أولا ـ السماء

أولا ـ السماء

في اليوم الأول.. بدأ المؤتمر باحتفال رسمي شارك فيه سلطات البلدة المحليين، بالإضافة إلى الوجهاء فيها، وخلالها قدم بعض المشايخ دروسا عن اهتمام القرآن الكريم بآيات الله في الآفاق والأنفس.. وكانت محاضرات رائعة لولا ما امتلأت به من أسانيد ونقول عن المفسرين المختلفين، جعلت أكثر كلامهم إطنابا لا حاجة له بالنسبة لي.. وإن كان الكثير استساغ ذلك الأسلوب.

بعدها قدم صاحبي الفلكي محاضرته.. وكانت محاضرة علمية بحتة.. لكنها جافة غاية الجفاف.. ولم أجد لها أي صلة بالقرآن.. فكل ما ذكره هو حديثه عن عظمة الكون وسعته وكثرة أجرامه.. وقد ضم كلامه أرقاما كثيرة لم أر الكثير يهتم لها، ولا بها.

كان يتحدث عن الكون، وكأنه يتحدث عن مصنع مهجور لا صاحب له.. يتحدث عن آلاته وعماله من غير أن يبرز أي صلة تجمع بين هذه المكونات جميعا.

كانت معلومات صاحبي ضخمة.. ولكنها مشوشة لعدم الرابط الذي يربط بين محتوياتها.

وقد أحسست بذلك التشويش على سمات وجهه..

لقد كان الرجل ملحدا في الحقيقة.. ولم تكن له من صلة بالكنيسة غير صلة الانتماء الوراثي.. وقد جره إلى الإلحاد ـ على حسب ما ذكر لي ـ سببان:

الأول: هو ما احتواه الكتاب المقدس من أمور تعتبر أخطاء في الموازين العلمية.. لقد قرأ علي في أول لقاء لي معه ما جاء في التوراة من شرح لأحداث أيام الخلق، ثم قال بكل حسرة: إن هذا النص الطويل هو السبب فيما حصل لي من ابتعاد عن الله، أنا أشعر بالله.. وأشعر أنه يستحيل أن ينبني هذا الكون من غير أن يكون له صانع يصنعه ويبدعه.. ولكني في نفس الوقت أشعر بأن الإله الذي قال هذا الكلام إله لا يستحق أي احترام.. لأنه يجهل أبسط المبادئ العلمية..

إن هذا النص القصير بموازين ما ورد في الكتاب المقدس من نصوص مطولة عن الأنساب والمطاعم والمشارب ([1]) يحوي أخطاء كثيرة جدا لا يمكن أن تغتفر([2]):

لقد ذكر هذا النص أنه في اليوم الأول خلق الله الليل والنهار، وفي اليوم الثاني خلق الله السماء، وفي اليوم الثالث خلق الله البر والبحر والنباتات، وفي اليوم الرابع خلق الله الشمس والقمر والنجوم، وفي اليوم الخامس خلق الله أسماك البحر والزواحف وطيور السماء، وفي اليوم السادس خلق الحيوانات الأليفة والمفترسة والإنسان([3]).

كل هذه المخلوقات موجودة.. ولا جدل في وجودها.. ولكن الجدل في الترتيب الذي رتبت به.. إنها كمن يرتب أحداث التاريخ، فيجعل عصرنا قبل العصور الوسطى، بل كمن يجعل عصرنا مقدمة للعصور الحجرية..

ألا ترى كيف يقدم خلق الليل والنهار على خلق الشمس مع أن ظاهرة اليل والنهار مرتبطة بوجود الشمس.. بل إن النص ذاته أشار في أحداث اليوم الرابع إلى هذه الحقيقة فقال:(لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ)

ليس ذلك فقط.. وإن كان ذلك كافيا.. فالأخطاء لا تزال تتسلسل كما تتسلسل إجابة طالب بليد اختلطت عليه دروسه:

لقد ذكر ذلك النص تقديم خلق النباتات بجميع أنواعها على  خلق الشمس مع العلم  بأنه لا يمكن للنباتات بأي حال من الأحوال أن تعيش بدون الطاقة الشمسية التي تحتاجها في عملية التركيب الضوئي.

ومن أشنع الأخطاء أن كاتب هذا النص الذي زعم لنفسه الإلهام افترض أن الأرض موجودة منذ بداية أيام الخلق، ولم يبين المدة التي استغرقها خلق هذه الأرض الخربة والخالية.

ومن أشنعها ما ذكره من أن الشمس والقمر والنجوم قد تم خلقها في اليوم الرابع، بينما تم خلق الأرض في اليوم الأول.. وهذا ما لا يقبله العقل، فلا يمكن أن توجد الأرض بدون الشمس.

ومن أشنعها أن هذا النص أشار إلى أن الله خلق السماوات والأرض منذ البداية (فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)، ثم أشار إلى أنه خلق سماء واحدة، وليس سماوات في أحداث اليوم الثاني.. ومثل ذلك اختلط عليه الأمر في الطريقة التي تم من خلالها خلق هذه السماء.. حيث أن هذه السماء فصلت المياه عن بعضها البعض فأصبح قسم منها فوق السماء، وآخر تحتها، ومن هذا القسم الأخير تكونت مياه الأرض.. اسمع ما تقول التوراة:(وَقَالَ اللهُ:(لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ)  فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ.  وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا)

لم أجد حينها بما أجيبه، ولم أجد إلى الآن ما يمكن أن يجاب عن هذا..

لقد صارحني الرجل في خلوة بيني وبينه بما يعانيه من تشويش بسبب هذا النص الذي تكلف فيه كاتبه كل هذا التكلف.. وكأنه أراد أن يحطم الكتاب المقدس من أول إطلالة عليه([4]).. أو كأنه أراد أن يصرف العلماء عن النظر في الكتاب المقدس، ليخلو الجو بعدها للأحبار والرهبان.

هذا هو السبب الأول..

أما الثاني فتاريخي يرجع إلى سلوك الكنيسة مع رجال العلم الذين تبنوا نظريات علمية تتناقض مع ما تبنته الكنيسة من معارف:

لقد ذكر لي بكل ألم ما حصل للمجتمع المسيحي بعد تسلط رجال الكنيسة عليه، وكان من أعظم أخطائهم ما دسوه في كتبهم من معلومات بشرية ومسلمات ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني.

ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس، وذكره شراح الكتاب المقدس ومفسريه من معلومات، وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية(Christian  Topography) وعضوا عليها بالنواجذ، وكفروا كل من لم يدن بها([5]).

لقد ذكر لي بكل ألم ما فعل رجال الدين عندما انفجر بركان العقلية في أوربا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات العلمية التي اشتملت عليها هذه الكتب، وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم، فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي.

لقد قدر المؤرخون من عاقبت هذه المحاكم بهذه الأسباب وغيرها، فبلغ عددهم ثلثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء، كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو، نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً، وذلك ما حصل ([6]).

كان هذان السببان هما الأصلان اللذان اعتمدت عليهما العقيدة الإلحادية التي لجأ إليها صاحبي الفلكي.. لجأ إليها مكرها لا مختارا.

ولكني مع ذلك كنت أشعر أنه ـ في قرارة نفسه ـ يؤمن بالله، بل يحن للتعرف عليه والاتصال به.. ولولا اصطدامه بما في الكتاب المقدس، وبما مارسته الكنيسة لكان من أول المسارعين له، المؤمنين به.

ولادة السماء

بعد انتهاء المحاضرات أرسلت إلى علي مع صديقه حذيفة بأنا سنسير إلى مرصد فلكي موجود على جبل من جبال تلك المدينة، وأخبرته عن حال صديقي النفسية وموقفه من الدين، والتي ذكرتها لك، ونبهته إلى ما شرطته عليه.

وفي ذلك المساء امتطيت مع أصدقائي الخبراء سيارة خاصة حملتنا إلى ذلك المرصد، وكنا نقصد منه أن نستفيد من معلومات صديقنا الفلكي.

دخلنا قاعة المرصد المجهزة بأحدث الأجهزة.. كان هناك خلق كثير في القاعة، وفي المرصد جميعا، لكني لم أر من بينهم عليا، ولا حذيفة.. حتى خاب ظني في حضورهما.

لست أدري لماذا شعرت بأسف على عدم حضورهما..

لكني مع ذلك حاولت أن أستفيد من خبرة صديقي الفلكي، فرحت أسأله عن تلك الأرقام التي ذكرها، فقال: لقد كنت أشرح نظرية هي من أحدث النظريات العلمية..هي نظرية الانفجار العظيم.. أو (Big Bang} ([7]

قلت: وما الانفجار العظيم؟.. ما(Big Bang)؟

قال: الانفجار العظيم.. أو الضربة الكبرى.. أو (Big bang) هي التعبير المعاصر عن حادثة بداية الكون.

قلت: ما معنى ذلك؟

قال: سأبدأ لك من الأول.. 

لقد كانت البشرية منذ أطوارها الأولى تتساءل عن بداية الكون، وعن كيفية حصول ذلك.. وكيف كان شكله حين بدأ؟ ومتى بدأ؟ وإلى أين يسير؟

هذه الأسئلة وغيرها طرحها الإنسان منذ القديم، ولكنه أجاب عنها إجابات خاطئة كثيرة.. بل لم تكن هناك إجابة واحدة صحيحة، ما عدا الإجابة التي جاء بها العلم الحديث بأجهزته المتطورة.. وذلك منذ بداية القرن العشرين.

فمنذ نصف قرن تقريباً بدأ العلماء يرصدون الأمواج الكهرطيسية القادمة إلى الأرض، وقاموا بتحليل هذه الأمواج، وتبين أنها تعود لآلاف الملايين من السنين.

ومعظم العلماء الذين درسوا هذه الظاهرة أجمعوا على أن هذا النوع من الأشعة ناتج عن بقايا انفجار عظيم.. كان ذلك الانفجار هو بداية نشوء الكون وتوسُّعه.. لقد اكتشفوا أن الكون كله قد بدأ من نقطة واحدة.

قلت: وكيف عرفوا ذلك.. هل هو مجرد استنتاج منطقي؟

قال: أولا.. هذا شيء منطقي في الأصل، فبما أن الكون اليوم يتوسع باستمرار، فلا بد أن حجمه كان أصغر حتى نعود لنقطة البداية.. ومن هنا برزت للوجود نظرية الانفجار العظيم التي تفسِّر نشوء الكون من كتلة ذات وزن عظيم جداً، انفجرت وشكلت هذه المجرات، ولا يزال الانفجار مستمراً حتى يومنا هذا.

قلت: ولكن لم لا نقول بأن الكون وجد هكذا، ثم أخذ في التوسع.. أليس هذا احتمالا ممكنا؟

قال: ما ذكرته لك هو الحقيقة العلمية التي أجمع عليها جميع الفلكيين بناء على أدلة كثيرة لا يمكن حصرها.. سأذكر لك منها ما قد يقنعك.

حاولت أن أجمع كل تركيزي في صديقي الفلكي الذي راح يذكر الأدلة على حصول الانفجار العظيم في بداية تشكل الكون.

قال: من أهم الأدلة على صحة نظرية الضربة الكونية الكبرى(Big bang) لنشأة الكون اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون المدرك.

فقد اكتشفت هذه الأشعة على هيئة إشارات راديوية منتظمة وسوية الخواص‏، قادمة من كافة الاتجاهات في السماء‏، وفي كل الأوقات دون أدني توقف أو تغير‏.

ولم يتمكن العلماء من تفسير تلك الإشارات الراديوية‏، المنتظمة‏، السوية الخواص إلا بأنها بقية للإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار الكوني العظيم‏، وقد قدرت درجة حرارة تلك البقية الإشعاعية بحوالي ثلاث درجات مطلقة.

وانطلاقا من تلك الملاحظات الفلكية والنظرية كان في اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون دعم عظيم لنظرية الانفجار الكوني‏، وقضاء مبرم على نظرية ثبات الكون واستقراره.

التفت إلي الفلكي، وقال: هل أقنعك هذا الدليل؟

قلت: هو دليل.. ولكن هذه مجرد ملاحظات فلكية ونظرية.. أريد دليلا ملموسا.

ابتسم الفلكي، وقال: أنت مثلي.. لا يقنعك إلا الملموس..

نعم هناك ما يمكن أن يسمى ملموسا.. في سنة ‏1989‏ م أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا(NASA)‏ مركبة فضائية لدراسة الخلفية الإشعاعية للكون من ارتفاع يبلغ ستمائة كيلو متر حول الأرض‏، وقد قاست تلك المركبة درجة الخلفية الإشعاعية للكون وقدرتها بأقل قليلا من ثلاث درجات مطلقة‏.

وقد أثبتت هذه الدراسة تجانس مادة الكون وتساويها التام في الخواص قبل الانفجار وبعده، أي من اللحظة الأولى لعملية الانفجار الكوني العظيم‏، وانتشار الإشعاع في كل من المكان والزمان مع احتمال وجود أماكن تركزت فيها المادة الخفية التي تعرف باسم المادة الداكنة بعد ذلك.

ومثل ذلك قامت تلك المركبة الفضائية بتصوير بقايا الدخان الكوني الناتج عن عملية الانفجار العظيم على أطراف الجزء المدرك من الكون ‏.. أي على بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية.. وأثبتت هذه الصور أنها حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل خلق السماوات والأرض.

قلت: هذه أدلة قوية جدا..

قال: سأزيدك أدلة أخرى تنفي عنك كل شبهة.. هناك ما يسمى عملية الاندماج النووي وتأصل العناصر.. وهذه العملية زادت من تأكيد هذه الحقيقة العلمية.

قلت: ما ذا تعني هذه العملية؟

قال: ‏بهذه العملية يحدث ما نراه من إشعاعات في الشمس والنجوم..

قلت: ماذا تعني بالضبط، وما وجه دلالتها؟

قال: تتم عملية الاندماج النووي داخل الشمس، داخل جميع نجوم السماء بين نوى ذرات الإيدروجين لتكوين نوى ذرات أثقل بالتدريج وتنطلق الطاقة،‏ وقد أدت هذه الملاحظة إلى الاستنتاج الصحيح بتأصيل العناصر.

قلت: ما معنى هذا أيضا؟

قال: تأصيل العناصر يعني أن جميع العناصر المعروفة لنا، والتي يبلغ عددها أكثر من مائة عنصر، قد تخلقت كلها في الأصل من غاز الإيدروجين بعملية الاندماج النووي‏.

 فإذا تحول لب النجم المستعر إلى حديد انفجر النجم وتناثرت أشلاؤه في صفحة السماء حيث يمكن لنوى الحديد تلقي اللبنات الأساسية للمادة من صفحة السماء فتتخلق العناصر الأعلى في وزنها الذري من الحديد.

وقد جمعت هذه الملاحظات الدقيقة من جزيئات الجسيمات الأولية للمادة، وعلم الكون،‏ وأيدت نظرية الانفجار العظيم التي بدأت بتخلق المادة وأضدادها مع اتساع الكون‏ وتخلق كل من المكان والزمان‏‏، ثم تخلق نوى كل من الإيدروجين والهيليوم والليثيوم،‏ ثم تخلق بقية العناصر المعروفة لنا.

ولذا يعتقد الفلكيون في أن تخلق تلك العناصر قد تم على مرحلتين:‏ نتج في المرحلة الأولى منهما العناصر الخفيفة‏.. وفي المرحلة الثانية العناصر الثقيلة.

قلت: وما دلالة هذا على الانفجار العظيم؟

قال: لقد رأى العلماء في التدرج في تخليق العناصر المختلفة بعملية الاندماج النووي ـ في داخل النجوم أو أثناء انفجارها على هيئة فوق المستعرات ـ صورة مبسطة لعملية الخلق الأول.

وهذا يدعم نظرية الانفجار العظيم، ويعين الإنسان على فهم آلياتها.

قلت: وهل تأكدوا حقيقة من هذه النظريات؟

قال: أجل.. فالحسابات النظرية لتخليق العناصر بعملية الاندماج النووي تدعمها التجارب المختبرية على معدلات تفاعل الجسيمات الأولية للمادة مع نوى بعض العناصر.

التفت الفلكي إلي، وقال: أرى أن كل هذه الأدلة تكفي لإقناعك بنظرية الانفجار الكوني العظيم.. أم تريد غيرها من الأدلة..

قلت: تكفيني هذه الأدلة.

الفلكي: إن هذه الأدلة هي التي جعلت هذه النظرية أكثر النظريات المفسرة لنشأة الكون قبولاً في الأوساط العلمية اليوم.

الانفجار العظيم:

ما وصل من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعنا صوت رقيقا يقرأ قوله تعالى:{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } (الانبياء:104)

انتفض صاحبي الفلكي من مكانه، وقال: من يقرأ هذا؟.. وما الذي يقرأ؟

التفت، فرأيت عليا واقفا قريبا منا، وأنه هو الذي يقرأ الآية.. أسرع إليه صاحبي، وقال: أعد ما كنت تقرأ.

أعاد علي قراءة الآية، فقال صاحبي: أليس هذا قرآنكم الذي تقرؤونه؟

علي: أجل.. وقد كنت أتأمل في هذه الآية ومعانيها العميقة.

الفلكي: وما الذي فهمته منها.. وأرجو أن لا تسرد علي ما سرده علينا صباحا إخوانك من المسلمين من النصوص الطويلة عن مفسريكم.

علي: ليس بالضرورة نرجع إلى مفسرينا.. نرجع فقط فيما يلتبس علينا من الألفاظ أو المعاني.. لقد أمرنا الله بتدبر القرآن، فقال:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } (النساء:82)

بل اعتبر من لم يتدبر القرآن مقفل القلب، فقال:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } (محمد:24)

الفلكي: فما الذي أداك إليه تفكيرك؟

علي: هذه آية تحمل ألفاظا كثيرة.. وكل لفظ له تدبره الخاص، فما الذي تريده منها؟

الفلكي: ما تفهم من عموم الآية.

علي: إن الآية تتحدث عن نهاية الكون، وأنه سيطوى كما يطوى السجل.

الفلكي: ليس عن هذا أسألك.

علي: فعم تسألني؟

الفلكي: عما ورد في الآية.. عن قول قول القرآن:{ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ }

علي: لقد جمع الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين ذكره لنهاية الكون، وبدايته، فبدايته فتح للسجل، ونهايته إغلاق له.

الفلكي: أتعني ما تقول؟

علي: ما الذي تقصد؟

الفلكي: هل تقصد أن الكون كان مغلقا، ثم فتح؟

علي: أجل.. وقد بين القرآن ذلك بصراحة في موضع آخر..

قال الفلكي متعجبا: في القرآن نص آخر ينص على هذا أيضا؟

علي: أجل..

فتح المصحف، وراح يقرأ:{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } (الانبياء:30)

الفلكي: أرني الآية.

علي: لقد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية (أي: كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصقا متراكما بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه)

الفلكي: أنا أعرف اللغة العربية، ولا أحتاج أن تفسرها لي.. إن هذه الآية آية عجيبة..

التفت إلي، وقال: إنها لم تذكر فقط ما فصلته لك من الانفجار العظيم.. بل أضافت إليه اختيار اللغة المناسبة، والتركيب المناسب..

إن كل كلمة في الآية التي قرأها هذا الرجل تحمل معاني عميقة لها دلالتها العلمية.

العلم الحديث يسمى بداية الكون (كتلة).. وهذه تسمية غير صحيحة علمياً، فالكتلة لا تشير إلى أي نوع من أنواع البناء أو الحركة.

وهم يعدون أن حدوث مثل هذه الحادثة كان أمراً واقعاً، إذ كانت المادة الموجودة حالياً في الكون مركزة بكثافة عالية جداً في هيئة بيضة كونية تتركز فيها كتلة الكون.

بينما هذه الآية تعطينا مصطلحاً دقيقاً، وهو (الرتق).. وفي هذه الكلمة إشارة إلى البنية النسيجية للكون.. وفيها إشارة إلى وجود النظام منذ بداية الخلق، وليس كما نذكر نحن بأن الكتلة الابتدائية التي خُلِق منها الكون كانت تعجّ بالفوضى.

وفي كلمة (فَفَتَقْنَاهُمَا) يتجلّى كل النظام في عملية فتق الكون، وتشكيل هذه المجرات التي نراها.. العلم يسمي هذه العملية بالانفجار، وكلمة (انفجار) لا تفيد إلا الفوضى، فلا يمكن للانفجار أن يكون منظماً أبداً.. بينما الكلمات التي يستخدمها القرآن كلمات واقعية: (الرَّتق) و(الفتق} ([8])، فالنسيج الكوني كان رتقاً ففتق.

بالإضافة إلى هذا، فإن كلمة (فَفَتَقْنَاهُمَا) تعبر عن الطاقة والقدرة العظيمة التي بدأ بها خلق الكون..

التفت إلى علي، وقال: إن الكلمات التي يستخدمها العلماء لتعجز فعلاً عن وصف حقيقة الأمر..

سكت قليلا، ثم قال لعلي: أعد علي الآية.

أعادها علي عليه، فراح يكرر قوله تعالى:{  أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا }، ثم قال: لكأني بهذه الآية تشير إلى أن هذا سيعرف.. بل سترى دلائله.. وأن الذي يكتشفه لا علاقة لهم بالقرآن.. إنها تسميهم { الَّذِينَ كَفَرُوا }.. وهي تعبر عن ذلك بالرؤية.. صدقت الآية، فقد رأينا ذلك فعلا.

ارتسمت سحابة ألم على وجه صاحبي الفلكي، وكأنه يتذكر ذلك اليوم الذي قرر فيه أن يتدين، ففتح الكتاب المقدس على سفر التكوين، فوجد تلك الأخطاء، فأغلق الكتاب، ثم لم يعد إليه.

التفت إلي علي، وقال: لم ذكر القرآن هذه الحقيقة العلمية؟

علي: لقد سبق هذه الآية التي تقرر هذه الحقائق قوله تعالى:{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) }(الأنبياء).. ثم جاءت هذه الآية.

الفلكي: فالآية ترد إذن على من يقولون بأن لله ولدا؟

علي: أجل.. فهي ترد على المسيحيين ومن يقول بقولهم.. وهي تخاطب في نفس الوقت المشركين الذي يعتقدون أن هناك آلهة مع الله.. وهي تخاطب في نفس الوقت الملحدين الذين ينكرون الإله.

الفلكي: هذا إعجاز آخر للآية.. إن توجيه مثل هذا الخطاب للملحدين إعجاز عظيم..

علي: كيف ذلك؟

الفلكي: لذلك قصة طويلة.. سأختصرها لك اختصارا([9]).

قبل قرن مضى كان البحث في بداية خلق الكون شيئا مهملاً لدى الفلكيين، والسبب في ذلك هو قبول أكثرهم لفكرة كون الكون موجودا منذ زمن لا نهائي.

وهذه الفلسفة عاشت في أشكال مختلفة خلال الأزمنة الرومانية، لكن في فترة الإمبراطورية الرومانية القريبة والعصور الوسطى صارت المادية تنحدر نتيجة تأثير الكنيسة الكاثوليكية والفلسفة المسيحية علي يد رينايسانس، ثم بدأت تجد قبولاً واسعاً بين علماء أوروبا ومثقفيها، وكان سبب ذلك الاتساع هو الحب الشديد للفلسفة الإغريقية القديمة.

ثم ما لبث الفيلسوف (إيمانويل كانت) في عصر النهضة الأوربية أن أعاد مزاعم المادية ودافع عنها، وأعلن أن الكون موجود في كل الأزمان، وأن كل احتمالية (إن كانت موجودة) فسوف ينظر إليها على أنها ممكنة.

واستمر أتباع (كانت) في الدفاع عن فكرته في أن الكون لا نهائي ومتماشٍ مع النظرية المادية، ومع بداية القرن التاسع عشر صارت فكرة أزلية الكون وعدم وجود لحظة لبدايته مقبولة بشكل واسع، وتم نقل تلك الفكرة إلى القرن العشرين من خلال أعمال الماديين الجدليين من أمثال (كارل ماركس) و(فريدريك أنجلز)

علي: لم كل هذا الاهتمام بهذه الفكرة.. وما علاقتها بالمادية والإلحاد؟

الفلكي: هذه الفكرة عن الكون اللامتناهي تتلاءم تماماً مع الإلحاد.. وليس من الصعب معرفة السبب.. لأن فكرة أن للكون بداية تقتضي أنه مخلوق، وهذا يتطلب الإقرار بوجود خالق، لذلك كان من المريح جداً، ومن الأكثر سلامة بأن يدار العرض بطريقة خادعة، فتوضع أولاً فكرة أن (الكون موجود سرمدي) حتى ولو لم يكن هناك قاعدة علمية ولو كانت ضعيفة لتأكيد تلك الفكرة.

أعتنق (جورج بوليتزر) تلك الفكرة ودافع عنها في كتبة المنشورة في أوائل القرن العشرين، وكان النصير الغيور لكلا النظريتين الماركسية والمادية، وآمن بفكرة الكون اللامتناهي، وعارض بولتزر فكرة الخلق في كتابه (المبادئ الأساسية في الفلسفة)

كان بوليتزر يتصور أن العلم يقف إلى جانبه في رفضه لفكرة الخلق، ودفاعه عن فكرة الكون السرمدي، بيد أنه لم يمض زمن طويل حتى أثبت العلم الحقيقة التي افترضها بوليتزر بقوله:(.. وإذا كان الأمر كذلك فإنه ينبغي القبول بفكرة الخالق..) بمعنى أنه أثبت حقيقة أن للكون بداية.

قلت: كيف وصل العلم إلى ذلك.. ومتى؟

قال: كانت الأعوام التي تلت 1920 هامة في تطور علم الفلك الحديث، ففي عام 1922 كشف الفيزيائي الروسي ألكسندر فريدمان حسابات بين فيها أن تركيب الكون ليس ساكناً، حتى أن أصغر اندفاع فيه ربما كان كافياً ليسبب تمدد التركيب بأكمله أو لتقلصه، وذلك طبقاً لنظرية أينشتاين في النسبية.

وكان جورج لوميتر أول من أدرك أهمية الأعمال التي كان فريدمان يقوم بها وبناء على تلك الحسابات أعلن الفلكي البلجيكي لوميتر أن للكون بداية، وأنه في تمدد متواصل، وصرح أيضاً أن معدل الإشعاع يمكن استخدامه كمقياس عقب حدوث ذلك الشيء.

لم تحض التأملات النظرية لهذين العالمين في تلك الفترة باهتمام يذكر، غير أن الأدلة التي نتجت عن الملاحظات العلمية في عام 1929كان لها وقع الصاعقة في دنيا العلم، ففي ذلك العام توصل الفكي الأمريكي الذي يعمل في مرصد جبل ويلسون في كاليفورنيا إلى واحد من أعظم الاكتشافات في تاريخ علم الفلك.

فمن رصده لعدد من النجوم من خلال تلسكوبه العملاق اكتشف أن ضوءها كان منحرفاً نحو الطرف الأحمر من الطيف، وبشكل حاسم، وأن ذلك الانحراف كان مرتبطاً مباشرة مع بعد النجوم عن الأرض، وهذا الاكتشاف هز قواعد المفهوم الذي كان شائعاً للكون ([10])..

وقد أظهرت أرصاد هابل وفق هذا المبدأ أن الأجرام السماوية تتحرك بعيداً عنا، وبعد فترة وجيزة توصل هابل إلى اكتشاف آخر مهم، وهو أن النجوم لم تكن تتباعد عن الأرض، بل كانت تتباعد عن بعضها البعض أيضاً، والاستنتاج الوحيد لتلك الظاهرة هو أن كل شيء في الكون يتحرك بعيداً عن كل شيء فيه، وبالتالي فالكون يتمدد بانتظام وتؤدة.

وهكذا تحققت استنتاجات فريدمان ولوميتر..

لقد قاد اكتشاف هابل لحقيقة الكون المتمدد لانبثاق نموذج آخر كان ضرورياً لكي لا يكون هناك عبث، ولكي يجعل نتائج معادلاته صحيحة، فإذا كان الكون يتضخم ويكبر مع مرور الوقت فهذا يعني أن العودة إلى الخلف تقودنا نحو كون أصغر، ثم إذا عدنا إلى الخلف أكثر لمدى بعيد، فإن كل شيء سوف ينكمش ويتقارب نحو نقطة واحدة، والنتيجة الممكن التوصل إليها من ذلك هو أنه في وقت ما كانت كل مادة الكون مضغوطة في كتلة نقطية واحدة لها حجم صفر بسبب قوة النقطية ذات الحجم الصفر، وهذا الانفجار هو الانفجار الكبير.

توجد حقيقة أخرى مهمة تكشفها نظرية الانفجار الكبير، فلكي نقول أن شيئاً ما له حجم صفر فهذا يكافئ القول بأنه لم يكن هناك شيء، وأن كل الكون خلق من ذلك اللاشيء، والأكثر من ذلك أن للكون بداية وهذا عكس ما ذهبت إليه المادية من أن الكون لا أول له ولا آخر.

علي: فقد قضت هذه النظرية إذن على النظريات التي كان يتبناها الملحدون؟

الفلكي: أجل.. لقد شكلت الأدلة على صحة نظرية (الانفتاق الكوني) ضربة قاصمة للإلحاد الذي يزعم أزلية مادة الكون.

فهذا (ستيفن هوكنج) العالم الفيزيائي الشهير، والذي يدعى نيوتن العصر الحديث، يقول:(لم تكن المادة هي وحدها التي خلقت أثناء الانفجار العظيم، بل إن الزمان والمكان أيضاً خلقا.. إن للمكان بداية، إذن: للزمان بداية} ([11]

بعد ظهور نظرية الانفتاق الكوني ضاق الملحدون بها ذرعاً([12]).. فحتى آينشتاين قال:(إن مسألة كون متمدد تقلقني) وفي رسالة بعَثها إلى صديقه (دي ستر) قال له:(فكرة الكون الذي ينفجر تزعجني، لأن لازمها أن يكون للكون بداية} ([13]

ويقول (وتكر):(ليس من أساس لافتراض أن المادة والطاقة كانت موجودة ثم أثيرت فجأة.. بل الأبسط من هذا أن نفترض الخلق من العدم، والإرادة الإلهية هي التي تفعل ذلك)

ويقول جون تيلر:(تقتضي نظرية الانفجار العظيم، أنه في وقت ما من الزمان الماضي، خلق الكون فجأة، ثم إنه تمدد بعد ذلك بطريقة يمكن استكشافها بالتفصيل، لكن قبل ذلك الوقت لم يكن هنالك وقت ولم يكن هنالك زمان. من الوسائل التي يمكن أن نتفادى بها المشكلات العظيمة التي يأتي بها هذا الانفجار العظيم، أن ندَّعي أنه لم يحدث قط} ([14]

علي: فهل سكت الملحدون بعدها؟

الفلكي: مع ما اكتسبته نظرية الانفجار الكبير من قبول في الأوساط العلمية بسبب الدليل الواضح القاطع لها إلا أن الفلكيين الذين تشيعوا لفكرة الكون اللامتناهي صاروا يحملون على حقيقة الانفجار الكبير، ويناضلون ضدها ليدعموا العقيدة الأساسية لمذاهبهم الفكرية.

وقد أوضح الفلكي الإنكليزي آرثر أدينغتون سبب ذلك، فقال:(فلسفياً: إن فكرة البداية المفاجئة (المكتشفة) في النظام الحالي للطبيعة هي بغيضة لي)

علي: فهل هناك معارضات علمية تستند إلى أدلة علمية؟

الفلكي: حصل ذلك.. فقد عارض نظرية الانفجار الكبير فريد هويل.. وذلك في منتصف القرن العشرين.. فقد أتى هذا الفلكي ينموذج جديد، دعاه بالحالة الثابتة.

وهذه النظرية امتداد لحقيقة تمدد الكون، ومحاولة لتفسيرها بطريقة مخالفة تنسجم مع الفكر المادي..

لقد افترض هويل وفق هذا النموذج أن الكون كان لامتناهيا في البعد والزمن، وأثناء التمدد تنبثق فيه مادة جديدة باستمرار من تلقاء نفسها بكمية مضبوطة تجعل الكون في حالة ثابتة.

علي: فهل لقيت هذه النظرية قبولا لدى العلماء؟

الفلكي: من الواضح أن هدف هذه النظرية لم يكن علميا.. فلم يكن نتيجة بحوث علمية دقيقة، وإنما كانت مجرد دعم لعقيدة وجود مادة سرمدية في زمن لامتناه، والتي هي أساس فلسفة الماديين.

ونظرية تنبني على هذا الأساس الهش لا يمكن أن يستمر لها وجود.. ذلك لأن الباحث العلمي ينطلق من المخبر، لا من الفلسفة.

علي:  فكيف انتصرت نظرية الانفجار الكبير على غيرها؟

الفلكي: تطول تفاصيل ذلك.. وقد كنا نتحدث فيه عند ذكرنا لأدلة الانفجار الكبير.

علي: فهل اعترف القائلون بالحالة الثابتة بنظرية الانفجار الكبير بتلك الأدلة؟

الفلكي: لقد خلف (دنيس سياما} (فريد هويل) صاحب نظرية الحالة الثابتة، وظل مدافعا عنها أمدا طويلاً.. لكنه عندما واجه دليل الانفجار الكبير وصف الخطأ الذي وقع فيه صاحبه بقوله:(في البداية كان لي موقف مع هويل لكن عندما بدأ الدليل بالتعاظم كان يجب عليّ أن أقبل بأن المباراة انتهت، وأن نظرية الحالة الثابتة يجب أن تلغي)

علي: فقد كانت هذه النظرية إذن ضربة قاصمة على الإلحاد؟

الفلكي: بانتصار الانفجار الكبير، فإن دعوى الكون اللامتناهي الذي يشكل أساس العقيدة المادية أصبحت في مهب الريح.

لكن أصحاب الفكر المادي لم يسلموا.. لقد أثاروا سؤالين اثنين، هما: ماذا كان يوجد قبل الانفجار الكبير؟.. وما هي القوة التي سببت الانفجار الأعظم الذي وقع في الكون ولم تكن موجودة قبلاً؟

هذه التساؤلات طبعا ستؤدي إلى قطع دابر الإلحاد لا محالة.. ولكنهم رفضوا أن يسلموا.. لقد علق الفيلسوف الملحد (أنطوني فلو) على هذا بقوله:(الاعتراض جيد للروح، وهذا قول مشهور، لذلك سأبدأ بالاعتراف بأنه على الملحد مهما كانت طبقته أن يرتبك من هذا التوافق العلمي الكوني المعاصر، لأنه على ما يبدو أن علماء الكون اليوم يقدمون برهاناً علمياً لما ناضل من أجله (السير توماس) ولم يستطع البرهان عليه فلسفياً، وبالتحديد الاسمى هو أن للكون بداية، وطالماً أن الفكرية مريحة في عدم وجود بداية أو نهاية للكون.

فيبقى هذا الأمر بشكله الوحشي أسهل للمناقشة، ومهما كانت مظاهر الأساسية فيجب قبولها على أنها قمة التفسيرات، ومع اعتقادي بأن فكرة أن للكون بداية ستبقى صحيحة مع ذلك فهي ليست سهلة ولا مريحة، ونحن بالتأكيد سنحافظ على موقفنا في مواجهة قصة الانفجار الكبير)

علي: فهل ظهرت نظريات أخرى إلحادية تحاول تفسير الانفجار العظيم بما يتناسب مع إلحادها؟

الفلكي: أجل.. ظهرت نماذج تحاول أن تفسر ذلك ماديا.. منها نموذج (الكون ذو النموذج الكوانتي} ([15]).. ولكنها جميعا لم تقف أمام الحقائق التي يبشر بها الانفجار العظيم.. حقيقة احتياج الكون إلى مكون.

توسع السماء:

انتهزت فرصة ساد فيها بعض الصمت، وقلت لصديقي الفلكي: أرى أن كل هذه الحقائق التي ذكرتها تعتمد على ما سميته تمدد الكون وتوسعه([16]).. فهل ترى أن هذا الكون الذي نراه ثابتا يتمدد، ويتسع؟

قال: أجل.. فقد أعلن عالم الفلك المشهور (هابل) عام 1929 بأن المجرات تبتعد بسرعة عنا في جميع الاتجاهات، وأنها تخضع لعلاقة طردية مباشرة بين المسافة والزحزحة الطيفية نحو الأحمر، واستنتج وفقاً لظاهرة دوبلر أن الكون يتمدد.

بل قد تمكن هابل في عام 1930من إيجاد هذه العلاقة وسميت باسمه وهي تنص بأن (سرعة ابتعاد المجرات الخارجية تتناسب طردياً مع بعدها عنا)

وقانون هابل يدل على أن الأجرام السماوية في الكون تبتعد بسرعة عنا في جميع الاتجاهات، أي أن الكون في حالة تمدد أينما كان موقعنا في الكون.

قلت: ألم أطلب منك سابقا أن تكف عن هذا الأسلوب الجاف.. أنت لا تتحدث مع زميل لك في العلم أو المهنة.. أنت تتحدث مع رجل دين ثقافته بسيطة من هذه الناحية.. فلذلك بسط لعقلي حتى يعي ما تقول.

قال: أعتذر لك.. إن انشغالي المفرط بتخصصي يجعلني لا أتحدث معك فقط بهذا الأسلوب.. بل إني أتحدث مع أهلي وأولادي به.. وكأني أتصور أن كل الناس يجب أن يتعلموا ما تعلمته، أويعلموا ما علمته.

قلت: فبسط لي كما تبسط لأصغر أولادك.

قال: لا بأس.. سأحاول أن أفعل ذلك.

كانت البشرية منذ القديم.. وحتى بداية القرن العشرين تعتقد أن هذا الكون ثابت لا يتغيَّر، وُجد هكذا وسيستمر إلى مالا نهاية على ما هو عليه.. فالشمس تطلع كل يوم من الشرق وتغيب من الغرب، والقمر أيضاً له منازل محددة طيلة الشهر، وفصول السنة من شتاء وصيف وربيع وخريف تتعاقب باستمرار، والنجوم كما هي.

لقد كان الكون في مخيلاتهم يشبه قصرا جميلا اكتمل بناؤه، ولم يبق إلا التمتع به والاستفادة من من مرافقه.

لم يكن هناك من كان يتخيَّل بأن حجم الكون يكبر ويتوسع باستمرار؟

قلت: فبأي منطق عقلي عرف ذلك.. مع أن الحس يرى سكونه وثباته؟

قال: بالطبع.. لا يمكن أن يعرف ذلك عن طريق المنطق العقلي.

قلت: فهل عرف ذلك عن طريق الكشف الوجداني؟

ضحك، وقال: ذلك أبعد من أن يعرف شيئا.. وإذا عرف شيئا، فهو لن يعرف غير الخرافة.

قلت: فكيف عرفتم ـ معشر الفلكيين ـ هذه الحقيقة.. ثم كيف اتفقتم عليها؟

قال: عرفناها بالحس.. أليست مدارك الحس مدارك معتبرة لدى العقول؟

قلت: أجل.. ولكن البصر قاصر على رؤية مثل هذه الأمور.. إنه لا يكاد يرى من حوله.. فكيف يدرك الكون.. ثم كيف يدرك توسع الكون؟

قال: لقد من على البشرية بفتوح تقنية خدمت البصر والسمع وجميع مدارك الإنسان، فصارت ترى ما لم تكن ترى، وتسمع ما لم تكن تسمع.

في النصف الأول من القرن العشرين تم اختراع أجهزة دقيقة قادرة على تحليل الضوء القادم من النجوم البعيدة، وكانت المفاجأة التي أذهلت العالم هي انحراف هذا الضوء نحو اللون الأحمر.

قلت: وما في ذلك؟

قال: سأبسط لك هذه النظرية التي تعتمد عليها هذه الحقيقة العلمية:

أنت تعلم أن الضوء يتألف من سبعة ألوان رئيسة.

قلت: كيف أعلم ذلك؟

قال: عندما يخترق ضوء الشمس ـ وهي نجم كما تعلم ـ زجاجة مثلثة تسمى الموشور، يتحلل إلى سبعة ألوان مرئية تبدأ بالأحمر وتنتهي بالبنفجسي، فاللون الأحمر هو ضوء موجته طويلة، أما اللون البنفسجي فهو ضوء موجته قصيرة.

وفي عالم الضوء كلما كان طول الموجة أقصر كلما كانت الأشعة أكثر خطراً، ولذلك نسمع بالأشعة فوق البنفسجية وهي أشعة غير مرئية، وخطيرة.. ولكننا نحتمي منها بالغلاف الجوي الذي يمتص كثيرا من هذه الأشعة القادمة من الشمس.

أما الأشعة تحت الحمراء فهي أشعة غير مرئية أيضاً، وقليلة الخطر لأن موجتها طويلة.

قلت: أعلم كل هذا.. ولكن ما علاقته بتمدد الكون؟

قال: عندما نحلل ضوء أي نجم كان يجب في الأصل أن يبدو كضوء الشمس، أي سبعة ألوان.

قلت: فهل وجدتم غير ذلك؟

قال: أجل لقد رأينا أن الطيف الضوئي للمجرات ظهر مختلفاً، أي أن عرض اللون الأحمر كان أكبر مما هو عليه، وهذه الظاهرة تتكرر مع معظم المجرات.

قلت: فما يعني ذلك؟

قال: هذا يعني أن الطيف الضوئي للمجرة لا ينحرف إلا في حالة واحدة وهي الحركة.

قلت: فكيف عرفتم اتجاه الحركة؟ ألا يمكن أن يكون الكون ينقبض؟

قال: إذا نظرنا إلى نجم عبر التلسكوب المكبِّر، وقمنا بتحليل الطيف الضوئي الصادر عنه، فإنا نجد ثلاثة احتمالات:

أما الأول، فهو أنه إذا كانت المسافة التي تفصلنا عن نجم ما ثابتة، فإنا نرى ألوان الطيف الضوئي القادم منه كما هي.

وأما الثاني، فهو أنه إذا كان النجم يقترب منا فإن الطيف الضوئي في هذه الحالة يعاني انحرافاً نحو اللون الأزرق باتجاه الأمواج القصيرة للضوء، وكأن هذه الأمواج تنضغط.

وأما الثالث، فهو أنه إذا كان النجم يبتعد عنا، فإن طيفه الضوئي ينحرف نحو اللون الأحمر باتجاه الأمواج الطويلة للضوء، وكأن هذه الأمواج تتمدد.

قلت: فهمت الآن.. لقد رأيتم إذن أن ضوء المجرات والنجوم ينحرف نحو اللون الأحمر.. واستدللتم بذلك على ابتعادها عنا.

قال: تماماً مثل صوت صفارة القطار أثناء حركته بعيداً عن الرصد، فإن ذلك الصوت يكون خشناً غليظاً، أما إذا كان القطار مقترباً، فإن الصوت المسموع يكون حاداً ورفيعاً.

قلت: أهذا ما رأيتموه إذن؟

قال: أجل.. لقد رأى علماء الفلك أن معظم المجرات البعيدة عنا تهرب مبتعدة بسرعات كبيرة قد تبلغ آلاف الكيلومترات في الثانية الواحدة.. لذلك نرى ضوءها منحرفاً نحو اللون الأحمر.

قلت: ألا يمكن أن يكون ذلك بسبب خداع بصري؟

ابتسم، وقال: وهل تتصور أننا نرى كل ذلك بأبصارنا.. إننا نستعمل أجهزة قياس وتحليل وبرامج كمبيوتر غاية في الدقة.. ولذلك تم تأكيد هذه الحقيقة العلمية، حتى إننا نجد اليوم أي بحث كوني ينطلق من هذه الحقيقة اليقينية.

ما وصل من حديثه إلى هذا الموضع حتى راح علي يقرأ بصوته الخاشع الجميل قوله تعالى:{ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } (الذريات:47} ([17]

انتفض صاحبي الفلكي من مكانه، وقال لعلي: أهذا أيضا من القرآن؟

علي: أجل..

الفلكي: فما فهمتم ـ معشر المسلمين ـ من هذه الآية؟

علي: هذه آية تحمل ألفاظا كثيرة.. وكل لفظ له تدبره الخاص، فما الذي تريده منها؟

الفلكي: اذكر لي ما وعيته من قولك:{ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } (الذريات:47)

علي: كلمة (لموسعون) واضحة، وهي من (وسَّعه توسيعاً) ضدّ ضيَّقه، وهذا يدل على توسع الكون وتمدده باستمرار.. لأن الجملة الإسمية تفيد الاستمرار.

الفلكي: أفي القرآن هذه الآية؟

علي: أجل.. وها هو المصحف.. خذ، واقرأها فيه.

الفلكي: في أي سنة طبع هذا المصحف؟

كان علي يحمل مخطوطا قديما، فابتسم، وقال: ما بك يا صاحبي.. أنت تراني أحمل مصحفا مخطوطا، لا مصحفا مطبوعا.

هذا مصحف توراثته عائلتنا كابرا عن كابرا.. هذا مصحف عمره عشرة قرون.. حمله أجدادي واحدا واحدا.

الفلكي: ألم تضف هذه الآية فيه؟

علي: لو أضيف حرف واحدا في المصحف لما بقيت، ولما بقي واحد من أجدادي.. لاشك أنك لا تعرف حرص المسملين على قرآنهم.

الفلكي: أتعلم.. لقد كنت أنتقد المصطلح الذي اختاره زملائي لهذه الظاهرة، لقد سموا هذه الظاهرة (تمدد الكون) مع أن الكون في الحقيقة لا يتمدد.

قلت: ما تقول يا رجل.. لقد ظللت تقنعني بذلك حتى اقتنعت.

الفلكي: يستخدم العلماء اليوم مصطلح (اتساع الكون) أي أنهم يقررون حقيقة علمية وهي أن الكون يتوسع Universe Expanding، ولكن الحقيقة عكس ذلك.

فالكون لا يتوسع بأكمله، بل الذي يتوسع هو المكان بين المجرات، فالمجرات عندما تتباعد بسرعات مذهلة لا يتوسع حجمها، ولا تكبر النجوم فيها، بل هذه المجرات تسير موسِّعة المكان من حولها([18]).

لهذا قلت لزملائي: لابد أن نستخدم مصطلحاً جديداً بدل (اتساع الكون)، هو (اتساع المكان)، ولكن هذا المصطلح أيضا غير دقيق، ذلك لأنه لا يوجد فضاء كما كان يُظن في الماضي! بل إن كل جزء من أجزاء الكون مملوء بالمادة والطاقة، وهذا ما كشفه العلماء حديثاً وقرروه بعد اكتشافهم المادة المظلمة منذ سنوات قليلة.

التفت إلى علي، وقال: لقد ظللت أحتار في المصطلح الذي يعبر عن هذه الظاهرة حتى نطقت به الآن.. إن الذي يتمدد هو السماء.. لذلك، فالمصطلح المعبر عن الظاهرة هو (اتساع السماء)، فالسماء تعني المكان بين النجوم والمجرات، وهي تحيط بها من كل جانب، وهذا المكان الذي سمَّاه القرآن (السماء) ليس فارغاً بل هو مملوء بالمادة والطاقة والمادة المظلمة والطاقة المظلمة.

وهذا المكان الذي يعبر عنه القرآن بمصطلح (السماء) هو الذي يتمدد ويتّسع باستمرار.

قال ذلك، ثم تساءل بينه وبين نفسه: لكن من أخبر محمدا بهذه الحقيقة العظيمة؟.. وكيف عبر عنها بهذه الدقة؟

لكنه عاد، فقال: أحيانا تأتي المصادفات بالعجائب..

تركه علي يقول ما يقول دون أن يناقشه، بل راح يقول له: لاشك أنك عالم فلكي.

الفلكي: أجل.. وقد استدعيت لحضور مؤتمر علمي أقامته بلادكم.

علي: مرحبا بك في بلدنا.. ويشرفني أن أجلس معك لأسألك عن بعض الأمور.. فإن لي اهتماما بهذا العلم الجليل دعاني إليه حرصي على فهم كتاب ربي.

الفلكي: تفضل.. اجلس.. لاشك أنك متدين.

علي: متدين تدينا عاقلا.. عقلي هو الذي هداني إلى الدين.

قال الفلكي بينه وبين نفسه: عجبا.. كيف يهدي العقل إلى الدين.. العقل يفر من الدين؟

لم يجبه علي، بل قال له: دعنا من هذه الأحاديث.. وحدثني عن اختصاصك..

الفلكي: ما الذي تريد منه؟

علي: لقد ذكرت أن الكون يتوسع.. فهل سيتوسع الكون إلى ما لا نهاية؟

الفلكي: تؤكد الأبحاث الجديدة في علم الفلك أن الكون يتوسع بسرعة أكبر مما نتوقع، وهذا التوسع سيستمر إلى مرحلة لن يعود الكون قادراً على التوسع بعدها، لأن هذا التوسع يحتاج إلى طاقة محركة، وطاقة الكون محدودة حسب قانون مصونية المادة والطاقة، والذي يقضي بأن الطاقة لا تفنى، وإنما تتحول من شكل لآخر. 

علي: وفي هذه الحالة ماذا سيحصل للكون.. عندما تنفذ طاقته بعد نهاية توسعه؟

الفلكي: عندما يصل الكون إلى نقطة حرجة في توسعه، وتنفذ طاقته يبدأ بالانطواء على نفسه، ويعود من حيث بدأ.

هذا ليس مجرد تخمين نظري.. بل لدينا شواهد عليه.. فهناك مجرات تبعد عنا بلايين السنين.. حصل لها التفاف وانطواء على نفسها.. وهذا الانطواء صورة مصغرة لانطواء الكون على نفسه.

علي: تقصد انكماشه بعد توسعه، وطيه بعد انتشاره.

الفلكي: أجل.. كل الدلائل تدل على هذا.

علي: لقد ذكرتني بآيات من القرآن تشير إلى هذا.

الفلكي: أفي القرآن أيضا إشارة إلى هذا؟

علي: سأقرأ عليك من هذا المصحف العتيق لتحكم بنفسك.

فتح علي المصحف، وراح يقرأ بخشوع قوله تعالى:{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}(الأنبياء: 104)

الفلكي: ما معنى هذه الآية؟

علي: الله تعالى يخاطب عباده في هذه الآية، ويقول لهم: انتظروا يوماً ينطوي فيه الكون بسماواته وأرضه تماماً كما يطوي الكاتب الصحف والكتب ليعود الكون بالانسحاق العظيم إلى حيث بدأ.

انتفض الفلكي من مكانه، وقال: أرني محل هذه الآية من المصحف.

أراه علي إياها، فتأمل فيها جيدا، وقال: هذه آية عظيمة.. تحوي حقائق كثيرة جدا لم نكتشفها إلا بعد أن شابت رؤوس الأجيال، وهي تبحث عنها.

أولا في هذه الآية دقة عظيمة في التعبير.. بل دقة محيرة.. إنها دقة فائقة في تحديد نهاية الكون.. إن القرآن يستعمل مصطلحات علمية دقيقة.

إنها فعلاً عملية طيّ لأجزاء الكون، هذا ما تقوله آخر الأبحاث الكونية.

جميع علماء الكون يصرِّحون بأن الخطوط المستقيمة لا وجود لها في هذا الكون، بل كل شيء منحنٍ.. جميع أجزاء الكون من كواكب ونجوم ومجرات ونيازك ومذنبات وإشعاعات وثقوب سوداء..

جميعها تتحرك بأفلاك منحنية.. لذلك من المنطقي أن تكون نهاية الكون منحنية تماماً كما تُطوى الورقة.

علي: كنت أتصور أن الكون كروي..

الفلكي: إن العلماء اليوم يتصورون الكون على أنه مسطح وليس كروياً، والسبب في هذا التصور الظواهر الكونية التي يشاهدونها، والتي تدل على ذلك.. فالمجرة التي نعيش فيها، والتي تُعتبر الشمس أحد نجومها، ليست كروية الشكل، بل هي على شكل قرص قطره أكثر من مئة ألف سنة ضوئية، وسماكته بحدود ثلاثين ألف سنة ضوئية.

وهكذا جميع المجرات تأخذ أشكالاً حلزونية أو إهليليجية.. ولكنها تبقى قريبة من الشكل المسطَّح.

ثم قال بينه وبين نفسه: عجبا.. كيف يصرح القرآن بهذا.. فالسِّجِلّ هو الورقة المكتوب عليها، وعندما تُطوى هذه الورقة، فإنها تطوي بداخلها الكلمات المكتوبة وتلفّها لفّاً.

وهذا ما سيحدث فعلاً للمجرات عند نهاية الكون، حيث ستلتفّ حول بعضها كما تُلَفّ الورقة.

الدخان الكوني:

علي: سمعتك تتحدث عن الدخان الكوني([19]).

الفلكي: أجل.. فهو حقيقة علمية لا جدال فيها.. وهي مبنية على ما سبق ذكره من توسع الكون والانفجار العظيم..

الدخان الكوني هو مرحلة من مراحل الكون تلت مرحلة الانفجار العظيم.. حيث تشير دراسات الفيزياء النظرية في أواخر القرن العشرين إلى أن جرما بمواصفات الجرم الابتدائي للكون عندما ينفجر سيتحول لا محالة إلى غلالة من الدخان.. وذلك الدخان هو الذي تخلقت منه الأرض، وكل أجرام السماء.

ولم يكتف العلماء بهذه الاستدلالات النظرية، بل حصل في الثامن من نوفمبر سنة ‏1989‏م أن أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية مركبة باسم مكتشف الخلفية الإشعاعية للكون كما ذكرت لك سابقا.. وقد ارتفعت هذه المركبة إلى مدار حول الأرض يبلغ ارتفاعه ستمائة كيلومتر فوق مستوي سطح البحر‏، وذلك لقياس درجة حرارة الخلفية الإشعاعية للكون‏، وقياس كل من الكثافة المادية والضوئية والموجات الدقيقة في الكون المدرك‏، بعيدا عن تأثير كل من السحب والملوثات في النطق الدنيا من الغلاف الغازي للأرض‏.

وقام هذا القمر الصناعي المستكشف بإرسال قدر هائل من المعلومات وملايين الصور لآثار الدخان الكوني الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم للكون‏، من علي بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية.

وقد أثبتت تلك الصور أن هذا الدخان الكوني في حالة معتمة تماما تمثل حالة الإظلام التي سادت الكون في مراحله الأولى.. وقد قدر العلماء كتلة هذا الدخان المعتم بحوالي‏90 بالمائة‏ من كتلة المادة في الكون المنظور.

علي: لقد شوقتني بهذا الحديث عن معرفة التفاصيل المرتبطة بهذا الدخان، كيف كان، وكيف تحول؟

الفلكي: بعد الانفجار العظيم تحول الكون الى غلالة من الدخان الذى تشكلت منه النجوم والكواكب، وكل ما يتركب منه الكون.

وتشير الحسابات الفيزيائية إلى أن حجم الكون قبل الانفجار العظيم كاد يقترب من الصفر‏، وكان في حالة غريبة من تكدس كل من المادة والطاقة‏، وتلاشي كل من المكان والزمان‏، تتوقف عندها كل قوانين الفيزياء المعروفة.

 ثم انفجر هذا الجرم الابتدائي الأولي ـ كما ذكرنا سابقا ـ وبانفجاره تحول إلى كرة من الإشعاع والجسيمات الأولية أخذت في التمدد والتبرد بسرعات فائقة حتي تحولت إلى غلالة من الدخان‏.‏

فبعد ثانية واحدة من واقعة الانفجار العظيم تقدر الحسابات الفيزيائية انخفاض درجة حرارة الكون من تريليونات الدرجات المطلقة إلى عشرة بلايين من الدرجات المطلقة.

وقد كان التمدد عند بدء الانفجار بمعدلات فائقة التصور أدت إلى زيادة قطر الكون بمعدل‏2910‏ مرة في جزء من الثانية.

وعندها تحول الكون إلى غلالة من الدخان المكون من الفوتونات والإلكترونات والنيوترينوات وأضداد هذه الجسيمات مع قليل من البروتونات والنيوترونات..

علي: نعلم أنه في مثل ذلك الوضع من الحرارة والضغط يمكن أن تفني الجسيمات الأولية للمادة وأضدادها بعضها بعضا‏، وينتهي بذلك الكون.. فكيف حفظ الكون؟

الفلكي: إن استمرار الكون في التوسع والتبرد بمعدلات منضبطة بدقة فائقة هو الذي حفظ الكون من قضاء بعضه على بعض..

علي: لقد ذكرت لي علمك باللغة العربية..

ابتسم الفلكي، وقال: ولكن لا تسألني عن نحوها وصرفها.

علي: سأسألك عن الاصطلاح الذي استعملته في التعبير عن الدخان الكوني.. هل هو مصطلح صحيح ودال؟

الفلكي: ما تقصد؟

علي: سأشرح لك المسألة.. في القرآن الكريم ذكر لحالة تلبس بها الكون قبل حالته هذه سماها القرآن الدخان..

انتفض الفلكي من مكانه، وقال: أهذا صحيح؟

فتح علي المصحف، وراح يقرأ:{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } (فصلت:11)

قام الفلكي، وأخذ يصيح به: أرني محل الآية من المصحف.

أراه علي الآية، فبقي يتأملها واجما، فقال له علي: أجبني عن سؤالي..

الفلكي: عم تسأل.. إن هذه الآية تحيرني.. من أعلم محمدا بكل هذه العلوم؟

علي: إن نفرا من الناس ذكروا أن القرآن أخطأ حين عبر عن تلك الحالة للكون بهذه كلمة (دخان} ([20]

الفلكي: وبم يجب أن يعبر عنها؟

علي: ذكروا أن التعريف العلمي للدخان لا يتطابق مع الحالة السائدة في بداية الكون، حيث كان الكون وقتها يتألف من عنصرين هما غاز الهيدروجين وغاز الهليوم..

ولذلك فإن التعبير الأنسب في رأي هؤلاء كلمة (غاز).. ويذكر هؤلاء أن محمداً هو من كتب هذه الآية وأخطأ في وصفه للكون المبكر بكلمة (دخان)!

ضحك الفلكي ملء فيه، وقال: من المجنون الذي ذكر هذا؟

أولا.. هؤلاء حمقى ومغفلون.. وكان الأجدر بابن الجوزي الذي ألف كتابا عن الحمقى والمغفلين أن يذكر حكايتهم هذه.

علي: لم؟

الفلكي: ألا يعلمون أن الغاز لم يكن معروفا في ذلك الوقت.. وكان أقرب ما يدل عليه هو كلمة (الدخان)؟

ثم ألم يكفهم أن يشير القرآن هذه الإشارة المعجزة حتى يطالبوه بتفاصيلها؟

إن هؤلاء الأغبياء لا ينقصهم إلا أن يطلبوا منه أن يسمي لهم تلك الغازات، وأن يذكر لهم بروتوناتها ونيوتروناتها، بل يبعث لهم صورا عنها.

علي: فكلمة (دخان) كلمة مقربة للمعنى إذن.. وليست تامة الدلالة على المراد.

الفلكي: لقد ذكرت ذلك فقط لأولئك الحمقى الذين انتقدوا مثل هذا النقد.

أما الحقيقة التي تدل عليها كل الدلائل فهي أن كلمة (الدخان) هي أنسب كلمة تعبر عن تلك الفترة التي مر بها الكون بعد الانفجار العظيم.

علي: كيف ذلك؟

الفلكي: لقد اكتشف العلماء أن الكون في مراحله الأولى امتلأ بالغاز، وخاصة غاز الهيدروجين وغاز الهيليوم، ولكنهم اكتشفوا بعد ذلك غباراً كونياً cosmic dust ينتشر بين النجوم، ويقولون إنه من مخلفات الإنفجارات النجمية.

علي: الغاز يختلف عن الغبار.. وكلاهما يختلف عن الدخان، فكيف يمكن التوفيق بين العلم والقرآن في هذا؟

الفلكي: هذه مجرد تعبيرات.. ولكن الحقيقة هي ما ذكره القرآن.. فقد أتى بالمصطلح الصالح الدال على المعنى.. فالعلماء الآن يعترفون بأن ما كشفوه من غبار كوني لا يمتُّ بصلة للغبار الذي نعرفه ولا يشبهه أبداً، وأن هذا الغبار أشبه ما يكون بدخان السيجارة..

ذكر ذلك الدكتور دوغلاس بيرس الذي قال في مقالة له:(الغبار الكوني ـ والذي لايشبه الغبار المنزلي ـ في الحقيقة يتألف من حبيبات صلبة دقيقة (وغالباً من الكربون والسيليكون) تسبح في الفضاء بين النجوم، وحجمها مشابه لحجم دخان السيجارة)

ولو رجعت إلى الأبحاث الصادرة حديثاً لوجدتها كلها تؤكد على هذه التسمية، بل هنالك من العلماء من يصرح بأن أفضل وصف لحقيقة الكون المبكر هي كلمة (دخان).

فهذا بعضهم يقول:(ذرات الغبار الممزوج بالغاز دقيقة، وحجمها يساوي جزء من الميكرون([21])فقط، ولذلك فإن أفضل وصف لها (دخان)

علي: ولكن كيف تأكد العلماء من كونه دخانا لا غازا أو غبارا؟

الفلكي: لقد استطاع العلماء مؤخرا التقاط بعض ذرات الدخان الكوني من الفضاء، وتحديداً على حدود كوكب المشتري.. وقاموا بتحليله بأجهزتهم ورؤيته وتصويره ومعرفة كل شيء عنه بدقة مذهلة.

وقد جاء في نتيجة التحليل المخبري لهذا الغبار:(حبيبات الغبار بين النجوم والكواكب يتراوح حجمها بين 0،6 ميكرون و1،4 ميكرون، وهي ملتقطة من الغلاف الجوي للمشتري، أو من منطقة التأثير المغناطيسي وفقاً للدراسة. حبيبات كهذه أصغر من قطر شعرة الإنسان، وهي بحجم ذرات الدخان)

حديث الكون:

قال ذلك، ثم عاد إلى المصحف يتأمل الآية، ويستغرق فيها، ثم فجأة انتفض،وقال: إن في الآية إعجازا آخر لا يقل عن هذا الإعجاز.. من أعلم محمدا بكل هذا؟

علي: ما هو هذا الإعجاز الجديد الذي تراه؟

الفلكي: إن هذه الآية تتحدث عن حديث السماء والأرض في حالتهما الدخانية..:{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } (فصلت:11)

علي: وما في ذلك؟.. إن البعض يعتبر هذا على سبيل المجاز.

الفلكي: لا.. لا تدعهم يدخلوا عقولهم في القرآن.. وفي هذه الآية بالذات.. إنها تتحدث عن حقيقة علمية عظمى وجميلة.

علي: وما تلك الحقيقة؟

نظر الفلكي إلى السماء، وقال: كلام السماء.. كلام ذلك الدخان الذي مرت عليه السماء..

علي: عجبا.. هل اكتشف العلم حديث الدخان([22]

الفلكي: أجل.. صاحب هذا الاكتشاف الجديد هو أحد علماء الفضاء، وهو البروفيسور (مارك ويتل) من جامعة فيرجينيا.

وقد تحدث هذا العالم عن الأمواج الصوتية التي أطلقها الكون عندما كان عمره 380 ألف سنة، واستمر هذا الصوت الناتج عن تمدد وتوسع الكون حتى أصبح عمر الكون مليون سنة، عندها بدأت النجوم الأولى بالتشكل.

وقد ساعد على انتشار هذه الأمواج وجود الغاز الكثيف الذي يملأ الكون، والذي عمل كوسط مناسب لانتشار هذه الأصوات.

وهذا الاكتشاف هو نتيجة لدراسة الإشعاع الميكرويفي لخلفية الكون في مراحله الأولى بعد الانفجار الكبير.

علي: أأنت متأكد من هذا؟

الفلكي: أتعرف مع من تتكلم.. أنا خبير فلكي.. لي بحوثي واكتشافاتي الكثيرة.. وإن لم تصدقني فسأقرأ عليك هذا الخبر العلمي الذي نشرته العديد من المجلات المتخصصة والمواقع العلمية والذي يقول بالحرف الواحد:( لقد توسّع الكون بسرعة بعد الانفجار الكبير، خلال فترة تدعى التضخم. فيما بعد، تابع الكون توسُّعه بشكل أبطأ مما أدى إلى تبرد الغاز وتكثـفه وتشكيله للنجوم. كل هذا الوقت، ساهمت تغيرات الكثافة في تشكيل خصائص الصوت المحدد من قبل فريق ويتل)

ونرى من خلال تصريحات العلماء واكتشافهم أن الكون في مراحله المبكرة أي عندما كان في مرحلة الغاز الحار، وعندما بدأت النجوم بالتشكل من هذا الغاز الكوني، أصدر الكون صوتاً استمرّ حتى أصبح عمر الكون مليون سنة، وقد أمكن تحديد مواصفات هذا الصوت واتضح بأنه هادئ ومطيع، وبعد ذلك بدأت النجوم بالتشكل.

علي: أرجو أن تتثبت حضرة الأستاذ المحترم من هذا الذي تقولونه، فنحن المسلمين نخشى أن نفسر كتابنا بما لا تدل عليه الحقائق..

إن هذا الكتاب لا يفسر بالظنون، بل يفسر بالحقائق.

الفلكي: أنا متأكد منها كتأكدي من وجودك أمامي.. وهي حقيقة ثابتة ليس بالمقالات الصحفية.. ولا بما ذكرته وسائل الإعلام الغربية التي تناولت هذا الخبر، ولم يعارضه أحد من العلماء، وإنما هي مدعومه قبل ذلك وبعده بالمنطق العلمي والعملي.

علي: أفي إمكان المنطق العلمي والعملي أن يتنبأ بمثل هذا؟

الفلكي: أجل.. فمن يتأمل القوانين الرياضية المودعة في الدخان أو الغاز يجد ـ ومن خلال ما يسمى بهندسة ميكانيك السوائل ـ أن أي غاز عندما يتمدد ويكبر حجمه يصدر عن هذا التمدد موجات قد تكون صوتية.. وذلك بسبب التغير في كثافة الغاز وحركة جزيئاته واحتكاكها ببعض مما يولد هذه الأمواج.

وهذا ما حدث فعلاً في بداية نشوء الكون عندما كان دخاناً، فالتوسع والتمدد أدى إلى احتكاك وتصادم مكونات هذا الحساء الكوني الحار، وإطلاق هذه الأصوات التي تشبه حفيف الشجر.

حتى إن بعض العلماء رسموا خطاً بيانياً يمثل هذه الذبذبات الكونية.. وقد كانت هادئة غير عنيفة.. بل كانت أشبه بالفحيح.

إنها تكاد تعبر عن إعلان الطاعة الذي ذكرته الآية.

بناء السماء

نظر الفلكي إلى السماء، وكأنه ينظر إلى كائن جديد لم يره من قبل، ثم قال: عد بنا إلى الآية التي تتحدث عن توسع السماء.

علي: تقصد قوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}(الذريات:47)

الفلكي: أجل.. فهذه آية عظيمة.. إنها تتحدث عن الكون المبني، لا الكون الخاوي الذي نسميه فضاء..

علي: لها نظيرات في القرآن الكريم.. فهذه حقيقة من الحقائق القرآنية التي كثر ورودها فيه ([23])..

لقد جاءت في سورة الشمس القسم ببناء السماء، فقال تعالى:{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)}(الشمس)

انتفض الفلكي، وقال: أرني المصحف..

تأمل سورة الشمس جيدا، ثم قال: عجبا.. كل حرف من حروف هذه الآيات يحمل إعجازا.. هذه حقائق كبرى تحملها هذه السورة تنقضي الأنفاس دون شرحها.

من أدرى محمدا بكل هذا!؟

علي: عد بنا إلى بناء الكون.. لقد ورد في القرآن الكثير عنه.. فالله تعالى يقول في آية أخرى:{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } (قّ:6)

انتفض الفلكي، وقال: أرني المصحف..

تأمل الآية.. ثم قال: لا يمكنني أن أمر على هذه الآية مرور الكرام.. هذه الآية تلخيص لحقائق كونية كبرى.

علي: فهلا تفضلت.. فشرحتها لي.

الفلكي: بكل سرور.. ولك الشكر الجزيل على أن أتحت لي سماع مثل هذه النصوص العجيبة.

علي: أرجو أن تبسط لي في شرحك قدر ما استطعت، فليس لي من الخبرة في الفلك ما يمكنني من فهم كل المصطلحات التي تطرحها.

الفلكي: علي ذلك.. فالقرآن قد تناول هذه الحقائق الكبرى بكل بساطة.. أنا أذهب هذا المذهب مع طلابي.. لا أحب التعقيد.. ولا أحب المعقدين.

في البداية أحب أن أبشرك بأن علماء الفلك حديثاً بدأوا باستخدام كلمة (بناء) building  بدلا عن كلمة (فضاء) أي space.

علي: ما الفرق بينهما؟

الفلكي: عندما بدأ العلماء اكتشاف الكون أطلقوا عليه كلمة (فضاء)، وذلك لظنّهم بأن الكون مليء بالفراغ.. ولكن بعدما تطورت معرفتهم بالكون واستطاعوا رؤية بنيته بدقة مذهلة، ورأوا نسيجاً كونياً cosmic web  محكماً ومترابطاً، بدأوا بإطلاق هذا المصطلح القرآني (بناء) أي building.

لقد رأوا بالفعل بناء هندسيا مُحكما.. تشكل المجرات وتجمعاتها لبنات هذا البناء.. بل إنهم أصبحوا يتحدثون عن هندسة بناء الكون، ويطلقون مصطلحات جديدة لها علاقة بذلك، مثل الجسور الكونية، والجدران الكونية، وأن هنالك مادة غير مرئية سمّوها بالمادة المظلمة dark matter، وهذه المادة تملأ الكون، وتسيطر على توزع المجرات فيه، وتشكل جسوراً تربط هذه المجرات بعضها ببعض([24]). 

وفي أحد الأبحاث التي أطلقها المرصد الأوروبي الجنوبي يصرح مجموعة من العلماء بأنهم يفضلون استخدام كلمة (لبنات بناء من المجرات) بدلاً من كلمة (المجرات)، ويؤكدون أن الكون مزيَّن بهذه الأبنية تماماً كالخرز المصفوفة على العقد أو الخيط.

في هذا البحث يقول بول ميلر وزملاؤه:(إن المجرات الأولى، أو بالأحرى لبنات البناء الأولى من المجرات، سوف تتشكل في خيوط النسيج. وعندما تبدأ ببث الضوء، سوف تُرى وهي تحدّد مختلف الخيوط غير المرئية، وتشبه إلى حد كبير الخرز على العقد} ([25])

ليس هؤلاء وحدهم من قال هذا، بل جميع العلماء يؤكدون حقيقة البناء الكوني، ولا تكاد تخلو مقالة أو بحث من استخدام مصطلح بنية الكون structure of universe.

وهذا يدل على أن العلماء متفقون اليوم على هذه الحقيقة العلمية، أي حقيقة البناء.

فالسماء بناء متكامل.. هذا أحسن وأدق وصف علمي لها.

علي: لقد وردت آيات من القرآن الكريم تصف الكون بهذه الصفات.

فتح المصحف، وراح يقرأ قوله تعالى:{  الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (البقرة:22).. وقوله تعالى:{  اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (غافر:64)

ازداد عجب الفلكي.. وقال: هذه كلمات غريبة.. كل كلمة منها معجزة من المعجزات.. بل كل حرف منها معجزة من المعجزات.. من أدرى محمدا بكل هذا؟

علي: والقرآن يصف بالسماء بالإضافة إلى هذا إلى تزيينها، فهي بناء مزين.. فالله تعالى يقول:{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } (الحجر:16)، وهو يقول:{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } (قّ:6)

الفلكي: هذه آيات عجيبة.. إن العلم انقطعت أنفاسه قبل أن يتعرف عليها.. فكيف وصل محمد إلى كل ذلك؟.. ولم اهتم محمد كل ذلك الاهتمام بالسماء مع أن الكتاب المقدس لا يكاد يذكرها!؟ 

علي: لقد ذكر الله تعالى السماء في القرآن الكريم في ثلاثمائة وعشرة موضعا..‏ وهو يقصد بالسماء كل ما يحيط بالأرض بدءا من نهاية نطاق المناخ إلى نهاية الكون التي لا يعلمها إلا الله‏.

 ويشير القرآن الكريم إلى أن الله تعالى قد قسم السماء إلى سبع سماوات‏، كما قسم الأرض إلى سبع أرضين فقال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } (الطلاق:12)، وقال:{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } (الملك:3)، وقال:{ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } (نوح:15) 

ويشير القرآن الكريم إلى أن النجوم والكواكب هي من خصائص السماء الدنيا، فيقول:{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } (الصافات:6)، ويقول:{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (فصلت:12)، ويقول:{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ } (الملك:5)

الفلكي: هذه حقائق عظيمة عن البناء الكوني.. إن القرآن يذكر طوابق الكون، ويصفها كما نصف نحن البروج والعمارات.

علي: لقد وصف القرآن السماء بكونها ذات البروج، فقال:{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}  (البروج:1)

الفلكي: مع أنا لم نصل بعد إلى كثير مما ذكرت هذه الآيات.. فإن المنطق السليم.. وما توصلنا إليه من العلوم في هذا الميدان لا يؤدي إلا إلى هذا..

التفت إلى المصحف، وقال: إن العلم يحتاج إلى أن تنقطع أنفاسه ليعلم ما يورده الكتاب الذي تحمله.

علي: إن هناك من يسخر منا إذا ذكرنا أن في القرآن الكريم حقائق فلكية.

الفلكي: ليست هذه حقائق فلكية فقط.. إنها علم الفلك نفسه.. إن كل تلك المجلدات الضخمة التي لهثت البشرية خلفها آلاف السنين لا تعدل آية واحدة يقولها هذا الكتاب.

علي: هم ينظرون إلى حجم تلك الكتب.. ويقارنوه بحجم القرآن، فيمتلئون سخرية.

الفلكي: سأضرب لك مثالا يرد كيدهم في نحورهم..

أرأيت لو أن محققين تتبعوا خيوطا كثيرة، واستشهدوا آلاف الشهود، وكتبوا في القضية ألف كتاب.. أيعدل كل هذا الجهد.. وهذه الكتب إقرار المتهم بتهمته؟

علي: لا.. فالإقرار سيد الأدلة.. وكل تلك الكتب يمكن أن تملأ بسخف كثير لا حقيقة فيه.. وقد رأينا ذلك كثيرا.

الفلكي: فالعبرة إذن بالحقيقة.. لا بالطريق إلى الحقيقة؟

علي: أجل..

الفلكي: وهذا ما فعله القرآن في هذه الآيات التي ذكرتها.. إنه يصف لك الحقيقة كما هي، بينما نحن نتيه في التفاصيل الباحثة عنها.

ثم التفت إلى علي، وقال: هل تعلم التصورات الهزيلة التي كان يعتقدها أهل عصر محمد نحو السماء؟

علي: وما كانوا يعتقدون؟

ابتسم الفلكي، وقال: في القرن السابع الميلادي، أي في العصر الذي وجد فيه محمد، كان الاعتقاد السائد عند الناس أن الأرض هي مركز الكون، وأن النجوم والكواكب تدور حولها..لم يكن لأحد في ذلك الوقت يعلم بنية الكون، أو نشوءه أو تطوره.. لم يكن أحد يتخيل الأعداد الضخمة للمجرات..بل لم يكن أحد يعرف شيئاً عن المجرات.

وبقي الوضع كما هو حتى جاءت النهضة العلمية الحديثة، عندما بدأ العلماء بالنظر إلى السماء عبر التليسكوبات المكبرة..وتطور علم الفضاء أكثر عندما استخدم العلماء وسائل التحليل الطيفي لضوء المجرات البعيدة..ثم بدأ عصر جديد عندما بدأ هؤلاء الباحثين استخدام تقنيات المعالجة بالحاسوب للحصول على المعلومات الكونية.

وفي مطلع الألفية الثالثة، دخل علم الفضاء عصراً جديداً باستخدام السوبر كومبيوتر، عندما قام العلماء برسم مخطط للكون ثلاثي الأبعاد، وقد كانت النتيجة اليقينية التي توصل إليها العلماء هي حقيقة أن كل شيء في هذه الكون يمثل بناءً محكماً.

سكت قليلا، ثم قال: كيف استطاع محمد أن يعرف كل هذا، مع أنه لم يكن له مرقاب واحد.

ثم التفت إلى علي، وقال: أتدري قدرات السوبر كومبيوتر الذي استطاع أن يرسم صورة لبعض الكون المرئي؟

علي: لا.. إلا أني أعلم أنه قد طور حديثاً في العام 2000.. وأنه يسمى الكمبيوتر العملاق supercomputer وذلك لاستخدامه في عمليات المحاكاة.

الفلكي: لقد بلغت سرعة هذا الجهاز أكثر من 12 تريليون عملية حسابية في الثانية الواحدة، ويزن هذا الجهاز أكثر من مئة ألف كيلو غرام، ويستهلك من الطاقة الكهربائية 1.2 ميغا واط، ويبلغ حجمه حجم ملعبي تنس، وكان حجم ذاكرة هذا الجهاز 6 مليون مليون بايت.

ويقول مدير الشركة IBM الصانعة للجهاز:(إن العمليات التي ينجزها هذا الجهاز في ثانية واحدة، يحتاج الإنسان لإنجازها بواسطة الآلة الحاسبة العادية لمدة 10 مليون سنة)

وقد قام بعض العلماء من بريطانيا وألمانيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية منذ فترة قريبة بأضخم عملية حاسوبية لرسم صورة مصغرة للكون، وتم إدخال عشرة آلاف مليون معلومة في السوبر كمبيوتر، حول عدد ضخم من المجرات يزيد على 20 مليون مجرة! وعلى الرغم من السرعة الفائقة لهذا الجهاز إلا أنه بقي يعمل في معالجة هذه البيانات مدة 28 يوماً حتى تمكن من رسم صورة مصغرة للكون.

لقد تم إدخال معلومات عن توسع الكون، وعن سلوك النجوم والتجمعات المجرية، وعن المادة المظلمة في الكون، وكذلك تم إدخال معلومات عن الغاز والغبار الكوني، بهدف تقليد الكون في توسعه، وتحديد الطرق التي تسلكها المجرات والنجوم.

وقد قال البروفسور Carlos Frenk  من جامعة درهام ببريطانيا ومدير هذا البرنامج: (إنه أعظم شيء قمنا به حتى الآن، ربما يكون الأكبر على الإطلاق في الفيزياء الحاسوبية. إننا وللمرة الأولى نملك نسخة طبق الأصل عن الكون، والتي تبدو تماماً كالكون الحقيقي، ولذلك يمكننا، وللمرة الأولى أن نبدأ التجارب على الكون)

التفت إلى علي، وقال: هذا تصريح من عالم ومكتشف كبير بأنها المرة الأولى في التاريخ التي يستطيع فيها العلماء رؤية حقائق يقينية عن شكل الكون، وتوزع المجرات فيه.

أتدري.. لقد كانت الصورة التي رسمها الكمبيوتر للكون تشبه إلى حد كبير نسيج العنكبوت، ولذلك فقد أطلق عليها العلماء مصطلح (النسيج الكوني) 

لقد تبين أن كل خيط من خيوط هذا النسيج يتألف من آلاف المجرات، وهذه المجرات قد رصفت بطريقة شديدة الإحكام، أي أن هذا النسيج محكم إحكاماً شديداً. ولذلك قال عنه هذا العالم:(هذه المجموعات من آلاف المجرات شديدة اللمعان قد رُصّت بإحكام شديد)

علي: لماذا اختاروا هذه التسمية؟

الفلكي: إن مصطلح (النسيج الكوني) هو مصطلح حديث جداً، وقد أطلقه العلماء للتعبير عن بنية الكون لأنهم رأوا المجرات تصطف على خيوط دقيقة.

فلو تأملنا أي خيط كوني، فسوف نجده خيطاً دقيقاً جداً بالمقاييس الكونية، فإذا علمنا بأن النجم الواحد يمتد في الفضاء لمسافة تساوي عدة ثوان ضوئية، فإن الخيط الكوني يمتد لعدة بلايين من السنوات الضوئية!

ولو قمنا مثلاً بتصغير خيط كوني حتى يصبح قطره ميليمتراً واحداً، فإن طول هذا الخيط سيبلغ عدة مئات من الأمتار.. فتأمل دقة هذا الخيط الكوني، فهو رفيع جداً وطويل جداً، وعلى الرغم من ذلك نجده محكماً ومشدوداً بقوى كونية عظيمة.

ألا يدلك هذا على عظمة هذه الخيوط ودقة صنعها وإتقانها؟

علي: لقد ذكرتني بآية من القرآن تستعمل مصطلحا له علاقة بالنسيج.. فيها قسم بالسماء ذات الحبك..

انتفض الفلكي، وقال: أهناك آية تتحدث عن هذا.. اقرأها علي.

علي: هي آية قصيرة.. هي قسم.. والله لا يقسم إلا بما له قيمة وعظمة.. تقول هذه الآية:{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } (الذريات:7)

الفلكي: هذه آية عظيمة تصور حقائق فلكية كثيرة.. إنها لا تعبر عن هذا فقط.. إنها تعبر عن أشياء كثيرة.. لقد عرف القرآن كيف يختار المصطلحات الفلكية.. إنه ينتقيها انتقاء([26]).

علي: لقد احترت في معنى الحبك لأني وجدت خلافا فيها.. ففي اللغة لها دلالات كثيرة..

الفلكي: وهذا ما جعلني أتعجب من هذه الدقة العجيبة في اختيار المصطلحات.. فكل المعاني التي قيلت في اللغة عن (الحبك) تصلح لوصف السماء.

أورد لي ما قال اللغويون في الكلمة.. وسأورد لك ما قال الفلكيون عنها.

علي: لفظة‏(الحبك‏)‏ مستمدة من الفعل‏(حبك‏)، بمعني شد وأحكم.

ويقال:(حبك‏)‏ النساج الثوب‏، أي أجاد نسجه‏، و‏(‏حبك‏)‏ الحائك الثوب أي أجاد صنعه‏، وضبط أبعاده‏، فالأمر‏(المحبوك‏)‏ المحكم الصنعة‏.

ويقال في اللغة‏:(حبك‏)‏ الأمر‏(يحبكه‏} (تحبيكا‏)، أي وثقه وشدده.

الفلكي: من الاستعراض اللغوي الذي ذكرته‏، ومن ربط السماء بالحبك نجد المعاني التالية:

‏1‏ ـ السماء ذات الصنع المحكم والإبداع في الخلق‏.‏

‏2‏ ـ السماء ذات الروابط الشديدة والنسيج المحكم‏.‏

‏3‏ ـ السماء ذات التباين الواضح في كثافة المادة المكونة لها‏.‏

‏4‏ ـ السماء ذات المدارات المحددة لجميع الأجرام الجارية فيها‏.‏

علي: فهل علم الفلك يدل على هذه جميعا؟

الفلكي: أجل.. كلها حقائق نطق بها العلم.. ونطق بها قبله القرآن.

علي: فلنرجع إلى بناء الكون.. لقد عرفنا أن الكون منسوج نسجا محكما، وكل نسج يحتاج إلى خيوط، أو هو مبنيا بناء دقيقا، وكل بناء يحتاج إلى لبنات.. فما لبنات الكون؟

الفلكي: بعد إطلاق القمر الصناعي المعروف باسم مستكشف الخلفية الإشعاعية للكون في سنة ‏1989‏م تمكن العلماء من إدراك ستة نطق متمركزة حول ما يعتقد بأنه مركز الانفجار العظيم الذي نشأ عنه الكون‏: أولها ما يسمى بنطاق الانفجار العظيم، أو  نطاق كرة النار الأولي، ويمتد بقطر يقدر بحوالي بليون سنة ضوئية حول نقطة يعتقد بأنها مركز الانفجار الكوني العظيم‏.‏

يليه النطاق الغامض، وهو يضم سحبا بيضاء كثيفة تحيط نطاق الانفجار العظيم بسمك يصل إلى  بليوني سنة ضوئية‏.‏

يلي ذلك النطاق بعد النطاق الغامض، وهو يضم سحبا من دخان السماء تغلف النطاق الغامض بسمك يتراوح بين بليونين إلى  ثلاثة بلايين من السنين الضوئية‏.‏

يلي ذلك نطاق أشباه النجوم السحيقة، وهو يضم أكثر أشباه النجوم بعدا عنا‏، ويمتد بسمك يقدر بحوالي خمسة بلايين من السنين الضوئية حول النطاق السابق‏.‏

يلي ذلك نطاق أشباه النجوم القديمة، وهو يضم أقرب أشباه النجوم إلينا‏، ويمتد بسمك يقدر بحوالي سبعة بلايين من السنين الضوئية حول نطاق أشباه النجوم السحيقة‏.‏

يلي ذلك كله نطاق المجرات، وهو يحيط النطق السابقة كلها بسمك يقدر بحوالي أربعة بلايين من السنين الضوئية‏.

ونتيجة لهذا.. فإن قطر الجزء المدرك من السماء يقدر بحوالي‏23‏ بليون سنة ضوئية علي الأقل‏.

علي: هذه السماء.. فحدثني عن العالم الذي ننتمي إليه.. حدثني عن المجرات ([27]

الفلكي: المجرات هي نظم كونية شاسعة الاتساع تتكون من التجمعات النجمية والغازات والغبار الكونيين ‏(الدخان الكوني‏)‏ بتركيز يتفاوت من موقع لآخر في داخل المجرة‏، وقد تضم المجرة الواحدة عشرات البلايين إلى بلايين البلايين من النجوم‏.

وقد أحصى علماء الفلك في الجزء المدرك وحده من السماء مائتي ألف مليون مجرة ــ علي الأقل ــ بعضها أكبر من مجرتنا كثيرا‏، وبعضها أصغر قليلا‏.

علي: فهل تتشابه هذه المجرات؟

الفلكي: ألم تعرف أن معاني الحبك التباين والاختلاف؟

علي: أجل..

الفلكي: فكذلك هذه المجرات تتباين في أشكالها كما تتباين في أحجامها‏، وفي شدة إضاءتها‏، فمنها الحلزوني‏، والإهليلجي، وما هو غير محدد الشكل‏، ومنها ما هو شديد الاضاءة‏، وما يبدو علي هيئة نقاط باهتة لا تكاد تدرك بأكبر المناظير المقربة.

علي: فحدثني عن المجموعة التي تنتمي إليها مجرتنا.

الفلكي: مجرتنا ‏(درب اللبانة‏)‏ تنتمي إلى مجموعة فيها أكثر من عشرين مجرة في تجمع يعرف باسم المجموعة المحلية للمجرات‏، يبلغ قطرها مليون فرسخ فلكي.. وذلك يساوي‏3،261،500‏ سنة ضوئية.

وتحتوي المجموعة المحلية التي تتبعها مجرتنا علي ثلاث مجرات حلزونية، وأربع مجرات غير محددة الشكل‏، وأعداد من المجرات البيضانية العملاقة والقزمة‏، وقد تحتوي علي عدد أكبر من المجرات الواقعة في ظل مجرتنا، ومن هنا تصعب رؤيتها‏.‏

علي: إن المجموعة التي تنتمي إليها مجرتنا مجموعة عملاقة إذن؟

الفلكي: هناك حشود للمجرات أكبر من المجموعة المحلية من مثل‏ حشد مجرات برج العذراء، فهو يضم مئات المجرات من مختلف الأنواع‏، ويبلغ طول قطره مليوني فرسخ فلكي أي أكثر من ستة ملايين ونصف من السنين الضوئية، ويبعد عنا عشرة أضعاف تلك المسافة ‏(أي عشرين مليون فرسخ فلكي‏)

علي: فحدثني عن مجرتنا.

الفلكي: مجرتنا تسمى سكة التبانة، أو درب اللبانة، أو الطريق اللبني، وهي‏ تعتبر في هذا الحشد هباءة منثورة في السماء.

النجوم:

علي: لقد ذكرت أن المجرات تتكون من النجوم.. فحدثني عنها.

الفلكي: النجوم هي أجرام سماوية منتشرة بالسماء الدنيا‏، كروية أو شبه كروية‏، غازية‏، ملتهبة‏، مضيئة بذاتها‏، متماسكة بقوة الجاذبية على الرغم من بنائها الغازي‏، هائلة الكتلة‏، عظيمة الحجم‏، عالية الحرارة بدرجة مذهلة‏، وتشع كلاً من الضوء المرئي وغير المرئي بجميع موجاته‏.‏

علي: أنا محتار في كيفية تعرف الفلكيين على خصائص النجوم بالرغم من بعدها الساحق عنا.

الفلكي: إن ضوء النجم الواصل إلينا يمكننا من التعرف على العديد من صفات النجم الطبيعية والكيميائية من مثل درجة لمعانه‏، وشدة إضاءته‏، ودرجة حرارته‏، وحجمه‏، وكتلته‏، وموقعه منا‏، وسرعة دورانه حول محوره‏، وسرعة جريه في مداره‏، وتركيبه الكيميائي‏، ومستوي التفاعلات النووية فيه.. إلى غير ذلك من صفات‏.‏

علي: أسمع العلماء يصنفون النجوم كما يصنفون المجرات.

الفلكي: أجل.. وقد أمكن تصنيف النجوم العادية على أساس من درجة حرارة سطحها إلى نجوم حمراء ‏(3200‏ درجة مطلقة‏)‏ وهي أقلها حرارة‏، وإلى نجوم برتقالية‏، وصفراء‏، وبيضاء مائلة إلى الصفرة‏، وبيضاء‏، وبيضاء مائلة إلى الزرقة‏، وزرقاء ‏(30،000‏ درجة مطلقة‏)‏ وهي أشدها حرارة‏، وشمسنا من النجوم الصفراء متوسطة الحرارة إذ تبلغ درجة حرارة سطحها حوالي ستة آلاف درجة مطلقة‏.‏

والغالبية الساحقة من النجوم ‏(90 بالمائة) تتبع هذه الأنواع من النجوم العادية التي تعرف باسم نجـوم النسـق الأسـاسي، والباقي هي نجوم في مراحل الانكدار أو الطمس أو في مراحل الانفجار والتلاشي‏، من مثل الأقزام البيضاء‏، والنجوم النيوترونية ‏(النابضة وغير النابضة‏)‏، والثقوب السود في المجموعة الأولي‏، والعمالقة الحمر‏، والعمالقة العظام‏، والنجوم المستعرة‏، وفوق المستعرات في المجموعة الثانية‏.‏

علي: أرى من خلال حديثك أن النجوم تمر بمراحل مختلفة من الميلاد والشباب والشيخوخة.

الفلكي: أجل.. فهي تمر بجميع هذه المراحل قبل أن تنفجر أو تتكدس على ذاتها فتطمس طمساً كاملا‏،  فهي تولد من الدخان الكوني بتكدس هذا الدخان على ذاته، وبفعل الجاذبية فتتكون نجوم ابتدائية، ثم تتحول هذه النجوم الابتدائية إلى النجوم العادية، ثم تنتفخ متحولة إلى العماليق الحمر، فإذا فقدت العماليق الحمر هالاتها الغازية تحولت إلى ما يعرف باسم السدم الكوكبية، ثم تنكمش على هيئة ما يعرف باسم الأقزام البيض، وقد تتكرر عملية انتفاخ القزم الأبيض إلى عملاق أحمر، ثم العودة إلى القزم الأبيض عدة مرات‏، وتنتهي هذه الدورة بالانفجار على هيئة فوق مستعر من الطراز الأول.

أما إذا كانت الكتلة الابتدائية للنجم العادي كبيرة ‏(عدة مرات قدر كتلة الشمس‏)‏ فإنه ينتفخ في آخر عمره على هيئة العمالقة الكبار، ثم ينفجر على هيئة فوق مستعر من الطراز الثاني، فينتج عن هذا الانفجار النجوم النيوترونية النابضة، وغير النابضة، أو الثقوب السود‏، وذلك حسب الكتلة الابتدائية للنجم‏.‏

مواقع النجوم:

علي: لقد ذكرني حديثك هذا عن النجوم وعظمتها بآية من القرآن.. هي قوله تعالى:{ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)}(الواقعة)

الفلكي: هذه آية عظيمة.. إنها تبين أن الإنسان بنظرته القاصرة لا يمكن أن يعرف حقيقة عظمة النجوم ([28])..

وفوق ذلك ذكرت مواقع النجوم بدل النجوم.. وفي ذلك إشارات جليلة.. سأذكر لك بعض ما توصلنا إليه منها:

الإشارة الأولى التي تشير إليها تلك الكلمة القرآنية.. وهي إشارة لها أهميتها العظمى.. هي أنه نظرا للأبعاد الشاسعة التي تفصل نجوم السماء عنا‏، فإننا لا يمكن لنا رؤية النجوم من على سطح الأرض أبدا‏، ولا بأية وسيلة مادية‏، وكل الذي نراه من نجوم السماء هو مواقعها التي مرت بها، ثم غادرتها‏، إما بالجري في الفضاء الكوني بسرعات مذهلة‏، أو بالانفجار والاندثار‏، أو بالانكدار والطمس‏.‏

فالشمس وهي أقرب نجوم السماء إلينا تبعد عنا بمسافة مائة وخمسين مليون كيلومتر‏، فإذا أنبثق منها الضوء بسرعته المقدرة بحوالي الثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية من موقع معين مرت به الشمس فإن ضوءها يصل إلى الأرض بعد ثماني دقائق وثلث دقيقة تقريبا‏، بينما تجري الشمس بسرعة تقدر بحوالي‏19‏ كيلومترا في الثانية في اتجاه نجم النسر، فتكون الشمس قد تحركت لمسافة لا تقل عن عشرة آلاف كيلومتر عن الموقع الذي انبثق منه الضوء‏.‏

وأقرب النجوم إلينا بعد الشمس، وهو المعروف باسم الأقرب القنطوري يصل إلينا ضوؤه بعد‏4،3 ‏ سنة من انطلاقه من النجم‏، أي بعد أكثر من خمسين شهرا يكون النجم قد تحرك خلالها ملايين عديدة من الكيلومترات‏، بعيدا عن الموقع الذي صدر منه الضوء‏، وهكذا فنحن من على سطح الأرض لا نري النجوم أبدا‏، ولكننا نري صورا قديمة للنجوم انطلقت من مواقع مرت بها‏، وتتغير هذه المواقع من لحظة إلى أخري بسرعات تتناسب مع سرعة تحرك النجم في مداره‏، ومعدلات توسع الكون‏، وتباعد المجرات عنا‏، والتي يتحرك بعضها بسرعات تقترب أحيانا من سرعة الضوء.

وأبعد نجوم مجرتنا عنا يصلنا ضوؤه بعد ثمانين ألف سنة من لحظة انبثاقه من النجم‏، بينما يصلنا ضوء بعض النجوم البعيدة عنا بعد بلايين السنين‏.

وهذه المسافات الشاسعة مستمرة في الزيادة مع الزمن نظرا لاستمرار تباعد المجرات عن بعضها البعض في ضوء ظاهرة اتساع الكون‏، ومن النجوم التي تتلألأ أضواؤها في سماء ليل الأرض ما قد انفجر وتلاشي أو طمس واختفي منذ ملايين السنين‏، لأن آخر شعاع انبثق منها قبل انفجارها أو طمسها لم يصل إلينا بعد‏، والضوء القادم منها اليوم يعبر عن ماض قد يقدر بملايين السنين‏.‏

علي: هذه إشارة مهمة.. فالقرآن يخاطب البشر.. وهم لا يرون إلا المواقع، فلذلك حدثهم بما يرون.

الفلكي: هناك إشارة أخرى.. وهي أنه ثبت علميا أن الضوء مثل المادة ينحني أثناء مروره في مجال تجاذبي مثل الكون‏، وعليه فإن موجات الضوء تتحرك في صفحة السماء في خطوط منحنية.

وحينما ينعطف الضوء الصادر من النجم في مساره إلى الأرض، فإن الناظر من الأرض يري موقعا للنجم على استقامة بصره‏، وهو موقع يغاير موقعه الذي صدر منه الضوء‏، مما يؤكد مرة أخري أن الإنسان من فوق سطح الأرض لا يمكنه أن يري النجوم أبدا‏.‏

علي: هذه إشارة جليلة، وهي تذكرني بآيات قرآنية يذكر الله تعالى فيها المعارج.. والمعارج هي الخطوط المنحنية.. {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ } (المعارج:3)

بل يصف الحركة ذاتها بالعروج‏، وهو الانعطاف والخروج عن الخط المستقيم‏، كما يمكن أن يفيد الصعود في خط منعطف‏، كما قال تعالى:{  تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } (المعارج:4)

ولهذا كان وصف رحلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السماوات العلا بالعروج‏، وسميت الليلة باسم المعراج.

الفلكي: وهناك إشارة ثالثة.. وهي أن النجوم في داخل المجرة الواحدة مرتبطة مع بعضها بالجاذبية المتبادلة بينها‏، والتي تحكم مواقع النجوم وكتلها‏.

فمواقع النجوم على مسافات تتناسب تناسبا طرديا مع كتلها، ومرتبطة ارتباطا وثيقا بقوي الجاذبية التي تمسك بها في تلك المواقع وتحفظ السماء أن تقع على الأرض إلا بإذن الله ومن هنا كانت قيمة مواقع النجوم التي كانت من وراء هذا القسم القرآني العظيم‏.

علي: هذه إشارة جليلة، تؤكد ما ورد في القرآن من تماسك الكون([29]).

الفلكي: وهناك إشارة رابعة لاختيار القرآن لكلمة المواقع.. فقد أثبتت دراسات الفلك‏، ودراسات كل من الفيزياء الفلكية والنظرية أن الزمان والمكان شيئان متواصلان‏، ومن هنا كانت مواقع النجوم المترامية الأبعاد تعكس أعمارها الموغلة في القدم‏، والتي تؤكد أن الكون الذي نحيا فيه ليس أزليا‏، بل كانت له بداية يحددها الدارسون باثني عشر بليونا من السنين على أقل تقدير.

ومن هنا كان في القسم بمواقع النجوم إشارة إلى قدم الكون مع حدوثه‏، وهي حقائق لم يتوصل إليها العلم المكتسب إلا بنهاية القرن العشرين‏.‏

فقد كان اليونانيون القدامى يصرون على أن الأرض هي مركز الكون‏، أو أن الشمس هي مركز الكون‏، وأن كليهما ثابت لا يتحرك‏، غير متصورين وجود أية بنية سماوية إلا حول الشمس‏.

وكان غيرهم من أصحاب المدنيات السابقة واللاحقة يؤمنون بديمومة الأرض والنجوم‏، وما بها من صور المادة والطاقة‏، بل ظل الغربيون إلى أوائل القرن الثامن عشر الميلادي يؤمنون بأن النجوم مثبتات بالسماء‏، وأن السماء بنجومها تتحرك كقطعة واحدة حول الأرض‏، وأن الكون في مركزه ثابت غير متحرك‏، ومكون من عناصر أربعة هي التراب‏، والماء‏، والهواء والنار وحول تلك الكرات الأربع الثابتة تتحرك السماوات.

سكت الفلكي قليلا، ثم قال: أنا إلى الآن لا أزال محتارا فيمن علم محمدا كل هذه العلوم.. إن هذه العلوم لا يطيق بشر أن يعرفها.. فليست هي بالحدس العقلي، ولا العرفان الوجداني، ولا المدارك الحسية.. إنها من مصدر يعرف الكون حق المعرفة.. فهل استطاع محمد أن يتصل بذلك المصدر؟

سكت علي.. فلم يجبه.. لقد كان يكتفي بإيصال الحقائق، ثم يترك الآخرين يصلون إلى النتائج المرتبطة بها..

النجم الثاقب:

علي: في القرآن آية أخرى تتعلق بالنجوم.. احتار المفسرون في تحديد الفهم المناسب لها.

الفلكي: اقرأها علي.

أخذ علي يقرأ من سورة الطارق:{ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} (الطارق)

الفلكي: أعد علي قراءة الآيات.. أو أرني المصحف لأقرأها بنفسي.

أراه علي الآية، فراح يتأمل فيها.. وفجأة صاح: نعم.. هو ذلك.. الآية تقصد ذلك بدليل جواب القسم { إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (الطارق:4)

علي: ما تقصد بذلك؟

الفلكي: هذه الآية تشير إلى أنواع من النجوم تتناسب مع وصفها، كما تتناسب مع جواب القسم الذي جاء بعدها([30]).

علي: وضح لي ذلك.. وأرجو أن لا يكون إلا بحقائق العلم.. فالقرآن لا يفسر بظنيه.

الفلكي: بل بحقائقه.. ولن تجد عند صاحبك إلا الحقائق.. أنا مثلك كثير الشك.. ولا يقنعني إلا اليقين الصرف.

علي: فما هذا اليقين العلمي الذي تشرف بالارتباط بهذه الآية؟

الفلكي: من الواضح من هذه الآيات أن القسم جاء فيها بنجم خاص بذاته سمي بالطارق‏، ووصف بكونه النجم الثاقب.

علي: هذا متفق عليه.. لكن الخلاف في حقيقة هذا النجم وتحديده.

الفلكي: أجل.. هذا هو سر الإعجاز في الآية.. فالقسم في العادة لا يكون إلا تنبيها على أهمية الأمر المقسوم به‏.

علي: أجل.. فالقسم في القرآن لا يذكر إلا لضرورة المقسم به، لاستقامة الكون ومكوناته‏، أو لاستقامة الحياة فيه‏، أو لكليهما معا.. ذلك لأن الله تعالى غني عن القسم لعباده‏.

الفلكي: ولهذا، فإن معني الطارق الذي هو النجم الثاقب لا يتحدد إلا بمعرفة دقيقة لطبيعة النجوم وأنواعها ومراحل تكونها‏.

علي: ولذلك قصدتك بهذا السؤال.. فهذه قضية علمية صرفة‏، ولابد من توظيف المعارف العلمية لفهم دلالاتها.. فلا يمكن لتلك الدلالات أن تتضح في الإطار اللغوي وحده‏.‏

الفلكي: ولكن الدلالات اللغوية هي التي تحدد لنا خصائص المذكور لنعرف من خلالها من تنطبق عليه تلك الخصائص.

علي: أجل.. وسأوضح لك ذلك.. فكلمة (الطارق) اسم فاعل من الطرق بمعني الضرب بشدة‏، وأصل الطرق الدق‏، ومنه سميت المطرقة التي يطرق بها‏، وهذا هو الأصل‏، ولكن الكلمة مع ذلك استخدمت من باب المجاز لتدل على الطريق، أي السبيل‏، لأن السابلة تطرقها بأقدامها‏، ثم صارت اسما لسالك الطريق‏، باعتبار أنه يطرقها بقدميه‏.

واستخدم لفظ الطارق كذلك علي سبيل المجاز للتعبير عن كل ما جاء بليل‏، فسمي قاصد الليل طارقا لاحتياجه إلي طرق الأبواب المغلقة.

 ثم اتسع هذا الاستعمال المجازي ليشمل كل ما ظهر بليل‏، ثم زيد في توسيعه حتي أطلق علي الصور الخيالية البادية لبعض الناس بالليل‏.‏

أما الثاقب الذي هو وصف للنجم.. فلم يرد إلا في هذا الموضع من القرآن الكريم.. مع أن النجوم قد ورد ذكرها في القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة‏، أربع منها بالإفراد ‏(النجم‏)، وتسع بالجمع‏(النجوم‏)

ولم يوصف أي منها بالطارق النجم الثاقب‏، إلا في هذه الآيات‏، والتي حملت اسم الطارق تأكيدا على أن الطارق نجم محدد بذاته.

الفلكي: إن ما ذكرته الآيات من الأوصاف ينطبق تماما على مجموعة من النجوم في مراحل معينة من عمرها.. هذه النجوم هي مصادر الإشعاع الراديوي المميز بالسماء، ومن أهمها النجوم النيوترونية شديدة التضاغط والمعروفة باسم النجوم النابضة أو النابضات أو النوابض..

علي: ما الذي جعلك ترى أن هذه الأنواع من النجوم هي المقصودة في القسم في الآيات الكريمة([31]

الفلكي: أولا هذه النجوم تطرق صفحة السماء، وتثقب صمتها بنبضاتها السريعة التردد‏، وموجاتها الراديوية الخاطفة.. وثانيا، هذه النوابض خطيرة جدا.. وهي تتناسب مع جواب القسم، فقد ربط ذكر هذا النوع من النجوم بالحفظ.. وقد حصل هذا بالفعل، فأقرب النوابض الراديوية إلينا يبعد عنا بمسافة خمسة آلاف من السنين الضوئية.. ولولا هذا البعد لكان لنبضاتها المتسارعة أثر مدمر لكل حياة علي الأرض‏.‏

والنجم إذا هوى:

علي: في القرآن آية أخرى استعصت على المفسرين([32])، فأرجو أن تبين لي كيف يفهمها العلم الحديث.

الفلكي: اقرأها علي.. لقد أصبحت موقنا الآن أن كل ما ذكره القرآن صحيح.. فيستحيل على من يلم بكل تلك المعارف أن يقع في أي خطأ.

علي: هي الآية التي أقسم الله تعالى فيها بالنجم إذا هوى، فقال:{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (لنجم:1)

الفلكي: هذا يحتاج إلى معرفة أطوار الحياة التي يمر بها النجم([33]).. وقد سبق لي أن تحدثت عنها باختصار.. ولو تأملت في طريقة تطور النجم، فإنك سترى أن الميكانيكية الأساسية التي تلعب دوراً مهما في تطور النجم من مرحلة إلى أخرى هي عملية انكماشه نحو مركزه.. فالنجم يبدأ حياته من انكماش سحابة نحو مركزها، وبعد استقراره فترة طويلة من حياته ينتفخ ليصبح عملاقاً أحمر، ولكنه يعاني من انكماش يستمر في لبه ينقله من مرحلة لأخرى في التفاعلات النووية.. ثم إنه بعد ذلك يعاني من انكماش رهيب قبل موته يؤدي إلى طمسه وتكويره على بعضه، وقبل أن ينفجر النجم الكبير (كسوبرنوفا هائلة)، فإنه يكون قد مر بانكماش رهيب لمادته نحو مركزه.

وهكذا فإن تهاوي مادة النجم وانكماشه نحو مركزه تعد بحق ميكانيكية أساسية يتحرك بها النجم من مرحلة إلى أخرى.

ولعل هذا الذي ذكرته لك مظهر من المظاهر المفسرة لهذه الآية..، فهذا قسم بآية عظيمة تصور حدثاً مهما في حياة النجوم، وهي إشارة ميكانيكية أساسية تتكرر مرات ومرات في حياة النجوم.

الخنس الكنس:

علي: سمعتك تذكر الثقوب السوداء([34])، وأنها جزء من بناء السماء، فما خبرها؟

الفلكي: خبرها عظيم، وشأنها جليل، ودورها خطير.

علي: من هي التي استحقت كل هذا التعظيم؟

الفلكي:  هي بعبارة مختصرة عبارة عن نجوم ثقيلة جداً، وهي آخر مرحلة من عمر النجم.

أنت تعلم أن النجوم تمر بمرحلة الولادة، ثم تكبر وتتطور، ثم تأتي مرحلة الانهيار والموت، والثقب الأسود يمثل المرحلة الأخيرة.. فعندما يكبر حجم النجم لدرجة هائلة تزداد الجاذبية لحدود عظيمة جداً، فيجذب إليه كل شيء حتى الضوء لا يستطيع الإفلات من حقل جاذبيته الفائقة.

ولكي نأخذ فكرة عن ضخامة أوزان هذه الثقوب، فإن ثقباً أسود بوزن الأرض يكون قطره أقل من سنتمتر واحد فقط، وثقبا أسود بوزن الشمس سيكون قطره 3 كيلو متراً.

هذه الثقوب السوداء في الحالة العادية.. أما الثقوب السوداء الضخمة، فتتواجد في قلب مجرتنا والمجرات الأخرى، ويزن الواحد منها مليون مرة وزن الشمس.

علي:  لقد ذكرت أن الضوء لا يستطيع الإفلات من حقل جاذبية الثقوب السوداء.

الفلكي: أجل.. نتجة لسرعتها الهائلة، وكثافتها العالية.

علي: فلا يمكن رؤيتها في السماء إذن كما نرى سائر النجوم؟

الفلكي: أجل.. لا يمكن رؤية هذه الأجسام أبداً، لأنها شديدة الاختفاء، وهذا سبب تسميتها بالثقوب السوداء.. زيادة على ذلك فهذه الأجسام تسير، بل تجري في الكون بسرعات عالية، وتجذب إليها كل جسم يقترب منها.

علي: فكيف استطاع العلماء رؤية هذه الأجسام مع اختفائها وسرعتها؟

الفلكي: أثناء مراقبة العلماء الطويلة لمجموعة من النجوم، إذا بهم يرون بعض هذه النجوم يختفي ضوؤه فجأة ثم يظهر بعد ذلك، وعندما عرضت هذه الصورة على علماء الفلك أجمعوا على أن ضوء هذه النجوم قد اختفى بسبب مرور ثقب أسود مما أدّى إلى حجب الأشعة الضوئية الصادرة من ذلك النجم، وذلك لفترة من الزمن ثم عودة النجم للظهور من جديد.

إن ذلك يشبه ما يحدث أثناء مرور القمر أمام الشمس، فيحجب عنا ضوءها.

هذا ما يمكنني أن أشرحه لك.. وهناك أمور قد لا تطيق فهمها.. المهم أن العلماء الآن كلهم متفقون على وجود الثقوب السوداء.

علي: لقد فهمت من خلال شرحك لهذا أن الثقوب السوداء تتميز بالخصائص التالية:

الأول: أنها نجوم ثقيلة وشديدة الاختفاء، فلا يمكن رؤيتها أبداً.

والثاني: أنها تسير.. بل تجري بسرعات كبيرة جداً تبلغ آلاف الكيلومترات في الثانية الواحدة.

والثالث: أنها تجذب وتبتلع وتكنس كل ما تجده في طريقها كنساً.

الفلكي: بورك فيك.. لقد ذكرت كل خصائصها بغاية الإتقان.. أنت بارع في التحليل.. ولك قدرة عقلية ممتازة ليتك توظفها في العلم.

الفلكي: أشكرك على هذا الثناء.. ولكني لم أذكر هذه الخصائص من تلقاء نفسي.

علي: فأين وجدتها؟

علي: في القرآن الكريم.

انتفض الفلكي، وقال: هل يمكن أن يذكر القرآن مثل هذا.. إن هذا غريب.. إن هذه الثقوب لا ترى بالمراقب.. ولا يمكن للعقل مهما بلغ من الذكاء أن يتصور وجودها، فكيف بتصور خصائصها؟

علي: لقد وردت آيتان في القرآن الكريم لطالما حيرت المفسرين، فذهبوا في تفسيرها كل مذهب، لا أرى أنها تنطبق بكل دقة إلا على ما ذكرته من هذه الثقوب.

الفلكي: اذكرهما لي.. أنت تعرف علمي باللغة العربية.

علي: هما في سورة التكوير.. في قوله تعالى:{ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)}(التكوير)

الفلكي: أرني الآية في المصحف.

أراه عليا إياها، فراح يتأمل فيها، ويقول بينه وبين نفسه: القسم بالخنس.. هذه الكلمة من فعل (خَنَسَ)، أي اختفى ولذلك سُمِّي الشيطان بـ (الخنَّاس) أي الذي لا يُرى.. فـ (الخُنّس) هي الأشياء التي لا تُرى أبداً.. وهذا ينطبق تمام الانطباق على الثقوب السوداء.. بل لأجلها سميت ثقوبا سوداء.

و(الجوارِ) التي هي صفة الخنس مشتقة من الجري.. أي هي التي تجري وتسير بحركة محددة.. وهذا أيضا وصف صحيح ودقيق للثقوب السوداء.

 و(الكُنّس): من فعل (كَنَسَ) وهي تدل على معنيين: أحدهما يدل علي سفر شئ عن وجه شئ وهو كشفه، والأصل الآخر يدل علي الاستخفاء‏، فالأول كنس البيت‏، وهو سفر التراب عن وجه أرضه‏، والمكنسه آلة الكنس‏، والكناسة ما كنس‏.‏

والأصل الآخر‏:‏ الكناس‏:‏ بيت الظبي‏، والكانس‏:‏ الظبي يدخل كناسه.

وقد يكون الكنس جمع كانس‏ (أي قائم بالكنس‏)‏.. أو مختف من كنس الظبي أي دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر‏.. وسمي كذلك لأنه يكنس الرمل حتى يصل إليه‏.‏

فالكنس إذن يدل على الاختفاء، ويدل على القائم بعملية الكنس.

وهذا معنى صحيح.. بل دقيق جدا، فهذه الثقوب تكنس السماء.. تكنس كل ما تمر به، أو يمر بها.. إنها تجذبه كما تجذب المكنسة الأوساخ.

سكت قليلا، ثم قال: هذه الصفات لا تنطبق بكمالها إلا على الثقوب السواد.. بل على الخنس الجواري الكنس.. هذا مصطلح أفضل من مصطلح (الثقوب السوداء).. إن القرآن يعلمنا كيف نعبر..

علي: هل ترى في اصطلاح (الثقوب السوداء) تقصيرا حتى رضيت هذا المصطلح القرآني بدلا عنه؟

الفلكي: أجل.. فالعلم عندما يسمي هذه الكائنات بالثقوب السوداء يخطئ خطأ كبيرا.. فهذه التسمية غير دقيقة.. فكلمة (ثقب) تعني الفراغ، والأمر ليس كذلك، فهذه النجوم ذات أوزان ثقيلة جداً.. وكلمة (أسود) أيضاً غير صحيحة علميّاً، فهذه النجوم لا لون لها لأنها لا تُصدر أي أشعة مرئية.

لذلك فإن كلمة (الخُنَّسْ) هي الكلمة المعبِّرة تعبيراً دقيقاً عن حقيقة هذه الكائنات.

بل إن كلمة (الكُنَّس) التي عبَّر بها القرآن عن حقيقة هذه النجوم، نجدها في آخر المقالات العلمية عن هذه المخلوقات.. حتى أن العلماء يقولون عنها:(إنها تكنُسُ صفحة السماء)

سكت قليلا، ثم قال: هذا إعجاز لا يطيق معرفته بشر.. لو لم يكن في القرآن من علم الفلك إلا هذا لكفى.

الشمس:

علي: فلنقترب قليلا من الكائنات المحيطة بنا.. حدثني عن الشمس.. ذلك النجم الذي أفاض القرآن الكريم في ذكره.

الفلكي: الشمس هي النجم الذي تتبعه أرضنا، فتدور حولها مع باقي أفراد المجموعة الشمسية‏، وتدور معها حول مركز المجرة‏، وهي أقرب نجوم السماء إلينا‏.. وهي تبدو لنا قرصا صغيرا في السماء مع أن حجمها يزيد عن مليون ضعف حجم الأرض نظرا لبعدها الشاسع عنا‏.‏

وتقدر درجة حرارة لب الشمس بحوالي ‏15‏ مليون درجة مطلقة‏، ودرجة حرارة سطحها حوالي ستة آلاف درجة مطلقة، بينما تصل درجة الحرارة في هالة الشمس إلى مليوني درجة مطلقة.

جري الشمس:

علي: لقد ورد في القرآن آيات عن حركة الشمس وجريها طعن فيها بعض الناس.. فأرجوا أن تنبئني من علمها.

الفلكي: اقرأها علي..

علي: لقد أخبر القرآن أن الشمس تجري لمستقر لها، فقال تعالى:{  وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(يس: 38)

وذكر ذلك في آيات أخرى، فقال:{ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } (يّـس:40)، وقال:{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } (الرعد:2)، وقال:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } (لقمان:29)، وقال:{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } (فاطر:13)

الفلكي: هذه آيات عظيمة كل آية تتحدث عن معجزات علمية لم يفطن العلم الحديث ـ مع ما أوتي من وسائل ـ إلا لبعض ما تدل عليه.

ولكني سأكتفي هنا بالحديث عما طلبته مني.

نعم صدق القرآن فيما تحدث به عن جري الشمس.. فالشمس في حالة جري مستمر حتى تصل إلى مستقرها المقدّر لها، وهذه الحقيقة القرآنية لم يصل إليها العلم الحديث إلا في القرن التاسع عشر، حيث كشف العالم الفلكي (ريتشارد كارينغتون) أن الشمس والكواكب التي تتبعها تدور كلها في مسارات خاصة بها وفق نظام ومعادلات خاصة([35]).

علي: فهل استطاع العلم الحديث التوصل إلى بعض ما يرتبط بحركتها هذه؟

الفلكي: أجل.. فالشمس تجري بسرعة 220كلم/ثانية حول مركز المجرة اللبنية ساحبة معها الكواكب السيارة التي تتبعها، بحيث تكمل دورة كاملة حول مجرتها كل مائتين وخمسين مليون سنة.

فمنذ ولادتها التي ترجع إلى 4.6 مليار سنة، أكملت الشمس وتوابعها 18 دورة حول المجرة اللبنية التي تجري بدورها نحو تجمع من المجرات، وهذا التجمع يجري نحو تجمع أكبر هو كدس المجرات، وكدس المجرات يجري نحو تجمع هو كدس المجرات العملاق، فكل جرم في الكون يجري ويدور ويسبح.

لقد صدق القرآن.. بل عبر أحسن تعبير عندما قال في الآيات التي تلوتها علي:{ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(يس: 40)

علي: لقد ذكر القرآن أن للشمس مقرا تنتهي إليه، فهل وصل العلم إلى معرفة هذا المقر؟

الفلكي: إن علماء الفلك يقدّرون بأن الشمس تسبح إلى الوقت الذي ينفد فيه وقودها فتنطفىء.. أنت تعلم أن النجوم ـ كسائر المخلوقات ـ تنمو وتشيخ، ثم تموت، وقد ذكر علماء الفلك في وكالة الفضاء الأميركية (NASA) أن الشمس عندما تستنفذ طاقتها تدخل في فئة النجوم الأقزام، ثم تموت وبموتها تضمحل إمكانية الحياة في كوكب الأرض.

وقد ذكرت هذه الوكالة الفضاء أن الذي يظهر أن الشمس قد كانت نشطة منذ 4.6 بليون سنة وأنه عندها الطاقة الكافية لتكمل خمسة بليون سنة أخرى من الآن.

التفت إلى علي، وقال: هذا هو المعنى العلمي الذي أعطاه العلماء لمستقر الشمس، وهو قاصر كثيرا عن مراد القرآن.. فما ذكر في القرآن يدل على أن هذا المستقر الذي تنتهي عنده معلوم التفاصيل.. وهو ما لم ندركه لحد الآن.

ثم قال بينه وبين نفسه: ولكن من أدرى محمدا بهذه الحقائق.. إنها حقائق عظيمة لم يدركها العلم الحديث إلا بعد أن استعمل كل الوسائل، وبذل كل الجهود، حتى أنه في عام 1543 نشر العالم (كوبرنيكوس) كتابه عن الفلك والكواكب وأرسى في كتابه نظرية دوران الأرض حول الشمس، ولكنه اعتبر أن الشمس ثابتة.

ثم بدأت تتحول هذه النظرية إلى حقيقة بعد اختراع التلسكوب، وبدأ العلماء يميلون إلى هذه النظرية تدريجياً إلى أن استطاع العالم الفلكي (غاليليو) أن يصل إلى هذه الحقيقة عبر مشاهداته الدائمة وتعقّبه لحركة الكواكب والنجوم، وكان ذلك في القرن السابع عشر، وفي القرن نفسه توصّل (كابلر) إلى أن الكواكب لا تدور حول الأرض فحسب بل تسبح في مدارات خاصة بها إهليجية الشكل حول مركز هو الشمس.

وبقي الأمر على ما هو عليه إلى أن كشف (ريتشارد كارينغتون) في منتصف القرن التاسع عشر أن الشمس تدور حول نفسها خلال فترة زمنية قدرها بثمانية وعشرين يوماً وست ساعات وثلاث وأربعين دقيقة وذلك من خلال تتبّعه للبقع السوداء التي اكتشفها في الشمس كما جاء في وكالة الفضاء الأميركية.

الشمس سراج:

علي: لقد وصف الله تعالى الشمس بكونها سراجا، بل سماها كذلك، فقال تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} (الفرقان:61)، وقال تعالى:{ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} (نوح:16)، وقال تعالى:{  وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} (النبأ:13)

الفلكي: صدق القرآن في هذا.. بل اختار أحسن تعبير يصف به الشمس، فهذه التسمية دقيقة جداً من الناحية العلمية.

ذلك أن السراج هو الوعاء الذي يوضع فيه الوقود ليحترق، ويعطي الحرارة والضوء..

وآلية عمل الشمس والتفاعلات النووية الحاصلة في داخلها تؤيد هذه التسمية، ذلك أن تركيب الشمس ونظام عملها عبارة عن وعاء مليء بالهيدروجين الذي يحترق باستمرار بطريقة الاندماج، ويبث الحرارة والضوء.

فالشمس ـ بذلك ـ عبارة عن فرن نووي ضخم وقوده الهيدروجين الذي يتفاعل باستمرار تفاعلاً اندماجياً، وينتج عنصر الهيليوم الأثقل منه مما يؤدي لإطلاق كميات كبيرة من الحرارة والنور.

سكت قليلا، ثم قال: إن هذه الآية تحدد الآلية الهندسية لعمل الشمس، قبل أن يكتشفها علماء الفلك بقرون طويلة.

كسوف الشمس:

علي: لقد ورد حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كسوف الشمس.. أرجو أن توضحه لي.. لقد روي أن الشمس انكسفت يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها، فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي)

الفلكي: أهذا حديث صحيح عن نبيكم؟

علي: أجل.. هو صحيح.. وقد رواه الثقاة عن الثقاة.

الفلكي: هذا الحديث لا يقل روعة ولا عظمة ولا علما عما سبق ذكره.

علي: كيف ذلك.. وأنا لا أراه يتحدث عن أي جديد يتعلق بعلم الفلك، فالكسوف والخسوف ظاهرتان معروفتان من قديم([36]).

الفلكي: ولكن محمدا تحدث عنها بطريقة مخالفة.. مخالفة تماما لما اشتهر في زمانه:

لقد كان الكثير من الناس قبل آلاف السنين يعتقدون أن الكسوف هو نتيجة لتصارع الآلهة، وكانت بعض الشعوب في الصين يرمزون للشمس بأنها طائر ذهبي، ويرمزون للقمر بضفدع وعند حدوث الكسوف فإن معركة ما تدور بين هذين الرمزين.

أما قبائل الأمازون فكانوا يعتقدون أن القمر أثناء الخسوف قد رماه أحد الأطفال بسهم في عينه مما أدى إلى نزيف في هذا القمر، ثم يُشفى القمر بعد ذلك ويعود لوضعه الطبيعي.

وكان الصينيون يفسرون ظاهرة كسوف الشمس على أن تنّيناً يحاول أن يبتلع قرص الشمس، لذلك كانوا يضربون بالطبول، ويقذفون بالسهام لأعلى محاولة منهم إخافة التنين وإعادة الشمس لهم من فمه.

وفي الهند كان الناس يغمرون أنفسهم بالماء عند رؤيتهم هذه الظاهرة لكي لا يسقط عليهم شيء منه..

ولغاية قرون قليلة، وفي عام 1230 م حدث كسوف في أوروبا الغربية في الصباح مما اضطر العمال للرجوع إلى منازلهم لظنهم أن الليل قد خيم.. لكن في غضون ساعة استعادت الشمس سطوعها مما أدهش الجميع.

وحتى يومنا هذا يعتقد الإسكيمو أن الشمس تختفي وتذهب بعيداً أثناء ظاهرة كسوف الشمس ثم تعود من جديد.

وفي ظل هذه الأساطير كان العرب ينظرون إلى كسوف الشمس على أنه يمثل موت إنسان عظيم، أو خسارة معركة عظيمة.

ولكن محمدا نظر إلى هذه الظاهرة نظرة علمية محضة، لقد أخبرهم أن الشمس والقمر مخلوقات وآيات مسخرة لله، ولا علاقة لهما بما يحدث على الأرض من ولادة أو موت أو غير ذلك.

وفي هذه العبارة وضع محمد أساساً للبحث العلمي في الظواهر الكونية على اعتبار أنها آيات من عند الله ومخلوقات تخضع لإرادة خالقها.

زيادة على ذلك، فإن هنالك شيئا مهما يثبت أن محمداً لم يكن من الصنف الذي يريد الشهرة أو المال.. فقد جاءه من يمدحه ويجعل من كسوف الشمس مناسبة لموت ابنه، وكان في إمكانه أن يسكت عن هذا الأمر، وأن يترك الناس يقدسونه ويرفعون من شأنه.

لو كان محمد يحب المديح والثناء لتركهم يتحدثون عن كسوف الشمس، وأنها انكسفت بسبب موت ابنه، وهذا سيزيده علوّاً عند قومه.. ولكنه لم يفعل كل ذلك.. إن هذا يجعلني أصدق في البحث عن محمد.. وعن حقيقة محمد التي أساء قومنا تصويرها.

علي: ألا ترى في الأمر بالصلاة عند الكسوف شيئا.. لكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا ينهى المسلمين عن رؤية كسوفها.. فصلاة الكسوف هي أطول صلاة في الإسلام، ولها هيئة تستدعي طولها، بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن لا ينصرف من الصلاة حتى يرتفع الكسوف.

الفلكي: وهذا إعجاز آخر.. إن محمدا بهذا التشريع قد أفاد فوائد جمة:

أولا.. في انصراف المسلمين للصلاة وقاية لأعينهم من الأشعة تحت الحمراء الخطيرة الناتجة عن الرؤية المباشرة للشمس، والتي قد تسبب العمى الدائم.

وثاينا.. أراد محمد أن يقي الناس من كل تلك الخرافات التي تجعلهم ينظرون إلى الظاهرة بعين الخرافة الشعوذة.

وفوق ذلك كله، فإن محمدا يقرب الخلق إلى ربهم.. ويستعمل هذا الحادث وسيلة لذلك.

إن هذا الحديث آية من آيات الإعجاز.. وتصرف محمد تصرف ينبئ عن الحكمة والعلم والعبودية.

علي: لقد ورد في الحديث قوله:(حتى ينجلي) ألا يحمل هذا اللفظ أي إشارة علمية؟

الفلكي: بلى.. هو يشير إلى جلاء القمر أي ذهابه من أمام الشمس؟

علي: كيف ذلك؟

الفلكي: ظاهرة الكسوف تتعلق بثلاثة أجرام هي الشمس والقمر والأرض، فالقمر يدور حول الأرض بفلك محدد، والأرض تدور مع قمرها بفلك محدد حول الشمس، وهذه المدارات تتشابك مع بعضها.

علي: لقد أشار القرآن الكريم على هذا، فقال:{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } (الانبياء:33)

الفلكي: وعلى الرغم من ذلك يبقى كل جرم من هذه الأجرام محافظاً على مداره، ولا يحدث أي صدام في هذه المنظومة الكونية العجيبة.

علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، فقد قال تعالى:{  لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40)

الفلكي: ولكن الذي يحدث أحياناً أن القمر يمرّ من أمام الشمس فيحجب ضوءها عنا، وهذا ما يسمى بكسوف الشمس.. وإذا مرّ القمر بشكل كامل أمام الشمس، فإن الشمس تختفي بشكل كامل.. وهنا يحدث الكسوف الكلي، أما إذا مرّ القمر بشكل يحجب قسماً من ضوء الشمس، فهذا ما يسميه العلماء بالكسوف الجزئي.

علي: فكيف يحدث خسوف القمر؟

الفلكي: هذا واضح أيضا من خلال ما سبق.. فاختفاء القمر لفترة من الزمن ناتج عن وقوع الأرض بين الشمس والقمر، فتحجب الأشعة المنعكسة عن القمر، فنظن أن القمر اختفى ولا يُرى منه إلا آثار بسيطة.. ولذلك، فإن الذي يجلس على القمر في هذه اللحظة أي لحظة خسوف القمر، فإنه يرى كسوف الأرض، أي أنه لن يرى الأرض، ولكن يرى ظلها لأن الشمس تقع خلفها، وسوف تظهر الأرض من على القمر محاطة بحلقة حمراء رائعة.

وخسوف القمر يحدث مرة على الأقل في كل عام، وعند حدوث الكسوف الكلي للقمر يمكن رؤيته بسهولة من أي مكان على الأرض بشرط أن يكون في الجهة المقابلة للقمر.

المجموعة الشمسية:

علي: فحدثني عن مجموعتنا الشمسية‏.. تلك المجموعة التي ننتمي إليها ([37]).

الفلكي: تضم مجموعتنا الشمسية بالإضافة إلى الشمس كواكب تسعة، هذا ترتيبها بحسب قربها من الشمس: عطارد‏، والزهرة‏، والأرض‏، والمريخ‏، والمشتري‏، وزحل‏، ويورانوس‏، ونبتيون‏، وبلوتو‏، ثم مدارات المذنبات التي لم تعرف لها حدود.

وهذا بالإضافة إلى  عدد من التوابع‏ (الأقمار‏)‏ التي يقدر عددها بواحد وستين تابعا تدور حول بعض من هذه الكواكب‏.

بالإضافة إلى هذا هناك آلاف الكويكبات المنتشرة بين كل من المريخ والمشتري، والتي يعتقد بأنها بقايا لكوكب منفجر.. وآلاف الشهب والنيازك‏.. وكميات من الدخان‏(الغاز الحار والغبار‏)

وتتباين هذه الكواكب في طبيعتها وكثافتها كما نصت الآية، أما الكواكب الأربعة الداخلية ‏(عطارد‏، والزهرة‏، والأرض‏، والمريخ‏)‏ فهي كواكب صخرية‏.. وأما الكواكب الخارجية ‏(من المشتري إلى بلوتو‏)‏ فهي كواكب غازية تتكون من عدد من الغازات المتجمدة علي هيئة جليد ‏(مثل بخار الماء، وثاني أكسيد الكربون‏، والأمونيا‏، والايدروجين، والهيليوم‏)‏ حول لب صخري ضئيل‏.‏

القمر:

علي: فحدثني عن أقرب لبنة يتكون منها بنيان السماء.

الفلكي: تقصد القمر([38]).

علي: أجل.. فقد تحدث عنه القرآن الكريم كثيرا باعتباره من نعم الله على هذه الأرض، وعلى أهلها.. فقد ورد ذكره سبعا وعشرين مرة في القرآن الكريم، كفاه بذلك شرفا.

وقد اعتبره ـ كجميع الكون ـ يسبح في الفلك، مسخرا، يسير بقدرة الله إلى أجله المسمى، قال تعالى:{  وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (لأعراف: 54)، وقال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد:2)، وقال تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (ابراهيم:33)، وقال تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل:12)

الفلكي: القمر تابع صغير للأرض يبعد عنها بمسافة تقدر في المتوسط بحوالي‏384،400‏ كيلومتر‏، وهو علي هيئة شبه كرة من الصخر غير كاملة الاستدارة إذ لها شكل البيضة التي تتجه بنهايتها الصغيرة تجاه الأرض‏، وتقدر كتلة القمر ‏(حوالي‏81/1‏ من كتلة الأرض‏)، ويقدر حجمه ‏(حوالي‏50/1)‏ من حجم الأرض‏)، ويقدر متوسط كثافته بحوالي ثلثي متوسط كثافة الأرض)، ويقدر قطره ‏(حوالي ربع قطر الأرض تقريبا‏)‏، وتقدر مساحة سطحه ‏ (حوالي‏13،42بالمائة‏ من مساحة سطح الأرض‏)‏ وتقدر جاذبيته بحوالي سدس جاذبية الأرض‏.‏

علي: لقد ربط القرآن الكريم القمر بالحساب، فمن نعم الله علينا، والتي كان القمر وسيلتها هو اعتباره كالشمس وسيلة لحساب الزمن، قال تعالى:{  فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الأنعام:96)، وقال تعالى:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن:5)

وقد أخبر القرآن الكريم عن ارتباط حسابها ببعض العبادات، فقال:{ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189)

علي: ليحدث ذلك، يتحرك القمر ـ باعتباره تابعاً للأرض ـ حول الأرض فيتم دورته حولها في مدة تقارب 29.5يوماً، وهو ما يسمى بالشهر القمري أو العربي، لتفريقه عن الشهر الشمس أو الغربي، الذي مدته حوالي 30.5يوماً، وهو مشتق من حركة الأرض حول الشمس، التي تتم في اثني عشر شهراً شمسياً، وتقدر بحوالي 365يوماً، وهي السنة الشمسية، أما السنة القمرية التي تعادل اثني عشر شهراً قمرياً فتقدر بحوالي 354 يوماً.

و لو كانت الأرض لا تدور حول نفسها، لرأينا القمر يسير ببطء زائد، حتى أنه يدور دورة واحدة فقط حول الأرض في مدة 29.5 يوماً، ولكن حركة الأرض حول نفسها تجعلنا لا نلحظ مقدار حركة القمر الصحيحة إلا إذا راقبناه يومياً في نفس الوقت، فبمقدار ما يكون قد علا على الأفق يكون مقدار مسيره الحقيقي.

وبما أنه يتم دورته الكاملة في حوالي 30يوماً، وهي تعادل على الأرض 24ساعة، إذن يتأخر غروب القمر كل يوم عن اليوم السابق بمقدار 30/24من الساعة أي 5/4 الساعة، أي نحو 48دقيقة، أي بمعدل ثلاثة أرباع الساعة كل يوم تقريباً.

وهذا الارتفاع التدريجي للقمر نحو كبد السماء باتجاه الشرق يوماً بعد يوم يسمح له باظهار نصفه المضيء بالتدريج، الذي يستمد نوره من الشمس بالنسبة للأرض، والأرض بينهما تقريباً، ويظهر بدراً كاملاً يطلع من الشرق عند المغرب، ثم بعد نصف الشهر ينتابه  النقصان من جديد حتى يعود إلى المحاق، حيث يقع بين الشمس والأرض، ويكون وجهه المضيء تجاه الشمس، ووجهه العاتم تجاه الأرض.

علي: لقد ذكر الله منازل القمر، فقال:{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} (يّـس:39)، والعرجون القديم هو عرق النخل الذي تشكل منذ عام أو أكثر، فالهلال يكون مقوساً مثله.

الفلكي: ذلك صحيح.. وهو تشبيه رائع.. فالقمر ـ أثناء دورانه ـ حول لأرض يمر بوضعية ينطبق فيها ظاهرياً على الشمس، وهذا يوافق المحاق، فإذا علا قليلاً عنها بالنسبة للناظر من الأرض يقال عنه إنه ولد، لأن الجزء السفلي من وجهة المضيء يبدأ بالظهور.. ويكون شكل الهلال عندها مثل الحرف (ر).

بيد أن العين البشرية لا تستطيع رؤية القمر بعد ولادته إذا كان عمره أقل من ثماني ساعات، وذلك لشدة قربه من الشمس وتأثير ضوئها على وضوحه.

وبما أن القمر يكتمل نوره في 16 يوما تقريباً، فإن إضاءة نصفه تعادل 8 أيام تقريباً وإضاءة ربعه تعادل 4 أيام تقريباً وهكذا.. فمن نظرة سريعة إلى الجزء المضيء من القمر نستطيع معرفة التأريخ الشهري القمري بخطأ لا يتجاوز اليوم الواحد.

علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى الفرق بين السنة القمرية والسنة الشمسية في قوبه تعالى:{ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} (الكهف:25)، فإذا حسبنا المدة على حساب السنة الشمسية تكون 300 سنة، وإذا حسبنا ها على السنة القمرية تكون 309 أي بفارق تسع سنين.

الفلكي: ذلك صحيح .. فقد عرفنا أن السنة الشمسية تعادل 365 يوماً، وأن السنة القمرية تعادل 354 يوماً، الفرق بينهما 365 – 354 = 11 يوماً.

ويتراكم هذا الفرق مع توالي السنين (كل سنة 11يوماً)، فيصبح كل ثلاثة سنوات شهراً تقريباً، فإذا وقع أول المحرم في أول نيسان مثلاً، فبعد ثلاث سنوات يصبح أول المحرم في أول آذار، وبعد ثلاثة سنوات في أول شباط.. وهكذا يتراجع إلى الوراء شهراً كل ثلاث سنوات.

ويعود التطابق بين التقويمين الشمسي والقمري كل 33 سنة حيث أن كل 32 سنة شمسية تعادل 33 سنة قمرية، بفرق يومين فقط، أي يعود الوضع النسبي بين الشمس والقمر والأرض متماثلاً كل 33 سنة.

وبذلك، فإنه كلما مضى مائة سنة شمسية تمضي 103 سنة قمرية، أي بزيادة ثلاثة سنوات كل مائة سنة.

علي: لقد وصف القرآن الكريم ـ في معرض حديث الله عن نعمه على عباده ـ بأنه جعل القمر منيرا، فقال تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً}(الفرقان:61)

وكلمة منير في اللغة اسم فاعل، وهذا يعني أن القمر فيه شيء من خصائص الإنارة، لأن اسم الفاعل يشير إلى من قام بالفعل، أي ليست الشمس فقط هي التي تنير، بل القمر فيه هذه الميزة.

ومع ذلك، فإن القمر ـ كما ينص القرآن الكريم ـ ليس جسماً متوهجاً مثل الشمس، والتي سماها القرآن بالسراج، ففرق بين السراج والقمر المنير، وأعطى لكل منهما الصفة الحقيقية التي تناسبه.

فهل وجد في العلم ما يمكن أن يدل على هذه الخصائص التي يتمتع بها القمر ليصبح قادرا على الإنارة؟

الفلكي: أجل.. وذكر القرآن لذلك من العجائب.. فقد قام فريق من الباحثين بأخذ عينة من تربة القمر التي تم إحضارها بواسطة رواد مركبة الفضاء (أبولو)، ومعالجتها في الفراغ بطرق هندسية متطورة لاستخدامها في تصنيع خلايا للطاقة الشمسية.

علي: ما علاقة تراب القمر بالطاقة الشمسية؟

الفلكي: أنت تعلم أن مهمة الخلية الشمسية هي تحويل الضوء أوالإنارة القادمة عليها إلى تيار من الإلكترونات، أو بكلمة أخرى تحويل النور إلى كهرباء.

علي: ولكن كيف تتم هذه العملية، ونحن جميعاً نعلم بأن القمر كوكب جامد لا ينتج أي إنارة، بل كل ما يقوم به هو عكس الأشعة القادمة إليه من الشمس ليصلنا النور المعكوس من على سطحه إلى الأرض؟  

الفلكي: كانت هذه المعلومة هي السائدة قبل صعود الإنسان إلى القمر.. ولكن عندما صعد الإنسان لأول مرة إلى القمر تغيرت هذه المعلومة.

علي: كيف ذلك؟

الفلكي: لقد أحضر رواد الفضاء معهم عينات من تراب القمر وصخوره، وقام بفحصها بالمجاهر الإلكترونية وتحليل مادتها بالأجهزة الكيميائية، وكانت النتيجة أن تراب القمر المأخوذ من على سطحه، أي الطبقة الظاهرة لنا يتألف من 50 بالمئة من مادة أكسيد السيليكون وأكاسيد معدنية أخرى مثل أكسيد الألمنيوم وأكسيد الحديد.

وأكسيد السيليكون هو الذي تم استخدامه في العقود الماضية لصناعة العناصر الإلكترونية، وعنصر السيليكون هو من العناصر شبه أو نصف الناقلة للكهرباء، وله مزايا تجعله العنصر الأساسي في التكنولوجيا الرقمية اليوم.

فهذا الاكتشاف العلمي يؤكد أن سطح القمر لا يعكس النور فحسب، بل هنالك خصائص في ترابه تجعله يكتسب خاصية الإنارة، وتحويل النور لتيار كهربائي، وقد يحوي هذا التراب على خاصية تحويل الكهرباء إلى نور.

علي: كيف يكون ذلك؟

الفلكي: هاتان العمليتان متعاكستان، وملخصهما ـ كما نراهما في التجارب الحديثة ـ هو أنه عندما يسقط الشعاع الضوئي على التربة القمرية، فإن الفوتونات الضوئية الآتية من خلال هذا الشعاع تصطدم بذرات التراب، وتؤدي لحركة منظمة في الإلكترونات وانتقال هذه الإلكترونات عبر المادة نصف الناقلة (السيليكون) مما ينتج تياراً كهربائياً يمكن الاستفادة منه.

أما العملية المعاكسة، فتتلخص بأننا إذا حرضنا تياراً كهربائياً في ذرات هذا التراب، فإنه سيحرك الإلكترونات ويجعلها تقفز في مداراتها حول الذرات مما ينتج الفوتونات الضوئية أو النور، وهذه العملية قد يتمكن العلماء من تحقيقها مستقبلاً.

سكت قليلا، ثم قال: لقد ذكرني حديثك هذا بكتاب في الخيال العلمي.. فقد كتب أحد كتاب الخيال العلمي رواية منذ نصف قرن، وهو جون كامبل، ذكر فيها أن رجالاً صعدوا للقمر بمركبة فضائية، وعندما نفد وقودهم وأشرفوا على الهلاك خطرت ببال أحدهم فكرة تصنيع خلايا ضوئية من تراب القمر، مما مكنهم من الحصول على بعض الطاقة وعادوا إلى الأرض سالمين. 

علي: ما أوسع خيال هذا الرجل..

الفلكي: لقد أذهلت هذه الرواية المنشورة عام 1951 القراء لسعة خيال هذا الكاتب، فكيف استطاع التنبؤ ـ في ذلك الوقت ـ بإمكانية استخدام تراب القمر لصناعة خلية شمسية.. مع أن هذا التنبؤ جاء منذ قرابة نصف قرن فقط، وعلى يد أحد كبار الأدباء والذي استفاد من العلوم المتوفرة له، ومن الاكتشافات الكثيرة التي تمت في عصره الذي انتشرت فيه علوم الإلكترونيات والذرة ومهدت لعصر الفضاء.

ولكن محمدا.. ذلك الرجل الأمي البسيط.. في تلك المنطقة النائية من العالم.. وفي ذلك الزمن الغابر من التاريخ.. كيف عرف كل هذا؟

علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى أن القمر كان مشتعلا، ثم انطفأ في قوله تعالى:{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} (الاسراء:12)، فآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، وقد قال ابن عباس في الآية:(لقد كان القمر يضيء كالشمس فطمسنا ضوءه)

الفلكي: ذلك صحيح ([39]).. فالقمر والأرض والمريخ وكل كواكب المجموعة الشمسية عندما بدأت كانت كلها مشتعلة، وسبب ذلك هو أن المواد عندما أخذت تتجمع مع بعضها بعد انفجار الشمس الأم لتكوِّن محيطاً فتندفع إليها القطع الباقية حولها بسرعة جبارة بسبب الجذب ويزداد ارتطام هذه القطع على الكوكب المتكون فتزيد من حرارته زيادة كبيرة حتى تصل إلى درجة انصهار سطحه كله، وهذا الانصهار يصح أن يمتد إلى سمك حوالي 300 كيلومتر في عمق الكوكب المتكون مع جميع الجهات.

وهذا الصهير لونه أحمر مثل النار  والصخور تكون منصهرة وسائلة، وهذا يعني أن درجة الحرارة أكبر بكثير من درجة حارة النار التي نعرفها.

وفي هذا الصهر الصخري أو الصخور السائلة تبدأ عمليات انفصال المعادن، فتأخذ المعادن الثقيلة في الغوص إلى تحت، وتطفوا العناصر الخفيفة إلى فوق، ونحن نعلم أن هذا قد حدث في قشرة القمر.

موازين السماء

علي: لقد ذكر القرآن الكريم في مواضع كثيرة دقة الصنع الإلهي للكون، وأنه مبني على حسابات دقيقة، فلهذا { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } (يّـس:40)

بل إن الله تعالى يعبر عن الموازين التي تضبط الكون، لئلا يختل اتزانه، فيقول:{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } (الرحمن:7)

الفلكي: إن القرآن يشير بهذه النصوص إلى أعظم مظاهر الكون، فالكون مؤسس على أنظمة دقيقة متوازنة، لا يمكن أن يتصور عقل بشري مدى الضبط الذي ضبطت به.

علي: الله تعالى يخبرنا في القرآن عن علم الله بتفاصيل الأشياء التي قد لا نلقي لها بالا، فهو يقول:{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } (الأنعام:59)

ومثل ذلك قدرة الله التي لا يعجزها شيء دق أو جل، قال تعالى على لسان لقمان، وهو يعظ ابنه:{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } (لقمان:16)

الفلكي: إن القرآن يضع الأمور في محالها.. فلا يمكن لخالق هذا الكون الدقيق إلا أن يكون بهذه الأوصاف.

لقد قرأت الكتاب المقدس في بداية حياتي، وكان في عقلي وقلبي شوق كبير للتدين، ولكني حجبت بما فيه.. إن الله ـ على حسب ما في الكتاب المقدس ـ أميل إلى الجهل والطيش والغفلة منه إلى العلم والعدل والنظام.

لقد قرأت هذه النصوص وغيرها، ثم ذهبت إلى الكون أتلمس ذراته ومجراته وأفلاكه، فوجدت أنه يستحيل على خالق هذا الكون أن يكون بتلك الأوصاف التي يطلقها عليه الكتاب المقدس.

إن كثيرا ممن هم مثلي لم ينحجبوا عن الدين.. لأنه دين.. ولم ينحجبوا عن الله، لأن علمهم أبعدهم عن الله.. وإنما حجبوا لأن الله الذي تصوره الأديان لا يتناسب مع الله الذي تصوره الأكوان([40]).

علي: ولكن الله الذي يصوره الإسلام خلاف الله الذي يصوره الكتاب المقدس، فالله في القرآن عليم قدير منزه عن كل نقص، بل منزه عن كل كمال تفرزه تصوراتنا القاصرة.. فالله ليس له كفو ولا شبيه ولا نظير.

والله يخبر عما وصفته عن العلماء، فيقول:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ  } (فاطر: 28).. هذه الآية لا تتحدث عن علماء الدين، بل هي تتحدث عن علماء الكون، فقد سبقت بالحديث عن الظواهر الكونية، فالله تعالى يقول قبلها:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}(فاطر)

بل إن الله تعالى يعتبر العلماء من أكابر الشهود الدالين على الله، فيقول:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (آل عمران:18)

كان الفلكي يسمع حديث علي بانتباه شديد، وكأنه قد وجد عنده ما ظل يبحث عنه طول حياته.

علي: حدثني عن تفاصيل ما ذكره القرآن عن نظام الكون واتزانه ودقته.

الفلكي: كي تدرك النظام الدقيق الذي بني به الكون تحتاج إلى معرفة القانون الثاني في الترموديناميك([41]).

علي: أعرف هذا القانون.. إنه ينص على أن جميع الأنظمة في الكون إذا تركت للظروف الطبيعية، فإنها مع الزمن سوف تدخل في حالة من الفوضى وعدم الانتظام([42]).. وهذا القانون يدعى أيضاً بقانون (الانتروبي) 

وقد ضرب لنا أستاذنا الذي درسنا هذا القانون مثالا عنه بأننا إذا تركنا سيارة وهجرناها لمدة سنة أو حتى لمدة شهرين، من المحتمل أننا سنلاحظ أن الإطارات فارغة ومسواة بالأرض والنوافذ محطمة وأجزاء الجسم والمحرك متآكلة صدئة.

وبطريقة مماثلة إذا أهملنا العناية بالبيت لبضعة أيام، فسوف نجده مغبراً وأكثر فوضى مع مرور الوقت..

الفلكي: هذا نوع من الأنتروبي.. وهو يقرب لك صورة الكون، ودلالة النظام فيه على وجود المنظم.

علي: لقد صرح القرآن بهذا.. فقال:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } (الانبياء: 22)

الفلكي: صدق القرآن.. لقد اتفق كل العلماء على هذا.. فالقانون الثاني في الترموديناميك مقبول بشكل واسع.. لقد كان (أينشتاين) يقول عنه:(إن ذلك القانون هو أول قانون في جميع العلوم)، كما أن العالم الأمريكي (جيرمي زفنك) علق في كتاب (الإنتروبي، نظرة العالم الجديد)، فقال:(قانون الأنتروبي سوف يسيطر كقانون نموذجي في الفترة التاريخية التالية)، أما السير (آرثر أدينغتون) فقد أرجع ذلك القانون إلى كونه قانوناً ميتافيزقياً أسمى لكل الكون.

إن قانون الأنتروبي يعالج كثيراً من قضايا المادية غير الصالحة من البداية، لأنه إذا كان يوجد تصميم ونظام في الكون، فإن القانون ينص على أنه مع مرور الوقت فإن هذه الحالة سوف تزول من قبل الكون ذاته.

علي: لقد نص القرآن على هذا عندما ذكر قيام الله بحفظ الأشياء، وذلك في نصوص كثيرة من القرآن الكريم:

فالله تعالى يقول في آية الكرسي، المعرفة بالله، وعلاقته بالكون:{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } (البقرة:255)

فاسم القيوم الذي هو من أسماء الله الحسنى يدل على قيام الله العظيم بشؤون كل مخلوقاته.

بل إن الله أخبر أنه لولا إمساكه السموات والأرض لزالتا، فقال:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } (فاطر:41)

الفلكي: أجل.. كل ذلك صحيح.. والنظام الكوني يدل على كل ذلك.. لا بد أن يكون إله هذا الكون كما ينص القرآن.. هكذا تنطق قوانين الكون.. فيستحيل على الكون إذا ترك وحده أن يبقى إلى الأبد، والقانون الثاني يقول أنه بدون تدخل خارجي من نوع ما، فالأنتروبي أخيراً سوف يتعاظم عبر الكون مسبباً حالة متجانسة كلياً.

أما الادعاء بأن النظام والترتيب اللذين نشاهدهما في الكون ليسا نتيجة لتدخل خارجي فهو غير صحيح، فعقب الانفجار العظيم كان الكون في حالة فوضى تامة والتي كانت ستبقى لو أن الأنتروبي تعاظم، ولكن ذلك تغير لأننا نستطيع أن نرى ذلك بوضوح بالنظر فيما حولنا، وذلك التغير حدث بالخروج عن واحد من القوانين الأساسية في الطبيعة وهو قانون الأنتروبي، ولا توجد طريقة لتعليل وتفسير ذلك التغير ما عدا افتراض وجود نوع من الخلق الفوق طبيعي (الخارق للطبيعة) 

سأذكر لك مثالاً ربما يجعل النقطة الثانية أكثر وضوحاً، تخيل أن الكون عبارة عن كهف هائل مملوء بخليط من الماء والصخور والوحل، فإذا تركنا ذلك الكهف وحيداً لبضع بلايين من السنين، ثم عدنا إليه فإننا سنلاحظ أن بعض الصخور صار أصغر حجماً وبعضها اختفى، وأن مستوى الوحل صار أعلى، وأنه صار فيه طين أكثر..

وهكذا صارت الأشياء أكثر فوضوية وبالضبط هذا ما كنا نتوقعه، ولكن إذا وجدت بعد بلايين السنين لاحقاً أن الصخور منحوتة بنعومة ولطافة وبشكل تماثيل، فأنت بالتحديد ستقرر أن هذا الترتيب لا يمكن تفسيره بقوانين طبيعية، والتفسير المعقول لذلك هو أنه من تدبير عقل مدرك واع، وهو الذي أراد لتلك الأشياء أن تكون على هذا النحو.

الدقة:

علي: إن أول ما يتطلبه النظام أن يوضع كل شيء في محله المناسب له.

الفلكي: هذا يعبر عنه بالدقة التي خطط بها الكون، والتي بها حفظ وجوده واستقراره.. فالكون مبني على حسابات في غاية الدقة.

علي: حدثنا عن هذا.. فقد أشار القرآن إلى دقة تخطيط الله لمقاديره، فقال:{ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } (الحجر:21)، وقال:{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } (القمر:49)

الفلكي: سأحاول أن أقرب لك بعض ذلك لتدرك من خلاله تلك الدقة التي أشار إليها القرآن، بل صرح بها:

كوكب الأرض هو جزء من النظام الشمسي، ففي هذا النظام يوجد تسعة كواكب أساسية مع أربعة وخمسين تابعاً (قمرا) وعدد غير معروف من النجميات (كويكبات صغيرة كالجبال مختلفة الأحجام، وتسبح في الفضاء) تدور حول نجم واحد يدعى الشمس.. والشمس هي نجم متوسط الحجم بالمقارنة مع غيره في الكون..  والأرض هي الكوكب الثالث بعداً عن الشمس.

ولتعرف حجم هذا النظام.. فإن قطر الشمس أكبر بمئة وثلاث مرات من قطر الأرض، ولكي نتخيل ذلك نقول إن قطر الأرض هو 12.200كيلومتر، فإذا خفضناه سلمياً (عددياً) لأبعاد كرة زجاجية، فالشمس سوف تكون بحجم ملعب كرة القدم.. ولكن الشيء العجيب في ذلك هي المسافة بينهما.. وبالاحتفاظ بمقاييس هذا السلم المخفض، فالمسافة الفاصلة بين الكرتين هي 280 متراً.

وبعض الأجرام التي تمثل الكواكب الخارجية ستكون لها أبعاد قد تصل عدة كيلومترات بعيداً عن الشمس.

قد يبدو ذلك ضخماً جداً، ومع ذلك فالنظام الشمسي ضئيل جداً في الحجم إذا قورن بالطريق اللبني والذي هو مجرة تسبح فيه تلك الهباءة.. ويوجد في تلك المجرة أكثر من 250 بليون نجم بعضها يشبه شمسنا، والبعض الآخر أكبر من ذلك، وبعضها أصغر.

التوازن:

علي: النظام يحتاج إلى التوازن.. وقد أشار القرآن إلى هذا عندما عبر عن وضعه للموازين، والموازين تعني عدم طغيان شيء على شيء، فالله يقول في الآية التي فسرت الكون:{ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } (الرحمن:7)

وقد بنى القرآن على هذا الأمر بحفظ الموازين، فقال بعد هذه الآية:{ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} (الرحمن:8)

الفلكي: إن في هذه الآيات إشارات عظيمة لأمرين كلاهما له أهميته: الأول هو أن الكون قد خلق بموازين دقيقة.. والثاني أن هذه الموازين يمكن التأثير فيها بالظلم والطغيان.. لا من جانب الكون، بل من جانب الإنسان.

علي: فهلا ضربت لي مثالا على ذلك.

الفلكي: أجل .. وليكن من أقرب نظام إلينا، وهو النظام الشمسي.. فالنظام الشمسي واحد من أروع الأمثلة للتناسق الجميل الذي يمكن مشاهدته .. ففيه تسعة كواكب مع أربعة وخمسين تابعاً، وعددا غير معروف من الأجسام الصغيرة.

وفي تركيب المجموعة الشمسية نواجه مثالاً جميلاً من التوازن، وهو التوازن بين القوى النابذة، والتي يقابلها التجاذب الثقالي من أوليتها([43])، وبدون ذلك التوازن فسوف يقذف كل شيء في هذا النظام بعيداً في الأعماق الباردة للفضاء الخارجي.

ويعتبر الفلكيون من أمثال (كبلر وغاليليو) من أوائل الذين اهتموا باكتشاف ذلك التوازن الأمثل، وقد اعترف هؤلاء أن تصميمه تم بتأن وتؤدة ،و أن هناك إشارة للتدخل الإلهي في كل الكون.

وقد قال (إسحاق نيوتن) يذكر هذا التوازن (النظام الرائع للشموس والكواكب والمذنبات يمكن أن تشرق من هذف وغرض لسلطة عليا لكائن قدير وعبقري.. وهو يحكمها كلها ليس كروح بل كسيد مالك لكل الأشياء وبسبب سلطته العليا الغالبة فهو يدعى بالسيد الإله القدير)

السلامة:

علي: لقد وصف الله السماء بأنها خالية من الفروج، فقال:{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } (قّ:6)، وقد قال المفسرون في معنى { وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } أن المراد منها (ما لها من شقوق وصدوع)‏، وقد أجمع المفسرون الذين تعرضوا لتفسير هذه الآية علي اعتبار الحرف‏(ما‏)‏ في في هذه الآية حرف نفي([44]) أي ان السماء خالية من الفروج التي قد تنبيء بخلل ما في بنائها.

وقد ورد في آية أخرى الأمر بالتثبت وإرجاع البصر للتأكد من عدم وجود فطور في الكون، فقال تعالى:{  الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } (الملك:3)

وفي آيات أخرى أخبر الله تعالى أن انفراج السماء وانفطارها وانشقاقها علامة من علامات الآخرة.

فمن علاماتها كما يذكر الله تعالى في القرآن الكريم هذا الانشاق والانفطار:

قال تعالى:{ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ } (المرسلات:9)، وقال:{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً } (الفرقان:25)، وقال:{ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } (الرحمن:37)، وقال:{ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً } (الطور:9)، وقال:{)وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } (الحاقة:16)، وقال:{)يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ } (المعارج:8)، وقال:{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } (المزمل:18)، وقال:{ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً } (النبأ:19)، وقال:{ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} (التكوير:11)، وقال:{ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } (الانشقاق:1)

وهذه الآيات كلها تشير الي الآخرة‏، وتصور القيامة وأهوالها‏، وتؤكد سلامة سماء الدنيا من كل هذه الأوصاف‏.‏

الفلكي: هذه آيات عظيمة تشير إلى حقائق فلكية كثيرة.. فالسماء ليس بها فروج تنبيء بضعف بنائها([45]).

علي: ولكني أسمعهم يذكرون الفراغات في الكون أو الفجوات.

الفلكي: هذه تسمية مجازية جرهم إليها وجود مناطق مظلمة إظلاما تاما في السماء نظرا لخلوها من النجوم وتجمعاتها.. وقد سماها علماء الفلك مجازا بالفراغات أو الفجوات نسبة إلي خلوها من الأجرام المضيئة.

ومما دفع الدراسات الفلكية والفيزيائية إلى نفي إمكانية وجود فراغات في الجزء المدرك من الكون أسباب كثيرة:

منها أنه في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن العشرين قام عدد من الفلكيين بعملية مسح للجزء المدرك من السماء لعمل خرائط جديدة له، ثلاثية الأبعاد‏، وفي أثناء ذلك لاحظوا وجود العديد من المناطق المظلمة التي لا تحتوي نجوما مضيئة بين المجرات‏، وسموها مجازا‏(بالفجوات‏)‏ أو‏(الفقاعات‏)‏ وانطلقوا من ذلك الي الاستنتاج بأن الكون المدرك يشبه قطعة الإسفنج المليئة بالفجوات‏، وتمثل المجرات فيها خيوط الاسفنج المنسوجة بإحكام حول تلك الفجوات‏، واعتبروا تلك الفجوات خيوطا كونية عملاقة.

ولما كانت فجوات الإسفنج ليست فراغا لامتلائها بالهواء أو بالماء‏، فإن المناطق المظلمة بالكون المدرك ليست فراغا لامتلائها بالدخان الكوني‏، وبمختلف صور الأشعة الكونية‏، بل قد يكون فيها من صور المادة والأجرام الخفية ما يفوق كتل المجرات المحيطة بها مجتمعة.

ويعتقد عدد من الفلكيين المعاصرين أن هذه المناطق المظلمة تتكون أساسا من المواد الداكنة الباردة‏ التي تمثل الكتلة المفقودة في الكون المدرك‏، وقد تحتوي علي أعداد من الثقوب السود‏، وأن هذه المادة الداكنة الخفية والثقوب السوداء التي أمكن إدراكها بطرق غير مباشرة‏، أمكن حساب كتلتها بما يزيد علي تسعين بالمئة من كتلة الجزء المدرك من الكون‏.‏

ففي سنة‏1981 اكتشف عدد من الفلكيين تلك المناطق المظلمة من الكون المدرك في كوكبة العواء، أو كوكبة راعي الشتاء التي تقع في نصف الكرة الشمالي‏، وظنوها فراغات هائلة أو فقاعات عظيمة‏، ثم تبين لهم بعد ذلك أن أمثال تلك المناطق المظلمة منتشرة في مختلف أرجاء الكون المنظور‏، وحتي في داخل مجرتنا‏، وأنها من أساسيات النظام الكوني‏، ومن أسرار بنائه‏، وأن لها دورا مهما في تماسك ذلك البناء‏.‏. وهكذا توالت الاكتشاف المثبتة لهذا.

علي: هذا دليل كاف لنفي وجود الفجوات في الكون.

الفلكي: ليس ذلك فقط.. فهناك أدلة أخرى غير هذا تثبت صدق ما ذكره القرآن من عدم وجود الفروج في السماء، منها ما عرفناه سابقا من اتساع الكون.. فاتساع الكون ينفي وجود فراغات فيه.

علي: كيف ذلك؟

الفلكي: لقد ثبت لنا ـ كما عرفنا سابقا ـ أن كوننا دائم الاتساع وأن هذا الاتساع ناشيء عن تباعد المجرات عنا، وعن بعضها البعض‏، وبهذا التباعد تتخلق المادة والطاقة.

علي: لم أفهم.. كيف يكون التباعد وسيلة لتخلق المادة والطاقة؟

الفلكي: أنت تعرف أن كلا من المكان والزمان والمادة والطاقة قد تم خلقه بعملية الانفجار العظيم‏، ويتجدد خلقه بتمدد الكون واتساعه‏، فلايوجد مكان بغير زمان‏، ولازمان بغير مكان‏، ولايوجد مكان وزمان بغير مادة وطاقة‏.

علي: أعرف ذلك.

الفلكي: انطلاقا من ذلك.. فإن تباعد المجرات يؤدي إلي اتساع أفق الكون بالنسبة لموقعنا منه‏، ونحن لانستطيع أن نرى من هذا الموقع ماوراء الأفق‏.

 ومن المفروض أنه باتساع الكون وتباعد الأفق الكوني عنا في كل لحظة أنه يمكن لنا أن نرى أجراما سماوية جديدة علي حافة ذلك الأفق باستمرار‏، وأن تختفي عن رؤيتنا أجرام قديمة، وتخرج عن مجال رؤيتنا.

ولكن أجهزتنا الفلكية الحالية لاتتيح لنا التحقق من ذلك علي الرغم من تطورها المذهل‏، وذلك لأن أفق الكون يبتعد عنا بتمدده بسرعات تقترب أحيانا من سرعة الضوء‏ (‏نحو‏92 بالمائة من سرعة الضوء‏)، وعلي الرغم من ذلك فإنه انطلاقا من وحدة البناء في الجزء المدرك لنا من السماء، فإننا نعتقد بأن القوانين الحاكمة للكون واحدة وسارية في كل أجزائه علي الرغم من أن النقطة التي بدأت منها عملية الانفجار العظيم لم يتم تحديد موقعها بعد‏، وهي بالتأكيد أبعد بكثير من الحافة المدركة للجزء المرئي من السماء‏، الذي يقدر قطره بنحو‏19‏ ـ‏23‏ بليون سنة ضوئية‏.‏

علي: هذا دليل قوي.. ولكنه يفتقر إلى الإثبات العلمي الحسي.

الفلكي: ليس بالضرورة أن نعرف كل شيء عن طريق الدليل الحسي.. هناك مدارك أخرى في العلوم لها أهميتها وقيمتها.

ولكن مع ذلك فهناك أدلة أخرى على هذا يمكن الاستئناس بها.. منها أن المادة المضادة في الكون تنفي وجود فراغات فيه.

علي: كيف ذلك؟

الفلكي: في سنة‏1924‏ أثبت العالم الفرنسي دي بروجلي أن الإلكترون يتصرف أحيانا في ظروف معينة على أنه موجة إشعاعية غير مادية.. وما ينطبق علي الإلكترون ينطبق علي أي لبنة أخري من اللبنات الأولية للمادة‏.‏

وفي سنة‏1925‏ وضع كل من هايسنبرج الألماني، وشرودنجر النمساوي منفردين القواعد الأساسية لميكانيكا الكم وللميكانيكا الموجية، وكلاهما يبحث في الأسباب التي تؤدي بالكم الضوئي أو الفوتون لأن يتصرف أحيانا علي هيئة جسيم مادي وأحيانا أخري علي هيئة موجة اشعاعية‏.‏

وفي نفس السنة (‏1925) أعلن باولي مبدأ الاستبعاد الذي يؤكد أن زوجين من الإلكترونات داخل الذرة الواحدة لايمكن أن يكون لهما نفس العدد الكمي‏، وبالتالي لايمكن أن يكون لهما نفس المدار حول النواة‏، ونفس السرعة‏، وينطبق هذا القانون فقط علي الجسيمات الأساسية التي تدخل في تركيب الذرة‏.‏

وفي سنة‏1931‏ أعلن ديراك النظرية المتناسبة للالكترون التي أشار فيها إلي وجود الكترون بشحنة وطاقة مختلفتين تم اكتشافه بعد ذلك بسنة واحدة ‏(1932‏‏)‏ في الأشعة الكونية بواسطة كارل أندرسون وسمي باسم البوزيترون.

وتسلسل بعد ذلك اكتشاف نقائض لباقي الجسيمات الأولية للمادة من مثل نقيض البروتون، واعتبرت نقائض المادة في مواجهة المادة حقيقة من حقائق كوننا المدرك.

حيث ثبت أن لكل جسيم مادي نقيضه أي جسيما يماثله تماما في الكتلة والحجم والسرعة، ولكن له شحنة مضادة، ويدور بطريقة معاكسة‏، وثبت انه إذا التقي الضدان فإنهما يفنيان فناء تاما‏.‏

وقد تساءل العلماء عن كيفية بقاء عالمنا المادي مع وجود كل من المادة وأضدادها، وكلاهما يفني بلقاء الآخر..

وقد فسر ذلك بان كلا من المادة والمادة المضادة قد تجمع على ذاته لتكوين تجمعات سماوية خاصة به، بمعني وجود عوالم من المادة المضادة مغايرة لعالمنا المادي لانراها ولا نعلم عنها شيئا.

علي: وعيت هذا الدليل، واقتنعت به، بل إن القرآن قد أشار إلى أن أشياء كثيرة لا نبصرها من الكون، فقال:{ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ(39)}(الحاقة)

فلذلك ليس كل ما لا ندركه غير موجود.

الفلكي: ومع ذلك.. فهناك أدلة أخرى على هذا.. منها أن مراحل خلق الكون المدرك تنفي وجود أي فراغات في السماء، فالدراسات الفيزيائية والفلكية تنص على أنه نتيجة لواقعة الانفجار العظيم.. أو فتق الرتق كما يعبر القرآن.. تم خلق كل من المكان والزمان والمادة والطاقة في فترة تقدر بحوالي ثلاثين مليون سنة تقريبا بعد الانفجار العظيم‏ مر فيها الكون بمراحل متتالية تؤكد ان المادة والطاقة ملأتا المكان والزمان منذ اللحظة الأولي للانفجار العظيم، وظلا يملآنه مع استمرار تمدد الكون، وأن كان ذلك يتم بتباين واضح في تركيز وجودهما من نقطة الي أخري في الجزء المدرك من الكون ‏.‏

قال الفلكي ذلك، ثم قال: كل هذه الجهود التي بذلها هؤلاء العلماء.. وبذلتها معهم أجهزتهم الكثيرة.. تثبت ما نصت عليه تلك الآيات العظيمة..

إني أشعر بأن القرآن يتحدى كل هؤلاء عندما قال:{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } (الملك:3)

التماسك:

علي: لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم تماسك الكون، وأنه لولا إمساك الله لزال..

الفلكي: أيوجد هذا في القرآن؟

علي: أجل.. فقد قال الله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } (فاطر:41)

ويقول:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (الحج:65)

ويقول:{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } (لقمان:10)

ويقول:{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد:2)

الفلكي: هذه آيات عظيمة.. فيها إشارات للقوى التي يتماسك بها الكون.

علي: فحدثني عنها، واختصر لي الكلام اختصارا أفهم به كلام ربي.

الفلكي: لقد أشرنا من قبل إلى أن قوانين الفيزياء في الكون لم تنشأ إلا بعد الانفجار العظيم..

وقد عد العلماء في في الفيزياء الحديثة أربع قوى أساسية لتماسك الكون على ما هو عليه([46]).. وقد تكونت هذه القوى مع تكون أول جسيمات دون ذرية في أزمنة محددة بدقة بعد الانفجار العظيم مباشرة، لكي تشكل كل ترتيبات الكون ونظمه.

وهذه القوى الأربعة هي: قوة جذب الكتل المعروفة باسم القوة التجاذبية gravitational force، والقوة الكهرومغناطيسية electromagnetic force، والقوة النووية الشديدة strong nuclear force، والقوة النووية الضعيفة weak nuclear force.

وتتسم كل واحدة من هذه القوى بشدة مميزة ومجال مؤثر.. أما القوى النووية الشديدة والضعيفة فلا تعملان إلا عند النطاق دون الذري.. وأما القوتان المتبقيتان ـ القوة التجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية ـ فتقومان بالتحكم في تجمعات الذرات، أو بتعبير آخر في (المادة)

التفت إلى علي، وقال: إن ما تراه من نظام الأرض الخالي من العيوب ناتج عن التناسب بالغ الدقة لهذه القوى.

ليس ذلك فقط.. بل إنك بإجراء مقارنة بين هذه القوى، فإنه ستظهر لك نتيجة مثيرة للغاية، وهي أن كل المادة التي نشأت وتشتت عبر الكون بعد الانفجار العظيم تشكلت نتيجة لتأثير هذه القوى التي تختلف فيما بينها اختلافات شاسعة.

سكت قليلا، ثم قال: شيء آخر له علاقة بهذه الآيات([47]).. وله ـ على الأخص ـ علاقة بهذه الآية:{ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ  } (الحج: 65)

أنت تعلم أن أقرب أجرام السماء إلينا هو القمر الذي يبعد عنا في المتوسط بمسافة ‏(383942‏ كيلومترا‏)، وتقدر كتلته بنحو سبعين مليون مليون مليون طن‏، ويدور في مدار حول الأرض يقدر طوله بنحو‏2.4‏ مليون كيلومتر، بسرعة متوسطة تقدر بنحو كيلومتر واحد في الثانية‏، وهي نفس سرعة دورانه حول محوره‏، ولذلك يرى منه وجه واحد لأهل الأرض‏.‏

ومدار القمر حول الأرض‏، وكذلك مدار الأرض حول الشمس بيضاوي الشكل ‏(أي أنه علي شكل قطع ناقص‏).

ومن قوانين الحركة في المدار البيضاوي أن السرعة المحيطية فيه تخضع لقانون تكافؤ المساحات مع الزمن‏;‏ وهذا القانون يقتضي اختلاف مقدار السرعة علي طول المحيط‏، فتزداد نسبيا بالاقتراب النسبي من الأرض‏، وتزداد بزيادتها قوة الطرد المركزي‏ علي القمر فتدفعه بعيدا عن الأرض‏، وإلا اصطدم القمر بالأرض فدمرها ودمرته‏;‏ وتقل السرعة المحيطية للقمر كلما بعد نسبيا عن الأرض‏، فتقل القوة الطاردة المركزية علي القمر لئلا يخرج عن نطاق جاذبية الأرض‏، فينطلق إلي فسحة السماء أو تبتلعه الشمس‏، وأعلي مقدار لسرعة سبح القمر في مداره حول الأرض يقدر بما قيمته‏3888‏ كيلومترا في الساعة‏;‏ وأقل مقدار لتك السرعة يقدر بنحو‏3483‏ كيلومترا في الساعة‏، وهذا يجعل السرعة المتوسطة لسبح القمر في مداره حول الأرض تقدر بنحو‏3675‏ كيلومترا في الساعة‏.‏

ونفس القانون ‏(قانون الجري في القطع الناقص‏)‏ ينطبق علي سبح الأرض حول الشمس‏، وسبح باقي أجرام السماء كل في مداره حول الجرم الأكبر‏، أو التجمع الأكبر‏.‏

تسخير السماء

علي: لقد ذكر  الله تعالى في كتابه الكريم أنه سخر ما في الكون للإنسان في آيات كثيرة في معرض الامتان على عباده، فقال:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ } (الحج:65)، وقال:{  أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً  } (لقمان: 20)، وقال:{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (لأعراف:54)، وقال:{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (النحل:12)

إن من الناس من يعتريهم العجب من هذه الآيات.. فكيف تكون النجوم مسخرات، وهن بذلك البعد عنا.. بل أرضنا لا تساوي شيئا أمام سعتها؟

ابتسم الفلكي، وقال: لقد ذكرتني هذه الآيات العظيمة بما يسميه قومنا (حرب النجوم).. إن قومنا من الوثنيين تستهويهم الحروب، ويستهويهم الصراع، فلذلك يتصورون الكون مصارعا لا ينال ما فيه إلا بالصراع.. بينما أرى القرآن يجنح جهة أخرى، إنه يرى الكون كونا مسالما يخدم بعضه بعضا، ويسخر بعضه لبعض.. وهذا ما أثبته العلم.. وما سأشرحه لك.

علي: قبل أن تشرح لي ما يؤكد هذا اسمح لي أن أذكر لك نصا جليلا لتلميذ في مدرسة القرآن الكريم.. إنه الإمام بديع الزمان، فقد قال، وهو يعبر عن  خطاب الشمس لنا، وترحيبها بنا:(يا اخوتي لا تستوحشوا مني ولا تضجروا! فأهلاً وسهلاً بكم. فقد حللتم أهلاً ونزلتم سهلاً. انتم اصحاب المنزل، وانا المأمور المكلف بالاضاءة لكم. انا مثلكم خادم مطيع سخرّني الأحد الصمد للاضاءة لكم، بمحض رحمته وفضله. فعليّ الاضاءة والحرارة وعليكم الدعاء والصلاة)

وهكذا يخاطبنا كل شيء بلسان حاله، (فيا هذا هلاّ نظرت الى القمر.. الى النجوم.. الى البحار.. كل يرحب بلسانه الخاص ويقول: حياكم وبياكم. فأهلاً وسهلاً بكم)

وقد عقد النوسي مقارنة بين التعبير القرآني في وصف الشمس في قوله تعالى:  { وَجَعَلَ الشمسَ سراجاً} (نوح:16)، وبين التعبير العلمي الحديث الجاف، فقال عن التعبير القرآني:(في تعبير السراج تصوير العالم بصورة قصر، وتصوير الأشياء الموجودة فيه في صورة لوازم ذلك القصر، ومزيّناته، ومطعوماته لسكان القصر ومسافريه، واحساسٌ أنه قد أحضَرتها لضيوفه وخدّامه يدُ كريمٍ رحيم، وما الشمسُ إلاّ مأمور مسخَّر وسراج منوَّر. ففي تعبير السراج تنبيه الى رحمة الخالق في عظمة ربوبيته، وافهامُ إحسانه في سعة رحمته، واحساسُ كرمه في عظمة سلطنته)

أما العلم الحديث فيعرف الشمس بأنها (كتلة عظيمة من المائع الناري تدور حول نفسها في مستقرها، تطايرت منها شرارات وهي أرضنا وسيارات أخرى فتدور هذه الاجرام العظيمة المختلفة في الجسامة.. ضخامتها كذا.. ماهيتها كذا..)).

وعقب على هذه المقارنة بقوله:(فانظر ماذا أفادتك هذه المسألة غيرَ الحيرة المدهشة والدهشة الموحشة، فلم تُفِدْك كمالاً علمياً ولا ذوقاً روحياً ولا غاية إنسانية ولا فائدة دينية)

وبمثل ذلك ورد القرآن الكريم، وهو يصور النعم المستسخرة بصورة الهدايا المقدمة على أطباق، ومعها ختم المهدي، فالله تعالى صور ـ مثلا ـ الأرض بصورة المركب الذلول، المحتوية على كل المنافع، فقال:)  هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (الملك:15)

الفلكي: ما أجمل هذا الوصف الذي وصف به القرآن الأرض.. إنه وصفها بكونها ذلولا، وهو يطلق على الدابة، ليصور في الأذهان أن هذه الأرض التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة، هي دابة متحركة.. بل رامحة راكضة مهطعة، ولكنها مع ذلك ـ وبسبب تسخيرها للإنسان ـ ذلول لا تلقي براكبها على ظهرها، ولا تخضه كالدابة غير الذلول.

هذا هو تصوير القرآن الجميل، وهو تصوير يتوافق مع العلم.. أما الجاحدون من قومي، فيصورونها في صورة الدابة الرامحة الراكضة التي تحتاج فارسا قويا مثل فرسان رعاة البقر ليقوم بترويض جماحها على نغمات تصفيق المعجبين.

الاهتداء:

علي: لقد ذكر القرآن الكريم من وجوه تسخير الكون للإنسان ما جعل في النجوم من خاصية الهداية في ظلمات البر والبحر([48])، فقال:{  وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (الأنعام:97)

الفلكي: هذه الآية تشير إلى منفعة من أهم منافع النجوم، والتي استفادت منها البشرية في جميع أحقابها.

فقد رتبت النجوم في مجموعات من الكوكبات ‏(البروج‏)‏ يمكن بواسطتها تحديد الاتجاهات الأربع الأصلية، كما هو الحال مع النجم القطبي المعروف باسم نجم القطبية أو نجم الجدي أو كوكبة الشمال أو مسمار الفلك كما يحلو لعدد من الفلكيين أن يسموه .

وهو نجم ثلاثي من العماليق العظام، ويعتبر ألمع نجم في كوكبة الدب الأصغر، وهو يبعد عنا مسافة‏650‏ سنة ضوئية، ويقدر قطره بمائة مرة قدر قطر الشمس‏، وتقدر قوة إشعاعه بخمسة آلاف ضعف إشعاع الشمس‏، وقد أعطي هذا الاسم لقربه الشديد من قطب السماء الشمالي ‏(الذي لا يبعد عنه إلا بأقل من درجة واحدة‏)

ونظرا لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق تبدو القبة السماوية وكأنها تدور من الشرق إلي الغرب في حركة ظاهرية بكافة نجومها فيما عدا النجم القطبي الذي يقع علي الامتداد الشمالي لمحور دوران الأرض، فيبدو لنا ساكنا‏، ويحدد بموقعه اتجاه الشمال الحقيقي‏، ومن ثم يعين علي تحديد الجهات الأربع الأصلية علي الأرض وفي صفحة السماء مما يساعد علي التوجه الصحيح في ظلمات البر والبحر‏، وفي تحديد القبلة‏، وفي تحديد غيرها من المواقع والاتجاهات‏.‏

ويحدد موقع النجم القطبي في قبة السماء بواسطة العربة الكبري ‏(المغرفة‏)‏ في كوكبة الدب الأكبر وذلك بمد الخط الواصل بين خلفيتي العربة الكبري ‏(أي الدليلتين اللتين تسبقان في أثناء الحركة اليومية الظاهرية‏)‏ حوالي خمس مرات قدر المسافة بينهما‏، ولولا وجود النجم القطبي ما استطاع الانسان التوجه في ظلمات البر والبحر‏.‏

الجمال:

علي: لقد ورد ذكر تزيين السماء في مواضع من القرآن الكريم، فالله تعالى يقول:{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } (الصافات:6)

بل سمى القرآن النجوم التي تزين السماء مصابيح فقال:{ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (فصلت: 12)، وقال تعالى:{  وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} (الملك:5)

الفلكي: أتدري يا صاحبي.. العلم الآن يقول هذا.. لا يقوله فقط.. بل يصوره تصويرا.. لقد التقط العلماء صوراً رائعة للنجوم شديدة اللمعان أو الكوازرات، وأدركوا أن هذه النجوم تضيء الطريق الذي يصل بيننا وبينها.. لذلك أطلقوا عليها اسماًَ جديداً هو (المصابيح الكاشفة)

بل إن العلماء صاروا عندما يتحدثون عن البناء الكوني نجدهم يتحدثون أيضاً عن تشبيه جديد وهو أن المجرات وتجمعاتها تشكل منظراً رائعاً يزهو بمختلف الألوان من الأزرق والأصفر والأخضر مثل الخرز على العقد، أو مثل اللآلئ المصفوفة على خيط.

ففي إحدى المقالات العلمية نجد كبار علماء الفلك في العالم يصرحون  بعدما رأوا بأعينهم هذه الزينة بهذا.. يقول أحدهم:(يقول العلماء: إن المادة في الكون تشكل نسيجاً كونياً، تتشكل فيه المجرات على طول الخيوط للمادة العادية والمادة المظلمة مثل اللآلئ على العقد} ([49])

الحفظ:

علي: لقد ورد في القرآن الكريم كذلك وصف السماء بكونها سقفا محفوظا.. فقال تعالى:{ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } (الأنبياء:32)

بل جمع القرآن الكريم بين خاصيتي الزينة والحفظ، فقال:{ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (فصلت: 12)

الفلكي: هذه خاصية مهمة لبناء السماء أثبتتها الأبحاث العلمية الحديثة.. لا يمكنني أن أحدثك عنها بالتفصيل.. ولكني سأحدثك فقط على ناحية منها لها علاقة بالأرض التي نعيش فيها.. سأذكرها لك فقط كنموذج على هذه الخاصية.

لقد ذكرت لي بأن القرآن يعتبر السماء كل ما علا الإنسان.

علي: أجل .. فقد قال تعالى:{ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (البقرة: 164)

الفلكي: أنت تعلم أن الأرض تحاط بغلاف جوي يؤدي وظائف ضرورية لاستمرار الحياة، فهو يدمر الكثير من النيازك الكبيرة والصغيرة، ويمنعها من السقوط على سطح الأرض وإيذاء الكائنات الحية.

فلولا وجود الغلاف الجوي لسقطت ملايين النيازك على الأرض جاعلة منها مكاناً غير قابل للعيش، ولكن خاصية الحماية التي يتمتع بها هذا الغلاف سمحت للكائنات بالبقاء آمنة على قيد الحياة.

ليس ذلك فقط.. فالغلاف الجوي يصفي شعاع الضوء الآتي من الفضاء المؤذي للكائنات الحية.

والملفت للنظر، والجالب للدهشة أن الغلاف الجوي لا يسمح إلا للإشعاعات غير الضارة مثل الضوء المرئي والأشعة فوق البنفسجية، وموجات الراديوا بالمرور.. وكل هذه الإشعاعات أساسية للحياة.

فالأشعة فوق البنفسجية التي يسمح بمرورها بشكل جزئي فقط عبر الغلاف الجوي ضرورية جداً لعملية التمثيل في النباتات، ولبقاء الكائنات الحية على قيد الحياة.

أما غالبية الإشعاعات فوق البنفسجية المركزة، فيتم تصفيتها من خلال طبقة الأوزون في الغلاف الجوي، ولا تصل إلا كمية محدودة وضرورية من الطيف فوق البنفسجي إلى الأرض.

وهذه الوظيفة الوقائية للغلاف الجوي لا تقف عند هذا الحد، بل إن الغلاف الجوي يحمي الأرض من برد الفضاء المجمد الذي يصل إلى 270 درجة مئوية تحت الصفر.

علي: فحماية الأرض مرتبطة إذن بالغلاف الجوي؟

الفلكي: ليس الغلاف الجوي وحده هو الذي يقوم بهذه العملية الخطيرة.. فهناك ما يعرف بحزام فان ألن.. وهو طبقة ناتجة عن حقول الأرض المغناطيسية، وهي تشكل درعاً واقياً من الإشعاعات الضارة التي تهدد كوكبنا.

فلولا وجود حزام فان ألن، لكانت الانفجاريات العظيمة للطاقة المسماة التموجات أو الانفجارات الشمسية، والتي تحدث بشكل دائم في الشمس قد دمرت الأرض.

وقد قال الدكتور (هوغ روس) عن أهمية حزام فان آلن:(في الحقيقة إن الأرض تملك كثافة أعلى من كل ما تملكه باقي الكواكب في النظام الشمسي، وهذا  القلب الغظيم للأرض المكون من الحديد والنيكل هو المسؤول عن الحقل المغناطيسي الكبير، وهذا الحقل المغناطيسي هو الذي ينتج درع إشعاعات فان آلن الذي يحمي الأرض من الإنفجارات الإشعاعية، ولو لم يكن هذا الدرع موجوداً لما كانت الحياة ممكنة على سطح الأرض، ولا يملك مثل هذا الدرع سوى الأرض وكوكب المريخ الصخري، ولكن قوة حقله المغناطيسي أقل بمائة مرة من قوة حقل الأرض المغناطيسي، وحتى كوكب الزهرة المشابه لكوكبنا ليس لديه حقل مغناطيسي.. إن درع فان آلن الإشعاعي هو تصميم فريد خاص بالأرض)

المواقيت:

علي: وقد ذكر القرآن من أنواع تسخير الكون لنا أنه جعل لنا ساعة كونية تبزغ في سمائنا كل يوم متزايدة في نورها، لتعطينا تأريخا شهرياً منتظماً، فقال تعالى:{  هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }(يونس:5)

الفلكي: صدق القرآن.. فبما أن القمر يكتمل نوره في 16 يوما تقريباً، فإن إضاءة نصفه تعادل 8 أيام تقريباً وإضاءة ربعه تعادل 4 أيام تقريباً وهكذا.. فمن نظرة سريعة إلى الجزء المضيء من القمر نستطيع معرفة التأريخ القمري بخطأ لا يتجاوز اليوم الواحد.. وقد عرفنا ذلك من قبل.

***

 سالت دموع حارة من عين علي، وهو يسمع هذه العظمة التي يضمها الكون بين جنباته، وقال للفلكي: جزاك الله خيرا.. وملأك بالبركات.. فإن ما ذكرته لي من علم خير تفسير سمعته لتلك الآيات من القرآن الكريم.

إن ما ذكرته من عظمة خلق السماء، يدل على أنها لم تخلق عبثا كما قال تعالى:{  وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } (صّ:27)، وقال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } (الأنعام:73)

بل أخبر أنها آيات للدلالة على الله وعظمة الله، وأنه لا يفقه سرها هذا إلا العقلاء من الناس، قال تعالى:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } (البقرة:164).. وقال تعالى:{  إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } (آل عمران:190)

بل دعا أولي العقول إلى إعمال فكرهم في السماء.. ليعرفوا الله من خلالها، فقال تعالى:{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } (الروم:8)

وأخبر الجاحدين الذين يجحدون قدرة الله على بعث مخلوقاته بعظمة خلق الكون، فقال:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (غافر:57)

قال الفلكي بتأثر شديد: أكل هذه الآيات في القرآن.. إنها تخاطبني أنا بالذات.. أنا الذي أرى كل هذا.. وأنا الذي أعلم أن قدرة الذي خلق كل هذا الكون الواسع لن يعجز عن شيء..

ثم التفت إلى علي، وقال: أين تباع مصاحف القرآن؟.. أريد مصحفا.. لعلي لم أزر بلادكم إلا لأشتريه.

علي: لن تحتاج لشرائه .. أنا أحمل دائما معي مصاحف من القرآن.. ولكني لا أسلمها إلا لمن أتوسم فيه استعدادا لقراءتها والبحث فيها عن الحقيقة..

أخرج من محفظته مصحفا، ثم قال: هذا هدية مني لك.. وهو مكتوب باللغتين.. باللغة العربية.. وهي أدق وأحكم في الدلالة على معانيه.. ومكتوب بلغتك.. وهي أقصر من أن تعبر عن معانيه.. فلذلك إذا شككت في معنى من المعاني.. فاذهب إلى لغته الأصلية.

أخذ المصحف، وقال: هذا أكبر تكريم كرمت به في حياتي.

أحسست بأنوار عظيمة بدأت تنزل على صاحبي الفلكي.. وبمثله شعرت بأن بصيصا من النور قد نزل علي.. اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1]) انظر فصل (الحق) من (الكلمات المقدسة)

([2])طبعا.. فإن هذا النقد الموجه هنا للتوراة ليس للتوراة التي أنزلها الله على موسى u، وإنما هو نقد للتوراة المحرفة، وإبراز للتحريف الذي نص القرآن الكريم على حصوله لها.

أما التوراة الحقيقية فقد ورد في فضلها النصوص الكثيرة كقوله تعالى:﴿)إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)(المائدة: من الآية44)، وقوله تعالى:﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (المائدة:66) انظر تفاصيل ذلك في (الكلمات المقدسة)

([3])ولا يصح ما روي من تأييد ذلك في كتب الحديث،  من مثل حديث أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي فقال:« خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة من آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل » (تفسير ابن أبي حاتم (1/103) وصحيح مسلم برقم (2789) وسنن النسائي الكبرى برقم (11010)

وقد قال ابن كثير في هذا الحديث:« وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم، وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي » انظر: تفسير ابن كثير: 1/215، وأنظر: الأسماء والصفات للبيهقي (ص276)

([4]) من المعلوم أن ذلك الإصحاح هو أول ما يبدأ به الكتاب المقدس.

([5]) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، لأبي الحسن الندوي.

([6]) انظر: المرجع السابق، وانظر تفاصيل وافية عن هذا في (ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة.

([7]) انظر حقيقة هذه النظرية وأدلتها وعلاقتها بالقرآن الكريم في:

1. إنهم يرون فَتْق الرّتق حقا..أفلا يؤمنون، بقلم: د. حسنى حمدان، أستاذ الجيولوجيا المساعد-جامعة المنصورة، عضو المجلس الأعلى للسئون الإسلامية، من موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

2. خلق الكون من العدم والانفجار الكوني الكبير، بقلم الكاتب التركي هارون يحيى.

3. الانفجار الكبير بين العلم والقرآن، بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل.

([8])حتى الجرس الموسيقي لكلا اللفظتين (رتق فتق) يشبه المصلح المختار للتعبير عن الانفجار العظيم (Big Bang)

([9]) اقتبسنا الكثير من المادة العلمية في هذا من كتاب (خلق الكون) لهارون يحيى.

([10]) سنشرح هذا المعنى ودلالته العلمية عند ذكرنا لتوسع الكون.

([11])انظر: الكون، بوزلو، ص46.

([12])انظر تفصيله في كتاب: الخالق والفلكيون، جاسترو، ص15 وما بعدها.

([13])الخالق والفلكيون، جاسترو، ،ص29.

([14])عندما دقت الساعة صفراً، جون تيلر، ص103.

([15])وقد بنى الداعمون لهذا النموذج محاولتهم تلك على المشاهدات الكوانتية للفيزياء ما دون الذرية، ففي الفيزياء الكوانتية تمت مشاهدة جسيمات ما دون ذرية، وهي تظهر وتختفي تلقائياً في الخلاء، وتعليل تلك المشاهدة هو أن المادة تنشأ عند سوية كوانتية مميزة تخص المادة وتلائمها.

وقد حاول بعض الفيزيائيين تفسير أصل المادة من العدم خلال خلق الكون بطريقة مماثلة وعلى أنها حالة مميزة وتخص المادة، وتمثيلها على أنها جزء من قوانين الطبيعة ،ووفق هذا النموذج يفسر كوننا على أنه جسيم ما دون ذري لكنه أكبر حجماً على كل حال.

([16]) انظر في هذا الموضوع وعلاقته بالإعجاز القرآني:

اتساع السماء: حقيقة قرآنية وعلمية، لعبد الدائم الكحيل، من موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة..

الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، بقلم الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار، الأهرام: 41846   ‏السنة 125-2 يوليو 2001  .

([17])في هذه الآية الكريمة معجزتان علميتان، سنشير إلى إحداهما، وهي توسع السماء في هذا المبحث، أما المعجزة الثانية، وهي حقيقة البناء الكوني المذكورة في قوله تعالى:﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا﴾(الذاريات: 47)، فسنشير إليها في المبحث التالي لهذا المبحث.

والمذكورة في آيات أخرى، كقوله تعالى:﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءًوَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(غافر: 64) وغيرها من الآيات.. فسنتحدث عنها في مبحث لاحق من هذا الفصل.

([18]) هذه الفكرة نبه إليها الدكتور حسني حمدان أستاذ علوم الأرض في جامعة المنصورة، وملخصها أن الذي يتمدد هو السماء وليس الكون، لأن الكون يتألف من مجرات ونجوم وغير ذلك، وهذه لا تتمدد، لذلك الكلمة القرآنية هي الأدق. انظر موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([19])انظر: مقالة للدكتور زغلول النجار حول هذا الموضوع نشرت في جريدة الأهرام  بتاريخ 4 /6/2001م.

()  انظر في الرد على هذه الشبهة مقالا بعنوان (السماء كانت دخاناً ـ حقائق جديدة تؤكد صدق القرآن الكريم » بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل، موقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([21])الميكرون هو واحد من الألف من الميليمتر، أي هو جزء من مليون من المتر.

([22])انظر: السماء تتكلّم! حقائق كونية حديثة جداً تتجلّى في القرآن، بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل، من موقع: موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([23]) انظر: مقالة للدكتور زغلول النجار منشورة على العديد من المواقع ومنها موقع جريدة الأهرام في العدد الصادر بتاريخ 3 سبتمبر 2001 بعنوان: من أسرار القرآن – الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزى دلالتها العلمية: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ). انظر النص الكامل على موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

وانظر: النسيج الكوني بين العلم والقرآن، أحدث الحقائق الكونية تتجلى في كتاب الله تعالى، بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([24]) المادة المظلمة هي مادة تملأ أكثر من 95 % من الكون، وهي لا تُرى أبداً ولكن هنالك دلائل كثيرة تؤكد وجودها. لمزيد من الاطلاع هنالك مئات المقالات العلمية والاكتشافات حول هذه المادة، انظر مقالة بعنوان (المادة المظلمة في قلب المجرّات) على موقع الكون اليوم:

http://www.universetoday.com/am/publish/dark_matter_concentrated.html

([25]) انظر في هذا مقالة بعنوان (لمحة عن النسيج الكوني) لثلاثة من علماء الغرب الأكثر شهرة في هذا المجال وهم:عالم الفلك  بول ميلر من معهد الفيزياء الفلكية بألمانيا، وجون فينبو من نفس المعهد، وبارن تومسون من معهد الفيزياء والفلك بالدانمارك.

([26])انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، ‏والســماء ذات الحبك‏، الدكتور‏:‏ زغـلول النجـار، الأهرام: 41909   ‏السنة 126-3 سبتمبر   2001.

([27]) ذكر بعض المهتمين بالإعجاز العلمي أن الإشارة للمجرات هي في قوله تعالى:﴿  وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (البروج:1)، فكل مجرة من المجرات برج من البروج التي تتشكل منها السماء.. وسنتحدث عن هذه الآية في المبحث التالي لهذا المبحث.

([28]) انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، فلا أقسم بمواقع النجوم‏، الدكتور‏:‏ زغـلول النجـارن الأهرام: 41860   ‏السنة 125- 16 يوليو 2001.

([29]) سنتحدث عن تماسك الكون في مبحث لاحق.

([30])انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، ‏والسماء والطارق، د. ‏زغـلول النجـار، الأهرام: 41895   ‏السنة 126-20 أغسطس 2001.

([31])  هناك من ذهب إلى أن المقصود بالطارق النجم الثاقب (الثقوب السوداء)، والقولان متقاربان، لأن النجم النيوتروني هو الذي يتحول إلى ثقب أسود، ولا يستغرق ذلك منه سوى فترة زمنية قصيرة.. فهو يحتاج إلى أقل من ثانية واحدة، فقد ترى نجماً نابضاً، وفجأة تراه وكأنه قد انطفأ، وحقيقة أمره أنه يمكن أن يكون قد تحول إلى ثقب أسود..انظر: تأملات فى سورة الطارق، د. ســلامه عبد الهادي، أستاذ في علوم إدارة الطاقة وعميد سابق للمعهد العالي للطاقة بأسوان، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([32]) انظر الخلاف الوارد فيها في تفسير ابن كثير: 7/443.

([33])انظر: حياة النجوم بين العلم والقرآن الكريم، د /محمد صالح النواوي، الأستاذ المتفرغ بكلية العلوم جامعة القاهرة، رئيس مجلس إدارة جمعية الإعجاز العلمي في القرآن، موقع الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([34])انظر حول الثقوب السوداء والقرآن الكريم المراجع التالية:  بحث للدكتور زغلول النجار حول الثقوب السوداء، الثقوب السوداء والقرآن الكريم، بقلم المهندس: عبد الدائم الكحيل.

([35])ذكرت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) أن الشمس تدور بنفس اتجاه دوران الأرض، و(دوران كارنغتون) سمي نسبة للعالِم (ريتشارد كارنغتون)، العالم الفلكي الذي كان أول من لاحظ دوران البقع الشمسية مرة كل 27.28 يوماً.

([36])انظر: كسوف الشمس.. آية من آيات الله، بقلم المهندس: عبد الدائم الكحيل، باحث في إعجاز القرآن الكريم والسنة النبوية.

([37])  ذكر بعض المهتمين بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم أن في القرآن إشارة للمجموعة الشمسية في قوله تعالى:﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف:4)

وقد دعم هذا القول بما اكتشفه العلماء حديثاً من كواكب المجموعة الشمسية، وسموه كوكب زينا، فمنذ فترة وجيزة اكتشف العلماء في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا كوكباً جديداً رأوه للمرة الأولى بواسطة تليسكوب الفضاء هابل، وقد سمى العلماء هذا الكوكب البعيد باسم Xena. وقطر هذا الكوكب بحدود 2400 كيلو متر، ويقع على أطراف المجموعة الشمسية حيث يبعد عنا 135 بليون كيلو متر، أي 900 مرة بعد الأرض عن الشمس، وهو يدور حول الشمس دورة كاملة كل 10500 سنة.

وبما أن الكواكب المكتشفة عشرة كواكب ـ بما فيها الأرض ـ فأين الكوكب الحادي عشر؟

لقد ذهب بعضهم إلى أنه يوجد حزام من الكويكبات يمكن اعتباره الكوكب الحادي عشر، وبالتالي تتحقق المعجزة القرآنية في الحديث عن الكواكب الإحدى عشرة قبل أن يكتشفها العلماء.

وعلى العموم يبقى هذا في حيز العلم الظني.. أو يبقى من باب الإشارة العلمية، ولا يمكن إثباته في باب الإعجاز في هذا الوقت.. وربما يأتي في المستقبل من الكشوف ما يؤكد هذه الإشارة.

([38]) انظر: الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، والقمــر إذا تلاها،زغـلول النجـار، الأهرام: 42245   ‏السنة 126- 5 أغسطس 2002.

([39])انظر: ندوة بين الشيخ عبد المجيد الزنداني، والدكتور فاروق البارز مدرب رواد الفضاء في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([40]) انظر تفاصيل ذلك في رسالة (الله جل جلاله) من هذه السلسلة.

([41]) اقتبسنا المعلومات الواردة هنا والنصوص من كتاب (خلق الكون) تأليف الكاتب التركي هارون يحيى.

([42]) في الفيزياء تعني الانتروبي كمية عدم الانتظام (الفوضى) في جملة، وانتقال الجملة من حالة مستقرة إلى حالة أخرى غير مستقرة هو ذاته كزيادة في الانتروبي لها.. وعدم الاستقرار يتعلق مباشرة بالانتروبي لتلك الجملة.

([43]) يقصد بالأولية في علم الفلك بأنه شيء يدور حول جسم آخر، فالأولية للأرض هي الشمس، والأولية للقمر هي الأرض.

([44]) ذكر الأستاذ زغلول النجار أن هناك نفرا من العلماء الي رأوا أن‏(ما‏)‏ في هذه الآية الكريمة قد تكون اسما موصولا بمعني‏(الذي‏)‏ وليست‏(ما‏)‏ النافية‏،‏ وذلك في محاولة لإثبات وجود فروج في السماء‏،‏ وتصوروا ان هذا الاستنتاج يجعل الآية كلها تقرأ في الصيغة التعجبية الاستفهامية التي بدأت بها الآية بمعني‏:‏ أفلم ينظروا الي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها؟ وأفلم ينظروا ما للسماء من فروج؟‏.‏

وقد رد على الاستنتاج بمخالفته لنصوص القرآن الكريم التي تجمع علي غير ذلك‏،‏ وعلى ان انفراج السماء وانفطارها وانشقاقها هو من علامات الآخرة‏،‏ ولا وجود لها‏،‏ في سماء الدنيا.

وقد جرهم إلى هذا القول توهمهم بوجود الفراغ  في الكون.. وفي هذا المطلب رد على هذا الرأي المخالف للنصوص الصريحة.

([45]) استقينا المعلومات المحضة في هذا المطلب من بحث مهم للدكتور زغلول النجار، تحت عنوان (الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية) (أفلم ينظروا إلي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج)، وقد نشرته الأهرام: العدد 41930   ‏السنة 126/ 24 سبتمبر  2001.

([46]) انظر: موقع هارون يحيى http://www.harunyahya.com

([47]) الدكتور‏‏ زغـلول النجـار، من أسرار القرآن، الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية، ويمسك السماء أن تقع علي الأرض إلا بإذنه‏، الأهرام: 42315   ‏السنة 126- 14/10/2002.

([48])انظر: من أسرار القرآن، الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية‏ ـ 17 ـ، ‏والســماء ذات البروج‏، بقلم الدكتور‏:‏زغـلول النجـار، الأهرام: 41916، ‏السنة 126 / يوم:10/09/2001.

([49])انظر هذه المقالة عن كيفية تشكل الكون وبنائه على الرابط:

http://www.govertschilling.nl/nieuws/archief/2001/0105/010518_eso.htm

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *