أولا ـ خطايا

كان أول من أراد أن يرسم منهج التشكيك لهذه الجماعة التي اجتمعت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أخي.. وتوأمي.. ونفسي الثانية.
لقد أراد بخروجه للمسلمين، بعد أن جمع ما أطاق من أنواع السموم، أن يكون أسوة حسنة لكل الفريق الذي اجتمع على أخطر مهمة في التاريخ وأصعبها.. وهي مهمة تشويه الشمس التي لا تغيب.
وقد أراد في نفس الوقت أن يمهد الأرض التي تجعل كل المسلمين يتقبلون كل ما سيفرزه غيره من سموم التشكيك والتشويه.
وقد كان لأخي من الذكاء والفطنة ما جعله يستند إلى مصادر المسلمين وحدها، وخاصة المصادر الأصلية التي لا يشك فيها أحد منهم، ليمزج منها خلطات تحول وجه كل من شرب منها عن قبلة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان من الآيات التي جذبت انتباهه لهذا، الآيات التي أسند الله تعالى فيها الغفلة والضلال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كقوله تعالى:{ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (سـبأ:50)، وقوله تعالى:{ وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (الضحى:7)، وقوله تعالى:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف:3)، وقوله تعالى في الآية التي قصم أخي ظهرها:{ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (الأنعام:56)([1])
وكان منها الآيات التي أخبرت عن مغفرة الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كقوله تعالى:{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} (الفتح:2)، وقوله تعالى:{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19)، وقوله تعالى:{ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} (الشرح:2)، وقوله تعالى:{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (التوبة:43)، وقوله تعالى:{ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (لأنفال:68).. وغيرها من الآيات.
ومن السنة جميعا لم يلفت انتباهه إلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(والله إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وأَتُوبُ إِلَيْه في اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً)([2])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلى اللهِ واسْتَغْفِرُوهُ، فإنِّي أتُوبُ في اليَومِ مئةَ مَرَّةٍ)([3])
أخذ أخي في حقيبته هذه النصوص المقدسة، ثم مزجها بما شاء من فهوم، واستنتج منها ما شاء من استنتاجات.. ثم راح إلى ساحة الحرية ليبشر بما تصوره من خطايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: فهل ذهبت معه؟
قال: لست أدري.. ولكني ربما كنت معه.. فكل كلمة قالها، أشعر أني ـ مثله ـ نطقت بها.. وكل كلمة سمعها أشعر أني ـ مثله ـ سمعتها.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لا تسأل عن ذلك.. فلن ينفعك البحث في ذلك.
***
وقف أخي في تلك الساحة التي هيئت لمن يشاء أن يقول ما يشاء، ثم قال: أنا أخاطب بكلمتي هذه العقول.. ولا أخاطب غير العقول.. فمن كان ذا عقل، فليسمع لي، وليرد علي بما يشاء.. ومن لم يكن له عقل يميز به الحقائق من الأباطيل، وأهل الضلال من أهل الهداية.. فلا أرغب في سماعه لحديثي.. لسبب بسيط، وهو أنه لن يفهمه.. وإذا فهمه، فلن يتقبله.
اجتمعت جموع كثيرة حوله، وكان من بينها تلك الجماعة التي أسلمت حديثا، وفي ذلك المحل الذي أتيح لحرية التعبير.
بدأ أخي حديثه بما تعودته منه من طرق الاستفزاز، فهو يتصور أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن أن يبني به ما يشاء، ويهدم ما يشاء.
وقد كان أخي يستخدم هذا الأسلوب في علاقاته جميعا، وقد بنى به كل ما كان يحلم به من مجد ومن مناصب ابتداء من أول السلم إلى منتهاه.
بعد أن اجتمعت الجموع أخذ أخي يرسل أول قنابله، فقال: لقد سمعت أنه ـ وقبل أسبوع ـ وقف رجل في هذا الموقف.. وحدث الناس كثيرا عن محمد.. وكان من نتيجة حديثه أن ألغى البعض عقولهم، وراحوا يسيرون خلف رجل امتلأ ضلالة وخطيئة..
نادى رجل من الجمع بغضب قائلا: من ترميه بالضلال والخطيئة؟
نظر إليه أخي.. ثم قال ببساطة يستفزه: وهل هناك غير محمد!؟.. إن هذا الوصف لا ينطبق على أحد في الدنيا كما ينطبق على محمد.
غضب الرجل.. وغضب معه كثير من أفراد الجماعة الملتفة بأخي.. بل قام يعضهم لينزله من ذلك المحل الذي يخطب منه.. فقام رجل من القوم، هو أشبه الناس بصاحبك (معلم السلام).. بل لعله (معلم السلام) نفسه إلا أني سمعت القوم يسمونه حكيما.. ولا أزال إلى الآن لا أعرف هذا الرجل، ولا أعرف سر وجوده في كل محل يتعرض له مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإساءة.
ولم يكن هذا العجب عجبي فقط، بل كان عجب العصابة جميعا، والتي عبر بعض أفرادها عن سخطه بقوله:(ما بال هذا المحامي يظهر كل مرة ليحبط جميع مخططاتنا)
بل إن بعض أفراد عصابتنا هم به ذات مرة ليخنقه.. ولكن الله خلصه منه.
لن أستعجل في حكاية هذا.. ولهذا سأعود بك إلى موقفه.. وكيف استطاع أن يواجه ذلك الموقف الشديد بحكمة وعقل وسلام.
قال الحكيم، بنبرة ممتلئة حكمة ووقارا وهدوءا، متوجها للجمع الغاضب: رويدكم يا جماعة.. فما ينبغي لنا، ونحن تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن الذين شملتنا أشعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن نتصرف هذا التصرف.
إن هذا أخ من إخواننا وقع في شبه جرته إلى هذا التصرف.. والشبه تعالج بالعلم، لا بالأيدي.. هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهكذا ينبغي أن نمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال ذلك، ثم التفت إلى أخي، وقال: هو ذا أنا أمامك.. أنا الذي تقصده.. فقد قمت قبل أسبوع بالوقوف في موقفك هذا.. لأحدث من أراد أن يستمع إلي عن رحلتي إلى محمد وشمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وكان لحديثي أن يطول.. ولكن الجمع الذي التف حولي كان كالزيت الذي يكاد يضيئ ولو لم تمسسه نار.. فلذلك ما إن ذكرت أول شعاع من أشعة محمد حتى راحوا يعلنون حبهم له وإيمانهم به.
قال أخي: وقد أرسلتني الحقيقة لأنقذ هذا الجمع الذي استغفلته، فرحت ترميه في شباك الضلال.
قال الحكيم: وأنا ممتن لك.. لتنقذني ـ أنا أيضا ـ من هذه الشباك.. فاذكر لي، واذكر للجمع ما ينقذنا من هذا الضلال الذي جعلنا نتبع محمدا.
سكت أخي يستجمع أنفاسه، وقد ساءه هذا الموقف اللين الذي أبداه الحكيم، ثم قال: تخيلوا معي ـ أيها الجمع ـ أنكم في صحراء.. وليس لديكم أي بوصلة تهتدون بها.. ثم جاءكم أمي لا يعرف الطريق، ولا علم له بالجغرافية، فأخبركم أنه الهادي.. هل تقبلونه؟
ثم أجاب نفسه بنفسه: لا شك أنكم لن تقبلوه.. فالضال لن يكون هاديا.. والخطاء لن يكون مربيا.. والمخطئ لن يكون معلما.. هكذا علمنا الكتاب المقدس.. وهذا هو المقياس العلمي الذي ملأ به عقولنا، فرحنا لا نخضع إلا للحقيقة.
غضبت الجماعة المسلمة لهذا الاستفزاز.. لكنه قال بهدوئه المعتاد: لا تغضبوا.. فأنا لن أحدثكم إلا بالقرآن الذي جاء به محمد.. وبالأحاديث التي ينزلها المسلمون منزلة القرآن.
التفت الجمع إليه مستغرقين فيما يقول، متعجبين منه، فشجعه ذلك، فراح يقول: لقد ذكرت لكم أن محمدا خطاء.. والخطاء لا يكون مربيا.. ولا يكون هاديا.. ولا يكون رسولا.
لأن أول صفات المربي أن يكون قدوة لغيره.. ومن كان ذا خطيئة لم يرب غيره إلا على الخطيئة..
ومن أدوار الرسول أن يكون شافعا.. ومن كان ذا خطيئة يستحيل أن يكون شافعا للمذنبين.. لأنه يحتاج هو نفسه لمن يشفع له.
سكت قليلا، ثم قال: لا تغضبوا.. فليس هذا كلامي.. هذا ما قال القرآن.. لقد جاء في القرآن أمر محمد بالاستغفار، والاستغفار لا يكون إلا للمذنبين، ففي القرآن هذه الأوامر الشديدة لمحمد:{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء:106).. { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر:55).. { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19)
وفي القرآن وعد لمحمد بأن يغفر له ذنبه.. والمغفرة لا تكون إلا للمذنبين:{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } (الفتح:1-2)
بل إن محمدا نفسه يصرح بوقوع الخطايا منه.. اسمعوا هذا الدعاء الذي لا ينطق به إلا من امتلأ بالخطايا.. (اللهم انت ربى لا اله الا انت خلقتني وانا عبدك وانا على عهدك ووعدك ما استطعت اعوذ بك من شر ما صنعت ابوء لك بنعمتك على وابوء لك بذنبى فاغفر لى فانه لا يغفر الذنوب إلا انت)([4])
واسمعوا هذا الدعاء الذي تفوح منه روائح الخطايا:(اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي خطأي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شئ قدير)([5])
أرأيتم .. إن محمدا في هذا الدعاء يقر بأن له خطايا.. وأنه أسرف فيها.. وأنه ارتكب من الخطايا جميع أنواعها وفي جميع المحال.
ليس هذا فقط.. اسمعوا هذا الدعاء:(اللهم انى اعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)([6])
ولكثرة خطاياه كان يقول لأصحابه:(والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً)([7]).. بل كان يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرةٍ)([8])
وقد عد أحد أصحابه كثرة استغفاره، فقال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المجلس، يقول: رب اغفر لى، وتب علي، انك انت التواب الغفور مائة مرة([9]).
التفت إلى الجمع، وقال: أرأيتم.. هل يمكن الوثوق في نبي خطاء؟
ثم أضاف بسخرية قائلا: إن أي تصرف ستنقلونه عن هذا النبي يمكن أن يكون من الذنوب التي تاب منها.. فهل تجيزون لأنفسكم أن تكرروا أخطاء غيركم؟.. وهل تجيزون لأنفسكم أن تعبدوا الله بالأخطاء التي تيب منها؟
سكت الجمع، فقام الحكيم، وقال: إذا أذنت لي.. فسأجيبك عما طرحت من أسئلة؟
قال أخي: أجب بما تشاء.. لن تجد عندي إلا سعة الصدر.
قال الحكيم: سأجيبك عن هذا بأمرين.. أما أحدهما فأعتمد فيه على الجدل، فلذلك سأقنعك بما لا يقبله عقلي وديني.. ولكن دينك وعقلك يقبله.. وهو أسلوب اعتمده القرآن حين قال يخاطب اليهود:{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران:93)
ولذلك أقول لك: ائت بكتابك المقدس.. وأجبني عما أطرحه عليك من أسئلة.
قال أخي: كتابي المقدس دائما معي.. هو في عقلي وقلبي وروحي.. وحروفه تنتقش في ذاكرتي.
قال الحكيم: فأنت أقرب إلى الحق إذن من كل هذا الجمع.. فمن قرأ الكتاب المقدس بصدق لن يصل إلا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال أخي: بل يصل المسيح..
قال الحكيم: المسيح ومحمد.. وغيرهما من الأنبياء كلهم قد خرجوا من عالم واحد، فمن وصل لأحدهم بصدق وصل للآخر لا محالة.
قال أخي: كيف تضع محمدا مع الأنبياء.. وقد ذكرت لك من ضلالاته وخطاياه ما يرفعه عن ذلك المقام الرفيع الذي تدعونه له!؟
قال الحكيم: اعذرني.. ربما أكون قد أخطأت في تعبيري.. ولكن المنهج العلمي يدعوني ويدعوك للتريث حتى نبحث في سير هؤلاء الأنبياء الذين رأيت أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أقل شأنا من أن يوضع معهم.
أشار الجمع موافقين لما ذكره الحكيم، فقال: فلنبدأ بآدم.. أليس آدم أبا البشر، وأول الأنبياء.. أجبني ما مقامه فيكم([10])؟
قال أخي: هو فينا ذو مقام.. فهو أبونا الأول الذي ولدنا منه الولادة الأولى.. وكل مسيحي يشعر أنه ابن آدم بحكم ولادته، ويولد ولادة جديدة في المسيح بإيمانه، لذلك يحتفظ المسيحي بعلاقة دائمة مع آدم الأول وآدم الآخر، وإن اختلفت طبيعة هذه العلاقة وأثرها في الحالتين.
قال الحكيم: ولكنكم تذكرون لنا ـ خلافا لنا ـ بأنه ظل على خطيئته.. لقد قال أحدكم في كتاب كتبه عن أولياء الكتاب المقدس سماه (طريق الأولياء): (يا أسفي على أنه لم تثبت توبته وعلى أنه ما استغفر اللّه لذنبه مرة واحدة أيضاً)
قال ذلك، ثم التفت إلى أخي قائلا: وما تقولون في نوح؟
قال أخي: نوح ـ في معتقدنا نحن المسيحيين ـ هو الرجل البار الذي ينجو من العقاب وينعم بالخلاص.. ففي وسط الشر المدمّر للعالم، يبرز نوح كرأس للإنسانية الجديدة وصورة مسبقة للمسيح.
قال الحكيم: فافتح كتابك المقدس، واقرأ من سفر التكوين (9: 20)
أخذ أخي يقرأ: (واشتغل نوح بالفلاحة وغرس كرما، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خيمته، فشاهد حام أبو الكنعانيين عري أبيه، فخرج وأخبر أخويه اللذين كانا خارجا. فأخذ سام ويافث رداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا القهقرى إلى داخل الخيمة، وسترا عري أبيهما من غير أن يستديرا بوجهيهما نحوه فيبصرا عريه. وعندما أفاق نوح من سكره وعلم ما فعله به ابنه الصغير قال: (ليكن كنعان ملعونا، وليكن عبد العبيد لإخوته)، ثم قال: تبارك الله إله سام. وليكن كنعان عبدا له. ليوسع الله ليافث فيسكن في خيام سام. وليكن كنعان عبدا لهم)
ابتسم الحكيم، وقال: ألا ترى الخطايا الكثيرة التي تفوح من هذا النص، والتي تنسب لهذا النبي الكريم.
ألا ترون أن الذي شاهد عري أبيه هو (حام)؟
قال الجمع: نعم..
قال الحكيم: ولكن نوحا ـ في هذا النص ـ لا يلعن ابنه الذي شاهده، وإنما يلعن نسل أحد أبنائه.. وهو كنعان.. وهذا الابن لم يولد حينذاك.. بل ولد بعد عشرين سنة..
ولو فرضنا أنه حمل إثم الأب على الابن، وهو خلاف العدل، فما وجه تخصيص كنعان.. فقد كان لحام أربعة أبناء: كوش ومصرايم وفوط وكنعان.
نظر الحكيم، وقال: من المؤسف أن يحمل الكتاب المقدس مثل هذه العنصرية.. إن هذه القصة ـ بلا شك ـ من افتراءات الكتاب المقدس على أنبياء الله واتهامهم بارتكاب الكبائر.. وهي تفضح عنصرية اليهود حيث قصدوا بهذه اللعنة الكنعانيين سكان فلسطين قبل اليهود، فنسبوا أنفسهم إلي سام، وادعوا اختصاصهم بذلك ليتسنى لهم ادعاء حق السيطرة على الكنعانيين.
ثم التفت إلى أخي، وقال: أنبئني عن مقام إبراهيم فيكم، وفي الكتاب المقدس؟
قال أخي: هو نبي من أنبياء الكتاب المقدس العظام.. بل إنه يحتل مركزا ممتازا في تاريخ الخلاص.. فدعوته ليست مجرد نقطة البداية في تدبير الله، لكنها أيضا تحدد الاتجاهات الأساسية لهذا التدبير.
قال الحكيم: ولكنكم تعتقدون أنه وقع في خطايا كثيرة.. سأذكر لك منها بعض ما وصلت إليه، ولا أرى إلا أنك ستقرني عليها.
منها ما ذكره صاحبكم في كتابه الذي كتبه عن (طريق الأولياء)، فقد قال في حال إبراهيم:(لا يعلم حاله إلى سبعين سنة من عمره، وهو تربى في الوثنيين، ومضى أكثر عمره فيهم، ويعلم أن أبويه ما كانا يعرفان الإله الحق. ويحتمل أن إبراهيم أيضا كان يعبد الأصنام ما لم يظهر الله عليه، ثم ظهر عليه وانتخبه من أبناء العالم، وجعله عبدا خاصا) ([11])
فظهر أن المظنون عندكم أن إبراهيم إلى سبعين سنة من عمره كان يعبد الأصنام.. بل إن كونه عابد الأصنام إلى أن بلغ سبعين سنة، قريب اليقين، نظرا لأصولكم، لأن أهل العالم في هذا الوقت عندكم كانوا وثنيين، وهو تربى فيهم، وأبواه أيضا كانا منهم. ولم يظهر عليه الرب إلى ذلك الوقت، والعصمة عن عبادة الأوثان ليست بشرط بعد النبوة، فضلا عن أن تكون شرطا قبل النبوة.
لنترك هذا.. فقد تتعلل بأن هذا قبل النبوة.. ولننتقل إلى ما تذكرونه عنه بعد النبوة.. اقرأ علي ما ورد في (سفر التكوين:12/10 – 13)
قرأ أخي: (وكان جوع في أرض كنعان، فنزل أبرام إلى مصر ليتغرب هناك، لأن الجوع كان شديدا. فلما وصل إلى أبواب مصر قال لساراي امرأته: (أعرف أنك امرأة جميلة المنظر، فإذا رآك المصريون سيقولون: هذه امرأته، فيقتلونني ويبقون عليك. قولي إنك أختي، فيحسنوا معاملتي بسببك ويبقوا على حياتي لأجلك)
قال الحكيم: ألا ترى الخطيئة العظيمة التي وقع فيها إبراهيم في هذا النص؟.. إن سبب الكذب ـ كما يدل هذا النص ـ ما كان مجرد الخوف، بل رجاء حصول الخير أيضا، بل الخير كان أقوى، ولذلك قدمه، وقال ليكون لي خير بسببك، وتحيي نفسي من أجلك.
على أن خوفه من القتل مجرد وهم، لا سيما إذا كان راضيا بتركها، فإنه لا وجه لخوفه بعد ذلك أصلا، وكيف يجوز العقل أن يرضى إبراهيم بترك حريمه وتسليمها ولا يدافع دونها، ولا يرضى بمثله من له غيرة ما، فكيف يرضى مثل إبراهيم الغيور.
سكت الحكيم قليلا، ثم قال: لم يكن هذا هو الذنب الوحيد.. بل إن إبراهيم ـ على حسب ما ذكر الكتاب المقدس ـ كرر نفس هذا الذنب.. ففي (سفر التكوين: 20/1-18):(وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض النقب، فأقام بين قادش وشور ونزل بمدينة جرار. وقال إبراهيم عن سارة امرأته: (هي أختي) فأرسل أبيمالك، ملك جرار، فأخذ سارة. فجاء الله إلى أبيمالك في حلم الليل وقال له: (ستموت بسبب المرأة التي أخذتها، فهي متزوجة برجل). ولم يكن أبيمالك اقترب إليها، فقال: (يا سيدي، أأمة بريئة تقتل؟ أما قال لي إبراهيم: هي أختي، وقالت لي امرأته أيضا: هو أخي؟ فبسلامة قلبي ونقاوة يدي فعلت هذا). قال له الله في الحلم: (أنا أعرف أنك بسلامة قلبك فعلت هذا، ولذلك منعتك من أن تمسها فتخطأ إلي. والآن رد امرأة الرجل، فهو نبي يصلي لأجلك فتحيا. وإن كنت لا تردها، فاعلم أنك لا بد هالك أنت وجميع شعبك)
فبكر أبيمالك في الغد واستدعى جميع رجاله وأخبرهم بكل ما جرى، فخافوا خوفا شديدا. ثم دعا أبيمالك إبراهيم وقال له: (ماذا فعلت بنا؟ وبماذا أذنبت إليك حتى جلبت علي وعلى مملكتي خطيئة عظيمة؟ ما فعلت بي لا يفعله أحد) وسأل أبيمالك إبراهيم: (ماذا خطر لك حتى فعلت هذا؟) فأجاب إبراهيم: ((ظننت أن لا وجود لخوف الله في هذا المكان، فيقتلني الناس بسبب امرأتي. وبالحقيقة هي أختي ابنة أبي لا ابنة أمي، فصارت امرأة لي. فلما شردني الله من بيت أبي قلت لها: تحسنين إلي إن قلت عني حيثما ذهبنا: هو أخي)
فأخذ أبيمالك غنما وبقرا وعبيدا وجواري وأعطى هذا كله لإبراهيم وأعاد إليه سارة امرأته. وقال أبيمالك: (هذه بلادي بين يديك، فأقم حيثما طاب لك)
وقال لسارة: (أعطيت أخاك ألفا من الفضة، وهو لك رد اعتبار أمام عيون كل من معك وسواهم بأنيلم أتزوجك)
فصلى إبراهيم إلى الله، فشفى الله أبيمالك وامرأته وجواريه فولدن، وكان الرب أغلق كل رحم في بيت أبيمالك بسبب سارة امرأة إبراهيم)
التفت الحكيم إلى أخي، ثم قال: ألا أن إبراهيم في هذا النص أيضا مارس نفس الأسلوب.. ولعل السبب هاهنا ما عدا الخوف أيضا، كان حصول المنفعة، وقد حصلت كما صرح بذلك هذا السفر المبارك..
لقد قال صاحبكم.. صاحب (طريق الأولياء) معلقا على هذا:(لعل إبراهيم لما أنكر كون سارة زوجة له في المرة الأولى، عزم في قلبه أنه لا يصدر عنه مثل هذا الذنب، لكنه وقع في شبكة الشيطان السابقة مرة أخرى بسبب الغفلة)([12])
وقال في موضع آخر: (لا يمكن أن يكون إبراهيم غير مذنب في نكاح هاجر، لأنه كان يعلم جيدا قول المسيح المكتوب في الإنجيل، أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى، وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا)([13])
بل أقول: إنه لا يمكن أن يكون غير مذنب في زواجه من سارة، لأنه كان يعلم جيدا قول موسى المكتوب في التوراة: (لا تكشف أختك من أبيك كانت أو من أمك التي ولدت في البيت أو خارجا من البيت)، وقوله: (أي رجل تزوج أخته ابنة أبيه أو أخته ابنة أمه، ورأى عورتها ورأت عورته، فهذا عار شديد، فيقتلان أمام شعبهما. وذلك لأنه كشف عورة أخته فيكون إثمهما في رأسهما)، وقوله:(يكون ملعونا من يضاجع أخته من أبيه أو أمه)
إن هذا الزواج مساو للزنا عندكم.. ويلزم من هذا أن يكون إبراهيم ـ عليه السلام ـ زانيا قبل النبوة وبعدها، ويكون أولاده كلهم من سارة أولاد الزنا.
ولو جوزتم زواج الأخت في شريعته لزم تجويز تعدد الزواج أيضا في تلك الشريعة.
سكت قليلا، ثم قال: ليس إبراهيم وحده هو من وقع في هذا.. إن مثل هذا ورد عن ابنه الوارث لبركاته إسحق.. اقرأ ما ورد في (سفر التكوين:26/6-11)
قرأ أخي: (فأقام إسحق في جرار وسأله أهل جرار عن امرأته فقال: (هي أختي)، لأنه خاف أن يقول: (هي امرأتي)، لئلا يقتلوه بسببها وكانت جميلة المنظر. ولما مضى على إقامته هناك وقت طويل حدث أن أبيمالك، ملك الفلسطيين أطل من نافذة له ونظر فرأى إسحق يداعب رفقة امرأته. فدعاه وقال له: (إذا هي امرأتك، فلماذا قلت إنها أختك؟) فقال إسحق: (لأني ظننت أنني ربما أهلك بسببها) فقال أبيمالك: (ماذا فعلت بنا؟ لولا قليل لضاجع أحد أبناء شعبنا امرأتك فنذنب) وأوصى أبيمالك جميع الشعب قال: (من مس هذا الرجل أو امرأته فموتا يموت)
قال الحكيم: ألا ترى إسحق في هذا النص يقتفي أثر أبيه، فيعود إلى نفس الخطيئة؟.. لقد قال صاحب طريق الأولياء: (زل إيمان إسحاق لأنه قال لزوجته أنها أخته)([14]).. وفي موضع آخر قال: (يا أسفي إنه لا يوجد كمال في أحد من بني آدم غير الواحد العديم النظير، والعجب أن شبكة الشيطان التي وقع فيها إبراهيم، وقع فيها إسحاق أيضا، وقال عن زوجته أنها أخته، فيا أسفي أن أمثال هؤلاء المقربين عند الله محتاجون إلى الوعظ)([15])
ثم التفت إلى أخي، وقال: ونفس الأمر حصل مع يعقوب.. فهو لم يكتف بالكذب، بل راح يخدع أباه.. بل يخدع الله.. اقرأ على الجمع من (سفر التكوين:27/1-45)
قرأ أخي: (ولما شاخ إسحق وكلت عيناه عن النظر دعا عيسو ابنه الأكبر وقال له: (يا ابني)، قال: (نعم. ها أنا). فقال: (صرت شيخا كما ترى ولا أعرف متى أموت. فخذ عدتك وجعبتك وقوسك واخرج إلى البرية وتصيد لي صيدا، 4وهيئ لي الأطعمة التي أحب، وجئني بها فآكل وأباركك قبل أن أموت).
وكانت رفقة سامعة حينما كلم إسحق عيسو ابنه. فلما خرج عيسو إلى البرية ليصطاد صيدا ويجيء به إلى أبيه، قالت رفقة ليعقوب ابنها: (سمعت أباك يقول لعيسو أخيك: جئني بصيد وهيئ لي أطعمة فآكل منها وأباركك أمام الرب قبل موتي. والآن يا ابني، اسمع لكلامي واعمل بما أوصيك به. اذهب إلى الماشية وخذ لي منها جديين من خيرة المعز، فأهيئهما أطعمة لأبيك كما يحب. فتحضرهما إلى أبيك، ويأكل ليباركك قبل موته). فقال يعقوب لرفقة أمه: (لكن عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس. ماذا لو جسني أبي فوجدني مخادعا؟ ألا أجلب على نفسي لعنة لا بركة؟) فقالت له أمه: (علي لعنتك يا ابني. ما عليك إلا أن تسمع لكلامي وتذهب وتجيئني بالجديين. فذهب وجاء بهما إلى أمه، فهيأت أطعمة على ما يحب أبوه. وأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة التي عندها في البيت، فألبستها يعقوب ابنها الأصغر وكست يديه والجانب الأملس من عنقه بجلد المعز. وناولت رفقة يعقوب ما هيأته من الأطعمة والخبز، فدخل على أبيه وقال: (يا أبي)، قال: (نعم، من أنت يا ابني؟) فقال له يعقوب: (أنا عيسو بكرك. فعلت كما أمرتني. قم اجلس، وكل من صيدي، وامنحني بركتك). فقال له إسحق: (ما أسرع ما وجدت صيدا يا ابني!) قال: (الرب إلهك وفقني). فقال: (تعال لأجسك يا ابني، فأعرف هل أنت ابني عيسو أم لا). فتقدم يعقوب إلى إسحق أبيه، فجسه وقال: (الصوت صوت يعقوب، ولكن اليدين يدا عيسو). ولم يعرفه، لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه. فقبل أن يباركه. قال: (هل أنت حقا ابني عيسو؟) قال: (أنا هو). فقال: (قدم لي من صيدك، يا ابني، حتى آكل وأباركك). فقدم له فأكل، وجاء بخمر فشرب. وقال له إسحق: (تقدم وقبلني يا ابني). فتقدم وقبله، فشم رائحة ثيابه وباركه وقال: (ها رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب يعطيك الله من ندى السماء ومن خصوبة الأرض فيضا من الحنطة والخمر! وتخدمك الشعوب وتسجد لك الأمم! سيدا تكون لإخوتك، وبنو أمك يسجدون لك. ملعون من يلعنك، ومبارك من يباركك!)
فما إن فرغ إسحق من بركته، وخرج يعقوب من عنده حتى رجع عيسو أخوه من الصيد فهيأ هو أيضا أطعمة وجاء بها إلى أبيه وقال له: (قم يا أبي، وكل من صيدي، وباركني). فقال له أبوه: (من أنت؟) قال: (أنا ابنك البكر عيسو). فارتعش إسحق ارتعاشا شديدا وقال: (فمن هو الذي صاد صيدا وجاءني به، فأكلت منه كله قبل أن تجيء وباركته؟ نعم، باركته ومباركا يكون). فلما سمع عيسو كلام أبيه صرخ عاليا بمرارة وقال له: (باركني أنا أيضا يا أبي). فأجابه: (جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك). فقال عيسو: (ألأن اسمه يعقوب تعقبني مرتين؟ أخذ بكوريتي، وها هو الآن يأخذ بركتي). وقال: (أما أبقيت لي بركة؟)
فأجابه إسحق: (هاأنا جعلته سيدا لك، وأعطيته جميع إخوته عبيدا، وزودته بالحنطة والخمر، فماذا أعمل لك يا ابني؟) فقال عيسو: (أما لك غير بركة واحدة يا أبي؟ باركني أنا أيضا يا أبي). ورفع عيسو صوته وبكى. فأجابه أبوه:(بعيدا عن خصوبة الأرض يكون مسكنك، وعن ندى السماء من فوق. بسيفك تعيش وأخاك تخدم فإذا قويت تكسر عن عنقك نيره)
وحقد عيسو على يعقوب بسبب البركة التي باركه بها أبوه. وقال عيسو في نفسه: (إقتربت أيام الحداد على أبي. فأقتل يعقوب أخي). وجاء من أخبر رفقة بكلام عيسو، فاستدعت يعقوب وقالت له: (أخوك ينوي أن يقتلك. والآن اسمع لكلامي يا ابني، فقم اهرب إلى لابان أخي في حاران، وأقم عنده أياما قليلة حتى يهدأ غضب أخيك فإذا هدأ غضب أخيك ونسي ما فعلت به أرسل وآخذك من هناك. لماذا أفقدكما في يوم واحد؟)
قال الحكيم: يكفيني ما قرأته.. هل ترى هذا سلوك نبي أبي أنبياء!؟.. نحن المسلمين لا نقول هذا .. بل ننزه الأنبياء عن كل خطيئة صغيرة كانت أو كبيرة..
لقد ذكر بعض علماء المسلمين.. وهو ابن حزم.. في نقد لاذع وتحليل رائع، ما في هذا النص من أكاذيب وخرافات ومتناقضات فقال: وفي هذا الفصل فضائح وأكذوبات وأشياء تشبه الخرافات، فأول ذلك اطلاقهم على نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ أنه خدع أباه وغشه وهذا مبعد عمن فيه خير من أبناء الناس مع الكفار والأعداء، فكيف من نبي مع أبيه وهو نبي أيضا؟! هذه سوءات مضاعفات.
ثانيا: اخبارهم أن بركة يعقوب إنما كانت مسروقه بغش وخديعة وتخابث، وحاشا للأنبياء عليهم السلام من هذا. ولعمري انها لطريقة اليهود، فما تلقى منهم إلا الخبيث الخادع والشاذ.
ثالثا: اخبارهم أن الله أجرى حكمه وأعطى نعمته على طريق الغش والخديعة، وحاش لله من هذا.
رابعا: أنه لا يشك أحد في أن إسحق ـ عليه السلام ـ لما بارك يعقوب حينما خدعه، كما زعم النذل الذي كتب لهم هذا الهوس، إنما قصد بتلك البركة عيسو، وأنه دعا لعيسو لا ليعقوب. فأي منفعة للخديعة ها هنا؟ لو كان لهم عقل.
وأما وجوه الكذب فكثيرة جدا. من ذلك نسبتهم الكذب إلى يعقوب ـ عليه السلام ـ وهو نبي الله ورسوله، في أربع مواضع:
أولها وثانيها قوله لأبيه اسحاق أنا ابنك عيسو وبكرك، فهاتان كذبتان في نسق، لأنه لم يكن ابنه عيسو، ولا كان بكره، وثالثها ورابعها قوله لأبيه: صنعت جميع ما قلت لي فاجلس وكل من صيدي.فهاتان كذبتان في نسق، لأنه لم يكن له شيئا ولا أطعمه من صيده، وكذبات أخرى هي: بطلان بركة اسحق إذ قال ليعقوب تخدمك الأمة وتخضع لك الشعوب وتكون مولى اخوتك، ويسجد لك بنو أمك، وبطلان قوله لعيسو تستعبد لأخيك. فهذه كذبات متواليات. فوالله ما خدعت الأمم يعقوب ولا بنيه بعده، ولا خضغت لهم الشعوب، ولا كانوا موالى اخوتهم، ولا سجد لهم ولا له بنو أمه. بل إن بني اسرائيل هم الذين خدموا الأمم في كل بلدة وخضعوا للشعوب قديما وحديثا في أيام دولتهم وبعدها.
وأما قوله (تكون مولى اخوتك ويسجد لك بنو أمك)، فلعمري لقد صح ضد ذلك جهارا، إذ في توراتهم أن يعقوب كان راعيا لأنعام ابن عمه لابان بن ناحور بن لامك وخادمه عشرين سنة، وأنه بعد ذلك سجد هو وجميع ولده حاشا من لم يكن خلق منهم بعد لأخيه عيسو مرارا كثيرة.
وما سجد عيسو قط ليعقوب، ولا ملك قط أحد من بني يعقوب بني عيسو. وقد تعبد يعقوب لعيسو في جميع خطابه له، وما تعبد قط عيسو ليعقوب. وقد سأل عيسو يعقوب عن أولاده فقال له يعقوب: هم أصاغر من الله بهم على عبدك. وقد طلب يعقوب رضاء عيسو وقال له: اني نظرت الى وجهك كمن نظر إلى بهجة الله، فارض عني، واقبل ما اهديت اليك. فما نرى عيسو وبنيه إلا موالى يعقوب وبنيه.
فما نرى تلك البركة إلا انها معكوسة منكوسة! ونعوذ بالله من الخذلان.
قال ذلك، ثم ابتسم، وقال: لقد ذكرني هذا النص قصة حكاها رحمة الله الهندي، فذكر أن فاجرا من فرقة بانو طلب حشيشا من الحمار لأجل حصانه، وما أعطاه الحمار، فقال: إن لم تعطني أدع على حمارك، فيموت الليلة، وراح، فمات حصانه في تلك الليلة، فلما استيقظ ووجد حصانه ميتا، حرك رأسه متعجبا، فقال: يا عجبا يا عجبا أنه مضى مليونات من السنين على ألوهية إلهنا، ولا يميز الحصان من الحمار إلى هذا الحين، دعوت على الحمار وأهلك حصاني.
ثم علق على هذا بقوله: ولو كان حال ديانة أبي الأنبياء الإسرائيلية هكذا أو حال علم الله هكذا، فللمنكر أن يقول: يجوز أن يكون مبنى معاملات الأنبياء الإسرائيلية مع الله أيضا على الخداع كأبيهم الأعلى، ويجوز أن يكون عيسى ـ عليه السلام ـ وعد الله أن تعطيني قدرة الكرامات، أدع الخلق إلى توحيدك وربوبيتك، لكن الله ما ميز الصدق عن الكذب، فأعطاه القدرة فدعا إلى ربوبية نفسه وبغى على الله.. أعوذ بالله من هذه الأمور الواهية.
ليس هذا فقط ما ذكر عن يعقوب..
لقد ذكر الكتاب المقدس أن يعقوب اشترى النبوة من أخيه عيسو فى مقابل طبق عدس وقطعة لحم، ففي (تكوين 25/ 29-34):(وطبخ يعقوب طبيخا فأتى عيسو من الحقل وهو قد أعيا. فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت. (لذلك دعي اسمه أدوم). فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك. فقال عيسو: ها أنا ماض إلى الموت فلماذا لي بكورية؟ فقال يعقوب: احلف لي اليوم. فحلف له. فباع بكوريته ليعقوب. فأعطى يعقوب عيسو خبزا وطبيخ عدس فأكل وشرب وقام ومضى. فاحتقر عيسو البكورية)
التفت إلى أخي، وقال: أنبئني عن مقام لوط فيكم، وفي الكتاب المقدس؟
قال أخي: هو من الأنبياء البررة، وقد شهد له بطرس في رسالته الثانية (2: 7) بالبر والصلاح والاستقامة فهو يقول:(وإذ حكم الله على مدينتي سدوم وعمورة بالخراب، حولهما إلى رماد، جاعلا منهما عبرة للذين يعيشون حياة فاجرة. ولكنه أنقذ لوطا البار، الذي كان متضايقا جدا من سلوك أشرار زمانه في الدعارة. فإذ كان ساكنا بينهم، وهو رجل بار، كانت نفسه الزكية تتألم يوميا من جرائمهم التي كان يراها أو يسمع بها. وهكذا نرى أن الرب يعرف كيف ينقذ الأتقياء من المحنة)
قال الحكيم: فاقرأ ما ورد عنه في الكتاب المقدس من سفر التكوين: 19 / 30 – 38)
قرأ أخي: (وخاف لوط أن يسكن في صوغر، فصعد إلى الجبل وأقام بالمغارة هو وابنتاه. فقالت الكبرى للصغرى: ((شاخ أبونا وما في الأرض رجل يتزوجنا على عادة أهل الأرض كلهم. تعالي نسقي أبانا خمرا ونضاجعه ونقيم من أبينا نسلا)). فسقتا أباهما خمرا تلك الليلة، وجاءت الكبرى وضاجعت أباها وهو لا يعلم بنيامها ولا قيامها. وفي الغد قالت الكبرى للصغرى: ((ضاجعت البارحة أبي، فلنسقه خمرا الليلة أيضا، وضاجعيه أنت لنقيم من أبينا نسلا)). فسقتا أباهما خمرا تلك الليلة أيضا، وقامت الصغرى وضاجعته وهو لا يعلم بنيامها ولا قيامها. فحملت ابنتا لوط من أبيهما. فولدت الكبرى ابنا وسمته موأب، وهو أبو المؤابيين إلى اليوم. والصغرى أيضا ولدت ابنا وسمته بن عمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم)
قال الحكيم: أهذا هو الطهر والبراءة والتقى!؟.. لقد قال صاحب (طريق الأولياء)([16]) يتأسف عليه:(حاله حري أن يبكى عليه، ونحن بعد التأسف والخوف والخشية على أنفسنا نتعجب منه، أهو الذي بقي نقي الثوب عن جميع شرور سادوم، وكان قويا في السلوك على صراط الله، وبعيدا عن جميع نجاسات تلك البلدة وغلب عليه الفسق بعد ما خرج إلى البر، فأي شخص يكون مأمونا في بلد أو بر أو كهف)
فإذا كان القسيسيون قد بكوا عليه، فليكفنا بكاؤهم([17]).. ولنبحث في سجل خطايا نبي آخر.. أخبرني عن موسى.. ما مقامه فيكم؟
قال أخي: هو فينا النبي منقطع النظير (تثنية 34: 10- 12) الذي على يده حرر الله شعبه، وعقد عهده معه (خروج 24: 8)، وأعلن له شريعته (خروج 34: 10، راجع 34: 27).. وموسى هو الوحيد ـ بالاشتراك مع يسوع ـ الذي يطلق عليهما العهد الجديد لقب الوسيط.
لكن بينما أعطى الله الشريعة بواسطة عبده الأمين موسى (عبرانيين 3: 5، غلاطية 3: 19) لشعبه إسرائيل وحده، فهو يخلص جميع البشر بوساطة ابنه (عبرانيين 3: 6) يسوع المسيح (1 تيموتاوس 2: 4- 6).. ولهذا، فإن الشريعة أتتنا عن يد موسى، وأما النعمة والحق فقد بلغا إلينا عن يد يسوع المسيح (يوحنا 1: 17)
قال الحكيم: لن أجادلك فيما ذكرته.. ولكني لن آخذ منه إلا شيئا واحدا أحتاجه الآن.. وهو أن موسى نبي من أنبياء الكتاب المقدس.. أليس كذلك؟
قال أخي: إن لم يكن موسى نبيا، فليس هناك نبي في الكتاب المقدس.
قال الحكيم: ما دمت قد ذكرت هذا.. فاقرأ لي ما ورد في (الخروج:2/11 -12)
قرأ أخي:(وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم. فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من إخوته فالتفت الى هنا وهناك ورأى ان ليس احد فقتل المصري وطمره في الرمل)
قال الحكيم: ألا ترى كيف يصور الكتاب المقدس نبي الله موسى متعمدا للقتل.. بل تعتبره عنصريا، فهو لم يقتله إلا لأنه مصري.
التفت إلى أخي، ثم قال: اقرأ علي ما ورد في (سفر الخروج:4/10- 17)
قرأ أخي: (فقال موسى للرب: (يا رب! ما كنت يوما رجلا فصيحا. لا بالأمس ولا من يوم كلمتني أنا عبدك بل أنا بطيء النطق وثقيل اللسان) فقال له الرب: (من الذي خلق للإنسان فما؟ ومن الذي خلق الأخرس أو الأصم أو البصير أو الأعمى؟ أما هو أنا الرب؟ فاذهب وأنا أعينك على الكلام وأعلمك ما تقول) فقال موسى: (يا رب! أرسل أحدا غيري) فغضب الرب على موسى غضبا شديدا وقال له: (أعرف هرون اللاوي أخاك أنه فصيح اللسان وها هو الآن خارج للقائك وحين يراك يفرح في قلبه. فكلمه أنت بما تريد أن ينطق به، وأنا أعينكما على ما تقولانه وأعلمكما وأريكما ما تعملانه. هو يخاطب الشعب عنك وينطق باسمك، وأنت تكون له كأنك الله يوحي إليه. وخذ بيدك هذه العصا، فبها تصنع المعجزات)
قال الحكيم: ألا ترى كيف نص الكتاب المقدس على أن الله غضب على موسى غضبا شديدا؟
سكت أخي، فقال له الحكيم: اقرأ علي ما ورد في (سفر الخروج:32/19)
قرأ أخي:(فلما دنا من المحلة وأبصر العجل وجوق المغنيين فاشتد غضب موسى ورمى باللوحين من يده فكسرهما في أسفل الجبل)
قال الحكيم: أليس هذان اللوحان كانا من عمل الله وخط الله؟
قال أخي: بلى.. وقد صرح بذلك في هذا الباب.
قال الحكيم: فكسرهما خطأ، ولم يحصل بعد ذلك مثلهما، لأن اللوحين اللذين حصلا بعدهما كانا من عمل موسى ومن خطه.
قال أخي: أجل.. وقد صرح بذلك في الباب الرابع والثلاثين من سفر الخروج.
قال الحكيم: ليس هذا فقط ما رمى به الكتاب المقدس هذا النبي الكريم.. اقرأ علي ما ورد في (سفر العدد:20/12)
قرأ أخي: (وقال الرب لموسى وهارون من أجل إنكما لم تصدقاني وتقدساني قدام بني إسرائيل، من أجل ذلك لا تدخلان أنتما بهذه الجماعة إلى الأرض التي وهبت لهم)
قال الحكيم: ليس هذا فقط.. اقرأ ما ورد في (سفر الاستثناء: 32/ 48-52)
قرأ اخي: (وكلم الرب موسى في ذلك اليوم وقال له ارق هذا الجبل عبريم وهو جبل المجازاة إلى جبل نابو الذي في أرض مواب تلقاء أريحاء، ثم انظر إلى أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ليرثوها ثم مت في الجبل الذي تصعد إليه ويجتمع إلى شعوبك، كما مات أخوك هارون في هور الطور واجتمع إلى شعبه على أنكما عصيتماني في بني إسرائيل عند ماء الخصام في قادس برية صين ولم تطهراني في بني إسرائيل فإنك ستنظر إلى الأرض التي أنا أعطيها بني إسرائيل من تلقائها، وأما أنت فلا تدخلها)
قال الحكيم: ألا ترى في هاتين العبارتين تصريحا بصدور الخطأ عن موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ بحيث صارا محرومين عن الدخول في الأرض المقدسة، بل قد قال الله لهما زاجرا: (إنكما لم تصدقاني وتقدساني وإنكما عصيتماني)!؟
سكت أخي، فقال الحكيم: فلنترك موسى.. ولنذهب إلى أخيه هارون.. شريكه في النبوة.. أخبرني ما مقامه فيكم؟
قال أخي: هو عندنا ـ كان ولا يزال ـ مثال الكاهن الأعظم كما في (سيراخ 45: 6 – 22) ومثال الشفيع القدير الذي صرف عن الشعب الغضب الإلهي (حكمة 18: 20- 25).. وقد كان الأسينيون في عصر يسوع ينتظرون لا المسيا الملك ابن داود فقط، بل المسيا الكاهن الأسمى ابن هارون.
قال الحكيم: وأنتم تنصون على نبوته.. فقد كتب القسيس (اسمت) في القسم الأول من كتابه المسمى بتحقيق الدين الحق المطبوع سنة 1842 في الصفحة 42: (كما أنه لم يكن بينهم ـ أي بين بني إسرائيل ـ سلطان لم يكن بينهم نبي غير موسى وهارون وسبعين من المعينين)، ثم قال: (لم يكن غير موسى وهارون ومعينيهما نبيا لهم)([18])، فدل هذا على أن هارون نبي عند المسيحيين.
ثم التفت إلى أخي، فوجده، وكأن هذا النقل لم يعجبه، فقال: لا بأس.. فلنترك هذا القسيس.. ولنرجع إلى الكتاب المقدس.. فهو الذي ينص بصراحة لا فوقها صراحة على نبوته.. ولا يضره أن يكون متبعا لشريعة موسى، فهذا لا يتنافى مع النبوة كما لا ينافي هذا نبوة يوشع وداود وأشعيا وأرمياء وحزقيال وغيرهم من الأنبياء الإسرائيليين، الذين كانوا ما بين زمان موسى.
لقد جاء في (سفر الخروج: 4/27):(فقال الرب لهارون اذهب وتلق موسى إلى البرية فمضى وتلقى به إلى جبل الله وقبله).. وفي (سفر العدد:18/1):(وقال الرب لهارون).. وفي (سفر العدد:18/8):(ثم كلم الرب هارون وقال له).. وفي (سفر العدد:18/20):(ثم قال الرب لهارون).. وفي هذا الباب من الأول إلى الآخر هو المخاطب حقيقة.
وفي الباب الثاني والرابع والرابع عشر والسادس عشر والتاسع عشر توجد هذه العبارة: (وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما) في ستة مواضع.
وفي الآية الثالثة عشر من الباب السادس من سفر الخروج هكذا: (فكلم الرب موسى وهارون وأوصاهما وأرسلهما إلى بني إسرائيل وإلى فرعون ملك مصر ليخرجا بني إسرائيل من مصر)
أنت ترى من هذه العبارات أن الله أوحى إلى هارون منفردا وبشركة موسى، وأرسله إلى بني إسرائيل وفرعون كما أرسل موسى.. بل من طالع سفر الخروج يظهر له أن المعجزات التي صدرت في مقابلة فرعون، ظهر أكثرها على يد هارون.
قال أخي: لا حاجة لك لذكر كل هذه الأدلة.. فأنا لا أنكر نبوة هارون([19]).
قال الحكيم: ما دمت قد قلت ذلك، فاقرأ علي ما ورد في (سفر الخروج: 32 / 1-6)
قرأ أخي: (ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمعوا على هرون وقالوا له: (قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. فهذا الرجل موسى الذي أخرجنا من أرض مصر لا نعرف ماذا أصابه) فقال لهم هرون: (انزعوا حلق الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وجيئوني بها) فنزع جميع الشعب حلق الذهب التي في آذان نسائهم وجاؤوا بها إلى هرون. فأخذها من أيديهم وأذابها وسكبها في صنم على صورة عجل. فقال الشعب: (هذه آلهتكم يا بني إسرائيل، آلهتكم التي أخرجتكم من أرض مصر) فلما رأى هرون ذلك بنى أمام الصنم مذبحا ونادى وقال: (غدا عيد للرب) فبكروا في الصباح وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة وجلسوا يأكلون ويشربون، ثم قاموا يمرحون)
قال الحكيم: ألا ترى في هذا النص ما يدلك على الخطيئة العظيمة التي وقع فيها هارون.. بل هي أعظم الخطايا على الإطلاق..
ألا ترى أن هارون صنع عجلا، وبنى مذبحا أمامه، ونادى وقال: غدا عيد للرب. فعبد العجل وأمر بني إسرائيل بعبادته فقربوا وقودا وذبائح؟
التفت إلى أخي، فلم يجبه بشيء، فقال: دعنا من هارون.. ولنبحث في سيرة نبي آخر.. اذكر لي.. ما مقام داود فيكم؟
قال أخي: لقد دعي داود من قبل الله، وكرس بدهن المسحة (1 صموئيل 16: 16/ 1- 13) فهو دائما مبارك من الله، وهو الشخص الذي يقصده الله بحضوره، ولأن الله كان معه فقد نجح في كل مساعيه (16: 18)، في محاربته لجليات (17: 45- 47)، وفي حروبه التي قام بها في خدمته لشاول (18: 14- 16)، وفي الحروب التي قام بها كملك ومحرر لإسرائيل.. (ووقى الرب داود حيثما توجه) (2 صموئيل 8: 14)
قال الحكيم: فاقرأ علي ما قصه الكتاب المقدس عنه في سفر صموئيل الثاني (11: 1-27)
قرأ أخي: (ولما جاء الربيع، وهو وقت خروج الملوك إلى الحرب، أرسل داود يوآب والقادة معه على رأس كل جيش بني إسرائيل، فسحقوا بني عمون وحاصروا مدينة ربة. وأما داود فبقي في أورشليم. وعند المساء قام داود عن سريره وتمشى على سطح القصر، فرأى على السطح امرأة تستحم وكانت جميلة جدا. فسأل عنها، فقيل له: (هذه بتشابع بنت أليعام، زوجة أوريا الحثي). فأرسل إليها رسلا عادوا بها وكانت اغتسلت وتطهرت، فدخل عليها ونام معها، ثم رجعت إلى بيتها. وحين أحست أنها حبلى أعلمته بذلك. فأرسل داود إلى يوآب يقول: (أرسل إلي أوريا الحثي) فأرسله. فلما جاء سأله داود عن سلامة يوآب والجيش وعن الحرب، ثم قال له: (إنزل إلى بيتك واغسل رجليك واسترح). فخرج أوريا من القصر وتبعته هدية من عند داود. فنام على باب القصر مع الحرس ولم ينزل إلى بيته. فلما قيل لداود: (أوريا لم ينزل إلى بيته)، دعاه وقال له: (أما جئت من السفر؟ فما بالك لا تنزل إلى بيتك؟) فأجابه أوريا: (تابوت العهد ورجال إسرائيل ويهوذا مقيمون في الخيام، ويوآب وقادة سيدي الملك في البرية، فكيف أدخل بيتي وآكل وأشرب وأنام مع زوجتي؟ لا وحياتك، لا أفعل هذا). فقال له داود: (أقم هنا اليوم، وغدا أصرفك). فبقي أوريا ذلك اليوم في أورشليم، وفي اليوم التالي دعاه داود، فأكل معه وشرب حتى سكر. ثم خرج مساء، فنام حيث ينام الحرس، ولم ينزل إلى بيته. فلما طلع الصباح كتب داود إلى يوآب مكتوبا وأرسله بيد أوريا، يقول فيه: (وجهوا أوريا إلى حيث يكون القتال شديدا، وارجعوا من ورائه فيضربه العدو ويموت). وكان يوآب يحاصر المدينة، فعين لأوريا موضعا علم أن للعدو فيه رجالا أشداء. فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب، فسقط لداود بعض القادة ومن بينهم أوريا الحثي. فأرسل يوآب وأخبر داود بكل ما جرى في الحرب. وقال يوآب للرسول: (بعدما تخبر الملك بكل ما جرى في الحرب، وإذا ثار غضبه وقال: لماذا دنوتم من سور المدينة لتحاربوا؟ أما تعلمون أن الذين فوق السور يرمونكم بالسهام؟ من قتل أبيمالك بن يروبشث؟ أما هي امرأة في تاباص رمته بحجر طاحونة من فوق السور فقتل؟ فلماذا دنوتم من السور؟) إذا قال لك هذا الكلام أجبه: (عبدك أوريا الحثي أيضا مات). فذهب الرسول إلى داود وأخبره بجميع ما أمره به يوآب، وقال لداود: (قوي علينا الأعداء وخرجوا لقتالنا في البرية، فطاردناهم إلى باب المدينة، فرمانا العدو بالسهام من فوق السور، فمات البعض من قادة الملك، وقتل أيضا عبدك أوريا الحثي). فقال له داود: (هذا ما تقول ليوآب: (لا يحزنك ذلك، لأن السيف لا يرحم أحدا. تابع هجومك على المدينة ودمرها. قل له ذلك حتى يتشجع). وسمعت زوجة أوريا أن زوجها مات، فناحت عليه. ولما انتهت أيام مناحتها، أرسل داود وضمها إلى بيته، فكانت زوجة له وولدت له ابنا. واستاء الرب مما فعله داود)
قال الحكيم: أهذا هو داود النبي الذي وصفته بما وصفته؟
قال أخي: هذا ما قاله الكتاب المقدس عنه.
قال الحكيم: ألا ترى داود كيف صار في الكتاب المقدس رمزا للرذيلة.. إن هذا الحدث الذي ورد في صمويل كان في الوقت الذي كان جيشه يحارب فيه؟
وفي الوقت الذي كان أوريا يضحي بنفسه كان عرضه ينتهك.. ثم يرمى أوريا في سلة مهملات الكتاب المقدس، بينما يمجد داود، ويتشرف بأن يكون أبا للمسيح.. أليس في هذا تمجيدا للرذيلة؟
سكت أخي، فقال: فلنتحدث عن ابنه وثمرة فؤاده سليمان.. أجبني: ما مقام سليمان فيكم؟
قال أخي: إن سليمان يرمز عندنا للحكمة.. فإذا ذكرت الحكمة ذكرنا معها سليمان.. وإذا ذكرنا سليمان ذكرنا معه الحكمة.. وقد قال عنه الكتاب المقدس في (سفر ملوك الأول: 30:4):(وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بنى المشرق)
قال الحكيم: هذا ما قاله سفر الملوك الأول في إصحاحه الرابع.. فاقرأ علي ما ذكره نفس السفر في الباب الحادي عشر.
أخذ أخي يقرأ:(وكان سليمان الملك قد أحب نساء كثيرة غريبة، وابنة فرعون، ونساء من بنات الموابيين، ومن بنات عمون، ومن بنات أدوم، ومن بنات الصيدانيين، ومن بنات الحيثانيين من الشعوب الذين قال الرب لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم، ولا يدخلوا إليكم لئلا يميلوا قلوبكم إلى آلهتكم، وهؤلاء التصق بهم سليمان بحب شديد وصار له سبعمائة امرأة حرة، وثلثمائة سرية، وأغوت نساءه قلبه فلما كان عند كبر سليمان أغوت نساءه إلى آلهة أخر، ولم يكن قلبه سليما لله ربه مثل قلب داود أبيه وتبع سليمان عستروت إله الصيدانيين وملكوم صنم بني عمون وارتكب سليمان القبح أمام الرب ولم يتم أن يتبع الرب مثل داود أبيه ثم نصب سليمان نصبة لكاموش صنم مواب في الجبل الذي قدام أورشليم، ولملكوم وثن بني عمون وكذلك صنع لجميع نسائه الغرباء، وهن يبخرن، ويذبحن لآلهتهن فغضب الرب على سليمان حيث مال قلبه عن الرب إله إسرائيل الذي ظهر له مرتين ونهاه عن هذا الكلام أن لا يتبع آلهة الغرباء، ولم يحفظ ما أمره به الرب فقال الرب لسليمان: إنك فعلت هذا الفعل، ولم تحفظ عهدي ووصاياي التي أمرتك بهن، أشق شقا ملكك، وأصيره إلى عبدك(الملوك الأول:11/ 1 ـ 11)
أشار الحكيم إلى أخي أن يسكت، ثم قال: ألا ترى هذه الخطايا الكثيرة التي لا يفعل مثلها أضعف المؤمنين إيمانا..
إن هذا السفر يذكر أن سليمان ارتد آخر عمره.. وهو الوقت الذي تتوجه فيه القلوب إلى الله.. مع أن جزاء المرتد في الشريعة الموسوية هو الرجم حتى لو كان المرتد نبيا ذا معجزات كما صرح بذلك الباب الثالث عشر، والسابع عشر من سفر الاستثناء، بل لا يعلم من موضع من مواضع التوراة، أنه يقبل توبة المرتد، ولو كان توبة المرتد مقبولة، لما أمر موسى بقتل عبدة العجل، حتى قتل ثلاثة وعشرين ألف رجل على خطأ عبادته.
ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدون أنه بنى المعابد العالية للأصنام في الجبل قدام أورشليم، وهذه المعابد كانت باقية مئتي سنة حتى نجسها، وكسر الأصنام يوسنا بن آمون ملك يهوذا في عهده، بعد موت سليمان بأزيد من ثلثمائة وثلاثين سنة.. لا يمكنك أن تخالفني في ذلك، فقد جاء ذلك صريحا في الباب الثالث والعشرين من سفر الملوك الثاني.
ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدو أنه تزوج نساء من سفر الشعوب، التي منع الله من الزواج منهن، كما في الباب السابع من الاستثناء:(ولا تجعل معهم زيجة فلا تعط ابنتك لابنه، ولا تتخذ ابنته لابنك)
ليس ذلك فقط.. بل انتم تعتقدون أنه تزوج ألف امرأة، وقد كانت كثرة الأزواج محرمة على من يكون سلطان بني إسرائيل في الآية السابعة عشر من الباب السابع عشر من سفر الاستثناء:(ولا تكثر نساؤه لئلا يخدعن نفسه)
ليس ذلك فقط.. بل أنتم تعتقدون أن نساءه كن يبخرن ويذبحن للأوثان، مع أنه ورد في الباب الثاني والعشرين من سفر الخروج:(من يذبح للأوثان فليقتل)، فكان قتلهن واجبا.
بل أنتم تعتقدون أن هؤلاء النسوة أغوين قلبه، فكان رجمهن واجبا على ما هو مصرح به في الباب الثالث عشر من سفر الاستثناء، وهو ما أجرى عليهم الحدود إلى آخر حياته.
التفت إلى أخي، ثم قال: هل تراني زدت على ما ذكرت الكتاب المقدس عن هذا النبي الكريم حرفا واحدا.
لم يملك أخي إلا أن يقول: صدقت في كل هذا.. ولكن الله تواب رحيم.
فقال الحكيم: كل هذه كبائر لابد لها من توبة.. فهل ثبتت توبة سليمان في كتبكم.
صمت أخي، فقال: لقد قرأت الكتاب المقدس مرات لا تحصى.. ولم أظفر بشيء.. بل لو تاب لهدم المعابد التي بناها، وكسر الأصنام التي وضعها في تلك المعابد، ورجم تلك النساء المغويات.. على أن توبته ما كانت نافعة لأن حكم المرتد في التوراة ليس إلا الرجم.
صمت أخي، فقال: فما دمت قد جوزت لهذا الحكيم أن يخطئ، ثم يتوب، لم ترفعت عن أن تضم محمدا إلى أولئك الأنبياء مع أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ثبتت توبته، ولم تثبت معصيته.. بينما سليمان وكل من ذكرنا ثبتت معاصيهم ولم تثبت توبتهم.
أفتعتبر التوبة جريمة ينبغي أن يطرد من يمارسها من حضرة أنبياء الله.. بينما تعتبر المعصية طاعة تجعل من المجرم الفاسق المنحرف حكيما من الحكماء ونبيا من الأنبياء.
لم يجد أخي بما يجيبه، فقال الحكيم: فلنترك العهد القديم.. فربما كان فيه أثر من آثار اليهود.. ولنذهب إلى العهد الجديد.. ولنبحث في سيرة الحواريين.. حدثني ما مقامهم فيكم؟
قال أخي: الحواريون هم تلاميذ المسيح..
قال الحكيم: لا أقصد هذا.. بل أقصد علاقتهم بالنبوة.
قال أخي: نحن نؤمن بنبوتهم.. بل نرى أنهم لتشرفهم بصحبة المسيح أفضل من موسى وسائر الأنبياء الذين ورد ذكرهم في العهد القديم.
قال الحكيم: فلنبحث في سيرهم.. لقد ذكر الكتاب المقدس أنهم في الليلة التي أخذ اليهود فيها المسيح تركوه في أيدي الأعداء، أليس هذا ذنبا عظيما؟
قال أخي: بلى.. ولكنه صدر عن الجبن الذي طبعت عليه النفوس..
قال الحكيم: فلنسلم هذا.. ولكن هل ترى أنهم يعذرون في شيء هو أسهل الأشياء.. لقد كان المسيح في غاية الاضطراب في تلك الليلة، وقال لهم: إن نفسي حزينة جدا، امكثوا ههنا واسهروا معي، ثم تقدم قليلا للصلاة، ثم جاء إليهم فوجدهم نياما، فقال لبطرس: أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة، اسهروا وصلوا.
فمضى ثانية للصلاة، ثم جاء فوجدهم نياما، فتركهم ومضى، ثم جاء إلى تلاميذه، وقال لهم: ناموا واستريحوا.
قال أخي: ذلك صحيح.. وقد صرح به متى في إنجيله (متى: 26/36-46).. ففيه:(ثم جاء يسوع مع تلاميذه إلى موضع اسمه جتسماني، فقال لهم: (اقعدوا هنا، حتى أذهب وأصلي هناك) وأخذ معه بطرس وابني زبدي، وبدأ يشعر بالحزن والكآبة. فقال لهم: (نفسي حزينة حتى الموت. انتظروا هنا واسهروا معي) وابتعد عنهم قليلا وارتمى على وجهه وصلى فقال: (إن أمكن يا أبـي، فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن لا كما أنا أريد، بل كما أنت تريد) ورجع إلى التلاميذ فوجدهم نـياما، فقال لبطرس: (أهكذا لا تقدرون أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لـئلا تقعوا في التجربة. الروح راغبة، ولكن الجسد ضعيف) وابتعد ثانية وصلى، فقال: (يا أبـي، إذا كان لا يمكن أن تعبر عني هذه الكأس، إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك) ثم رجع فوجدهم نـياما، لأن النعاس أثقل جفونهم فتركهم وعاد إلى الصلاة مرة ثالثة، فردد الكلام نفسه. ثم رجع إلى التلاميذ وقال لهم: (أنـيام بعد ومستريحون؟ جاءت الساعة التي فيها يسلم ابن الإنسان إلى أيدي الخاطئين. قوموا ننصرف! اقترب الذي يسلمني)
قال الحكيم: هل ترى هذا الموقف موقف أنبياء.. بل أشرف الأنبياء.. إن العصاة من أهل الدنيا لا يفعلون مثل هذا مع من هو مثلهم في معاصيهم.. فكيف يفعل أنبياء كرام مثل هذا.. وأي محبة لهم للمسيح الذي شرفوا به، وهم ينامون عنه وقد علموا أنه سيفقدونه في تلك اللحظات.
سكت قليلا: هؤلاء هم الحواريون في مجموعهم.. أما أفرادا.. فسأكتفي باثنين منهما.. كلاهما ورد فيه الثناء في الكتاب المقدس.
أما الأول.. فهو يهوذا الأسخريوطي، فقد كان أحد الحواريين، وكان مستفيضا بروح القدس، وممتلئا به، بل صاحب الكرامات.. فقد ورد في (إنجيل متى: 10/1-4):(ودعا يسوع تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطانا يطردون به الأرواح النجسة ويشفون الناس من كل داء ومرض وهذه أسماء الرسل الاثني عشر: أولهم سمعان الملقب ببطرس وأخوه أندراوس، ويعقوب بن زبدي وأخوه يوحنا، وفيلبس وبرتولماوس، وتوما ومتى جابـي الضرائب، ويعقوب بن حلفى وتداوس، وسمعان الوطني الغيور، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلم يسوع)
قال أخي: أجل.. ومن لا يعرف يهوذا؟
قال الحكيم: فهذا النبي باع دينه بدنياه، وسلم المسيح لليهود مقابل ثلاثين درهما، ثم خنق نفسه ومات.. أليس كذلك؟
قال أخي: بلى.. ففي إنجيل متى (26/14-16):(وفي ذلك الوقت ذهب أحد التلاميذ الاثني عشر، وهو يهوذا الملقب بالإسخريوطـي، إلى رؤساء الكهنة وقال لهم: (ماذا تعطوني لأسلم إليكم يسوع؟) فوعدوه بثلاثين من الفضة. وأخذ يهوذا من تلك الساعة يترقب الفرصة ليسلم يسوع)
وفيه (27/1-5) (ولما طلع الصبح، تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع ليقتلوه. ثم قيدوه وأخذوه وأسلموه إلى الحاكم بـيلاطس. فلما رأى يهوذا الذي أسلم يسوع أنهم حكموا عليه، ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، وقال لهم: (خطئت حين أسلمت دما بريئا) فقالوا له: (ما علينا؟ دبر أنت أمرك) فرمى يهوذا الفضة في الهيكل وانصرف، ثم ذهب وشنق نفسه)
قال الحكيم: أيمكن لنبي أن يفعل كل هذه الجرائم؟
سكت أخي، فقال الحكيم: ليس ذلك فقط.. بل شهد يوحنا في حقه في الباب الثاني عشر من إنجيله أنه كان سارقا، وكان الكيس عنده، وكان يحمل ما يلقى فيه. أيكون مثل هذا السارق البائع دينه بدنياه نبيا.. ثم لا ترضون أن يكون محمد الطاهر المطهر نبيا!؟
فلندع هذا.. ولنبحث في سيرة بطرس.. أليس هو رئيس الحواريين.. بل خليفة المسيح على حسب ادعائكم!؟
قال أخي: أجل.. هو كذلك.. بل كال له المسيح من الثناء ما لم يكل لأحد غيره، ففي (متى: 16/17-19):(فقال له يسوع: (هنيئا لك، يا سمعان بن يونا! ما كشف لك هذه الحقيقة أحد من البشر، بل أبـي الذي في السماوات. وأنا أقول لك: أنت صخر، وعلى هذا الصخر سأبني كنيستي، وقوات الموت لن تقوى عليها. وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فما تربطه في الأرض يكون مربوطا في السماء، وما تحله في الأرض يكون محلولا في السماء)
قال الحكيم: ومع هذا الفضل الذي تحسبونه له.. فقد أنكر المسيح خائفا على نفسه..
قال أخي: أجل.. فعندما أخذ اليهود المسيح تبعه من بعيد إلى دار رئيس الكهنة، فجلس خارج الدار، فجاءت جارية قائلة: وأنت كنت مع يسوع الجليلي. فأنكر قدام الجميع، ثم رأى أخرى، وقالت للذين هناك: هذا كان مع يسوع الناصري. فأنكر أيضا يقسم أني لست أعرف هذا الرجل، وبعد قليل جاء القيام، وقالوا لبطرس: حقا أنت أيضا منهم، فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف: إني لا أعرف هذا الرجل. وللوقت صاح الديك، فتذكر بطرس كلام المسيح: إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات([20]).
قال الحكيم: ليس ذلك فقط.. بل في نفس الإنجيل نرى المسيح يقول له: (ابتعد عني يا شيطان! أنت عقبة في طريقي، لأن أفكارك هذه أفكار البشر لا أفكار الله)(متى: 16/23)
بل إن بولس قال عنه في الباب الثاني من رسالته إلى أهل غلاطية:(ولكن لما أتى بطرس إلى أنطاكية، قاومته مواجهة لأنه كان ملوما لأنه قبل ما أتى قوم من عند يعقوب كان يأكل مع الأمم، ولكن لما أتوا كان يؤخر ويفرز نفسه خائفا من الذين هم من أهل الختان ورأى معه باقي اليهود أيضا حتى أن برنابا أيضا انقاد إلى ريائهم لكن لما رأيت أنهم لا يسلكون باستقامة حسب حق الإنجيل، قلت لبطرس قدام الجميع إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميا، فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا) (غلاطية:2/11-14)
التفت الحكيم إلى أخي، وقال: أنتم تزعمون بأن المسيح إله أو أقنوم من إله.. ومن كان كذلك فهو أرفع بكثير من درجة النبوة.. بل لا مقارنة بينهما.. أليس كذلك؟
قال أخي: بلى.. ما تقوله صحيح.. فلا يمكن المقارنة بين ابن الله الحقيقي وكل البشر..
قال الحكيم: ولكنكم مع ذلك تشوهون صورة المسيح.. وتملؤونه سيرته المختصرة التي وصلتكم بأصناف الخطايا.
انتفض أخي([21])، وقال: كيف تقول هذا؟.. إن المسيح هو مثال الرحمة والسلام والمحبة.. أليس هو الذي يقول:(أريد رحمة لا ذبيحة)(متى: 9: 13)؟
قال الحكيم: أنتم تنقلون عنه هذه الكلمات القليلة لتحسنوا صورته، ولكنها أضعف من أن تقاوم الصورة التي شوهتموها بما نسبتم إليه من أقوال وأفعال.
أنتم تجلعون لسانه الممتلئ بذكر الله، الغارق في التبشير به، لسانا ممتلئا سبابا وشتائم ولعنات مع أنكم تعلمون بـ (أن الشتامون لا يرثون ملكوت الله) كما صرح بذلك بولس في رسالته الأولى الي كورنثوس(6: 10)
ألستم الذين نسبتم إلى المسيح شتمه لتلك المرأة الكنعانية الطيبة، بل جعلتموه يعتبرها من زمرة الكلاب؟.. ألستم الذين تررون في متى (15: 26) أنه عندما جاءت المرأة الكنعانية تسترحمه بأن يشفى ابنتها رد عليها قائلا:(لا يجوز أن يأخذ خبز البنين، ويرمى للكلاب)؟
وبعدما أراقت هذه المرأة المسكينة آخر نقطة من ماء وجهها، وأقامت الحجة بقولها للمسيح:(والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها)، حقق لها أملها، وشفيت ابنتها (متى 15: 27)
أنتم تروون هذا، وتتباهون به، بل وتجعلونه من دلائل ألوهيته.. مع أنه لو وقف مثل هذا الموقف أي إنسان، فإنكم تتهمونه بالعنصرية، وبقساوة القلب، وبسوء الأدب.
ليس ذلك فقط.. فموسوعة الشتائم التي نسبتموها للمسيح لا تقف هنا:
فالمسيح ـ على حسب كتابكم المقدس ـ يمتد إلى الأنبياء الكرام ليصفهم باللصوص.. ألستم تقرأون في يوحنا (10: 7) أن المسيح قال:(أنا باب الخراف، وجميع الذين جاءوا قبلي سارقون ولصوص)
أنتم تجعلون المسيح رمزا للسلام، وتروون عن المسيح وصيته للتلاميذ بمحبة الاعداء والإحسان إليهم.. أليس كذلك؟
قلت: بلى..
قال: ولكنكم عندما تصورون حياة المسيح تصورونها بصورة المناقض لأقواله، فهو لا يبغض أعداءه فقط، وإنما يبغض أقرب الأقربين إليه، ويسبه، ويلقي الشتائم عليه.
ألستم تروون أنه أهان أمه وسط الحضور، فقال لها:(مالي ولك يا إمرأة)(يوحنا:2: 4)؟
ألستم الذين تروون إهانته لمعلمي الشريعة بقوله لهم:(يا أولاد الأفاعي)(متى:3: 7)؟.. وبقوله لهم:(أيها الجهال العميان)(متى:23: 17)؟
ألستم الذين تروون إهانته لتلاميذه، وشتمه لهم، إذ قال لبطرس كبير الحواريين:(يا شيطان) (متى:16: 23)، وشتم آخرين منهم بقوله:(أيها الغبيان، والبطيئا القلوب في الإيمان) (لوقا 24: 25).. مع أنه هو نفسه الذي قال لهم:(قد أعطى لكم أن تفهموا أسرار ملكوت الله)(لوقا: 8: 10)؟
ألستم الذين جعلتموه يشتم أحد الذين استضافوه ليتغدى عنده، وجعلتموه يشتمه في بيته.. أليس في الكتاب المقدس:(سأله فريسي أن يتغذى عنده، فدخل يسوع واتكأ، وأما الفريسي فلما رأى ذلك تعجب أنه لم يغتسل أولا قبل الغداء، فقال له الرب:(أنتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس، وأما باطنكم فمملوء اختطافا وخبثا يا أغبياء، ويل لكم أيها الفريسيون)، فأجاب واحد من الناموسيين، وقال له: يا معلم، حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضا، فقال:(وويل لكم أنتم أيها الناموسيون) (إنجيل لوقا:11: 39)؟
ألستم الذين نسبتم إليه قوله لهيرودس:(قولوا لهذا الثعلب)(لوقا: 13: 32)؟
ألستم الذين جعلتموه يطلب من تلاميذه عدم إفشاء السلام في الطريق(لوقا: 10: 4)؟
ألستم الذين قولتموه:(لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير)(متى:7: 6)؟
ألستم الذين جعلتموه يكذب على إخوته.. لقد رويتم في إنجيل يوحنا(7: 3) أن إخوة المسيح طلبوا منه أن يصعد إلي عيد المظال عند اليهود، فرد عليهم قائلا:(اصعدوا انتم إلي العيد، فأنا لا أصعد إلي هذا العيد.. ولما صعد إخوته إلي العيد، صعد بعدهم في الخفية لا في العلانية)؟
أنتم تروون وصيته لكم بأعدائكم، ولكنكم في نفس الوقت تجعلونه يقول بكل قسوة:(أما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي)(لوقا: 19: 27)
نعم.. أنتم تتقنون الفرار.. فتهربون من قسوة هذا القول بشتى محاولات التأويل والتحريف، فتارة تذكرون أن هذا سيكون يوم القيامة مع أن النص واضح، فالمسيح يقول:(فأتوا بهم إلى هنا)، وليس فيه أي إشارة إلى يوم القيامة.. وتارة تقولون: إن هذا مثل، مع أنكم تعلمون أن المثل انتهى عند الفقرة السادسة والعشرين من نفس الإصحاح..
أنتم لم تكتفوا بكل ذلك.. بل جعلتموه يتجرد من أبسط مظاهر الرحمة ليلعن شجرة مسكينة لا ذنب لها سوى أنها لم تثمر.. ولم تثمر من عندها، بل لأنه لم يكن وقت الثمر.. ألستم تروون في (مرقس:11: 12):(وفي الغد، بعدما غادروا بيت عنيا، جاع. وإذ رأى من بعيد شجرة تين مورقة، توجه إليها لعله يجد فيها بعض الثمر. فلما وصل إليها لم يجد فيها إلا الورق، لأنه ليس أوان التين. فتكلم وقال لها: (لا يأكلن أحد ثمرا منك بعد إلى الأبد)؟
ولم تكتفوا بالشجر، بل رحتم تنسبون إلحاق الأذى بالحيوانات البريئة.. بل تجلعونه يتسبب بمقتل ألفي حيوان في وقت واحد.. ألستم تروون في (مرقس: 5: 11):(وكان هناك قطيع كبير من الخنازير يرعى عند الجبل، فتوسلت الأرواح النجسة إلى يسوع قائلة: أرسلنا إلى الخنازير لندخل فيها، فأذن لها بذلك، فخرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير، فاندفع قطيع الخنازير من على حافة الجبل إلى البحيرة، فغرق فيها، وكان عدده نحو ألفين)؟
ألا تسألون أنفسكم: ما ذنب الخنازير وصاحب الخنازير، حين أراد إخراج الشياطين من المجنون؟.. ألم يكن من الأجدى إخراج الشياطين دون الإضرار بالخنازير؟!
أنتم تجلعونه رمزا للسلام، لكنكم تشوهون السلام الذي يدعو إليه بما تنسبون إليه من سلوك.. ألستم تروون أنه صنع سوطا من الحبال، ودخل به الهيكل، وطرد جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه وبعثر دراهمهم وقلب موائدهم.. لا يمكنك أن تكذب ذلك.. فقد جاء في (يوحنا:2: 14):(وإذ اقترب عيد الفصح اليهودي، صعد يسوع إلى أورشليم، فوجد في الهيكل باعة البقر والغنم والحمام، والصيارفة جالسين إلى موائدهم، فجدل سوطا من حبال، وطردهم جميعا من الهيكل، مع الغنم والبقر، وبعثر نقود الصيارفة وقلب مناضدهم)
ألا يحمل هذا السلوك عنفا غير مبرر؟.. كان في إمكان يسوع المحبة أن يتصرف بما تمليه المحبة والسلام اللذان يدعو إليهما.
ألستم تروون في سفر الرؤيا [2: 21 _ 23 ] أن مسيح المحبة قال عن إمرأة اسمها إيزابل كانت تدعي انها نبية:(فإني سألقيها على فراش، وأبتلي الزانين معها بمحنة شديدة..وأولادها أقتلهم بالموت، فستعرف جميع الكنائس أني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب، وأجازي كل واحد منكم بحسب أعماله)
فهل من المحبة والرحمة أن يقتل الأطفال بذنب أمهم؟
نعم أنتم تروون وصيته لكم بأعدائكم، ولكنكم في نفس الوقت تجعلونه يأمركم بكل قسوة ببغض أقرب الناس إليكم.. ألستم تروون قوله في (لوقا:14: 26):(إن جاء إلي أحد، ولم يبغض أباه وأمه وزوجته وأولاده وإخوته وأخواته، بل نفسه أيضا، فلا يمكنه أن يكون تلميذا لي)؟
بل أنتم تناقضون أنفسكم حين تجعلون من رسو ل السلام يقول:(لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض. ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا.فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها) (متى: 10: 34)
بل جعلتموه يقول:(جئت لألقي على الأرض نارا، فلكم أود أن تكون قد اشتعلت؟) (لوقا 12: 49)
بل جعلتم الله نفسه نارا.. ألم يقل صاحبكم في رسالة العبرانيين [ 12: 29 ]:(لأن إلهنا نار آكلة).. بل جعلتموه يتجرد من الرحمة ويترك ابنه يلاقي أبشع أنواع العذاب دون ذنب وهو يصرخ بصوت عظيم:(إلهي إلهي لماذا تركتني؟)(متى:27: 46)
التفت الحكيم إلى أخي، وقال: هل تراني زدت شيئا في كتابكم؟.. إن كل ما قرأته من كتبكم المقدسة.. إنها تحمل صورة مشوهة عن المسيح نرفضها ـ نحن المسلمين ـ رفضا شديدا.
ما انتهى الحكيم من حديثه هذا حتى وقف رجل من الجمع، وقال: وعينا كل ما ذكرته.. ولا نحسب هذا الرجل إلا وقد بهت لما ذكرت، فلذلك لا نراه يحير جوابا.
قال الحكيم: لا ينبغي أن تقول هذا.. فنحن نبحث عن الحقيقة، ولا نتصارع تصارع الديكة.. لقد ذكر ما كان يختمر في ذهنه من شبهات.. وقد ذكرت له ما أراه من حقائق.. ولا حرج عليه أن يسأل ما يشاء، أو يعقب بما يشاء.. أليس هذا ميدان الحرية التي لا يشتاق لها إلا العقلاء؟
قال الرجل: فلدينا نحن ـ المسلمين ـ من الشبه ما نريد طرحها.. فما ذكره من الآيات وقع بين أيدي نفر من قومنا نسميهم (المخطئة) راحوا يبحثون عما يتوهمونه من خطايا الأنبياء.. يفسرون بذلك القرآن.. ويصححون بذلك الحديث.
ولذلك نلتمس منك أن تخرج من الحديث الذي أملاه الجدل إلى الأحاديث التي تمليها الحقيقة.. حقيقة النبوة.
قال الحكيم: أما إن قلت ذلك.. فإن لمقام النبوة في عين أهل الحقائق درجة من الطهارة لا نستطيع معها أن نتصور في حقهم معصية.
فالنبوة تعني القرب من الله.. ولا يقترب من الله إلا من امتلأ بالطهارة..
والنبوة تعني نصح الخلق.. ولا تقبل النصيحة من غير منتصح بها.
والنبوة تعني كمال الإنسانية.. ولا يصل كمال الإنسانية من تلطخ بأوزار المعاصي.
والنبوة تعني صفاء مرآة القلب حتى تنجلي فيها الحقائق كما هي.. والمعاصي هي السكين الذي يجرح الصفاء.. والدنس الذي يكدره.
قال الرجل: فما تقول فيما ذكرت من نصوص عن معاصي الأنبياء؟
قال الحكيم: ذلك من تحريف اليهود لكتبهم.. وتبعهم أحبار المسيحيين من غير تمحيص ولا تدقيق..
ولو أنهم أعملوا بعض عقولهم لعرفوا أن اليهود الذين لم يؤتمنوا على المسيح يستحيل أن يؤتمنوا على الكتاب المقدس.. وأن اليهود الذين شوهوا المسيح بكل ما أطاقت لهم عقولهم أن يشوهوه يستحيل أن يحفظوا نبيا.
قال الرجل: ولكن هناك أحاديث وصلتنا تنص على بعض ما نصت عليه هذه الكتب.
قال الحكيم: تلك أحاديث كعب الأحبار ووهب بن المنبه وغيرهم من اليهود الذين أسلموا.. ولكنهم لم يطيقوا أن يتخلصوا من مراتبهم الدينية.. فراحوا يمارسونها مع المسلمين.. فدخل في الإسلام منهم تلك اللوثة اليهودية..
ولكن الله خلص المسلمين منها بالعدول من العلماء الذين يغيرون على مقام الأنبياء.
قلت: فهل ستحدثنا عن ذلك الآن؟
قال: لا.. حديث ذلك يطول.. ولكني سأقتصر منه على ما يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فسلوني عما أشكل عليكم من الآيات.. وسأجيبكم بفضل الله ومنته.
وقبل أن تسألوني.. فقد رأيت أن كل النصوص التي قد يساء فهمها ترجع إلى أمرين: أما أولهما، فهو تلك الشفافية الروحية التي كانت لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي جعلته ـ وهو الكامل ـ يستشعر التقصير.. فلا يمتلئ لسانه وكيانه إلا عبودية وتواضعا واستغفارا.
وأما الثانية.. فهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو محل قدوة للمؤمنين، فلذلك يكون هو واسطة الخطاب الإلهي للمؤمنين، فيتوهم القاصرون أن ذلك الخطاب بما فيه من زجر وعتاب خاص به صلى الله عليه وآله وسلم.
قام رجل من القوم، فقال: فلنبدأ حديثنا بما ذكره هذا الحبر من الأحاديث الكثيرة التي نرى فيها محمدا يستغفر ربه.. ألا ترى فيها دلالة على المعصية؟
قال الحكيم: لا.. لا أرى فيها ذلك.. بل أرى فيها نفسا ممتلئة حياء من الله، فهي تستغفره كل حين من تقصيرها وتفريطها في حقه.. فمقام الله أعظم من أن يؤدى.
ألا ترى الرجل الكريم يهدي الهدية التي لا هدية تعدلها، ومع ذلك يقدمها بحياء، وكأنه يقدم ذنبا لا هدية.. بينما ترى الرجل الوقح يدل بالحقير، ويمن به!؟
قال الرجل: ذلك صحيح..
قال الحكيم: فهكذا الأمر مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان له من الرقة والإيمان والأدب مع الله ما جعله يدمن على استغفاره.
التفت إلى أخي، ثم قال: ليس هذا خاصا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. بل كل الصديقين والأنبياء يشعرون بهذه المشاعر النبيلة.. سأذكر لك نماذج من الكتاب المقدس لتدلك على هذا:
ففي إنجيل مرقس(10/17-18)، وإنجيل لوقا(18) نجد هذا النص الممتلئ بمثل هذه المشاعر: (وفيما هو خارج إلى الطريق، ركض واحد وجثا له وسأله أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحا ليس أحد صالحا إلا واحد وهو الله).. ألا ترى أن المسيح أقر في هذا النص بأنه ليس صالحا، ولا صالح إلا الله وحده؟
وفي الزبور(22/1-2) نجد هذا النص:(إلهي إلهي انظر لماذا تركتني تباعد عني خلاصي بكلام جهلي إلهي بالنهار أدعوك فلم تستجب لي وبالليل فلم تحفل بي).. ولما كانت آيات هذا الزبور راجعة إلى المسيح على زعمكم، فكان القائل بها عندكم هو المسيح.
وفي (إنجيل متى:27/46) نجد هذا النص: (ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلا: إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني)
وفي إنجيل مرقس (1/4-9) نجد هذا النص: (كان يوحنا يعمد في البرية ويكرز بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا وخرج إليه جميع كورة اليهودية وأهل أورشليم واعتمدوا جميعهم منه في نهر الأردن معترفين بخطاياهم.. وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن)
لقد كانت هذه المعمودية، معمودية التوبة، بمغفرة الخطايا، كما صرح مرقس في الآية الرابعة والخامسة والآية الثالثة من الباب الثالث من إنجيل لوقا هكذا: (فجاء إلى جميع الكورة المحيطة بالأردن يكرز بمعمودة التوبة لمغفرة الخطايا)، وفي الآية الحادية عشر من الباب الثالث من إنجيل متى هكذا: (أنا أعمدكم بماء للتوبة)، وفي الآية الرابعة والعشرين من الباب الثالث عشر من كتاب الأعمال هكذا: (إذ سبق يوحنا فكرز قبل مجيئه بمعمودية التوبة لجميع شعب إسرائيل)، والآية الرابعة من الباب التاسع عشر من كتاب الأعمال هكذا: (فقال بولس أن يوحنا عمد بمعمودية التوبة)
فهذه النصوص كلها، تدل على أن هذه المعمودية، كانت معمودية التوبة لمغفرة الخطايا، فمتى سلم اعتماد المسيح من يحيى، لزم تسليم اعترافه بالخطايا والتوبة منهما أيضا، لأن حقيقة هذا الاعتماد ليست غير ذلك.
وفي الباب السادس من إنجيل متى في الصلاة التي علمها المسيح تلاميذه هكذا:(اغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر أيضا للمذنبين إلينا ولا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير)
والظاهر أن المسيح كان يصلي تلك الصلاة التي علمها تلاميذه، ولم يثبت من موضع من مواضع الإنجيل أنه ما كان يصلي هذه الصلاة.. بل إنه كان كثير الصلاة، فلزم أن يكون دعاؤه باغفر لنا ذنوبنا مرات كثيرة بلغت الآلاف.
قام رجل من القوم، وقال: قد يصح ما ذكرت إن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المبادر للاستغفار.. ولكنا نرى الله تعالى هو الذي يحثه عليه، ويأمره به، فالله تعالى يقول:{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء: 106)، ويقول:{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر:55)، ويقول:{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد:19).. وغيرها من الآيات التي تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار.. وقد ورد في الحديث: لزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الكلمات قبل موته بسنة: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، قالت فقلت: يا رسول الله لقد لزمت هذه الكلمات، قال: (إن ربي عهد إلي عهدا أو أمرني بأمر، فأنا أتبعه)، ثم قرأ:{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } (النصر:1) حتى ختم السورة([22]).
فكيف تجتمع العصمة مع الاأمر بطلب الغفران؟
قال الحكيم: إن التعرف على سر ذلك يقتضي الوقوف على أصل مسلَّم به بين العقلاء، وهو أنّ عظمة الشخصية وخطر المسؤولية متحالفان، فربَّ عمل يُعد صدوره من شخص جرماً وخلافاً، وفي الوقت نفسه لا يعد صدوره من إنسان آخر كذلك.
سأحاول أن أبسط لك ذلك..
أنت تعرف أنّ الاَحكام الشرعية تنقسم إلى واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح.. وتعلم أنه لا محيص عن الاِتيان بالواجب وترك الحرام.. نعم هناك رخصة في ترك المستحب والاِتيان بالمكروه، ولكن المترقب من العارف بمصالح الاَحكام ومفاسدها، تحلية الواجبات بالمستحبات، وترك المحرمات مع ترك المكروهات، ولا يقصر عنه المباح، فهو وإن أباحه الله سبحانه ولكن ربّما يترجح فعله على تركه أو العكس لعنوان ثانوي.
فالعارف بعظمة الرب يتحمّل من المسؤولية ما لا يتحمله غيره، فيكون المنتظر منه غير ما ينتظر من غيره، ولو صدر منه ما لا يليق، وتساهل في هذا الطريق، فإنه يتأكد منه الاستغفار وطلب المغفرة، لا لصدور الذنب منه، بل من باب قياس عمله إلى علو معرفته وعظمة مسؤوليته.
وإن شئت فاستوضح ذلك من ملاحظة حال المتحضر والبدوي، فالمرجوّ من الأَوّل القيام بالآداب والرسوم الرائجة في الحضارات الاِنسانية، ولكن المرجوّ من الثاني أبسط الرسوم والآداب، فما ذلك إلاّ لاختلافهما من ناحية التربية والمعرفة، كما أنّ الترقب من نفس المتحضرين مختلف جداً، فالمأمول من المثقف أشد وأكثر من غيره كما أنّ الانضباط المرجو من الجندي يغاير المترقب من غيره، والغفلة القصيرة من العاشق يعد جرماً وخلافاً في منطق العشق، وليست كذلك إذا صدرت من غيره.
وهذه الاَمثلة ونظائرها الوافرة تثبت أنّ عظمة الشخصية وكبر المسؤولية متحالفان، وأنّ الوظائف لا تنحصر في الاِتيان بالواجبات، والتحرّز عن المحظورات بل هناك وظائف أُخرى، وكلّما زاد العلم والعرفان توفرت الوظائف وكثرت المسؤوليات، ولاَجل ذلك تُعدّ بعض الغفلات أو اقتراف المكروهات من الأولياء ذنباً، مع أنها في الواقع ليست بالنسبة إليهم ذنباً مطلقاً، بل إنها ذنب إذا قيس إلى ما أُعطوا من الاِ يمان والمعرفة، ولو قاموا بطلب المغفرة والعفو، فإنّما هو لاَجل هذه الجهات.
ولهذا نرى شيخ الاَنبياء نوحاً ـ عليه السلام ـ يقول:{ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} (نوح:28)
ويقتفيه إبراهيم ـ عليه السلام ـ ويقول:{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (ابراهيم:41)
وعلى أثرهم يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:{ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)
والمنشأ الوحيد لهذا الطلب مرّة بعد أُخرى هو وقوفهم على أنّ ما قاموا به من الأَعمال والطاعات وإن كانت في حد نفسها بالغة حدّ الكمال لكن المطلوب والمترقّب منهم أكمل وأفضل منه.
قام رجل من القوم، وقال: لقد ورد في الحديث إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض له ما يستدعي الاستغفار، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله، وفي لفظ: وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)([23]).. فقد ذكر أن علة استغفاره ما يحل على قلبه من الغين.
قال الحكيم: سر هذا الحديث لا يفهمه إلا أولياء الله الذين رزقوا من أذواق أهل الله ما يتيح لهم التعبير عن بعض حقائق الجمال التي وردت فيه.. وقد قال أبو الحسن الشاذلي في الحديث: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن حديث: (إنه ليغان على قلبي)، فقال: (يا مبارك ذلك غين الأنوار).
وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي: لما كانت روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تزل في الترقي إلى مقامات القرب تستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس، وكانت خطى النفس تقصر عن مداهما في العروج، فمما نهضت به الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تتقطع علاقة النفس عنه، فيبقى العباد محرومين فكان صلى الله عليه وآله وسلم يفزع إلى الاستغفار، لقصور النفس عن ترقي القلب.
وقال: لا تعتقد أن الغين حالة نقص، بل هو حالة كمال.. فذلك مثل جفن العين حين يمسح الدمع القذى عن العين، فإنه يمنع العين عن الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال.. فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعرضة للأغبرة الثائرة من أنفاس الأخيار، فدعت الحاجة إلى ستر حدقة بصيرته، صيانة لها، ووقاية عن ذلك.
وقال أبو سعيد الخراز: الغين شئ لا يجده إلا الأنبياء وأكابر الأبرار والأولياء، لصفاء أسرارهم، وهو كالغيم الرقيق الذي لا يدوم.
وقال آخر: إن في الاستغفار والتوبة معنى لطيفا، وهو استدعاء لمحبة الله تعالى، فإحداثه الاستغفار والتوبة في كل حين استدعاء لمحبة الله تعالى.
وقال آخر: لقد رأى الاشتغال بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو نوم أو راحة ومخالطة الناس، والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة، ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة، وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله تعالى، والتضرع إليه، ومشاهدته، ومراقبته، ذنبا بالنسبة إلى المقام العلي، وهو الحضور في حظيرة القدس.
وقال آخر: هو ما يستغشي القلب، ولا يغطية كل التغطية، كالغيم الرقيق لذي لا يمنع ضوء الشمس، ثم لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة، وإنما هذا عدد الاستغفار لا الغين، فيكون المراد بهذا الغين الإشارة إلى غفلات قلبه، وفترات نفسه، وسهوها عن مداومة الذكر، ومشاهدة الحق، لما كان صلى الله عليه وآله وسلم من مقامات البشر، وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحة النفس، وأعباء الرسالة، وحمل الأمانة، وهو في هذا كله في طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لما كان صلى الله عليه وآله وسلم أرفع الخلق عند الله تعالى مكانة، وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حالة عند خلوص قلبه، وخلو همه، وتفرده بربه أرفع حاليه، رأى حاله فترته عنها، وشغله بسواها، غمضا من علي حاله، ورفيع مقامه، فاستغفر من ذلك.
وقال آخر: لم يزل صلى الله عليه وآله وسلم مترقيا من رتبة إلى رتبة، فكلما رقي درجة التفت إلى ما خلفها، وجد منها وحشة لقصورها بالإضافة إلى التي انتهى إليها، وذلك هو الغين، فيستغفر منه.
وقال آخر: هو حالة خشية، وإعظام، والاستغفار شكرها.
وقال آخر: هو السكينة التي تغشي قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية والشكر لما أولاه.
وتأدب آخرون، فرأوا أنفسهم أقصر من أن يتحدثوا عن هذا المقام، فقد قال الجنيد: لولا أنه حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكلمت فيه، ولا يتكلم على حال إلا من كان مشرفا عليها، وجملة حاله يشرف على نهايتها أحد من الخلق([24]).
قام رجل آخر، فقال: فما تقول في قوله تعالى:{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً } (الفتح: 1-3).. فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً من العصيان ومصوناً من الذنب، فكيف أخبر سبحانه عن غفران ذنبه، بل ما تقدم منه وما تأخر.
قال الحكيم: قبل أن أجيبك لا ينبغي أن أتخطى سيدا من سادات آل البيت.. وهو الإمام الرضا.. فقد سأله المأمون عن الآية فقال:(لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لاَنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً، فلمّـا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الاِخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا:{ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلاَ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمَلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ } (ص: 5 ـ 7)، فلمّـا فتح اللهُ عزّ وجلّ على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة([25])، قال له: يا محمد: (إنّا فتحنا لك (مكة) فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله عزّ وجلّ فيما تقدّم، وما تأخّر، لأنّ مشركي مكة، أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم، فقال المأمون: لله درّك يا أبا الحسن.
قال الرجل: ماذا يقصد مولانا الإمام الرضا بقوله هذا؟
قال الحكيم: ألا تلاحظ أن في اعتبار القرآن الغاية المتوخاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما تقدّم منه وما تأخّر غرابة؟
قال الرجل: أجل.. أرى ذلك.. فطالما قلت لنفسي: كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم من فتح القلاع والبلدان سبباً لمغفرة ذنوبه، مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية والجزائية رابطة عقلية أو عادية، بحيث تعدّ إحداهما علّة لتحقّق الاَُخرى أو ملازمة لها، وهذه الرابطة خفية في المقام جداً، فإنّ تمكين النبي من الاَعداء والسيطرة عليهم يكون سبباً لانتشار كلمة الحق ورفض الباطل واستطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة، فلو قال: إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً، لتتمكن من الجهر بالحق، ونشر التوحيد، ودحض الباطل، كان الترتب أمراً طبيعياً، وكانت الرابطة محفوظة بين الجملتين، وأمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاء لفتحه صقعاً من الاَصقاع، فالرابطة غير واضحة.
قال الحكيم: وهذا ما وضحه الإمام الرضا.. فقد أراد أنه لما جاء النبي الأَكرم صلى الله عليه وآله وسلم داعياً إلى التوحيد في مجالى الخلق والاَمر، وإلى حصر التقديس والعبادة في الله، وأنّه لا معبود سواه ولا شفيع إلاّ بإذنه، فأخذ بتحطيم الوثنية ورفض عبادة الاَصنام، صارت دعوته ثقيلة على قريش وأذنابهم، حتى ثارت ثائرتهم على النبي الاَكرم، فقابلوا براهين النبي بالبذاءة والشغب والسب والنسب المفتعلة، فوصفوه بأنّه كاهن وساحر، ومفتر وكذّاب.. ثم صاروا إلى حربه كما علمتم.
فهذه الحوادث الدامية عند قريش، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم، وحدوث التفرقة في صفوفهم، والفتك بصناديدهم على يد النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم، صوّرته في مخيلتهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه، فسب آلهتهم وعاب طريقتهم بالكهانة والسحر والكذب والافتراء، ولم يكتف بذلك حتى شن عليهم الغارة والعدوان فصارت أرض يثرب وما حولها، مجازر لقريش، ومذابح لاَسيادهم، فأىّ جرم أعظم من هذا، وأي ذنب أكبر منه عند هوَلاء الجهلة الغفلة، الذين لا يعرفون الخيّـر من الشرير، والصديق من العدو، والمنجي من المهلك؟
فإذن ما هو الاَمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب ويرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق والصفاء، وعلائم العطف والحنان حتى تقف قريش على خطئها وجهلها.
إنّ الاَمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الاَوهام والاَباطيل، ليس إلاّ ذلك الفتح الذي فتح الله به عليه.. فعرفوا الحقيقة التي كانوا يحاربونها.
ثم إن ذلك العطف الذي أبداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الواقعة مع كونه من القدرة بمكان، وقريش في حالة الانحلال والضعف، صوّر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قومه وأتباعه بصورة إنسان مصلح يحب قومَه ويطلب صلاحهم ولا تروقه الحرب والدمار والجدال فوقفوا على حقيقة الحال، وعضّوا الاَنامل على ما افتعلوا عليه من النسب وندموا على ما فعلوا، فصاروا يميلون إلى الاِسلام زرافات ووحداناً.
فهذا الفتح العظيم وقبله وقعة الحديبية أثبتا بوضوح أن النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم أكرم وأجل وأعظم من أن يكون كاهناً أو ساحراً، إذ الكاهن والساحر أقصر من أن يقوم بهذه الاَُمور الجليلة، كما أنّ لطفه العميم وخلقه العظيم آية واضحة على أنّه رجل مثالي صدوق، لا يفتري ولا يكذب، وإنّ ما جرى بينه وبين قومه من الحروب الدامية، كانت نتيجة شقاقهم وجدالهم وموَامراتهم عليه.
وبذلك، فإن الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وقعة الحديبية، أو فتح مكة، أُسطورة خيالية قضت عليها سيرته في كل من الواقعتين من غير فرق بين ما ألصقوا به قبل الهجرة أو بعدها، وعند ذلك يتضح مفاد الآيات كما يتضح ارتباط الجملتين: الجزائية والشرطية، ولولا هذا الفتح كان النبي محبوساً في قفص الاتهام، وقد كسرته هذه الواقعة، وعرّفته نزيهاً عن كل هذه التهم.
وعلى ذلك فالمقصود من الذنب ما كانت قريش تصفه به، كما أنّ المراد من المغفرة إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.
قال الرجل: هذا توجيه طيب.. ولكني أريد غيره.. فهل هناك غيره؟
قال الحكيم: أجل.. وهو ما سنعرفه في العلة الثانية من العلل التي يفسر بها هذا النوع من الخطاب.. وهي القدوة.
قال الرجل: فاشرح لنا ما يرتبط بهذا الآن.
قال الحكيم: القرآن الكريم ـ عند العارفين بالله الفاهمين عنه ـ هو خطاب الله للبشر جمعيا.. ولم يكن محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا واسطة لذلك الخطاب..
لهذا.. فكل عارف بالله يسمع القرآن من الله.. ويفهم أنه المخاطب بكل حرف من حروفه ما صيغ فيه بضمير المخاطب المفرد وما صيغ بغيره.. بل ما صيغ منه بكل الظمائر.
قال الرجل: فماذا يفهم هؤلاء الكمل من هذه الآيات؟
قال الحكيم: هذه الآيات تبين الجزاء الذي أعده الله لمن وصل به اجتهاده إلى الفتح المبين.. فقد ذكرت الآيات أنواعا من الجزاء.. ومهدت لها بالمغفرة الشاملة، فالمغفرة هي الأساس لغيرها من أنواع الجزاء.. كما أن تطهير التربة هو الأساس لغرس البذور الطيبة.
قال الرجل: وعينا هذا.. ولكنا نرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من الاستغفار إلى درجة أنه يلفت انتباه أصحابه.
قال الحكيم: ذلك صحيح.. وذلك من وظائف النبوة.. فالنبي قدوة لأمته.. ولهذا تجده يشعر أنه أول المخاطبين بكل تكليف..
ليس هذا خاصا بنبينا فقط.. بل هو عام لكل الأنبياء.. وقد قال تعالى فيهم:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام:90)
وقد ورد في إنجيل متى أن المسيح صام أربعين نهاراً، أو أربعين ليلة، وفي (إنجيل مرقص:1/35} (وفي الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك).. وفي (إنجيل لوقا:5/16): (وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة للّه)
التفت إلى أخي، ثم قال: أنتم تقولون بأن المسيح متحد في ذات اللّه.. ولذلك فإن هذه التكاليف لا تحمل عندكم إلا على معنى واحد.. وهو ما ذكرته من قصد الاقتداء والتعليم.
قام رجل من القوم، وقال: نرى في القرآن الكريم آيات كثيرة وردت في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي تحمل نوعا من الخطاب الحاد صار ذريعة للمخطئة يرمون بها نبيهم.
قال الحكيم: فاذكرها لي أفسرها بما يفهمه أهل الحقائق المعظمين لمقام النبوة([26]).
قال الرجل: منها قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} (الرعد:37)، وقوله تعالى:{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة:145)، وقوله تعالى:{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (البقرة:120)
فهذه الآيات تخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحن حاد.. وقد تمسّكت المخطّئة بالقضية الشرطية على أرضية متوقعة في نفس النبي لاتّباع أهوائهم، وإلاّ فلا وجه للوعيد.
قال الحكيم: ومن أين لهم هذا النوع من الاستدلال.. ألا يعرف هؤلاء اللغة العربية، وأساليبها.. بل إن هذا مما تتفق عليه جميع اللغات.. فالقضية الشرطية لا تدل إلاّ على الملازمة بين الشرط والجزاء.. وهي لا تدل ـ بحال من الأحوال ـ على تحقّق الطرفين، ولا على إمكان تحقّقهما.
ألم يقرأ قوله تعالى:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الانبياء:22)!؟
قال الرجل: بلى قرأوها.. وهم يستدلون بها على توحيد الله.
قال الحكيم: فلم لم يستدلوا بها على وجود آلهة مع الله؟
قال الرجل: لعدم تحقق الجزاء.
قال الحكيم: فهل رأوا ربهم تخلى عن نبيهم.. فلم ينصره.. ولم يكن له وليا ولا واقيا؟
قال الرجل: حاشاهم أن يقولوا ذلك.
قال الحكيم: فكيف لهم أن يجوزوا شيئا لا دليل لهم عليه؟
قام رجل آخر، وقال: فما تقول في قوله تعالى:{ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} (الاسراء:86-87)؟
قال الحكيم: هذه الآيات لا يفهم منها الصادقون إلا صدق نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.. فالله لم يستلب الوحي من نبيه صلى الله عليه وآله وسلم مع قدرته عليه.. وذلك دليل كمال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا دليل قصور منه.
قال الرجل: لم أفهم .. كيف يكون ذلك دليل كمال؟
قال الحكيم: أرأيت لو أن رجلا اجتاز مسابقة يقوم عليها خبراء أشداء يلاحظون النقير والقطمير.. ونجا منها بنجاح.. هل يعتبر ذلك كمالا أم لا؟
قال الرجل: بل يعتبر ذلك عين الكمال.
قال الحكيم: فلو اجتاز هذا على خبراء لا يرون ولا يسمعون ولا يهتمون.. هل يصح لهذا أن يفخر بكماله بهذا الاجتياز؟
قال الرجل: لا يستطيع أن يفخر هذا بشيء.. وليس ما فعله كمالا.
قال الحكيم: فنزه الله عن لوثات التشبيه.. وارتق بهذا المثال لتعرف مقام نبيك صلى الله عليه وآله وسلم.
قام رجل آخر، فقال: صدقت.. إن المثال الذي ذكرته فهمت به سر قوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم:{ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65)، وقوله تعالى:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَقَاوِيلِ لاَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتينَ فَمَا مِنْكُمْ مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزينَ} (الحاقة: 44 ـ 47)
قال الحكيم: إن هذه الآيات ونظائرها التي تحكى عن القضية الشرطية يفهم منها الصادقون أمرين:
أما أولهما.. فمقدار الكمال الذي من الله به على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.. فراح يجتاز كل الامتحانات الصعبة التي وضع فيها بنجاح لا مثله نجاح.
وأما الثاني.. فما ذكرته لكم من أن القرآن الكريم يخطاب الأمة عبر نبيها.. فالكمل يسمعون الخطاب لهم، فيشعرون بأليم العتاب إن قصروا أو حدثتهم أنفسهم بالتقصير.. أما القاصرون، فيرون العتاب مخصوصا بنبيهم، فينحجبون عن الغرض القرآني، كما ينحجب التلميذ الأبله.
قام رجل من القوم، وقال: وكيف ينحجب هذا التلميذ؟
قال الحكيم: لقد تعود الكثير من الأساتذة ان يوجهوا تلاميذهم عبر النجباء منهم.. فيحذرون النجيب من التقصير.. ليفهم غيرهم من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)
أما الأذكياء.. فيفهمون من هذا شدة الأمر.. وأنه حتى النجابة لا يمكن ان تشفع للمقصر.
وأما البله.. فيفهمون الأمر قاصرا على من توجه الخطاب له، فينحجبون بالمخاطب عن الخطاب.
قام رجل من القوم، وقال: لقد فهمت بما ذكرته أسرار آيات من القرآن:
منها آيات وردت فاصلتها بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يكون من الممترين، وهي قوله تعالى:{ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} (البقرة)، وقوله تعالى:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} (آل عمران)، وقوله تعالى:{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (الأنعام:114)، وقوله تعالى:{ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (يونس:94)
ففي الموضع الأول يعلمنا الله تعالى أن لا نقيم وزناً لاِرجاف المرجفين في العدول بالصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، كما يحكي سبحانه وتعالى عنهم بقوله:{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة:142)
وفي الموضع الثاني يبطل الله تعالى ألوهية المسيح ـ عليه السلام ـ بحجّة أنّه وليد مريم ـ عليها السلام ـ بأنّ تولده بلا أب يشبه تكوّن آدم من غير أب ولا أُم، ثم يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك بقوله:{ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (آل عمران:60).. ولا شك ـ عند العقلاء ـ أنّ الخطاب جرى مجرى (إياك أعني واسمعي يا جارة)، فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أعظم من أن يتسرب إليه الشك في مثل هذا.
وهكذا سائر المواضع.. فالنهي عن الشك نهي موجه للأمة عن طريق نبيها.. لا أنه موجه للنبي بسبب احتمال وقوع الشك منه.
قام رجل آخر، وقال: فما تقول في قوله تعالى:{ وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } (النساء:107)، فإن هذه الآية الكريمة تنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المجادلة عن الخائنين.. ومثلها قوله تعالى:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً } (النساء:105)
قال الحكيم: لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أي لحظة من لحظات حياته مدافعاً عن الخائنين، وانّما وردت الآية بهذا الأسلوب من باب تربية المجتمع وتوجيهه وتحذيره من هذا النوع من السلوك، وبما أنّ أكثر الناس لا يتحمّلون الخطاب الحاد، بل يكون مرّاً في أذواق أكثرهم، اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون المخاطب، غير من قصد له الخطاب.
قام رجل آخر، فقال: فما تقول في قوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم:{ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} (الاسراء:22)، وقوله تعالى:{ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (الاسراء:29)، وقوله تعالى:{ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (الاسراء:39)، وقوله تعالى:{ وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً للْكَافِرينَ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (86 ـ 88)
قال الحكيم: هو ما ذكرته في غيرها.. فهذه الخطابات وما يشبهها وإن كانت موجهة في الظاهر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن المقصد منها عامة الناس.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من أن يشرك بالله تعالى.. فهو لم يحصل منه شرك قبل نبوته، فكيف يحصل منه بعد نبوته.
***
بعد أن انتهى الحكيم من حديثه لم يجد أخى ما يقوله.. ولذا سار مطأطئ الرأس، متغير الوجه، خارج ميدان الحرية ليترك الجماعة ملتفة حول الحكيم تسأله ويجيبها..
التفت إلى أصحابنا المستغرقين في مشاهدة ما حصل في ساحة الحرية.. فرأيت وجوههم كالحة عابسة عليها غبرة ترهقها قترة.
أما أنا..
فقد تنزلت علي حينها أنوار جديدة اهتديت بها بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه
وآله وسلم.
([1]) الآية كاملة هكذا:{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (الأنعام:56)
([2]) رواه البخاري.
([3]) رواه مسلم.
([4]) رواه البخاري والنسائي.
([5]) رواه البخاري ومسلم.
([6]) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
([7]) رواه البخاري.
([8]) رواه مسلم.
([9]) البيهقي في الشعب.
([10]) من المراجع التي رجعنا إليها في ذكر ما نسبب للأنبياء من معاصي (إظهار الحق) لرحمة الله الهندي، وقد قدم لذكره لما نسب للأنبياء باعتذار قال فيه:( اعلم أرشدك اللّه تعالى في الدارين أن المسيحيين يدعون أن الأنبياء إنما يكونون معصومين في تبليغ الوحي فقط، تقريراً كان أو تحريراً. وأما في غير التبليغ، فليسوا بمعصومين لا قبل النبوّة ولا بعدها. فيصدر عنهم بعدها جميع الذنوب قصداً، فضلاً عن الخطأ والنسيان، فيصدر عنهم الزنا بالمحارم فضلاً عن الأجنبيات، ويصدر عنهم عبادة الأوثان، وبناء المعابد لها، ولا يخرج عندهم نبي من إبراهيم إلى يحيى عليهما السلام لا يكون زانياً أو من أولاد الزنا أعاذنا اللّه من أمثال هذه العقائد الفاسدة في حق الأنبياء عليهم السلام.
وقد عرفت في الأمر السابع من مقدمة الكتاب، وفي الفصل الثالث والرابع من الباب الأول، وفي المقصد الأول من الباب الثاني أن ادعاءهم العصمة في التبليغ أيضاً باطل لا أصل له على أصولهم. ويصدر هذا الادعاء عنهم لتغليط العوام، فمطاعنهم على محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأمور التي يفهمونها ذنوباً في زعمهم الفاسد، لا تقدح في نبوته على أصولهم. وإني وإن كنت أستكره أن أنقل ذنوب الأنبياء والكفريات المفتريات عن كتبهم ولو إلزاماً، ولا أعتقد في حضرات الأنبياء إنصافهم بهذه الذنوب والكفريات حاشا وكلا. لكني لما رأيت أن علماء بروتستنت أطالوا ألسنتهم إطالة فاحشة في حق محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأمور الخفيفة، وجعلوا الخردلة جبلاً لتغليط العوام الغير الواقفين على كتبهم، وكان مظنة وقوع السذج في الاشتباه بتمويهاتهم الباطلة، نقلت بعضها إلزاماً، وأتبرأ عن اعتقادها بألف لسان وليس نقلها إلا كنقل كلمات الكفر، ونقل الكفر ليس بكفر، وقدمت نقلها على نقل مطاعنهم في محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجواب عنها)
وقد ذكر أنه نقل هذه النصوص وبعض التعليقات عليها من كتاب كتبه القسيس (وليم اسمت) (من علماء بروتستنت كتاباً في لسان أردو وطبعه في البلد مرزابور من بلاد الهند في سنة 1848 من الميلاد، وسماه طريق الأولياء، وكتب فيه حال الأنبياء من آدم إلى يعقوب عليهم السلام ناقلاً عن سفر التكوين وتفاسيره المعتبرة عند علماء بروتستنت)
([11]) طريق الأولياء، 74، نقلا عن (إظهار الحق)
([12]) طريق الأولياء: 99.
([13]) طريق الأولياء: 92 و 93.
([14]) طريق الأولياء: 168.
([15]) طريق الأولياء:169.
([16]) طريق الأولياء:128.
([17]) من باب تبرئة نبي الله لوط ـ عليه السلام ـ فسنعيد هنا ذكر ما ذكرناه في رسالة ( الكلمات المقدسة) من أدلة براءة لوط ـ عليه السلام ـ من تلك التهمة الشنيعة، فقد جاء فيه:
كعادة الكتاب المقدس، فإنه يترك في نصوصه أدلة التحريف والكذب، وسنقتصر من أدلة كذب هذه القصة ما ذكره الكتاب المقدس علي لسان بنت لوط الكبرى أنه لا يوجد رجال في الأرض (و ليس في الأرض رجل )، فهذا القول خطأ من وجوه:
1. أن الرب دمر قرية سدوم وعمورة فقط بما فيها من البشر، أما باقي الأرض وما بها من البشر، فلم يمسهم.
2. كان لوط قريبا جدا من عمه إبراهيم وقومه، وقد مرت ملائكة الرب علي إبراهيم وهم في طريقهم لتدمير قرية سدوم وعمورة بل شاهد إبراهيم القرية والدخان ينبعث منها، كما في (تكوين: 19: 27 -28):« وبكر ابراهيم في الغد الى المكان الذي وقف فيه أمام الرب وتطلع نحو سدوم وعمورة ونحو كل أرض الدائرة ونظر وإذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون » أي أن لوط لم يبعد عن إبراهيم وقومه، وبالتالي يمكن لبنات لوط الزواج من قوم إبراهيم أو من أي قرية قريبة منهم.
3. أن في الكتاب المقدس ما يدل على كون بناته متزوجات.. حيث أن لوطا طلب من أزواج بناته الاستعداد للرحيل معهم (تكوين:19: 14):« فخرج لوط وكلم أصهاره الآخذين بناته وقال: قوموا اخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة فكان كمازح في أعين أصهاره »
وقد ورد في نفس الوقت ما يدل على أنهما غير متزوجتين حيث أن لوط أخبر قومه أن لديه بنتين لم يعرفا رجلا، أي لم يسبق لهم الزواج (تكوين: 19: 8):« هوذا لي ابنتان لم تعرفا رجلا اخرجهما اليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم وأما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت ظل سقفي »
ولسنا ندري أي النصين نصدق!؟
4. أن الرب أهلك الآثمين فقط، ونجى البارين فقط.. فإن كان زوجي بنتي لوط ـ ان صح أنهما من المتزوجات ـ من الآثمين لماذا طلب ملاك الرب من لوط أن يأخذهم معه (تكوين: 19: 12):« وقال الرجلان للوط من لك أيضا ههنا اصهارك وبنيك و بناتك وكل من لك في المدينة اخرج من المكان ».. فهل الرب يحابي لوط وبناته وأصهاره!؟
5. أن المخمور الذى لا يستطيع أن يفرق بين بناته والأجنبيات لشدة سُكره، لا يكون فى هذا الوقت مستعدا للممارسة الجنسية، والغريب فى باقى القصة أن الأب لم يسأل ابنتيه العذراوتين عن سبب الحمل؟ ومثل هذا الوضع لو وقع لبعض آحاد الناس لضاقت عليه الأرض بما رحُبت حزناً وغماً.
6. أنه لو كان الموابيين والعمونيين من الزنى لغضب الله عليهم أو أهمل شأنهم، ولكننا نرى فى سفر التثنية أن الله قد أعطى أرض الإيميين للموآبيين ميراثاً « فَقَال لِي الرَّبُّ: لا تُعَادِ مُوآبَ وَلا تُثِرْ عَليْهِمْ حَرْباً لأَنِّي لا أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِهِمْ مِيرَاثاً. لأَنِّي لِبَنِي لُوطٍَ قَدْ أَعْطَيْتُ «عَارَ» مِيرَاثاً. 10الإِيمِيُّونَ سَكَنُوا فِيهَا قَبْلاً. شَعْبٌ كَبِيرٌ وَكَثِيرٌ وَطَوِيلٌ كَالعَنَاقِيِّينَ »(سفر التثنية 2: 9-10)، كما أعطى أرض الرفائيين لبنى عمون ميراثاً:« 19فَمَتَى قَرُبْتَ إِلى تُجَاهِ بَنِي عَمُّونَ لا تُعَادِهِمْ وَلا تَهْجِمُوا عَليْهِمْ لأَنِّي لا أُعْطِيكَ مِنْ أَرْضِ بَنِي عَمُّونَ مِيرَاثاً – لأَنِّي لِبَنِي لُوطٍ قَدْ أَعْطَيْتُهَا مِيرَاثاً. 20هِيَ أَيْضاً تُحْسَبُ أَرْضَ رَفَائِيِّينَ. سَكَنَ الرَّفَائِيُّونَ فِيهَا قَبْلاً لكِنَّ العَمُّونِيِّينَ يَدْعُونَهُمْ زَمْزُمِيِّينَ »( تثنية 2: 19-20)
وقد أعطى الله الموآبيين والعمونيين ميراث الأرض قبل أن يورث بنى إسرائيل وقبل أن يدخلوا أرض الميعاد، بل وحرَّمَ أرض الموآبيين والعمونيين على بنى إسرائيل كما ورد فى سفر (التثنية 2: 9 و 19)
ولو كان الإرث يستلزم عهداً من الرب، فقد حصل عليه العمونيون والموابيون، وبذلك يكونون قد دخلوا فى جماعة الرب، لأن الرب لا يعطى عهداً لأبناء الزنى:« 2لا يَدْخُلِ ابْنُ زِنىً فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. حَتَّى الجِيلِ العَاشِرِ لا يَدْخُل مِنْهُ أَحَدٌ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ »(تثنية 23: 2)، وبذلك يكون الموآبيون والعمونيون ليسوا من أبناء زنى ويكون كتبة هذه القصة من الكاذبين. ويكون بنى إسرائيل قد ادعوا وجود هذا العهد من الله ويكونوا أيضاً من الكاذبين.
ولو صدقنا قول التوراة أن العمونيين والموآبيين من نسل الزنى، وعلى الرغم من ذلك قد حصلوا على عهد من الله وعلى إرث، يكون قد نال عهد الله أبناء الزنى والأطهار (بنى إسرائيل)، فلا ميزة إذن للأطهار عن أبناء الزنى، ويصبح قول التوراة بأن بنى إسرائيل شعب الله المختار لأنهم أخذوا عهداً من الله بتملك الأرض، هو قول كذب.
7. أن راعوث كانت موآبية وهى أم نبى الله داود الذى كان من ذريته كل ملوك يهوذا حتى السبى، والذى قال عنه الرب:« 14أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً. إِنْ تَعَوَّجَ أُؤَدِّبْهُ بِقَضِيبِ النَّاسِ وَبِضَرَبَاتِ بَنِي آدَمَ. 15وَلَكِنَّ رَحْمَتِي لاَ تُنْزَعُ مِنْهُ كَمَا نَزَعْتُهَا مِنْ شَاوُلَ الَّذِي أَزَلْتُهُ مِنْ أَمَامِكَ. 16وَيَأْمَنُ بَيْتُكَ وَمَمْلَكَتُكَ إِلَى الأَبَدِ أَمَامَكَ. كُرْسِيُّكَ يَكُونُ ثَابِتاً إِلَى الأَبَدِ» (صموئيل الثانى 7: 14-16)
فلا يمكن أن من شرفه الله بهذا الشرف أن يكون من سلالة زنى. كما أن سليمان قد تزوج من نعمة العمونية وأنجب منها رحبعام (ملوك الأول 14: 21)، ولا يمكن أن يكون رؤوس جماعة الرب من أمهات زنى، فضلاً عن أنهم من نسل الرب (تبعاً للتشريع النصرانى)، فلابد أن يكون هذا التشريع مدسوس على التوراة.
وقد بين السموال بن يحيى المغربى ـ أحد أحبار اليهود الذين أسلموا، وقد كان أبوه حبراً يهودياً كبيراً وإماماً ضليعاً فى اليهودية وكذلك كانت أمه ـ السر الذي دعا إلى اختلاق هذه القصة، فقال:« وأيضاً فإن عندهم أن موسى جعل الإمامة فى الهارونيين، فلما ولى طالوت (شاول) وثقلت وطأته على الهارونيين وقتلَ منهم مقتلة عظيمة، ثم انتقل الأمر إلى داود، بقى فى نفوس الهارونيين التشوق إلى الأمر الذى زال عنهم، وكان (عزرا) هذا خادماً لملك الفرس، حظيا لديه، فتوصل إلى بناء بيت المقدس، وعمل لهم هذه التوراة التى بأيديهم، فلما كان هارونياً، كره أن يتولى عليهم فى الدولة الثانية داودىّ، فأضاف فى التوراة فصلين للطعن فى نسب داود، أحدهما قصة بنات لوط والآخر قصة ثامار (مع يهوذا) ولقد بلغ – لعمرى – غرضه، فإن الدولة الثانية كانت لهم فى بيت المقدس، لم يملك عليها داوديون، بل كان ملوكهم هارونيون » إفحام اليهود:151 و 152.
([18]) نقل رحمة الله الهندي هذا النقل من هذا الكتاب، ثم عقب عليه بقوله: ولا بد أن يعلم الناظر أني نقلت هاتين العبارتين من النسخة المطبوعة سنة 1842 وكتبت الرد على هذه النسخة، وسميته تقليب المطاعن، ورد صاحب الاستفسار أيضاً على هذه النسخة، وسمعت أن هذا القسيس بعد الرد حرف كتابه، فزاد في بعض المواضع ونقص في البعض، وبدل البعض، كما فعل صاحب ميزان الحق في نسخة الميزان مثله، فلا أعلم أن هذا القسيس ألقى هاتين العبارتين في النسخة الأخيرة المحرفة أم لا.
([19]) ذكرنا هذه الأدلة هنا على اعتبار أن من المسيحيين من ينكر نبوته، ومنهم صاحب ميزان الحق ـ كما يذكر رحمة الله الهندي ـ فقد أنكر نبوة هارون في الصفحة 105 من كتابه المسمى بحل الإشكال المطبوع سنة 1847.
([20]) ففي (متى:26/31 -35):( وقالَ لهُم يَسوعُ: (في هذِهِ اللَّيلَةِ ستَترُكوني..كُلُّكُم، فالكِتابُ يَقولُ: سَأضرِبُ الرّاعيَ، فتَتَبدَّدُ خِرافُ القَطيعِ. ولكِنْ بَعدَ قيامَتي مِنْ بَينِ الأمواتِ أسبُقُكُم إلى الجليلِ) فقالَ بُطرُسُ: ( لَو تَركوكَ كُلٌّهُم، فأنا لن أترُكَكَ) فقالَ لَه يَسوعُ: (الحقَّ أقولُ لكَ: في هذِهِ اللَّيلَةِ، قَبلَ أن يَصيحَ الدّيكُ، تُنكِرُني ثلاثَ مرّاتٍ) فأجابَهُ بُطرُسُ: (لا أُنكِرُكَ وإنْ كانَ علَيَّ أن أموتَ معَكَ) وهكذا قالَ التَّلاميذُ كُلٌّهُم)
([21]) سبق أن ذكرنا جزءا من هذا الحوار في رسالة (أنبياء يبشرون بمحمد)، وقد اقتضى المقام إعادته هنا.
([22]) محمد بن يحيى بن عمر برجال ثقات.
([23]) رواه مسلم.
([24]) انظر هذه الأقوال وغيرها في (الشفا) للقاضي عياض، و(سبل الهدى) وغيرهما.
([25]) هناك اختلاف في المراد من الفتح في هذه الآية، فقيل المراد: فتح مكة وهو ما ذكره هنا، وثانيها: فتح الروم وغيرها وثالثها: المراد من الفتح صلح الحديبية ورابعها: فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان وخامسها: المراد منه الحكم كقوله تعالى:{ رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } (الأعراف: 89 ) وقوله:{ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق } (سبأ: 26)، وكلها وجوه محتملة ولو أن الأرجح بينها هو كونه صلح الحديبية.
([26]) كثير من هذه الردود رجعنا فيه لمرجعين مهمين في هذا الباب، هما:
تنزيه الأنبياء، لأبي القاسم علي بن الحسين الموسوي، المعروف بالشريف المرتضى.
عصمة الاَنبياء في القرآن الكريم، تأليف: العلاّمة المحقّق جعفر السبحاني.
وغيرها من المراجع.