمل أو في الشارع.. فهذا العلاج لا يحتاج إلا برمجة للحياة تتوافق مع أصول الشفاء.

قلت: لقد سمعت صاحب ( نظام الغذاء الميزان)يعتمد برنامج الست، فما برنامجكم؟

قال: لقد مررت في حصون العافية على قاعة التنظيم، وعرفت سر الأربعين.

قلت: أجل.. أذكر ذلك.

قال: لقد عرفنا من النصوص أن للأربعين أسرار في تحويل الإنسان جميعا لا خلاياه وحدها، فلذلك كل متدرب يبدأ بالأربعين.. وأكثر المرضى يخرجون بالبرء التام.. وفيهم من يحتاج إلى المزيد من الدورات العلاجية.

قلت: فماذا يفعل في الأربعين؟

قال: يتعلم الإخلاص والحكمة والسلام.. ويتعلم كيف يدخل الطعام المبارك والدواء المبارك إلى جوفه ليقوم بمهمة الشفاء.

قلت: ولكن حياة الإنسان طويلة.. فكيف تقنعون بالأربعين؟

قال: التزامه بالصدق في الأربعين يهيئه لأن يسير حياته جميعا وفق ما عاشه في هذه المدة.

***

قلت: فهل للبركة سبل يمكن تحصيلها بها؟

قال: أجل.. ونحن في هذا المركز نقوم بكل الوسائل للبحث عن مواطنها.

قلت: فهل اخترعتم أجهزة لذلك؟

قال: يمكن أن تسميها أجهزة، ويمكن أن لا تسميها.

قلت: كيف؟..

قال: نحن نعتمد هنا على المتوسمين الذين قال الله فيهم:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}(الحجر:75)

قلت: فكيف تعتمدون عليهم؟

قال: لقد أعطاهم الله تعالى البصيرة التي يرون بها مواضع البركة كما يرى خبراءكم العناصر والمركبات.

قلت: ولكن قومي يملكون مجاهر تحول من الذرة جبلا.. ومن النملة فيلا.

قال: ولهؤلاء من البصيرة ما يخترقون به جميع الأسوار التي لا تحلم جميع مجاهركم برؤيتها.

قلت: فماذا وجد هؤلاء المتوسمون؟

قال: لقد وجدوا أربعة عناصر تكتمل البركة باكتمالها.

قلت: ما بالكم معشر مدائن السلام.. كل شيء تجعلونه أربعة؟

قال: ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:( خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف ولا تهزم اثنا عشر ألفا من قلة)([9])

قلت: بلى.. فما سر ذلك؟

قال: الأربعة تجمع الأركان والأصول.. فلذلك ترى أكثر الحقائق تنحصر في الأربع.

قلت: فما هذه الأربع التي يبحث عنها هذا المرصد؟

قال: المصدر، والوسائط، والمواقيت، والأحوال.

قلت: هذه أسماء.. فما مسمياتها؟ وما وجه الحصر فيها؟

قال: لا بد للبركة من مصدر تنطلق منه كالشعاع لا بد له من شمس تمد به.

قلت: هذا صحيح.

قال: ولا بد لشعاع الشمس من محل تنزل به.

قلت: وتلك هي الوسائط؟

قال: أجل.. وهي التي تتلقى نورها من المصدر، كما تتلقون النور من القمر.

قلت: فهمت هذا، فما المواقيت؟

قال: لكل بركة مواقيتها الخاصة بها.

قلت: فالمحال؟

قال: قد توجد جميع أنواع البركات التي ذكرنا.. ولكن المستقبل لا يكون صالحا لتقبلها، فلذلك لا ينال من خيرها.

قلت: فهمت هذا، فأين أتعلم هذه العلوم؟

قال: سر في هذا المركز، فستلقى المتوسمين الذي يعلمونك.

قلت: ألا تسير معي؟

قال: سأرجع إليك عندما تنتهي لنذهب إلى سائر المراكز.

قلت: فكيف أطلبك؟

قال: لن تحتاج إلى ذلك..

مصدر البركة

سرت في أرجاء القاعة المكتظة بالمتوسمين، فوجدت قوما يجلسون إلى رجل قد علق خلفه لوحة كتب عليها قوله تعالى:{ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}(الرحمن:78)، فقلت: لا شك أن هذا هو متوسم المصدر.

قال ـ من غير أن يسمعني ـ: أجل.. فالبركة من الله.. والخير من الله.. ألم تسمع قوله تعالى:{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}(لأعراف:26)، وقال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (لأعراف:57)، وقال تعالى:{ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}(الزمر:6)

قلت: بلى.. فما في هذا من أسرار البركة؟

قال: لقد أخبر تعالى أن ما ينزل من السماء ينزل مباركا.. ألم تسمع قوله تعالى في القرآن الكريم:{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الأنعام:155)، وقال تعالى:{ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}(الانبياء:50)، وقال تعالى:{ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}(المؤمنون:29)، وقال تعالى:{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}(صّ:29)، وقال تعالى:{ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(الدخان:3)

وقال تعالى يذكر سر البركة في المطر:{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}(قّ:9)

بل إنه تعالى عندما ذكر الحديد، وذكر منافعه ـ التي هي بركاته ـ عبر عنها بالإنزال، فقال تعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }(الحديد:25)

وعندما ذكر اللباس ومنافعه عبر عنها بالإنزال، فقال تعالى:{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}(لأعراف:26)

قلت: فهمت هذا.. وهذا يعني أن البركة في كل هذه الأشياء، ولكن إشكالا عظيما يطرح هنا.

قال: تقصد أن هذه الأمور ينالها الكافر والمؤمن، والصديق والشقي..

قلت: أجل.. ولم تعدو ما في نفسي.. ولا عجب، فأنت من المتوسمين.

قال: هم ينالونها كما ينالها المؤمنون.. ولكنهم ينالونها مجردة من البركة.. أو هي كما قال معلمنا: تدخل أجوافهم ميتة لا حراك لها.. بل قد تدخلها حية تصارعهم وتسيمهم ألوان العذاب.

قلت: لا يزال فهمي كليلا دون إدارك سر هذا.

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته)([10])، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه يعطيه ولكنه عطاء ممحوق البركة.. وما كان كذلك كان ضرره أقرب من نفعه.

قلت: لقد ذكرتني بما روي في الحديث أن فتى من أسلم قال: يا رَسُول اللَّهِ إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهز به؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( ائت فلاناً، فإنه قد كان تجهز فمرض)، فأتاه فقال:( إن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يقرئك السلام، ويقول:( أعطني الذي تجهزت به)، فقال الرجل مخاطبا أهله:( يا فلانة أعطيه الذي تجهزت به، ولا تحبسي منه شيئاً، فوالله لا تحبسي منه شيئاً فيبارك لك فيه)([11])

قال: فقد أدرك هذا الصحابي الجليل سر البركة.. فلذلك راح ينفر من الأشياء الممحوقة.

قلت: وهذا يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمهم من أسرار البركة ما جعلهم يلتمسون مواضعها.

قال: أجل.. ويدل لذلك ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع؛ واليد العليا خير من اليد السفلى)([12])

قلت: عرفت هذا، واقتنعت به، وقد سمعت من معلم البركة ما جعلني أبحث عن عناصر البركة ومركباتها.. فأي بلسم رأيته أيتها المتوسم يملأ الأشياء بالبركة؟

قال: أليس الله هو مصدر البركة؟

قلت: بلى.. وقد رأينا من النصوص ما يدل على ذلك.

قال: ولكن قومك يبحثون عن البركة عند المشعوذين والدجالين.. حتى انحرف مفهوم البركة، وأصبح نوعا من الدجل.. أو نوعا من الصكوك كتلك الصكوك التي كان رجال الدين يبيعونها.

قلت: أجل.. هذا صحيح..فلماذا تركوا مصدر البركة؟

قال: لأمرين: أما أحدهما، فهم ينزهون الله في نفوسهم تنزيها يجعله بمنأى عن العالم أو معزولا عن العالم، وذلك يسلمهم إلى الثاني، وهو تصورهم استحالة الوصول إلى ما في يد الله من بركات.. أو أن ذلك لا يكون إلا بعد المرور على وسائط المشعوذين.

قلت: هذا صحيح.. فكيف نتقي الأمر الأول؟

قال: بفهم قوله تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1)، وقوله:{ تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} (الفرقان:10)، وقوله:{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً}(الفرقان:61)، وقوله:{ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الزخرف:85)

قلت: هذه آيات كثيرة، ولكل منها تفسيره الخاص.

قال: ولكنها تتفق جميعا في تقرير معنى واحد.. معنى بركة الله.. فلذلك من اتصل بالله نال من بركاته ما لا يناله عند جميع أولياء الدنيا وصالحيها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألا يبحث الناس عن الأولياء والصالحين لينالوا منهم بركاتهم؟

قلت: بلى..

قال: فلو علموا أن موزع البركات حاضر لا يغيب.. وكريم لا يبخل.. وعدل لا يظلم.. ورحيم لا يقسو.. أكانوا يتركونه، ويبحثون عن الوسائط؟

قلت: لا.. وغبي من يفعل هذا.. كيف يترك القريب، ويقصد البعيد.. وكيف ييمم وجهه للضعيف، وفي إمكانه الاتصال بالقوي.. ولكن الناس يرون الوسائط ولا يرون الله.. ألم يقل الله تعالى:{ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}(الأنعام:103)

قال: بلى.. ولكنه لا يشترط أن تراه ببصرك حتى تنال خيره.. فأنت تنال خيره دون أن تراه.

قلت: صحيح هذا.. فكيف أتصل به لأنال بركات فضله؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (لأعراف:96)

قلت: الإيمان والتقوى.

قال: أجل.. فالإيمان يعرفك به.. والتقوى تحجزك عن معصيته وتقربك إلى طاعته.

قلت: وهل البركة محصورة في هؤلاء؟

قال: أجل.. وهذا بنص القرآن الكريم.. فلا تنال البركة إلا المباركين.

قلت: فهل تطبق لي هذا المعنى على ما ذكره معلم البركة من حياة الأشياء؟

قال: ذلك سهل.. فالغذاء إن حل في جوف المؤمن حل سعيدا مسرورا، فيملأ جوفه وخلاياه بالبركات، ولكنه إن حل في جوف الشقي حل تصحبه اللعنات.. فلا يبارك له فيه.

قلت: ما هذا؟.. إن ادعاء مثل هذا يحتاج إلى مصادر معصومة.. فهل حدثت الأشياء أو حدثتك؟

قال: لقد ورد في النصوص ما يقرر هذه الحقيقة تقريرا يلبسها ثوبها اليقين.. ألم تشفق الذراع المسمومة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتخبره عن سميتها([13])..

قلت: بلى..

قال: ألم يحن الجذع لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يسكن حتى ضمه صلى الله عليه وآله وسلم ؟

قلت: بلى، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب إلى لزق جذع فأتاه رجل رومي، فقال أصنع لك منبرا تخطب عليه، فصنع له منبرا، فلما قام عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب حن الجذع حنين الناقة إلى ولدها، فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضمه إليه، فسكن فأمر به أن يحفر له ويدفن ([14]).

قال: ألم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يبادل هذه الأشياء مشاعرها، فكان يقول عن أحد: (هذا جبل يحبنا ونحبه)([15])

قلت: بلى.. وقد كان يخاطبه كما يخاطب الأحياء.

قال: إن قدرة الجبل على مبادلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمشاعره يرفعه إلى مستويات أعلى من مستوى الإنسان المستعلي الجاهل المستكبر.

قلت: فهمت كل هذا.. ولكني لم أفهم سر عداوة الغذاء الذي يتناوله الجاحد لمن تناوله.

قال: ألم تسمع قوله تعالى، وهو يبين أثر شرك المشركين، فقال تعالى:{ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً}(مريم:90 ـ91)

قلت: بلى.. وقد ذكر العلماء ـ انطلاقا من هذه الآية ـ الأثر الشديد الذي خلفه الشرك في الأشياء، فذكر عن بعضهم أنه قال:( إن الله تعالى لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم تك في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة وكان لهم منها منفعة فلم تزل الأرض والشجر كذلك حتى تكلم فجرة بني آدم تلك الكلمة العظيمة وهي قولهم:{ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} (مريم:88)، فلما قالوها اقشعرت الأرض وشاك الشجر)

قال: لقد كان ابن عباس يرجع ما في الأرض من الأذى بسب هذا قال: ( اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار والبحار وما فيها من الحيتان فصار من ذلك الشوك في الحيتان وفي الأشجار الشوك)([16])

قلت: ولكن هذا النص قد يكون منسوبا لابن عباس، فكيف تستدل به؟

قال: أنا لا أجزم بهذا النص.. ولكني أقول لك: إن الصور والخصائص التي نراها للأشياء لها علاقة كبيرة بانفعالاتها التي يسببها سلوكنا، ولذلك قد نستلذ طعوما أو مناظر في بعض الأيام، ثم نستقبحها أياما أخرى، وقد نعزو ذلك إلى نفوسنا فقط ونعزل الكون من هذا الأثر المتناقض للأشياء([17]).

قلت: أللأشياء تأثيرها في الفرح والكآبة التي تصيبنا؟

قال: أجل.. وقد ورد في الآثار ما يدل على سرور الأشياء، والذي قد يسري إلى الناظرين ليشعرهم بالأنس والسعادة، فقد روي أن الجبل يفخر إن مر عليه ذاكر لله تعالى، ففي الأثر عن ابن مسعود:( إن الجبل ليقول للجبل: هل مرَّ بك اليوم ذاكر لله؟ فإن قال: نعم، سُرَّ به)، ثم قرأ عبد الله قوله  تعالى:{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (البقرة:116)قال:( أفتراهن يسمعن الزور ولايسمعن الخير)([18])

وفي أثر آخر:( ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا، يا جاره هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك، فمن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت: نعم، رأت لها بذلك فضلا عليها)

قلت: أدركت هذا.. ولكن هذا مرتبط بالحياة عموما، وأنا أسأل عن أشياء ملموسة لها تأثيرها في البركة.

قال: اسم الله..

قلت: اسم الله!؟

قال: أجل.. فاسم الله الذي يتلفظه القلب المؤمن هو سر البركة.. ألم تسمع قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}(الرحمن:78)، فقد نسب البركة للاسم.. بل ورد في النصوص ما يصرح بهذا، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( اللهم إني أسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سألت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت)([19])

قلت: ألهذا ورد في النصوص الحث على تسمية الله في كل شيء؟

قال: أجل.. وقد ورد في الحديث ما يقرر كل ما ذكرناه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( كل طعام لا يذكر اسم الله تعالى عليه فإنما هو داء، ولا بركة فيه، وكفارة ذلك إن كانت المائدة موضوعة أن تسمى وتعيد يدك، وإن كانت قد رفعت أن تسمى الله وتلعق أصابعك)([20])، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة، ولا تناموا عليه، فتقسو قلوبكم)([21])

قلت: إن هذا الحديث يربط بين ذكر الله في الطعام، وبين الداء.. أيمكن أن تحل بنا الأدواء بسبب الغفلة عن ذكر الله؟

قال: أجل.. ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم: (ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا ولم يذكروا الله ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا كان مجلسهم ترة عليهم يوم القيامة)([22]).. ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:( ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله، إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة)([23]

قال: وهكذا.. إذا أكلوا طعاما لم يذكروا الله فيه كان عليهم حسرة ونقصا وظلمة.

قلت: فقد عرفت إذن من أسرار البركة سر بركة اسم الله.

قال: ليس اسم الله فقط.. بل اسم الله.. وكلام الله.. فلذلك أعلم المرضى والأصحاء كيف يسمون الله.

قلت: أللتسمية أصول؟

قال: نعم.. لها روح وجسد.

قلت: فما جسدها؟

قال: أنتم تتقنونه.. فأنتم لا تنسوها في أكلكم وشربكم، بل في لهوكم وعبثكم.

قلت: وروحها.

قال: استشعار حضور الله.. وتناول الأشياء من يد الله.. أتدري سر قوله تعالى:{ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (الأنعام:121)

قلت: هذه الآية تنهى عن أكل ما لم يسم عليه الله تعالى من الحيوانات.

قال: لأن ذلك هو أدب الذبح.. فمن ذبح لتصوره أنه يحق له أن يتمتع بلحمها كان قاتلا.. فلا فرق بين أن تقتل إنسانا أو حيوانا.. ولكن إن ذبحتها.. وقلت لها، وأنت تذبحها: اعذرني أيتها البهيمة.. فلولا أن الله تعالى أذن لي بذبحك ما ذبحتك، فإنما أذبحك باسم الله.

قلت: فما تقول البهيمة حينئذ؟

قال: تسلم وجهها لله.. كما سلمه إسماعيل u، وتقول:{ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً}(الكهف:69).. بل إنها ستمتلئ فرحا وسرورا، وتقول لك: هلم اذبحني باسم الله.. فإنه شرف عظيم لهذا الجسد أن يدفن في جسد من يعبد الله ويذكره.

قلت: فهل سمعت صوتها، وهي تخاطب الإنسان هذا الخطاب؟

قال: ألم يخبرك المعلم عن المتوسمين؟

قلت: فما سر سماعك؟

قال: لن تفهمه حتى تعرف سر (بنيان الله).. أنسيت أنك لا تزال في مدرسة السلام الابتدائية.

وسائط البركة

لم أبتعد قليلا عن المتوسم الأول، حتى ناداني أحد المتوسمين، وقال: تعال.. فإن لي أخبارا أريد أن أسر بها إليك.

قلت: أهناك أسرار في مدائن السلام؟

قال: من الحقائق ما لا يمكن للكل سماعه، فلذلك نحتاج إلى إسراره لمن يحتاج إليه.

قلت: لا أعلم إلا أن العلم ينبغي أن ينشر.. ولم أسمع إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:( من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)([24])..

قال: سمعت هذا.. فاسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع)([25]).. واسمع قول علي، وقد أشار إلى صدره:( إن ههنا لعلوما جمة لو وجدت لها حملة).. واسمع قول عيسى u:( لا تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير، فإن الحكمة خير من الجوهر، ومن كرهها فهو شر من الخنازير).. وقد سئل بعض العلماء عن شيء فلم يجب، فذكر له السائل الحديث الذي ذكرت لي، فقال له:( اترك اللجام، واذهب، فإن جاء من يفقه وكتمته، فليلجمني، فقد قال الله تعالى:{ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء:5) تنبيها على أن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى)

 ثم ولى مغضبا، وهو يقول: ماذا تريد مني:

أأنثرُ دراً بين سارحة ِ البهمَ

  وأنظمُ منثوراً لراعية الغنمْ؟

لعمري لئن ضيعتُ في شرِّ بلدة ٍ

  فَلَسْتُ مُضَيعاً فيهمُ غرر الكلَمِ

لَئِنْ سَهَّل اللَّه العَزِيزُ بِلطفِهِ

  وصادفتُ أهلاً للعلوم وللحكم

بَثَثْتُ مُفيداً واستَفَدْتُ وَدَادَهُمْ

  وإلاّض فمكنونٌ لديَ ومكنتمْ

وَمَنْ مَنَحَ الجهّالَ عِلْماً أضَاعَهُ

  وَمَنْ مَنَعَ المستوجِبين فقَدْ ظَلَم

قلت: رويدك.. فقد أحسنت بي الظن.. وما أنا بتاركك حتى تخبرني بما أردت إخباري به على أن تذكر لي سر الإسرار.

قال: لقد رأيتك اقتنعت بما قال أخي المتوسم، فخشيت أن يسوء فهمك، فتنكر الواسطة.

قلت: لم تعدو ما في نفسي.. فقد أنكرت الواسطة إنكارا كليا.

قال: فلا تفعل.. فقد جات النصوص تأمر باتخاذ الوسائل والوسائط.. فلا ينبغي أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض.

قلت: ولكن لماذا تسر لي هذا.. وقد رأيت أخاك المتوسم ينشر علمه على الملأ؟

قال: أما أنا فلا أصطاد بعلمي إلا الأفراد ممن يمتلئون قناعة بما قال.

قلت: فلم لا تنشره عزيزا.. أم أنك من هواة الصيد؟

قال: لا.. بل إن وظيفتي تستدعي الصيد.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لأني لو بثثت علمي لمن لم يتحقق بالتوحيد خشيت عليه أن يغرق في الوسائط، ويغفل عن رب الوسائط.

قلت: لست أدري مدى صحة هذا التورع.

قال: هذا ليس تورعا.. بل هذه السنة.

قلت: كيف تكون سنة بلا دليل؟

قال: بل لها دليلها.. ألم تسمع حديث معاذ عندما قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حمار فقال: (يا معاذ، هل تدري ما حق اللَّه على عباده وما حق العباد على اللَّه؟)، قلت: اللَّه ورسوله أعلم، قال:( فإن حق اللَّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على اللَّه أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)فقلت: يا رَسُول اللَّهِ، أفلا أبشر الناس؟ قال:( لا تبشرهم فيتكلوا)([26])

قلت: بارك الله فيك.. فقد فهمت هذا.. فلنعد الآن إلى السر الذي أردت إخباري به، واسرر بسرك ما أطقت، فإن للجدران آذانا.

بركات الأولياء:

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( يقول تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن دعاني لأجبيبنه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد منه)

قلت: هذا الحديث ينص على أن العبد إذا أخلص الطاعة لله صارت أفعاله كلها للّه تعالى، فلا يسمع إلا للّه، ولا يبصر إلا للّه أي ما شرعه اللّه له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة اللّه عزَّ وجلَّ مستعيناً باللّه في ذلك كله، ولهذا جاء في بعض رواية الحديث:( فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)

قال: صدقت.. وقد فهمت هذا الحديث فهما صحيحا.

قلت: فهمته، ولكني لم أفهم سر ذكره هنا.

قال: هؤلاء العباد الربانيون الذين يسمعون بالله ويبصرون بالله يصيرون في ذواتهم مباركين، فلذلك يكونون من وسائط البركة.. فهم الأقمار التي تستقبل أنوار البركة الإلهية.. ألم تسمع قوله تعالى في حق المسيح u وعلى لسانه:{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ }(مريم:31)، وقوله في حق ذرية إبراهيم u:{ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات:113)

قلت: نعم.. وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم البركة عينها.. وقد ذكرت حليمة السعدية خبر البركة التي نزلت عليها وعلى قومها منذ أخذت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لترضعه، فقالت ضمن حديث طويل:( فلما أخذته، رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا إنها لحافل، فحلب منها ما شرب، وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة.

وقال صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة ؛ قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك، قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك! اربعي علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي هي ؛ فيقلن: والله إن لها لشأنا.

قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لُبَّنَا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم سرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا.. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته)([27])

قال: وهكذا المقربون والصالحون يغيث الله بهم البلاد والعباد..، وقد روي عن بعض الصحابة قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رَسُول اللَّهِ لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا؟ فقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:( افعلوا)، فقيل له: يا رَسُول اللَّهِ إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع اللَّه لهم عليها بالبركة لعل اللَّه أن يجعل في ذلك البركة، فقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:( نعم)، فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم بالبركة، ثم قال:( خذوا في أوعيتكم)، فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلة. فقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:( أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رَسُول اللَّهِ لا يلقى اللَّه بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)([28])

قلت: ما شاء الله.. لقد حل صلى الله عليه وآله وسلم مشكلة تموين الجيش بالبركة.. فلماذا نخاف على أرزاقنا ما دام الأمر بهذه البساطة.

قال: أنتم تخافون على أرزاقكم لأنكم عزلتم الله عن التصريف في الكون.. ثم حاولتم أن تدبروا كل شيء بعقولكم العاجزة، فسقطتم في الشباك التي نصبتها لكم أنفسكم من حيث لم تشعروا.

قلت: إن كلامك هذا يدل على أن الباحث عن البركة يحتاج إلى البحث عن أهلها المباركين ليصيبه من بركتهم.

قال: أجل.. ألستم تبحثون عن الأطباء المهرة، وترحلون لأجلهم إلى بلاد الله الواسعة، وتنفقون الأموال العريضة؟

قلت: بلى.. ولعلنا نفعل أكثر مما ذكرت.

قال: فلا تغفلوا عن فعل ما هو دون ذلك بكثير.. وهو البحث عن أهل الله المباركين ليصيبكم من دعائهم وبركتهم ما يرفع بلاءكم، ويملأكم بالبركات.

قلت: ولكن الله تعالى أمرنا بتوحيد وجهة القلوب له، فقال تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }(البقرة:186)، وقد روي أن رجلا قال له:( إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك)، فسبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حتى رؤى ذلك في وجوه أصحابه، وقال:( ويحك أتدرى ما الله،إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك)([29])

وقد أخبر تعالى عن قول يعقوب u قوله:{ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (يوسف:86)

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يحض أمته على إفراد الله بالمسألة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس:( إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، ويقول:( أيها الناس، والله مهما يكون عندنا من خير فلن ندخره عنكم، وإنه من يستغن يغنه الله، ومن يستعف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر)

قال: أجل.. كل ما ذكرته صحيح.. ولذلك تراني لا أصطاد إلا من قال مثل ما قلت، أو اقتنع بمثل ما اقتنعت.. ولكني أضيف إلى ذلك التماس أهل الخير لينال من بركاتهم.. وليس في ذلك أي شرك أو انحراف.

بركات البسطاء:

قال: بلى.. ولكن النصوص مع ذلك وردت بالبحث عن التماس أهل البركات التماسا لما جعله الله فيهم ممن الخير، ألم تسمع حديث أويس؟

قلت: ومن أويس؟

قال: ألا تعرف أويس؟

قلت: فعلمني من علمه ما علمك الله.

قال: هذا رجل صالح، وهو من سادات التابعين، وقد أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا الصحابة إلى البحث عنه طلبا لاستغفاره.

قلت: أهذا في السنة؟

قال: أجل..فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر لو أقسم على اللَّه لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)([30])

قلت: هذا حديث عظيم..

قال: وفيه فوائد عظيمة وأصول نافعة في هذا الباب.

قلت: فاذكر لي منها ما أنتفع به.

قال: هو يشير إلى نوعية هؤلاء المباركين الذين ينتفع بهم الناس.

قلت: تقصد أن أويسا يمثل هذه النوعية.

قال: أجل.. فأويس كان إنسانا بسيطا متواضعا مخلصا.

قلت: بل روي أنه لما قصده الناس فر على وجهه هاربا منهم.. ولم ينشر أي إعلان عن البشارة التي بشره بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولم يتخذ ما بشره به صلى الله عليه وآله وسلم شبكة يصطاد بها أموال المسلمين.

قال: ولم يفتح عيادة يبصق فيها في أفواه الناس.. أو يطعمهم من خبزه ليبتز ما في جيوبهم.

قلت: لكأني بك تعرض لشيء.

قال: أجل.. أعرض بقومك الذين اتخذوا بعض الناس وسائط بينهم وبين الله، فأجلسوهم على العروش، وراحوا يتقربون إليهم ناسين الله وغافلين عنه.

قلت: هم أحسنوا الظن بهم.. ولعلهم انتفعوا بهم.

قال: لا.. الولي هو الزاهد العفيف.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على اللَّه لأبره. ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل([31]) جواظ([32]) مستكبر)([33]).. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)([34])

قلت: بلى.. وقد ورد في روايات أخرى ما يؤكد هذا المعنى، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبره)([35])

قال: وفي حديث آخر يبين سر الإخلاص الذي تحلى به أويس، فقال:( أغبط الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاته وكان رزقه كفافا فصبر عليه حتى يلقى الله عز وجل، وأحسن عبادة ربه، وكان غامضا في الناس، عجلت منيته وقل تراثه، وقلت بواكيه)([36])

قلت: فهؤلاء الذين تلتمس بركاتهم؟

قال: أجل.. ألم يخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى يبر قسمهم.. أي يستجيب لهم إذا أقسموا عليه.

قلت: بلى.. وقد صرحت بذلك النصوص.

قال: فالبركات تلتمس عند هؤلاء البسطاء.. لا عند منتفخي البطون والجيوب الذين يدعون لأنفسهم، ويغفلون عن الدعوة لله.

قلت: فكيف تلتمس عند هؤلاء؟.. وأين نجدهم؟

قال: في غمار الناس تجدونهم.. ألم تسمع حديث أبي عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء عندما قال: سمعت أبي يقول: كنت عند معروف في مجلسه فدخل عليه رجل، فقال: يا أبا محفوظ رأيت في هذه الليلة عجبا، قال: وما رأيت رحمك الله؟ قال: اشتهي علي أهلي سمكا فذهبت إلى السوق فاشتريت لهم سمكة وحملتها مع حمال، فمشي معي فلما سمعنا آذان الظهر، قال الحمال:( يا عم هل لك أن نصلي)، فكأنه أيقظني من غفلة فقلت له:( نعم نصلي)

 فوضع الطبق والسمكة عليه على مستراح، ودخل المسجد، فقلت في نفسي:( الغلام قد جاد بالطبق أجود أنا أيضا بالسمكة)، فلم يزل يركع حتى أقيمت الصلاة، فصلينا جماعة وركع بعد الصلاة وخرجنا، فإذا الطبق على حاله موضوع، فجئت إلى البيت، وحدثت أهلي بهذا، فقالوا لي: قل له يأكل معنا من هذا السمك، فقلت له: تأكل معنا من هذا السمك، فقال: أنا صائم فقلت له: فأفطر عندنا، قال: نعم أروني طريق المسجد فأريته، فدخل المسجد وجلس إلى أن صلينا المغرب.

 فجئت إليه وقلت له: تقوم رحمك الله، فقال: أو نصلي عشاء الآخرة فقلت في نفسي: هذه ثانية، يريد أن فيه خيرا، فلما صلينا عدت به إلى منزلي ولنا ثلاث أبيات: بيت فيه أنا وأهلي، وبيت فيه صبية مقعدة ولدت كذلك لها فوق العشرين سنة، وبيت كان فيه ضيفنا.

 فبينا أنا مع أهلي إذ دق داق الباب في آخر الليل، فقلت: من يدق الباب فقالت: أنا فلانة، فقلت: فلانة قطعة لحم مطروحة في البيت كيف يستوي لها أن تمشي، فقالت: أنا هي، افتحوا لي، ففتحنا لها، فإذا هي، فقلت: أي شيء الخبر، فقالت: سمعتكم تذكرون ضيفنا هذا بخير، فوقع في نفسي أن أتوسل إلى الله عز وجل به، فقلت:( اللهم بحق ضيفنا هذا وبجاهه عندك إلا أطلقت أسري، فاستويت وقمت وأنا في عافية كما تروني)

فقمت إليه أطلبه في البيت، فإذا البيت خال ليس فيه أحد، فجئت إلى الباب فوجدته مغلقا بحاله، فقال معروف:( نعم.. فيهم صغار وكبار)، يعني الأولياء.

قلت: أيمكن أن نعالج أنفسنا بمثل هذا السلوك؟

قال: إن كنتم مؤمنين، فعالجوا أنفسكم به، فهو أقل تكلفة من كثير من الأدوية التي تشترونها.

قلت: ولكن السنة أمرتنا بالتداوي.

قال: وقد أمرتنا بهذا الدواء.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( داووا مرضاكم بالصدقة)، وفي حديث آخر:( ما عولج مريض بأفضل من الصدقة)([37])

قلت: لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علاج المرضى بالصدقة.. فما علاقة ذلك بهذا.

قال: إن لم يدع لك لسان الفقير دعا لك قلبه، فإن جحد قلبه دعت لك الملائكة، فإن لم يدع لك أحد، فالله شاكر حليم، يعطيك ما عجز الكل عن إعطائه لك.

قلت: فهل تعالجون في هذا المستشفى بهذا العلاج.. فإني لم أر من يعالج به.

قال: نحن في هذا المستشفى نعالج بكل علاج.. فقد أخبرنا صلى الله عليه وآله وسلم بوجود الدواء، فنحن لا نقصر في البحث عنه.. أما ما ذكرت من عدم علمك بمن عالج به.. فذلك لغفلتك وغفلة قومك عن هذا الترياق العجيب، ولا يضر الدواء عدم تناول المريض له.. ولا يضر الشمس عدم اهتمام الكفيف بها.

قلت: فهل عالج الصالحون بمثل هذا؟

قال: الصالحون عالجوا بكل الأدوية.. وهذا منها .. وقد روي أن رجلا كان به قرحة خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فسأل بعض الصالحين عنها، فقال:( اذهب فاحفر بئراً في مكان الناس بحاجة إلى الماء فإني أرجوا أن ينبع هناك عينً ويمسك عنك الدم)، ففعل الرجل فبرأ.

فهكذا يفعل الصالحون والربانيون، فأنبئني لو أن هذا الرجل جاء لقومك من الرقاة، بماذا سيشيرون عليه؟

قلت: يخبرونه ـ بعد رقية التشخيص ـ بأن الشيطان ركضه ركضة يحتاج معها إلى التجول على الرقاة جميعا ليجد من يحرق له شيطانه، وقد يموت قبل ذلك.

قال: وسأزيدك أخرى لترى منهج الصالحين في التسليم للنصوص المقدسة، قال بعضهم: مرضت مرضا خطرا، فرآني جار لي صالح، فقال استعمل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( داووا مرضاكم بالصدقة)، وكان الوقت ضيقا، فاشتريت بطيخا كثيرا، واجتمع جماعة من الفقراء والصبيان، فأكلوا ورفعوا أيديهم إلى الله عز وجل، ودعوا لي بالشفاء، فوالله ما أصبحت إلا وأنا في كل عافية من الله تبارك وتعالى)

قلت: تلك أزمنة الصالحين.

فقال: كل الأزمة أزمنة الصالحين، ولا زمان للصالحين..

قلت: فهمت كل هذا ووعيته، وقد أدركت سر أمره تعالى بالدعاء للمتصدقين، كما قال تعالى:{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:103)

قال: ولهذا كان من سنة السلف الصالح الدعاء للمتصدقين.

قلت: أيدخل في هذا الدعاء لمن أطعم الطعام؟

قال: أجل.. فإطعام الطعام من الإحسان، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم، فدعا فى منزل بعضهم، فقال:( اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم)([38])

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم دخل منزله ليلة، فالتمس طعاما فلم يجده، فقال:( اللهم أطعم من أطعمنى، واسق من سقانى)

وقد دعا لمن سقاه لبنا فقال:( اللهم أمتعه بشبابه)، فمرت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء.

وكان يدعو لمن يضيف المساكين، ويثنى عليهم، فقال مرة:( ألا رجل يضيف هذا رحمه الله)

قلت: ودعا فى منزل سعد بن عبادة، فقال:( أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة)

قال: ولما دعاه بعض الناس هو وأصحابه فأكلوا، فلما فرغوا قال صلى الله عليه وآله وسلم:( أثيبوا أخاكم)، قالوا: يا رسول الله ؛ وما إثابته؟ قال:( إن الرجل إذا دخل بيته، فأكل طعامه، وشرب شرابه، فدعوا له، فذلك إثابته)

بركات الملائكة

قلت: عرفنا وسائط البشر، فهل من بركات الله ما يمكن أن نلتمسه من غيرهم؟

قال: ألا تعرف حديث الأبرص والأقرع والأعمى؟

قلت: بلى.. أولئك النفر الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم:( إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا. فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس. فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو قال البقر. (شك الراوي)، فأعطي ناقة عشراء فقال: بارك الله لك فيها.

فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس. فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر فأعطي بقرة حاملا قال بارك الله لك فيها.

فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر الناس. فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم. فأعطي شاة والدا. فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم)([39])

قال: هذا الحديث يدل على آثار البركات ومصدر من مصادرها.

قلت: أتقصد الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ؟

قال: أجل.. لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى ابتلى هؤلاء بهذا الملاك.. ولم يخبر أن هذا خاص بهم.

قلت: أفي إمكان أي أحد منا أن يحصل له ما حصل لهؤلاء؟

قال: وأي حرج في ذلك.. ولكن لا بنفس الصورة.. فقد يظهر له الملاك في أي صورة من الصور.

 قلت: ولكن الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يظهرون للرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ

قال: ولكن الصحابة رأوهم.

قال: ذلك في عهده صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم لحنظلة:( والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة في فرشكم وفي طرقكم)([40]

قلت: أيمكن ـ إذن ـ أن نستفيد من دعوات الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ؟

قال: أجل.. ألم يخبر الله تعالى عن دعاء الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ للمؤمنين، فقال تعالى:{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (غافر:7)

قلت: بلى.. ولكن كيف نرى الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ حتى نلتمس منهم هذه البركات؟

قال: لا حاجة لأن تراهم.. هم معك في كل حين لا بفارونك.. إنما الشأن أن تستشعر وجودهم وتحترمهم.. وستراهم يسعون في خيرك.

قلت: إن قومي ينكرون علي إن خاطبت الملائكة أو تحدثت عنهم بهذا الأسلوب.

قال: ولماذا يخاطبون الجن، ويخترقون أسوار عالمهم؟

قلت: لأنهم جن.

قال: الإيمان بالجن ليس من أركان الدين، والإيمان بالملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من أركانه.. وكونه من أركان الدين يستدعي صحبة خاصة لهم لعلاقتهم بالسلوك والتوجه إلى الله.

قلت: هم يزعمون الانتساب للسلف الصالح في هذا.

قال: من سلفهم في هذا.. هل الحجاج، أم زياد بن أبيه؟

قلت: الصحابة والتابعون ومن بعدهم.

قال: فأخبرهم أن الربيع بن خثيم كان إذا أصبح قال:( مرحبا بملائكة الله، اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)

وقد كان أبو بكر بن عياش لما كبر يأخذ إفطاره، ثم يغمسه في الماء في جر كان له في بيت مظلم، ثم يقول:( يا ملائكتي طالت صحبتي لكما، فإن كان لكما عندالله شفاعة فاشفعا لي)

محال البركة

ما ابتعدت قليلا عن المتسوم الثاني حتى ناداني المتوسم الثالث، وقال: لقد عرفت وسائط البركة، فتعال معي لنبحث عن محالها.

قلت: فما محالها؟

قال: كثيرة جدا.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول مثلا:( تحول إلى الظل، فإنه مبارك)([41])، وقال:( ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع)([42])، وقال:( كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه)([43])

قلت: فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن هيئات معينة تكون فيها البركة.

قال: أجل.. بل أخبرنا صلى الله عليه وآله وسلم عن مواضع تنزل البركة من الطعام، فقد روي أنه كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قصعة يقال لها الغراء يحملها أربعة رجال، فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتي بتلك القصعة (يعني وقد ثرد فيها)، فالتفوا عليها، فلما كثروا جثا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:( إن اللَّه جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً)، ثم قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:( كلوا من حواليها ودعوا ذروتها يبارك فيها)([44])

قلت: فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن ذورة الطعام تتنزل عليه البركة، فلذلك أمر بالأكل من الجوانب.

قال: أجل.. وقد صرح صلى الله عليه وآله وسلم بذلك في حديث آخر، فقال:( البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه)([45])

قلت: وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم بلعق الأصابع والصحفة وقال:( إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)([46])

قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سقطت عنه اللقمة برفعها معللا ذلك بطلب البركة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها، فليمط ما كان بها من أذىً وليأكلها، ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أي طعامه البركة)([47])

قلت: وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم بسلت القصعة، وقال:( إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)([48])

قال: وعلى عكس ذلك أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الأكل من أشياء معينة تسلب البركة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( من شرب في إناء من ذهب أو فضة، فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم)([49])

قلت: وهل يدخل في هذا النهي عن الأكل بالشمال؟

قال: أجل.. فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالأكل باليمين، وينهى عن الأكل بالشمال، ويقول:( إن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله)

قلت: ألا نفهم من هذا تحريم الأكل بالشمال؟

قال: بلى.. فالنص واضح.. فالآكل بشماله إما شيطان، وإما مشبه به، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم اشتد على رجل كان عنده يأكل بشماله، فقال له:( كل بيمينك)، فقال: لا أستطيع، فقال:( لا استطعت)، فما رفع يده إلى فيه بعدها، فلو كان ذلك جائزا، لما دعا عليه بفعله.

قلت: إن ما قلته يدعونا لتجريب الأطعمة المختلفة للبحث عن أسرار البركة فيها.

قال: أجل.. فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى هذا:( إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان، وليسلت أحدكم الصحفة، فإنكم لا تدرون في أي طعامكم تكون البركة)([50]).. ولكن الأطعمة المباركة، لا الأطعمة الممحوقة.

قلت: أهناك أطعمة ممحوقة؟

قال: أجل.. إنها الأطعمة التي تتفننون في تخريبها في معاملكم لتبدلوا خلقتها.

قلت: لا.. نحن لا نبدل خلقتها، بل نسوغ نكهتها، ونحسن منظرها.

قال: وما أدراكم لعل سر بركتها في لونها أو طعمها، ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:( ماذا في الأمرين من الشفاء: الثفاء والصبر)([51])، فقد وصفهما صلى الله عليه وآله وسلم بالمرارة، وهو يشير إلى ما تختزنه مرارتهما من العلاج.

وقال في الكباث([52]):( عليكم بالأسود منه، فإنه أطيبه)([53])، فقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى لونه.

قلت: اضرب لي على هذا مثالا ـ يا معلم ـ فإني لا أكاد أفهم.

قال: سأضرب لك مثالا من العمران.. فإني أعلم شغفكم به.

قلت: نعم.. وسيكون مفهوما للعامة والخاصة.

قال: أرأيت لو أن خبيرا من الخبراء توصل إلى اختراع مادة توضع على مبانيكم، فتسحب كل ما فيها من إسمنت.

قلت: لم؟

قال: لعله يرى أن هذا الإسمنت مشوه للبنيان.. فلذلك رأى من الكمال نزعه منها.

قلت: ولكن هذا الخبير الغبي لا يدري ماذا يفعل.. إنه سيسقط كل عمران الدنيا على رؤوس أهلها.. فلا يمكن أن تقوم الخرسانة بلا إسمنت.

قال: وقومك يفعلون هذا مع الغذاء المبارك.. هم يستخصلون منه ما يشاءون من العناصر، فيهدمون أركانه، ثم يطلبون منه أن يحافظ على بركته.

قلت: اضرب لي على ذلك مثالا من الغذاء لا من البنيان.

قال: الأمثلة كثيرة.. وقد عرفت تشويههم للملح والسكر.. ولكني سأضرب لك مثالا مرتبطا بالبركة.. ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اللبن؟

قلت: لقد وردت الأحاديث في فضل اللبن، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول:( إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأبدلنا خيرا منه، وإذا شرب لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنه ليس شيء يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن)([54])

قال: فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم اللبن غذاء يجزي عن الطعام والشراب.

قلت: هذا صحيح..

قال: ولكني أرى قومك يبيعون لبنا مشوها يكتبون عليه:( منزوع الزبدة)، ألم يسمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرب لبناً، ثم دعا بماء فتمضمض وقال:( إن له دسماً)([55])، بل أمر بذلك، فقال:( مضمضوا من اللبن فإن له دسماً)([56]

قلت: ليتهم ـ يا معلم ـ يقتصرون على ذلك.. إنهم لا يقدمونه إلى الأفواه إلا بعد أن يذيقوه ألوان العذاب.. فهم يحولونه إلى غبار.. ثم يضعونه في علب، ثم يقطعون به البحار والفيافي، ليصل بعدها إلى الأفواه وقد خارت قواه.

قال: وليس ذلك فقط.. ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:( عليكم بألبان البقر، فإنها ترم من كل الشجر)([57])

قلت: بلى..

قال: ولكنهم يحبسونها.. ثم يطعمونها ـ غصبا عنها ـ بفضلات الصناعة وسمومها.. ثم يقولون ـ إذا تضرروا ـ:إن الله سقانا([58]) سما لا لبنا([59]).

قلت: لقد ذكرتني ـ يا معلم ـ بما يفعلونه مع الدجاج والبيض.. فهم يحبسون الدجاج في أقفاص.. ثم يأمرونه بأن يوفر لهم من البيض ما يحتاجون إليه.. وعلى المزاج الذي يرضي جيوبهم.

قال: والأخطر من ذلك كله ما تسمونه بالهندسة الوراثية، فهي وإن استغلت في بعض الجوانب الإيجابية إلا أن شرهكم جعلكم لا تتوقفون عند حد.

قلت: أجل.. بل إن البشر اليوم يتوقون إلى هندسة وراثة الإنسان، ليحولوه إنسانا آخر.

قال: بل مسخا آخر.. وقد سمعت بعض مغروريكم يقول:( في غضون العشرين سنة المقبلة ستطرح في الأسواق مئات الأصناف المتطورة من (النواقل العصبية)التي تسمح بتنشيط الدماغ، وتحسين الأداء الفكري، وتعديل المشاعر والأحاسيس، بالكيفية التي تريد، وستظهر كذلك (أجهزة الراديوات الدماغية)القادرة على التقاط الموجات الكهربائية الصادرة عن الدماغ، وتعديل كيفيتها، بحيث يمكن تسريع عملية التفكير أو إبطائها، وهذه الأجهزة سوف تعيننا على التفكير بوضوح، وعلى التواصل فيما بيننا بصورة أفضل)([60])

قلت: ألا تعلم ـ يا معلم ـ أن البشر وضعوا خريطة جينة للبشر؟

قال: كان الله في عونكم..

قلت: إنها ستقلب تاريخ الطب رأسا على عقب، وسيعالج الإنسان انطلاقا من مورثاته.

قال: أنا أتشاءم كثيرا من اختراعاتكم واكتشافاتكم..

قلت: لم ـ يا معلم ـ ألم يأمرنا الله بالسير في الأرض للبحث فيها وتيسير حياتنا؟

قال: بلى.. ولكن السير المبارك يفتح البركات، والسير الممحوق يفتح اللعنات.

قلت: أهناك سير مبارك وسير ممحوق؟

قال: أجل..

قلت: كيف ذلك؟

قال: سمعت أن قومك يستغلون ما فتح الله عليهم من الهندسة الوراثية في وضع نسخ عن الإنسان.

قلت: نعم.. فنجاحهم في استنساخ الحيوان جعلهم يفكرون في استنساخ الإنسان.

قال: ألم أقل لك: إنكم في عصر الدجاجلة.. ولن تنجيكم منه إلا الفطرة.. الفطرة المباركة.

قلت: يا معلم.. فلنعد للبركة.. لقد عرفت أن الغذاء قد يحوي عناصر مباركة فيثمر في نفس آكله الصحة والعافية والقوة.

قال: نعم.. هذا صحيح.

قلت: والأصل في هذا أن هذا الطعام الذي يحوي هذه العناصر المباركة يستفيد منه الجميع.. لأنه لا يستحيل طعاما آخر في فم آخر.

قال: هذا صحيح.

قلت: ولكن النصوص تخبر أن هناك أشياء أخرى لها تأثيرها في البركة، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في دعائه فيقول:( اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه)

قال: لأن البركة من الله، فهو الذي يجعل الطعام مباركا أو ممحوق البركة، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إذا وضع الطعام فخذوا من حافته وذروا وسطه، فإن البركة تنزل في وسطه)([61])، وفي حديث آخر يقرر هذا، فيقول:( إن البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافته ولا تأكلوا من وسطه)([62])، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن البركة تتنزل.

قلت: أي أن دعاءنا قبل الطعام يجعل غذاءنا مباركا بتنزيل الله البركة.

قال: ليس بالدعاء فقط.. بل في حالتك النفسية أثناء تناول الطعام.. لأنك قد تأكله، وقلبك يمتلئ حقدا عليه وصراعا معه.. فلا يزيدك أكلك له إلا جوعا ومرضا.

قلت: وهل يمكن أن يحقد أحد على الطعام؟

قال: أجل.. إذا أكله، وهو يعيبه.. ألم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يثني على الطعام إذا حضر؟

قلت: بلى.. كان يثني عليه كل الثناء، وقد قال لما قدم له الخل:( نِعم الإدامُ الخلُّ)([63])، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:( اللهم بارك في الخلِّ فإنَّه كان إدام الأنبياء قبلي)([64]).. وعندما قدم له الضب، ولم يكن يشتهيه لم يعبه، بل قال:( لا تفعلا، إنكم أهل نجد تأكلوها، وإنا أهل تهامة نعافها)([65])

قال: وكل ذلك لئلا يجرح شعور الطعام، فإن الطعام لا يرضى أن يدخل أجواف من يذمه.

ضحكت، وقلت: وهل له من العقل ما يرضى به أو يسخط.. ماذا تقول يا معلم؟

قال: إن الطعام لا ينيلك بركته إلا إذا كان راضيا، وهذا سر من أسرار البركة، ألم تسمع ما ورد في الحديث عن ابن أعبد قال قال علي: يا ابن أعبد! هل تدري ما حق الطعام؟ قلت: وما حقه؟ قال: تقول:( بسم الله، اللهم! بارك لنا فيما رزقتنا)؛ ثم قال: أتدري ما شكره إذا فرغت؟ قلت: وما شكره؟ قال: تقول:( الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا)([66])، فقد ذكر أن للطعام حقا.. لا يكون له هذا الحق إلا إذا كان له من الوعي ما يطالب به بحقه.

قلت: يا معلم.. هذا جاء على أساليب العرب.. وليس المراد به ما فهمته من ظاهره.

قال: وما ورد من تسبح الطعام أجاء أيضا على أساليب العرب، فقد ورد في نصوص صريحة لا تحتمل أي لبس، ألم تسمع قول ابن مسعود:( كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس معنا ماء فقال لنا:( اطلبوا من معه فضل ماء)، فأتي بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه. ثم قال:( حي على الطهور المبارك والبركة من الله)، فشربنا منه، قال عبد الله: كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه، وهو يشرب.

وكانوا يسمعون تسبيح الطعام، عن ابن مسعود قال:( كنا نأكل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)([67])

قلت: صدقت.. وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بطعام ثريد، فقال:( إن هذا الطعام يسبح)قالوا:( يا رسول الله، وتفقه تسبيحه؟ قال: نعم ثم قال لرجل: ادن هذه القصعة من هذا الرجل، فأدناها منه فقال: نعم يا رسول الله، هذا الطعام يسبح! فقال: ادنها من آخر، وأدناها منه فقال: هذا الطعام يسبح. ثم قال: ردها فقال رجل: يا رسول الله، لو أمرت على القوم جميعا، فقال: لا إنها لو سكتت عند رجل لقالوا من ذنب ردها فردها([68]).

قال: أترى من له القدرة على التسبح جمادا لا يعقل؟

قلت: لا.. بل عاقلا وسيد العقلاء.

قال: فهذا سر من أسرار البركة.

أمسك بيدي من لا أعرفه، ولكن يلوح عليه من الجهد ما يدل على كونه من الخبراء، فقال من غير أن أسأله: نعم.. أنا من الخبراء.. وقد سمعتك تسأل معلمك عن سر البركة في الدعاء.. وأنا سأجيبك على ضوء اختصاصي، فأنا مختص في الهندسة الوراثية([69])، فركز معي، فسأعلمك أسرارا مهمة في هذا العلم.

قلت: علمني مما علمك الله.

قال: يتركب كل جين من حوالي 70 ألف وحدة في المتوسط من وحدات المادة الوراثية D N A وهي النيكليودات، وكل جين يتركب من وحدات المادة الوراثية في تتابع معين، وأي تغيير في نوعية أو تتابع هذه الوحدات يغير في تحكم الجين، وبالتالي في إظهار صفات مختلفة له، وهذا التغيير يكون إما بالإضافة أو الحذف لواحد أو أكثر من هذه الوحدات، أو بتغيير نوعية واحد أو أكثر من هذه الوحدات، أو بتغيير التتابعات الخاصة بهذه الوحدات داخل الجين.

قلت: فما هي العوامل التي تجعل الجين يتغير عما هو عليه؟

قال: أسباب ذلك كثيرة، فذلك إما أن يكون عن طريق المطفرات الطبيعية مثل أشعة X وجاما والأشعة فوق البنفسجية وغيرها.. أو عن طريق المركبات الكيميائية من مبيدات وأحماض وأغذية وغيرها.. أو عن طريق أي شيء في البيئة أو الأماكن أو النباتات أو الإنسان أو الحيوان التي يعيش فيها أو معها الشخص المتأثر، حيث يصدر عن هذا كله إشعاعات تؤدي إلى حدوث مثل هذه التغييرات.

قلت: ولكن الدعاء مجرد كلام.. فهل له تأثير على وضعية هذه الجينات؟

قال: أجل.. حتى الكلمة التي تصدر من أي شخص لها ذبذبات سواء كانت طيبة أو خبيثة تؤدي إلى مثل هذه التغييرات.. ألم تسمع قوله تعالى:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الحشر:21)

قلت: بلى.. فما وجه الإشارة فيها؟

قال: هذا يدل على أن القرآن الكريم له من التأثير على الأشياء ما يفوق القنبلة الذرية نفسها.

قلت: فهمت هذا.. ولكني لا أزال أتساءل، فقد ادعيت صعبا تحتاج إلى إثباته.

قال: ذلك يحتاج إلى بعض التفصيل، فاصبر علي.. إن نيكليوتيدات الجين تتكون من نوعين في مجموعات.. أما النوع الأول، فهو نوع يطلق عليه Extr ons، وهو خاص بالمواد الكيميائية المنتجة، أي الجزء الطبيعي الدنيوي.. وهو ما عرفته مع معلمك في أسرار البركة في العناصر.

أما النوع الثاني، فيطلق عليه Intr ons، وهو الجزء ذو التكرارات العالية والحساس، والذي يقوم بتشكيل الجزيء الطبيعي الناتج عن Extr ons.

وهذا النوع الأخير تزيد نسبته برقي الكائن، فتصل في أرقى الكائنات وهو الإنسان إلى 70 بالمائة من المادة الوراثية.

والغالب أنه هو المكون للتركيبة الروحية، وهي تتأثر تأثرا كبيرا بالأحاسيس والعبادات والأفعال الصالحة أو السيئة.

قلت: اضرب لي مثالا يوضح لي هذا.

قال: أتعرف الإنسولين.

قلت: نعم.. أعرفه، فله دوره الخطير في التمثيل الغذائي للسكر.

قال: فجزيء الإنسولين الناتج من الفرد التقي الصالح يختلف اختلافا كبيرا في شكل الجزيء عن إنسولين الفرد المنحرف، ولو أنهما معا يقومان بوظيفتهما في التمثيل الغذائي للسكر، ولكن يختلفان في الكفاءة ومدى استفادة الجسم من كل منهما.

قلت: بورك فيك.. فقد فهمت أسرار كثيرة من هذا.. كنت أعجب منها.. لقد أدركت سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( اللهم! إن إبراهيم كان عبدك وخليلك دعاك لأهل مكة بالبركة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدهم وصاعهم مثلي ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين)([70])

وقد كنت أعجب من حديث جابر بن عبد الله في قوله: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. فقيل: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليهم من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله)([71])

فقد كنت أعجب من بقاء قوتهم مع هذا الأكل القليل.

وقد كنت أعجب من تلك الأكلات القليلة التي يقتصر عليها الصالحون مع حفظ الله لقواهم الأمد الطويل، وقد فهمت من هذا سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( المؤمن يأكل في معي واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء)([72])

قال: وافهم مع هذا سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ماء زمزم لما شرب له)([73]) فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم لنية الشارب تأثيرا في الفوائد التي يجنيها من شربه من ماء زمزم.

قلت: وأصرح من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبرائيل وسقيا الله إسماعيل)([74]

قال: فللنية والصدق فيها واليقين في فضل الله تأثير عظيم في ذلك، ولهذا لا يستفيد من هذا النوع من العلاج إلا الصادقون أصحاب القلوب الطيبة([75]).

مواقيت البركة

لم أبتعد قليلا عن المتوسم الثالث، حتى ناداني أحد المتوسمين، فقلت: أتريد أن تسر لي شيئا أنت الآخر.. قل.. فكلي آذان صاغية.

قال: لا.. بل سأقول لك ما يمكن أن تعلنه على الملأ.

قلت: أهو سبيل من سبل الحصول على البركة؟

قال: أجل.. فليس لنا من دور ـ نحن المتوسمين ـ سوى البحث عن هذا.

قلت: فبأيها اختصصت أنت؟

قال: بالمواقيت.

قلت: أأنت ساعاتي إذن؟

قال: يمكنك أن تقول ذلك.. فأنا دائم الترقب للساعات والدقائق.. أنتظر بشغف كل مناسبة من مناسبات الخير.

قلت: لم؟

قال: لأنال من بركاتها ما لا يمكن تحصيله في سائر الأيام.

قلت: أليست كل الأزمان أزمان خير؟

قال: بلى.. ولكن الله  تعالى خص مواقيت مخصوصة بمزيد من الخير.. ألا ترى التجار في أرض قومك قد يبيعون في بعض المناسبات ما لا يبيعونه في جميع أوقات السنة؟

قلت: بلى.. ذلك صحيح.. وأنا أراهم في تلك المناسبات يزهون جذلين.

قال: لأن تلك الأيام هي أيام بركاتهم.

قلت: فهل جعل الله في أيام دهرنا مناسبات خاصة للبركات؟

قال: بلى.. ألم تسمع قوله  تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}(ابراهيم:5)

قلت: بلى.. ولكن هذه لأيام هي أيام نصره لهم..

قال: فقد كانت أياما مباركة لهم.. فلهذا أمره بتذكيرهم بها.

قلت: نحن نفعل ذلك.. ولكن ليس كما تقصده.

قلت: فما تفعلون؟

قلت: نحن ننشد الأشعار، ونملأ الدنيا ضجيجا فرحا بأيام نصرنا.

قال: أنتم تمحقون نصركم بذلك.. فبركة النصر التواضع وطأطأة الرأس ومراجعة النفس لتجديد المسيرة، ألم تسمع قوله تعالى:{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:58)

قلت: وما فيها من العلم؟

قال: هذه الآية تبين سنن التعامل مع النصر.

قلت: عرفت هذا.. ولكني أبحث عن سر اهتمامك بالمواقيت.

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا)([76])، وقوله في الحديث الآخر يعمق هذا المعنى:( اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم)([77])

قلت: قد سمعت ذلك منك، وبورك فيك..فهل لهذه المناسبات أيام مخصوصة في السنة لا تتعداها؟

قال: منها الأيام، ومنها الشهور، ومنها الساعات، ومنها اللحظات.

أيام البركة

قلت: فما أيام البركة؟

قال: هي أيام كثيرة منها ما يتكرر في السنة، ومنها ما يتكرر في الأسبوع.

قلت: فما أعظمها؟

قال: ليلة القدر.. ألم تسمع ما قال الله  تعالى فيها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(الدخان:3)

قلت: بلى.. وقد أخبر الله  تعالى فيها عن تنزلات الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فيها ومعهم الروح، فقال  تعالى: { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}(القدر:4)

قال: ولذلك كانت مناسبة عظيمة لرفع الحاجات إلى الله..

قلت: فأنتم تعالجون بليلة القدر؟

قال: أجل.. وكيف لا نعالج بها.. بل إن المرضى عندنا يعدون الأيام والليالي ليظفروا بها.

قلت: فما تفعلون فيها؟

قال: ألم يبين لنا صلى الله عليه وآله وسلم ما نفعل، فقال:( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)([78])، فنحن نحييها بالقيام والتضرع.. ونحن نستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فقد كان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره([79]).

قلت: وما أثر ذلك في الشفاء؟

قال: إن أكثر المرضى يشفيهم الله  تعالى ببركات هذه الليلة.

قلت: وهل رأيت بعض ذلك؟

قال: وهل أحتاج إلى أن أرى؟

قلت: من باب الطمأنينة، لا من باب الشك.

قال: لا أحتاج إلى أن أرى غيري.. لأني ـ أنا ـ حصل لي من الخير بسبب هذه الليلة المباركة ما دعاني إلى البحث في مواقيت البركات.

قلت: أكنت مريضا؟

قال: بأخطر أمراض عصركم.. وقد أيأسني الأطباء.. وكان من رحمة الله أني اجتمعت بالطبيب الذي قرأ نتائج تحليلاتي في ليلة من ليالي العشر من رمضان.

قلت: فماذا فعلت؟

قال: حزنت حزنا شديدا.

قلت: فإلى أي شيء أسلمك حزنك؟

قال: إلى الله.. لقد قلت لنفسي: أليس هذا الطبيب سوى ذرة تائهة في ملكوت الله.. ثم بت قائما لله.. فأحسست بقشعريرة تسري في أوصالي.. وكأن ملائكة ربي وضعت مراهمها على أدوائي.. ومنذ ذلك الحين، قبل عشرين سنة، لم أحسس بأي ألم، فلم يهتز لي عرق، ولم يتصدع لي رأس.

قلت: فهل رجعت إلى طبيبك لتخبره عما حصل لك من بركات تلك الليلة.

قال: ذهبت صباحا إليه، فوجدت أهله يبكون، فسألتهم عنه، فأخبروني بوفاته.. فلم أعد بعدها إلى الأطباء.

قلت: ولكن انتظار ليلة القدر يطول.. إنها سنة كاملة.. ومع ذلك فقد يظفر بها، وقد لا يظفر.

قال: ولكنها ليلة مباركة، ومع ذلك.. فإن من استعجل عندنا نرسله للحراسة في سبيل الله.

قلت: وما علاقة ذلك بليلة القدر؟

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ حارس حرس في أرض خوف لعله أن لا يرجع إلى أهله)([80]).

قلت: فهل هناك غير ليلة القدر؟

قال: الليالي العشر.

قلت: وما الليالي العشر؟

قال: تلك التي أقسم الله  تعالى بها، فقال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}(الفجر:2)

قلت: وما هي؟

قال: هي الليالي العشر من ذي الحجة.. فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من أيام العمل الصالح أحب إلى اللّه فيهن من هذه الأيام)، يعني عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل اللّه؟ قال:( ولا الجهاد في سبيل اللّه، إلا رجُلاً خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء)([81])

قلت: فهل هناك غيرها؟

قال: هناك ما هو أيسر من ذلك، وأقرب.

قلت: وما هو؟

قال: يوم الجمعة.

قلت: ذلك يوم يسير، فهو يوم يتكرر كل أسبوع.

قال: وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن بركة هذا اليوم، فقال:( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت([82])؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء)([83])

قلت: فما فيه من البركات؟

قال: كثيرة هي بركاته، أولها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن الملائكة تشهده، فينال العبد من بركاتها ما يناله، فلذلك دعانا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاستعداد الصحيح لنيل بركات الملائكة في هذا اليوم، فقال:( أكثروا من الصلاة علي في يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها)([84]).. بل ورد في حديث آخر ما يصرح بذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن أكثركم علي صلاة في الدنيا، من صلى علي في يوم الجمعة وليلة الجمعة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا، ثم يوكل الله بذلك ملكا يدخله في قبري كما تدخل عليكم الهدايا يخبرني من صلى علي باسمه ونسبه إلى عشيرته فأثبته عندي في صحيفة بيضاء)([85])

قلت: ما شاء الله هذه بركات عظيمة.. ما أكثر غفلتنا عنها.

قال: بل هناك ما هو أعظم من ذلك كله.

قلت: وهل هناك ما هو أعظم من ذلك؟

قال: أجل.. فقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة فقال:( فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل اللَّه شيئاً إلا أعطاه إياه)، وأشار بيده يقللها([86]).

قلت: هذا خير عظيم، فأي ساعة هي؟

قال: لم تحدد النصوص ذلك بدقة.

قلت: لم؟

قال: ليشتد الناس في البحث عنها.. كما يشتدون في البحث عن ليلة القدر.

قلت: أأنتم تعالجون بها؟

قال: ألم يخبرك المعلم بأن مستشفى السلام يستعمل كل وسائل العلاج وأسبابه؟

شهور البركة

قلت: فحدثني عن شهور البركة.

قال: أعظمها شهر رمضان، فقد قال الله  تعالى يذكر فضله وبركاته: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (البقرة:185)

قلت: لقد اكتسب شهر رمضان بركاته من القرآن الكريم.

قال: ولذلك كان أعظم مناسبة للبركات، فهو الشهر الذي تقترب فيه السماء من الأرض.

قلت: أهذه معلومة فلكية؟

قال: لا.. هذه معلومة ربانية.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)([87])

قلت: فما نفعل في رمضان لننال بركاته؟

قال: ما كان يفعله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أدرى بالبركات وأسرارها.

قلت: وما كان يفعل صلى الله عليه وآله وسلم ؟

قال: ألم تسمع قول ابن عباس، فقد قال: كان رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن؛ فلرَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة)([88])

قلت: عرفت فضل رمضان.. فهل هناك شهور أخرى يمكن تلمس البركات منها؟

قال: لقد ذكر الله  تعالى أربعة أشهر مباركة، فقال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }(التوبة:36)

قلت: تقصد الأشهر الحرم؟

قال: أجل.. فهي أشهر مباركة.. ونحن في هذا المستشفى نكثف العلاج فيها.

قلت: فما هي هذه الأشهر.. فنحن اليوم نتعامل بأشهر تحن للشمس، وتتنكر للقمر.

قال: لقد أخبر عنها صلى الله عليه وآله وسلم، فقال في حجة الوداع:( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض.. السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمرحم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)([89])

قلت: وسائر الأشهر.. أهي ممحوقة البركة؟

قال: في إمكانك أن تملأها بالبركات.

قلت: كيف ذلك.

قال: ألم تسمع ما روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى الهلال قال:( اللهم بارك لنا في شهرنا هذا الداخل)([90])

قلت: أيمكن أن تسري بركة هذا الدعاء إلى الشهر كله، فتجعله مباركا؟

قال: أجل.. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحرى هذا، فقد كان إذا رأى الهلال قال:( اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله)([91])

وفي حديث آخر قال الراوي: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى الهلال قال:( الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله)([92])

وفي حديث آخر أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى الهلال قال:( هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، هلال خير ورشد، آمنت بالله الذي خلقك، ثلاث مرات، ثم يقول:( الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا)([93])

ساعات البركة

قلت: فحدثني عن ساعات البركة.

قال: هي ساعات تتكرر يوميا.

قلت: وذلك ما يجعلها أيسر مواقيت البركات وأقربها.

قال: أولها البكور، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( اللهم بارك لأمتي في بكورها)، قال الراوي: وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية أو جيشاً بعثهم من أول النهار، وكان صخر تاجراً، وكان يبعث تجارته أول النهار فأثرى وكثر ماله([94]).

قلت: بلى.. وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بحماية الله لمن صلي الصبح، فقال:( من صلى الصبح فهو في ذمة اللَّه، فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك اللَّه من ذمته بشيء)([95])

قال: ولذلك ترانا في هذا المستشفى نتحصن بالصبح.. فاليوم عندنا يبدأ بالفجر، لا بالضحى كما رأيته في أرض الصراع.

قلت: والثاني؟

قال: السحر.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( تسحروا، فإن في السحور بركة)([96])

قلت: وقد سمى صلى الله عليه وآله وسلم السحور بالغذاء المبارك.

قال: وقد عرفت في حصون الصحة الأثر الصحي للسحور والفطور.

قلت: أجل.. فحدثني عن الثالث.

قال: هو ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله:( إذا مضى شطر الليل، أو ثلثاه، ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل يعطى، هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، حتى ينفجر الصبح)([97]).

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا، كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر)([98]).

قلت: هذا حديث عظيم.. وفيه بركات عظيمة.

قال: ولكن قومك يحرفونه.

قلت: سمعتهم يروونه كثيرا.

قال: هم لا يروونه ليستفيدوا من بركاته.. بل يروونه ليجادلوا به.. فهم لا يسمعون قوله  تعالى:( أنا الملك، أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟)

قلت: فما يسمعون؟

قال: لا يسمعون منه إلا النزول.

قلت: لم؟

قال: ليجادلوا.. ألم يقل صلى الله عليه وآله وسلم:( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أورثوا الجدل)، ثم تلا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قوله  تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}(الزخرف:58))([99])

قلت: أجل.. وقد خرج رسول اللّه على الناس وهم يتنازعون في القرآن، فغضب غضباً شديداً حتى كأنما صب على وجهه الخل، ثم قال:( لا تضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض، فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل)، ثم تلا الآية.

لحظات البركة

قلت: فحدثني عن لحظات البركة.

قال: قد يمتلئ قلبك في أي لحظة من اللحظات خشوعا ورقة.. فلا تفرط في تلك اللحظة، فهي من اللحظات المباركات التي قد تنقلب بها حياتك انقلابا كليا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألم تسمع قوله  تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}(آل عمران:38)

قلت: بلى.. فما فيها من مواقيت البركة؟

قال: عندما دخل زكريا u على مريم ـ عليها السلام ـ فوجد عندها من رزق الله المبارك شعر بقدرة الله المطلقة، فامتلأ كيانه بالرغبة فيما في يد الله، فسأل الله.

قلت: أتعالجون في هذا المستشفى بهذه اللحظات؟

قال: أجل.. نحن نملأ قلوب المرضى بالإيمان إلى أن يصبحوا كالأرواح المجردة.. وحينذاك نطلب منهم أن يدعو من لا يرد من دعاه.

قلت: ومن أسوتكم في ذلك؟

قال: أيوب u.

قلت: كيف ذلك؟

قال: ألم يستعمل هذه اللحظة من لحظات الإيمان في شفاء العلة التي دامت سنين، فقال  تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}(صّ:41)، فما إن قال ذلك حتى نودي من سرادقات الغيب: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}(صّ:42)

قلت: فيمكن بهذا أن نحول من كل حياتنا ليلة قدر.

قال: أجل.. ألم تسمع قول أبي العباس المرسي:( أوقاتنا والحمد لله كلها ليلة القدر)

قلت: بلى.. وقد سمعت قول ابن عطاء الله:( من بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة)

قال: عرفت فالزم.


([1])   الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، ونص الحديث: عن العرباض بن سارية قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السحور في رمضان فقال:« هلم إلى الغذاء المبارك »

([2])   أبو داود.

([3])   مسلم.

([4])   أبو داود.

([5])   مسلم.

([6])   مسلم.

([7])   ذكر بعض الباحثين (د. محمد سليمان الأشقر، أحاديث الطب النبوي هل يُحتج بها؟، نشر في إسلام أون لاين، بتاريخ: 12/08/2004)كلاما لا يمكن أن يقبل من أي مسلم يحترم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أساء فهم النصوص إساءة عميقة، وقد انطلق في رأيه هذا بذكر مواقف الناس من طب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بأس من تخليص كلامه للدلالة على مبلغ الخطر الذي يحمله تصوره أو تصويره لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد ذكر مذهبين:

المذهب الأول: أنه صلى الله عليه وآله وسلم معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدنيا، بل كل ما يعتقده في ذلك مطابق للواقع، وكذلك ما يقوله ويخبر به.

قال:« ولم نجد أحدا من قدماء الأصوليين صرح بمثل هذا المذهب، ولكنه لازم لمن جعل جميع أقواله وأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم حجة حتى في الطبيات والزراعة ونحوها، وهو لازم أيضا لمن صحح منهم أن تقريره صلى الله عليه وآله وسلم لمخبرٍ عن أمر دنيوي يدل على صحة ذلك الخبر، كما فعل السبكي وأيده المحلي والبناني » 

المذهب الثاني: أنه لا يجب أن يكون اعتقاده صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدنيا مطابقا للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلا أو كثيرا، بل قد يصيب غيره حيث يخطئ هو صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: وليس في ذلك حطّ من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به؛ لأن منصب النبوة مُنصب على العلم بالأمور الدينية، من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إن اعتقد أن فلانا مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين، فإذا هو لا يشفي منه، أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين، فإذا هو لا يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة، أو يدفع ضررا معينا، فإذا هو لا يفعل، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره؛ مما أدى إلى نتائج معينة. فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظن أو اعتقد.

وقد اختار د. محمد سليمان الأشقر هذا المذهب، واستدل لذلك بالأدلة الآتية:

1. قوله تعالى:) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ }(الكهف:110)، وقد تكرر التأكيد على بشرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف أمور الشريعة، فإن كلامه فيها لا يستقر فيه خطأ، كما هو ثابت في علم أصول الفقه. فالأصل استمرار حاله في أمور الدنيا كما كان قبل النبوة، لما لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل.

2. قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«  إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بأمر دينكم فاقبلوه، وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر »، وفي رواية:« أنتم أعلم بدنياكم » فهذا الحديث، برواياته المختلفة، يؤصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصلا عظيما في الشريعة، ويبينه لنا، ويشعرنا بأن بعض أفراد الأمة قد يكونون أحيانا أعلم منه صلى الله عليه وآله وسلم بما يتقنونه من أمور الدنيا، والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة، وأنه لا داعي شرعا لالتفاتهم إلى ما يصدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك إلا كما يلتفتون إلى قول غيره من الناس ( انظروا هذه الجرأة على مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)

3. إن الحباب بن المنذر، قال في سياق غزوة بدر: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد أشرت بالرأي.

4. وقالت عائشة:« كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره. فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فينعتون له الأنعات، وكنت أعالجها له »

وهو ينقل عن ابن خلدون قوله:« الطب المنقول في الشرعيات ليس من الوحي في شيء. وإنما هو أمر كان عاديا للعرب.. فإنما بُعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره »

وينقل عن القاضي عياض قوله:« فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها: يجوز عليه صلى الله عليه وآله وسلم فيها ما ذكرناه [أي الخطأ]، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وشغل نفسه بها، والنبي صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية. ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة »

وهو يصنف الأحاديث على هذا الاعتبار فينفي الاستفادة من كثير من الأحاديث مع أن النصوص واضحة فيها، ومن الأمثلة التي ذكرها لذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«  ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وتلث لنفسه »

ومنها أحاديث الحجامة، مع كثرة الأحاديث الواردة فيها.. وغيرها من الأحاديث.

قال تعقيبا على هذه الأحاديث بعد ذكره لها:« فهذه الأحاديث المذكورة في هذا النوع الثاني، ونحوها من الأحاديث التي تدخل في صلب الأمور الطبية والعلاجية، لا ينبغي أن تؤخذ حجة الطب والعلاج، بل مرجع ذلك إلى أهل الطب، فهم أهل الاختصاص في ذلك. وقد يتبين في شيء من هذه الأحاديث الخطأ من الناحية الطبية الصرفة »

ولسنا ندري موقف هذا الدكتور الجريء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رجل ينشر وصفات طبية صريحة تتعلق بنواح خطيرة من صحة الناس، ثم يزعم أنه ملهم، بل إنه موحى إليه… هل يسلم له أم يطالب العدالة بأن تزج به في السجن لتلاعبه بالناس الواثقين فيه!؟

إنها جرأة خطيرة سببها الجهل بقدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم… أما آثارها ـ لو انتشرت بين الناس ـ فهي عدم الثقة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مطلقا في أمور الغيب والشهادة.

أما ما استدل به من النصوص فهو مرتبط بحوادث لها علاقة بحياته، وهي تحمل طابع التعليم والتربية، لا طابع المعلومة التي يحرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن تنتقل إلى أمته لتنتفع بها.

([8])   الديلمي.

([9])   أبو داواد والترمذي والحاكم عن ابن عباس.

([10])   مسلم.

([11])   مسلم.

([12])   البخاري ومسلم.

([13])   انظر: شعب الإيمان: 1/160.

([14])   الترمذي.

([15])   البخاري ومسلم.

([16])     القرطبي: 11/158.

([17])   ومما قد يدل على هذا ما ذكره بعض الأساتذة في علم الجزيئات المكونه للأجسام أنه عند ذكر البسمله على الكوب المملوء بالماء فإن بلورات الماء تتشكل في أروع وأجمل أشكالها، وعندما يذكر أي كلام بذيء تتشكل في مجموعات بشعة الشكل، فانظر لاستجابة كل شيء وصلاح حاله بذكر الله عز وجل.

([18])  ابن أببي شيبة.

([19])   ابن ماجة.

([20])   ابن عساكر.

([21])   الطبراني في الأوسط، وابن عدي وابن السنى وأبو نعيم في الطب، والبيهقي.

([22])   أحمد وابن حيان.

([23])   أحمد.

([24])   الحاكم والخطيب.

([25])   أبو داود والحاكم.

([26])   البخاري ومسلم.

([27])  سيرة ابن هشام: (1/ 301)

([28])   مسلم.

([29])  أبو داود وغيره.

([30])   مسلم.

([31])   الغليظ الجافي.

([32])  هو الجموع المنوع. وقيل: الضخم المختال في مشيته. وقيل: القصير البطين.

([33])   البخاري ومسلم.

([34])  أحمد ومسلم.

([35])   الحاكم وأبو نعيم.

([36])   أحمد والترمذي والبيهقي.

([37])   الديلمي.

([38])   مسلم.

([39])   البخاري ومسلم.

([40])   مسلم.

([41])   الحاكم.

([42])   ابن ماجة وابن عساكر.

([43])   البخاري.

([44])   أبو داود بإسناد جيد.

([45])   أبو داود والترمذي.

([46])   مسلم.

([47])   مسلم.

([48])   مسلم.

([49])   البخاري ومسلم.

([50])   أحمد ومسلم.

([51])   أبو داود في مراسليه والبيهقي.

([52])   الكباث، هو ثمر الأراك، وقد ذكر أطباء المسلمين أن منافعه كمنافع الأراك، فهو يقوي المعدة، ويجيد الهضم، ويجلو البلغم، وينفع من أوجاع الظهر، وكثير من الأدواء.

([53])   البخاري ومسلم.

([54])   أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.

([55])   البخاري ومسلم.

([56])   أبو داود وابن ماجة.

([57])   أبو السنى وأبو نعيم.

([58])   فقد ذكر الله تعالى أنه يسقينا اللبن، قال تعالى: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}(النحل:66)، وقال تعالى: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}(المؤمنون:21)

([59])   وكمثال على ذلك ما قامت به شركة مونسانتو Monsanto Chemical Co التي اشتهرت في السابق بإنتاج السموم الناقعات رفيعة المستوى مثل “دي دي تي”، ومبيد “الديوكسين”، فقد قامت بتمويل بحوث في الهندسة الوراثية بأكثر من نصف مليار دولار لاختراع حقنة لإجبار الأبقار على إنتاج حليب أكثر، ولسوء الحظ فقد نجح العلماء في إنتاج حقنة هرمونية تؤدي لزيادة إدرار اللبن في الأبقار على مدار العام، وقد يصل إنتاج البقرة الواحدة إلى 27 كيلو جراما من اللبن يوميا، ويؤدي ذلك إلى زيادة هرمون “آي جي إف-1″في الحليب بكميات تزيد عن 80% من المعدل الطبيعي.

ولقد تمكنت مافيا صناعة الألبان في الولايات المتحدة الأمريكية من إخفاء تقرير مهم يؤكد على خطورة هذه الحقنة وتأثيراتها الضارة على كل حيوانات الاختبار (تقرير ريتشارد، أوداجليا ودزليكس، 1989)، ولم يعرض هذا التقرير على إدارة الرئيس “كلينتون” ولا على إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية (إف دي آي)التي ما زالت تصر على أن هرمون “آي جي إف-1” يتحطم في المعدة! ولقد ثبت أن هذا الادعاء غير صحيح؛ لأنه من المعروف علميا أن معدل نمو الرضع يكون عاليا؛ نتيجة لوجود هذا الهرمون في اللبن، ووصوله لجميع خلايا الجسم، وأنه إذا تحطم هذا الهرمون في المعدة انعدمت فوائده.

ولتأكيد هذه الفرضية أجرى العلماء دراسة على مجموعتين من البشر: المجموعة الأولى تستهلك 12 أوقية من الحليب يوميا، والمجموعة الأخرى تستهلك 24 أوقية (ثلاثة أكواب)من نفس الحليب المصرح بتناوله من إدارة الأغذية والأدوية (إف دي آي). وأكدت التحليلات أن أفراد المجموعة الثانية تزيد لديهم نسبة هرمون “آي جي إف-1” (أكثر من 10% في مصل دمائهم)مقارنة بالمجموعة الأولى!.. من مقال بعنوان « شرب الحليب.. خطر يهدد صحتك! » لطارق قابيل، منشور بموقع:« إسلام اون لاين » بتاريخ 06/07/2002.

([60])   هو تيموتي ليري… ويذكر ريتشارد سيلزر بعض المجالات التي يمكن تسميتها إيجابية مع بعض التحفظ في مدى صحة ذلك، فيقول:« إن أهم التطورات التي ستفضي إليها البحوث في العشرين سنة المقبلة، ستكون بلا شك العقاقير المضادة للفيروسات، واللقاحات التي ستؤدي إلى انقراض الأمراض السارية من على وجه الأرض.. أما علم الهندسة الوراثية، فسوف يساعد في القضاء على العاهات الوراثية، التي ضربت المجتمعات منذ زمن بعيد.. يقيني أن التحكم بالتقنيات المختصة بمعاملة الموروثات البشرية ستخلف سلالات بشرية متفوقة، وأن هذه الحقيقة قد بدأت بشائرها اليوم »

([61])   ابن ماجة.

([62])   الترمذي والحاكم.

([63])   مسلم.

([64])   ابن ماجة.

([65])   يعني الضب، رواه الطبراني في الكبير، وفي رواية: كلوه لا بأس به ولكنه ليس من طعام قومي.

([66])   ابن أبي الدنيا في الدعاء، وأبو نعيم في الحلية وابن حبان.

([67])   أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه.

([68])    أبو الشيخ.

([69])   هو الأستاذ الدكتور عاصم محمد علي رحمه الله.

([70])   الترمذي.

([71])   مسلم.

([72])   البخاري وغيره، وقد ورد في سبب ورود هذا الحديث أن ثمامة لما كان في الأسر جمعوا ما كان في أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طعام ولبن فلم يقع ذلك من ثمامة موقعا فلما أسلم جاءوه بالطعام فلم يصب منه إلا قليلا فتعجبوا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء وأن المؤمن يأكل في معي واحد »

([73])   رواه ابن ماجه وغيره.

([74])   الدارقطني والحاكم.

([75])   وقد رويت الحكايات الكثيرة عن تأثير شرب ماء زمزم العلاجي، ومن ذلك ما حدثت به سيدة فاضلة اسمها – يسرية عبد الرحمن حراز – كانت تؤدي فريضة الحج ضمن وزارة الأوقاف عن المعجزة التي حدثت لها ببركات ماء زمزم فقد ذكرت أنها أصيبت منذ سنوات بقرحة قرمزية في عينها اليسرى نتج عنها صداع نصفي لا يفارقها ليل نهار، ولا تهدئ منه المسكنات.. كما أنها كادت تفقد الرؤية تماما بالعين المصابة لوجود غشاوة بيضاء عليها.. وذهبت إلى أحد كبار أطباء العيون فأكد أنه لا سبيل إلى وقف الصداع إلا باعطائها حقنة تقضي عليه، وفي نفس الوقت تقضي على العين المصابة فلا ترى إلى الأبد، وفزعت السيدة يسرية لهذا النبأ القاسي، ولكنها كانت واثقة برحمة الله تعالى ومطمئنة إلى أنه سيهيئ لها أسباب الشفاء رغم جزم الطب والأطباء بتضاؤل الأمل في ذلك.. ففكرت في أداء عمرة، كي تتمكن من التماس الشفاء مباشرة من الله عند بيته المحرم

وجاءت إلى مكة وطافت بالكعبة،  ولم يكن عدد الطائفين كبيرا وقتئذ،  مما أتاح لها – كما تقول – أن تقبل الحجر الأسود،  وتمس عينها المريضة به.. ثم اتجهت إلى ماء زمزم لتملأ كوبا منه وتغسل به عينها.. وبعد ذلك أتمت السعي وعادت إلى الفندق الذي تنزل به

فوجئت بعد عودتها إلى الفندق أن عينها المريضة أصبحت سليمة تماما،  وأن أعراض القرحة القرمزية توارت ولم يعد لها أثر يذكر

كيف تم استئصال قرحة بدون جراحة؟!.. كيف تعود عين ميئوس من شفائها إلى حالتها الطبيعية بدون علاج؟! وعلم الطبيب المعالج بما حدث،  فلم يملك إلا أن يصيح من أعماقه: الله أكبر إن هذه المريضة التي فشل الطب في علاجها عالجها الطبيب الأعظم في عيادته الإلهية.

ومثل هذه الحكاية وحكايات أخرى نسمع عنها من أصحابها أو نقرؤها،  فيروي صاحب هذه الحكاية الدكتور فاروق عنتر فيقول: لقد أصبت منذ سنوات بحصاة في الحالب،  وقرر الأطباء استحالة إخراجها إلا بعملية جراحية،  ولكنني أجلت إجراء العلمية مرتين.. ثم عن لي أن أؤدي عمرة،  وأسأل الله أن يمن علي بنعمة الشفاء وإخراج هذه الحصاة بدون جراحة؟

وبالفعل سافر الدكتور فاروق إلى مكة،  وأدى العمرة وشرب من ماء زمزم،  وقبل الحجر الأسود،  ثم صلى ركعتين قبل خروجه من الحرم،  فأحس بشيء يخزه في الحالب،  فأسرع إلى دورة المياه،  فإذا بالمعجزة تحدث،  وتخرج الحصاة الكبيرة،  ويشفى دون أن يدخل غرفة العمليات.

لقد كان خروج هذه الحصاة مفاجأة له وللأطباء الذين كانوا يقومون على علاجه،  ويتابعون حالته.

انظر: الإعجاز العلمي في الإسلام والسنة النبوية، لمحمد كامل عبد الصمد.

([76])   الطبراني في الكبير.

([77])   ابن أبي الدنيا في الفرج والحكيم والبيهقي وأبو نعيم في الحلية.

([78])   مسلم.

([79])   مسلم.

([80])   البخاري ومسلم عن ابن عمر.

([81])   البخاري.

([82])   أي بليت.

([83])   أحمد وأبو داود والنسائي والدارمي وابن خزيمة وغيرهم.

([84])   ابن ماجة.

([85])   البيهقي وابن عساكر.

([86])   البخاري ومسلم.

([87])   البخاري ومسلم.

([88])   البخاري ومسلم.

([89])   البخاري.

([90])   ابن منده وبان عساكر، وقد ذكر الحديث، وقال: توالى على هذا الدعاء ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمعوه منه، والسابع حدير أبو فوزة السلمي.

([91])   الترمذي، وقال: حديث حسن.

([92])   الدارمي.

([93])   أبو داود.

([94])   أبُو دَاوُدَ التِّرمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

([95])   مسلم.

([96])   البخاري ومسلم.

([97])   مسلم.

([98])   مسلم والترمذي.

([99])   أحمد والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *