أولا ـ العارف

كانت أول بلدة حدثتني نفسي بالنزول فيها هي (القدس).. وذلك قبل أن تتدنس بالصراع وبالمصارعين الذين قدموا لها من جميع أطراف العالم، ليقتلوا السلام الذي فاح عطره في جنباتها منذ امتلأت بأهل الله من ورثة الأنبياء.
في تلك البلدة الطيبة، وبجوار المسجد الأقصى، التقيت بأول الورثة.. وهو الوارث الذي تعلمت منه.. بل أيقنت أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو أعظم العارفين([1])، وأكملهم.. وأنه اكتمل له من المعرفة ما لا يكتمل إلا للإنسان الكامل الذي أنيطت به أعظم وظيفة في الأرض..
كان اسمه جعفر، ولكن الناس لم يكونوا ينادونه إلا الصادق([2]).. وقد كان له من السمت والوقار والهيبة ما امتلأت به جوانح نفسي وعقلي وقلبي.. فلذلك ما إن رأيته حتى قلت: إن لهذا الرجل لشأنا.. ولعل حاجتي عنده.
فاقتربت منه، وأصغيت إليه، وهو يحدث رجلا، يخاطبه كما يخاطب الشيخ مريده، أو كما يخاطب الأستاذ تلميذه، سمعته يقول له ([3]): (يا مريد.. إذا أنعم الله عليك بنعمة، فأحببت بقاءها ودوامها، فأكثر من الحمد والشكر عليها، فإن الله عز وجل قال في كتابه:{ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (ابراهيم: 7)
وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار فإن الله تعالى قال في كتابه:{ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)}(نوح)
وإذا حزبك أمر من سلطان أو غيره، فأكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله) فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة)
انصرف الرجل الذي كان يقف بجانبه كالمريد شاكرا..
فتبعته، فإذا برجل آخر يقدم عليه، ويقف بين يديه.. ومما حفظت من حديثهما أن صاحبي جعفرا سأل هذا الرجل([4]) قائلا له: يا حاتم.. منذ كم صحبتني؟
قال حاتم: منذ ثلاث وثلاثين سنة.
قال جعفر: فما تعلمت مني في هذه المدة؟
قال حاتم: ثمان مسائل.
تعجبت كثيرا من قوله هذا، وقلت في نفسي: ما أعظم بلادة هذا الرجل.. يمكث متعلما طول هذه المدة، ثم لا يتعلم إلا ثماني مسائل..
كدت أنصرف عنه زهدا فيه.. لكن فضولي دفعني لأن أسمع هذه المسائل الثمانية التي استغرق تعلمها طول هذه المدة([5]).
قال جعفر: فما المسألة الأولى؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق، فرأيت كل واحد يحب محبوباً فهو مع محبوبه إلى القبر، فإذا وصل إلى القبر فارقه، فجعلت الحسنات محبوبي، فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما الثانية؟
قال حاتم: نظرت في قول الله عز وجل:{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}(النازعات)، فعلمت أن قوله سبحانه وتعالى هو الحق، فأجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما الثالثة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت إلى قول الله عز وجل:{ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } (النحل: 96)، فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما الرابعة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق، فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ثم نظرت إلى قول الله تعالى:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات: 13)، فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريماً.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما الخامسة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وأصل هذا كله الحسد، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل:{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (الزخرف: 32)، فتركت الحسد، وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركت عداوة الخلق عني.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما السادسة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضاً فرجعت إلى قول الله عز وجل:{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } (فاطر: 6)، فعاديته وحده، واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي، فتركت عداوة الخلق غيره.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما السابعة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق، فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكسرة، فيذل فيها نفسه، ويدخل فيما لا يحل له، ثم نظرت إلى قوله تعالى:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود: 6)، فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها، فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده.
قال جعفر: أحسنت يا حاتم، فما الثامنة؟
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق.. هذا على ضيعته.. وهذا على صحة بدنه.. وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله، فرجعت إلى قوله تعالى:{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطلاق: 3)، فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي.
قال جعفر: وفقك الله يا حاتم.. لقد عرفت فالزم..
أعجبتني أحاديث هذا الرجل.. فسرت خلفه، فرأيت رجلا شابا يقطع طريقه، كان يشبهني تماما.. وكأنه كان نسخة مني.. ومن العجب أنه كان يستعمل نفس أسلوب جدالي وحديثي.. بل كان فوق ذلك يورد ما في نفسي من الشبهات والجدل.. وكأنه أنا قد خرج من جلبابي ليمتطي جلبابه.
قال الشاب: أراك تفرق بين المعرفة والعلم.. وتفرق بين العارف والعالم.. ولكني لا أرى الناس إلا يخلطون بين العارف والعالم، فلا يرون العالم إلا عارفا، ولا العارف إلا عالما.
فأجابه: العلم ما استعمل عقلك، والمعرفة ما استعمل كيانك.
قال الشاب: لم أفهم.
قال جعفر: لاشك أنك تعلم أن النار تحرق..
قال الشاب: لا أشك في ذلك.. ولا أظن أن أحدا من الناس يشك فيه.
قال جعفر: فذلك علم.. وهو مجموعة حقائق تستوطن عقلك بما فيه من أجهزة التذكر والتحليل والتركيب والعبور.
قال الشاب: والمعرفة؟
قال جعفر: عندما تضع يدك على النار، ويصيبك من لهيبها ما يصيبك.. حينها تصير عارفا بأن النار تحرق.
قال الشاب: تقصد أن المعرفة معايشة للمعلوم؟
قال جعفر: هي معايشة تنطلق من يقين..
قال الشاب: فلم كانت المعرفة أكمل من العلم؟
قال جعفر: لأن العلم قد لا يترك أي أثر فيك إلا الأثر الذي يتركه في ذلك الحيز الضيق من عقلك، بينما المعرفة تستعمرك استعمارا، وتحتل كل لطائفك، فلا تتصرف أي تصرف إلا تحت إشارتها.
ألا ترى أن السكير المدمن على سكره قد يكون في عقله من العلوم المرتبطة بمضار الخمر ما ليس عند من عوفي من السكر؟
قال الشاب: ذلك صحيح.. ولكن المسكين حبيس شهوته ونفسه الأمارة بالسوء، فلذلك لم تستطع معارفه المرتبطة بمضار السكر أن تحدث أثرها فيه.
قال جعفر: لأن معلوماته لم تصر معارف.. ولو صارت معارف لتحكمت في كل كيانه.
قال الشاب: فكيف تصير علومه معارف؟
قال جعفر: إذا اندمجت مع كيانه، أو صارت لها السلطة على كيانه.. فحينذاك تتوحد نفسه وعقله وقلبه وروحه وكل لطائفه على مقتضيات معرفته.
قال الشاب: لقد أشار القرآن إلى هذا، فذكر أن الكفار لم يقف بينهم وبين الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلمحجب من الشبهات، بل وقف بينهم وبينها حجب من الشهوات، فقال تعالى:{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33)
قال جعفر: وهكذا الكثير ممن تراهم يشنون الغارات على النبوة وما جاءت به النبوة.. إن أكثرهم لا يصدر في ذلك عن شبهة محترمة قد تناقش.. وإنما يصدرون عن شهوات جامحة لا يمكن السيطرة عليها.. لقد أتيح لي أن ألتقي الكثير من هؤلاء.. ورأيت منهم ما رأيت..
قال ذلك بألم يكاد يعتصره اعتصارا، فأرادت الشاب أن يغير مجرى الحديث، فقال: فالمعرفة إذن يقين، تنطلق منه معايشة!؟
قال جعفر: أجل.. فلا يمكن لليقين الذي ملأ كيانك إلا أن يملأ جوارحك، فلا تتحرك إلا بصحبته، ولا تسير إلا على هديه.
قال الشاب: فحدثني عن الركن الأول من أركان المعرفة.
قال جعفر: لقد قال الشاعر الصالح معبرا عنه:
قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يرى للناظرين
قال الشاب: لا أرى الناس إلا يشتركون في أبصارهم، ولا أرى الأبصار إلا تشترك فيما تراه، بل إن من الجاحدين من اخترع من الأجهزة ما استطاع به أن يبصر ما لا يراه الموقنون.
قال جعفر: ليس الشأن في أن ترى ببصرك.. ولكن الشأن في أن ترى ببصيرتك { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)
قال الشاب: أيمكن أن تعمى البصيرة؟
قال جعفر: أجل.. حين تضع الحجب بينها وبين الحقائق الجلية، أو حين تصرف وجهها عنها.
قال الشاب: العامة من الناس يدركون ذلك.. ويوقنون به.
قال جعفر: عين البصيرة لها درجات ومراتب كدرجات البصر ومراتبه([6]).. وليس للعارف منها إلا أكملها.
قال الشاب: فما أكملها؟
قال جعفر: أن ترى ما تعرفه..
قال الشاب: كيف ذلك.. وأكمل المعارف وغايتها معرفة الله.. وقد حيل بينها وبين تحولها إلى رؤية، كما قال تعالى:{ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103)
قال جعفر: وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما سئل عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([7])، وقال: (اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وكل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية)([8])
قال الشاب: ألا ترى أن هناك تناقضا بين الآية، وهذين الحديثين؟
قال جعفر: يستحيل أن يحصل التناقض بين الوحيين.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم { مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم)
قال الشاب: فكيف تفسر إمكانية الرؤية التي نص عليها الحديث مع عدم إمكانيتها التي نصت عليها الآية؟
قال جعفر: الرؤية رؤيتان: رؤية مقيدة، تضع المرئي في حيز محدود تضيق عليه بها الخناق، وهي الرؤية التي طلبها بنو إسرائيل حين قالوا لموسى u:{ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } (النساء: 153)([9]).. وطالب هذه الرؤية لا يعرف الله.. لأن الله لا يعرفه إلا من ينزهه.. ولا ينزهه من يطلب مثل هذه الرؤية.. وإلى هذه الرؤية الإشارة بقوله تعالى:{ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103)
ورؤية مطلقة.. لا محدودة.. وهي رؤية يصاحبها التنزيه والتعظيم.. ولكن الحقائق ـ مع ذلك ـ تنكشف عندها انكشافا أعظم من انكشاف البصر، وإلى هذه الرؤية الإشارة بالأحاديث التي نصت على ذلك.
قال الشاب: أهناك انكشاف أعظم من انكشاف البصر؟
قال جعفر: البصر قد يخطئ.. وقد يشوه المرئي.. وقد يتوهم الخيال حقيقة.. ولكن البصيرة لا يصيبها كل ذلك.. فأنوار الحقائق تحول بينها وبين ذلك.
قال الشاب: فالموقن لا يرى إلا الأنوار إذن؟
قال جعفر: أنوار الحقائق.. لا أنوار الخيال، فالخيال قد يصور لك من الأنوار ما يكون حجابا بينك وبين الحقائق.. فتنشغل بالحس عن المعنى([10]).
قال الشاب: أهكذا كان يقين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قال جعفر: لا يمكن أن يعبر عن أحوال رسول الله إلا رسول الله.. فلا يعرف النبي إلا نبي([11]).. وما نحن إلا ظلال باهتة تحاول أن تقتفي آثار رسول الله.
قال الشاب: فكيف عرفت أن لرسول الله من اليقين ما ذكرت؟
قال جعفر: لكل حقيقة أثرها.. والآثار كلها تدل على أن اليقين الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يجتمع لأحد كاجتماعه له.
قال الشاب: فحدثني عن الآثار لأعرف من خلالها الحقائق.
قال جعفر: سأذكر لك موطنين تتزلزل فيهما أقدام الرجال، لا يمكن أن يثبت فيهما إلا من أوتي من اليقين ما تندك له الجبال.
قال الشاب: فما أولهما؟
قال جعفر: الخوف.. فأول امتحان لليقين هو الخوف.. فالخائف الذي زلزل الخوف قلبه ينسى الحقائق التي لا تعمر إلا عقله.
قال الشاب: فاضرب لي مثالا على ذلك من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال جعفر: لاشك أنك تعلم أن من أخطر المواقف التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موقف هجرته من مكة إلى المدينة.. حيث تعقبه المشركون يريدون قتله، وأرصدوا لذلك الجوائز الجزيلة.. لكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الشديد لم يهتز له عرق، ولم تصبه أي مخافة.. لقد ذكر الله تعالى حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك، فقال:{ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40)
إن هذا الموقف الشديد لا يمكن أن يقفه إلا إنسان عمر الشعور بحضور الله كيانه كله، فلذلك لم يعد في صدره أي خوف من أي شيء.
قال الشاب: صحيح هذا.. ففي المخاوف قد ينسى أحدنا ما تعلمه من علوم، وما عرفه من معارف.
قال جعفر: وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل حياته.. ففي الطائف التي ذهب إليها رسول الله غريبا بين قوم قساة لا يعملون عقلا، ولا يعرفون رحمة.. ومكث معهم عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، حتى قالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له صفين، وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء.
في ذلك الموقف الشديد لم يلتجئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا إلى الله.. وعند لجوئه إلى الله لم يتعوذ إلا من غضب الله عليه.. لقد راح يقول بخشوع لا يمكن تصوره: (اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِى، وقلة حيلتى، وهوإني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنى؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِى؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)
وهكذا حينما أراد بعضهم أن يغتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. في ذلك الموقف الشديد لم تصب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي رعدة خوف.. بل أيقن بأن الله الذي وعده أن يعصمه سيعصمه لا محالة.
عن جابر أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قفل معهم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرة، فعلق بها سيفه، ونمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، قال: إن هذا اخترط علي سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله الله الله.. ولم يعاقبه وجلس([12]).
وهكذا في غزوة الأحزاب.. تلك الغزوة التي أخبر الله تعالى عن شدتها على المؤمنين، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} (الأحزاب)
في ذلك الحين لم يزلزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل بقي في ثباته كالطود الأشم، بل في ذلك الموقف الشديد كان يبشر أمته بما يفتح الله عليها من فتوح..
وهذا موقفه صلى الله عليه وآله وسلم حين شكا إليه الصحابة ما أصابهم من اضطهاد في مكة المكرمة.. فعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه)
ثم قال بعدها مطمئنا له: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)([13])
وهكذا في غزوة حنين حينما انهزم الناس.. في ذلك الحين ثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ يصيح في الناس:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب
ثم أخذ يقول: (اللهم نزل نصرك)، قال البراء: ولقد كنا إذا حمى البأس نتقى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن الشجاع الذى يحاذي به([14]).
قال الشاب: فما الموطن الثاني الذي يتجلى فيه اليقين؟
قال جعفر: الفاقة والحاجة.. ألا ترى الذي أصابته الفاقة والحاجة كيف يحرص على أي شيء لديه ليدخره وقت حاجته؟
قال الشاب: ذلك صحيح..
قال جعفر: ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أصابته جميع أنواع الحاجات.. بل كانت تمر الأهلة متواترة، ولا يوقد في بيته نار([15]).. ومع ذلك كان كالريح المرسلة لا يمسك دينارا ولا درهما، ولا طعاما ولا ثوبا.. وكل ذلك يقينا منه بما عند الله.
وقد ورد في الحديث أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما عندي شئ أعطيك، ولكن استقرض، حتى يأتينا شئ فنعطيك، فقال له رجل: ما كلفك الله هذا، أعطيت ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف، قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الرجل، حتى عرف في وجهه، فقال المستقرض: يا رسول الله، بأبي وأمي أنت، فأعط، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (بهذا أمرت)([16])
وفي حديث آخر: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بلال، فوجد عنده صبرة من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال؟) فقال: تمر أدخره، فقال: (ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ انفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا)([17])
فهذه النصوص تبين أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يلاحظ قلة الرزق التي في يده، أو في يد المؤمنين، ولكنه كان ينظر إلى أن صاحب العرش العظيم الذي لا تساوي كل أموال الدنيا أمامه شيئا لا يعجز أن يسد فاقته إن هو احتاج.
وهو في ذلك يشبه صاحب بنك ضخم ممتلئ بجميع أصناف الأموال، فهو لا يخشى على جيبه إن فرغ ما فيه من مال، لأنه يعلم أن لديه من العوض ما يملأ جيبه وجيوب غيره جميعا.
قال الشاب: وعيت هذا، ولا أحسبني أحتاج إلى أدلة عليه، فكل حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشير إليه.
قال جعفر: فاعبر من ظاهر الأدلة إلى بواطنها، ومن صورها إلى خبرها.. فلا ينتفع بمعرفة الحقائق إلا من عبر منها ولها، كما لا يدخل الجنة إلا من جاوز السراط.
سكت الشاب قليلا، ثم قال: أرى من الناس من لا يعتبرون العارف إلا من تحدث عن الفناء في الذات.. ويعتبرون كل ما ذكرته فناء في الأفعال أو فناء في الصفات.. وكل ذلك حظ السالكين، لا حظ العارفين.
ظهر الغضب على وجه جعفر، وقال بقوة: كذب من حدثك عن الذات.. كذب من حدثك عن الذات.. لا يعرف الله إلا الله.. لا يعرف الله إلا الله.. { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } (الزمر: 67)
ليس حظنا من معرفة الله إلا معرفة الأسماء.. ألم يسمعوا الله وهو يقول:{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (الأعلى:1)، ألم يسمعوه، وهو يقول:{ وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى:15)، ألم يسمعوه، وهو يقول:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (لأعراف:180)، ألم يسمعوه، وهو يقول:{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (طـه:8)
قال الشاب: ولكنهم تحدثوا في ذلك.. وأشبعوا كتب المعارف حديثا.
قال جعفر: تلك شطحات الأحوال.. لا حقائق المعارف.. وأولئك سالكون وقف بهم سلوكهم في تلك الأحوال، فانحجبوا بها عن حقيقة الحال.
قال الشاب: إن القائلين بها عارفون لهم حظهم في المعرفة.
قال جعفر: لقد مررت بتلك الأحوال.. وعرفت مصادر ما قالوا.. إنهم خلطوا أحوالهم بمعارف اكتسبوها من أهواء الفلسفات، فلذلك حجبوا بها عن الحقائق الجليات.
قال الشاب: عرفت الركن الأول من أركان العرفان.. وهو تجلي الحقائق في البصائر، كتجلي المبصرات للأبصار.. فما الصحبة؟
قال جعفر: لا يمكنك أن تصاحب من لا ترى.. ولا يمكنك أن تصاحب من لا تسمعه ولا يسمعك..
قال الشاب: تقصد أن ثمرة اليقين الصحبة؟
قال جعفر: أجل.. فمن عرف الله لم يحد إلا أن يصحبه ويلجأ إليه ويستعيذ به ويدعوه ويناجيه.. ويشعر أنه أقرب إليه من كل شيء.
لقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا.. إن الذى تدعونه أقرب الى أحدكم من عنق راحلته)([18])
قال الشاب: لقد رأيت بعض من هجم بهم اليقين على حقيقة العلم يصيحون ويزعقون.. بل إن بعضهم قد يتفوه بكلام يستعيذ منه إن هو عاد إلى حاله.. وبعضهم يزعم أن هذا من مظاهر العرفان.. ومن لم يحصل له هذا لا حظ له من اسم العارف.
قال جعفر: ذلك الشطح، وتلك الطامات.. وأحسن ما يقال فيها إن كان أصحابها من الصادقين أنها دليل على نقص حالهم، فهم كبدوي لم ير في حياته إلا الخيام دخل مدينة صغيرة.. فهاله ما فيها.. وصاح معبرا عن ذلك..
أما الكمل.. فهم أرفع من أن يصيحوا بمثل ذلك، وقد روي أن الجنيد قال لمن سأله عن سر سكونه وقلة اضطراب جوارحه عند السماع:{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } (النمل:88)
وأما الكامل الأعظم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد ذكر الله حاله بعد أن عاين ما عاين في رحلة المعراج، فقال:{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (لنجم:17)
قال الشاب: إن من ذاق شيئا لابد أن يعبر عن تأثيره فيه.. ومن صاحب أحدا لابد أن يحفظ حديثه معه.. فحدثني عن صحبة رسول الله لله.
قال جعفر: لقد عبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل)([19])
قال الشاب: لقد خص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصحبة السفر؟
قال جعفر: والدنيا كلها سفر.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)([20])
قال الشاب: فحدثني عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله.
قال جعفر: إنك لن تطيق ذلك.. ولن يطيق أحد في الدنيا ذلك..
قال الشاب: فاختصر لي ما ييسر علي فهم ذلك.
قال جعفر: سأحدثك من ذلك ما يمكن أن ترثه، وينفعك الله به.. ولكنك لن ترثه حتى تندمج فيه بكل كيانك.. فقد ذم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوما بأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم.. فإياك أن يكون حظك من سنة نبيك لسانك.
قال الشاب: فستحدثني عن ذلك الآن؟
قال جعفر: إن مثل هذه الأحاديث لا يمكن أن تلقى في الأسواق.. ولذلك تعال معي إلى الزاوية.. وهناك سأعلمك علوم ما سألته.
خشيت أن يفلت مني، فأسرعت إليه، وقلت: أنا غريب بهذه الديار.. ولدي من الحرص على المعرفة ما لدى هذا الشاب.. ولدي من الأسئلة ما لديه.. لكأنه كان ينطق بلساني عما يكن ضميري.. فهل تأذن لي في صحبتك وصحبته إلى الزاوية؟
قال جعفر: أجل.. يسرني ذلك.. أنت وصاحبك تذكراني بشبابي حين كان البحث عن الإنسان الكامل هو غاية غاياتي، ومقصد مقاصدي.
قلت: عجبا ما تقول.. أأنت أيضا قد لاح لك ما لاح لي البحث عنه؟
قال جعفر: إن كل من عرف حقيقة هذا الوجود.. لابد أن يخطر على باله ما خطر على بالك.. إن الأرواح تتآلف على مثل هذا.. لأن الذي يهديها ليس إلا واحد.
قلت: فهل وجدته؟
قال جعفر: أجل.. إنه محمد.. الإنسان الذي اجتمعت فيه حقائق الإنسان التي أردها الله من الإنسان.
قلت: فستعرفني بمحمد إذن؟
قال: لا يعرف محمدا إلا محمد.. ولكني سأعلمك ـ مع صاحبك ـ بعض ما وصلت إليه عن محمد.. وهو صحبة محمد لله، تلك الصحبة المنطلقة من معرفة محمد بالله.
سرت مع جعفر والشاب إلى الزاوية.. لم أكن أتصور أنها بتلك البساطة.. لقد كانت بناء بسيطا، ليس فيه أي تكلف ولا زخرفة، ولا تطاول.. ولكن روائح الإيمان كانت ـ مع ذلك ـ تفوح من جنباتها، لتملأ ما حولها بأنوار دونها كل الأنوار.
دخلنا الزاوية، فرأينا قوما مجتمعين يرددون بصوت واحد.. وبقلب واحد.. وبهمة واحدة ما ورد عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم من أذكار.
سألت جعفرا، فقلت: من هؤلاء؟
قال: هؤلاء ورثة من ورثة رسول الله.. انشغلوا بالله عما سواه، فملأ قلوبهم بالأنس الذي لا يمكن أن تجده في أي سوق من أسواق الدنيا، ولا ناد من نواديها.
قلت: فمن الذي بعث فيهم هذه الهمة؟
قال: لقد قرأوا قوله تعالى:{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (البقرة:152)، فعلموا أن ذكر الله لهم معلق على ذكرهم له، فلا ينال ما عند الله إلا من وفر في نفسه الاستعداد لتنزله.. فراحوا يوفرون هذا الاستعداد.
وقرأوا قوله تعالى:{ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } (العنكبوت: 45)، فعلموا أن الله لا يريد من العبادات صورها ولا طقوسها وجسومها، وإنما يريد منها ما تحمله من نفحات ذكره، كما قال تعالى:{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج: 37)
وقرأوا قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} (الأحزاب:41)، ً وقوله تعالى:{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (آل عمران: 41)، وقوله تعالى:{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } (البقرة: 200) فعلموا أن التنزلات المعلقة على ذكر الله لن تنال إلا من أدمن على الذكر وأكثر منه.
وقرأوا قوله تعالى:{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:35)، فعلموا أن ذكر الله وامتلاء القلب به هو غاية غايات السالكين، فلهذا انتهت به الآية التي تصف مراتب المؤمنين.
وقرأوا قوله تعالى:{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (لأعراف:205)، فعلموا أن الذكر لن يؤتي ثماره حتى يصاحبه التضرع.. ولن يصاحبه التضرع حتى يمتلئ به القلب والكيان، فلذلك طولب المؤمنون برفع أصوات قلوبهم وخفض أصوات ألسنتهم، فليس الشأن فيما ينطق به لسان الجوارح، وإنما الشأن فيما ينطق به لسان القلب.
وقرأوا قوله تعالى:{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191)، فعلموا أن أكمل الذكر ما صاحبه الفكر، وأن الذاكر الكامل من لا يحجبه حال من الأحوال عن ذكر الله.. فهو يذكر الله على كل حالاته.
وقرأوا قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المنافقون:9)، فعلموا أن أعظم الغبن، وأفدح الخسارة أن ينشغل الإنسان عن ذكر الله بأي شاغل حتى لو كان ماله وولده.
قال ذلك، ثم اقترب بنا من حلقة من الحلقات، أشار إلينا أن نجلس فيها، وجلس معنا، وقد كان المجتمعون في غاية الخشوع والرقة، وكانت الأنوار تحيط بهم من كل جانب، وكانت روائح غريبة تملأ المكان، وكأنها روائح من السماء لا من الأرض.
قال رجل من الحلقة: لقد نصحنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غاية النصح حين اعتبر حياتنا متوقفة على ذكر الله.. لا على ما نتنفسه من هواء، أو نشربه من ماء.. فالماء والهواء يغذيان الطين، ويمدانها بالحياة، أما ذكر الله، فهو غذاء الروح ومددها، ولا حياة لمن لم تحيا روحه.. لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت) ([21])
قال آخر: لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراغبين في جوائز الله عن جوائز الذاكرين، فقال: (لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) ([22])
قال آخر: وأخبر المتنافسين على السبق أنه لا يسبق إلا الذاكرون.. كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له جمدان فقال: (سيروا هذا جمدان، سبق المفردون)، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: (الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) ([23])
قال آخر: وأخبر الفقراء إلى الله من أصحاب الحوائج أنه لا تقضى حاجاتهم بشيء كما تقضى بذكر الله، فقال: (إن لله ملائكة، يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم عز وجل وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، قال: فيقول عز وجل: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا، قال: فيقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة، قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، قال: فيقول الله تعالى: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم)([24])
قال آخر: وأخبر الفقراء إلى الله الذين لا يريدون من الله إلا الله أن الله يذكرهم حالما يذكرونه، وكيفما يذكرونه، فقال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)([25])
قال آخر: وأرشد من يريد من الأشياء عصارتها، ومن الطرق أخصرها إلى ذكر الله.. لقد جاءه رجل، فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)([26])
قال آخر: وأرشد من يريد أن يظفر بالخير بجميع أصنافه، وبالصلاح بجميع أنواعه، وبالحسنات بجميع أشكالها إلى ذكر الله، فقال: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى)([27])
قال آخر: وأرشد..
أشار إلينا جعفر أن نقوم، فقمنا، فسألته: من هؤلاء؟.. وما بالهم يجلسون هذه الجلسة، ويتحدثون هذه الأحاديث؟
قال: هؤلاء أحد اثنين: مريد سالك يخاطب نفسه ويرغبها في ذكر الله، ويعدها بما تطلبه النفوس من أغراض.. وواصل يردد كلام حبيبه صلى الله عليه وآله وسلم ليشرب منه بحسب طاقته، ثم يروي المريدين.
قلت: لو أن هؤلاء انضم إليهم ثالث لحسن الحال؟
قال: ومن الثالث؟
قلت: العامة البسطاء الذين قست قلوبهم.. فلو أنهم سمعوا مثل هذه الأحاديث للان منهم ما كان قاسيا.
قال: كل من يجلس هذه الحلقة يسمى عندنا مريدا.. فلولا أن الله أراده ما جلس هذا المجلس، واختاره على ما سواه من المجالس.
سرنا في الزاوية إلى ركن من أركانها قد جلس فيه قوم كالأولين.. ولكنهم كانوا يقرأون أحاديث.. ثم يرددون بعدها أذكارا يستغرقون فيها.
أشار إلينا جعفر أن نجلس إليهم، فجلسنا، من غير أن يشعروا بنا.. كانوا يرددون بصوت روحاني عذب هذه العبارة (سبحان الله وبحمده)، ويمتزجون فيها ويطربون، ثم فجأة يتوقفون، ويتحدث أحدهم، ويقول: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبه أبي ذر: (ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟)، ثم يقول له: (إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده)([28])
قال آخر: إن سبحان الله والحمد لله جمعتا كل ما يحتاجه العارف من معرفة الله.. وجمعتا كل ما يحتاجه السالك للتحقق بمعرفة الله..
فـ (سبحان الله) تنزيه لله عن كل ما لا يليق به.. والمريد السالك هو الذي يبدأ فينزه الله عن كل ما لا يليق به، فلا يمكن أن يتحقق بمعرفة الله من يحمل في وعيه بذور التشبيه والشرك التي تدنس محل الإيمان من قلبه.
و(الحمد لله) إثبات الكمالات لله بشمولها وتمامها.. فلا يمكن أن يعرف الله من لا يعرف كمال الله.
قال آخر: فيا نفوسنا المملوءة بالدنس تطهري بهذه الوصفة التي وصفها أعرف العارفين بالله لتقطعي من جذورك كل ما يحجبك عن الله من سوء المعرفة بالله.
ما إن قال ذلك حتى راحت الجماعة تعاود الكرة.. وتلهج بـ (سبحان الله وبحمده)، وتستغرق فيها.
تركناهم، وانتقلنا إلى جماعة أخرى كانت تردد بصوت روحاني عذب (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، ثم تتوقف هي الأخرى، ويتحدث أحد أفرادها، ويقول: لقد كان أعرف العارفين بالله يقول عن هذا الذكر: (لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)([29])
وكان يقول: (يصبح على كل سلامى([30]) من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة)([31])
وروي أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور([32]) بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة)([33])
قال آخر: سبحان الله تنزيه لله.. ولا يعرف الله من لم ينزهه.
قال آخر: والحمد لله ثناء على الله.. ولا يعرف الله من لم يدرك أنه لا يستحق أحد ثناء إلا الله.. فكل خير من الله وبالله.
قال آخر: ولا إله إلا الله توحيد الله.. ولا يعرف الله من لا يعلم أنه لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا حاكم ولا معبود ولا من اكتمل له الوجود إلا الله.
قال آخر: والله أكبر.. ولا يعرف الله من لم يعتقد أن الله أكبر من أن يدرك، وأكبر من أن يعرف، وأكبر من أن يحاط به.. ولذلك لا تطلب همة العارف العالية إلا الله.. ومن ترك الأكبر ونزل إلى الأصغر انحدر إلى أسفل سافلين.
قالوا ذلك، ثم انصرفوا إلى ذكرهم يرددونه بروحانية وسمو دونها كل روحانية ودونها كل سمو.
تركناهم، وانصرفنا إلى حلقة أخرى سمعناهم يلهجون بهذا الذكر (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)، ثم يتوقفون، ويقول أحدهم: لقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: علمني كلاما أقوله؟ قال: قل: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)، قال: فهؤلاء لربي، فما لي؟ قال: قل: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني)([34])
قال آخر: لقد جمعت هذه الكلمات الطيبات كل المعارف.. فمن عرف وحدانية الله وعظمة الله.. فأثنى على الله ونزهه واستعاذ من حول نفسه وقوته ليعتمد على حول الله وقوته، فقد اكتملت معرفته.
قالوا ذلك، ثم انصرفوا إلى ذكرهم يغيبون فيه..
تركناهم، وانصرفنا إلى جمع آخر كان يردد بألحان عذبة: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر).. انتظرنا حتى توقفوا ليذكر أحدهم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان([35])، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)([36])
قال آخر: انظروا قيمة هذه الكلمات الطيبات اللاتي جمعن المعرفة الكاملة بالله.. إنها وصية أبينا إبراهيم، فاحرصوا عليها، فلم نر إبراهيم إلا ناصحا.
تركناهم وانصرفنا إلى حلقة أخرى كانوا يرددون (لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم قال أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما على الأرض أحد يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كفرت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر)([37])
قال آخر: إن هذه الوصفة المعرفية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصل بين التنزيه والتعظيم والتوكل.. فلا يتوكل على الله إلا من وثق في الله.. ولا يثق في الله إلا من عرف عظمة الله.. ولا يعرف عظمة الله إلا من جمع في معرفته بين التنزيه والتعظيم، ولم ينحجب بإحداهما عن الأخرى.
تركناهم، وانصرفنا إلى جمع آخر كان يردد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، ثم توقفوا ليقول أحدهم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)([38])
قال آخر، وقد فتح كتابا ينظر إليه: لقد اعتبر العارفون هذا الذكر مفتاح التوكل على الله.. وقد عبر أبو حامد الغزالي عن سر ذلك، فقال: (اعلم أن التوكل من باب الإيمان، وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل، والتوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل، وعمل هو الثمرة، وحال هو المراد باسم التوكل، فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل وهو المسمى إيمانا في أصل اللسان، إذ الإيمان هو التصديق، وكل تصديق بالقلب فهو علم، وإذا قوى سمى يقينا، ولكن أبواب اليقين كثيرة، ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبنى عليه التوكل، وهو التوحيد الذى يترجمه قولك (لا إله إلا الله وحده لا شريك له)، والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك (له الملك)، والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك (وله الحمد)، فمن قال (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل، أعنى أن يصير معنى هذا القول وصفا لازما لقلبه، غالبا عليه)([39])
تركناهم، وانصرفنا إلى فئة أخرى كانت تردد بصوت جميل عذب (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، ثم يحدثهم أحدهم بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)([40])
ثم يحدثهم آخر عما فتح عليه من فهمها..
تركناهم، وانصرفنا إلى فئة أخرى كانت تردد (لا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم يحدثهم أحدهم عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة)([41])، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة)([42])
وهكذا مررنا على الحلقات جميعا نسمع منها الذكر بألوانه وأصنافه.. ونسمع من الفهوم المستوحاة من الذكر ما يمتلئ به القلب والعقل وجميع الوجدان مما لم ألحظ مثله في أوراد أي دين من الأديان، ولا ملة من الملل.
لقد شعرت أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم استطاع أن يعبر عن المعارف العظيمة التي تنقطع للوصول إليها أعناق الرجال، وتشح دون التعبير عنها أودية البلاغة في جمل قصيرة يسيرة لذيذة، تحمل من روعة البيان والموسيقى ما ينسجم مع معانيها الرفيعة.
وشعرت في نفس الوقت بالفرق العظيم بين تلك الألغاز والشطحات التي قد يتفوه بها من يدرك معانيها ومن لا يدرك وبين التعابير النبوية الواضحة التي ينهل منها الخواص والعوام كل بحسب طاقته، وبحسب همته.. فالماء واحد.. والشارب متعدد.
ما انتهينا من الطواف على تلك المجالس حتى أذن المؤذن لصلاة العصر.. فلم أجد نفسي إلا واقفا مثل المسلمين أصلي كما يصلون، وأقرأ كما يقرأون.. ولم أدر حينها هل كنت مسلما كالمسلمين.. أم كنت مجرد ممثل يحاول أن يمارس كل طرق الاحتيال للوصول إلى غايته.. ولكن الذي أدريه أني بعد استماعي لكل تلك الأذكار صار لي من الشفافية الروحية ما أدرك به قيمة الصلاة.. وكأن تلك الأذكار الراقية ممهدات تعلمنا كيف نتصل بالله، وكيف نتأدب بين يديه.
بعد صلاة العصر.. رأيت القوم يجبتمعون في حلقة واحدة.. فسألت جعفرا: ما هذا.. كيف تجمعوا، وقد كانوا مفترقين؟
قال: لقد كانوا مفترقين بحسب الذكر العام.. فالذكر العام لا وقت محدد له، ولا صيغة تحكمه، فهو نوع من الدواء يتناسب مع حاجات القلوب المختلفة.. فمن غلب عليه التشبيه أكثر من التسبيح.. ومن غلب عليه الشرك أكثر من التهليل.. ومن أراد أن يملأ قلبه بعظمة الله أكثر من التكبير.. ومن أراد أن يملأه بفضل الله عليه وعلى كل شيء أكثر من الحمد.. ومن أراد أن يحصل كل ذلك جمع كل ذلك.. ومن أراد غير ذلك وجد في الأذكار النبوية ما يشفي غليله، ويسد حاجته.
قلت: لقد رأيت ذلك في تلك التعابير الجميلة التي كانوا ينطقونها..
قال: ويداوون قلوبهم بها.. فلا تداوى القلوب إلا بذكر الله.
قلت: حدثتني عن سر افتراقهم.. فما سر اجتماعهم؟
قال: هم إخوان في الله.. يجتمعون على ذكر الله.. ويفترقون على ذكر الله.. وهم الآن يجتمعون ليؤدوا ذكرا من الأذكار الخاصة التي سن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوقاتا معينة، أو أحوالا معينة، لا تتحقق السنة إلا بأدائها فيها.
قلت: فما الوقت والحال الذي اجتمعوا عليه؟
قال: هو أحد الوقتين اللذين أمر الله بمراعاتهما، فقال:{ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الأحزاب:42)، وقال:{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الانسان:25)، وقال:{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (قّ:39)، وقال:{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (الروم:17)
وهو أحد الوقتين اللذين أخبر الله عن مراعاة الصالحين لهما، فقال:{ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } (الأنعام: 52)، وقال:{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} (صّ:18)
قلت: أكل هذه النصوص تتحدث عن هذا الذكر الخاص.. لقد كنت أحسبه مجرد نافلة لم ترق لأن يذكرها القرآن، ويرفع شأنها؟
قال: الغفلة هي التي تفرق بين النوافل والفرائض.. أما العارفون فالفرائض والنوافل عندهم سواء.. فكل محبوب لله عندهم فرض لازم.
قلت: والمكروه والحرام؟
قال: من أحب لله أبغض لله.. ومن فعل لله ترك لله.. ولذلك فالمكروه والحرام عند أهل الله سواء ما دام كلاهما لا يرضيان الله.
بعد أن التف الجمع، واكتملت الحلقة، أخذ الجمع بصوت واحد يردد (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)
قال لي جعفر: إن هؤلاء يستنون في هذا بما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضره شيء)([43])
قلت: ولكن المرء قد يقولها، ومع ذلك يصيبه الضرر؟
قال: من قالها بيقين كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلن يصيبه أي ضرر.
قلت: فلنفرض أن إنسانا عجوزا يحتضر ظل يقولها بيقين أتراه يعمر عمر نوح؟
قال: ولم يعمر عمر نوح؟
قلت: ألم تذكر أنه لا يصيبه ضرر؟
قال: بلى.. لقد قلت ذلك..
قلت: وهل ينسجم الموت مع الضرر؟
قال: قد يكون الموت هو دواء الضرر.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدعوا بالموت ولا تتمنوه، فمن كان داعيا لابد فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرا لي)([44])
لقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الموت خيرا.. كما اعتبر الحياة خيرا.. وطلب أن ندعو الله بأن يحيينا في أحد الخيرين: خير الحياة، أو خير الموت.
قلت: سلمت لك بأن الموت قد يكون خيرا.. والدليل على ذلك أن من البشر من يلجأ إلى الانتحار ليهرب من آلام الحياة.. ولكن هناك أضرار أخرى غير هذا.. هناك المرض والفقر.. وأشياء كثيرة.. فهل ترى أن في ذلك الذكر ما يكفي لصد هذه الأضرار جميعا؟
قال: أجل.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قلت: أنا أسألك عن سر ذلك.
قال: الضرر درجات.. والنفع درجات.. فقد يضرك ما تظن أنه ينفعك، وقد ينفعك ما تظن أنه يضرك.. ألا ترى أنه لا نفع لمريض استبد به الداء مثل جراحة يقوم بها جراح ماهر من أجل استئصال جميع آثار الداء؟
قلت: بلى..
قال: فالله تعالى بحكمته ورحمته قد يجري على حياتنا بعض هذه العمليات البسيطة التي تترفع بها أرواحنا، وتتطهر بها قلوبنا، وتصفو بها نفوسنا.. ولا يمكن أن نعتبر هذه العمليات ضررا.. بل هي نفع محض.
بعد أن انتهى الجمع من ترديد تلك العبارة انتقلوا إلى عبارة أخرى يرددونها بصوت عذب جميل (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)
قال لي جعفر: إن هؤلاء يستنون في هذا بما ورد في الحديث من أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، قال: (أما لو قلت حين أمسيت (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) لم تضرك)([45])
قلت: أهذا كذاك؟
قال: هو مثله.. وهو لا يعني ـ عند السالكين ـ الذين لا يطلبون من الله إلا الله إلا تربية قلوبهم على اللجوء إلى الله، فالله الذي خلق الخلق هو الحصن الحصين الذي لا يجد المتحصنون حصنا أوثق منه.
قلت: ومعناه الآخر([46])؟
قال: هم يحترزون بما أمروا أن يحترزوا به.. وهم واثقون من أن أوثق حرز هو ما علمهم إياه أعرف العارفين بالله.
قلت: ألا يمكن أن يؤدي هذا إلى التساهل في التحصن؟
قال: لا.. بل إن العارفين يفهمون من هذا إرشادا إلى التحصن.
قلت: كيف فهموا ذلك؟
قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث يخبرنا أن من خلق الله من يريد الشر بخلق الله.. وفي ذلك تمام التحذير.. لأن من يردد هذه الصيغة صباح مساء سيمتلئ بمعناها، وسيعيش به..
بعدها انتقل الجمع يقرأ يصوت عذب حنون سور الإخلاص والفلق والناس، فسألت جعفرا عن ذلك، فقال: إن هؤلاء يطبقون سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فعن عبد الله بن خبيب قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة، نطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي لنا، فأدركته، فقال: قل.. فلم أقل شيئا، ثم قال: قل.. فلم أقل شيئا، ثم قال: قل.. قلت: يا رسول الله! ما أقول؟ قال: قل:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء)([47])
قلت: فما سر ذلك؟
قال: إن هذه السور الكريمة تحمل الحقائق العالية التي تربط المؤمن بالله، وتملؤه ثقة في حفظ الله.. ولذلك ناسب أن تذكر في المحال المختلفة ليتزود منها المسلم ما يصله بربه، ويتزود منها كذلك ما يقطعه عن كل ثغرة قد يتسرب الشيطان ومن معه من المشعوذين إليه من خلالها.
قلت: أرى أن كل هذه الأذكار تتفق حول درء المخاوف وأسبابها.
قال: أجل.. فلا يمكن للحياة أن تستقر لخائف.. ولا يمكن لخائف أن يستقر في نفسه معرفة.
بعدها انتقل الجمع يردد يصوت عذب حنون (سبحان الله وبحمده) وفي يد قائدهم سبحة من ذوات المائة يعد بها الذكر، فسألت جعفرا عن ذلك، فقال: إن هؤلاء يطبقون ما ورد الأمر به في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال حين يصبح وحين يمسي (سبحان الله وبحمده) مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه)([48])
قلت: لقد سمعت هذا الذكر في الأذكار العامة.
قال: لأن هذا الذكر جمع جميع المعارف الإلهية.. فلذلك تراه في كل محل، بل إن الله تعالى أخبرنا أن كل شيء في الكون يلهج به، قال تعالى:{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (الاسراء:44)، وأخبر عن لهج الملائكة ـ عليهم السلام ـ بهذا النوع من الذكر، فقال:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)
بل إن القرآن يأمر بمراعاة هذا الذكر في كل المحال، وخاصة في الصباح والمساء، قال تعالى:{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} (طـه:130)، وقال تعالى:{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر:55)، وقال تعالى:{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (قّ:39)، وقال تعالى:{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (الطور:48)، وقال تعالى:{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} (النصر:3)
قلت: وعيت هذا، فما سر المائة؟
قال: ألا ترى الطبيب يصف للدواء مواقيت ومقادير؟
قلت: بلى.. فما علاقته بهذا؟
قال: إن هذه الأذكار وصفات ربانية من أعرف العارفين بالله تعالج القلوب لتجعل محال صالحة لمحبة الله والأنس به والثقة فيه والتوكل عليه.. وهي لن تتحق بكل ذلك إلا إذا أدمنت على ذكر الله.. ألا ترى أن الله لم يأمر بالإكثار من شيء كما أمر بالإكثار من ذكر الله؟
قلت: ولماذا المائة بالضبط؟
قال: لقد اعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المائة حدا أدنى.. فلذلك ذكر أنه (لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه)
قلت: فلم المائة؟
قال: العشرة تدل على الكمال، وعشر العشرة يدل على كمال الكمال.. وللأعداد عند ربك أسرار لا نطيق فهمها.. فلذلك نسلم لله.. ونسلم لأعرف العارفين بالله.
قلت: لقد كان محمد يعقد بأصابعه، وأرى هؤلاء يستعملون مسبحة.. أهم يخالفون سنة رسول الله؟
قال: سنة رسول الله هي ذكر الله.. والصلاة لله.. أما المسبحة فهي وسيلة تعين على ذكر الله.. وشريعة أعرف العارفين بالله أوسع من أن تضيق بمثل هذه الوسائل.
قلت: ولكن هناك..
قاطعني، وقال: دعنا من الجدل، ومن المجادلين.. فذكر الله أوسع من أن يضيقه أحد من الناس.. لقد قال الله تعالى في صفة الذاكرين:{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } (آل عمران: 191).. وقد فهم العارفون من هذا أن ذكر الله مطلوب في كل الأوقات، وفي كل الحالات، وبكل الوسائل، وبجميع الصيغ.
انتقل الجمع يقول بصوت واحد ممتلئ بالرحمانية (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء([49]) لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)، فسألت جعفرا عنه، فقال: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا الذكر هو سيد الاستغفار، وقال في الجزاء الذي أناطه الله به: (من قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)([50])
قلت: لم كان هذا سيد الاستغفار، ولم خص بهذه الأوقات؟
قال: العارف يسير إلى الله بجناحين: مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس، وقد جمع هذا الذكر والدعاء بينهما جميعا([51]).. ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي) مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
قلت: كيف كان هذان جناحان.. ومقامات السلوك كثيرة؟
قال: لأن مشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلسا.. وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالا ولا مقاما، ولا سببا يتعلق به، ولا وسيلة منه يمن بها.. بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف، والافلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه، فانصدع، وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته.
أخذ الجمع يردد بصوت واحد ممتلئ خشوعا: (أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر)
سألت جعفرا عن هذا، فقال: إن هؤلاء يطبقون سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا أمسى هذا الدعاء، ويقوله كذلك إذا أصبح([52]).
قلت: فما سره؟
قال: إن أعظم ما يملأ الإنسان طغيانا شعوره بأنه يملك ويحكم ويتصرف في ملك الله كما تملي عليه نفسه وأهواؤه.. وأعظم ما يملأ الإنسان عبودية لله وتواضعا بين يديه شعوره بأن الله هو الملك وهو المالك وهو الحاكم وهو المدبر لكل شيء..
إن هذه المشاعر الرقيقة هي التي تجعله مطمئنا متواضعا ممتلئا أدبا.. وهذا الذكر يذكر المؤمن صباح مساء بهذه المعارف الجليلة.. ليبني منها سلوكا صالحا، ويبني منها بعد ذلك اتصالا بالله مالك كل شيء والمتصرف في كل شيء، ليأخذ منه ما يريد من غير أن يتذلل لغيره، أو يسكن لغيره.
قلت: إن محمدا في هذا الذكر يستعيذ من الكسل.
قال: لأن الإرادة هي مفتاح السلوك إلى الله.. والإرادة مفتاحها المجاهدة.. وليس هناك شيء يقف بين العبد والسلوك إلى ربه كالكسل.. كما أنه ليس هناك من يقف بين الإنسان وجميع مصالحه مثل الكسل.
ولهذا وصف الله المنافقين به، فقال:{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} (النساء:142)
أخذ الجمع يردد بصوت واحد (اللهم بك أمسينا، وبك أصبحنا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير)، فسألت جعفر عنه، فقال: هذا الذكر وما تضمنه من دعاء سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوله إذا أصبح، وإذا أمسى، ويعلمه لأصحابه([53]).
قلت: فما سر هذا الذكر؟
قال: ألا ترى المعاني الجليلة التي يتضمنها هذا الذكر.. إنه يقول لذاكره: أنت لست أنت الذي يقوم وحده.. بل أنت عبد القيوم الذي قام كل شيء بقيوميته..
وهو بذلك يمللؤه سعادة وأمنا.. كما يملؤه تواضعا وأدبا.. بل إن كل خلال الخير تتضمنها هذه المشاعر الراقية..
ولو أردت تشبيها يقرب لك صورة هذا.. ولله المثل الأعلى.. فإن مثاله مثال ابن له أب غني قوي ملك، وهو مع ذلك في منتهى الحزم بحيث لا يسمح حتى لولده أن يتجاوز حدوده، فإن هذا الولد بتذكره والده وما عنده من القوة يمتلئ أمنا.. وبتذكره غناه يمتلئ غنى، ويمتلئ بعدها كرما.. وبتذكره حزمه يمتلئ أدبا.. وهكذا تتنزل عليه مواهب الصفات بقدر ما اكتسب من المعارف.
أخذ الجمع يردد بصوت واحد (اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا، أو أجره إلى مسلم) ([54])
فسألت جعفر عنه، فقال: إن هذا الذكر يرجع بالأمر إلى أصله.. فالكون ليس قائما بذاته.. ولم يولد من فراغ.. بل هو من إبداع خلق مبدع..
قلت: إن هذه حقيقة لا شك فيها.. فما الحاجة إلى ترديدها كل حين؟
قال: لأن الغفلة تحمل بسيفها على الحقائق فتذبحها أو تجعلها مشلولة لا حراك لها.. وبذلك تأتي هذه الأذكار لتعيد لها الحياة.. وتعيد للكون صورته الجميلة التي ولد بها وعاش بها.
قلت: إن هذا الذكر ضم إلى الاستعاذة من الشيطان الاستعاذة من شر النفس.
قال: لأنه لولا مراعي النفوس ما استطاع الشيطان أن يوسوس.. إن الشيطان لا يمكن أن يؤدي وظيفته إلا أذا وجد نفسا راغبة أو راهبة، ووجد معها شجرة كالشجرة التي نهي عنها آدم.
قلت: هل يمكن للنفس أن تجر السوء إلى نفسها؟
قال: لا يمكن لأحد أن يجر سوءا لأحد أعظم من السوء الذي تجره النفس على صاحبها.. لقد قال الله تعالى يذكر هذا:{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة:9)، وقال:{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة:57)، وقال:{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} (البقرة:90)، وقال:{ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (آل عمران:69)، وقال:{ وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} (النساء:107)، وقال:{ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام:24)
أخذ الجمع يردد (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)
سألت جعفر عنه، فقال: هذا الدعاء سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على قوله صباح مساء([55]).
قلت: فما سره؟
قال: من عرف أن بيد الله كل مقاليد الأشياء لجأ إليه، وطلب منه، ولم يفتقر لغيره.
قلت: أرى العفو والعافية يرددان في هذا الدعاء.
قال: لأنه لا حياة بلا عفو ولا عافية.. إن العفو يضمن لك الأمن من عذاب الله، والعافية تجعلك محفوظا في حفظ الله.
قلت: فهذا دعاء الحفظ إذن؟
قال: من لم يحفظه الحفيظ تربص به كل شيء، وقضى عليه.
أخذ الجمع يردد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)
قلت: لقد سمعت مثل هذا في الأذكار العامة.
قال: لأن هذا الذكر أصل أصول المعرفة.. فلذلك يحتاج المؤمن إلى ترديده كل حين ليقهر به جنود الغفلة.. ولذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يوصي به، فعنه قال: (من قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير كان له عدل رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح)([56])
قلت: أكل هذه الأجور معدة لذاكر هذا؟
قال: ألا تعلم أن الله شكور حليم يجازي بالحسنة الواحدة الحسنات الكثيرة.. لقد قال تعالى يذكر ذلك:{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:261)، وقال:{ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (التغابن:17)، وقال:{ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الفرقان:70)، وقال:{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (العنكبوت:7)، وقال:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الاحقاف:16)
أخذ الجمع يردد: (اللهم إني أعوذ بك من فجاءة الخير، وأعوذ بك من فجاءة الشر)، فسألت جعفر عنه، فقال: لقد حدث أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو بهذه الدعوات إذا أصبح، وإذا أمسى: (اللهم إني أعوذ بك من فجاءة الخير، وأعوذ بك من فجاءة الشر)([57])
قلت: فما سره؟.. وكيف يستعاذ من الخير؟
قال: من رحمة الله تعالى بنا أنه بنى الكون على مقادير متدرجة مترتبة في مراتب متناسقة يؤدي بعضها إلى بعض.. فالله مع قدرته العظيمة خلق السموات والأرض في ستة أيام، قال تعالى:{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (لأعراف: 54).. ولهذا فإن الكون بهذه المراحل الست حتى وصل إلى ما وصل إليه.. وهكذا في كل الأمور.
قلت: ولكن ما خطر المفاجأة؟
قال: الاندحار أو الانبهار..
قلت: لم أفهم.
قال: إذا ألمت بك المصائب دفعة واحدة من غير مقدمات اندحرت أمامها.. وقد لا تصبر عليها.. وإذا نزلت بك النعم دفعة واحدة انبهرت.. وقد يؤدي بك الانبهار إلى الطغيان.. ألا ترى كيف انبهرت حضارتهم في بدايتها بما فتح عليها من خزائن العلم.. فراحت تؤرخ العلم بدل الله؟
قلت: ذلك صحيح.. ولكنهم سرعان ما اكتشفوا مبلغ الخطأ الذي وقعوا فيه.
قال: فما سره؟
قلت: تسارع الفتوح.
قال: وذلك عينه ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفجاءة.. فالخير الذي يأتيك فجأة قد يطغيك، كما أن الشر الذي يأتيك فجأة قد يدحرك، ويملأ قلبك بالوساوس.
أخذ الجمع يردد (اللهم إنك أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغى، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا يهلك، كل شئ هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون التصور، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار ونسخت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما أحرمت، والدين ما أشرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله رؤوف رحيم، أسألك بنور وجهك الذي أشرقت به السموات والأرض، بكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك، أن تقبلني بهذه القراءة، أو في هذه العيشة، وأن تجيرني من النار بقدرتك)
سألت جعفر عنه، فقال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يردد هذا الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى([58]).
قلت: أراه دعاء رقيقا يحوي معارف جليلة.
قال: أجل.. إن العارف يحلق عند ترديده لهذا الدعاء في سموات من المعرفة والمحبة لا يمكن التعبير عنها.. وإن المريد بترديده لهذا الدعاء يقطع كل العلائق والعوائق التي تريد أن تحول بينه وبين الاتصال بمولاه.
أخذ الجمع يردد (أمسينا وأمسى الملك لله الواحد القهار، الحمد لله الذي ذهب بالنهار، وجاء بالليل ونحن في عافية، اللهم هذا خلقك قد جاء، فما عملت فيه من سيئة فتجاوز عنها، وما عملت فيه من حسنة فتقبلها، وضعفها أضعافا مضاعفة، اللهم إنك بجميع حاجتي عالم، وإنك على نجحها قادر، اللهم أنجح الليلة كل حاجة لي، ولا تزدني في دنياي، ولا تنقصني في آخرتي)
سألت جعفر عنه، فقال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا الدعاء إذا أمسى، وإذا أصبح([59]).
قلت: فما سره؟
قال: هو الرجوع إلى الله واللجوء إلى الله.. حتى لا ينحجب المؤمن بصباحه أو مسائه عن ربه.. وهو بذللك الدعاء الذي يستغرق الحاجات يملأ المؤمن بالطمأنينة والسكينة والأمل.. فيقبل على الحياة، وهو يعلم أنه في حمى إله رحيم يتكفل بحاجاته ومطالبه، فيحققها له أوفى ما يكون التحقيق.
بعد أن ردد ذلك الجمع الطيب تلك الأذكار الخاشعة، انصرف كل إلى سبيل من السبل.. وكان من بينهم جمع انصرفوا إلى شيخ جلس في ركن من أركان الزاوية، وقد كان ذلك الجمع يحمل حقائب تدل على كونهم على أهبة سفر.
سرت مع جعفر حيث ساروا، فرأيناهم يجتمعون إلى شيخ يعلمهم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله في سفره..
قال الشيخ: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله في كل أحواله.. وفي السفر الذي تتشعب فيه أودية الإنسان ولطائفه كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجتمع على ذكر الله ودعائه ومناجاته..
ومما حفظت لنا السنة في هذا المجال ما حدث به أمير المؤمنين وباب مدينة العلم علي عندما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا قال: (اللهم بك أصول، وبك أجول، وبك أسير)([60])
وحدث ابن عباس عن سنته صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، فقال: كان إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج في السفر قال: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك الضبنة في السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعث السفر، كآبة المنقلب، اللهم اقبض لنا الأرض، وهون علينا السفر)([61])
وحدث آخر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج إلى سفر قال: (اللهم بلغ بلاغا يبلغ خيرا، ومغفرة منك ورضوانا، بيدك الخير، إنك على كل شئ قدير، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم هون علينا السفر، واطو لنا الأرض، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب)([62])
وحدث آخر قال: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سفرا قط إلا قال حين ينهض من جلوسه: (اللهم بك انتشرت، وإليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم أنت رجائي، اللهم اكفني ما أهمني، وما لا أهتم له، وما أنت أعلم به مني، وزودني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير حيث ما توجهت)([63])
قال رجل من الجمع: فما سر هذه الأذكار؟
قال الشيخ: في هذه الأذكار لباب المعارف وثمراتها.. ولن أستطيع.. ولن يستطيع أحد من الناس أن يحصي ما في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحقائق والمعاني الجليلة.. ولذلك يشرب منها كل واحد ما أطاق، أو ما هو بحاجة إليه.
قال آخر: إني أشعر أن في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم أنت الصاحب في السفر) لذة عظيمة.. فما أجمل أن يصاحب المسافر ربه.
قال الشيخ: أجل.. ونعم ما قلت.. فإن أكثر ما يؤلم المسافر تغيبه عمن تعود صحبتهم.. فلذلك نصحنا صلى الله عليه وآله وسلم أن نقول هذا لنذهب بكل ألم.. فمن اكتفى بصحبة الله لم يحتج إلى غيره.
قال آخر: وأنا أشعر بالطمأنية التي يحملها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأدعية (والخليفة في الأهل)، فإن المسافر لا يؤلمه شيء كما يؤلمه خوفه على أهله من أن يصيبهم مكروه بعده.
قال آخر: وأنا أشعر بالقيمة التي يحملها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم هون علينا السفر، واطو لنا الأرض، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر)، فإن المسافر لا يؤلمه شيء كما تؤلمه مشقة السفر.. فلذلك لجأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله في تهوينها عليه.
قال آخر: وأنا أشعر أن في ذلك التوجه الرقيق من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه ما يملأ النفس طمأنينة وثقة، فتقدم على ما تقدم عليه في عزيمة كاملة وتوكل تام.
قال الشيخ: وقد حدث الرواة عن الصفة التي كان يركب بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المراكب التي كتب له أن يركبها، والأذكار التي كان يقولها حينها.. ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر حمد الله عز وجل، وسبح، وكبر ثلاثا، ثم قال: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعد الأرض، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال)، وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: (آيبون عابدون، لربنا ساجدون)([64])
قال رجل من الجمع: فما سر ذلك؟
قال الشيخ: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا إلى التأدب مع الله، ومع خلق الله.. فالمؤمن عندما يركب الدابة لا يركبها، وهو يتصور أن ركوبها وإذلالها بذلك حق له، وإنما يركبها باسم الله، وبتسخير الله.. وكأنه يقول لها بأدب وتواضع: اعذريني أيتها الدابة فأنا لا أركبك بنفسي.. ولكني أركبك لأن الله أذن لي أن أفعل ذلك.. والله شكور حليم، وسيجزيك عن توطئة ظهرك لي خير الجزاء.
قال رجل من الجمع: لقد ذكرت أن أول ما يفعله صلى الله عليه وآله وسلم عند ركوبه هو التسبيح والتكبير..
قال الشيخ: نعم.. فلا خير في عمل لا يصحبه التسبيح والتكبير.. ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي بتلك التسبيحات والتكبيرات، بل كان يشغل لسانه في كل سفره بذلك.. وقد روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجيوشه كانوا (إذا علوا الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سجدوا فوضعت الصلاة على هذا)([65])
وحدث أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا علا نشزا من الأرض يقول: (اللهم لك الشرف على كل شرف، ولك الحمد على كل حال)([66])
قال رجل من الجمع: إن المسافر قد يتعرض للمخاوف في سفره.. فهل أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء في درء تلك المخاوف، وملأ القلب بالأمن والطمأنينة؟
قال الشيخ: أجل.. وما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدع حاجة من الحاجات إلا وبلغها.. ألم تسمع الله، وهو يذكر حرصه على تعليم أمته كل ما ينفعها، لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128)
وفي هذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول مخاطبا الأرض، وما قد تحمله من المخاوف: (يا أرض: ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما دب عليك، أعوذ بالله من شر كل أسد، وأسود، وحيه، وعقرب، ومن شر ساكن البلد، ومن والد وما ولد)([67])
قال رجل من الجمع: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقضي بهذا على خرافات كثيرة كانت تنتشر، ولا زالت.. وقد أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى:{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (الجـن:6)([68])
قال آخر: إن المسافر لا بد أن يحط عصا الترحال.. فهل أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيء في ذلك؟
قال: أجل.. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد الذاكرين.. وكما كان يبدأ سفره بذكر الله كان ينهيه بذكره..
ومما روي في ذلك ما ورد في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى قرية يريد دخولها قال: (اللهم بارك لنا فيها ثلاث مرات، اللهم ارزقنا جناها، وحببنا إلى أهلها، وحبب صالح أهلها إلينا)([69])
ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن يدخل قرية لم يدخلها حتى يقول: (اللهم رب السموات السبع وما أظللت، ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت ورب الرياح وما ذرت إني أسألك خير هذه القرية، وخير أهلها وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها)، ثم يقول لأصحابه: (اقدموا باسم الله) ([70])
ومنها: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تزل منزلا في سفر أو دخل بيته لم يجلس حتى يركع ركعتين([71]).
ومنها: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أنزل منزلا لم يرتحل منه حتى يودعه بركعتين([72]).
قال رجل من الجمع: يا شيخنا.. نحن الآن نزمع على سفر.. فعلمنا ما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم في وداع المسافر.
قال الشيخ: لقد وردت أحاديث جليلة في ذلك.. وهي تبين تلك الروحانية العميقة التي كانت تحكم مجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو مجتمع يجتمع لله، ويفترق لله.. ولذلك لا يعرف من كلمات الوداع إلا الكلمات التي تصله بالله.
قال الرجل: فحدثنا عن بعض ما ورد من ذلك؟
قال الشيخ:لقد حدث رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودع رجلا، فقال: (زودك الله التقوى، وغفر لك، ويسر لك الخير حيث ما كنت)([73])
وحدث آخر قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يودعنا ـ وفي رواية عنه ـ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حاجة لي فأخذ بيدي، وقال: (أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك)([74])
وحدث آخر قال: لما عقد لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قومي أخذت بيده فودعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (جعل الله التقوى رداءك، وغفر ذنبك، ووجهك للخير حيث ما توجهت)([75])
وروي أن غلاما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني أريد هذه الناحية للحج، قال: فمشى معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع رأسه إليه، فقال: (يا غلام زودك الله التقوى، ووجهك في الخير، وكفاك الهم)([76])
وروي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: (عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف)، فما ولى الرجل قال: (اللهم اطوله البعيد، وهون عليه السفر)([77])
وجاء آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد سفرا فزودني قال: (زودك الله التقوى)، قال: زودني قال: (وغفر ذنبك)، قال: زودني، بأبي أنت وأمي، قال: (ويسر لك الخير حيث ما كنت)([78])
وكان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسلم على من عاد من سفر.. ومما روي في ذلك ما ورد في الحديث أن غلاما حج، فلما قدم سلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع رأسه إليه، وقال: (يا غلام قبل الله حجك، وغفر ذنبك، وأخلف نفقتك)([79])
قال رجل من الجمع: فحدثنا عن أسرار ما ذكرته من سننه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب.
قال: إن هذه الآداب تبين بعض تطبيقات الروحانية الاجتماعية([80]) التي جاء الإسلام لترسيخها.. فالعلاقات بين المسلمين علاقات في الله.. وقد ورد في الحديث عن أبى الدرداء قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال لى يا عويمر اجلس نتذاكر ساعة، فنجلس فنتذاكر، ثم يقول: (هذا مجلس الايمان.. مثل الإيمان مثل قميصك بينا إنك قد نزعته إذ لبسته وبينا إنك قد لبسته إذ نزعته والقلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانها)([81])
ولهذا، فإن كل هذه الآثار تدور بين ثلاثة أمور: نصائح يزود بها المسافر، وهي نصائح تربطه بالله، وتدعوه إلى التمسك بحبله.. أو أدعية توجه إلى الله ليحقق لهذا المسافر حاجاته.. أو هي طلبات من المسافر أن يدعو الله للمقيم..
قال آخر: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأدعية..
أشار إلي جعفر أن نسير خارج الزاوية لحاجة له.. فسرت معه.. وتركنا الجمع مع الشيخ يسألونه ويجيبهم.
سألت جعفر عن هؤلاء.. وعن أهل هذه الزاوية، فقال: إن هذه الزاوية بيت من بيوت الله، ليس لها من دور إلا تعليم الإيمان.. وتربية القلوب عليه.
قلت: لا أرى في هذه الزاوية محال لتعليم الفقه أو العقيدة أو غيرها من العلوم الإسلامية..
قال: لذلك محاله من المدارس والمعاهد والجامعات.. وهي محال قد يختلف الناس فيها.. ولكن هذا المحل خصوصا لا يختلف أي مؤمن فيه.. فهو محل لربط القلوب وجمعها على الله.. ولا أحد يخالف في ذلك.
إن هذه الزاوية تضم طوائف مختلفة وفرقا متباينة يغذي بعض المغرضين الصراع بينها، ولا محل يصلح لاجتماع قلوبها مثل هذه الزاوية..
إن هذه الزاوية تضم الجعفري والزيدي والإباضي والظاهري والمالكي والشافعي والحنفي والحنبلى والمعتزلي والأشعري والماتريدي.. وتضم إلى جنبهم الطرق الصوفية المختلفة.. والحركات بمختلف توجهاتها.. فالكل لا يجتمع في محل كما يجتمع في هذا المحل..
قلت: فكيف ظهر لكم أن تؤسسوها؟
قال: نحن لم نؤسسها.. نحن جددناها فقط.. أما مؤسسها، فهو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فهو الرسول الذي دعانا إلى التآخي في الله.. وكلمة التآخي في الله لا تتحقق إلا في ظلال ذكر الله.
أشار إلى ناحية في الزاوية كان يجتمع فيها قوم من الذاكرين غابوا في ذكرهم عن جميع ما حولهم، وقال: أتبصر هؤلاء؟
قلت: أجل.. أراهم قد غابوا في ذكرهم عن كل ما حولهم.
قال: إن هؤلاء الذي تراهم جمعوا جميع فرق الأمة وطوائفها، ومع ذلك لا ينكر بعضهم على بعض، ولا يؤذي بعضهم بعضا..
قلت: فما سر ذلك؟
قال: من عرف مولاه، فشغل لسانه بذكره، وقلبه بحبه، وعقله بالتعرف عليه، ونفسه بالتأدب بين يديه، لن يفكر فيما يفكر فيه البلهاء الغافلون..
قلت: فهل ابتدع هؤلاء هذه الجلسة، أم هم مقتدون فيها بسنة من سنن محمد؟
قال: ما كان لمثلهم أن يبتدع شيئا.. كل ما يفعله أهل هذه الزاوية وراثة ورثوها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم..؟
قلت: فما سندهم في هذا؟
قال: لقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن أجلس مع قوم يذكرون الله عز وجل من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل)([82])
خرجت مع جعفر من الزاوية.. ولم أشأ أن أسأله عن وجهتنا.. فسار بي حتى وصلنا إلى السوق.. فقال في مدخلها بروحانية عميقة: (باسم الله اللهم إني أسألك خير هذه السوق وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها يمينا فاجرة أو صفقة خاسرة)، فسألته عن هذا الدعاء، فقال: لقد كان كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا إذا دخل السوق([83]).
قلت: فما سره؟
قال: العارف بالله هو الذي يرى أن الفاعل الوحيد في الكون هو الله([84]).. فلذلك يسأله أن يفيض عليه من كل خير يحتاجه، ويقيه من كل شر يتربص به.
سرنا داخل السوق، فرأيته يسلم على كل من لقيه.. فسألته عن ذلك، فقال: السلام من أسماء الله.. والعارفون بالله ينشرون هذا الاسم في كل المحال، ويفشونه بين كل الناس، اقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وائتمارا بأمره.. ففي الحديث: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبع: بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس ونصر الضعيف وعون المظلوم وإفشاء السلام وإبرار القسم)
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)([85])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)([86])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار)([87])
سكت قليلا، ثم قال: لقد جمع صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الكلمات جميع خيرات الآخرة والدنيا، فإن الإنصاف يقتضي أن يؤدي إلى الله تعالى جميع حقوقه وما أمره به، ويجتنب جميع ما نهاه عنه، وأن يؤدي إلى الناس حقوقهم، ولا يطلب ما ليس له، وأن ينصف أيضا نفسه، فلا يوقعها في قبيح أصلا.
وأما بذل السلام للعالم، فمعناه لجميع الناس فيتضمن أن لا يتكبر على أحد، وأن لا يكون بينه وبين أحد جفاء يمتنع من السلام عليه بسببه.
وأما الإنفاق من الإقتار فيقتضي كمال الوثوق بالله تعالى والتوكل عليه والشفقة على المسلمين([88]).
سرنا في السوق، فكان يكثر من قول (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير)، فقلت: أراك تردد هذا الذكر.. أباعتباره من الأذكار العامة التي تقرأ في كل المحال، أم باعتباره من الأذكار الخاصة التي تقال في هذا المحل خصوصا؟
قال: أقوله للاعتبارين.. أما الاعتبار الأول فقد علمته.. وأما الاعتبار الثاني، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير: كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة)([89])
قلت: لم اختلف أجرها العام عن أجرها الخاص؟
قال: إن السوق محل غفلة عن الله.. وقد يكون محلا لمعاصي كثيرة.. ولذلك كان ذكر الله فيه مذكرا بالله.. وفي التذكير بالله ما يرفع الغفلة، ويملأ النفس بالورع عن المعصية.
سار بي جعفر إلى بيته المتواضع الذي كان في ضاحية من ضواحي القدس، وقد كان بيتا متواضعا بسيطا، ولكن روائح الإيمان كانت تفوح من جنباته كما يفوح العطر من الحقول المزهرة.
فاستأذن على أهل بيته، فأذنوا له، فدخل برجله اليمنى، وقال: (اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا)، ثم قال: (الحمد لله الذي كفاني وآواني والحمد لله الذي أطعمني وسقاني والحمد لله الذي من علي أسألك أن تجيرني من النار)([90])، ثم سلم على من استقبلنا من أولاده.
ثم التفت إلي، وقال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ما رأيته مني.. فقد كان يبدأ بالاستئذان، ثم يدخل برجله اليمنى، ويقول ما سمعت من الدعاء، ثم يسلم على أهله([91])..
وقد ورد في القرآن الكريم الأمر بالسلام على الأهل حال الدخول، قال تعالى:{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (النور: 61)، وقد رود في الحديث في فضل السلام على الأهل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة كلهم ضامن([92]) على الله عز وجل: رجل خرج غازيا في سبيل الله عز وجل فهو ضامن على الله عز وجل حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله تعالى حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله سبحانه وتعالى)([93])
وورد في فضل ذكر الله عند دخول البيت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء)([94])
قلت: عرفت هذا.. فما سره؟
قال: إن الذي يصحب الله، ويصحب ذكر الله في كل المحال لا ينبغي أن يحرم بيته من بركات ذكر الله.. فالبيت هو مستقر الإنسان ومحل راحته وسكينته.. ولا سكينة في غير ذكر الله.. ولا راحة في غير مناجاة الله.
عند دخولنا البيت استقبلنا ابن صغير([95]) بأدب، ثم قال لجعفر: لقد أكملت اليوم ـ يا جدي ـ حفظ كل ما طلبته مني من أذكار الصلاة، فإن شئت أن تمتحنني فيها كما امتحنتني في غيرها فعلت.
نظر إلي جعفر، وقال: إن أذن ضيفنا فعلت.. فلا ينبغي للمضيف أن يتفرغ لنفسه ولأهله، ويترك ضيفه.
قلت: بل يسرني ذلك.. فأنا ما صحبتك إلا لذلك.
قال جعفر: فقد أذن لنا ضيفنا، فهلم حدثنا عن أنواع أذكار الصلاة.
قال الصبي: للصلاة ثلاثة أنواع من الأذكار لا تكمل إلا بها.. منها ما نص العلماء على فرضيته، ومنها ما اكتفوا بالقول بسنيته.. لكن العارفين لا يفرقون بين الأمرين، فكل ما وصلهم عن نبيهم يعتقدونه فرضا لازما.
قال جعفر: فما هي؟
قال الصبي: أذكار تقال قبل الصلاة تمهد لها، وأذكار تقال أثناءها تتم بها، وأذكار تقال بعدها تكملها.
قال جعفر: فحدثنا عن التي تقال قبلها.
قال الصبي: لقد شرع الله لذلك ما يسمى بالإقامة..
قال جعفر: فما سرها؟
قال الصبي: ألا ترى الداخلين على الملوك كيف ينبهون إلى مراعاة الأدب قبل دخولهم.
قال جعفر: بلى..
قال الصبي: فهكذا الصلاة.. إن الإقامة، وقبلها الأذان تقول للمصلي: إياك أن تعتقد أن هناك من هو أكبر من مولاك الذي تناجيه.. ثم تقول له: إنه إله واحد.. وإن الذي علمك هذه الصلاة هو نبيك ورسول ربك.. ثم تذكره بالإقبال على الصلاة بهمة وعزيمة وصدق.. باعتبارها مفتاح الفلاح.. ثم تعود لتذكره بعظمة الله ووحدانيته ليدخل الصلاة خالي البال من غير مولاه.
قال جعفر: فبم يدخل الصلاة؟
قال الصبي: لا يحل أن يدخلها بغير تكبير.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)([96])
قال جعفر: فما سر ذلك؟
قال الصبي: لا يحل لقلب يجلس بين يدي الله.. ولسان يناجي الله.. أن يكون في ذهنه غير الله.. فالله أكبر من أن يشرك معه غيره.
قال جعفر: فماذا يقول بعدها؟
قال الصبي: المستعجل أم غير المستعجل؟
قال جعفر: كلاهما..
قال الصبي: أما المستعجل.. فيبدأ مباشرة بكلام ربه.. فأعظم ما يناجى به الله كلامه.
وأما غير المستعجل.. فقد سن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلمات تملأ قلبه بمعاني التعظيم التي تهيئه للصلاة..
قال جعفر: تقصد ما يسمى بدعاء الاستفتاح؟
قال الصبي: أجل.. فقد ورد في النصوص الكثيرة ما يدل عليه.
قال: جعفر: فما صيغته؟
قال الصبي: للمستعجل أم لغير المستعجل؟
قال جعفر: لكليهما.
قال الصبي: من صيغه ما حدث به علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (وجَّهتُ وجهيَ للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمِرتُ وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئَها لا يصرف عني سيئَها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشَّرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوبُ إليك)([97])
قال جعفر: فما سرها؟
قال الصبي: هذا دعاء التسليم المطلق لله.. ولن يكون المسلم مسلما حتى يوجه وجهه وصلاته ونسكه ومحياه ومماته لله.. فإن فعل ذلك وأدني من مولاه كان أول ما يخطر على باله ذنوبه.. فيسارع للاستغفار منها.. ثم يخطر على باله العصمة منها، فيسأل الله من الخلق ما يقيه سيئها، ويحققه بحسنها.
قال جعفر: أحسنت في هذا.. وأنا لا أرى إلا ما رأيت.. فحدثني عن الركوع.
قال الصبي: من امتلأ بمعاني القرآن التي قرأ في قيامه سينحني لا محالة تواضعا لربه.
قال جعفر: لقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا وإني نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظِّموا فيه الرَّبَّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فَقَمِنٌ أن يُستجاب لكم)([98]).. فما سر النهي عن القراءة في الركوع والسجود؟
قال الصبي: كلام الله يعلو ولا يعلى عليه.. وكلام الله لا يقرأ إلا في أرفع الأماكن وأشرفها..
قال جعفر: فما الأذكار التي سنها لنا أعرف الخلق بالله لنقولها في الركوع؟
قال الصبي: أشهرها (سبحان ربي العظيم)، وهي مقتبسة من القرآن الكريم، ففي الحديث: لما نزلت:{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}(الواقعة:74)، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اجعلوها في ركوعكم)، فلما نزلت:{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } (الأعلى:1)، قال: (اجعلوها في سجودكم)([99])
وعن حُذيفة بن اليمان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا ركع: (سبحان ربي العظيم)، ثلاث مرات، وإذا سجد قال: (سبحان ربي الأعلى)، ثلاث مرات([100]).
ومن الصيغ غير هذه الصيغة ما حدث به علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ركع قال: (اللهم لك ركعتُ وبك آمنتُ ولك أسلمتُ، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقَلَّتْ به قدمي لله رب العالمين)([101])
قال جعفر: فما سرها؟.. ولم تنوعت؟
قال الصبي: الركوع محل تسليم وتعظيم لله.. فناسب أن يذكر في الركوع ما يتناسب مع ذلك.
قال جعفر: فما عدد التسبيحات؟
قال الصبي: للمستعجل أم لغير المستعجل؟
قال جعفر: لكليهما.
قال الصبي: أما المستعجل فيكفيه ما ورد في النصوص من الأعداد المختلفة التي تتفاوت حسب حاجته.. وأما غير المستعجل، فله أن يسبح الله ما لان له لسانه.
قال جعفر: فما عدد التسبيحات الواردة في النصوص؟
قال الصبي: عدد التسبيحات في الركوع الواحد لا ينبغي أن تقل عن ثلاث، فهذا هو أدنى التَّمام، إذ لم يُعرف أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قالها مرة أو مرتين([102]).
قال جعفر: أحسنت في هذا.. فحدثني عن الرفع من الركوع([103]).
قال الصبي: من تواضع لله رفعه.. ومن تذلل لله أعزه.. ومن أحنى رأسه لله أمره الله برفعه.. ومن حمد الله سمع الله حمده.
قال جعفر: فما الأذكار التي تقال في هذه الحال؟
قال الصبي: للمستعجل أم لغير المستعجل؟
قال جعفر: لكليهما.
قال الصبي: أما المستعجل.. فقد سنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام وللمنفرد أن يقولا عند الرفع من الركوع (سمع الله لمن حمده)
وأما غير المستعجل، فيمكنه أن يضيف ما ورد في السنة إضافته، ومن ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال:.. وإذا رفع قال: اللهم ربنا لك الحمد، ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شئتَ من شئ بعدُ..)([104])
ومنها ما روي عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: ربنا لك الحمدُ ملءَ السموات وملءَ الأرض وملءَ ما شئتَ مِن شئ بعدُ، أهلَ الثَّناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيتَ ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ([105])([106])
قال جعفر: فما سر ذلك؟
قال الصبي: من شرفه الله بالوقوف بين يديه امتلأ بفضل الله، فراح يحمد الله على فضله، وهو يعلم أن الله يسمع لمن حمده، ويرضى عمن حمده.
قال جعفر: أحسنت في هذا.. وأصبت.. فحدثني عن السجود.
قال الصبي: في السجود يلتحم المؤمن مع الكون الساجد لله.. وتتحقق عبودية الله في أرفع درجاتها.
قال جعفر: لم؟
قال الصبي: أبى الله إلا أن يقرب من تواضع له.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)([107])، وقال: (.. ألا وإني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمنٌ أن يُستجاب لكم)([108])
قال جعفر: فما سر قرب الساجد من الله؟
قال الصبي: لأن من راغم الشيطان، وراغم نفسه الأمارة بالسوء، ورفع كل الحجب التي تحول بينه وبين مولاه استحق أن يقربه الله.
قال جعفر: فلم سن فيه الدعاء؟
قال الصبي: الدعاء طلب.. والطلب لا يكون إلا من الفقراء والمساكين.. ولا يتحقق العبد بالمسكنة في موضع كما يتحقق به حال سجوده.
قال جعفر: فما تحفظ من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سجوده؟
قال الصبي: لقد أمرنا أعرف العارفين بالله أن نقول حال سجودنا (سبحان ربي الأعلى)
قال جعفر: فما سر ذلك؟
قال الصبي: لا يعرف العبد كمال علو مولاه إلا عندما يكون في أوضع أحوال عبوديته.. وذلك لا يتحقق في محل كما يتحقق في السجود.
قال جعفر: فهل ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير هذه الصيغة؟
قال الصبي: أجل.. منها (سبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائكة والروح)، ومنها (سبحان ذي الجَبَروتِ والمَلَكُوتِ والكِبرياءِ والعَظَمة)
ومنها (اللهم إني أعوذ برضاك من سَخَطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصى ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)([109])
ومنها (اللهم اغفر لي ذنبي كلَّه دِقَّه وجِلَّه وأولَه وآخِرَه وعلانيته وسِرَّه)([110])
ومنها (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شِمالي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، واجعل لي نوراً، أو قال: واجعلني نوراً)([111])
ومنها (اللهم لك سجدت وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه فصوَّره فأحسن صُوَره، فشق سمعَه وبصرَه، فتبارك الله أحسنُ الخالقين)([112])
قال جعفر: فهل يراد من هذه الصيغ الحصر؟
قال الصبي: من الغبن أن ترغب عما ناجى به أعرف العارفين ربه..
قال جعفر: فأنت تنكر على من يترك هذه الصيغ لغيرها؟
قال الصبي: كما أنكر على أصدقائي من التلاميذ الذين يرغبون عن مراجعة دروسهم من كتب أساتذتهم، ويكتفون بكراريس زملائهم.
قال جعفر: لم؟
قال الصبي: التلميذ مهما نجب، فلن يكون كأستاذه.. فكيف إذا ما كان أستاذه نبي الأنبياء، وسيد الأولياء، وأعرف العارفين!؟
قال جعفر: أحسنت في هذا، فأخبرني عن سنته صلى الله عليه وآله وسلم في الجلسة بين السجدتين.
قال الصبي: من تواضع لله رفعه.. ومن عبد الله بالسجود أكرمه الله بالجلوس.
قال جعفر: فما يقول في الجلوس؟
قال الصبي: ما كان يقوله أعرف العارفين بالله.. فقد كان يقول: (رب اغفر لي وارحمني واجْبُرني وارزقني وارفعني)([113])، وكان يقول: (رب اغفر لي، رب اغفر لي)([114])
قال جعفر: فما سره؟
قال الصبي: من أكرمه الله بالجلوس بين يديه أباح له أن يسأله.. وليس من أدب العبد أن يسأل مولاه غير رفع ما يحجبه عنه.. وليس يحجبه عن مولاه غير ذنوبه.
قال جعفر: وحاجاته؟
قال الصبي: من تاب لله بصدق أعطاه الله كل ما يتمنى، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة..
قال جعفر: فحدثني عن التشهُّد.
قال الصبي: تلك جلسة الملوك التي تتاح للعبد بعد ما يتحقق بعبوديته.. فلذلك تختم بها عبوديته.. عن عبد الله قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعلِّمُنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: تعلَّموها، فإنه لا صلاة إلا بتشهد)([115])
قال جعفر: فما كان يقول فيها أعرف العارفين بالله؟
قال الصبي: أقل ما يجزي في التشهد الشهادتان والصلاة على النبي محمد وآله الطيبين.. فإن زاد على ذلك، كان أفضل.
قال جعفر: وما ذاك؟
قال الصبي: منها أن يقول: (بسم الله والاسماء الحسنى كلها لله.. أشهد أن لا إلله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. اللهم صل على محمد وآل محمد. وتقبل شفاعته في أمته وارفع درجته..
وإن قال هذا في التشهد الثاني وجميع الصلوات، لم يكن به بأس، غير أنه يستحب أن يقول في التشهد الأخير: (بسم الله وبالله والاسماء الحسنى كلها لله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. التحيات لله والصلوات الطيبات الطاهرات الزاكيات الرائحات الناعمات الغاديات المباركات لله ما طاب وطهر وزكا وخلص ونما. وما خبث فلغير الله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة. أشهد أن الجنة حق، وأن النار حق. وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، اللهم صل على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، كأفضل ما صليت وباركت ورحمت وترحمت وتحننت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام على جميع أنبياء الله وملائكته ورسله. السلام على الائمة الهادين المهديين. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)
ومن النصوص الواردة في ذلك ما حدث به عبد الله بن مسعود قال: كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقبل علينا بوجهه فقال: إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة فلْيقل: (التحياتُ لله والصلواتُ والطيباتُ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه إذا قال ذلك أصاب كلَّ عبدٍ صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير بعدُ من الكلام ما شاء)([116])
ومنها ما حدث به ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا التَّشهُّد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول: (التحياتُ المباركاتُ الصلواتُ الطيباتُ لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله)([117])
وقد وردت صيغ أخرى للتَّشهُّد غير هذه الصيغ جميعا..
قال جعفر: فما سرها؟
قال الصبي: من أدمن طرق الباب فتح له.. ومن أدب من فتحت له الأبواب أن يحيي من يراه.. ومن فتحت له أبواب الله لم ير إلا أولياء الله.. فلذلك كان من الأدب السلام عليهم، وإرسال التحية الصادقة لهم.. وليس من الأدب أن يبدأ بهم قبل ربه.. فلذلك قدم أعرف العارفين ربه.
قال جعفر: لقد ذكرت في جميع الصيغ التي قرأتها السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الخطاب.. ألا يمكن أن يكون ذلك خاصا بحياته؟
قال الصبي: نعم.. الخطاب لا يكون إلا لحي حاضر.
قال جعفر: فهل ترى تبديلها الآن يصيغة الغياب بدل الخطاب؟
قال الصبي: من كان بعيدا عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم غائبا عنه معتقدا وفاته، فلا حرج عليه أن يخاطبه بصيغة الغياب.. أما من كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيا قريبا حاضرا في قلبه.. فإنه لا يملك إلا أن يخاطبه بما يخاطب به الحي الحاضر القريب([118]).
قال جعفر: هذه التحية.. فهل هناك غيرها؟
قال الصبي: من أدب المؤمن، ومن شكر الله أن يصلي على رسول الله.. فهو واسطة الهداية، وسراج الدلالة..
قال جعفر: فما يقول؟
قال الصبي: لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نقول.. فعن أبي مسعود عقبة بن عامر قال: أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن عنده فقال: يا رسول الله، أمَّا السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا صلَّى الله عليك؟ قال: فصَمَتَ حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله، ثم قال: إذا أنتم صليتم عليَّ فقولوا: (اللهم صلِّ على محمد النبي الأُمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأُمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)([119])
قال جعفر: فما ترى من سر الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله؟
قال الصبي: الصلاة الكاملة هي التي تربطك بالله، وبأهل الله.. وأعظم أهل الله وأقربهم إلى الله هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطاهرون.. فلذلك ينضم المؤمن عند صلاته عليهم بالرفيق الأعلى.. فلا سعادة، ولا كمال إلا بالانضمام إليهم.
قال جعفر: فبم يختم التشهد؟
قال الصبي: من أتيح له مثل ذلك المجلس، فلا ينبغي أن يغفل عن الالتجاء إلى الله والتحصن بالله.
قال جعفر: ممن؟
قال الصبي: من كل من يقف بينه وبين الله، أو بينه وبين السلام الذي ملأ الله به وجوده.
قال جعفر: فما يقول؟
قال الصبي: لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نقول:
ومن ذلك قوله: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخِر فليتعوَّذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرِّ المسيح الدجال)([120])
ومنها (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)([121])
ومنها (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمَغْرم)([122])
قال جعفر: فهل يكتفي بهذا؟
قال الصبي: من كان له حاجة إلى الله دعا بها.. وخير ما دعا العبد ربه به ما علمه إياه أعرف العارفين بالله.. ففي كلماته الدنيا والآخرة.
قال جعفر: فاذكر لي بعض ما ورد في ذلك.
قال الصبي: منها (اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)([123])
ومنها (اللهم بعلمك الغيب وقدرتِك على الخَلْق أَحيني ما علمتَ الحياة خيراً لي، وتوفَّني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمةَ الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قُرَّةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوقَ إلى لقائك، في غير ضرَّاءَ مُضِرَّةٍ ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان واجعلنا هُداةً مهديين)([124])
قال جعفر: فبم يختم المؤمن صلاته؟
قال الصبي: بالسلام.. فلا يمكن للعبد أن يقترب من الله شبرا، ونفسه مملوءة بالصراع..
قال جعفر: لم خص السلام بذلك الوقت؟
قال الصبي: لقد كان العبد عند صلاته في حضرة ربه.. فإذا ما خرج منها استقبله الخلق.. ومن الأدب أن يلقي عليهم التحية.. ولا تحية في الإسلام إلا السلام.
أو أن العبد في صلاته تطهر من الصراع الذي كان يضع الحجب بينه وبين خلق الله، فلذلك يبادر فيلقي عليهم السلام مؤذنا بنهاية الصراع.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى ذلك: (مفتاحُ الصلاة الطُّهور، وتحريمُها التكبير، وتحليلُها التسليم)([125])
قال جعفر: عرفنا ما يقال أثناء الصلاة.. فما يقال بعدها؟
قال الصبي: من امتلأ بمعاني العبودية في الصلاة ظهر أثرها عليه بعدها.. ألا ترى المسافر الذي أقام مدة في بلدة كيف تؤثر عليه طباع أهلها ولهجتهم؟
قال جعفر: بلى.. فما الأثر الذي تتركه الصلاة بعدها.
قال الصبي: كل ما قيل في الصلاة من قراءة وذكر ودعاء والتجاء يكمل بعدها.. ليكمل من الصلاة ما كان ناقصا، ويطهر من القلب ما بقي مدنسا.
قال جعفر: فبم ترى يبدأ المصلي أذكار ما بعد صلاته؟
قال الصبي: بالاستغفار.. فحق الله أعظم من أن يؤدى.. فلذلك يبادر المصلي يستغفر ربه من تقصيره وتفريطه.. عن ثَوْبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ذا الجلال والإكرام..)([126])
قال جعفر: فكيف يستغفر؟
قال الصبي: يصح الاستغفار بأية صيغة من الصِّيغ، كأن يقول (أستغفرُ الله) يكررها ثلاثاً، ففي الحديث عن ابن مسعود قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه أن يدعو ثلاثاً، ويستغفر ثلاثاً)([127])
أو يقول: (أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ وأتوبُ إليه) يكررها ثلاثاً.
أو يقول: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتَني وأنا عبدُك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفرْ لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) يكررها ثلاثاً.
قال جعفر: فما يقول بعد الاستغفار؟
قال الصبي: لقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتحميد والتسبيح ولا حول ولا قوة إلا بالله)([128])
فقد علمنا رسول الله أن نقول هذه الكلمات عقب الصلوات.. لنمتلئ بمعرفة الله.
قال جعفر: فما عددها؟
قال الصبي: للمستعجل أم لغير المستعجل؟
قال جعفر: لكليهما.
قال الصبي: أما غير المستعجل.. فلا عليه أن يذكر الله ما لان به لسانه.. أما المستعجل.. فقد ورد في النصوص أعداد مختلفة يمكن أن يختار منها ما يتناسب مع حاله:
منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سبَّح الله في دُبُر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، غُفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)([129])
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مُعَقِّبات لا يخيب قائلُهن أو فاعلُهن دُبُر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة)([130])
قال جعفر: فهل هناك غير هذا؟
قال الصبي: أجل.. أليس في الصلاة قراءة القرآن؟
قال جعفر: بلى..
قال الصبي: فلذلك من الآثار التي تتركها الصلاة في المصلي أن يقرأ بعض القرآن بعدها.
قال جعفر: فما يقرأ؟
قال الصبي: لقد سن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك سننا:
فمن ذلك ما حدث به أبو أُمامة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من قرأ آية الكرسي دُبُر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)([131])
وعن الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دُبُر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى)([132])
وعن عُقبة بن عامر قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أقرأ المعوِّذات دُبُر كل صلاة)([133])
قال جعفر: فهل هناك غير ما ذكرت؟
قال الصبي: أليس في الصلاة دعاء؟
قال جعفر: بلى.. ودعوات كثيرة.
قال الصبي: فلذلك للمصلي بعد أن ينتهي من صلاته وأذكاره أن يدعو بما شاء.
قال جعفر: فهل سن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيئا؟
قال الصبي: أجل.. وهي كثيرة:
منها ما حدث به معاذ بن جبل من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيده يوماً ثم قال: يا معاذ إني لأُحِبُّك، فقال له معاذ: بأبي أنت وأُمي يا رسول الله وأنا أُحبك، قال: أُوصيك يا معاذ لا تدعَنَّ في دُبُر كل صلاة أن تقول: (اللهم أعنِّي على ذكرِك وشُكرِك وحُسْنِ عبادتِك)([134])
ومنها ما حدث به علي في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فإذا سلَّم من الصلاة قال: اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أسرفتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت)([135])
ومما يقال عقب صلاتي الصبح والمغرب خاصة ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا صليت الصبح فقل قبل أن تُكلِّمَ أحداً: اللهم أجِرْني من النار، سبع مرات، فإنك إن مت من يومك ذلك كتب الله عزَّ وجلَّ لك جِواراً من النار، وإذا صليت المغرب فقل مثل ذلك، فإنك إن مت من ليلتك كتب الله عزَّ وجلَّ لك جِواراً من النار)([136])
ما استتم الصبي حديثه هذا حتى سمعنا صوتا لامرأة من داخل الدار تصيح: يا علي، تعال لتقدم الطعام لجدك ولضيفه، فقد أطلنا عليهم.
قال جعفر: انتظر يا علي.. دعنا نصلي المغرب أولا.. فقد آن أوانه.
صلينا المغرب في مسجد قريب، وصلى معنا الصبي، وكنت أرمقه بطرف بصري، وهو يصلي، فرأيت من الخشوع في صلاته ما لا يضاهيه فيه إلا جده.
اقتربت منه، وقلت: لقد من الله عليك بذاكرة.. فلو سخرتها في العلم.
قال: لا خير في عالم لا يبدأ بالتعرف على مولاه.
قلت: فأنت تريد أن تبدأ بالتعرف على مولاك؟
قال: من لم يتعرف على مولاه عاش في جهل، ولو حفظ جميع دواوين الدنيا.. ومن تعرف على مولاه علمه من العلوم ما لا تستطيع جميع دواوين الدنيا أن تستوعبه، أو تحيط به.
قلت: العلوم كثيرة.. ونحن في عصر كثرت فيه العلوم وتفرعت.
قال: وأنا أتعلمها من مولاي، فأزداد معرفة به، وشوقا له.. فصنعة مولاي تدل عليه.
قلت: وهل هناك من يتعلمها من غيره؟.. الله هو معلم الكل.
قال: هناك الجاحدون الذين يتعلمون الصنعة، وينكرون الصانع، ويبصرون الجمال، وينكرون الجميل، ويتنعمون بالإبداع، ويسبون المبدع.
قال ذلك، ثم انصرف إلى تسبيحاته يقولها بخشوع وفناء.. بعدها رفع يديه إلى السماء يدعو الله.. ثم خرجنا جميعا إلى البيت، حيث نشرت السفرة، وقدم الطعام.
قال جعفر مخاطبا حفيده: حدثنا يا علي عن أذكار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي كان يقولها عند الطعام.
قال الصبي: أذكار الطعام كلها نبع من فيض قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (البقرة:172)
قال جعفر: أذكار الطعام كثيرة.. وهي لا تقتصر على الحمد.. فكيف اجتمعت في هذه الآية؟
قال الصبي: كلها تؤول إلى الحمد.. فالحمد مبتدأها، والحمد منتهاها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها)([137])
قال جعفر: فما أولها؟
قال الصبي: ذكر القلب.. فالقلب الذي يرى النعمة، ويمتلئ بفضل الله عند نظره إليها، لابد أن ينطق لسانه بالشهادة لها بأنها من الله وبالله، وأنه لولا الله ما كانت، ولولا الله ما امتدت اليد إليها.
قال جعفر: تقصد التسمية؟
قال الصبي: إذا امتلأ القلب بمعنى التسمية فاض اللسان بها.. فإذا فاض بها كان منفذا لقوله تعالى:{ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (المائدة: 4)، وقوله تعالى:{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} (الأنعام:118)
وكان منفذا بعد ذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى في أوله فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره)([138])، قال عمر بن أبي سلمة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بني سم الله تعالى وكل بيمينك وكل مما يليك)([139])
قال جعفر: فما سر التسمية، وما سر بركاتها؟
قال الصبي: المسمي يأكل من فضل الله، وبإذن الله.. فلذلك يعطى من بركات الله، ومن خزائن الغيب ما لا تراه الأبصار.
قال جعفر: وغيره؟
قال الصبي: يغير على فضل الله كما يغير اللصوص من غير استئذان، فلذلك، يأكل ولا يشبع، ويدخل في جوفه الطعام، ولا يدخل في جوفه بركته.
قال جعفر: ألك شاهد على ذلك؟
قال الصبي: لقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأكل الطعام في نفر من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما إنه لو سمى لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله فليقل: باسم الله أوله وآخره)([140])
وفي حديث آخر: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع، قال: (لعلكم تتفرقون)، قالوا: نعم، قال: (اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله تبارك وتعالى يبارك لكم فيه)([141])
وحدث بعض الصحابة قال: كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعاما لم يضع أحد منا يده حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيضع يده، ولقد حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدها ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فذهب ليضع يده في الطعام فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يستحل الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه يستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء هذا الأعرابي يستحل بفأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع أيديهما)([142])
وقال آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا ورجل يأكل فلم يسم حتى لم يبق من طعامه إلا لقيمة، فلما رفعها إلى فيه قال: (بسم الله أوله وآخره)، فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: (ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر اسم الله تعالى استقاء ما في بطنه)([143])
قال جعفر: فإذا ما انتهى من الطعام ماذا يقول؟
قال الصبي: ما يقوله من اكتملت له النعمة.
قال جعفر: من اكتملت له النعمة شكر صاحبها.
قال الصبي: ومن ارتوى من فضل الله حمد الله.. ومن حمد الله رضي عنه.. قال تعالى:{ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سـبأ: 13)
قال جعفر: فما يقول؟
قال الصبي: لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك سننا من سنن الهدى.. منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أكل أو شرب فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه)([144])
ومنها ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا فرغ من طعامه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين)([145])
ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرب إليه طعامه يقول (بسم الله)، وإذا فرغ من طعامه قال (اللهم أطعمت وسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت واجتبيت فلك الحمد على ما أعطيت)([146])
ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رفع مائدته قال: (الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا)([147])
قال جعفر: فما سر هذه الأذكار؟
قال الصبي: من حجبه عن الله طعامه لم يزده أكله إلا بعدا.. ومن لم ينس الله وهو يمارس ما تتطلبه حياته الطينية من مطالب لم يزدد من الله إلا قربا.
قال جعفر: ما سر قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي ذكرته: (الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا؟
قال الصبي: إن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يقول لربه ـ بعد أن أنهى أكله ـ: (يا رب.. أما الطعام، فقد انتهيت منه، واكتفيت، ولم أعد بحاجة إليه.. أما أنت يارب.. فإن حاجاتي إليك لا تنتهي)
قال جعفر: فما هي هذه الحاجات؟
قال الصبي: أهل الله لا يطلبون من الله إلا الله.. فالله هو غاية مطالبهم.. ومن كان الله غاية مطالبه أناله الله من الحظوظ ما لا يمكن لأحد أن يحلم به.
بعد أن انتهينا من الأكل، قال جعفر للصبي: إن هذا ضيف حل بنا.. وهو يريد منك أن تعلمه ما يقوله الضيف لمضيفه بعد أكله..
التفت الصبي إلي، وقال: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض من استضافه: (اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم)([148])
قلت ما ذكره.. فقال: وورد في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة)([149])
قلت ما ذكره.. فقال: وورد في حديث آخر أن بعض الناس دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعام، هو وبعض أصحابه، فلما فرغوا، قال: أثيبوا أخاكم قالوا: يا رسول الله، وما إثابته؟ قال: (إن الرجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرابه، فادعوا له فذلك إثابته)([150])
قلت: علمت ما أقول في الأوليين.. فما أقول في هذه؟
قال الصبي: قل ما تحب أن يقال لك، وادع لغيرك بما تحب أن يدعى لك.
بعد أن انتهينا من أكلنا ذهبنا إلى المسجد حيث صلينا العشاء.. ثم عدنا إلى البيت، فوجدنا الفراش قد هيئ لنا.. فأسرعت إلي فراشي ورميت نفسي بعد أن أخذ مني التعب كل مأخذ، فقال جعفر: رويدك.. فليس من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ننام على غفلة.
قلت: فما نقول؟
نادى جعفر على على، وقال: يا علي، أخبر عمك ما يقول إذا أوى إلى فراشه.
قال الصبي: إذا أوى إلى فراشه، فلير نعمة الله عليه به، وليذكر أن للنوم أخا لابد أن يأتي في يوم من الأيام.
قلت: أللنوم أخ!؟.. ما اسمه؟
قال: الموت.. الموت أخو النوم.. لقد قال الله تعالى يجمع بينهما:{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الزمر:42)
قلت: أتريد مني أن أنغص نومي بذكر الموت؟
قال: إنما ينغض نومه من كان موته قنطرة إلى جهنم، أما من كان موته قنطرة إلى الجنة، فإنه يتلذذ بذكره، ويتنعم به.
قلت: وما أدراني أين محلي.. ذلك غيب لا يمكن أن ندركه ما دمنا في هذه الدار؟
قال: ولكنا يمكن أن نمارس من الأسباب ما ندرك به مصيرنا..
قلت: لم أفهم.
قال: إن رب هذه الدار هو رب تلك الدار.. وقوانين هذه الدار هي قوانين تلك الدار.
قلت: وما في هذا؟
قال: أرأيت رجلا ليس له مأوى.. وكان له من الأسباب ما يبني به أحسن مأوى، ولكنه كان يرفض أن يفكر في ذلك.. أترى مصيره بيده، أم بيد غيره؟
قلت: بل هو بيده.. ولو كنت بدله لفكرت ليل نهار، واستعملت كل الأسباب للظفر بالمأوى الذي يأويني.
قال: فما عملته في هذا البيت الذي مصيره إلى الخراب اعمله للبيت الذي لا يصيبه الخراب.
قلت: وما علاقة ذلك بالنوم؟
قال: النائم إذا ذكر الموت.. وأنه قد لا يستيقط من نومه يحاسب نفسه، فيبذل الحقوق لأصحابها، فينام مرتاحا مطمئنا، ليس لغيره عليه خصومة قد يحتج بها عليه عند الله.
قلت: ألما ذكرته علاقة بالأذكار التي كان يقولها محمد عند نومه؟
قال: أجل.. فذكر الله بمثابة البذور.. والبذور لابد لها من تربة صالحة تستنبت فيها..
قلت: أهذه هي تربتها؟
قال: أجل.. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينام حتى يقرأ:{ الم تَنْزِيلُ} (السجدة)، { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك: 1)([151]).. وهي سور تتحدث عن يوم القيامة وما ينتظر العباد فيها.
قلت: أهذا كل ما كان يقرؤه؟
قال: لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ المسبحات([152]) قبل أن يرقد، وقال: (إن فيهن آية أفضل من ألف آية)([153])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الزمر، وبني إسرائيل([154]).
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، فقرأ: (قل هو الله أحد) و(قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس) ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات([155]).
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت فراشه قط إلا قرأ: (قل يا أيها الكافرون) حتى يختمها([156]).
قلت: أكان يكتفي بقراءة القرآن؟
قال: قراءة القرآن أعظم الأذكار.. فأعظم ما ناجى به العبد ربه كلامه.. إن جدي الذي أمامك طالما كان يقول لي: (والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون)([157])
قلت: فهل هناك غير هذا من كلام محمد؟
قال: كلمات كثيرة.. أما المستعجل، فيقول أخصرها، وأما غيره، فيقول ما استطاع أن يحفظ منها.
قلت: فاذكر لي ما روي عنه من ذلك.
قال: من ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اضطجع للنوم يقول: (باسمك ربي وضعت جنبي، فاغفر لي ذنبي)([158])
قلت: فما سره؟
قال: من ذكر ربه استغفر ذنبه.. فحق الله أعظم من أن يؤدى.
قلت: فما كان يقول غير هذا؟
قال: لقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أخذ مضطجعه يقول: (الحمد لله الذي كفاني وآواني، وأطعمني وسقاني، والحمد لله)([159])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول حين يريد أن ينام: (اللهم، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شئ، وإله كل شئ، أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عبدك ورسولك، والملائكة يشهدون، اللهم أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي إثما أو أجره على مسلم)([160])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اضطجع للنوم يقول: (باسمك ربي فاغفر لي ذنبي)([161])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه: (الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وآوانا وكم ممن لا مكافئ له ولا مؤوي)([162])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن ينام قال: ((اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك)([163])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وقال: (باسمك اللهم أحيا وأموات)([164])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وقال: (رب قني عذابك يوم تبعث)، أو قال: ((تجمع عبادك)([165])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا أخذ مضطجعه من الليل: (باسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي وأخسئ شيطاني، وفك رهاني واجعلني في الندى الأعلى([166])([167])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده، ثم قال: (رب قني عذابك يوم تبعث عبادك ثلاث مرات)([168])
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند مضطجعه: (اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وبكلماتك التامات، من كل دابة أنت آخذ بناصيتها، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، اللهم لا ينهزم جندك، ولا يخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك اللهم وبحمدك)([169])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (اللهم أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، اللهم لا أستطيع ثناء عليك ولو حرصت، لكن أنت كما أثنيت على نفسك)([170])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، إله أو رب كل شئ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول، فليس قبلك شئ، وأنت الآخر، فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ، اقض عنا الدين واغننا من الفقر)([171])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشر وأعوذ بك من الجوع ضجيعا)([172])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو عند النوم: (اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شئ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل شئ، أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شئ، وأنت الآخر فليس بعدك شئ، وأنت الظاهر ليس فوقك شئ، اقض عنا الدين، واغننا من الفقر)([173])
قلت: أكل هذا كان محمد يقوله إن أراد أن ينام؟
قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا وغيره.. وللمؤمن الذي يريد أن يتعرف على ربه، ويتصل به أن يقول كل ذلك أو بعض ذلك.. أو يأخذ منها ما يراه مناسبا لحاله.
وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أوى إلى فراشه طاهرا، وذكر الله تعالى حتى يدركه النعاس لم ينقلب ساعة من الليل يسأل الله تعالى فيها خيرا إلا أعطاه إياه)([174])
قلت: ولكن النوم محل راحة.. فكيف تكون فيه كل هذه الوظائف؟
قال: هذه وظائف الراحة.. فلا راحة إلا عند ربك.. ولا سكينة إلا عنده.
قلت: أنا أحيانا أنتبه من النوم.. ثم أعود.. فهل أثر عن محمد في ذلك شيء؟
قال: أجل.. لقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من تعار من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته)([175])
وفي حديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال: (لا إله إلا أنت سبحانك اللهم أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)([176])
قلت: فإني ـ أحيانا ـ يعتريني الأرق، ويحول بيني وبين النوم، فهل ورد في هذا شيء؟
قال الصبي: أجل.. لقد شكا بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شكوت، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السموات السبع وما أظلت ورب الأرضين وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط علي أحد منهم أو أن يطغي علي عز وجل ثناؤك ولا إله غيرك ولا إله إلا أنت)([177])
قلت: فإني ـ أحيانا ـ بعد أن أنام يصيبني من الفزع ما ينغص علي نومي، فهل ورد في علاج هذا شيء؟
قال: أجل.. لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نعالج ذلك بهذه الكلمات: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده ومن همزات الشياطين أن يحضرون)([178])
قلت: فإني ـ أحيانا ـ أرى رؤى ممتلئة شؤما تملأ نفسي من شؤمها، فهل ورد في هذا شيء؟
قال: أجل.. لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سر ذلك، فقال: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ، وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره إن شاء الله).. وفي حديث آخر: (الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكرهه، فلا يحدث به، وليتفل عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شر ما رأى فإنها لا تضره)([179])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها، فليبصق عن يساره ثلاث مرات، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)([180])
قال جعفر: أخبرنا يا علي عن سر ما ورد من أوراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كان يقولها في هذه الأحوال.
قال الصبي: كل الأوراد التي أثرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها وجهة واحدة، وهدف واحد.. إنها مدرسة متكاملة في العرفان، وفي التربية عليه.. والنوم محل صالح من تلك المحال، ولهذا كانت جميع أوراده تعبر عن لجوء المؤمن لربه وخضوعه المطلق له..
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أمته هذا، ففي الحديث: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب بعض أصحابه: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة، واجعلهن من آخر كلامك، قال: فرددتهن لأستذكرهن فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت. قال: لا، وبنبيك الذي أرسلت)([181])
قلت: فقد علم محمد أصحابه ما يقولون أثناء النوم إذن؟
قال: أجل.. كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم كل شيء.. وكانت حياته أمامهم نموذجا معبرا عن كل خير.. فلذلك كانوا يقتدون به في كل أفعاله إلا إذا نهاهم عن ذلك.
ومما ورد في ذلك ما حدث به علي: أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأله خادما، فقال: ألا أخبرك ما هو خير لك منه، تسبحين الله عند منامك ثلاثا وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين، وتكبرين الله أربعا وثلاثين، فما تركتها بعد، قيل: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين([182]).
نمت تلك الليلة كما لم أنم في حياتي.. لقد شعرت بروحانية عميقة تمتد إلى نومي، فتحوله من ممارسة عادية لا تختلف عن أي ممارسة بهيمية له إلى نوم روحاني، تحولت كل رؤاي فيه إلى تلك العوالم الجميلة التي كنت أحلم بها ولا أجدها.
في جوف الليل.. أيقظتني حركات خفيفة.. انتبهت فرأيت جعفر يقوم، ثم يتوضأ، ثم يقف على سجادته، ويكبر، ثم يردد في خشوع: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)([183])
ثم يقول بعدها: (اللهم لك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت)([184])
ثم يقول بعدها: (لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أستغفرك لذنوبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما ولا تزع قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)([185])
ثم يقول: (الحمد لله رب العالمين، القوي)، ثم يقول: (سبحانك الله وبحمده القوي)([186])
وبعدها يستغرق في صلاة طويلة ممتلئة بالروحانية العميقة.. لست أدري كيف نمت بعدها، ولم أستيقظ إلا على أذان الفجر.. وعلى صوت على الصغير، وهو يقول لي: قم يا عم للصلاة.. فقد أذن المؤذن لصلاة الفجر.
مسحت النوم عن عيني، فرأيته بابتسامته البريئة يقول لي: لا تنس ـ يا عم ـ أن تردد ما كان يردده أعرف العارفين بالله إذا استيقظ.
قلت: وما كان يردد؟
قال: لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور)([187])
ويقول: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي، وأذن لي بذكره)([188])
قلت: فما سره؟
قال: النائم المشتاق لا يخطر على باله إن هو استيقظ إلا حبيبه الذي اشتاق إليه.. والنائم الكسلان لا ينهضه من كسله إلا تذكره لحبيبه الذي أذن له بالاتصال به.
لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المعنى، فقال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)([189])
قمت، وتوضأت ثم سرنا جميعا إلى المسجد الذي لم يكن يبعد عن البيت إلا قليلا، بعد أن انتهينا من الصلاة ومن المعقبات التي تلت الصلاة أخذ أهل المسجد جميعا يرددون بصوت واحد أوراد الصباح.. وكان أكثرها مما ذكرته لكم من أوراد المساء..
ومن الأوراد الخاصة التي سمعتها في الصباح (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة القبر)([190])ن
أن
وقد سألت جعفر عنه، فقال: إن هذا النوع من الاستعاذات يجعل المؤمن دائم التذكر للقبر، وللفتن التي تنتظره في قبره.
قلت: إن هذا سيملأ حياة المؤمن بالتشاؤم والكآبة والإحباط.
نظر إلي بابتسامة، وقال: القبر عندنا ليس كالقبر عندكم..
قلت: فما الفائدة من ترديد ذكره كل حين؟
قال: ليرتدع المتجبر عن تجبره، والمتكبر عن تكبره.. ويقبل الكل على تحويل قبورهم إلى روضة من رياض الجنة، وتجنيبها من أن تكون حفرا من حفر النار.
ومن الأوراد التي سمعتها في ذلك الصباح: (أصبحنا وأصبح الملك لله، الكبرياء والعظمة والخلق والليل والنهار، وما سكن فيها لله تعالى، وحده لا شريك له، اللهم اجعل هذا النهار أوله فلاحا، وأوسطه صلاحا، وآخره نجاحا، وأسألك خير الدنيا وخير الآخرة)([191])
ومنها (اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير)([192])
ومنها (أصبحنا والملك والحمد لله، لا شريك له، لا إله إلا هو، وإليه المصير)([193])
ومنها (سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)([194])، وقد سمعتهم يرددونها ثلاث مرات.
ومنها (اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا طيبا، وعملا متقبلا)([195])
ومنها (اللهم أصبحت وشهدت بما شهدت به على نفسك وأشهدت ملائكتك وأولي العلم، ومن لم يشهد بما شهدت فاكتب شهادتي مكان شهادته: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يعود السلام، يا ذا الجلال والإكرام نسألك أن تستجيب لنا دعوتنا، وأن تعطينا رغبتنا، وأن تغنينا عمن أغنيته عنا من خلقك، اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معيشتي، وأصلح لي آخرتي التي إليها منقلبي)([196])
وبعد أن انتهوا من هذه الأذكار التي كانوا يرددونها بخشوع وروحانية عظيمة، جلس كل منهم في ناحية من نواحي المسجد.. وراحوا يستغرقون في وظائف مختلفة بعضهم يقرأ القرآن.. وآخرون يرفعون أيديهم إلى الله يلهجون بالدعاء.. وبعضهم اختار ذكرا من الأذكار تهليلا، أو حمدا، أو تكبيرا، فهو يردده ويستغرق في ترديده..
وهكذا إلى أن طلعت الشمس.. حيث قام كل منهم يصلي ركعتين.. ثم انصرفنا من المسجد، فسألت جعفر عن هذا، فقال: إن هؤلاء يطبقون سنة من سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وهي ذكر الله من صلاة الصبح إلى طلوع الشمس.. وقد وردت أحاديث في فضل الذكر في هذا الوقت، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من عبد صلى صلاة الصبح ثم جلس يذكر الله عز وجل حتى تطلع الشمس الا كان له حجابا من النار وسترا)([197])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن أقعد أذكر الله من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أكبره وأحمده وأهلله وأسبحه، أحب لى من أن أعتق رقبة من ولد إسماعيل، ولأن أذكر الله من بعد صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس أحب الي من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل)([198])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى الصبح في مسجد جماعة، ثم مكث حتى يسبح سبحة الضحى، كان له كأجر حاج، ومعتمر تام له حجته وعمرته)([199])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى صلاة الغداة في جماعة، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام يركع ركعتين، انقلب بأجر حجة وعمرة) ([200])
قلت: فما سر كل هذا الفضل؟
قال: إن الذي يبدأ يومه بذكر الله سيمتلئ عليه يومه بالبركات..
قلت: ولكن ألا ترى أن وقتا كثيرا يهدر بسبب هذا كان يمكن أن يستفيد الناس منه في زيادة الإنتاج؟
قال: لقد انشغل الغافلون بزيادة الإنتاج عن زيادة الإيمان.. فلم يزدهم إنتاجهم إلا تخمة، ولم تؤد بهم التخمة إلا إلى ضنك العيش وضيقه.
قلت: ولكن إشباع الجسد ضرورة؟
قال: لا ينبغي للعاقل أن يهتم بإطعام الفرس، وينسى الفارس.. للدابة طعامها، وللإنسان طعامه.
قلت: فما طعام الإنسان؟
قال: ذكر الله وعبادته والتعرف عليه.. لهذا خلق الإنسان.. أما الأكل والشرب، فليست إلا وظائف محدودة.. لكن الغافلين اعتبروها مقصودة لذاتها.. فراحوا يشبعون أجسادهم، ويجيعون أرواحهم.
***
ظللت أياما في صحبة جعفر.. كنت أردد خلالها ما يردده من أذكار.. وكنت كل حين أسأله عن أسرارها، وعن المعارف المرتبطة بها، وكان كل مرة يفيدني من معانيها ما لم أكن أنتبه إليه، أو أستطيع بمداركي المحدودة أن أدركه.
وقد عرفت خلالها الأعماق التي تحملها تلك الأذكار.. ومدى التأثير الذي تحدثه في كيان من أدمن عليها، وأداها بالصفة التي كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد قارنت تلك الأذكار المملوءة بالمعاني العميقة بما كنت تعلمته من سائر الملل والنحل، فوجدت البون بينها شاسعا.. فأذكار محمد صلى الله عليه وآله وسلم أذكار تعرف بالله، وبكمال الله، وتتعامل مع الله بأدب رفيع، وشفافية عالية..
في يوم من الأيام رأيت جعفر يعد زاده، ويضعه في مزود، ثم يهم بحمله، وكأنه على أهبة سفر، فسألته عن مسيره، فقال: لقد تعودت في مثل هذه الأيام من كل سنة أن أختلي في خلوة يجتمع فيها بعض أهل الله لنتفرغ فيها لذكر الله.
قلت: خلوة!؟
قال: أجل.. ذلك المحل الذي تطهر فيه النفوس، وتعالج القلوب، وتترفع الأرواح.. ذلك المحل الذي لا يذكر فيه إلا الله.
قلت: ولكنك وارث.. والوارث لا يفعل إلا ما فعله مورثه.
قال: والخلوة مما فعلها مورثي.. فهي أحد الوجوه التي ينفذ بها قوله تعالى:{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل:8)، ففي الخلوة تنقطع القلوب إلى الله انقطاعا تاما بصحبة ذكر الله.
قلت: فكيف لم يفعلها محمد إذن؟
قال: ومن ذكر لك أنه لم يفعلها.. لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يخلو بغار حراء يتعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، ففي الحديث: (أولُ ما بُدِىءَ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاءُ، وكان يخلو بغار حِراءَ؛ فيتَحَنَّثُ فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، ويتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء)([201])
دخل علي علينا يحمل كتابا، وهو يقول ـ وكأنه كان يتنصت علينا ـ: لقد قال ابن أبي جمرة في شرحه لهذا الحديث: (في الحديث دليل على أن الخلوة عون للإنسان على تعبده وصلاح دينه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اعتزل عن الناس وخلا بنفسه، أتاه هذا الخير العظيم، وكل أحد امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم له من مقامات الولاية.
وفيه دليل على أن الأوْلى بأهل البداية الخلوة والاعتزال، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في أول أمره يخلو بنفسه.
وفيه دليل على أن البداية ليست كالنهاية، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما بُدِىءَ في نبوته بالمرائي، فما زال صلى الله عليه وآله وسلم يرتقي في الدرجات والفضل، حتى جاءه المَلكُ في اليقظة بالوحي، ثم ما زال يرتقي، حتى كان كقاب قوسين أو أدنى، وهي النهاية. فإذا كان هذا في الرسل فكيف به في الأتباع؟! لكن بين الرسل والأتباع فرق، وهو أن الأتباع يترقون في مقامات الولاية ـ ما عدا مقام النبوة، فإنه لا سبيل لهم إليها، لأن ذلك قد طُويَ بساطه ـ حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا، وهو أعلى مقامات الولاية.
ولأجل هذا تقول الصوفية: من نال مقاماً فدام عليه بأدبه ترقى إلى ما هو أعلى منه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ أولاً في التحنث ودام عليه بأدبه، إلى أن ترقى من مقام إلى مقام، حتى وصل إلى مقام النبوة، ثم أخذ في الترقي في مقامات النبوة حتى وصل به المقام إلى قاب قوسين أو أدنى كما تقدم، فالوارثون له بتلك النسبة؛ من دام منهم على التأدب في المقام الذي أُقيم فيه ترقى في المقامات حيث شاء الله، عدا مقام النبوة التي لا مشاركة للغير فيها بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم)([202])
التفت إلى جعفر، وقلت: إن ما ذكرته قد يعارض بأن ما فعله محمد كان قبل البعثة.. والتكاليف لم تكن إلا بعد النبوة.. فلا يصح الاستدلال بما قبل النبوة من تصرفات.
قال جعفر: أهل الله ينظرون إلى المسألة من زاوية أعمق من الزاوية التي أشرت إليها.. وهم لذلك يعتبرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في كل حياته.
قلت: وما الزاوية التي ينظر من خلالها أهل الله إلى محمد؟
قال: إن رسول الله هو الإنسان الكامل الذي اختاره الله لأعظم وظيفة، و{ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } (الأنعام: 124).. ولو لم يكن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكمال الإنساني قبل البعثة ما كان أهلا لهذه الوظيفة العالية.. وبما أن أهل الله هم طلاب الكمال والقرب، فلذلك أخذوا من رسول الله كل شيء.. لا يسألون في ذلك هل كان قبل البعثة أو بعدها.
قلت: وعيت هذا.. ولكن ألا ترى في الاختلاء انقطاعا عن الحياة.. ومحمد لم يأت إلا ليعمر الحياة؟
قال: ما تقول في خلوة الطالب مع دروسه.. قصده من ذلك أن يصير طبيبا يداوي علل الناس.. ودروسه تقتضي ذلك التفرغ التام.. أهذا خير أم طالب لا يجالس دروسه إلا قليلا، وهو يتصور أن الحياة تحتاج إلى خروجه إلى الناس ومخالطته لهم؟
قلت: لاشك أن الأول أقوم رأيا.. فلا يمكن لطالب علم أن يحصل علومه، وهو منشغل عنها بأي شاغل.
قال: وهكذا السلوك إلى الله وقطع مفاوز النفوس.. إنه يحتاج في أحيان كثيرة إلى خلوة يراجع فيها الإنسان سلوكه، ويداوي قلبه، ويصلح ما بينه وبين ربه.. ولذلك..
قاطع جعفر ابنه، وقال: إن الوقت قد حان للرحيل.. فإن شئت أن تسير معي، فهيا.. فلا يمكن أن تعرف شيئا ما لم تجربه.
قلت: ولا يمكن أن أجرب شيئا دون أن أعلم فائدته، وماذا أعمل فيه.
قال جعفر: أما فائدته فقد علمتها نظريا.. ويمكنك أن تتعلمها عمليا.. وأما الكيفية..
قاطع علي أباه، وقال: فقد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، وذكر منهم (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)([203]).. فليس لمن دخل في الخلوة شغل غير ذكر الله..
سرت مع جعفر إلى ضاحية من ضواحي القدس.. وهناك دخلنا بيتا هو أشبه بالزاوية قد فرشت فيه بعض الفرش التي جلس عليها قوم من الناس كانوا مستغرقين تماما في ذكر الله..
جلسنا معهم نردد ما يرددون..
وقد بقينا كذلك أسبوعا كاملا.. لم يكن لنا من شغل إلا ذكر الله.. ولم نكن في ذلك المحل نمارس من أسباب الحياة إلا ما نضطر إليه.. فلم نكن ننام أو نأكل إلا قليلا..
وقد ذقت في ذلك المحل ـ مع كوني لم أسلم بعد ـ من الأذواق ما لا يستطيع أحد في الدنيا التعبير عنه.
ذات يوم.. وبعد أن امتلأت بمعاني الأذكار، وأدركت سر كمالها وجمالها، سألته أن يعلمني كيف أتصل بالله لأعرض عليه من الحاجات ما لا يمكن أن يعرض على غيره، فقال: لقد ترك لنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك ثروة عظيمة تغطي كل الحاجات، ما دق منها وما جل، وما لا يمكن أن يعرض إلا على الله، وما يمكن أن يعرض على غيره.
قلت: فحدثني عنها.
قال: يمكنك أن تصنفها إلى ثلاثة أصناف.
قلت: فما أولها؟
قال: الاستعاذة.. فبالاستعاذة تلتجئ إلى الله فارا من كل ما تخاف على نفسك منه.
قلت: فما أثر عن محمد في هذا الجانب؟
قال: لقد أثر عنه الكثير.. منه العام المطلق الذي يستغرق الحاجات الكثيرة.. ومنه الخاص المقيد بالحاجات المحدودة.
قلت: فعلمني من علوم ذلك ما أدرك به ما ذكرت.
قال: لقد استعاذ محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أشياء كثيرة، فقد استعاذ من الكسل، وسوء القضاء ودَرْك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجَهْد البلاء، والعجز والهرم والمأثم والمغرم، وشر ما خلق الله، وضَلْع الدَّين وغَلَبة الرجال، وشر الغنى والفقر والقلة والذِّلَّة، وزوال النعمة وتحويل العافية، وفُجاءة النِّقمة وجميع سخط الله، والشِّقاق والنفاق وسوء الأخلاق، والجوع والخيانة، وعلماً لا ينفع وقلباً لا يخشع ونفساً لا تشبع ودعاءً لا يُسمع، وشر السمع وشر البصر وشر اللسان وشر القلب وشر المنيِّ، والهدم والتردِّي والغرق والحرق، وتخبُّطَ الشيطان والموت في سبيل الله مدبراً، والموت لديغاً، والبرص والجنون والجُذام وسئ الأسقام، ومنكراتِ الأخلاق والأهواء والأعمال.
قلت: فاذكر لي من الألفاظ التي نطق بها محمد، فإني ـ كما عرفتها ـ ألفاظ جامعة مانعة.. فقد أوتي من القدرة التعبيرية ما لا يضاهيه فيه أحد.
قال: سأدعو لك عليا ليحدثك بنصوصها.. فقد أوتي ذاكرة مكنته من حفظ الكثير من الأحاديث في هذا وغيره.
نادى جعفر عليا، فجاء، وقال ـ وكأنه كان يتنصت لما نقول ـ: تريدون أحاديث أعرف العارفين بالله في الاستعاذة بالله.
قلت: أجل.. فتعبير محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعبير جامع مانع.. ولا أرى أن هناك من يستطيع التعبير عن الحقائق بمثل أسلوبه.
قال: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما آتاه الله من هذا، فقال: (إنما بعثت فاتحا وخاتما، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه، واختصر لي الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون([204])([205])
قلت: فحدثني بما ورد في هذا.
قال: من الاستعاذات التي وردت بها الأحاديث: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يرفع، وقلب لا يخشع، ودعاء لا يسمع)([206])، وفي رواية: (اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع، وأعوذ بك من صلاة لا تنفع، وأعوذ بك من دعاء لا يسمع، وأعوذ بك من قلب لا يخشع)([207])، وفي رواية: (اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع)([208])
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الصمم والبكم، وأعوذ بك من المأثم والمغرم وأعوذ بك من الغم وأعوذ بك من الهم وأعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من موت الجوع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)([209])
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من ضلع الدين، وغلبة الرجال)([210])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من القسوة والغفلة والعيلة والذلة والمسكنة، وأعوذ بك من الفسوق والشقاق والنفاق والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم، والجنون والجذام وسيئ الأسقام)([211])
وكان يقول: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، وعقابه، وشر عباده، وهمزات الشياطين، وأن يحضرون)([212])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وكل أمر لا يطاق)([213])
وكان يقول: (اللهم أعوذ بك من الصم والبكم والمغارم والمآثم، وأعوذ بك من موت المعرة، ومن موت الهدمة، ومن موت الهدم، ومن شتات الأمر، اللهم لا تجعل الخيانة لي بطانة، ولا تجعل الجوع لي ضجيعا فبئس الضجيع)([214])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر، وعذاب القبر ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)([215])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أموت هما أو غما أو أموت غرقا وأن يتخبطني الشيطان)([216])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من موت الغم، ومن موت الهدم، ومن سوء الأمر، اللهم إني أعوذ بك من الخيانة، فبئست البطانة، وأعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع)([217])
وكان يقول دبر الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من عذاب النار، وأعوذ بك من الفتنة ظاهرا وباطنا، اللهم إني أعوذ بك من مال يطغيني وفقر ينسيني، وهوى يرديني، وبوار الأيم، وأعوذ بك من الرياء والشكوك والسمعة)([218])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، وفتنة الصدر وعذاب القبر)([219])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه ومن عذاب القبر)([220])
وكان يقول: (أعوذ بوجهك الكريم، وباسمك الكريم من الكفر والفقر)([221])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة)([222])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من شر الأعميين)، قيل يا رسول الله، وما الأعميان؟ قال (السيل والبعير الصؤول)([223])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الصمم والبكم، وأعوذ بك من المأثم والمغرم، وأعوذ بك من الغم يعني الغرق وأعوذ بك من الهم)([224])
وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أموت هما أو غما، وأن أموت غرقا، وأن يتخبطني الشيطان عند الموت، أو أموت لديغا)([225])
قلت: عرفت هذا، وأدركت أهميته، فالإنسان في هذه الدنيا يحتاج إلى ملاجئ يلجأ إليها.. وليس هناك ما هو أحصن من ملاجئ الله.. فحدثني عن الثاني.
قال: دعوات عامة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بها كل حين، ويعلمها لأصحابه، وهي ليست مرتبطة بوقت دون وقت، ولا حالة دون حالة.
قلت: فحدثني عنها.
قال: سيحدثك علي، فذاكرته أقوى من ذاكرتي..
قال علي: من ذلك ما ورد في الحديث أن أكثر دعائه صلى الله عليه وآله وسلم كان: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)([226])
ومنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: (اللهم أنت الأول فلا شئ قبلك، وأنت الآخر فلا شئ بعدك، اللهم إني أعوذ بك من كل دابة ناصيتها بيدك، وأعوذ بك من الإثم والكسل، ومن عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة الغنى ومن فتنة الفقر، وأعوذ بك من المأثم والمغرم اللهم نق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس اللهم باعد بيني وبين خطيئتي كما باعدت بين المشرق والمغرب)
ومنها: (اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير العمل، وخير الثواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبتني وثقل موازيني وأحق إيماني، وارفع درجتي، وتقبل صلاتي، واغفر خطيئتي، وأسألك الدرجات العلا من الجن.. اللهم إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، وجوامعه، وأوله، وآخره، وظاهره، وباطنه والدرجات العلا من الجنة.. اللهم إني أسألك خلاصا من النار سالما، وأدخلني الجنة آمنا، اللهم إني أسألك أن تبارك لي في نفسي، وفي سمعي، وفي بصري، وفي روحي، وفي خلقي، وفي خليقتي، وأهلي، ومحياي، وفي مماتي.. اللهم تقبل حسناتي، وأسألك الدرجات العلا من الجنة آمين) ([227])
ومنها: (اللهم اغفر وارحم، واهدني السبيل الأقوم)([228])
ومنها: (اللهم سلمني وسلم مني)([229])
ومنها: (اللهم متعني بسمعي، وبصري، واجعلهما الوارث مني، وعافني في ديني، واحشرني على ما أحييتني وانصرني على من ظلمني، حتى تريني منه ثأري، اللهم إني أسلمت ديني إليك، وخليت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت برسولك الذي أرسلت، وكتابك الذي أنزلت)([230])
ومنها: (اللهم اجعلني أخشاك حتى كأني أراك أبدا حتى ألقاك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت، واجعل غنائي في نفسي، وامتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، وانصرني على من ظلمني، وأرني فيه ثأري، وأقر بذلك عيني)([231])
ومنها: (اللهم اغفر لي ما أخطأت وما تعمدت، وما أسررت، وما أعلنت، وما جهلت وما تعمدت)([232])
ومنها: (اللهم اغفر لنا ذنوبنا وظلمنا وهزلنا وجدنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا)([233]) (اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العيال، وشماتة الأعداء)([234])
ومنها: (اللهم إني أسألك عيشة تقية، وميتة سوية، ومردا غير مخزي ولا فاضح)([235])
ومنها: (اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين الغر المحجلين الوفد المتقبلين)، فقالوا: يا رسول الله، ما عباده المخبتون؟ قال: (عباد الله الصالحون) قالوا: فما الغر المحجلون؟ قال: (الذين تبيض منهم مواضع الطهور)، قالوا: فما الوفد المتقبلون؟ قال: (وفد يفدون مع نبيهم إلى ربهم تبارك وتعالى يوم القيامة)([236])
ومنها: (اللهم اغفر لي ذنبي، خطئي وجهلي)([237])
ومنها: (اللهم اغفر لي ذنبي خطئي وعمدي.. إني أستهديك لأرشد أمري، وأعوذ بك من شر نفسي)([238])
ومنها: (يا ولي الإسلام وأهله ثبتني به حتى ألقاك به)([239])
ومنها: (اللهم أقبل بقلبي إلى دينك، واحفظ من وراءنا برحمتك)([240])
ومنها ت: (اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي، حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتب لي، ورضا من المعيشة بما قسمت لي)([241])
ومنها: (اللهم بارك لي في ديني الذي هو عصمة أمري، وفي آخرتي التي إليها مصيري وفي دنياي التي فيها بلاغي، واجعل حياتي زيادة في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)([242])
ومنها: (اللهم اجعلني شكورا، واجعلني صبورا واجعلني في عيني صغيرا، وفي عين الناس كبيرا) ([243])
ومنها: (اللهم أحيني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين)([244])
ومنها: (اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني) ثم يقول: (هؤلاء جمعن خير الدنيا والآخرة)([245])
ومنها: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شئ قدير)([246])
ومنها: (اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)([247])
ومنها: (اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهر قلبي من الخطايا كما طهرت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين ذنوبي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع، وعلم لا ينفع، اللهم إني أعوذ بك من هؤلاء الأربع اللهم إني أسألك عيشة نقية، وميتة سوية، ومردا غير مخز ولا فاضح)([248])
ومنها: (اللهم إني ضعيف فقو في رضاك ضعفي، وخذ إلى الخير بناصيتي، واجعل الإسلام منتهى رضائي، اللهم إني ضعيف فقوني، وإني ذليل فأعزني، وإني فأغنني، اللهم بلغني من رحمتك ما أرجو من رحمتك، واجعل لي ودا عند الذين آمنوا وعهدا عندك) ([249])
ومنها: (اللهم إني أسألك الطيبات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تتوب علي، وإن أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون)([250])
ومنها: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الإخلاص في الرضا والغضب وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بالقضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة، وفتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهديين)([251])
ومنها: (اللهم اغفر لنا وارحمنا، وارض عنا، وتقبل منا، وأدخلنا الجنة، ونجنا من النار، وأصلح لنا شأننا كله)([252])
ومنها: (اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا)([253])
ومنها: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)([254])
ومنها: (اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني وانصرني على من ظلمني، وخذ منه ثأري)([255])
ومنها: (اللهم أصلح لي في ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة لي زيادة في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)([256])
ومنها: (اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم وما زويت عني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب)([257])
ومنها: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وارزقني علما تنفعني به)([258])
ومنها: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)([259])، (ومن كان ذلك دعاءه مات قبل أن يصيبه البلاء)([260])
ومنها: (اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، لا تشمت بي عدوا ولا حاسدا، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك أنت آخذ بناصيته)([261])
ومنها: (اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار)([262])
ومنها: (اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك، وأنت أرحم الراحمين)([263])
ومنها: (اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائب لي بخير)([264])
ومنها: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا تنزع مني صالح ما أعطيتني)([265])
ومنها: (اللهم اجعلني أعظم شكرك، وأكثر ذكرك، وأتبع نصيحتك، وأحفظ وصيتك.. اللهم أقلني عثرتي، واستر عورتي، واكفني، وأعني على من ظلمني، وأرني ثأري.. للهم إنك لست بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه ولا كان لنا قبلك إله نلجأ إليه ونذرك، ولا أعانك على خلقنا أحد، فنشك فيك ـ أو نشركه فيك ـ تباركت وتعاليت إنك أنت التواب الرحيم)([266])
ومنها: (اللهم أنت فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، والشمس والقمر حسبانا، اقض عنا الدين، وأغنني من الفقر، ومتعني بسمعي وبصري، وقوتي في سبيلك) ([267])
ومنها: (اللهم طهر قلبي من النفاق وعملي من الرياء، اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) ([268])
ومنها: (اللهم إني أدعوك دعاء من تقطعت دنياه وأردفته آخرته)([269])
ومنها: (اللهم واقية كواقية الوليد)([270])
ومنها: (اللهم إني أدفع بك منا لا أطيق، وبك استعين على ما أريد، يا ذا الجلال والإكرام)([271])
ومنها: (اللهم حبب إلي لقاءك، كما حببت إلي عطاءك، وأعوذ بك من حب الرجعة إلي عند حضور الوفاة)([272])
ومنها: (اللهم إني أسألك العصمة والعفة والأمانة، وحسن الخلق والرضا بالقدر)([273])
ومنها: (اللهم إني أسألك العافية لي، ولأهل بيتي)([274])
ومنها: (اللهم لا تخزني يوم القيامة، ولا تخزني يوم البأس) ([275])
ومنها: (اللهم لا تسلط علي عدوا أبدا، ولا تشمت بي عدوا أبدا، ولا تنزع مني صالحا اكتسبته أبدا، وإذا أردت فتنة قوم، فتوفني إليك غير مفتون، وأرني الحق حقا أتبعه، وأرني المنكر منكرا أجتنبه، ولا تجعل شيئا من ذلك علي اشتباها فأتبع هواي بغير هدى منك، وأتبع هواي محبتك ورضا نفسك، واهدني لما اختلف فيه من الحب بإذنك) ([276])
ومنها: (اللهم حسنت خلقي فحسن خلقي)([277])
ومنها: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)([278])
ومنها: (اللهم لا تمتني غما، ولا غرقا، ولا هدما، ولا حرقا، ولا يسقط علي شئ، ولا أسقط على شئ ولا موليا ولا يتخبطني الشيطان)([279])
ومنها: (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، ولا شئ بعده)([280])
بعد أن أنهى علي تلاوة ما ذكرته لكم من أدعية سألته عن الثالث، فقال: أدعية خاصة وردت بها النصوص.. ولها حكم الأذكار الخاصة.. فهي مرتبطة بأوقات أو أحوال معينة.
قلت: فشنف آذاني بسماعها، وأطرب روحي بذكرها.
قال: سلني ما بدا لك.. فلم يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا حاجة إلا علمنا كيف ندعو الله عندها.
فكرت قليلا، ثم قلت: ما أكثر ما تعتري الإنسان الهموم والكروب والأحزان، فلا يجد ما يخففها عنه غير مناجاته لربه.. فهل أثر عن محمد في ذلك شيء؟
قال: أجل.. وقد ورد من ذلك الكثير([281]).. ومن ذلك ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم)([282])
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين قالوا:{ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (آل عمران: 173)([283])
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا حي، يا قيوم، برحمتك أستغيث الله، الله، الله، لا شريك لك شيئا يا صريخ المكروبين، ويا مجيب المضطرين، ويا كاشف كرب المؤمنين، ويا أرحم الراحمين، اكشف كربي وغمي فإنه لا يكشفه إلا أنت تعلم حالي وحاجتي)([284])
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الله الله ربي، لا أشرك به شيئا)([285])
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)([286])
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)([287])
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عز وجل همه، وأبدله مكان حزنه فرحا. قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات. قال: أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن)([288])
قلت: هذا ما يقوله عند الكرب.. فما يقوله عند الفرح.. بل عند العيد.. ذلك اليوم الذي يجمع فيه الكل على الفرح والسرور؟
قال: من ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول يوم الخروج إلى العيد: (اللهم بحق السائلين عليك، وبحق مخرجي هذا لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا رياء، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، فعافني اللهم بعافيتك من النار)([289])
ومنها ما رواه بعض الصحابة، قال: لقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم عيد فقلنا: (تقبل الله منا ومنك، قال: (نعم تقبل الله منا ومنك)([290])
قلت: فما يقول عندما يثقله الدين؟
قال: من ذلك ما حدث به علي: أن مكاتبا جاءه فقال: إني قد عجزت عن كتابتي، فأعني؟ قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو كان عليك مثل جبل ثبير دينا أداه الله عنك؟ قال: قل (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك)([291])
قلت: فما يقول عند المرض؟
قال: من ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها)([292])
ومنها ما روي أن بعض الناس شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل باسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: (أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)([293])
ومنها ما روي أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد، اشتكيت؟ فقال: نعم. قال: (باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد. الله يشفيك، باسم الله أرقيك)([294])
ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال: لا بأس طهور إن شاء الله، قال: قلت: طهور! كلا، بل هي حمى تفور ـ أو تثور ـ على شيخ كبير تزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فنعم إذا)([295])
ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعوذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى ويقول: (اللهم رب الناس أذهب الباس، واشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما)([296])
ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من عاد مريضا لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرار: (أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض)([297])
ومنها ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول للمريض: (بسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا)([298])
قلت: فما يقول من احتار في أمره، فأراد أن يطلب الخيرة من ربه؟
قال: ذلك يسمى دعاء الاستخارة، وله صلاة خاصة به تسمى (صلاة الاستخارة) ([299])، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على توريثه لورثته، فعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال: عاجل أمري وآجله – فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به. قال: ويسمي حاجته)([300])
قلت: فما يقول من ارتفع الخيرة عنه، وأراد من الله أن ييسر له مقصوده؟
قال: ذلك يسمى دعاء الحاجة، وله صلاة خاصة به تسمى (صلاة الحاجة)، وقد وردت صيغتها في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضا وليحسن الوضوء، ثم ليصل ركعتين، ثم ليثن على الله عز وجل، وليصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ليقل: (لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين)([301])
ولها صيغة أخرى حدث بها عثمان بن حنيف فذكر أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادع الله تعالى أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي، اللهم فشفعه في)([302])
قلت: فما يقول من افتقر إلى فضل الله بنزول المطر الذي به حياة الأرض؟
قال: لقد سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك صلاة هي صلاة الاستسقاء، ومما ورد في صفتها، وما يقال فيها ما روي: أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال: اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت. قال: والله ما رأينا الشمس سبتا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب([303]) والأودية ومنابت الشجر، قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس([304]).
وفي حديث آخر: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر، وحمد الله عز وجل، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (الفاتحة)، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين)، ثم رفع يديه، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن([305]) ضحك صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه فقال: (أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)([306])
وفي حديث آخر: أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بواكي، فقال: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا، غير ضار، عاجلا غير آجل)، قال: فأطبقت عليهم السماء([307]).
قلت: إن بعض ما يحصل في الطبيعة من أحداث قد يملأ القلب مخافة، أو قد يملأها هيبة.. فهل أثر عن محمد في ذلك شيء؟
قال: أجل.. ومن ذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم إذا إذا هاجت الريح.. ففي الحديث: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا عصفت الريح قال: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)([308])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الريح من روح الله، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها)([309])
ومن ذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند سماع الرعد.. فقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته)([310])
ومن ذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الغيث.. وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى المطر قال: (اللهم صيبا نافعا)([311])
ومن ذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند كسوف الشمس أو خسوف القمر.. واللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله، وكبروا، وصلوا، وتصدقوا)([312])
ومن ذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وآله وسلم عند رؤية الهلال.. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رأى الهلال قال: (اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام، ربي وربك الله)([313])
قلت: إن الميت يحتاج إلى دعاء الحي.. فهل أثر عن محمد في ذلك شيء؟
قال: أجل.. لقد شرع لذلك صلاة الجنازة.. وسن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها سننا من الدعاء.. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار)([314])
وكان يقول: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده)([315])
ومما سنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يقال بعد الدفن ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل)([316])
ومما سنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يقال عند دخول المقابر ما ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن جبريل أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: (السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون)([317])
وفي حديث آخر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية)([318])
***
ظللت مع جعفر وعلي طيلة ذلك اليوم لا أسأله عن مسألة إلا أجابني عنها بما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وقد تعجبت كثيرا عندما رأيت ذلك الغنى الذي تحمله سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما ورد فيها من دعوات يلبي كل حاجة.. يلبيها في منتهى كمالها، وبمنتهى الأدب والرقة والذوق الرفيع مما لم أجد له نظيرا في جميع ما أثر عن أنبياء أو قديسين.
بعد أن لم أجد ما أسأله من مسائل قلت: أسلم لك بأن ما تركه محمد من ثروة في هذا المجال لا يعدله شيء.. ولكن ألا ترى في نفس التوجه بالدعاء قصورا؟
قال: وما القصور الذي فيه؟
قلت: أليس العبد هو الذي صار بين يدي مولاه كالميت بين يدي الغسال، فصار لا يطلب من مولاه إلا مولاه؟
قال: ما قتله صحيح.. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)([319]).. ولهذا، فقد مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمواقف كثيرة كان يكتفي فيها بتصاريف الأقدار عن الإلحاح في الدعاء.
قلت: لقد سمعت أنه كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع.. ومع ذلك لم يسأل الله رغيفا واحدا.
قال: بل إن في القرآن الكريم ما قد يستدل به على هذا.. لقد ذكر الله تأخر طلب أيوب u وصبره تلك الفترة الطويلة، كما قال تعالى:{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } (الانبياء:83).. لقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له، كان يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم واللّه لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه اللّه فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل، حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب u: ما أدري ما تقول غير أن اللّه عزَّ وجلَّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه، فارجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا اللّه إلا في حق)([320])
وذكر تأخر دعاء نوح u على قومه كل تلك السنين الطويلة، فقال تعالى:{ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً } (العنكبوت: 14)
وذكر تأخر دعاء إبراهيم وزكريا ـ عليهما السلام ـ في طلب الولد إلى أن بلغا من العمر عتيا، فقال تعالى عن زكريا u:{ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً } (مريم:4 ـ5)، فزكريا u مع علمه بأنه لم يكن بدعاء ربه شقيا، أي ولم يعهد من الله إلا الإجابة في الدعاء، إلا أنه لم يستعمل هذا السلاح إلا بعد أن اضطر إليه اضطرار.
قلت: فكيف نوفق بين هذا وذاك؟
قال: بأن يوضع كل شيء في محله.
قلت: كيف ذلك؟
قال: الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ دعوا الله في مواقف كثيرة، وتركوا الدعاء في مواضع أخرى اكتفاء بالله.. فالكمال في الجمع بين الأمرين.
قلت: ما ضوابط ذلك؟
قال: ليس لذلك ضوابط محددة، ولو كانت هناك ضوابط لما اختلف الناس في هذا الباب.
قلت: فالأمر يرجع إلام؟
قال: يرجع إلى الحالة الوجدانية.. أليس الدعاء علاقة وجدانية بين الله وعبده، فقد يدفع العبد أحيانا، وبدون شعور إلى أن يسأل الله أمرا معينا، فيسأل الله، وقد لا يشعر بذلك الدافع، فيكتفي بنظر الله..
قلت: فقد اختلف الناس كذلك.. فمنهم من اعتبر الدعاء سببا، ومنهم من اعتبره أمارة؟
قال: لكل حظه من ذلك.. أما العارفون المحققون، فلم يروا في الدعاء إلا أمارة على اقتراب فضل الله عليهم.. لأنه لولا ذلك ما وفقهم للدعاء.. وهم في ذلك كالتربة لا تفهم من نزول المطر إلا ما يريده الله لها من حياة..
***
بقيت مع جعفر سنة كاملة لم أعش في حياتي مثلها.. لقد شعرت بروحي تحلق في الملأ الأعلى.. وشعرت بالكون يرتدي حلة جميلة غير الحلة التي كنت أراه بها.. وشعرت فوق ذلك بأن الله أقرب إلي من حبل الوريد..
قلت: فلماذا فارقته إذن؟
اغرورقت عيناه بدموع حاول إمساكها بشدة، ثم قال: لقد فارقني قبل أن أفارقه.
قلت: هل مات؟
قال: بل قتل..
انتفضت الجماعة قائلة: قتل..!؟.. ما ذنب المسكين!؟
قال: لقد نصب بعض الحمقى له كمينا، فقتلوه مع ابنه علي..
قلت: حتى علي.. ما ذنب الصبي؟
قال: لقد كان أولئك الحمقى يحملون عقولا مشوشة، ونفوسا مملوءة بالأحقاد، وأرواحا مدنسة بالخطايا، فلذلك تصوروه مهرطقا أو مبتدعا، فراحوا يذبون عن سنة نبيهم بقلته.
قلت: فهم يتصورون أنفسهم مجاهدين إذن؟
قال: أجل.. لقد تصوروا أنهم تقربوا إلى الله بسفك دمه.
قلت: أهم مسلمون؟
قال: هم مسلمون.. ولكنهم تربوا في غير مدرسة الإسلام.. لقد حملوا أحقاد الشيوعيين والصليبيين والنازيين والفاشيين وكل العصابات الإجرامية ليصبوها على إخوانهم من المسلمين.
قلت: فكيف نجوت أنت.. وقد كنت صاحبه؟
قال: لقد أنجاني من سيوفهم كوني لم أسلم بعد.. بعد أن قبضوا علي ليطعنوني بسيوفهم صحت فيهم: أنا كافر ولست مسلما.
قلت: فكيف نجوت منهم، وقد قلت هذا؟
قال: عمدا فعلت..
قلت: فماذا فعلوا؟
قال: لقد قرأ لهم بعضهم قوله تعالى:{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} (التوبة:6)
فلما قرأها سقط السيف من يد الذي أراد أن يقتلني.. ثم أسمعوني بعض القرآن.. ثم أبلغوني مأمني.
قلت: لقد أشفقوا عليك، فكيف لم يشفقوا على جعفر؟
قال: لقد
ذكرت لك أن لهم عقولا مشوشة.. ولا يمكن للعقول المشوشة أن يصدر منها إلا التشويش.
([1]) أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه الناحية في شخصه الكريم، فقال: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فو الله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية) رواه البخاري ومسلم.
([2]) أشير به إلى الإمام العارف المحقق حفيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (جعفر الصادق)، وقد اخترناه في هذا المحل باعتباره مرجعا كبيرا من مراجع العرفان، وقد روي عنه قوله عن القرآن: (والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون)، وقال ـ وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشياً عليه ـ فلما سري عنه قيل له في ذلك فقال: (مازلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته).. ومروياته في هذا الباب كثيرة.
([3]) الخطاب في الرواية الأصلية من جعفر الصادق لسفيان الثوري.
([4]) الحديث في الأصل مروي عن شقيق البلخي وتلميذه حاتم الأصم وقد اخترنا هذا الحوار هنا لدلالته على المعنى المراد من (العارف)
([5]) في الرواية الأصلية: قال شقيق: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل؟ فقال حاتم: يا أستاذ لم أتعلم غيرها وإني لا أحب أن أكذب، فقال: هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها.
([6]) ذكر العلماء لليقين أربع مقامات:
الأول: الشك، وهو أن يعتدل التصديق والتكذيب، كما إذا سئلت عن شخص معين، أن الله تعالى يعاقبه أم لا؟ وهو مجهول الحال عندك، فإن نفسك لا تميل إلى الحكم فيه بإثبات ولا نفى، بل يستوي عندك إمكان الأمرين.
الثاني: الظن، وهو أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع الشعور بإمكان نقيضه، ولكنه إمكان لا يمنع ترجيح الأول، كما إذا سئلت عن رجل تعرفه بالصلاح والتقوى أنه بعينه لو مات على هذه الحالة هل يعاقب؟ فإن نفسك تميل إلى أنه لا يعاقب أكثر من ميلها إلى العقاب وذلك لظهور علامات الصلاح. ومع هذا فأنت تجوز اختفاء أمر موجب للعقاب في باطنه وسريرته فهذا التجويز مساو لذلك الميل ولكنه غير دافع رجحانه.
الثالث: أن تميل النفس إلى التصديق بشيء بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره ولو خطر بالبال تأبى النفس عن قبوله، ولكن ليس ذلك من معرفة محققة، إذ لو أحس صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى التشكيك والتجويز اتسعت نفسه للتجويز، وهذا يسمى اعتقاداً مقارباً لليقين.
الرابع. المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق البرهان الذي لا يشك فيه ولا يتصور الشك فيه.
ويشير إلى هذه المراتب قوله تعالى:{ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} (التكاثر)، وقوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات15)
([7]) رواه مسلم.
([8]) رواه الطبراني بإسناد جيد.
([9]) نص الآية:{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} (النساء:153)
([10]) ولذلك، فإن العارفين ينبهون المريدين إلى أن ما يلوح لهم من أنوار الحس لا عبرة به، قال السراج الطوسى (ت:387هـ): (بلغنى عن جماعة من أهل الشام، أنهم يدعون الرؤية بالقلوب فى دار الدنيا، كالرؤية بالعيان فى دار الآخرة، ولم أر أحدا منهم، ولا بلغنى عن إنسان، أنه رأى منهم رجلا له محصول)، ثم يبين أن العارفين أشاروا برؤية القلوب، إلى التصديق والمشاهدة بالإيمان وحقيقة اليقين، وأنه ينبغى أن يعلم العبد أن كل شئ رأته العيون فى الدنيا من الأنوار، أن ذلك مخلوق، ليس بينه وبين الله تعالى شبه، وليس ذلك صفة من صفات الله، بل جميع ذلك مخلوق (اللمع 545)
([11]) قال الغزالي: (يستحيل أن يعرف النبي غير النبي، وأما من لا نبوة له فلا يعرف من النبوة إلا اسمها، وأنها خاصية موجودة لإنسان بها يفارق من ليس نبيا، ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا بالتشبيه بصفات نفسه} (انظر: المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، للغزالي، ص53)
([12]) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أبي بكر الإسماعيلي في صحيحه فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله، فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: (تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟)، قال: لا ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.. فخلى سبيله فأتى أصحابه فقال: (جئتكم من عند خير الناس)
([13]) رواه البخاري.
([14]) رواه مسلم.
([15]) انظر: فصل (الزاهد) من هذه الرسالة.
([16]) رواه الترمذي والخرائطي.
([17]) رواه البيهقي، والبزار، والطبراني، وأبو يعلى.
([18]) رواه البخاري ومسلم.
([19]) رواه الحاكم وابن جرير وغيرهما.
([20]) رواه أحمد والترمذي والحاكم وابن ماجة.
([21]) رواه البخاري ومسلم، ولفظ مسلم: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت)
([22]) رواه مسلم.
([23]) رواه مسلم.
([24]) رواه البخاري ومسلم.
([25]) رواه البخاري ومسلم.
([26]) رواه الترمذي وابن ماجه..
([27]) رواه الترمذي وابن ماجه.
([28]) رواه مسلم.
([29]) رواه مسلم.
([30]) السلامى، أي: المفاصل التي تكون بين العظام.
([31]) رواه مسلم.
([32]) الدثور: جمع دثر، وهو المال الكثير.
([33]) رواه مسلم.
([34]) رواه مسلم، وفي حديث آخر قريب منه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي r فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا، فعلمني ما يجزئني منه، قال: (قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، قال: يا رسول الله، هذا لله عز وجل، فما لي؟ قال: (قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني)، فلما قام قال هكذا بيده، فقال رسول الله r: (أما هذا فقد ملأ يده من الخير) رواه أبو داود.
([35]) قيعان: جمع قاع، وهو المكان الواسع.
([36]) رواه الترمذي.
([37]) رواه أحمد والترمذي.
([38]) رواه البخاري ومسلم.
([39]) الإحياء.
([40]) رواه البخاري ومسلم.
([41]) رواه البخاري ومسلم.
([42]) رواه أحمد.
([43]) رواه الترمذي.
([44]) رواه النسائي.
([45]) رواه مسلم، وفي رواية للترمذي: (من قال حين يمسي ثلاث مرات: أعود بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره حمة تلك الليلة)، والحمة: لدغة كل ذي سم كالعقرب ونحوها.
([46]) وهو عدم حصول الضرر لمن قالها.
([47]) رواه أبو داود والترمذي.
([48]) رواه مسلم.
([49]) أبوء، أي: أقر وأعترف.
([50]) رواه البخاري.
([51]) انظر: الوابل الصيب:15.
([52]) مع تبديل الصيغة بقوله: (: أصبحنا وأصبح الملك لله) رواه مسلم.
([53]) فعن أبي هريرة: أن النبي r كان يعلم أصحابه يقول: إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور، وإذا أمسى فليقل: اللهم بك أمسينا، وبك أصبحنا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير) رواه أبو داود وابن ماجه.
([54]) رواه الترمذي وأبو داود.
([55]) رواه أبو داود وابن ماجه.
([56]) رواه أبو داود وابن ماجه.
([57]) رواه أبو يعلي.
([58]) رواه الطبراني.
([59]) رواه الطبراني.
([60]) رواه البزار، وأحمد – برجال ثقات.
([61]) رواه مسدد وابن أبي شيبة وأحمد، والطبراني، والبزار.
([62]) رواه أبو يعلى برجال ثقات.
([63]) رواه أبو يعلى.
([64]) رواه أحمد، والبخاري ومسلم.
([65]) رواه الترمذي.
([66]) رواه أبو يعلى برجال ثقات.
([67]) رواه الخرائطي، ونص الحديث عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر، فأدركه الليل قال.. وذكره.
([68]) وقد روي في تفسيرها عن السدي قوله: كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضَرّ أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي، قال: فإذا عاذ بهم من دون الله، رَهقَتهم الجن الأذى عند ذلك.
([69]) رواه أحمد، وأبو داود، والطبراني بسند جيد.
([70]) رواه الطبراني بسند جيد وأبو يعلى والنسائي في الكبرى.
([71]) رواه الطبراني.
([72]) رواه ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، والبيهقي في الكبرى، والحاكم من طريقين، والخرائطي.
([73]) رواه مسدد.
([74]) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي، والحاكم، والبيهقي.
([75]) رواه الطبراني برجال ثقات.
([76]) رواه الطبراني.
([77]) رواه أحمد، والترمذي وحسنه والنسائي.
([78]) رواه الترمذي وحسنه.
([79]) رواه الطبراني.
([80]) تحدثنا عن هذا النوع من الروحانية في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.
([81]) رواه ابن عساكر.
([82]) رواه أحمد وأبو داود وابن السني.
([83]) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم.
([84]) انظر أدلة هذا وأسراره، ومدى اتفاقه مع العدل والرحمة في رسالة (أسرار الأقدار)
([85]) رواه مسلم .
([86]) رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما بأسانيد جيدة، وقال الترمذي: حديث صحيح.
([87]) رواه البخاري، وروي مرفوعا في غير البخاري.
([88]) انظر: الأذكار للنووي.
([89]) رواه الحاكم.
([90]) ففي الحديث: كان رسول الله r إذا رجع من النهار إلى بيته يقول: (الحمد لله الذي كفاني وآواني والحمد لله الذي أطعمني وسقاني والحمد لله الذي من علي أسألك أن تجيرني من النار) ذكره النووي في الأذكار، وقال: إسناده ضعيف.
([91]) ففي الحديث: (إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا ثم ليسلم على أهله) رواه أبو داود.
([92]) ضامن على الله تعالى: أي صاحب ضمان والضمان: الرعاية للشيء كما يقال: تامر ولابن: أي صاحب تمر ولبن، فمعناه أنه في رعاية الله تعالى.
([93]) رواه أبو داود بإسناد حسن.
([94]) رواه مسلم.
([95]) يرى القارئ لهذه الرسالة أن من أبطال بعض فصول هذه الرحلة صبية صغارا ملمين بكثير من الحقائق.. ونحن نشير بهذا إلى أن هذا الدين دين الفطرة.. وأن الحقائق التي يتحدث عنها هؤلاء الصبية هي حقائق الفطرة.. فخير من مثل الفطرة براءة الطفولة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مولود إلا ولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) رواه البخاري ومسلم.
([96]) رواه أحمد.
([97]) رواه مسلم.
([98]) رواه مسلم، ورواه ابن خُزَيمة وأبو داود وأحمد وابن حِبَّان قريباً منه، ومن النصوص الواردة في هذا المعنى أيضا ما روي عن علي أن رسول الله r نهى عن لبس القَسِّيِّ، وعن تختُّمِ الذهب، وعن قراءة القرآن في الركوع (رواه مالك)، وعنه قال: نهاني رسول الله r عن قراءة القرآن وأنا راكع أو ساجد (رواه مسلم)
([99]) رواه أحمد وابن ماجة وابن حِبَّان.
([100]) رواه ابن ماجة وابن حِبَّان وأحمد والنَّسائي والطيالسي.
([101]) رواه أحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة.
([102]) رواه أحمد. ورواه أبو داود قريباً منه.
([103]) الرفع من الركوع هو إقامة الظهر من الركوع، وهي تعني تمام انتصاب الظهر بعد الركوع، وهو ركن من أركان الصلاة، فعن أبي مسعود قال: قال رسول الله r: (لا تُجزئ صلاةٌ لا يقيم الرجل فيها صُلْبَه في الركوع والسجود) رواه ابن ماجة وأبو داود والترمذي وابن حِبَّان وابن خُزيمة.
([104]) رواه مسلم.
([105]) ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ: صاحب الحظ والغنى لا ينفعه حظه وغناه من أمرك وقضائك فيه.
([106]) رواه الدارمي ومسلم وأحمد وابن حِبَّان وابن خُزَيمة، باختلافات يسيرة في الألفاظ.
([107]) رواه مسلم والنَّسائي وأبو داود وابن حِبَّان.
([108]) رواه مسلم، ورواه أحمد وابن خُزيمة وأبو داود وابن حِبَّان باختلاف في الألفاظ.
([109]) رواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان والنَّسائي.
([110]) رواه أبو داود وابن حِبَّان وابن خُزَيمة.
([111]) رواه مسلم.
([112]) رواه أحمد.
([113]) رواه ابن ماجة، ونص الحديث عن ابن عباس قال: كان رسول الله r يقول بين السجدتين في صلاة الليل.. وذكره، ورواه أحمد بلفظ (إن رسول الله r قال بين السجدتين في صلاة الليل: رب اغفر لي وارحمني وارفعني وارزقني واهدني)، ورواه أبو داود بلفظ (إن النبي r كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني)
([114]) رواه ابن ماجة والنَّسائي والحاكم وصححه.
([115]) رواه البزَّار. ووثَّق الهيثمي رجال سنده.
([116]) رواه البخاري ومسلم. ورواه أحمد والنَّسائي وأبو داود.
([117]) رواه مسلم وأبو داود.
([118]) من الأدلة التي استدل بها العلماء على ترجيح رواية الخطاب:
1- أن جميع رواة الأحاديث عبر العصور قد استمروا في رواية صيغة الخطاب دون أن يقيدوها بحياة النبي r، ولو كانت حياته عليه الصلاة والسلام قيداًً لها لذكروه.
2 – لم يُرو أن الرسول r قد علَّم المسلمين صيغتين: صيغةً يقولونها وهو حيٌّ، وصيغةً يقولونها بعد موته، وإنما علمهم صيغة واحدة هي صيغة الخطاب، ولم يأمرهم بتركها والأخذ بصيغة الغيبة إذا مات.
([119]) رواه ابن خُزَيمة. ورواه أحمد والحاكم قريباً منه.
([120]) رواه أبو داود.
([121]) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود.
([122]) رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي بزيادة التعوذ من المأثم والمغرم، إلا أنه سقط التعوُّذ من عذاب النار.
([123]) رواه البخاري والنَّسائي وأحمد والترمذي.
([124]) عن السائب قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاةً فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خفَّفتَ أو أوجزتَ الصلاة، فقال: أمَّا على ذلك فقد دعوتُ فيها بدعوات سمعتهنَّ من رسول الله r، فلما قام تبعه رجل من القوم هو أُبيٌّ غير أنه كنى عن نفسه، فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أَحْيِني.. واجعلنا هُداةً مهديين) رواه النَّسائي، ورواه أحمد ولكن سقطت منه عدة ألفاظ.
([125]) رواه أحمد والترمذي وأبو داود.
([126]) رواه مسلم. ورواه أحمد وابن خُزَيمة والنَّسائي بلفظ (يا ذا الجلال والإكرام)
([127]) رواه أحمد وأبو داود.
([128]) رواه أحمد وأبو يعلى.
([129]) رواه مسلم وأحمد وابن خُزَيمة وابن حِبَّان ومالك.
([130]) رواه مسلم وابن حِبَّان والنَّسائي.
([131]) رواه الطبراني والنَّسائي وابن حِبَّان.
([132]) رواه الطبراني.
([133]) رواه النَّسائي وأحمد وأبو داود والطبراني وابن خُزَيمة.
([134]) رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن خُزَيمة وابن حِبَّان.
([135]) رواه أحمد وابن خُزَيمة وابن حِبَّان والترمذي، ورواه مسلم إلا أنه ذكر هذا الدعاء بين التَّشهُّد والتسليم وليس بعده.
([136]) رواه الطبراني وأحمد وأبو داود والنَّسائي وابن حِبَّان.
([137]) رواه مسلم.
([138]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
([139]) رواه البخاري ومسلم.
([140]) رواه أحمد وابن ماجه.
([141]) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
([142]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود.
([143]) رواه أبو داود.
([144]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
([145]) رواه أبو داود والترمذي.
([146]) رواه النسائي.
([147]) رواه البخاري.
([148]) رواه مسلم.
([149]) رواه أبو داود.
([150]) رواه أبو داود.
([151]) رواه أحمد والترمذي.
([152]) روى النسائي.
([153]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي.
([154]) رواه الترمذي وحسنه.
([155]) رواه مالك، وأحمد، والبخاري ومسلم، وأبو داود والترمذي.
([156]) رواه الطبراني، ورواه أيضا عن عباد بن أخضر أو أحمر.
([157]) هذا الكلام مروي عن جعفر الصادق
([158]) رواه أحمد.
([159]) رواه أحمد.
([160]) رواه الطبراني.
([161]) رواه أحمد بإسناد حسن.
([162]) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
([163]) رواه البزار بسند حسن.
([164]) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي.
([165]) رواه أحمد والترمذي عن البراء بن عازب، وأحمد وابن ماجة عن ابن مسعود.
([166]) الندي الأعلى: القوم المجتمعون في مجلس، فإن تفرقوا فليس بندي، والمراد به الملأ الأعلى كما في الروايات الأخرى.
([167]) رواه أبو داود.
([168]) رواه أحمد وأبو داود.
([169]) رواه أبو داود.
([170]) رواه الطبراني برجال ثقات.
([171]) رواه ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن مردويه، والبيهقي.
([172]) رواه البزار.
([173]) رواه ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن مردويه، والبيهقي.
([174]) رواه الترمذي.
([175]) رواه البخاري وغيره.
([176]) رواه أبو داود.
([177]) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوي، والحكم بن ظهير قد ترك حديثه بعض أهل الحديث، ويروى هذا الحديث، عن النبي r مرسلا، من غير هذا الوجه.
([178]) رواه الترمذي.
([179]) رواه البخاري ومسلم.
([180]) رواه مسلم.
([181]) رواه البخاري ومسلم.
([182]) رواه البخاري ومسلم.
([183]) ففي الحديث: (كان رسول الله r إذا قام من الليل افتتح الصلاة:..) (رواه مسلم)
([184]) ففي الحديث:: كان النبي r إذا قام من الليل يتهجد قال:.. رواه البخاري.
([185]) ففي الحديث: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استيقظ من الليل قال: (..)وذكرته، رواه أبو داود.
([186]) ففي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل يصلي يقول.. وذكره، رواه أحمد وابن ماجة.
([187]) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي ومسلم.
([188]) رواه الترمذي.
([189]) رواه البخاري ومسلم.
([190]) رواه أحمد.
([191]) رواه عبد بن حميد.
([192]) رواه أحمد.
([193]) رواه البزار.
([194]) رواه مسلم.
([195]) رواه أحمد وابن ماجه.
([196]) رواه البزار.
([197]) رواه ابن السنى.
([198]) رواه أحمد والطبراني في الكبير.
([199]) رواه الطبراني في الكبير.
([200]) رواه الطبراني في الكبير.
([201]) رواه البخاري.
([202]) شرح مختصر البخاري للإمام الحافظ أبي محمد عبد الله بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي ج1/ص10 – 11.
([203]) رواه البخاري.
([204]) المتهوكون: التهوك كالتهور، وهو الوقوع في الامر بغير روية.
([205]) رواه البيهقي.
([206]) رواه الطبراني، وابن أبي شيبة بسند صحيح.
([207]) رواه ابن حبان.
([208]) رواه مسدد، وأبو يعلى، والنسائي، عن ابن عمرو، وابن أبي شيبة عن ابن مسعود والطبراني عن ابن عباس، ورواه الطبراني.
([209]) رواه الحارث، والبزار بسند حسن.
([210]) رواه الطبراني، وأبو يعلى، وابن حبان.
([211]) رواه الطبراني برجال الصحيح.
([212]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([213]) رواه أبو داود، وأبو الحسن بن الضحاك.
([214]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([215]) رواه البخاري.
([216]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([217]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([218]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([219]) رواه الطبراني برجال الصحيح.
([220]) رواه البزار.
([221]) رواه الطبراني.
([222]) رواه الطبراني برجال ثقات.
([223]) رواه الطبراني.
([224]) رواه البزار بسند حسن.
([225]) رواه أحمد.
([226]) رواه ابن أبي شيبة، ورواه عبد بن حميد بسند جيد.
([227]) رواه الطبراني برجال ثقات.
([228]) رواه أحمد، وأبو يعلى بسند حسن.
([229]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([230]) رواه الطبراني.
([231]) رواه الطبراني والبزار بعض آخره من قوله: (أمتعني بسمعي) بنحوه وسنده جيد.
([232]) رواه أحمد، والبزار، والطبراني، برجال ثقات.
([233]) رواه أحمد، والطبراني، وأبو يعلى بسند حسن.
([234]) هذه الزيادة لابن حبان.
([235]) رواه البزار، والطبراني، وسنده جيد وأبو الحسن بن الضحاك.
([236]) رواه أحمد.
([237]) رواه أحمد برجال الصحيح.
([238]) رواه ابن أبي شيبة وأحمد، والطبراني برجال الصحيح.
([239]) رواه أبو يعلى.
([240]) رواه أبو يعلى بسند حسن.
([241]) رواه الطبراني.
([242]) رواه البزار برجال ثقات.
([243]) رواه البزار برجال ثقات.
([244]) رواه الطبراني.
([245]) رواه أبو بكر بن خيثمة.
([246]) رواه البخاري ومسلم.
([247]) رواه البخاري ومسلم.
([248]) رواه أبو يعلى، ورواه مسلم والترمذي والنسائي مختصرا.
([249]) رواه ابن الضحاك.
([250]) رواه البزار بسند حسن.
([251]) رواه النسائي وابن ماجه، والحاكم.
([252]) رواه ابن ماجه وأبو داود.
([253]) رواه الترمذي، والنسائي، والحاكم.
([254]) رواه الترمذي وقال: حسن عن أم سلمة وابن ماجه، عن أنس والحاكم عن جابر.
([255]) رواه الترمذي وقال حسن غريب والحاكم.
([256]) رواه مسلم.
([257]) رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
([258]) رواه الحاكم، والنسائي.
([259]) رواه ابن حبان، والحاكم.
([260]) زيادة للطبراني.
([261]) رواه الحاكم، عن ابن مسعود وابن حبان.
([262]) رواه الحاكم.
([263]) رواه الطبراني في (الدعاء) عن أنس.
([264]) رواه الحاكم.
([265]) رواه البزار وابن الضحاك.
([266]) رواه ابن الضحاك، وأحمد.
([267]) رواه ابن الضحاك، وأحمد.
([268]) رواه ابن الضحاك، وأحمد.
([269]) رواه ابن عدي، وابن الضحاك.
([270]) رواه ابن عدي، وابن الضحاك.
([271]) رواه الخطيب.
([272]) رواه ابن الضحاك.
([273]) رواه البزار، والطبراني.
([274]) رواه ابن الضحاك، عن أبي الحسن الشيباني منقطعا.
([275]) رواه ابن الضحاك.
([276]) رواه ابن الضحاك.
([277]) رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجالهما ثقات.
([278]) رواه أبو الحسن بن الضحاك، والبزار.
([279]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([280]) رواه ابن أبي شيبة.
([281]) جمعنا الكثير المرتبط بهذا مع حكمه في رسالة (ابتسامة الأنين)
([282]) رواه البخاري ومسلم.
([283]) رواه البخاري.
([284]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([285]) رواه أبو داود وابن ماجه.
([286]) رواه أبو داود.
([287]) رواه الترمذي.
([288]) رواه أحمد.
([289]) رواه أبو الحسن بن الضحاك.
([290]) رواه ابن عدي.
([291]) رواه الترمذي.
([292]) رواه البخاري ومسلم.
([293]) رواه مسلم.
([294]) رواه مسلم.
([295]) رواه البخاري.
([296]) رواه البخاري ومسلم.
([297]) رواه أبو داود والترمذي.
([298]) رواه البخاري ومسلم.
([299]) وقد وردت بصيغ مختلفة منها هذه الصيغة، وهي محل اتفاق بين السنة والشيعة، وإن كان للشيعة صيغ أخرى كثيرة، وكلها صحيحة ومباركة، لكنا هنا نكتفي بالمتفق عليه.
([300]) رواه البخاري.
([301]) رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: في إسناده مقال.
([302]) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
([303]) الظراب: الجبال الصغار.
([304]) رواه البخاري ومسلم.
([305]) الكن: ما يرد الحر والبرد من الأبنية والمساكن.
([306]) رواه أبو داود.
([307]) رواه أبو داود.
([308]) رواه مسلم.
([309]) رواه أبو داود.
([310]) رواه مالك والبخاري في الأدب المفرد.
([311]) رواه البخاري.
([312]) رواه البخاري ومسلم.
([313]) رواه الترمذي.
([314]) رواه مسلم.
([315]) رواه أحمد والترمذي.
([316]) رواه أبو داود.
([317]) رواه مسلم.
([318]) رواه مسلم.
([319]) ) البخاري في خلق أفعال العباد، وابن شالهين في الترغيب في الذكر، وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي.
([320]) ابن أبي حاتم.