أولا ـ الضعيف

قلت: فما السر الأول منها؟ .. ما السر الأول من أسرار الإنسان؟
قال: لقد عبر عنه القرآن الكريم، فقال :{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً } (النساء:28)
قلت: تريد ضعف الإنسان؟
قال: أجل.. فلا يمكن أن تعرف الإنسان، وأنت تجهل ضعفه وقصوره وهوانه.
قلت: ألا ترى أن هذه الحقيقة ستؤدي بنا إلى التقصير في شكر ربنا.. فكيف نشكر الله على ضعفنا؟.. ثم ألا ترى أنا سنتهم ربنا ونعارضه لأنه خلقنا ضعفاء؟
قال: لا.. لن يكمل الإنسان حتى يشعر بضعفه.. ولن تتجلى فيه الحقائق حتى يلبس لباس قصوره.. ولن يدخل رياض الملكوت حتى يقول بكل كيانه (حطة).. ألم يأمر الله بني إسرائيل بأن يقولوا ذلك؟
قلت: بلى.. وقد نص على ذلك قوله تعالى :{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:58)
قال: انظر.. كيف أن الله رتب على قولهم لهذه الكلمة مغفرته لخطاياهم ومزيد فضله عليهم.
قلت: فما سر ذلك؟
قال: ألا ترى التربة الهينة اللينة الضعيفة.. كيف تثمر من كل الثمرات.. بينما الصخور الصلبة القوية لا تنبت شيئا؟
قلت: بلى..
قال: فقد خلق الله الإنسان من تراب.. فمن بقي يشعر بضعف التراب ولين التراب أثمر من كل شيء.. ومن تحول إلى صخرة صلبة قوية فإنه لن ينبت في أرض نفسه شيء.
قلت: فهمت هذا المثال.. فحدثني كيف عرفت أسرار ضعف الإنسان، وما تحمله من معان سامية.
قال: في تلك المدينة العجيبة ـ التي فتح الله لي فيها من علوم الإنسان ما كان منغلقا ـ سرت على غير هدى إلى أن رأيت قصرا مهيبا ممتلئا بجميع ألوان الزخارف.. فحدثتني نفسي أن أسير إليه.. لأتأمل ما أودع فيه صانعوه من صنوف الجمال..
ما اقتربت من بابه حتى انتهرني حجابه الكثيرون.. فانتهرت، ولم أنبس ـ دفاعا عن نفسي ـ ببنت شفة، فقد كان لهم من البطش والقوة ما لا أستطيع معهما أن أرفض لهم أي أمر..
بينما أنا كذلك إذا بي أرى صاحب القصر يصل في سيارة ضخمة إلى قصره، وفي فمه سيجار عملاق.. وقد عجبت لما رأيته.. فقد كان له من قوة الجسد، ومهابة المنظر، وحسن الخلقة ما يملأ العيون..
ولكنه ـ للأسف ـ لم يكن يملك مع هذا الجسد أي عقل..
بمجرد نزوله من السيارة تقدم إليه رجل يشبهه في قوة جسده، وقسمات ملامحه.. وكأنهما أخوان توأمان.. لكن الفرق بينهما شديد.. فبينما كان العتو والطغيان يطغيان على الأول.. كان التواضع والأدب تمتلئ به أسارير الثاني..
لم يطل الحديث بينهما حتى رأيت الأول تتسلط عليه أنفة شديدة.. ثم يمد يده يريد أن يبطش بمحدثه.. لولا أنه حمى نفسه عنه..
فلم يجد الأول إلا أن يكفهر بوجهه، ثم يدخل قصره، وهو ممتلئ كبرياء وغرورا.. بل كأن جميع الغرور والكبرياء ركبتا فيه.
امتلأت حزنا على الثاني.. واقتربت منه لأسليه، فقال: لا تسليني أنا.. فهو أحوج مني إلى التسلية.
قلت: ما تقول.. الناس عادة يسلون المستضعفين لا المستكبرين..؟
قال: ذلك لعدم علمهم بحقيقة الإنسان.. ولو علموا حقيقته لم يجدوا إلا أن يسلوا المستكبرين.. ذلك أن كل مستكبر يحمل في حقيبة نفسه المملوءة بالغرور جميع السموم التي لا دور لها إلا الإجهاز عليه.
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألم يخلق الله الإنسان من تراب؟
قلت: بلى.. فقد قال تعالى :{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} (الروم:20)، وقال مخبرا عن حديث الرجل المؤمن مع صاحبه الممتلئ بالغرور :{ قالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} (الكهف:37)
قال: انظر كيف يربي ربك عباده بالتراب الذي خلقوا منه.
قلت: ما تعني؟
قال: إن ربك يأمر عباده بأن يتذكروا التراب الذي نشأوا منه لئلا يحتقروا التراب الذي يمشون عليه.. ولا يحتقروا من يمشي معهم عليه.
قلت: لقد ذكرت لي أن من شأنه التكبر على هذا التراب يحتاج إلى أن يعزى في نفسه.
قال: أجل.. لأن التراب الذي تكبر عليه سيضمه لا محالة.. وسيعرف الطريقة التي يضمه بها.. ألم تسمع خبر قارون؟
قلت: بلى..
ابتسم، وقال: لقد سمي هذا الرجل الذي كنت أتحدث إليه لشقائه باسم قارون.. كان اسمه الذي سماه به والده هارون.. فأبى إلا أن يحول من الهاء قافا.. ويحول نفسه عن تواضع هارون ولينه([1]) إلى كبرياء قارون وعتوه.
قلت: أرى أن لك به معرفة..
قال: هو أخي.. هو ابن أبي وأمي.. سماني والدي موسى.. كما سماه هارون تفاؤلا بأسماء الأنبياء.. لكن أخي بغى علينا، وكان أول ما فعله بعد أن تحول إلى قارون أن قطع بيننا وبينه كل صلة.. بل قطع بينه وبين ربه كل صلة..
كان يصيح في الناس كل حين كما يصيح قارون :{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (القصص:78)
وكان الناس قد انقسموا لما رأوه قسمين:
أما أولهما، فردد ما ردده الغافلون الذين انشغلوا بزينة قارون عن الضعف الخطير الذي كان يحمله.. لقد رددوا ـ شعروا أو لم يشعروا ـ :{ يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)} (القصص)
وأما الثاني، ففريق من المؤمنين خاطبوه قائلين :{ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) } (القصص)
لكنه أجابهم بنفس إجابة قارون.. والتي ظل يرددها كل حين :{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } (القصص:78)
قلت: لكأني أرى قصة قارون تتكرر أمامي.
قال: هي لا تتكرر أمامك فقط.. بل هي تتكرر في جميع الأرض.. تتكرر بين الأفراد والجماعات.. وبين الأمم والشعوب.. كلهم يفخر ويزهو ببعض ما أوتيه من قوة غافلا عن القنابل الموقوتة التي قد تدمر حياته كل حين.
قلت: قنابل موقوتة!؟
قال: أجل.. لقد ركب الله في أجهزة الإنسان من الضعف ما يستأصله إن بغى وطغى..
قلت: فالإنسان يشعل ـ إذن ـ في عتوه فتيلة تفجيره؟
قال: أجل.. هو يشعلها ـ من حيث لا يشعر ـ كما يشعل سيجارته..
لست أدري كيف قلت له من حيث لا أشعر: أنا طالب أبحث عن الإنسان.. وأحسب أن لك معرفة به.. فدلني عليه.
قال: لن تعرف الإنسان حتى تعرف ضعفه.. والقنابل الموقوتة التي يحملها في ضعفه.
قلت: فما هي؟
قال: للإنسان من الضعف عدد ما فيه من الخلايا.. وفيه من النقص عدد ما في ربه من الكمالات..
قلت: فلا يمكن إحصاء ضعفه إذن.
قال: ما دمنا لا نحصي كمال ربنا.. فلا يمكننا بحال من الأحوال أن نحصي ضعف نفوسنا.. بل إن ضعف نفوسنا هو المرآة التي تتجلى فيها كمالات ربنا.
قلت: لقد عرفت هذا في رحلتي للبحث عن الله.. وأنا أريد أن أعرف الإنسان.
قال: سأحدثك عن سبعة أركان لضعف الإنسان.. لا يليق بعاقل أن يجهلها.
قلت: فمن أين تعلمتها؟
قال: لقد شاء الله لي أن أنتمي إلى مدرسة من مدارس المعرفة.. وقد تعلمت من أساتذتها من أركان ضعف الإنسان ما حماني من الوقوع في متاهة القوة المزيفة.
قلت: فأخبرني عن ذلك.. فما أحلى أحاديث المدارس، وما أعذبها.
قال: سأبدأ حديثي من أوله..
ذات يوم، دخلت الحمام.. ثم لبست ثوبا جديدا.. ثم ركبت حصانا لي.. وكان حصانا في غاية القوة..
وبينا أنا كذلك إذا بهواتف غريبة تدعوني للاستعلاء، وتقول لي: أنت شاب قوي وسيم تملك كل أنواع القوة..
أنت إنسان مكرم قد سخر لك كل شيء.. فهذا الحصان مع قوته مستعبد لك لا يتحرك إلا بإذنك، ولا يسكن إلا بإذنك..
أنت لك من شدة الذكاء وقوة الذاكرة وحدة الملاحظة ما تفرق في غيرك..
أنت لك..
بقيت هذه الخواطر تتردد على خاطري إلى أن أصابني من الزهو الكاذب ما لا يمكن تصوره..
ما أصابني ذلك الزهو حتى رماني الحصان من على ظهره، وكأني قد ثقلت عليه، وقد أصابني من الكسور بسبب رميه لي ما لا أزال أحمد الله عليه كل حين.
قلت: أتحمد الله على ما أصابك من الكسور؟
قال: أجل.. لقد كانت كسور جسدي هي المراهم التي عولجت بها جراح قلبي.. وجراح قلبي أخطر بكثير من جراح جسدي.. لقد كان أول ما فعلته بعد أن شفاني الله أن رحت أعتذر إلى ذلك الحصان الذي سخره الله لي، وأقول له بكل تواضع: اعذرني.. فلست إلا عبدا مثلك ابتليت بي وابتليت بك.. أمرت بأن أقول عندما أركبك :{ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)} (الزخرف)، لكني أبيت إلا أن أذلك لنفسي، وأستعبدك لنفسي..
أمرت أن أركبك عبدا، لكني أبيت أن أركبك إلا ربا.. فحاق بي ما حاق بجميع من ادعى ما ليس له.
في ذلك الموقف الذي وقفته قيض الله لي رجلا من الصالحين علمت بعد ذلك أن اسمه (أحمد الرفاعي)([2])، رآني في تلك الحال، فابتسم، وقال: ها قد وجدت تلميذا جديدا لمدرستي.
ابتسمت قائلا: لقد تخرجت منذ زمن طويل من الجامعة، ونلت أرفع الرتب فيها.. فكيف تريدني تلميذا في مدرستي.
قال: مدرستي لا تفرق بين الأمي والعالم.. الكل تجده فيها.. الكل فيها يدرس ويدرِِّس.
قلت: ما اسم مدرستك؟
قال: اسمها (مدرسة الضعفاء)، وبعضهم يطلق عليها اسم (مدرسة الفقراء)، وآخرون يطلقون عليها (مدرسة العجزة)
قلت: أنا أبحث عن المدرسة التي تعلمني القوة، لا المدرسة التي تعلمني الضعف..
قال: من لم يعرف ضعفه لم يصل إلى قوته.. ومن لم يصل إلى عجزه لن يصل إلى توفيقه.
قلت: أراك تشير إلى معان خفية عني.
قال: ما دمت قد فقهت أن تعتذر للحصان، فسيفتح الله لك من فهمها ما فتحه على أوليائه.
قلت: لا بأس.. ما دمت قد ذكرت لي هذا.. فهلم سر بي إليها.
قال: هذه المدرسة لا يمكنك أن تسير إليها بهذه الحال.
قلت: وكيف أسير إليها؟
قال: أنت الآن في حلة فاخرة.. وهذه المدرسة لا يذهب إليها إلا من تخلى عن جميع حظوظه.. وأول الحظوظ هذا الكفن الذي تكفن به جسدك؟
قلت: لقد رفع عنا الحرج في اللباس، وقد ورد في القرآن قوله تعالى :{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)} (الأعراف)
وقد روي عن أبي مطر؛ أنه رأى عليا أتى غلامًا حدثًا، فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين، يقول ولبسه: (الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي)، فقيل: هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عند الكسوة: (الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي)([3])
وحدث أبو الأحوص عن أبيه أنّه قال: أتيت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ثوب دون فقال: (ألك مال؟)، قال: نعم من كلّ المال. قال: (من أيّ المال؟)، قال: قد آتاني اللّه من الإبل والغنم والخيل والرّقيق، قال: (فإذا آتاك اللّه مالا فلير أثر نعمة اللّه عليك وكرامته)([4])
قال: وروي في الحديث عن عبد اللّه بن شقيق أنّه قال: كان رجل من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عاملا بمصر فأتاه رجل من أصحابه فإذا هو شعث الرّأس مشعانّ([5])، قال: (مالي أراك مشعانّا وأنت أمير؟) قال: كان نبيّ اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ينهانا عن الإرفاه([6])، قلنا: وما الإرفاه؟ قال: (التّرجّل كلّ يوم)([7])
وعن أبي أمامة الحارثيّ أنه ذكر أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يوما عنده الدّنيا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا تسمعون، ألا تسمعون، إنّ البذاذة([8]) من الإيمان، إنّ البذاذة من الإيمان، يعني التّقحّل)([9])
وعن سراقة بن مالك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (يا سراقة ألا أخبرك بأهل الجنّة وأهل النّار؟) قلت: بلى يا رسول اللّه. قال: (أمّا أهل النّار فكلّ جعظريّ جوّاظ مستكبر، وأمّا أهل الجنّة فالضّعفاء المغلوبون)([10])
ولاشك أنك تحفظ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ربّ أشعث([11]) مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللّه لأبرّه)([12])، وقوله: (تعس عبد الدّينار وعبد الدّرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل اللّه، أشعث رأسه مغبرّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السّاقة كان في السّاقة، إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفّع)([13])
قلت: أتضرب النصوص المقدسة بعضها ببعض؟
قال: حاش لله.. ولكن أولياء الله الذين جعلهم الله أدلاء عليه قد اتفقوا على أن على المريد في أول سلوكه أن يتلخص من كل ما يشعره بأنانيته وقوته وغناه وعلمه.. فلا يمكن أن يصل إلى الله إلا من تحقق بقصوره..
وقد روي في هذا أن شاهداً عظيم القدر من أعيان أهل بسطام كان لا يفارق مجلس أبي يزيد، فقال له يوماً: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لا أفطر وأقوم الليل لا أنام ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئاً وأنا أصدق به وأحبه، فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلثمائة سنة وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة! قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك، قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم، قال: قل لي حتى أعمله، قال: لا تقبله، قال: فاذكره لي حتى أعمل، قال: اذهب الساعة إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك وقل: كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك، فقال الرجل: سبحان الله! تقول لي مثل هذا! فقال أبو زيد: قولك (سبحان الله) شرك، قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمتك نفسك فسبحتها وما سبحت ربك! فقال: هذا لا أفعله ولكن دلني على غيره! فقال: ابتدئ بهذا قبل كل شيء. فقال: لا أطيقه، قال: قد قلت لك إنك لا تقبل؟
قلت: ألا ترى أن هذه الوصفة مخالفة للشرع؟
قال: لا.. هذا دواء من الأدوية التي يعالج بها المربون النفوس الممتلئة بالكبر والغرور.. وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الله (ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء أو دواء علمه من علمه وجهله من جهله)([14])
قلت: ذاك في طب الأجسام.
قال: أترى أن الله الرحيم الرحمن أنزل لكل داء من أدواء الأجساد ما يعالجه، ولم ينزل مثله ما يداوي أدواء الأرواح؟
قلت: الجسد مختلف عن النفس.
قال: لقد عبر أولياء الله من الجسد إلى النفس، فذكروا أن([15]) مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة عليها، مثال البدن في علاجه بمحو العلل عنه وكسب الصحة له وجلبها إليه.
وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال، وإنما تعتري المعدة الضرر بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، فكذلك كل مولود يولد معتدلاً صحيح الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسناه – أي بالاعتياد والتعليم تكسب الرذائل –
وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشو والتربية بالغذاء؛ فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال؛ وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم.
وكما أن البدن إن كان صحيحاً فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة وإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه؛ فكذلك النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة فينبغي أن تسعى لحفظها وجلب مزيد قوة إليها واكتساب زيادة صفائها، وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك عليها.
وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها فإن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب وعلاجها بضدها. فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخى، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفاً.
وكما أنه لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب بل أولى. فإن مرض البدن يخلص منه بالموت ومرض القلب مرض يدوم بعد الموت أبد الآباد.
وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كانت على حد مخصوص فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار.
وكما أن معيار الدواء مأخوذ من عيار العلة حتى إن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها أهي ضعيفة أم قوية؟ فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن وأحوال الزمان وصناعة المريض وسنه وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها، فكذلك طبيب النفوس لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم.
وكما أن طبيب الأجساد لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم فكذلك طبيب النفوس لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم.. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة ويبني على ذلك رياضته.
قلت: إن ما ذكرته يجعل مما تقوله علما قائما بذاته.
قال: بل علوما قائمة بذاتها.
قلت: فأين أتعلم علمها؟
قال: في المدرسة التي دعوتك إلى الانتساب إليها.
قلت: فهلم سر بي إليها.. فما أحوجني إلى التخلص من درن نفسي.
سرت مع الرفاعي إلى أول قسم من المدرسة، وكان اسمه (قسم الجهل)، فسألته متعجبا: عادة المدارس أنها تعلمنا العلم، لا الجهل.
قال: لا يمكن أن يتعلم العلم من لم يعلم أنه جاهل.. فالعلم بالجهل هو مقدمة العلم.. وقد ذكر الله أن الأمم ما حجبت عن رسلها إلا بما توهمته من علمها.. لقد ذكر الله ذلك، فقال:{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(83)} (غافر)
قلت: أنت تذكرني بأخي قارون.. فقد كان عالما بالكيمياء وأسرارها، وقد أتيح له بسببها أن يكتشف مركبات استطاع أن يكتسب من خلال تصنيعها أموالا ضخمة.. وقد جعله غروره يصيح في كل حين :{.. إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي..(78)} (القصص)
قال: ويله :{ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)} (القصص)
قلت: وعيت أهمية هذا القسم وضرورته.. فمن شيخه؟
قال: شيخه علم من أعلام هذه الأمة الكبار، وقد قدم من بخارى، واسمه [محمد بهاء الدين النبقشندي([16])] على اسم جده الأكبر مؤسس الطريقة النقشبندية.
دخلنا إلى القسم، فرأينا الراغب يخاطب تلاميذه المحيطين به بقوله: والآن.. سلوني ما بدا لكم.
قال بعض تلاميذه: لقد وعينا جميع ما ذكرت.. ونحن نسألك عن أصناف الناس في علاقة علمهم بالعمل.
قال: الناس في علاقة علمهم بعملهم على أربعة أصناف([17]) :
الصنف الأول: من له العلم بما يجب أن يفعل، وله مع ذلك قوة العزيمة على العمل به، وهم الموصوفون بقوله تعالى في غير موضع :{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.. }
والصنف الثاني من عدمهما جميعاً وهم الموصوفون بقول الله تعالى :{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} (الأنفال) وقوله :{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} (الأعراف)، وقوله :{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} (الفرقان)
والصنف الثالث: من له العلم وليس له قوة العزيمة على فعله، فهو في مرتبة الجاهل بل هو شرٌّ منه، كما روي أن حكيماً سئل: متى يكون العلم شرّاً من الجهل فقال: (أن لا يعمل به)، وروي عن أمير المؤمنين عليّ أنه قال: (من كانت ضلالته بعد التصديق بالحق فهو بعيد من المغفرة)
والصنف الرابع: من ليس له العلم لكن له قوة العزيمة، فهذا متى انقاد لأهل العلم وعمل بقولهم أنجح في فعله وصار من الموصوفين بقوله تعالى :{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} (النساء)
قال آخر: فما مراتب الناس في الجهل؟
قال النقشبندي: الناس في الجهل على أربعة منازل:
الأوّل: من لا يعتقد اعتقادا لا صالحا ولا طالحا، فأمره في إرشاده سهل إذا كان له طبع سليم، فإنّه كلوح أبيض لم يشغله نقش، وكأرض بيضاء لم يلق فيها بذر، ويقال له باعتبار العلم النّظريّ: غفل، وباعتبار العلم العمليّ: غمر، ويقال له: سليم الصّدر.
والثّانيّ: معتقد لرأي فاسد، لكنّه لم ينشأ عليه، ولم يتربّ به، واستنزاله عنه سهل، وإن كان أصعب من الأوّل، فإنّه كلوح يحتاج فيه إلى محو وكتابة، وكأرض يحتاج فيها إلى تنظيف، ويقال له: غاو وضالّ.
والثّالث: معتقد لرأي فاسد قد ران على قلبه، وتراءت له صحّته، فركن إليه لجهله وضعف نحيزته، ممّن وصفهم اللّه تعالى بقوله :{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} (الأنفال) فهذا ذو داء أعيا الأطبّاء، فما كلّ داء له دواء، فلا سبيل إلى تنبّهه وتهذيبه.. كما قيل لحكيم يعظ شيخا جاهلا: ما تصنع؟ فقال: أغسل مسحا لعلّه يبيضّ.
والرّابع: معتقد اعتقادا فاسدا عرف فساده، أو تمكّن من معرفته، لكنّه اكتسب دنيّة لرأسه، وكرسيّا لرئاسته، فهو يحامي عليها، فيجادل بالباطل ليدحض به الحقّ، ويذمّ أهل العلم ليجرّ إلى نفسه الخلق، ويقال له: فاسق ومنافق، وهو من الموصوفين بالاستكبار والتّكبّر في مثل قوله تعالى :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)} (النساء)، وقوله :{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)} (المنافقون) فنبّه تعالى أنّهم ينكرون ما يقولونه لمعرفتهم ببطلانه، لكن يستكبرون عن التزام الحقّ وذلك حال إبليس فيما دعي إليه من السّجود لآدم u ([18]).
قال آخر: فما أصناف الذين جمعوا بين الجهل والظّلم.. أولئك الّذين جمعوا بين الجهل بالحقيقة والظّلم باتّباع أهوائهم؟
قال النقشبندي: قسمان([19]):
أولهما: أهل الجهل المركّب.. وأهل الجهل والضّلال.. أولئك الذين يحسبون أنّهم على علم وهدى.. أولئك الّذين يجهلون الحقّ ويعادونه ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالون أهله.. أولئك:{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (الكهف).. أولئك الذين :{.. يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)} (المجادلة)، فهم لاعتقادهم الشّيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السّراب الّذي :{.. يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا..(39)} (النور)
وهكذا هؤلاء.. أعمالهم وعلومهم بمنزلة السّراب الّذي يكون صاحبه أحوج ما هو إليه، ولم يقتصر على مجرّد الخيبة والحرمان كما هو الحال فيمن أمّ السّراب فلم يجده ماء، بل انضاف إلى ذلك أنّه وجد عنده أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين سبحانه وتعالى، فحسب له ما عنده من العلم والعمل فوفّاه إيّاه بمثاقيل الذّرّ، وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه، فجعله هباء منثورا؛ إذ لم يكن خالصا لوجهه، وصارت تلك الشّبهات الباطلة الّتي كان يظنّها علوما نافعة كذلك هباءا منثورا.
وثانيهما: أصحاب الظّلمات، وهم المنغمسون في الجهل، قد أحاط بهم من كلّ وجه، فهم بمنزلة الأنعام، بل هم أضلّ سبيلا، فهؤلاء أعمالهم الّتي عملوها على غير بصيرة، بل بمجرّد التّقليد واتّباع الآباء من غير نور من اللّه تعالى، كظلمات عديدة وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظّلم واتّباع الهوى، وظلمة الشّكّ والرّيب، وظلمة الإعراض عن الحقّ الّذي بعث اللّه تعالى به رسله- صلوات اللّه وسلامه عليهم-، والنّور الّذي أنزله معهم ليخرجوا به النّاس من الظّلمات إلى النّور.
فإنّ المعرض عمّا بعث اللّه تعالى به محمّدا صلى الله عليه وآله وسلم من الهدى ودين الحقّ يتقلّب في خمس ظلمات: قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظّلمة، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلم؛ وإذا قابلت بصيرته الخفّاشيّة ما بعث اللّه به محمّدا صلى الله عليه وآله وسلم من النّور جدّ في الهرب منه، وكاد نوره يخطف بصره، فهرب إلى ظلمات الآراء الّتي هي به أنسب وأولى كما قيل:
خفافيش أعشاها النّهار بضوئه
|
ووافقها قطع من اللّيل مظلم |
قال آخر: فقد آل الأمر إلى أن الجهل المركب أو البسيط هو منبع الرذائل ومرتعها.
قال النقشبندي: أجل.. ولهذا أسسنا هذا القسم لنبحث في أنواع الجهل، وكيفية الخروج منه.. فلا يمكن أن يعرف نفسه من لم يعرف جهله.
قال الرجل([20]): لقد ذكر بعض الفلاسفة والعلماء أنّ (العلم يساوي الأخلاق)، ونقلوا عن سقراط الحكيم أنّ العلم والحكمة والمعرفة هي المنبع الرّئيسي للأخلاق.. وأنّ الرّذائل الأخلاقيّة سببها الجهل.
قال النقشبندي: هذا الكلام ينبغي فهمه على ضوء ما سبق أن ذكرته لكم من أصناف الناس في علاقة علمهم بعملهم.. فهناك من يعملون بعلمهم ويعيشونه، وهناك من يعزلونه ويغفلون عنه أو يتغافلون.
أما دور العلم في التربية، فلا شك في ضرورته.. فلا يمكن أن يؤسس بنيان الأخلاق من غير لبنات العلم النافع.
لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى في بيان الهدف من البعثة:{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} (الجمعة)
و بناءً على ذلك، فإنّ النّجاة من الضّلال المبين، و الطّهارة من الرّذيلة والذنوب تأتي بعد تلاوة الكتاب المجيد، وتعليم الكتاب والحكمة، وهو دليلٌ واضحٌ على وجود العلاقة بين الاثنين.
وقد ذكر القرآن الكريم للدلالة على هذه الحقيقة نماذج كثيرة.. يكفيكم عشرة منها..
قالوا: فما أولها؟
قال: أولها.. أن الجهل مصدرٌ للفساد و الإنحراف.. قال تعالى يقرر ذلك :{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)} (النمل)، فقرن هنا الجهل، بالإنحراف الجنسي والفساد الأخلاقي.
قالوا: فما الثاني؟
قال: ثانيها.. أن الجهل سبب للانفلات و التّحلل الجنسي.. قال تعالى يقرر ذلك مخبرا عن دعاء يوسف u :{ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} (يوسف)
قالوا: فما الثالث؟
قال: ثالثها.. أن الجهل أحد عوامل الحسد.. قال تعالى يقرر ذلك مخبرا عن حديث يوسف u مع إخوته:{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)} (يوسف)، أي أنّ جهلكم هو السبب في وقوعكم في أسر الحسد، الذي دفعكم إلى تعذيبه، و السّعي لقتله، و إلقائه في البئر.
قالوا: فما الرابع؟
قال: رابعها.. أن الجهل هو مصدر التّعصب و العناد و اللؤم..فقد ذكر الله تعالى أنّ تعصّب مشركي العرب في الجاهلية، كان بسبب جهلهم و ضلالهم، قال تعالى :{ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ..(26)} (الفتح)
قالوا: فما الخامس؟
قال: خامسها.. أن الجهل هو السبب الأكبر في تلك الذرائع التي كان يواجه بها الأقوام أنبياءهم.. قال تعالى يقرر ذلك :{ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)} (البقرة)
قالوا: فما السادس؟
قال: سادسها.. أن الجهل هو المنبع الذي ينشأ عنه سوء الظنّ بالله.. قال تعالى يقرر ذلك: { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ.. (154)} (آل عمران)
قالوا: فما السابع؟
قال: سابعها.. أن الجهل هو المنبع الذي ينشأ عنه سوء الأدب.. قال تعالى عند ذكر الّذين لا يحترمون مقام النبوة :{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)} (الحجرات)، ففي قوله تعالى :{ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } إشارة لطيفة للسّبب الكامن وراء سوء تعاملهم، و قلّة أدبهم وجسارتهم.
قالوا: فما الثامن؟
قال: ثامنها.. أن الله تعالى وصف أصحاب النّار بأنهم لا يفقهون.. وأصحاب النّار هم أصحاب الرذائل، وهم الملوّثون بألوان القبائح.. وفي ذلك إشارة إلى العلاقة بين الجهل وارتكاب القبائح، قال تعالى :{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} (الأعراف)
قالوا: فما التاسع؟
قال: تاسعها.. أن الجهل هو منبع الضعف الأكبر.. قال تعالى يقرر ذلك :{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)} (الأنفال)
قالوا: فما العاشر؟
قال: عاشرها.. أن الجهل هو منبع النفاق والفرقة.. قال تعالى عند ذكر يهود (بني النضير)، وعجزهم عن مُقاومة المسلمين، لأنّهم كانوا مُختلفين و مُتفرقين، رغم أنّ ظاهرهم الوحدة والاتفاق :{ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} (الحشر)
قام رجل من الجالسين: صدقت.. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن فساد أمر هذه الأمة يكون على أيدي الجهلة السفهاء خفيفي العقول.. ففي الحديث عن جابر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لكعب بن عجرة: ( (أعاذك اللّه من إمارة السّفهاء). قال: وما إمارة السّفهاء؟ قال: (أمراء يكونون بعدي لا يقتدون بهديي، ولا يستنّون بسنّتي، فمن صدّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا منّي، ولست منهم ولا يردون عليّ حوضي، ومن لم يصدّقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك منّي، وأنا منهم، وسيردون عليّ حوضي)([21])
وعن عبس الغفاريّ أنّه لمّا رأى النّاس يخرجون في الطّاعون قال: يا طاعون خذني (ثلاثا)، فقال له رجل: لم تقول هذا؟: ألم يقل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يتمنّ أحدكم الموت؛ فإنّه عند انقطاع عمله. ولا يردّ فيستعتب) فقال: إنّي سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (بادروا بالموت ستّا: إمرة السّفهاء، وكثرة الشّرط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدّم، وقطيعة الرّحم، ونشوا يتّخذون القرآن مزامير، يقدّمونه يغنّيهم وإن كان أقلّ منهم فقها)([22])
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ هلاك أمّتي على يدي غلمة سفهاء من قريش)([23])
وقال: (إنّها ستأتي على النّاس سنون خدّاعة، يصدّق فيها الكاذب، ويكذّب فيها الصّادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرّويبضة) قيل: وما الرّويبضة؟. قال: (السّفيه يتكلّم في أمر العامّة)([24])
وقال: (ضاف ضيف رجلا من بني إسرائيل وفي داره كلبة مجحّ([25])، فقالت الكلبة: واللّه لا أنبح ضيف أهلي. قال: فعوى جراؤها في بطنها قال: قيل: ما هذا؟ قال: فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إلى رجل منهم: هذا مثل أمّة تكون من بعدكم يقهر سفهاؤها أحلامها)([26])
وقال: (يخرج في آخر الزّمان أقوام أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البريّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)([27])
***
بقيت مدة في قسم الجهل.. أتعلم من النقشبندي وتلاميذه منابع الجهل وثماره ومحاله إلى أن أيقنت بجهلي وقصور علمي.. وأيقنت أن كل ما أوتيته من علم لا يستطيع أن يصد جحافل الجيوش التي ينشرها جهلي..
وقد ملأني هذا الشعور بالحياء.. فصرت أستحيي من ذكر شهاداتي التي كانت تملؤني فخرا وزهوا.
وقد أيقنت فوق ذلك أن العلم الذي تعلمته والذي لم يتحول إلى عمل لا يختلف عن جهلي بما لم أعلمه.. بل إن الأمر أخطر من ذلك.. وقد وعظنا – مرة – النقشبندي في هذا، فقال([28]): لا تكونوا من الأعمال مفلسين، ولا من الأحوال خالين، وتيقّنوا أن العلم المجرد لا يأخذ باليد.. مثال ذلك ما لو كان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى، وكان الرجل شجاعا وأهل حرب، فحمل عليه أسد عظيم مهيب، فما ظنّكم؟ هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟!
ثم أجاب قائلا: أنتم تعلمون أنها لن تدفع عنه إلا بالتحريك والضرب.. وهكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها، ولم يعمل بها: لا تفيده إلا بالعمل.
بعد أن تعلمت هذه العلوم، وغيرها طلب مني النقشبندي أن أسير إلى القسم الثاني..
2 ـ الجدل
سرت إلى القسم الثاني، وكان اسم شيخه وأستاذه علم كبير من أعلام الإسلام اسمه أبو الحسن الشاذلي([29]).
كان أول مجلس جلسته معه ومع تلاميذه في تفسير قوله تعالى :{ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ..(197)} (البقرة)
ومما لا أزال أذكره من ذلك الدرس قوله([30]): الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص، وهو قوله :{ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه أربعة قوى: قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سبعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية.
وعلم كذلك بالضرورة أن المقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة: الشهوانية، والغضبية، والوهمية.
ففي قوله :{ فَلاَ رَفَثَ } إشارة إلى قهر الشهوانية..
وفي قوله :{ وَلاَ فُسُوقَ } إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب.
وفي قوله :{ وَلاَ جِدَالَ } إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله وأفعاله، وأحكامه، وأسمائه، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم، والمخاصمة معهم في كل شيء، وقد أشار الله تعالى إلى هذه القوة في قوله:{.. وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)} (الكهف)
وقد وردت النصوص الكثيرة تأمر بتهذيب هذه القوة الداعية إلى الجدل، وتعد بالوعد الجزيل من استطاع التحكم فيها، وتتوعد بالوعيد الخطير من ركن لها، فراحت تتحكم فيه.
ففي الوعد ورد قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن تركه وهو محق بني له في وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها)([31])
وقال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وترك الكذب وإن كان مازحا، وحسن خلقه)([32])
وفي الوعيد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)، ثم قرأ:{ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا.. (58)} (الزخرف)([33])
وقال: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد([34]) الخصم)([35])
وقال: (كفى بك إثما أن لا تزال مخاصما)([36])
وقال: (المراء في القرآن كفر)([37])
وروي عن جمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا، فقال: (مهلا يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا.. ذروا المراء لقلة خيره.. ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري.. ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته.. ذروا المراء فكفى إثما أن لا تزال مماريا.. ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة.. ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رباضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق.. ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء)([38])
وروي عن أبي سعيد قال: كنا جلوسا عند باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نتذاكر ينزع هذا بآية، وينزع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يفقأ في وجهه حب الرمان، فقال: (يا هؤلاء بهذا بعثتم؟ أم بهذا أمرتم؟ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)([39])
قال بعض الحاضرين: كيف تقول هذا.. وقد ورد في النصوص المقدسة اعتبار الجدال وسيلة من وسائل الدعوة، قال تعالى:{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} (العنكبوت)، وقال:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} (النحل)
قال الشاذلي: لقد قيدت هذه الآيات الكريمة الجدال بكونه :{ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }، وهو قيد يحول من الجدال حوارا بالمعروف.. وشتان بين الحوار وبين الجدال.
قلت: فما الفرق بينهما؟
قال: لقد ذكر العلماء في هذا أربعة مصطلحات بجميعها وردت النصوص.
قال الرجل: فما أولها؟
قال: الحوار، وهو (تبادل الحديث)، أو (الكلام المتبادل بين طرفين)، أو (الكلام وتبادل الرأي من أجل الوصول إلى الحقيقة) أو (هو تردد الكلام ـ أو ما يقوم مقامه ـ بين المتخاطبين على وجه المراجعة في القول وانتظار الجواب للوصول إلى الحقيقة)([40])
وهو ممدوح في كل الأحوال، لأنه وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، ووسيلة من وسائل طلب العلم.. ولهذا لم يذمه القرآن الكريم مطلقا، بل ورد ما يشير إلى مدحه، ومن ذلك قوله تعالى :{ :{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)} (الكهف)، وقوله :{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} (المجادلة)
قال الرجل: فما الثانية؟
قال: المراء، وهو طعنك في كلام غيرك لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مرتبتك عليه.. وقد ذكرت لكم ما ورد في فضل تركه.
قال الرجل: فما الثالثة؟
قال: الجدل هو دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجّة أو شبهة، أو هو ما يقصد به تصحيح كلامه، أو هو ما يتعلق بإظهار الآراء وتقريرها.
وهو في أصله مذموم، كما ورد ذلك في قوله تعالى :{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)} (البقرة)، وقوله:{ كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)} (الأنفال)، وقوله:{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)} (الأنعام)، وقوله:{ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} (الأنعام)، وقوله:{ وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)} (الحج)، وقوله:{ إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)} (غافر)، وقوله:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)} (غافر)، وقوله:{ وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)} (الشورى)، وقوله :{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)} (الرعد)، وقوله :{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8)} (الحج)، وقوله :{ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)} (غافر)
وقد يمدح إذا تقيد بالقيود الشرعية، وبالتالي يتحول من الجدل الذي لا يقصد منه إلا الغلبة إلى الحوار الممدوح.
قال الرجل: فما الرابعة؟
قال: الخصومة، وهي ثمرة من ثمار المبالغة في الجدل.. وقد وردت النصوص بذمه ذما شديدا.. ومن ذلك قوله تعالى :{ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)} (النساء)
وقال تعالى:{ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59)} (الزخرف)
وفي الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (كفى بك أن لا تزال مخاصما)([41])
وقال: ( أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)([42])، أي كثير الخصومة.
قال الرجل: ولكن مع ما ذكرت فإنا أحيانا قد نجد أنفسنا مضطرين للخصومة.
قال: لقد ذكر العلماء أن الذم متوجه لمن خاصم بباطل، أو بغير علم.. ويدخل في الذم كذلك من طلب حقا، لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة منه، بل يظهر اللدد والكذب للإيذاء أو التسليط على خصمه.. وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره.. وكذلك من يخلط الخصومة بكلمات تؤذي، وليس له إليها ضرورة في التوصل له إلى غرضه، فهذا هو المذموم.
أما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء ففعله هذا ليس مذموما ولا حراما، لكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا ؛ لأن ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر والخصومة توغر الصدور وتهيج الغضب، فإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما حتى يفرح كل واحد منهما بمساءة الآخر ويحزن بمسرته ويطلق اللسان في عرضه، فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات وأقل ما فيها اشتغال القلب حتى إنه يكون في صلاته وخاطره معلقا بالمحاججة والخصومة، فلا يبقى حاله على الاستقامة، والخصومة مبدأ الشر.
***
بقيت مدة في قسم الجدل.. أتعلم من الشاذلي وأصحابه كيف أوجه الجدل إلى الجهة الحسنى، وأتدرب على ذلك، وقد كانت تداريب في غاية الإرهاق والتعب..
وبعدما امتحنني الشاذلي ببعض الامتحانات، ورأى أني قد نجحت فيها أجازني في هذا القسم، وأمرني أن أسير إلى القسم الثالث..
سرت إلى القسم الثالث.. وقد كان شيخه الشيخ عبد القادر الجيلاني([43]).. وكان أول ما سمعته منه قراءته بصوت خاشع لقوله تعالى:{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)} (الأنعام)، وقوله:{ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)} (الأنعام)، وقوله: { الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)} (الأعراف)، وقوله:{ ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)} (الجاثية)
سأله بعض الحاضرين قائلا: إن هذه الآيات تتحدث عن الغرور.. وتعتبره السبب الأكبر فيما يقع فيه الإنسان من أنواع الضلال والانحراف.. فما الغرور([44])؟
قال: الغرور هو سكون النّفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطّبع عن شبهة، أو خدعة من الشّيطان.. فمن اعتقد أنّه في خير إمّا في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة، أو وسواس خادع فهو مغرور.
قال الرجل: فهو نوع من الجهل إذن؟
قال ابن الجوزي: أجل.. فالمغرور يشارك الجاهل في أنه يعتقد الشّيء ويراه على خلاف ما هو عليه..
قال الرجل: فما الأصناف التي يصيبها هذا الداء؟
قال الجيلاني: أنبئني أولا عن الأصناف التي تصلها وساوس الشيطان.
قال الرجل: وساوس الشيطان تصل إلى الكل.. فليس هناك من عصم منها إلا من عصمه الله بتقواه وإخلاصه.
قال الجيلاني: فالغرور يصيب الكل إذن إلا من عصمه الله بتقواه وإيمانه وإخلاصه.
قال الرجل: عجبا.. كيف تذكر أنه يصيب الكل.. وقد وصف الله به الكفار.
قال الجيلاني: كونه صفة للكفار لا يعني عصمة المؤمنين منه.. لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصاف المنافقين، فقال: (أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) ([45]) .. فهل ترى هذه الأوصاف خاصة بالمنافقين.. أم أن من عوام المؤمنين من يقع فيها؟
قال الرجل: بل من عوامهم من يقع فيها؟
قال الجيلاني: فهكذا الغرور.. ومع ذلك فقد أخبر الله تعالى أن الشيطان قد يصل بحبال غروره إلى خواص خواص عباد الله.. قال تعالى مخبرا عن خبر آدم وزوجه مع إبليس في الجنة: { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)} (الأعراف)
قال آخر: إن هذا يدعوك إلى أن تذكر لنا الحبال التي يصل بها الشيطان إلى بني آدم ليملأهم بالغرور.
قال الجيلاني: هذا هو الهدف الذي من أجله أسس هذا القسم.. إننا نبحث فيه عن الحبال التي يدليها الشيطان إلى أصناف الخلق ليملأهم بالغرور.
قال الرجل: فحدثنا عما وصلتم إليه.
قال الجيلاني: ذلك كثير.. لا يمكن وصفه ولا حصره.. ولكن سلوني ما بدا لكم عن أصناف الناس، وسأذكر لكم بعض الحبال التي قد يصل الشيطان إليهم بسببها، فيملأهم غرورا([46]).
قام بعض الحاضرين، وقال: فحدثنا عن الحبال التي يدليها الشيطان للكفار، ليملأهم بها غرورا.
قال الجيلاني: الكفار في غرورهم صنفان.. صنف غرتهم الأماني والأهواء والدنيا بما فيها، وإليهم الإشارة بقوله تعالى:{ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (64)} (الإسراء)
وصنف غرهم بالله الغرور، وهم الذي ذكرهم الله، فقال:{ يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} (الحديد)
قال الرجل: فحدثنا عن الصنف الأول.. أولئك الذين غرتهم الحياة الدنيا.
قال الجيلاني: الذين غرتهم الحياة الدنيا هم الذين قاسوا هذه الأقيسة الفاسدة، فقالوا: النقد خير من النسيئة.. ولذات الدنيا يقين.. ولذات الآخرة شك!!.. ولا يترك اليقين بالشك..
وكل هذا قياس فاسد.. وهو نفس قياس إبليس عندما قال :{ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)} (الأعراف).. فظن أن الخيرية فى النسب..
قال الرجل: فما البلسم الذي يعالج به هذا النوع من الغرور؟
قال الجيلاني: يعالج هذا الداء ببلسمين: بلسم التصديق، وبلسم البرهان.
قال الرجل: فما بلسم التصديق؟
قال الجيلاني: التصديق هو أن يصدق ما ورد في النصوص المقدسة المخبرة بأن الآخرة خير من الدنيا، وذلك كقوله تعالى :{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} (النساء)، وقوله مخبرا عن مؤمن آل فرعون:{ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)} (غافر)
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 🙁 لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)([47])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بماذا ترجع)([48])
قال الرجل: فما بلسم البرهان؟
قال الجيلاني: البرهان هو أن يعرف وجه فساد قياسه.. وأن قوله: (الدنيا نقد والآخرة نسيئة) مقدمة صحيحة وأما قوله: (النقد خير من النسيئة)، فهو محل التلبيس.. فليس الأمر كما اعتقد.. بل إن كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير.. وإن كان أقل منها، فالنسيئة خير منه.. ومعلوم أن الآخرة أبدية، والدنيا غير أبدية.. وأما قوله: (ولذات الدنيا يقين ولذات الآخرة شك) فهو أيضا باطل.. بل ذلك يقين عند المؤمنين..
وليقينه مدركان: أحدهما الإيمان والتصديق على وجه التقليد للأنبياء والعلماء كما يقلد الطبيب الحاذق في الدواء.. والمدرك الثاني: الوحى للأنبياء والإلهام للأولياء..
قال الرجل: عرفنا النوع الأول من غرور الكفار.. فما النوع الثاني؟
قال الجيلاني: هو الغرور بالله تعالى.. وقد حكاه الله عن الصاحب الكافر في سورة الكهف عندما قال :{ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)} (الكهف)
قال الرجل: فما سبب هذا الغرور؟
قال الجيلاني: سببه قياس من أقيسة إبليس الفاسدة.. ذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله تعالى عليهم في الدنيا، فيقيسون عليها نعم الآخرة.. ومرة ينظرون إلى تأخير عذاب الله عنهم في الدنيا فيقيسون عذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم، فقال :{ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)} (المجادلة).. ومرة ينظرون إلى المؤمنين وهم فقراء، فيزدرونهم ويقولون :{ أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} (الأنعام).. ويقولون :{ لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)} (الأحقاف)
وترتيب القياس الذى نظم فى قلوبهم أنهم يقولون: (قد أحسن الله إلينا بنعم الدنيا.. وكل محسن فهو محب، وكل محب فهو محسن)
قال الرجل: أليس الأمر كذلك.. أليس كل محسن محب؟
قال الجيلاني: لا.. ليس الأمر كذلك.. بل ربما يكون محسناً ولا يكون محباً.. بل ربما يكون الإحسان سبب هلاكه على الاستدراج.. وذلك محض الغرور بالله.. كما قال الله تعالى :{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)} (الفجر)، ثم قال :{ كَلَّا..(17)} (الفجر) أي ليس الأمر كما تزعمون.
وقال في آية أخرى يكذب أصل قياسهم:{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} (مريم)، وقال :{ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} (القلم)، وقال :{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} (الأنعام)
وقد رد الله على قياسهم ذلك في مواضع كثيرة من القرآن.. ومن ذلك قوله تعالى :{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} (التوبة)، وقال :{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} (آل عمران)، وقال :{ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} (سبأ)
قال الرجل: ففي أي أرض ينبت هذا الغرور؟
قال الجيلاني: هذا الغرور ينبت في أرض الجهل بالله تعالى.. فإن من عرف الله لا يقع في مثل هذا الوهم.. بل يأخذ العبرة من فرعون وهامان وثمود وماذا حل بهم.. مع أن الله تعالى أعطاهم من كل الأموال..
قام آخر، وقال: وعينا هذا.. فحدثنا عن الحبال التي دلاها الشيطان للعصاة.
قال الجيلاني: الحبال التي دلاها الشيطان للعصاة هي اتكالهم على عفو الله مع إهمالهم للعمل.. فهم يرددون كل حين إما بألسنة مقالهم أو ألسنة أحوالهم: الله غفور رحيم، ورحمته واسعة، ونعمته وشاملة، وكرمه عميم، ونحن موحدون ونحن نرجوه بوسيلة الإِيمان والكرم والإِحسان..
وربما غرهم بمن صلح من آبائهم.. وذلك نهاية الغرور، فإن آباءهم مع صلاحهم وورعهم كانوا خائفين.. ونظم قياسهم الذى سول لهم الشيطان: (من أحب إنساناً أحب أولاده.. فإن الله قد أحب أباكم فهو يحبكم فلا تحتاجون إلى الطاعات)، فاتكلوا على ذلك واغتروا بالله، ولم يعلموا أن نوحا u أراد أن يحمل ولده فى السفينة فمنع، وأغرقه إليه سبحانه وتعالى بأشد ما أغرق به قوم نوح..
ونسوا قوله تعالى :{ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} (النجم)
ونسوا أن من ظن أنه ينجو بتقوى آبائه كمن ظن أنه يشبع بأكلهم أو يروى بشرابهم..
ونسوا ما ورد في النصوص المقدسة من أن التقوى فرض عين لا يجزى فيها والد عن ولده، كما قال تعالى :{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} (عبس)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه وهواها وتمنى على الله الأماني)([49])
ومن هؤلاء من يغترون بتصورهم أن كفة حسناتهم ترجح على كفة السيئات، فترى الواحد منهم يتصدق بدراهم معدودة من الحلال والحرام، ويكون ما تناوله من أموال الناس والشبهات أضعافا.. وهو كمن وضع فى كفة الميزان عشرة دراهم، ووضع فى الكفة الأخرى ألفاً، وأراد أن تميل الكفة التى فيها العشرة.. وذلك غاية الجهل..
ومن هؤلاء من إذا عمل طاعة حفظها واعتد بها، كالذى يستغفر بلسانه أو يسبح فى الليل والنهار مثلا مائة مرة أو ألف مرة، ثم يغتاب المسلمين ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار، ويلتفت إلى ما ورد فى فضل التسبيح.. ويغفل عما ورد فى عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين.. وذلك محض الغرور، فحفظ لسانه عن المعاصى آكد من تسبيحاته.
وإلى هؤلاء جميعا يشير ما ورد في الحديث من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ، فأحسن الوضوء ثمّ قال: (من توضّأ مثل هذا الوضوء، ثمّ أتى المسجد فركع ركعتين، ثمّ جلس غفر له ما تقدّم من ذنبه)، وقال: (لا تغترّوا)([50])
قام آخر، وقال: ما دمت قد ذكرت بأن الغرور يصيب كل طوائف الخلق.. فهل يصيب العلماء؟
قال الجيلاني: ما دام العلماء من طوائف الخلق.. وما داموا يتعرضون لوساوس الشياطين.. وما دامت لهم نفوس أمارة.. فلاشك أن الغرور يصيبهم كما يصيب سائر الناس.
لقد ذكر الله ذلك، فقال :{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} (الأعراف)
قال الرجل: فحدثنا عن غرورهم.
قال الجيلاني: هم على فرق في ذلك.. سأكتفي لكم بتسعة منها.
قالوا: فما أولها؟
قال: أولهم من أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصى وإلزامها الطاعات، فاغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان.. وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله تعالى مثلهم.. بل ظنوا أن الله يقبل عليهم ويقبل فى الخلق شفاعتهم، ولا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم..
ومثالهم في غرورهم مثال طبيب طب غيره وهو عليل قادر على طب نفسه ولم يفعل.. وهل ينفع الدواء بالوصف؟!.. هيهات لا ينفع الدواء إلا من شربه بعد الحمية.. وغفلوا عن قوله تعالى :{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} (الشمس)، فلم يقل: من يعلم تزكيتها وأهمل علمها وعلمها الناس..
قالوا: وعينا هذا .. فما الثانية؟
قال: الثانية من أحكموا العلم والعمل الظاهر، وتركوا المعاصى الظاهرة، وغفلوا عن قلوبهم، فلم يمحو منها الصفات المذمومة عند الله كالكبر والرياء والحسد وطلب الرياسة والعلا وإرادة الثناء على الأقران والشركاء وطلب الشهرة فى البلاد والعباد، وذلك غرور سببه غفلتهم عن قوله تعالى :{ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)} (الأنعام)
ومثالهم في ذلك مثال مريض ظهر به الجرب فأمره الطبيب بالطلاء وشرب الدواء.. فاشتغل بالطلاء وترك شرب الدواء.. فأزال ما بظاهره.. ولم يزل ما بباطنه.. وأصل ما على ظاهره مما فى باطنه.. فلا يزال جربه يزداد أبدا مما فى باطنه.. فكذلك الخبائث إذا كانت كامنة فى القلب يظهر أثرها على الجوارح.
قالوا: وعينا هذا .. فما الثالثة؟
قال: الثالثة من علموا هذه الأخلاق.. وعلموا أنها مذمومة من وجه الشرع إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها.. وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك.. وإنما يبتلى به العوام دون من بلغ مبلغهم فى العلم.. فأما هم فإنهم أعظم عند الله من أن يبتليهم..
وبهذا الاعتقاد تسلل إليهم الشيطان، فظهرت عليهم مخايل الكبر والرياسة.. وطلبوا العلو والشرف.. ولبسوا على أنفسهم بأن القصد من ذلك هو عز الدين، وإظهار شرف العلم..
ثم لبسوا على أنفسهم بأن أطلقوا لسان فى الحسد فى أقرانهم، أو فيمن رد عليهم شيئا من كلامهم، وقالوا: إنما هو غضب للحق، ورد على المبطل فى عدوانه وظلمه.. وهذ مغرور.. فإنه لو طعن في غيره من العلماء من أقرانه ربما لم يغضب، بل ربما يفرح، وإن أظهر الغضب عند الناس بأنه يحبه.. وربما يظهر العلم ويقول: غرضى به أن أفيد الخلق.. وهو هراء لأنه لو كان غرضه صلاح الخلق لأحب صلاحهم على يد غيره ممن هو مثله أو فوقه.
وربما يدخل على السلطان ويتودد إليه ويثنى عليه.. فإذا سئل عن ذلك قال: إنما غرضى أن أنفع المسلمين.. وأن أرفع عنهم الضرر.. وهو مغرور. ولو كان غرضه ذلك فرح به إذا جرى على يد غيره، ولو رأى من هو مثله عند السلطان يشفع فى أحد يغضب.. وربما أخذ من أموالهم فإن خطر بباله أنه حرام قال له الشيطان هذا مال لا مالك له وهو لمصالح المسلمين وأنت إمام المسلمين وعالمهم وبك قوام الدين..
قالوا: وعينا هذا .. فما الرابعة؟
قال: الرابعة من أحكموا العلم.. وطهروا الجوارح، وزينوها بالطاعات.. واجتنبوا ظاهر المعاصى.. وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء والحسد والكبر والحقد وطلب العلو.. وجاهدوا أنفسكم فى التبرى منها، وقلعوا من القلب منابتها الجلية القوية.. ولكنهم مغرورون إذ بقى فى زوايا القلب بقايا من خفايا مكايد الشيطان.. خبايا خدع النفس ما دق وغمض.. فلم يفطنوا لها.. وأهملوها..
ومثالهم في حالهم هذه كمثل من يريد تنقية الزرع من الحشيش فدار عليه.. وفتش عن كل حشيش فقلعه.. إلا أنه لم يفتش عما لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض وظن أن الكل قد ظهر وبرز فلما غفل عنها ظهرت وأفسدت عليه الزرع. وهؤلاء إن غيروا تغيروا.. وربما تركوا مخالطة الخلق استكبارا.. وربما نظروا إليهم بعين الحقارة.. وربما يجتهد بعضهم فى تحسين نظمه لئلا ينظر إليه بعين الركاكة..
قالوا: وعينا هذا .. فما الخامسة؟
قال: الخامسة من تركوا المهم من العلوم.. واقتصروا على علوم الفتاوى فى الحكومات والخصومات وتفصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح المعايش.. وربما ضيعوا مع ذلك علم الأعمال الظاهرة والباطنة، ولم يتفقدوا الجوارح.. ولم يحرسوا اللسان من الغيبة، والبطن عن الحرام، والرجل عن السعى إلى السلاطين.. وكذلك سائر الجوارح.. ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والرياء والحسد وسائر المهلكات..
وهؤلاء مغرورون من وجهين: احدهما: من حيث العمل، ومثالهم في ذلك كمثل المريض الذى تعلم الدواء من الحكماء ولم يعلمه أو يعمله وهؤلاء مشرفون على الهلاك حيث أنهم تركوا تزكية أنفسهم وتخليتها.. فاشتغلوا بكتاب الديات والدعاوى والظهار واللعان.. وضيعوا أعمارهم فيها..
والثانى: من حيث العلم وذلك لظنهم أنه لا علم إلا بذلك وأنه المنجى الموصل.. وإنما المنجى الموصل حب الله.. ولا يتصور حب الله تعالى إلا بمعرفته..
ومثال هؤلاء مثال من اقتصر على بيع الزاد فى طريق الحاج.. ولم يعلم أن الفقه هو الفقه عن الله تعالى ومعرفة صفاته المخوفة والزاجرة ليستشعر القلب الخوف ويلازم التقوى.
ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات ولا يهمه إلا العلم بطريق المجادلة والإلزام.. وإقحام الخصم، ودفع الحق لأجل المباهاة.. وهو طول الليل والنهار فى التفتيش فى مناقضات أرباب المذاهب، والتفقد لعيوب الأقران.. وهؤلاء لم يقصدوا العلم.. وإنما قصروا مباهاة الأقران ولو اشتغلوا بتصفية قلوبهم كان خيرا لهم من علم لا ينفع إلا فى الدنيا.. ونفعه فى الدنيا التكبر.. وذلك ينقلب فى الآخرة نارا تلظى..
قالوا: وعينا هذا .. فما السادسة؟
قال: السادسة من اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم.. واستكثروا من علم المقولات المختلفة.. واشتغلوا بتعلم الطريق فى مناظرة أولئك وإفحامهم..
وهم على فرقتين: إحداهما: ضالة مضلة، والأخرى محقة.
أما غرور الفرقة الضالة فلغفلتها عن ضلالتها وظنها بنفسها النجاة.. وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا.. وإنما ضلوا من حيث أنهم لم يحكموا شروط الأدلة ومناهجها.. فرأوا الشبه دليلاً.. والدليل شبهة.
وأما غرور المحقة، فمن حيث أنهم ظنوا أن الجدال هو أهم الأمور وأفضل القربات فى دين الله تعالى.. وزعموا أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يتفحص ويبحث.. وأن من صدق الله تعالى من غير بحث وتحرير دليل فليس ذلك بمؤمن وليس بكامل ولا بمقرب عند الله، ولم يلتفتوا إلى القرن الأول.. وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهد لهم بأنهم على خير ولم يطلب منهم الدليل.
قالوا: وعينا هذا .. فما السابعة؟
قال: السابعة من اشتغلوا بالوعظ.. وأعلاهم نية من يتكلم فى أخلاق النفس وصفات القلب.. من الخوف والرجاء.. والصبر والشكر والتوكل.. والزهد واليقين والإخلاص والصدق.. وهم مغرورون لأنهم يظنون بأنفسهم إذا تكلموا بهذه الصفات.. ودعوا الخلق إليها فقد اتصفوا بها.. وهم منفكون عنها إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين.. وغرورهم أساس الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب..
ويظنون أنهم ما تبحروا فى علم المحبة إلا وهم من الناجين عند الله تعالى وأنهم مغفور لهم بحفظهم لكلام الزهاد مع خلودهم من العمل وهؤلاء أشد غرورا ممن كان قبلهم لأنهم يظنون أنهم يحببون فى الله ورسوله.. وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون ولا وقفوا على خطايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون.. وكذلك جميع الصفات..
ومع ذلك فهم أشد الناس حبا للدنيا.. يظهرون الزهد فى الدنيا، وما ذلك إلا لشدة حرصهم عليها.. وقوة رغبتهم فيها.. ويحثون على الإخلاص وهم غير مخلصين.. ويظهرون الدعاء إلى الله وهم منه فارون.. ويخوفون بالله وهم منه آمنون.. ويذكرون بالله وهم له ناسون.. ويقربون إلى الله تعالى وهم منه متباعدون.. ويذمون الصفات المذمومة وهم بها متصفون.. ويصرفون الناس عن الخلق وهم على الخلق أشدهم حرصا.. لو منعوا عن مجالسهم التى يدعون فيها الناس إلى الله لضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. ويزعمون أن غرضهم إصلاح الخلق، ولو ظهر من أقرانه أحدهم ممن أقبل الخلق عليه ومن صلحوا على يديه لمات غما وحسدا، ولو أثنى واحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله تعالى إليه، فهؤلاء أعظم الناس غرورا وأبعدهم عن التنبيه والرجوع إلى السداد.
قالوا: وعينا هذا .. فما الثامنة؟
قال: الثامنة من عدلوا عن المنهج الواجب فى الوعظ.. فاشتغلوا بالطامات والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعدل طلبا للإغراب.
وطائفة اشتغلوا بطيارات النكت وتسجيع الألفاظ وتلفيقها.. وأكثر همهم فى الأسجاع والاستشهاد بأشعار الوصال.. والفراق.. وغرضهم أن يكثر فى مجلسهم التواجد والزعقات ولو على أغراض فاسدة.. وهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا.. فإن الأولين إن لم يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم.. وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن السبيل.. ويجرون الخلق إلى الغرور بالله بلفظ الرجاء فيزيدهم كلامهم جرأة على المعاصى.. ورغبة فى الدنيا لا سيما إذا كان الواعظ متزينا بالثياب والخيل والمراكب ويقنطهم من رحمة الله تعالى.
قالوا: وعينا هذا .. فما التاسعة؟
قال: التاسعة من فتنوا بكلام الزهاد وأحاديثهم فى ذم الدنيا فيعيدونها على نحو ما يحفظونه من كلام حفظوه من غير إحاطة بمعانيها.. فبعضهم بفعل ذلك على المنابر.. وبعضهم فى المحاريب.. وبعضهم فى الأسواق مع الجلساء.. ويظن أنه ناج عند الله.. وأنه مغفور له بحفظه لكلام الزهاد مع خلوه من العمل.. وهؤلاء أشد غرورا ممن كان قبلهم.
قام آخر، وقال: ما دمت قد ذكرت بأن الغرور يصيب كل طوائف الخلق.. فهل يصيب أولئك الذين تفرغوا للعبادة، فصاروا مشهورين بين الخلق بالعبَّاد؟
قال الجيلاني: ما دام العبَّاد من طوائف الخلق.. وما داموا يتعرضون لوساوس الشياطين.. وما دامت لهم نفوس أمارة.. فلاشك أن الغرور يصيبهم كما يصيب سائر الناس.
قال الرجل: فحدثنا عن غرورهم.
قال الجيلاني: هم على فرق في ذلك.. سأكتفي لكم بعشرة منها.
قالوا: فما أولها؟
قال: أولهم من أهملوا الفرائض، واشتغلوا بالنوافل، وربما تعمقوا حتى خرجوا إلى السرف والعدوان، كالذى تغلب عليه الوسوسة فى الوضوء فيبالغ فيها.. ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة من النجاسة.. وإذا آل الأمر إلى أكل الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض..
قالوا: وعينا هذا .. فما الثانية؟
قال: الثانية من غلبت عليهم الوسوسة فى نية الصلاة، فلا يدعهم الشيطان يعتقدون نية صحيحة.. بل يوسوس عليهم حتى تفوتهم الجماعة، وتخرج الصلاة عن الوقت..
قالوا: وعينا هذا .. فما الثالثة؟
قال: الثالثة من غلب عليها الوسوسة فى إخراج حروف الفاتحة.. وسائر الأذكار من مخارجها.. فلا تزال تحتاط فى التشديدات.. والفرق بين الضاد والظاء.. لا يهمه غير ذلك ولا يتفكر فى أسرار الفاتحة ولا فى معانيها.. ولم يعلم أنه لم يكلف الخلق فى تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلا ما جرت به عادتهم فى الكلام..
وهذا غرور عظيم.. ومثالهم مثال من حمل رسالة إلى مجلس السلطان وأمر أن يؤديها على وجهها.. فأخذ يؤدى الرسالة ويتأنق فى مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرة بعد أخرى وهو مع ذلك غافل عن مقصود الرسالة.. ومراعاة حرمة المجلس.. وبهذا يرد إلى دار المجانين ويحكم عليه بفقد العقل.
قالوا: وعينا هذا .. فما الرابعة؟
قال: الرابعة من اغتروا بقراءة القرآن.. فيهدرونه هدرا.. وربما يختمونه فى اليوم والليلة ختما.. وألسنتهم تجرى به.. وقلوبهم تتردى فى أودية الأماني والتفكر فى الدنيا.. ولا يتفكر فى معانى القرآن..لينزجر بزواجره.. ويتعظ بمواعظه.. ويقف عند أوامره ونواهيه.. ويعتبر بمواضع الاعتبار منه.. ويتلذذ به من حيث المعنى لا من حيث النظم.. ومن قرأ كتاب الله تعالى فى اليوم والليلة مائة مرة.. ثم ترك أوامره ونواهيه فهو مستحق العقوبة.. وربما قد يكون له صوت لين فهو يقرأ ويتلذذ به.. ويغتر باستلذاذه.. ويظن أن ذلك مناجاة الله سبحانه تعالى.. وسماع كلامه.. وهيهات ما أبعده.. إذا لذاته فى صوته.. ولو أدرك لذة كلام الله تعالى ما نظر إلى صوته وطيبه..ولا تعلق خاطره به..
قالوا: وعينا هذا .. فما الخامسة؟
قال: الخامسة من اغتروا بالصوم.. وربما صاموا الدهر.. وصاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم من الغيبة.. ولا خواطرهم من الربا.. ولا بطونهم من الحرام عند الافطار ولا من الهذيان من أنواع الفضول.. وذلك غرور عظيم.. وهؤلاء تركوا الواجب.. وأبقوا المندوب.. فظنوا أنهم يسلمون.. وهيهات.. إنما يسلم من أتى الله بقلب سليم..
قالوا: وعينا هذا .. فما السادسة؟
قال: السادسة من أخذوا فى طريق الخشية والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ينكر على الناس.. ويأمرهم بالخير.. وينسى نفسه!.. وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة.. وإذا باشر منكرا أنكر عليه، وغضب وقال: أنا المحتسب.. فكيف تنكر علىَّ.. وقد تجمع الناس فى مجلسه أو مسجده.. ومن تأخر عنه أغلظ عليه القول.. وإنما غرضه الرياء والسمعة وحب الرئاسة.. وعلامة أنه لو قام بالمسجد غيره تجرأ عليه..
بل منهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله تعالى.. ولو جاء غيره وأذن فى وقت غيبته قامت عليه القيامة.. وقال: لم أخذ حقى؟!.. وزوحمت؟!..
ومنهم من يتقيد إمام مسجد ويظن أنه على خير.. وإنما غرضه أن يقال: إنه إمام المسجد.. وعلامته: أنه لو قدم غيره وإن كان أروع منه.. وأعلم.. ثقل عليه ذلك..
قالوا: وعينا هذا .. فما السابعة؟
قال: السابعة من زهدوا فى المال وقنعوا من الطعام واللباس بالدون.. ومن السكن بالمساجد. وظنوا أنهم أدركوا رتبة الزهاد.. وهم مع ذلك راغبون فى الرياسة والجاه.. والزهادة إنما تحصل بأحد أشياء: إما بالتعلم أو بالوعظ.. أو بمجرد الزهد.. فلقد تركوا أهون الأمرين.. وباءوا بأعظم المهلكات.. فإن الجاه أعظم من المال.. ولو أخذ المال وترك الجاه كان إلى السلامة أقرب.. وهؤلاء مغرورون بظنهم أنهم من الزهاد فى الدنيا، ولم يفهموا كيف مكر بهم..
ومنهم من يعجب بعلمه.. ومنهم من يؤثر الخلوة وهو عن شروطها خال.. ومنهم من يعطى المال فلا يأخذه خيفة أن يقال بطل زهده.. وهو راغب فى الدنيا.. خائف من ذم الناس.. ومنهم من شدد على نفسه فى أعمال الجوامع.. حتى يصلى فى اليوم مثلا ألف ركعة ويختم القرآن وهو فى جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات.. وربما يظن أن العبادة الظاهرة ترجح بها كفة الحسنات.. وهيهات ذرة من ذى تقوى.. وخلق واحد من خلق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملا بالجوارح.. ثم قد يغتر بقول من يقول له: إنك من أوتاد الأرض.. وأولياء الله وأحبائه.. فيفرح لذلك.. ويطهر له تزكية نفسه.. ولو شتم يوما واحدا ثلاث مرات أو مرتين لكفر وجاهد من فعل ذلك به.. وربما قال لمن سبه: لا يغفر الله لك أبدا..
قالوا: وعينا هذا .. فما الثامنة؟
قال: الثامنة من حرصت على النوافل، ولم يعظم اعتدادها بالفرائض.. فتارة يفرح بصلاة الضحى، وصلاة الليل.. وأمثال هذه النوافل، فلا يجد لصلاة الفريضة لذة ولا خير من الله تعالى، لشدة حرصه على المبادرة فى أول الوقت..
وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الغرور.. بل قد يتعين على الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت.. أو نفلان أحدهما يضيق وقته والآخر متسع وقته.. فإن لم يحفظ الترتيب كان مغرورا.. ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى.. فإن المعصية ظاهرة.. وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض.. كتقديم الفرائض كلها على النوافل.. وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفايات التى لا قائم بها على ما قدم بها غيره.. وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه.. وتقديم ما يفوت مثل تقديم حق الوالدة على الوالد.. وتقديم الدين على القروض غيره.. وما أعظم العبد أن ينفذ ذلك.. ويرتبه.. ولكن الغرور فى الترتيب دقيق خفى لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون فى العلم.
قالوا: وعينا هذا .. فما التاسعة؟
قال: التاسعة فرق اهتموا بالعبادات المالية.. وهؤلاء أصناف متعددة..
فمنهم من يحرصون على بناء المساجد والمدارس، ويكتبون أسماءهم عليها.. ليتخلده ذكرهم، ويبقى بعد الموت أثرهم.. وهم يظنون أنهم استحقوا المغفرة بذلك.. وقد اغتروا فيه من وجهين..
أحدهما: أنهم قد اكتسبوها من الظلم والشبهات والرشا والجهات المحظورة.. وهم قد تعرضوا لسخط الله فى كسبها.. والواجب عليهم فى التوبة ردها إلى ملاكها إن كانوا أحياء أو إلى ورثتهم.. فإن لم يبق منهم أحد وانقرضوا فالواجب صرفها فى أهم المصالح..
والثانى: أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير فى الانفاق.. وعلو الأبنية.. ولو كلف أحد منهم أن ينفق دينارا على مسكين لم تسمح نفسه بذلك..
ومنهم آخرون ربما اكتسبوا الحلال.. واجتنبوا الحرام وأنفقوه على المساجد، وهى أيضا مغرورة من وجهين:
أحدهما: الرياء وطلب السمعة والثناء.. فإنه ربما يكون فى جواره أو بلده فقراء، وصرف المال إليهم أهم.. فإن المساجد كثيرة.. والمساكين والفقراء محتاجون.
وإنما خف عليهم دفع المال فى بناء المساجد لظهور ذلك بين الناس.. ولما يسمع من الثناء عليه من الخلق، فيظن أنه يعمل لله وهو يعمل لغير الله.. والله أعلم بذلك..
والثانى: أنه يصرف ذلك فى زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش المنهى عنها.. الشاغلة قلوب المصلين لأنهم ينظرون إليها وتشغلهم عن الخشوع فى الصلاة.. وعن حضور القلب.. وهو المقصود.. وكلما طرأ على المصلين فى صلاتهم وفى غير صلاتهم فهو فى رقبة البانى للمسجد.. إذ لا يحل تزيين المسجد بوجه.. وغرور هؤلاء أنهم رأوا المنكر معروفا فاتكلوا عليه.
ومنهم من ينفقون الأموال فى الصدقات على الفقراء والمساكين.. ويطلبون بها المحافل الجامعة.. ومن الفقراء من عادته الشكر..والإفشاء للمعروف.. ويكرهون التصدق فى السر.. ويرون إخفاء الصدقة للفقير لما يأخذه منهم خيانة عليهم.. وكفرانا..وربما تركوا جيرانهم جائعين..
ومنهم منيحفظون الأموال، ويمسكونها بحكم البخل ويشتغلون بالعبادات الدينية التى لا يحتاجون فيها إلى نفقة.. كصيام النهار.. وقيام الليل.. وختم القرآن.. وهؤلاء مغرورن.. لأن البخل المهلك قد استولى على باطنهم.. فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال.. فاشتغلوا بطلب فضائل وهم مشتغلون عنها..
ومثالهم في هذا مثال من دخلت فى ثوبه حية.. وقد أشرف على الهلاك.. وهم مشغول عنها بطلب الدواء الذي يسكن الصفراء.. ومن لدغته الحية كيف يحتاج إلى ذلك؟!.. ولذلك قيل لبشر الحافى: إن فلانا كثير الصوم والصلاة.. فقال: المسكين ترك حاله.. ودخل فى حال غيره.. وإنما حال هذا إطعام الطعام للجائع.. والإنفاق على المساكين.. فهو أفضل له من تجويع نفسه.. ومن صلاته.. مع جمعه للدنيا ومنعه للفقراء..
ومنهم من غلب عليهم البخل.. فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط.. ثم إنهم يخرجونها من المال الخبيث الردئ الذى يرغبون عنه.. ويطلبون من الفقراء من يخدمهم.. ويتردد فى حاجاتهم.. أو من يحتاج إليه فى المستقبل للاستئجار لهم فى الخدمة.. ومن لهم فيه غرض.. ويسلمونها إلى شخص بعينه واحد من الكبار.. ممن يستظهر بخشيته.. لينال بذلك عنده منزلة.. فيقوم بحاجته.. وكل ذلك مفسد للنية.. ومحبط للعمل.. وصاحبه مغرور.. يظن أنه مطيع لله تعالى.. وهو فاجر.. إذا يطلب بعبادة الله تعالى عوضا من غيره..
قالوا: وعينا هذا .. فما العاشرة؟
قال: العاشرة طائفة من عوام الخلق وأرباب والأموال والفقراء.. اغتروا بحضور مجالس الذكر.. واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم.. فاتخذوا ذلك عادة ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل.. ودون الاتعاظ أجرا.. وهم مغرورن لأن فضل مجالس الذكر لكونها رغبة فى الخير.. وإذا لم تهج الرغبة فلا خير فيها.. والرغبة محمودة.. لأنها تبعث على العمل.. وإن لم تبعث على العمل فلا خير فيها.. وربما يغتر بما يسمعه من الوعظ.. وإنما يداخله رقه كرقة النساء فيبكى!.. وربما يسمع كلاما مخوفا فلا يزال يصفر بين يديه ويقول: يا سلام سلم!.. ونعوذ بالله!.. والحمد لله.. وحسبى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله!.. ويظن أنه قد أتى بالخير كله.. وهو مغرور..
ومثاله مثال المريض.. الذى يحضر إلى مجالس الأطباء.. ويسمع ما يصفونه من الأدوية ولا يعقلها.. ولا يشتغل بها ويظن أنه يجد الراحة بذلك. والجائع الذى يحضر عنده من يصف له الأطعمة اللذيذة..
فكل وعظ لا يغير منك صفة تغير بدونها أفعالك.. حتى تقبل على الله وتعرض عن الدنيا.. وتقبل إقبالاً قويا.. وإن لم تفعل فذلك الوعظ زيادة حجة عليك.. فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا.
***
بقيت مدة في قسم الغرور.. أتعلم من الجيلاني تلبيسات إبليس، وحبال غروره إلى أن أيقنت بأن لإبليس في كل محل وساوس ينبغي أن أحتاط لها.. فهو – بما أوتيه من خبرة بنفوس البشر- لا يفرق في وساوسه بين الخير والشر، ولا بين الصالحين والمنحرفين.. لا ييأس من أي منهم.. بل يستعمل مع كل صنف ما يتناسب معه.
وبعدما امتحنني الجيلاني ببعض الامتحانات، ورأى أني قد نجحت فيها أجازني في هذا القسم، وأمرني أن أسير إلى القسم الرابع..
سرت إلى القسم الرابع.. وقد كان شيخه رجلا عالما علامة قدم من بلخ، كان الجميع يطلقون عليه تعظيما لقب مولانا.. وكان اسمه جلال الدين الرومي([51]).
وقد عجبت من كثرة من كان في هذا القسم، وعجبت أكثر لما رأيت من نشاطهم الكبير وحماستهم العظيمة، وقد أخبرني شيخي الرفاعي أن أكثر حضور ذلك المجلس رجال من الدعاة إلى الله سقطوا في فخاخ العجلة، فراحوا يتسرعون في أحكامهم وفي محاولة قطف ثمار مجهوداتهم.. وقد جعلهم كل ذلك يقعون في الشباك التي يقع فيها كل عجول، فلا الثمار قطفوا، ولا قواهم حفظوا.
كان أول ما سمعته منه عندما دخلت مجلسه هو ترتيله بخشوع لقوله تعالى :{ وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (11)} (الإسراء)
ثم قال بعدها: إن الله تعالى يقرر في هذه الآية صفة من صفات الإنسان، لا يمكن أن يعرف الإنسان من دون أن تعرف، ولا يمكن أن يسمو من دون أن توجه وتعالج بما وضع الشرع من بلاسم الشفاء.
قالوا: لاشك أنك تقصد العجلة؟
قال: أجل.. فالإنسان – كما تقرر الآية الكريمة- مفطور عليها.. وذلك بحكم الزمن المحدود الذي يعيشه، والأماكن المحدودة التي يمكن أن يعيش فيها.. وهو مع هذه المحدودية ذو نفس تواقة لا يملؤها شيء.. فلهذا تجده يستعجل كل شيء، ويتمنى أن يكون أمامه قبل أن يأتي عليه ما قدر عليه من الممات.
قالوا: فلم ليم عليها ما دامت قد طبعت فيه، وجبل عليها؟
قال: هو لا يلام على كونها طبعت فيه.. ولكنه يلام على توجيهها التوجيه السيء.
قالوا: أيمكن أن توجه العجلة توجيها حسنا؟
قال: أجل.. وعلى ذلك تدل النصوص الكثيرة الداعية إلى المبادرة إلى الخيرات والعجلة فيها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى إخبارا عن موسى u :{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} (طه)
ومثل ذلك قوله تعالى :{ وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)} (آل عمران)
ومثل ذلك إخباره عن أنبياء الله ومسارعتهم في الخيرات:{ وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)} (الأنبياء)
ومثل ذلك إخباره عمن قبلنا من الصالحين من أهل الكتاب :{ لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} (آل عمران)
ومثل ذلك إخباره عن صفة المؤمنين في كل الأزمنة :{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)} (المؤمنون)
ومثل ذلك قوله آمرا بالمسارعة إلى الخيرات :{ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} (البقرة)، وقوله :{ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} (المائدة)
ومثل ذلك قوله آمرا المؤمنين بأن يحرصوا على الأولية التي لا يصلها إلا المسارعون:{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)} (الأنعام)، وقوله قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (الأنعام)، قوله :{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)} (الزمر)، وقوله إخبارا عن موسى u :{ وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} (الأعراف)، وقوله على ألسنة السحرة بعد أن آمنوا :{ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)} (الشعراء)
ومثل ذلك إخباره عن فضل السابقين من المؤمنين، قال تعالى :{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} (التوبة)، وقال :{ وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} (الحديد)
ومثل ذلك إخباره عن فضل الورثة السابقين، قال تعالى :{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} (فاطر)
ومثل ذلك إخباره عن فوز السابقين دون المتكاسلين، قال تعالى :{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} (الحديد)، وقال :{ إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)} (المطففين)
إن هذه النصوص جميعا تدل على العجلة الحسنة.. وهي العجلة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (التؤدة([52]) في كلّ شيء إلّا في عمل الآخرة)([53])
وبين أسباب الدعوة إليها، فقال في أحاديث متعددة بصيغ مختلفة: (بادروا بالأعمال سبعا: هل تنظرون إلّا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدّجّال، فشرّ غائب ينتظر، أو السّاعة فالسّاعة أدهى وأمرّ)([54])
وقال: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع اللّيل المظلم، يصبح الرّجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدّنيا)([55])
وقال: (تبادروا بالأعمال ستّا: طلوع الشّمس من مغربها، والدّجّال، والدّخان، ودابّة الأرض، وخويصة أحدكم، وأمر العامّة)([56])
وقال: (اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)([57])
وبين سعة أجر المسارعين للخيرات مقارنة بغيرهم، فقال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثمّ راح فكأنّما قرّب بدنة، ومن راح في السّاعة الثّانية فكأنّما قرّب بقرة، ومن راح في السّاعة الثّالثة فكأنّما قرّب كبشا أقرن، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنّما قرّب دجاجة، ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنّما قرّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذّكر)([58])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه بالغزو، وأنّ رجلا تخلّف وقال لأهله: أتخلّف حتّى أصلّي مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الظّهر ثمّ أسلّم عليه وأودّعه فيدعو لي بدعوة تكون شافعة يوم القيامة. فلمّا صلّى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أقبل الرّجل مسلّما عليه فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم :(والّذي نفسي بيده لقد سبقوك بأبعد ما بين المشرقين والمغربين في الفضيلة)([59])
ودعا إلى المنافسة التي تستدعي التعجيل والمسارعة، فقال: (لا تنافس بينكم إلّا في اثنتين: رجل أعطاه اللّه عزّ وجلّ القرآن فهو يقوم به آناء اللّيل وآناء النّهار ويتّبع ما فيه فيقول رجل: لو أنّ اللّه تعالى أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأقوم به كما يقوم به. ورجل أعطاه اللّه مالا فهو ينفق ويتصدّق فيقول رجل: لو أنّ اللّه أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأتصدّق به..الحديث)([60])
بل مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه هذه المسارعة، ففي الحديث عن أنس قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أحسن النّاس، وأشجع النّاس، وأجود النّاس، ولقد فزع أهل المدينة، فكان النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سبقهم على فرس، وقال: (وجدناه بحرا)([61])
قالوا: لقد عرفنا العجلة الحسنة.. فما العجلة السيئة.. أو ما الوجهة السيئة التي يمكن أن توجه إليها العجلة؟
قال: هي تلك الوجهة التي أخبر الله تعالى أن أقوام الأنبياء أتوا منهم.. فقد كذبوا أنبياءهم واستعجلوا العذاب الذي توعدوهم به:
قال تعالى حاكيا عن عاد:{ وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)} (الأحقاف)
وقال حاكيا عن ثمود:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)} (النمل)
وقال حاكيا عن أقوام مختلفين:{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)} (ص)
وقاليا حاكيا عن قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم :{ فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)} (الأحقاف)، وقال:{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} (الحج)، وقال:{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)} (العنكبوت)، وقال:{ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177)} (الصافات)، وقال:{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)} (الذاريات)، وقال:{ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)} (الشورى)
وقد أخبر الله تعالى أنه برحمته ولطفه بعباده لا يعجل لخلقه ما يطلبونه من شر، قال تعالى: { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)} (يونس)
ومثل هذا ورد النهي عن العجلة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبينا خطر عواقبها، ففي الحديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: (التّؤدة([62]) في كلّ شيء إلّا في عمل الآخرة)([63])
وقال: (السّمت الحسن والتّؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النّبوّة)([64])
وقال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت ربّي فلم يستجب لي)([65])
وروي أنّ رجلا من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل النّار فلينظر إلى هذا، فاتّبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشدّ النّاس على المشركين حتّى جرح فاستعجل الموت فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتّى خرج من بين كتفيه فأقبل الرّجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مسرعا فقال: أشهد أنّك رسول اللّه، فقال: وما ذاك؟ قال: قلت لفلان من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل النّار فلينظر إليه، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين فعرفت أنّه لا يموت على ذلك، فلمّا جرح استعجل الموت فقتل نفسه. فقال النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك: (إنّ العبد ليعمل عمل أهل النّار وإنّه من أهل الجنّة، ويعمل عمل أهل الجنّة وإنّه من أهل النّار، وإنّما الأعمال بالخواتيم)([66])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (هل كنت تدعوه بشيء أو تسأله إيّاه؟) قال: نعم. كنت أقول: اللّهمّ ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجّله لي في الدّنيا. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (سبحان اللّه لا تطيقه، أفلا قلت: (اللّهمّ آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار) وقال: فدعا اللّه له. فشفاه)([67])
وسمع صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجّد اللّه ولم يصلّ على النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: (عجلت أيّها المصلّي)، ثمّ علّمهم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم.. وسمع رجلا يصلّي فمجّد اللّه وحمده وصلّى على النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ادع تجب وسل تعط)([68])
وعن عليّ قال: بعثني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن قاضيا، فقلت يا رسول اللّه، ترسلني وأنا حديث السّنّ ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: (إنّ اللّه سيهدي قلبك ويثبّت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل؛ فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء)، قال: فما زلت قاضيا، أو ما شككت في قضاء بعد([69]).
قام بعض الحاضرين، وقال: نحن قوم من الدعاة إلى الله كانت تنقصنا البصيرة.. وكانت تستفزنا العجلة.. وقد حصل لنا بسببها ما نحن نادمون عليه.. وقد قصدناك لنتدرب على الأناة.. فحدثنا عنها.. وحدثنا عن الفرق بين العجلة المحمودة والعجلة المذمومة.
قال([70]): العجلة المحمودة هي ما كانت ناشئة عن تقدير دقيق للآثار والعواقب، وعن إدراك تام للظروف والملابسات، وعن حسن إعداد وجودة ترتيب.. أما العجلة السيئة، فهي ما كانت مجرد ثورة نفسية، خالية من تقدير العاقبة ومن الإحاطة بالظروف والملابسات، ومن أخذ الأهبة والاستعداد.
وهذا النوع الأخير هو الذي عناه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حين قال لخباب بن الأرت، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكو ما يلقاه هو وإخوانه من الأذى والاضطهاد، ويطلب منه أن يستنصر ربه، وأن يدعوه قال له: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه فما يصدّه ذلك عن دينه.. واللّه ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا اللّه والذّئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون)([71])
***
بقيت مدة في قسم العجلة.. أتعلم من مولانا جلال الدين الرومي وأصحابه كيف أوجه العجلة توجيهها الصالح الذي حثت عليه النصوص المقدسة، وأتدرب على ذلك، وقد كانت تداريب في غاية الإرهاق والتعب..
وبعدما امتحنني مولانا الرومي ببعض الامتحانات، ورأى أني قد نجحت فيها أجازني في هذا القسم، وأمرني أن أسير إلى القسم الخامس..
سرت إلى القسم الخامس.. وقد كان شيخه رجلا ربانيا صالحا ممتلئا زهدا وورعا وعرفانا من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه.. وقد كان الجميع يطلقون عليه (محمد ماضي أبو العزائم)([72])، وقد علمت أنه قدم من مصر، وأن له فيها أتباعا كثيرين..
وقد أحضره شيخي أحمد الرفاعي لغرض تنقية نفوس المريدين من مرض الهلع.
كان أول سمعته من بعض التلاميذ في حلقه الدرس قوله: يا شيخ.. لقد سميتم هذا القسم (قسم الهلع)، ونحن لا نعرف هذه الكلمة.. فما تريدون منها؟
قال: نريد منها ما أراده القرآن الكريم.
قال الرجل: فما أراد القرآن منها؟
قال: لقد ورد ذكر الهلع بلفظه في قوله تعالى – وهو يذكر ما طبع عليه الإنسان من صفات الضعف- :{ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) } (المعارج)
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا المعنى في آيات أخرى، فقال:{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)} (هود)، وقال:{ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83)} (الإسراء)، وقال:{ لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49)} (فصلت)
قال آخر: فهذا المرض مركب من مرضين؟
قال: يمكنك أن تقول ذلك.. بل إن بعضهم تتبع مواضع هذا اللفظ في اللغة العربية، فذكر أنه مركب من أربعة أمراض هي: الحرص، والجزع، والضجر، وقلة الصبر..
قال آخر([73]): بما أنّ الله تعالى خلق الإنسان من أجل السعادة الخالدة ونيل المقامات العالية، والكمالات المعنوية، فكيف يخلقه بهذه النقائص، وكيف يخلقه بهذا الضعف الذي يحجبه عن سلوك طريق الحقّ، ويصدّه عن السير في طريق الكمال والسعادة؟
قال: إن هذه الصفات ليست سلبية في حد ذاتها، ولكنها تصير سلبية عندما تتعلق بالإنسان الفاقد للإيمان.. ذلك أن طبع الإنسان المؤمن يتناغم مع الصبر والمثابرة والكرم، وأمثال ذلك.. ولكن عندما ينفصل عن دائرة الإيمان، فمن الطبيعي أن يجزع مقابل أقل مشكلة وأدنى شدّة لأنّه يفتقد السند والدعامة الأساسية في حياته العملية، ويجد نفسه وحيداً في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة، فلذلك يتعامل مع الحياة من موقع الحرص والبخل ولا يجد في نفسه اعتماداً وتوكلاً على الله تعالى الّذي بيده مفاتح الغيب، وبالتالي لا يطمئن إلى غده، وما سيواجهه في المستقبل من حوادث وأزمات.
والشاهد على هذا هو أنّ الآيات الّتي جاءت بعد قوله تعالى:{ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) } (المعارج) استثنت المصلين من هذا الحكم العام على الإنسان، قال تعالى:{ إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) } (المعارج)
بالإضافة إلى هذا.. فإن هذه الأوصاف السلبية تشير إلى وجود بُعدين في كيان الإنسان: أولهما البُعد الّذي يأخذ بالإنسان ويصعد به إلى أعلى علّيين.. والثاني ما يجره إلى أسفل السافلين.
بالإضافة إلى هذا.. فإنا لو تأملنا في هذه الأوصاف حق التأمل لوجدناها صفات إيجابية.. فالحرص – مثلا- صفة من الصفات الذاتية للإنسان، وهو متفرع من حبّ الذات، وهي في الأصل ليست من الرذائل لأن حبّ الذات الّذي تتولد منه هذه الصفات هو المحور الأساس الّذي يسوق الإنسان إلى الكمال المعنوي ويدفعه نحو طريق السعادة الخالدة.
فهذه الصفات إنّما تكون ذميمة وقبيحة فيما لو لم يستخدمها الإنسان في الطريق الصحيح واللائق، وفي الحقيقة أنّ هذه الصفات مثل سائر الصفات النفسانية الّتي إذا لزمت حدّ الاعتدال تُعدّ فضيلة، وإذا تجاوزت إلى جهة الافراط أو التفريط فإنّها تكون من الرذائل.
قال آخر: وعينا هذا.. فحدثنا عن الركن الأول من أركان الهلع.. ذلك الذي سمى القرآن المتسم به (جزوعا)([74])
قال([75]): الجزوع من الناس هو الذي يهتز عند مس الشر، ويتألم للذعته، ويجزع لوقعه، ويحسب أنه دائم لا كاشف له.. ويظن اللحظة الحاضرة سرمداً مضروباً عليه؛ فيحبس نفسه بأوهامه في قمقم من هذه اللحظة وما فيها من الشر الواقع به، ولا يتصور أن هناك فرجاً؛ ولا يتوقع من الله تغييراً.. ومن ثم يأكله الجزع، ويمزقه الهلع.
لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الصنف الضعيف من الناس، وبين دنو درجتهم وانحطاط همتهم ففي الحديث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أتي بمال، فقسمه، فأعطى رجالا وترك رجالا، فبلغه أنّ الّذين ترك عتبوا، فحمد اللّه ثمّ أثنى عليه ثمّ قال: (أمّا بعد فو اللّه إنّي لأعطي الرّجل والّذي أدع أحبّ إليّ من الّذي أعطي، ولكن أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل اللّه في قلوبهم من الغنى والخير)([76])
وفي حديث آخر ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن من أغراض البلاء تمييز المتجملين بالصبر الجميل عن الجزعين الهلعين، قال صلى الله عليه وآله وسلم : (إذا أحبّ اللّه قوما ابتلاهم. فمن صبر فله الصّبر ومن جزع فله الجزع)([77])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الفتنة التي قدر يجر إليها الجزع، فقال: (لقد كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكّينا فحزّ بها يده، فما رقأ الدّم حتّى مات. قال اللّه تعالى: (بادرني عبدي بنفسه، حرّمت عليه الجنّة)([78])
قال آخر: وعينا هذا.. فحدثنا عن الركن الثاني من أركان الهلع.. ذلك الذي سمى القرآن المتسم به (منوعا)
قال: إن المنوع هو ذاك الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به)([79])
وذكره في حديث آخر، فقال:( أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله)([80])
قال الرجل: تقصد البخل بالمال عن المحتاجين إليه؟
قال: البخل بالمال بعض البخل.. فالبخل في أعماقه النفسية لا ينحصر في المال وحده.. فهناك من يبخل نصيحته، وهناك من يبخل بنصره.. وهناك من يبخل بكلمة.. وهناك من يبخل بابتسامة..
وهكذا فإن الإنسان الهلع المملوء بالجزع لا يمكنه إلا أن يثمر ثمارا مملوءة بالجفاف والقسوة.. إنه مثل نفسه الشحيحة تماما.
***
قالوا: عرفنا العلة.. فما علاجها؟
قال: لقد ذكره القرآن الكريم.. فقد ذكر سبع صفات من اتصف بها نجى من الهلع..
قالو: عرفناها.. ونحن نسألك عن سرها وعلاقتها بتخليص الإنسان من الهلع.
قال: سلوا ما بدا لكم.
قالوا: حدثنا عن الأولى.. حدثنا عن الصلاة.. فقد ذكر الله تعالى أن المصلين مستثنين من الهلع، ذكرهم في البداية، فقال:{ إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)} (المعارج)، وذكرهم في النهاية، فقال :{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) } (المعارج)
قال([81]): أجل.. فالصلاة فوق أنها ركن الإسلام وعلامة الإيمان هي وسيلة الاتصال بالله والاستمداد من ذلك الرصيد، وهي مظهر العبودية الخالصة التي يتجرد فيها مقام الربوبية ومقام العبودية في صورة معينة..
وصفة الدوام التي تخصصها الآية الأولى تعطي صورة الاستقرار والاستطراد، فهي صلاة لا يقطعها الترك والإهمال والكسل، وهي صلة بالله مستمرة غير منقطعة.. فليس الاتصال بالله لعبة توصل أو تقطع حسب المزاج.. ولذلك كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثبات.. فقد كان إذا عمل شيئا من العبادة أثبته – أي داوم عليه – وكان يقول: (وإن أحب الأعمال إلى الله تعالى ما دام وإن قل)([82])
وذلك لأنه لا يمكن أن ترسخ الصفة ما لم يدمن صاحبها عليها، فتستقر في كيانه، وتثبت فيه، وتقوم بعد ذلك بتوجيهه الوجهة الصالحة التي أرادها الله من عباده.
والصلاة – لتؤدي دورها- لا يكفي فيها الدوام.. بل تحتاج إلى المحافظة عليها.. والمحافظة غير الدوام.. وهي تتحقق بالمحافظة عليها في مواعيدها ، وفي فرائضها ، وفي سننها، وفي هيئتها ، وفي الروح التي تؤدى بها.. فلا يضيعونها إهمالا وكسلا.. ولا يضيعونها بعدم إقامتها على وجهها.
قالوا: عرفنا الأولى.. فحدثنا عن الثانية.. تلك التي ذكرها الله، فقال:{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) } (المعارج)
قال: إن هاتين الآيتين الكريمتين تشيران إلى الزكاة على وجه التخصيص والصدقات المعلومة القدر.. وهي حق في أموال المؤمنين.. وهي تشير كذلك إلى معنى أشمل من هذا وأكبر.. وهو أن المؤمنين يجعلون في أموالهم نصيبا معلوما يشعرون أنه حق للسائل والمحروم.. وفي هذا تخلص من الشح واستعلاء على الحرص.. كما أن فيه شعورا بواجب الواجد تجاه المحروم في هذه الأمة المتضامنة المتكافلة..
والشعور بأن للمحتاجين والمحرومين حقا في الأموال هو شعور بفضل الله من جهة ، وبآصرة الإنسانية من جهة أخرى، فوق ما فيه من تحرر شعوري من ربقة الحرص والشح.. وهو في الوقت ذاته ضمانة اجتماعية لتكافل الأمة كلها وتعاونها، فهي فريضة ذات دلالات شتى ، في عالم الضمير وعالم الواقع..
قالوا: عرفنا الثانية.. فحدثنا عن الثالثة.. تلك التي ذكرها الله، فقال:{ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) } (المعارج)
قال: التصديق بيوم الدين شطر الإيمان، وهو ذو أثر حاسم في منهج الحياة شعورا وسلوكا.. والميزان في يد المصدق بيوم الدين غير الميزان في يد المكذب بهذا اليوم أو المستريب فيه، ميزان الحياة والقيم والأعمال والأحداث..
المصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض ، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا ويتقبل الأحداث خيرها وشرها وفي حسابه أنها مقدمات نتائجها هناك ، فيضيف إليها النتائج المرتقبة حين يزنها ويقومها..
أما المكذب بيوم الدين، فيحسب كل شيء بحسب ما يقع له منه في هذه الحياة القصيرة المحدودة ، ويتحرك وحدوده هي حدود هذه الأرض وحدود هذا العمر، ومن ثم يتغير حسابه وتختلف نتائج موازينه ، وينتهي إلى نتائج خاطئة فوق ما ينحصر في مساحة من المكان ومساحة من الزمان محدودة.. وهو بائس مسكين معذب قلق لأن ما يقع في هذا الشطر من الحياة الذي يحصر فيه تأملاته وحساباته وتقديراته ، قد لا يكون مطمئنا ولا مريحا ولا عادلا ولا معقولا ، ما لم يضف إليه حساب الشطر الآخر وهو أكبر وأطول، ومن ثم يشقى به من لا يحسب حساب الآخرة أو يشقى غيره من حوله، ولا تستقيم له حياة رفيعة لا يجد جزاءها في هذه الأرض واضحا.. ومن ثم كان التصديق باليوم الآخر شطر الإيمان الذي يقوم عليه منهج الحياة في الإسلام.
قالوا: عرفنا الثالثة.. فحدثنا عن الرابعة.. تلك التي ذكرها الله، فقال:{ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) } (المعارج)
قال: هاتان الآيتان الكريمتان تذكران درجة أخرى وراء مجرد التصديق بيوم الدين، وهي درجة الحساسية المرهفة والرقابة اليقظة والشعور بالتقصير في جنب الله على كثرة العبادة والخوف من تلفت القلب واستحقاقه للعذاب في أية لحظة والتطلع إلى الله للحماية والوقاية.
وفي قوله تعالى:{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)} (المعارج) إيحاء بالحساسية الدائمة التي لا تغفل لحظة ، فقد تقع موجبات العذاب في لحظة الغفلة فيحق العذاب، والله لا يطلب من الناس إلا هذه اليقظة وهذه الحساسية، فإذا غلبهم ضعفهم معها، فرحمته واسعة ، ومغفرته حاضرة، وباب التوبة مفتوح ليست عليه مغاليق.. وهذا قوام الأمر في الإسلام بين الغفلة والقلق، والإسلام غير هذا وتلك، والقلب الموصول بالله يحذر ويرجو ، ويخاف ويطمع ، وهو مطمئن لرحمة الله على كل حال.
قالوا: عرفنا الرابعة.. فحدثنا عن الخامسة.. تلك التي ذكرها الله، فقال:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) } (المعارج)
قال: هذه الآيات تشير إلى طهارة النفس والجماعة، فالإسلام يريد مجتمعا طاهرا نظيفا ، وفي الوقت ذاته ناصعا صريحا، مجتمعا تؤدى فيه كل الوظائف الحيوية، وتلبي فيه كل دوافع الفطرة، ولكن بغير فوضى ترفع الحياء الجميل ، وبغير التواء يقتل الصراحة النظيفة، مجتمعا يقوم على أساس الأسرة الشرعية المتينة القوائم، وعلى البيت العلني الواضح المعالم، مجتمعا يعرف فيه كل طفل أباه ، ولا يخجل من مولده، لا لأن الحياء منزوع من الوجوه والنفوس، ولكن لأن العلاقات الجنسية قائمة على أساس نظيف صريح ، طويل الأمد واضح الأهداف، يرمي إلى النهوض بواجب إنساني واجتماعي ، لا لمجرد إرضاء النزوة الحيوانية.
قالوا: عرفنا الخامسة.. فحدثنا عن السادسة.. تلك التي ذكرها الله، فقال:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) } (المعارج)
قال: رعاية الأمانات والعهود تبدأ من رعاية الأمانة الكبرى التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان.. وهي أمانة العقيدة والاستقامة عليها اختيارا لا اضطرارا.. ومن رعاية العهد الأول المقطوع على فطرة الناس وهم بعد في الأصلاب أن الله ربهم الواحد ، وهم بخلقتهم على هذا العهد شهود.. ومن رعاية تلك الأمانة وهذا العهد تنبثق رعاية سائر الأمانات والعهود في معاملات الأرض.
قالوا: عرفنا السادسة.. فحدثنا عن السابعة.. تلك التي ذكرها الله، فقال:{ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) } (المعارج)
قال: لقد ناط الله بأداء الشهادة حقوقا كثيرة ، بل ناط بها حدود الله ، التي تقام بقيام الشهادة، فلم يكن بد أن يشدد الله في القيام بالشهادة ، وعدم التخلف عنها ابتداء ، وعدم كتمانها عند التقاضي، ومن القيام بها أداؤها بالحق دون ميل ولا تحريف.. وقد جعلها الله شهادة له هو ليربطها بطاعته، فقال:{ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ..(2)} (الطلاق)، وجعلها هنا سمة من سمات المؤمنين وهي أمانة من الأمانات.
***
بقيت مدة في قسم الهلع.. أتعلم من محمد ماضي أبي العزائم وأصحابه كيف أوجه الهلع إلى الجهة الحسنى، وأتدرب على ذلك، وقد كانت تداريب في غاية الإرهاق والتعب..
وبعدما امتحنني ببعض الامتحانات، ورأى أني قد نجحت فيها أجازني في هذا القسم، وأمرني أن أسير إلى القسم السادس..
6 ـ الجبن
سرت إلى القسم السادس.. وقد كان شيخه رجلا فاضلا عالما قدم من الهند، وقد سمعتهم يلقبونه بمجدد الألف الثاني، وكانوا يطلقون عليه اسم (أحمد السرهندي)([83]).. ولم أكن أدري سر هذه الألقاب والتسميات إلى أن علمت أن الرجل قد وقف في حياته نفس المواقف الشجاعة التي وقفها سميه من قبل أمام السلاطين الكبار المستبدين.
بعد أن سمعت ما سمعت من أخبار شجاعة السرهندي مما امتلأت نفسي له طربا سألت شيخي أحمد الرفاعي متعجبا، ونحن سائران إلى القسم، قلت: أليس من العجب أن يوضع هذه الشيخ الفاضل الشجاع في هذا القسم؟
ابتسم الرفاعي، وقال: إن قلع الجبن لا يمكن أن يكون إلا من طرف الشجاع الذي تحدى الصعاب.. هو وحده الذي لديه الخبرة الكافية لأن يخلص كل جبان من جبنه.. فليست الشجاعة إلا التخلص من الجبن والضعف الذي يفرزه الجبن([84]).
دخلت القسم.. وكان أول ما سمعته في حلقه الدرس قول بعض التلاميذ: يا شيخنا.. لقد قدمنا هنا من بلاد بعيدة، ونحن نريد منك أن تخلصنا من الجبن.. فقد امتلأت قلوبنا رعبا، ونفوسنا ضعفا، وصرنا مسخرة للناس..
قال آخر: لقد وصفنا حالنا بعضهم، فقال: (إن أحسّ بعصفور طار فؤاده، وإن طنّت بعوضة طال سهاده، يفزع من صرير الباب، ويقلق من طنين الذّباب، إن نظرت إليه شزرا أغمي عليه شهرا، يحسب خفوق الرّياح قعقعة الرّماح)
قال آخر: وقد علمنا أنه لا يمكن استئصال أمراض النفوس دون التعرف عليها، وعلى الجذور التي تمدها بالحياة.
قال آخر: لقد اكتشفت أن السبب الأكبر لجبني هو جهلي.. ذلك أني كلما أقدمت قيل لي: أنت متهور.. فصرت بعدها لا أفرق بين الشجاعة والتهور.. وقد أدى بي ذلك إلى ما أنا فيه من الجبن..
قال السرهندي: رويدكم.. سأجيبكم واحدا واحدا.. ولنبدأ من الأول.. لا بد أن تعلموا – أحبابي الكرام- أن الجُبن هو الخوف الّذي يورث الإنسان الذلّة والمهانة والسقوط، ويحطّ من قدر صاحبه، ويتلف طاقاته ما كان منها بالفعل أو بالقوة ويفضي به بعد ذلك إلى أن يتسلط عدوه عليه.
ومن وفقه الله فتخلص من الجبن رزق الشجاعة والشهامة والجرأة، وهي كلها المفاتيح التي لا يمكن أن يفتح أي باب من أبواب النصر والفلاح من دونها.
ولذلك ذم الله تعالى الجبن في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، بل اعتبره من صفات المنافقين وضعيفي الإيمان.. قال تعالى واصفا المنافقين:{ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)} (الأحزاب)
وقال يصفهم :{ وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)} (المنافقون)
وفي الحديث أن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوّذ من خمس: (من البخل، والجبن، وفتنة الصّدر([85])، وعذاب القبر، وسوء العمر)([86])
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ، فيقول: (اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الهمّ والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدّين([87])، وغلبة الرّجال… الحديث)([88])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد، وإنّما أنتم ولد آدم، طفّ الصّاع، لم تملؤوه، ليس لأحد فضل إلّا بالدّين أو عمل صالح، حسب الرّجل أن يكون فاحشا بذيّا بخيلا جبانا)([89])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (شرّ ما في رجل شحّ هالع وجبن خالع)([90])
وعن جبير بن مطعم قال: بينا أنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ومعه النّاس مقبلا من حنين علقت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الأعراب يسألونه حتّى اضطرّوه إلى سمرة([91]) فخطفت رداءه، فوقف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أعطوني ردائي فلو كان عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم ثمّ لا تجدونني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا)([92])
قال رجل منهم: وعينا هذا.. وما قدمنا هنا إلا لأجله.. ونحن نريد منك أن تبين لنا الجذور التي ينبت منها الجبن في أرض النفس([93]).
قال: سبعة جذور.. لا تستقيم شجرة الجبن من دونها.
قالوا: فما الأول؟
قال: ضعف الإيمان وسوء الظنّ بالله.. ذلك أن من يعيش حقائق الإيمان بالله والثقة به، وينطلق في حياته من موقع التوكل والأمل برحمة الله ولطفه والتصديق بوعده، لا يمكن أن يذوق طعم الذلّة والمهانة والضعف، ولا يمكن أن يتردد أو يخاف أمام الحوادث الصعبة أو يهتز لتحديات الواقع الثقيلة.
لقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم في قوله تعالى، وهو يشرح نفسية الجبناء :{ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا (12)} (الأحزاب)
وفي المقابل ذكر موقف المؤمنين، فقال :{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)} (الأحزاب)
وقد أشار إلى هذا المعنى باب مدينة العلم في عهده لمالك الأشتر حين قال له: (اِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزٌ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ)
قالوا: عرفنا الأول.. فحدثنا عن الثاني.
قال: الشعور بحقارة النفس وهوانها.. ولهذا نجد أنه كلّما كانت شخصية الإنسان نافذة وقوية وشعر الإنسان معها بالكرامة واحترام الذات كان ذلك رافدا من روافد شجاعته وشهامته.. وقد أشار إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تجدون النّاس معادن، فخيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون من خير النّاس في هذا الأمر أكرههم له قبل أن يقع فيه.. وتجدون من شرار النّاس ذا الوجهين الّذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)([94])
وأشار إليه الإمام علي في قوله: (شِدَّةُ الْجُبْنِ مِنْ عَجْزِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْيَقِينِ)
قالوا: عرفنا الثاني.. فحدثنا عن الثالث.
قال: الجهل وقلّة المعرفة.. حيث أنهما يتسببان غالباً في نشر الخوف الموهوم، كما نرى في خوف الإنسان من الأشخاص أو الحيوانات الّتي لا يعرفها على وجه الدقة، ولكن عندما تتضح له الصورة ويتعرف عليها تذوب حالة الخوف في نفسه تدريجياً.
ويشير إلى هذا من القرآن الكريم قوله تعالى عن داود u :{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22)} (ص)
فداود u شعر بالخوف قبل أن يعرف حقيقتها، فلما عرفها زالت مخافته.
ومثل ذلك قوله تعالى عن إبراهيم u :{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)} (الذاريات)
ومثل ذلك قوله تعالى عن موسى u في شأن العصا :{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)} (طه)
قالوا: عرفنا الثالث.. فحدثنا عن الرابع.
قال: طلب الراحة والعافية.. فالركون إلى الراحة والعافية من الأسباب الكبرى للجبن.. لأن الشجاعة تتطلب الخوض في دوّامة المشكلات، لكي يتسنّى للإنسان أن يخرج منها منتصراً، وهذا المعنى لا يتلاءم ولا ينسجم مع مزاج من يطلب الراحة والعافية.
لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الجذر من جذور الجبن عند ذكره للمواقف المختلفة في غزوة الأحزاب، قال تعالى :{ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً (15)} (الأحزاب)
فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أن الحجاب الأكبر الذي حال بين هذه الطائفة وما أريد منها من النصرة هو تثاقلها إلى متاع الحياة الدنيا، ولهذا عقب الله تعالى على موقفهم ذلك بقوله: { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16)} (الأحزاب)
قالوا: عرفنا الرابع.. فحدثنا عن الخامس.
قال: إن دروس الحوادث المُرة والمؤلمة قد يتسبّب غالباً في أن يعيش بعض الناس حالة الخوف والرعب، لأن هذه الحوادث المرة تترسخ في أذهانهم وتمتزج بالخوف الّذي قد يستمر بهم إلى آخر حياتهم، ولا يمكن التخلّص منه إلاّ بالتربية والعلاج.. ونحن بحمد الله نعالج مثل هذه الحالات في هذا القسم بما رزقنا الله من مراهم الإيمان.
قالوا: عرفنا الخامس.. فحدثنا عن السادس.
قال: الإفراط في سلوك طريق الحذر.. فمن شأنه أن يورث الخوف.. أو هو عامل من عوامل ايجاد الخوف في النفس.. لأن مثل هذا الإنسان يتوقى كلّ ما يحتمل فيه الخطر.. وذلك يؤدي به إلى أن يعيش حالة التردد والخوف من الإقدام.
لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى عندما ذكر من مبررات الكفار التي حالت بينهم وبين الإيمان.. قال تعالى:{ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)} (القصص)
وأشار إليه عندما ذكر مقولة المنافقين عندما كان {..يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا (13)} (الأحزاب)
قالوا: عرفنا السادس.. فحدثنا عن السابع.
قال: الحالة الروحية والمزاجية والبدنية لها دور لا يمكن إهماله.. فأنتم ترون أن بعض الأشخاص وبسبب ابتلائهم بضعف الأعصاب أو ضعف القلب يخافون من كلّ شيء، في حين يشعرون في نفس الوقت بالنفور من هذه الحالة والامتعاض من وجودها في واقعهم، ولكنهم لا يستطيعون التخلّص منها.. وهؤلاء يقولون عادة: (إنّ الخوف المتسرب في أعماقنا ليس باختيارنا، بل نجده مفروضا علينا)
وهذا غير صحيح.. فالإنسان ملك لإرادته.. وإرادته ملك للأفكار التي يحملها..
ونحن بحمد الله نعالج هذه الحالة في هذا القسم بمراهم الإيمان، فليس هناك شيء عصي على الإيمان.
قال رجل من الحاضرين: عرفنا الجذور التي تقوم عليها شجرة الجبن.. فما المعاول التي تقطعها من أرض النفس؟
قال: أنتم تعلمون أن علماء التربية والسلوك يذكرون علاجين لكل الأمراض النفسية.. من جمعهما وفقه الله لتطهير نفسه من أدرانها.
قالوا: أجل.. هما العلم.. والعمل.. فحدثنا عن الأول.
قال: يحتاج الجبان أول ما يحتاج إلى تعميق إيمانه بالله.. وبأن كل شيء بقضاء الله وقدره.. فإنه لا يقضي على المخاوف شيء مثل هذا الإيمان العالي..
لقد روي في الأخبار أن سعيد بن جبير قال للحجاج عندما هدده الحجاج بالقتل:( لو علمت أن الموت والحياة في يدك ما عبدت إلها غيرك)
انظروا إلى هذا الموقف الشجاع من سعيد.. إنه لولا إدراكه أن ما يتشبث به الحجاج من قوة وهم عظيم سكن عقله، فالله تعالى هو مالك الآجال، لا الحجاج ولا أي طاغية غيره،
فمن اعتقد بما في قوله تعالى :{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} (لأعراف)، وما في قوله :{ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(49)} (يونس)، وما في قوله :{.. فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} (الأعراف) لا تصيبه أدنى مخافة، ولا أدنى جبن.
ذلك أنه لا يفر من الموت إلا من سيطر عليه وهم الخوف، فمنعه من التفكير السليم، قال تعالى :{ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)} (الجمعة)، وقال :{ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ..(78)} (النساء)، وقال :{.. يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)} (آل عمران)
بل إن الإيمان ليصل بصاحبه إلى مرتبة أعلى وأشرف، وهي المرتبة التي يرى فيها المؤمن الموت الذي يخافه الجبان بصورة المحل الذي يلقى فيه كل ما هفت إليه نفسه في الدنيا وقصرت عنه يداه، فهو الباب الذي تنفتح من كوته الأماني، وتتحقق الرغبات، فهو قدوم على الله، ومن لا يحب القدوم على الله، وقد قيل لأعرابي اشتد مرضه: إنك ستموت، فقال: وإلى أين يذهب بي بعد الموت؟ قالوا: إلى الله، فقال: ويحكم، وكيف أخاف الذهاب إلى من لا أرى الخير إلا من عنده؟
ولهذا قال يحيى بن معاذ:( لا يكره لقاء الموت إلا مريب، فهو الذي يقرب الحبيب من الحبيب)
ولهذا أخبر الله تعالى أن الملائكة تبشر المؤمنين، وتنهاهم عن الاستسلام لشبح الخوف والحزن، وتذكرهم بالمصير الذي يقدمون عليه، قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)} (فصلت)
وانطلاقا من هذه المعارف الإيمانية صاح سحرة فرعون في وجه فرعون بقوة الإيمان :{ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)} (طـه)
وعلى خطاهم سار الصالحون متحدين كل المشانق التي نصبت لهم، وعاصفين بكل رياح الخوف التي أرادت أن تجتثهم، كعمير بن الحمام الأنصاري الذي سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في غزوة بدر لأصحابه:( والذي نفسي بيده ما من رجل يقاتلهم اليوم -المشركين- فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة) فيقول عمير متعجبا:( بخ بخ)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( مم تبخبخ يا ابن الحمام؟)، فقال:( أليس بيني وبين الجنة إلا أن أتقدم فأقاتل هؤلاء فأقتل؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( بلى)، وكان في يد عمير تمرات يأكل منها فقال: أأعيش حتى أكل هذه التمرات؟ إنها لحياة طويلة! وألقى التمرات من يده وأقبل يقاتل ويقول:
ركضاً
إلى الله بغير زاد |
إلا التقى وعمل المعاد | |
والصبر
في الله على الجهاد |
وكل زاد عرضة للنفاد |
غير التقى والصبر والرشاد([95])
ومثله أنس بن النضر الذي قاتل في أحد قتال من يطلب الموت، وعندما لقيه سعد بن معاذ قال له: يا سعد، الجنة ورب النضر: أجد ريحها من وراء أحد.
قالوا: وعينا هذا.. فهل هناك علاج علمي غيره؟
قال: أجل.. أن يتفكر الجبان في الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لجبنه.. فعندما يطالع الجبان، والّذي يعيش حالة الخوف والرعب من كلّ إقدام مثمر الآثار السلبية للخوف الموهوم وما يترتب عليه من ذلّة وحقارة وتخلف وحرمان من الكثير من مواهب الحياة في حياته أو حياة الآخرين، فإنه سيتحرك في الغالب لتجديد فكرته ونظرته عن هذه الحالة ويسعى لتطهير نفسه منها.
قالوا: وعينا هذا.. فما العلاج الثاني.. ما العلاج العملي؟
قال: ذلك هو ما يشير إليه قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: (اذا هبت امرا فقع فيه، فان شدة توقيه اعظم مما تخاف منه)
وهو ما نمارسه في هذا القسم في جناح التدريبات.. فهلم بنا إليه..
***
سرنا مع السرهندي إلى جناح التدريبات.. وهناك ظللنا مدة الطويلة نتدرب على قلع مرض الجبن.. إلى أن رأى في بعضنا الأهلية للتخرج منه، فأجازنا، وانتقلنا بعده إلى القسم السابع من أقسام المدرسة.
7 ـ العجز
سرت إلى القسم السادس.. وقد كان شيخه رجلا صالحا جمع بين العلم والعمل.. وقد علمت أنه قدم من ليبيا.. وأن أصله من الجزائر.. وأن له مريدين وأتباعا كثيرين.. وكان الجميع يطلقون عليه لقب (السنوسي)([96])..
وقد عجبت لما سمعت من أخبار نشاطه، ونشاط أتباعه، ولكني لم أعجب أن يتولى التدريس في هذا القسم، فقد علمت أنه لا يخلص العجزة من عجزهم إلا من امتلأ نشاطا وهمة.
عندما دخلنا القسم.. سمعت بعض التلاميذ يسأله قائلا: يا شيخنا.. لقد ظللت مدة محتارا في سر وصف القرآن الكريم للمستضعفين بأنهم ظالمين لأنفسهم.. وأنهم يستحقون لذلك ما يحصل لهم من ألوان الآلام.. بل إن الله تعالى يتوعدهم بمزيد من العذاب يجدونه في الآخرة..
قال السنوسي: أراك تشير إلى قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا (97)} (النساء)
قال الرجل: أجل.. انظر كيف اعتبر الله تعالى هؤلاء ظالمين مع أنهم أقروا بأنهم كانوا مستضعفين.
قال السنوسي: اقرأ ما بعدها من الآيات لتعرف السر في لوم هؤلاء، وفي العقاب الذي حاق بهم.
قال الرجل: لقد قال الله تعالى بعد تلك الآية :{ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} (النساء)
قال السنوسي: إن هاتين الآيتين تجيبانك عن سؤالك.
قال الرجل: لم أفهم..
قال السنوسي: إن الله تعالى لا يلوم ولا يؤاخذ عباده على العجز الفطري الجبلي الذي خلقوا به.. ولكنه يلومهم أشد اللوم على العجز الذي يكسبونه بسبب خورهم وكسلهم..
قال الرجل: فالعجز عجز إذن؟
قال السنوسي: أجل.. والله تعالى بعدله ورحمته لا يؤاخذ عباده إلا بما كسبت أيدهم..
ومع ذلك.. فإن الله تعالى ينهى المستضعفين الذين ملأتهم جبلتهم بالعجز عن أن يقعد بهم ضعفهم الحسي عن الاستعداد والهم، ولهذا يثني على الصالحين المستضعفين بقوله :{ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} (التوبة)
ولهذا أثنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذا النوع من المستضعفين بقوله:( إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً ولا سرتم سيراً إلا وهم معكم) قالوا: وهم بالمدينة؟ قال:( نعم حبسهم العذر)([97])
بل إن الله تعالى اشترط في هؤلاء المستضعفين النصح لله ورسوله في حال قعودهم وعجزهم، فقال تعالى :{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) } (التوبة)
قال الرجل: لم كان الأمر كذلك.. لم نظر الإسلام إلى العجز بهذه النظرة السلبية؟
قال: لأن دين الله تعالى لا يقوم به ولا يمثله إلا الأقوياء أصحاب الهمم العالية، أما الذين يتصورون الدين ضعفا وتماوتا وذلة، فهم لا يميتون شخصياتهم فقط، بل يميتون الدين أيضا.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو القدوة الأول للمؤمنين إذا مشى أسرع في مشيته، كأنما ينحدر من صبب، يقول واصفه:( ما رأيت أحداً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأن الشمس تجرى في وجهه، ولا رأيت أحداً أسرع في مشيته منه، كأنما الأرض تطوى له، وإنما لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث)([98])
قال رجل من الحاضرين: أنت تعلم أنا قوم امتلأنا عجزا وكسلا.. وقد قدمنا إلى هذا القسم لنتطهر منه.. فما السبيل إلى ذلك؟
قال: سبيلان.
قال الرجل: علمناهما.. فحدثنا عن السبيل الأول.. حدثنا عن العلم.
قال: أولهما هو العلم.. وأعظم علم هو العلم بالله.. فمن عرف الله أعطاه الله من القوة ما يزحزح الجبال.. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى المعاني التي يختزنها الإيمان، فيملأه صاحبه بالقوة:( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فان لو تفتح عمل الشيطان)([99])
انظروا كيف جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاستعانة بالله منافية وصادة لأوهام العجز..
ولهذا قال تعالى يذكر موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في الغار يتحدى المشركين :{ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} (التوبة)
فشعور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعية الله جعله يتحدى كل ما أعد المشركين من وسائل الرصد التي تريد أن تغتاله وتغتال دينه.
وبمثل هذا القول علم الله تعالى موسى u مصححا تصوره لفرعون وزبانيته :{ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)} (الشعراء)، وكأنه يقول له:( كلا يا موسى، فلا يساوي فرعون شيئا ما دمت معك)
ولهذا سار موسى u رابط الجأش، شجاعا، في عزة تقصر معها عزة كل ما أحيط بفرعون من هالة وزينة، فقد كان مع موسى u ربه تعالى، ولهذا أجاب بني إسرائيل بعد أن أدركهم فرعون وجنده بقوله الذي يستعيد فيه موسى u ماقيل له في ذلك اليوم :{ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)} (الشعراء)
ولهذا الشعور تأثيره العظيم في بث العزيمة في نفس المؤمن، لأنه حينها لا ينظر إلى قوته المحدودة، وإنما ينظر إلى قوة الله التي تمده بالمدد كل حين، بل إنه ينفي قوته بجنب قوة الله، ولهذا قال تعالى :{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)} (آل عمران)، فاعتبر النصر من الله والخذلان من الله.
ولهذا تحدى الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ أقوامهم، فلم يبهرهم ما أعد لهم من صنوف الفتن، قال تعالى ذاكرا قول هودا u لقومه بعد تكذيبهم له :{ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} (هود)
قال رجل من القوم: إنا نعتقد بكل ما تذكر.. ولكنا مع ذلك نجد في جوارحنا من الخدر ما يمنعنا من أي حركة.
قال: ذلك هو الكسل.. ذلك هو الذي وصف الله به المنافقين، فقال:{ إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)} (النساء)
ووصف به آخرين من ضعاف الإيمان، فقال :{ وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)} (التوبة)
ووصف به المخلفين المتثاقلين، فقال :{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} (التوبة)، وقال :{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81)} (التوبة)، وقال :{ وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)} (التوبة)
قال رجل من الحاضرين: لم نكن نتصور أن الكسل يصل بأصحابه إلى هذه الدرجة.. فلم كان كذلك؟.. لم كان الكسل عرضا من أعراض النفاق، ووصفا من أوصاف ضعاف الإيمان؟
قال: ذلك أن الإنسان لا تتحرك جوارحه إلا بإملاء من حقيقته التي هي روحه.. فإن كانت روحه منغمسة في الأوحال، مستغرقة في الظلمات لم تكد تحرك صاحبها نحو خير.
أرأيتم لو أن هذا الذي تكاسل عن أعمال البر التي يقتضيها الإيمان عرض عليه ما يملأ خزائنه بالأموال.. هل تراه يقعد عن ذلك؟
قالوا: لا.. إنا نرى نفوسنا ننشط في هذه المحال نشاطا لا نظير له؟
قال: فاعلموا إذن أن دواءكم في تقوية إيمانكم.. فليس الجسد إلا خادم بسيط للروح يأتمر لأمرها، وينتهي لنهيها.
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن العلاج العملي.
قال: ستعيشونه هنا في جناح التدريبات في هذا القسم.. فلن يتخرج منه إلا من تخلص من أوثان عجزه وكسله، فلا يستقيم الإيمان مع العجز والكسل.
قال رجل من القوم: لقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعاذات من الكسل، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللّهمّ إنّي أعوذبك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر. اللّهمّ آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها. أنت وليّها ومولاها اللّهمّ إنّي أعوذبك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)([100])
ونحن نقولها ونلتزم بها، ومع ذلك لم نر حياتنا تتغير.. فأين التقصير؟
قال: أرأيتم لو أن رجلا لا يصلي.. وظل يدعو الله أن يجعله يصلي.. هل يكفه ذلك؟
قالوا: لا.. بل عليه أن يتحرك بجوارحه.. فالأمر بين يديه، وبيديه.
قال: فهكذا هذا الأمر.. لقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منظومة كاملة من التشريعات والتوجيهات تخلصنا من كل عجز وكسل.. فرحنا ننبذها، ونكتفي بالاستعاذة من الكسل.
قالوا: فهلا ذكرت لنا من هذه المنظومة بعضها.
قال: من ذلك الاستيقاظ المبكر، فلا يفسد حياة الكسول شيء مثلما يفسدها نومه.. قال صلى الله عليه وآله وسلم يذكر تأثير الاستيقاظ في النشاط: (يعقد الشّيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد إذا نام، بكلّ عقدة يضرب عليك ليلا طويلا. فإذا استيقظ، فذكر اللّه، انحلّت عقدة. وإذا توضّأ، انحلّت عنه عقدتان، فإذا صلّى انحلّت العقد. فأصبح نشيطا طيّب النّفس، وإلّا أصبح خبيث النّفس كسلان)([101])
قالوا: وعينا هذا.. فهل هناك غيره؟
قال: من ذلك أن يحرص على العمل.. فلا يدمر حياة الكسول شيء مثلما يدمرها قعوده عن العمل، ففي الحديث أنّ رجلا من الأنصار أتى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يسأله، فقال: (أما في بيتك شيء؟) قال: بلى، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: (ائتني بهما) فأتاه بهما، فأخذهما رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بيده، وقال: (من يشتري هذين؟) قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: (من يزيد على درهم؟). مرّتين أو ثلاثا. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إيّاه، وأخذ الدّرهمين وأعطاهما الأنصاريّ، وقال: (اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدّوما فأتني به) فأتاه به، فشدّ فيه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عودا بيده ثمّ قال له: (اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينّك خمسة عشر يوما) فذهب الرّجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إنّ المسألة لا تصلح إلّا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع)([102])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الأيدي ثلاثة: فيد اللّه العليا، ويد المعطي الّتي تليها، ويد السّائل السّفلى، فأعط الفضل ولا تعجز عن نفسك)([103])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن يأخذ أحدكم أحبلا، فيأخذ حزمة من حطب فيبيع فيكفّ اللّه بها وجهه خير من أن يسأل النّاس أعطي أم منع)([104])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره، فيتصدّق به ويستغني به من النّاس، خير له من أن يسأل رجلا، أعطاه أو منعه ذلك. فإنّ اليد العليا أفضل من اليد السّفلى. وابدأ بمن تعول)([105])
قالوا: وعينا هذا.. فهل هناك غيره؟
قال: لقد ذكرت لكم أن منبع الكسل هو أفكار الكسول وتصوراته الخاطئة للحياة.. ولهذا، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر ذلك من الهوى الحاجز عن العمل، ولا يمكن للكسول أن يتخلص من كسله، ولا للعاجز أن يتخلص من عجزه إلا إذا تخلص من تلك الأفكار المردية، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على اللّه)([106])
***
ما وصل صاحبي من حديثه إلى هذا الموضع حتى فوجئنا بجلبة داخل القصر.. ثم فوجئنا بالحرس جميعا يهرعون إلى حيث سمعنا الجلبة.. تاركين الأبواب مفتوحة لا حارس لها..
لم أدر إلا بموسى يسرع مع الجموع ليدخل القصر.. ولم أجد نفسي إلا معهم جميعا، وقد ارتفعت عني كل مخافة.
في داخل القصر رأيت صورة لا يمكنني أن أنساها ما حييت..
لقد رأيت ذلك الرجل العملاق الجميل الذي أوتي من بسطة الجسم وحسنه ما أوتي، وقد تغير حاله تغيرا تاما.
قلت: ماذا حصل له؟
قال: لقد كان في بيته كثير من الأجهزة سريعة الالتهاب.. وقد غفل المسكين عن سيجارته، فامتدت نيرانها لبعض تلك الأجهزة.. فحولت بيته إلى رماد.. وحولت وجهه إلى شبح.. وحولت جسده إلى هيكل مملوء بالعجز والضعف..
كان مغمى عليه حين دخلنا قصره..
ولم نلبث إلا قليلا حتى جاء طبيبه الخاص.. ومعه جميع الأجهزة الطبية التي يحتاجها..
بعد أن أجرى الطبيب فحوصاته التفت إلينا، وقال: آسف.. ليس هناك من أمل.. لقد امتد الحريق إلى فؤاده.. ولا يمكن لأي طبيب في الدنيا أن يعالج حريقا وصل إلى الفؤاد..
قلت: فقد مات الرجل إذن؟
قال: أجل.. ومن عجائب الأقدار أن موسى هو الذي ورث قارون.. فلم يكن له وارث إلا أخاه..
لقد تحول القصر في ذلك المساء إلى موسى.. وقد عجبت إذ أن القارئ الذي جاء يقرأ القرآن تلك الليلة ـ كما تعود الناس أن يفعلوا مع موتاهم ـ كان أول ما بدأ به سورة الهمزة..
لقد أخذ يردد بصوت خاشع حزين:{ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} (الهمزة)
كانت دموع كثيرة حارة ترسم خطوطها على وجنتي موسى.. قام بعدها، وقال: أيها الجمع الكريم.. أشهدكم بأن هذا القصر بما فيه.. وأن جميع الأموال التي ورثتها من أخي.. قد وهبتها لليتامى والمستضعفين..
قد جعلتها جميعا وقفا لله..
وأرجو من الله العلي القدير.. الكريم الغفور.. أن يمنح أخي من مغفرته وعفوه، فهو
الغفور الرحيم.
([1]) يشير إلى لين هارون u قوله تعالى :{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)} (طه).. فمع شدة موسى u عليه، ومع ذلك تحدث معه بذلك اللين.
([2]) أشير به إلى الولي الصالح أحمد بن علي بن أحمد بن يحيى بن حازم الرفاعي، أبو العباس البطائحي (500 ـ 578 هـ)، وهو الفقيه الزاهد،، موَسّس الطريقة الرفاعية.. كان والده مغربي الموطن، وسكن البطائح (من أعمال واسط)، فولد بها بعد أن توفّي والده وهو حمل.. تفقّه أوّلاً على مذهب الشافعي، فقرأ (التنبيه)، ثم تصوّف وانضم إليه خلق من الفقراء، وأحسنوا فيه الاعتقاد، وهم الطائفة الرفاعية ويقال لهم الاَحمدية أو البطائحية.. وللرفاعي كلام جميل جُمع في رسالة سُمّيت (رحيق الكوثر)
([3]) رواه أحمد.
([4]) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
([5]) مشعانّ الرأس: المنتفش الشعر الثائر الرأس.
([6]) رواه النسائي.
([7]) الإرفاه: كثرة التدهن والتنعم.
([8]) البذاذة: رثاثة الهيئة وترك الزينة والمراد التواضع في اللباس وترك التبجح به.
([9]) رواه أبو داود وابن ماجة.
([10]) رواه البخاري.
([11]) أشعث: الأشعث الملبد الشعر المغبر.
([12]) رواه مسلم.
([13]) رواه البخاري.
([14]) رواه أحمد.
([15]) انظر: (كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلب)، وهو الكتاب الثاني من (ربع المهلكات)، من (إحياء علوم الدين)
([16]) أشير به إلى محمد بهاء الدين النقشبندي الأويسي البخاري شيخ الطريقه النقشبندية، والنقشبند ـ من حيث المعنى ـ تنقسم الى قسمين ، القسم الأول منها هو ( النقش ) وهو فعل يحمل نفس المعنى العربي، والقسم الثاني هو ( البند ) والبند باللغة الكردية الفارسية والتركية هي الحبل أو الوتر ، لذا يقصد بالنقشبند : بنقش إسم الجلالة ( الله ) على حبال وأوتار القلب وشغافه .
([17]) انظر: تفصيل النشأتين.
([18]) الذريعة إلى مكارم الشريعة (131، 132.
([19]) انظر: اجتماع الجيوش الاسلامية على غزو المعطلة والجهمية (15- 17) بتصرف.
([20]) انظر: الأخلاق في القرآن لناصر مكارم الشيرازي.
([21]) رواه أحمد واللفظ له والبزار ورواتهما محتج بهم في الصحيح. ورواه ابن حبان في صحيحه بنحوه. ورواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي في أحد أسانيده: حديث غريب صحيح.
([22]) رواه أحمد وأبو عبيد في فضائل القرآن وابن أبي الدنيا والطبراني والحاكم وغيرهم.
([23]) رواه أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
([24]) رواه ابن ماجة وأحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد،.
([25]) مجحّ: أي حامل وقرب وقت ولادتها.
([26]) رواه أحمد والبزار والطبراني.
([27]) رواه البخاري ومسلم.
([28]) هذا النص من رسالة أيها الولد للغزالي.
([29]) أشير به إلى الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي المغربي، الزاهد، الصوفي الذي تنتسب إليه الطريقة الشاذلية، سكن الإسكندرية، ولد 571هـ بقبيلة الأخماس الغمارية، تفقه وتصوف في تونس، وسكن مدينة (شاذلة) التونسية ونسب إليها، وتوفي الشاذلي بوادي حميثرة بصحراء عيذاب متوجهًا إلى بيت الله الحرام في أوائل ذي القعدة 656هـ..
([30]) انظر: التفسير الكبير للرازي.
([31]) رواه أبو داود والترمذي واللفظ له وابن ماجه والبيهقي وقال الترمذي حديث حسن ورواه الطبراني في الأوسط.
([32]) رواه البزار والطبراني في معاجيمه الثلاثة.
([33]) رواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وغيره وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
([34]) الألد: هو شديد الخصومة.
([35]) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
([36]) رواه الترمذي وقال حديث غريب.
([37]) رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه ورواه الطبراني وغيره.
([38]) رواه الطبراني في الكبير.
([39]) رواه الطبراني في الكبير.
([40]) انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (النبي الهادي)، فصل (المحاور)
([41]) رواه الترمذي وقال غريب.
([42]) رواه البخاري.
([43]) أشير به إلى الشيخ عبد القادر الجيلي أو الجيلاني أو الكيلاني (470 هـ – 561 هـ)، هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، لقبه أتباعه باز الله الأشهب وتاج العارفين ومحيي الدين وقطب بغداد.. وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية.
([44]) عرفه الجرجانيّ بقوله: (الغرور هو سكون النّفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطّبع) (التعريفات للجرجاني ص 167)، وقال الحراليّ: (الغرور هو إخفاء الخدعة في صورة النّصيحة) (التوقيف على مهمات التعاريف لابن المناوي ص 252)
([45]) رواه البخاري ومسلم.
([46]) استفدنا في هذا المبحث من كتاب (الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين)، لأبي حامد الغزالي مع التصرف الذي ألفناه في هذه السلسلة.
([47]) رواه الترمذي وابن ماجة.
([48]) رواه مسلم.
([49]) رواه الترمذي بسند حسن.
([50]) رواه البخاري.
([51]) أشير به إلى محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي (604 هـ – 672 هـ) عرف أيضا باسم مولانا جَلَال الدِّين الرُّومي: شاعر، عالم بفقه الحنفية والخلاف وأنواع العلوم، ثم متصوف، وهو صاحب المثنوي المشهور بالفارسية، وصاحب الطريقة المولوية.
([52]) التؤدة: التأني والتمهل والرزانة.
([53]) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي.
([54]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
([55]) رواه مسلم.
([56]) رواه أحمد وابن ماجة.
([57]) رواه الحاكم وقال: صحيح على شرطهما.
([58]) رواه البخاري.
([59]) رواه أحمد.
([60]) رواه البخاري ومسلم.
([61]) رواه البخاري.
([62]) التؤدة هي التأنّي والتمهل يقال: اتّئد في أمرك (أي تمهل وتأنّ).
([63]) رواه أبو داود.
([64]) رواه الترمذى، وقال: حديث حسن غريب.
([65]) رواه البخاري ومسلم.
([66]) رواه البخاري ومسلم.
([67]) رواه مسلم.
([68]) رواه النسائي والترمذي، وقال: حديث حسن.
([69]) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
([70]) انظر: (آفات على الطريق)، للدكتور السيد محمد نوح.
([71]) رواه البخاري.
([72])أشير به إلى الشيخ الجليل محمد ماضي أبو العزائم (1286 هـ/1869 م – 1356 هـ/1937 م) مؤسس الطريقة العزمية والمصلح المجدد المعروف، الذي قاله فيه الشيخ محمد الفحام شيخ الأزهر الأسبق: (لقد عاصرت في شبابي فترة من فترات حياة الإمام أبي العزائم، فلمست عن قرب جهاده في إعلاء كلمة الدين، وأسلوبه الحكيم في معالجة الأمور بما يجب أن يكون عليه العلماء المرشدون، والأئمة الصالحون، وسيرة الإمام محمد ماضي أبي العزائم تعتبر نبراسا للشباب، ومنارا للجيل يسير على هديها فيعبر الطريق إلى الحق. وإن جهود الإمام أبي العزائم في إرساء قواعد التصوف على أساس سليم منزه مما علق به من شوائب وجهوده في لم شعث الأمة، والتنبيه إلى مخاطر الحزبية البغيضة وتوجيه نصائحه إلى الزعماء، ودوره في ثورة 1919م وفي أعقابها، ثم دوره الفعال في مسألة الخلافة الإسلامية، ما يشهد لهذا الرجل بأن يكون في طليعة المجاهدين الذين لا يسألون عن جهادهم أجرا، ولا عن عملهم شكراً ) (الموسوعة الذهبية جـ 34 ص 302)
([73]) انظر: الأخلاق في القرآن، للعلامة ناصر مكارم الشيرازي.
([74]) عرفه المناويّ بقوله: (الجزع حزن يصرف الإنسان عمّا هو بصدده، ويقطعه عنه قهرا، وهو أبلغ من الحزن).. وقال الجاحظ: (الجزع خلق مركّب من الخرق والجبن).
([75]) انظر: في ظلال القرآن.
([76]) رواه البخاري.
([77]) رواه أحمد ورواته ثقات.
([78]) رواه البخاري ومسلم.
([79]) البزار، والطبراني في الكبير عن أنس.
([80]) مسلم عن ابن عمر.
([81]) انظر: في ظلال القرآن.
([82]) رواه البخاري.
([83]) أشير به أحمد بن عبد الأحد بن زين العابدين بن عبد الحي العُمَري، السرهندي – ويقال السهرندي – الهندي(971 ـ 1034 هـ) كان فقيهاً حنفياً، مدرّساً، من مشاهير الصوفية، يلقب بمجدد الاَلف الثاني، ولد بسهرند (بين دهلي ولاهور من بلاد الهند) سنة إحدى وسبعين وتسعمائة.. ودرس العلوم والتصوّف على أبيه، والعقليات على كمال الدين الكشميري، والحديث على يعقوب بن الحسن الصرفي، والقاضي بهلول البدخشي.. وانصرف للتدريس والتأليف، ولمّا توفّي أبوه سافر إلى دهلي، ولقي هناك رضي الدين عبد الباقي النقشبندي، فأخذ عنه الطريقة النقشبندية في التصوّف، وأجازه بإرشاد ووعظ المريدين كما شرع بتدريس الفقه والاَُصول والكلام والتفسير والحديث.. وسجنه سلطان الهند جهانگير بن أكبر لمدة ثلاث سنين لامتناعه عن السجود تعظيماً له، وأطلقه بشرط الاِقامة معه في معسكره، فقبل ونفّذ الشرط، وبعد وفاة السلطان رخّصه ابنه شاهجهان، فعاد السهرندي إلى بلاده وأكبّ على التدريس حتى توفّي. له رسالة في إثبات النبوّة، ورسالة في المبدأ والمعاد، وتعليقات على (عوارف المعارف) للسهروردي، ومكتوبات في ثلاث مجلّدات وغير ذلك. (انظر: موسوعة أصحاب الفقهاء)
([84]) سنرى تفاصيل أخرى ترتبط بهذا الموضوع في مبحث (الشجاعة) في فصل (شديد) من هذه الرسالة.
([85]) فتنة الصّدر: الصدر بالتحريك: رجوع المسافر من مقصده والمراد: رجوع الناس إلى خالقهم يوم المحشر فاستعاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فتنة هذا اليوم.
([86]) رواه أحمد.
([87]) ضلع الدّين: ثقله، والضلع الاعوجاج أي يثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء.
([88]) رواه البخاري ومسلم.
([89]) رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وفيه لين وبقية رجاله وثقوا.
([90]) رواه أحمد.
([91]) سمرة: نوع من الشجر.
([92]) رواه البخاري.
([93]) انظر: نفحات القرآن للشيرازي، ومثله لكتابه (الأخلاق في القرآن)
([94]) رواه البخاري ومسلم.
([95]) تاريخ الطبري: 2/33.
([96]) أشير به إلى الشيخ المربي محمد بن علي السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي (1202 – 1276هـ) مؤسس الطريقة السنوسية، وُلد ببلدة مستغانم الجزائرية.. تعلم على يد علماء مسقط رأسه، ثم ارتحل طالبًا العلم في فاس، وبرع فيه. وعين مدرسًا بالجامع الكبير بفاس، وجاب مناطق الصحراء واعظًا ومربيا، وتجوّل في كثير من البلدان الإسلامية، فقد زار تونس وطرابلس وبرقة ومصر والحجاز واليمن.. وأنشأ أول زاوية له في جبل أبي قبيس بمكة، ثم عاد إلى برقة سنة 1255هـ – 1839م، وأقام بالجبل الأخضر، فبنى الزاوية البيضاء.. انتشرت طريقته، فارتابت الحكومة العثمانية في أمره، فضايقته، فانتقل إلى واحة جغبوب بجنوبي ليبيا حتى توفاه الله، مخلفًا وراءه نحو أربعين كتابًا ورسالة.
([97]) رواه البخاري ومسلم.
([98]) رواه الترمذي، وقال: حديث غريب، ورواه أحمد وابن حبان وابن سعد.
([99]) رواه أحمد.
([100]) رواه مسلم.
([101]) رواه البخاري ومسلم.
([102]) رواه أبو داود والبيهقي بطوله وأخرج الترمذي والنسائي منه قصة بيع القدح فقط. وقال الترمذي: حديث حسن.
([103]) رواه أبو داود والحاكم.
([104]) رواه البخاري.
([105]) رواه البخاري ومسلم.
([106]) رواه مسلم.