أولا ـ الحكيم

أولا ـ الحكيم

بدأت رحلتي من بلاد العراق.. تلك البلاد التي بدأ بها التاريخ.. وفيها التقيت أول حامل لمشعل من مشاعل الهداية النبوية، وهو (مشعل الحكمة).. وفيها تعرفت على (النبي الحكيم).. سأقص عليك القصة من البداية:

كنت أسير في مدينة الموصل.. ثم بدا لي أن أدخل مكتبة من مكتباتها الضخمة.. وفيها التقيت رجلا أسود شديد السواد، كان الناس يطلقون عليه لقب لقمان الحكيم([1]).. ولست أدري هل كان ذلك اسما سماه به أبوه، أم أنهم كانوا يشبهونه في حكمته بلقمان عليه السلام، فقد كانت الصلة بينه وبين لقمان عليه السلام شديدة جدا في كل شيء حتى لون البشرة وطول القامة وغير ذلك.. وأما شبهه به في الحكمة فقد تجلى لي من خلال حديثي معه.. والذي سأذكره لك.

عندما دخلت المكتبة ورأيته حسبته في البدء صاحب المكتبة، فقد رأيته يرتب كتبها، وينظمها باهتمام، وكأنه صاحبها.

أردت في تلك الأيام أن أنشغل بتعلم النحو، فقد رأيت أنه لا مناسبة أحسن من تلك المناسبة لتعلمه.. فطلبت منه أن يعطيني حاشية من الحواشي على الألفية، فقال لي، والابتسامة تشع من شفتيه: أتسمح لي أن أسألك سؤالا؟

قلت: سل ما بدا لك.

قال: هل أنت مبتدئ في تعلم النحو.. أم لك خبرة سابقة فيه؟

قلت: بل أنا مبتدئ.. وإن شئتُ قلتُ: أنا أجهل الناس بهذا العلم.. وقد دعتني الغربة إلى الانشغال بتعلمه.

قال: فأنصحك إذن أن تقرأ كتبا أيسر وأبسط.. ولدينا الكثير منها هنا.

قلت: لكني سمعت أن هذه الحاشية من أفضل ما كتب في النحو.

قال: الأفضل يتعدد.. فما صلح لزيد قد يضر عمرا، وما حسن لبكر قد يقبح بخالد.

قلت: لا بأس.. سأعمل بنصيحتك.. دلني على هذه الكتب التي نصحتني بها..

سار بي قليلا في أركان المكتبة.. وفي جناح من أجنحتها كتب على لوحه (نحوُ المبتدئين)، وكتب في الدرج الذي فوقه (نحوُ المتوسطين)، وفي درج فوقهم جميعا (نحوُ المحترفين)

قلت: هذه أول مرة في حياتي أرى الكتب ترتب بهذا الأسلوب؟

قال: ليست كتب النحو وحدها هي التي رتبت بهذا الأسلوب.. لقد من الله علي، فرتبت الجميع بحسب مراتبها..

قلت: أنت مهتم بمكتبك، وبزبائنك كثيرا؟

قال: هذه مكتبة أخ من إخواني في الله..

قلت: فأنت تعمل عنده؟

قال: أنا أعمل عند الله.. لقد رأيت هذه الكتب لا تراعي مراتب الناس، فأردت أن أرتبها، ليتيسر على كل طالب علم أن يجد بغيته من غير عناء.. وقد طلبت من صاحب المكتبة أن أفعل هذا.. في البداية رفض.. ولكنه عندما رأى نفور الناس من مكتبته، طلب مني أن أرتبها بحسب ما ذكرت له.. وهو الآن ـ بحمد الله ـ راض عما يجنيه منها، بل يعتقد أن الترتيب الذي وضعته هو السر في إقبال الزبائن عليها.

قلت: من أنت.. لكأني بك أحد الذين أبحث عنهم؟

قال: أنا الذي أعرف للمراتب حقها.. فلا أتجاوز بها منازلها.

قلت: ففمك هو الفم الأول؟

قال: إن كانت الحكمة هي الفم الأول.. ففمي ـ بحمد الله ـ هو ذلك الفم.

قلت: لقد طلبت من صاحب هذه المكتبة أن ترتب كتبه لوجه الله.. فهل لك أن ترتب كتبي لوجه الله؟

قال: إن كنت الباحث عن الهادي.. فقد ظفرت ببغيتك عندي.

قلت: أنا ذلك الرجل..

قال: فاصبر معي لأعلمك حكمة الحكيم الذي يضع الأمور في مراتبها، ولا يتجاوز بها منازلها.

قلت:{ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} (الكهف: 69)

***

سرت معه إلى بيته.. وقد كان في غاية النظام والترتيب.. وغاية الجمال والتناسق، قلت له: أراك تهتم بالترتيب في كل شيء..

قال: من رأى النظام البديع الذي بنى الله به أكوانه، ورأى الترتيبات العجيبة التي رتبها لا يملك إلا أن يجعل من حياته كلها مرآة يتجلى فيها بديع الصنع الإلهي.

قلت: البعض يعتبر ذلك وسوسة.

قال: الوسوسة في الفوضى، لا في النظام.. والوسوسة في عالم النفس، لا في العوالم المرتبطة بالله.. ونحن بحمد الله لا نتحرك حركة إلا بنية تربطنا بالله.. فلذلك نرجو من الله أن يأجرنا عليها..

قلت: سواء كانت من الدنيا أو من الآخرة.

قال: ليس هناك دنيا ولا آخرة إلا في أعين المحجوبين.. أما الموصولون بالله، فهم عبيد لله مطلقا.. سواء كانوا في هذه الدار أو في تلك الدار.

شد انتباهي في مكتبة بيته أربعة سجلات ضخمة.. غلافها مفهرس بفهارس مختلفة، فقلت: أهذه كتب تكتبها؟

قال: بل هذه مشاريع لكتب أكتبها.

قلت: في أي مواضيع تكتب.. لا بد أنك تكتب في الشريعة؟

قال: أنا أكتب من يكتب في الشريعة.. أو من يعيش الشريعة.

قلت: لم أفهم.. ما الذي تقصد؟

قال: افتح دفترا منها، وسترى ما أكتب.

مراتب المخاطبين

فتحت الدفتر الأول، وكان عنوانه (مراتب المخاطبين).. وقد زين غلافه بقوله تعالى:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286).. وفوقها كتب قوله تعالى:{  لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق:7)، وبينهما قوله تعالى:{ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طـه: 50)

قلت: لاشك أن هذا الكتاب في فقه الدعوة.. فإني أرى لك اهتماما بهذا النوع من الفقه.

قال: افتحه.. وستعرف موضوعه..

فتحته.. فتعجبت.. فلم أر فيه إلا جداول كثيرة ملئت بأسماء كثيرة.. وبجانب كل اسم وضعت بعض المعلومات المرتبطة به..

قلت، وقد أصابني بعض الفزع: أنت من المخابرات إذن؟

ضحك، وقال: تستطيع أن تقول ذلك.. ولكني من المخابرات الإلهية.. لا المخابرات الأرضية.

قلت: فما الفرق بينهما؟

قال: المخابرات الأرضية تبحث عن أمن الأرض، وأمن أهل الأرض.. ومخابرات أهل الله تبحث في أمن النفس، وأمن عالم النفس..

قلت: وما حاجة عوالم النفس لهذه المعلومات؟

قال: ألا ترى الطبيب الحاذق الناصح الماهر كيف يسجل مرضاه.. ويسجل ما يرتبط بمرضهم من تواريخ ومن أدوية.. ونحوها؟

قلت: أجل.. رأيت بعض الأطباء يفعل ذلك؟

قال: لم؟

قلت: يفعل ذلك نصحا للمرضى.. وحتى لا يسقيهم دواء قد يصطدم مع بعض أدوائهم.

قال: وهكذا عالم النفس.. وعالم الروح.. وجميع العوالم الخفية التي يتكون منها بنيان الإنسان.. فقد يصطدم الخطاب مع بعضها مع الآخر.. وذلك قد يؤدي إلى تشنجات خطيرة لا يصبح بها الإنسان إنسانا.

قلت: فماذا فعلت حتى تتجنب هذا النوع من التشجنات؟

قال: سجلت أسماء جميع المرضى الذين رغبت في علاجهم.. ثم سجلت ما يرتبط بكل واحد منهم من طباع وعلل وحاجات مختلفة حتى أراعيها في حال خطابي لهم حتى لا أسقيهم من الشريعة ما ينفرهم عنها.

قلت: أراك وضعت أمام كل اسم ست خانات..

قال: أجل.. فقد رأيت أن كل إنسان يختلف عن غيره في طباعه وقدراته وتوجهاته وأحواله وحاجاته، وأحيانا يكون الشخص من عائلة معينة، وتكون لهم أعراف معينة.. فلذلك صارت الخانات ستا.

قلت: من أي عالم نفس.. أو من أي عالم اجتماع.. استلهمت هذه المعاني؟

قال: من عالم العلماء، وإمام الأئمة، وهادي الهداة وحكيم الحكماء..

قلت: من؟

قال: ومن غير السراج المنير الذي أنار الله به عوالم الدين والدنيا!؟

قلت: محمد رسول الله !؟

قال: مبتدع أنا إن سرت خلف غيره.. ودني همة أنا إن اخترت لنفسي قالبا غير القالب الذي اختاره.

قلت: فحدثني عن شواهد استنانك.. فلا يمكن أن نثبت السنة إلا بالسنة.

قال: وبالقرآن.. ألم يكن خلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو القرآن؟

قلت: بلى.. هكذا ذكر المحدثون.

قال: بل هكذا حدث القرآن وحدثت السنة وحدثت السيرة.. وحدث كل من شهده صلى الله عليه وآله وسلم وتشرف بصحبته.

الطباع:

قلت: فلنبدأ من الخانة الأولى.. ما الذي تريده بالطباع؟

قال: لقد تأملت الخلق، فرأيتهم متفاتين في طباعهم تفاوتا عجيبا، فرأيت منهم صاحب الحس المرهف، الذي يتأثر بالعاطفة، ويستجيب للموعظة بسهولة.. ورأيت منهم العقلاني الذي لا يناسبه إلا الطرح العقلي، والاستدلالات العقلية.. ورأيت منهم الذي يؤخذ بالترغيب.. ورأيت منهم الذي يتأثر بالترهيب.. ورأيت منهم المسالم المنصت.. ورأيت منهم المجادل العنيد.. ورأيت منهم المتعالم.. ورأيت منهم المتجاهل.. ورأيت منهم القوي.. ورأيت منهم الضعيف.

وقد رأيت من العبث ألا ألتفت إلى هذه الصفات المتنافرة.. لأني حينذاك لن أحصد إلا الفشل.. بل سأكون حينها كمن يزرع في الأرض الجافة النباتات التي تحتاج إلى الرطوبة.. فيقتلها بالجفاف، ولا يجني غير السراب.

قلت: لا شك أن التأمل هو الذي هداك لهذا؟

قال: لقد تغذى تأملي بالقرآن الكريم.. ولولا القرآن الكريم.. ولولا تدبره ما اهتديت إلى هذا.. لقد رأيت القرآن الكريم كيف يتغلغل إلى النفس، ليوحي إليها قدرة بارئها على معرفة ما يجري داخلها..

اسمع لقوله تعالى:{ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24).. وقوله:{ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ} (غافر: 19).. وقوله:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق: 16)

واسمع كيف تُشعرنا هذه الآيات بهيمنة الله على ملكوته ؛ بالعلم والقدرة والسمع والبصر، وبمراقبة الله للعبد في كل حين، وفي كل قول وفعل.. { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} (الأنعام:18)..

ألا ترى كيف تختم هذه الآية باسم (الخبير).. إن هذا الاسم يعني أن الله هو العالم بخفايا الأمور، والمطلع على دقائق الأشياء.. ولذلك يتعامل مع عباده على أساسها؟

لذلك يخبرنا الله تعالى في معرض الحديث عن أحكامه عن خبرته بأعمال خلقه، لأن العالم بذوات الخلق أعلم بأعمالهم([2]):

ففي معرض ذكر الله تعالى لجواز تزين النساء بعد انتهاء إحدادهن، قال:{  وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة:234)

وهي تحمل عتابا مبطنا لمن ينكر عليهن، لأن في إنكاره تعديا على الله، فالله هو الخالق الخبير بخلقه، وهو أعلم بما في نفوسهم وبواطنهم، وله وحده لذلك الحق في الإنكار أو عدمه.

وفي معرض ذكره للصدقات قال تعالى:{ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة:271)، فالله تعالى عقب على هذا السلوك الذي هو إظهار الصدقات أو إخفائها بكونه خبيرا، وكأنه يخبر من أظهر الصدقات بأن الله خبير يعلم نيته في إخراجه لها علانية… فالعلانية لا تدل بحد ذاتها على الإخلاص أو على الرياء، ولهذا فهي تحتاج إلى خبير يميز بينهما.

ومثل هذا يقال في قوله تعالى:{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (آل عمران:153)، وقوله تعالى:{ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (آل عمران:180) وغيرها من آيات القرآن الكريم.

لقد كان لي صاحب من مصر.. كان اسمه سيد.. وقد حدثني مرة عن هذا، فقال ـ وهو يحدثني عن الأسلوب الذي تميز به القرآن المكي ـ:(كان هذا القرآن يُواجه به النفوس في مكة، ويروضها حتى تسلس قيادها، راغبة مختارة، ويرى أنه كان يواجه النفوس بأساليب متنوعة، تنوعاً عجيباً.. تارة يواجهها بما يشبه الطوفان الغامر، من الدلائل الموحية، والمؤثرات الجارفة.. وتارة يواجهها، بما يشبه السياط اللاذعة تلهب الحس، فلا يطيق وقعها، ولا يصبر على لذعها! وتارة يواجهها بما يشبه المناجاة الحبيبة، والمسارَّة الودودة، التي تهولها المشاعر، وتأنس لها القلوب..! وتارة يواجهها بالهول المرعب، والصرخة المفزعة، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم القريب..! وتارة يواجهها بالحقيقة في بساطة، ونصاعة، لا تدع مجالاً للتلفت عنها، ولا الجدل فيها.. وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح، والأمل الندي، يهتف لها ويناجيها.. وتارة يتخلل مساربها، ودروبها ومنحنياتها، فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها، فترى ما يجري في داخلها رأي العين، وتخجل من بعضه، وتكره بعضه، وتتيقظ لحركاتها، وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها!.. ومئات من اللمسات، ومئات من اللفتات، ومئات من الهتافات، ومئات من المؤثرات.. يطلع عليها قارئ القرآن، وهو يتبع تلك المعركة  الطويلة، وذلك العلاج البطيء، ويرى كيف انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصيّة العنيدة)([3])

قلت: أعرف طريقة القرآن الكريم في هذا.. ولكن هذا كلام الله، والله هو اللطيف الخبير، العالم بما دق وما جل.. ولا يمكن لغير الله أن يفعل هذا؟

قال: الكامل هو الذي يتأسى بربه.. ويترقى ليتخلق بما تقتضيه أسماؤه الحسنى.. وقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو النموذج الأكمل لهذا التأسي وهذا الترقي.

أنت تعلم أن أبا ذر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكبار؟

قلت: أجل.. فقد كان من أوائل السابقين إلى الإسلام، أسلم في أول البعثة خامس خمسة، وكان رأسا في العلم والزهد والجهاد وصدق اللهجة والاخلاص.. وكان يوازي ابن مسعود في العلم.. وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.. من سره أن ينظر إلى زهد عيسى بن مريم، فلينظر إلى أبي ذر)([4])

قال: ومع هذا الفضل العظيم.. فقد نصحه صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يتولى الإمارة.. بل نَصَحَهُ أن لا يقترب منها..

قلت: ذلك صحيح، فقد حدث أبو ذرٍ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا أبا ذرٍ إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيمٍ)([5])، وفي رواية عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)([6]

قال: فقد لاحظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا طباع أبي ذر.. فأبو ذر صادق وزاهد.. ولكن طبعه الذي جبله الله عليه لا يسمح له بتولي الإمارة.

قلت: وعيت هذا..

قال: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يلاحظ الطباع في جميع ما يفعله، وما يتعامل به..

القدرات:

قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الأولى.. فما (القدرات) التي وضعتها في الخانة الثانية؟

قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها يختلفون كذلك في توجيههم للقدرات والملكات التي وهبهم الله.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف:32)

فبعضهم صرف هذه القدرات للعلم.. وبعضهم صرفها للتجارة.. وبعضهم صرفها للسياسة.. وبعضهم للصناعة.. وهكذا.. وليس من الحكمة أن يخاطب الجميع بنفس الأسلوب..

قلت: صحيح ما ذكرت.. وقد رأيت في الواقع من يسئ التصرف في مثل هذا.. فلا يجني من تصرفه إلا الشوك والحنضل..

قال: ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكيم الحكماء يراعي هذه النواحي في خطابه وفي تعامله:

ومما ورد في السنة من مراعاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأحوال المدعويين العلمية حديث ذلك الأعرابي الذي بال في المسجد، وكشف عورته فيه، فقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقعوا فيه.. لكن سيد الحكماء صلى الله عليه وآله وسلم أدرك حاله من الجهل، وأدرك أنه ـ في ذلك الحين ـ كان في حالة خاصة، فعالجه بما يناسب حاله.. فعالج جهله بالتعليم.. وعالج الحالة الخاصة التي كان عليها بتأخيره حتى يفرغ من بوله، ولو كان في المسجد، ولو كان كاشف العورة، لأن مفسدة قطعه من بوله أعظم من مفسدة ما يفعل..

لقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله، ونهى الصحابة أن يتعرضوا له، بل منعهم من أن يقطعوا عليه بوله، فقال: (لا تُزرِمُوه)

 ثم ما إن انتهت حاله هذه حتى بدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعالجة حاله الأصلية، وهي الجهل، فبدأ يُعلِّمُهُ برِفق، حتى قال الأعرابي قولته المشهورة، التي أضحكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً)([7])

وقريب من هذا ما حدث به صحابي آخر، فقال:(بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) ـ أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالا يأتون الكهان قال: فلا تأتهم قال: ومنا رجال يتطيرون قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنكم، قال: قلت ومنا رجال يخطون قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك)([8])

انظر.. لقد كان سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا الرجل المبتدئ في الإسلام سببا لأن يقول هذه الشهادة التي ظلت الأجيال تحفظها:(ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني)

وانظر كيف ألان ذلك التعليم الرحيم قلب الرجل، فراح يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك الأسئلة التي لم يتجرأ على سؤاله عنها لو أنه لم ير من رحمته ورفقه ما رأى.

وانظر في مقابل هذا كيف غضب من أسامة لما شفع في شأن المخزومية، فقد روي أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟)، ثم قام فاختطب، ثم قال: (إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وأيُمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها)([9])

وجدت في بعض خانات هذا العمود كلمة (صاحب مكانة)، وأمامه كتب ملاحظة (يحتاج إلى عناية خاص)، فقلت: ما هذا؟.. ألم تقرأ سورة عبس([10]

قال: بلى.. قرأتها.. فما علاقتها بهذا؟

قلت: لقد أبدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الاهتمام ببعض سادة قريش، فنهي عن ذلك.

قال: لم ينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اهتمامه بالقرشيين، وإنما نهي من التقصير في حق الأعمى.

قلت: كلا الأمرين سواء.

قال: لا.. النهي عن شيء لا يدل على النهي على غيره إلا بدليل..

قلت: ألا يكفي في الاستدلال قوله تعالى:{ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)} (عبس)؟

قال: هذه الآيات الكريمة تتحدث عن المستغني عن الله.. وهو يتحقق في الأغنياء كما يتحقق في الفقراء..

قلت: ولكن كيف بدا لك أن تضع أمامه تلك الملاحظة؟

قال: هذا لم يبدو لي.. بل هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. بل هي سنة الأنبياء قبله جميعا.. لقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم دعوة الأنبياء إلى الملأ من قومهم، وتلطفهم معهم..

لقد ذكر الله تعالى كيف أرسل موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ إلى فرعون، فقال:{ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} (طه).. انظر كيف أمرهما الله تعالى بدعوة فرعون بكلام رقيق لين ‏سهل، ليكون أوقع في النفوس.. ذلك ‏أن الكلام الذي فيه خشونة من أعظم أسباب النفرة، لا سيما إذا كان المدعو من الكبراء الذين تغلب عليهم صفة الكبر والتجبّر.

قلت: إن موقف موسى u في هذا موقف خاص.. ولا يصح القياس عليه.

قال: لا بأس.. فلنعتبره موقفا خاصا.. ولنسر نحو النبي الحكيم لنرى كيف كان يتعامل مع هذا النوع من الناس.. فالسنة لا تتلقى إلا منه..

لقد وردت النصوص الكثيرة الدالة على حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إسلام هؤلاء.. ففي السيرة روي: اجتمع علية من أشراف قريش.. فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ‏ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعا، وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بدو ‏، وكان حريصًا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم.

ومما يدل على هذا موقفه صلى الله عليه وآله وسلم مع عتبة بن ربيعة، وهو أحد سادات قريش([11])، فقد أظهر ‏ صلى الله عليه وآله وسلم من العناية به والتلطف في دعوته ما جعله يعود بغير الوجه الذي جاء به.

بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بعرض الدعوة على ذوي المكانة من الأشراف والسادة، قال ابن إسحاق:(لما ‏انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف ‏وأشرافهم.. فدعاهم إلى الله)([12])

ثم لما عاد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة كان لا يسمع بقادم يقدمها من ذوي المكانة والشرف إلا ‏تصدى له فدعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده، ثم بدأ يعرض دعوته على وفود العرب في ‏موسم الحج وأسواق العرب، وكانت مناسبات هامة للالتقاء بذوي المكانة من رؤساء العرب.

وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم الحكمة في العناية بذوي المكانة بقوله:(لو آمن بي عشرة من ‏اليهود لآمن اليهود)([13]).. لقد علق ابن حجر على هذا الحديث بقوله:(والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود ومن عداهم كان تبعًا لهم)([14]

وهذا هو الأسلوب الذي انتهجه ورثته مع أمثال هذا النوع:

فمصعب بن عمير وهو مبعوثه صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليقوم بمهمة ‏الدعوة والتعليم ـ أظهر عناية خاصة بذوي المكانة في المجتمع ‏المدني، فقد استفاد من أسعد بن زرارة وهو من ذوي المكانة في قومه حيث ‏نزل ضيفًا عليه، وأخذ يصطحبه في جولاته الدعوية ليقوم بمهمة تعريفه بذوي المكانة ليوليهم عناية خاصة في الدعوة، فحينما دخلا حائط بني عبد الأشهل، وأقبل عليهما ‏أسيد بن حضير لزجرهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه ‏قد جاءك، فاصدق الله فيه.

وحينما أسلم أسيد بن حضير، قال لهما مبينًا مكانة سعد بن معاذ في ‏قومه: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد ‏بن معاذ.. فلما أقبل سعد قال أسعد لمصعب: (أي مصعب، جاءك والله سيد من ‏وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان)([15]

فكان لهذه العناية بهذين الرجلين الأثر البالغ حيث أسلم بإسلامهما جميع دور بني الأشهل.

التوجهات:

قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الثانية.. فما (التوجهات) التي وضعتها في الخانة الثالثة؟

قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، يختلفون كذلك في توجهاتهم.. فمنهمالملاحدة الذين لا يؤمنون برب، ولا رسول، ولا كتاب، ولا دين.. ومنهم المشركون الذين يعبدون الأصنام.. ومنهم أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله خالقاً، وبكثير من الرسل.. ومنهم المنافقون الذين يُظهِرون الإسلام، ويُبطِنون الكفر.. ومنهم العُصاة الذين طغت عليهم المعصية، حتى أصبحت تُلازِمهم، فلا يهتمون بدين، ولا يُفكرون بتوبة.. ومنهم المقتصدون الذين يأتون بالواجبات، ويجتنبون المحرمات، ولكنهم لا يسارعون في الخيرات، وإذا ما وقعوا في بعض الذنوب لم يصروا عليها، ويسارعون إلى التوبة.. ومنهم بعد ذلك كله الأخيار الذين أتوا بالواجبات على وجهها، وبمعظم النوافل، واجتنبوا محارم الله أو تابوا منها توبة نصوحاً.. وبين هؤلاء جميعا طبقات كثيرة لا يمكن حصرها.

فهل ترى من الحكمة أن يخاطب هؤلاء جميعا بأسلوب واحد وبمعاني واحدة؟

قلت: لا شك في أن ذلك لا يصح.. ومن فعل ذلك يكون كمن عالج مريض القلب بأدوية الزكام.. أو عالج المزكوم بأدوية أمراض القلب.

قال: ولهذا وضعت هذه المرتبة.. فلم أر من الحكمة أن أتكلم مع الملاحدة عن طاعة الله، ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والتمسك بالدين، وأحتج لهم بالآيات والأحاديث، وهم لا يؤمنون برب، ولا يقرون بدين.

ولم أر من الحكمة أن أتكلم مع أهل الكتاب عن أهمية الصلاة، أو أحكام الطلاق، وهم لا يُسلِّمون بالأصل.

قلت: فأين هذا في القرآن الكريم أو في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تستند للقرآن؟

قال: هذا كثير في القرآن.. فالقرآن الكريم يذكر اختلاف أصناف الناس.. ويذكر مدى تميزهم في توجهاتهم.. فالله تعالى يقول ـ مثلا ـ عن أصناف ورثة الكتاب:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر:32)

وهو يخاطب الناس بحسب توجهاتهم.. فيخاطب الدهريين بإثبات وجود الخالق، فيقول:{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيىءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ }(الطور: 35)، ويقول:{ هـَذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ}(لقمان: 11)، ويقول:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} (الروم: 20)

ويحاجَّ إبراهيمُ ـ عليه السلام ـ الدهريَّ بقوله:{ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِى بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (البقرة: 258)

ويخاطب المشركين بما يناسبهم في اعتقاداتهم، فيقول:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىَ يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61)، فألزمهم الله بمقتضى هذا الإيمان أن لا يشرك به.. لأن العبادة تصرف لخالق هذا الكون والمتصرف فيه، ولا تصرف لغيره.

وقال تعالى مخاطبا لهم:{ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الأعراف: 194)

وقال:{ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: 20، 21)

وقال:{ وَمَنْ أَضَلّ مِمّن يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَن لاّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ} (الأحقاف: 5)

ويخاطب أهل الكتاب بما يناسب معتقداتهم، فيقول:{ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىَ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64)، ويقول:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء:171)، ويقول:{ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المائدة:75)

بل يقول لهم:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (المائدة:68)، فانظر كيف أمرهم باتباع ما يعتقدون صحته، ولم يأمرهم مباشرة باتباع القرآن، لأن اتباعهم للتوراة الصحيحة سيجعلهم ـ لا محالة ـ يؤمنون بالقرآن.

ومثل ذلك خطاب القرآن الكريم لعُصاة المسلمين، فقد خاطبهم بما يتناسب وإيمانهم، وتسليمهم لأمر ربهم، فتارة يُخاطبهم بما في قلوبهم من إيمان فيقول:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد:16)

وتارة يُخاطبهم بالترهيب كقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (البقرة:278)، وقوله:{ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} (البقرة: 231)، وقوله:{ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (النور:17)، وقوله:{  فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 275)

وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع مختلف أصناف.. فيعطي لكل شخص حقه من التوجيه والخطاب..

فقد خاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل الكتاب بغير ما كان يخاطب به كفار قريش.. فخاطب اليهود ـ مثلا ـ بوجوب التزامهم التوراة الصحيحة، وعدم التحريف فيها، فلو أنهم التزموها لآمنوا، ومما وري في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاطب وفد نجران ـ وهم من المسيحيين ـ في إبراهيم u بأنه لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً..

وكان قد كتب لهم قبل ذلك يقول:(بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران.. إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب،  أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد..)([16])

فانظر كيف ذكر لهم الأنبياء وسماهم لهم لكونهم يؤمنون بهم..

وهكذا في خطابه صلى الله عليه وآله وسلم لملوك وسلاطين العالم، فقد كان يخاطبهم بحسب توجهاتهم الدينية، ولذلك كان خطابه لكسرى مختلفا عن خطابه للنجاشي.

الأحوال:

قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الثالثة.. فما (الأحوال) التي وضعتها في الخانة الرابعة؟

قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، ويختلفون في توجهاتهم، يختلفون كذلك ـ وبشكل كبير ـ في الأحوال التي تمر بهم.. فقد ينتقل الإنسان من الثراء الفاحش إلى الفقر المدقع.. وقد ينتقل من الصحة والعافية إلى المرض والبلاء.. وليس من الحكمة أن يخاطب في جميع الأحوال بأسلوب واحد، وبمعاني واحدة..

قلت: ما ذكرته صحيح.. وهو عين الحكمة.. ولكن هل ورد في النصوص المقدسة ما يدل على مراعاة هذا؟

قال: جاهل أنا إن حكمت عقلي.. وهربت من النصوص المقدسة.. إن الغنى كل الغني في النصوص المقدسة..

ففي مراعاة هذه الناحية ورد قوله تعالى ـ مثلا ـ:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97)

انظر.. إن هذه الآية تحوي عتابا شديدا لهؤلاء المستضعفين باعتبار أنهم أطاقوا الهجرة، لكنهم لم يفعلوا.. بينما الآية التالية تستثني أصحاب الظروف الخاصة الذين قعدت بهم ظروفهم عن الهجرة، قال تعالى:{ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} (النساء:98)

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يراعي هذه الناحية.. والأمثلة كثيرة على ذلك..

من ذلك مثلا أن أبا ذر لما أسلم أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع إلى قومه قائلا له:(ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري)([17])، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أمره أن يمكث في أهله، ولا يهاجر حتى ينتصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويتمكّن في الأرض.

قلت: كيف ذلك مع أن الهجرة كانت فرضا.. وقد قال تعالى:{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (لأنفال:72)

قال: لأن ظروف أبي ذر كانت تختلف اختلافا كبيرا عن ظروف سائر الصحابة.. فلم يكن أبو ذر من أهل مكة، ولم يكن له ناصر منهم، فيؤذونه أذى كبيرًا، فلذلك طلب منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك.

قلت: وعيت هذا.. فاذكر لي أمثلة أخرى..

قال: من ذلك ـ مثلا ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بامرأة تبكي على ولدها، فقال:(اتقي الله واصبري)، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم تجد عنده بَوَّابِين، فقالت: لم أعرفك، فقال:(إنما الصبر عند الصدمة الأولى)([18])

انظر.. لا شك أن  كلمتها (إليكَ عني) كلمة كبيرة على أحدنا، فكيف إذا قيلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكيم الحكماء، أدرك ما كانت المرأة عليه من حالة خاصة، فضلاً عن أنها لم تعرفه.. فاكتفى بأن أعرض عنها، بل أعرض عن تعليمها، لأنها في حال لا يُمَكّنها من القبول والفهم، فلما جاءته وكانت في نفسية غير نفسيتها الأولى، أقبل عليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعظها ويعلمها ولا يعاتبها.

ومثل ذلك ما روي أن شابا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه، فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم قال أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحَصِّن فَرْجَه قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء([19]).

انظر كيف أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حالته الخاصة، فلقد كان يتصارع في نفس الشاب شهوة عارمة، وإيمان صادق، ولم ير الشاب ـ وقتئذ ـ حلاً لهذا الصراع، وَفَضَّاً لهذا النزاع.. إلا إذناً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجاوز به حدود الشرع.. فأدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال الشاب، فلم يتوجه إليه بموعظة إيمانية، فضلاً عن أن يُعنِّفه أو يُوَبِّخه أو يطرده، بل راح يُذَكِّرُهُ بما في هذا العمل من مفسدة أخلاقية عظيمة.. تستبشعها الفطر السليمة، وتستقبحها النفوس العفيفة..

قلت: ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)([20]) مما يمكن أن يدخل هذا الباب؟

قال: بورك فيك.. أجل.. فهذ الحديث يدل على أنه إذا سقط من عُرِفَ عنه التُّقى، أو الوجاهة، في زلة أن يُعفى عنه، ويُغض الطرف عن زلته..

قلت: لقد ذكرتني بما ورد من إكرام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدي بن حاتم الطائي لما قدم إليه.. فقد قدم له وسادة إكراماً له، فهو ابن كريم مشهور([21]).

قال: الأمثلة في هذا أكثر من أن تنحصر.. وقد أشار إلى قاعدتها وقاعدة هذا الباب جميعا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أنزلوا الناس منازلهم)([22])

الحاجات:

قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الرابعة.. فما (الحاجات) التي وضعتها في الخانة الخامسة؟

قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، ويختلفون في توجهاتهم، ويختلفون في أحوالهم، يختلفون كذلك في الحاجات التي تعرض لهم..

وليس من الحكمة أن يتجاهل الحكيم تلك الحاجات أثناء خطابه لهم..

قلت: ما هذه الحاجات؟

قال: الحاجات كثيرة.. فقد يكون المخاطب مريضا يحتاج إلى العلاج.. وقد يكون جائعا محتاجا إلى طعام.. وقد يكون ظمآن.. وهكذا.. ومما يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر الأئمة أن يخففوا من الصلاة، معللاً ذلك بقوله:(أيها الناس إنكم منفرون، فمن صلّى بالناس فليخفف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة)([23])

قلت: لقد فهمت.. إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث يأمرنا بأن نراعي الحاجات المختلفة، ونتعامل مع أصحابه على أساسها.

قال: صدقت.. فلا ينبغي للحكيم الداعية إلى الله أن يغفل عن حاجات الناس المختلفة.

الأعراف:

قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الخامسة.. فما (الأعراف) التي وضعتها في الخانة السادسة؟

قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها، ويختلفون في قدراتهم، ويختلفون في توجهاتهم، ويختلفون في أحوالهم، ويختلفون في الحاجات التي تعرض لهم، يختلفون كذلك في الأعراف التي تؤمن بها البيئات التي نشأوا فيها.. بل تذعن لها.

وليس من الحكمة أن يتجاهل الحكيم تلك الأعراف أثناء خطابه لهم..

قلت: ولكن الأعراف قد تكون أعراف سوء.. والداعية إلى الله السائر على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكلف بتطهير البيئات منها لا بإقرارها..

قال: لقد وضعت في هذه الخانة ثلاثة أنواع من الأعراف.. وكلها مما يحتاج الحكيم للتعرف عليه، ومعاملة المخاطبين على أساسه.

قلت: فما النوع الأول؟

قال: ما ذكرت من العادات السيئة والأعراف القبيحة..

قلت: فما العمل مع هذا النوع من الأعراف.. هل يقرهم الحكيم عليه؟

قال: لا.. الحكيم لا يقر حراما..

قلت: إذن هو يسعى لتغييره.

قال: بما تقتضيه الحكمة.. لا بما يقتضيه الطيش.

قلت: فما الفرق بينهما؟

قال: الحكيم يتعامل مع مثل هذه الأدواء مثلما يتعامل الجراح الماهر مع ما يريد استئصاله من الأدواء.. فهو يتلمس لذلك كل سبل الحكمة.. بينما الطائش لا يبالي بما يفعل، وقد يقتل المريض بطيشه.

قلت: فهل يمكن أن تضرب لي أمثلة عن هذا النوع من الأعراف؟

قال: إن في بلادنا أعرافا كثيرة متوارثة.. ولها تحكم في الكثير من الناس.. ولم أر من الحكمة أن نستعجل بالإنكار عليها.. بل رأيت أن الأولى هو تقديم القناعات الكافية التي تجعل أصحاب هذا النوع من الأعراف يقلعون عنها من غير شعور.

قلت: أليس السكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز؟

قال: لكل حاجة وقتها ومرتبتها.. ولا يصح أن نخترق المراحل.. أو نبدل الأوقات..

قلت: فهل لذلك دليل من السنة؟

قال: أدلة ذلك لا تحصى.. لقد جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيئة كانت ممتلئة بالعادات القبيحة.. أخبرني كيف كانت عقود الزواج في تلك البيئة التي جاءها النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

قلت: لقد كانت عقود الزواج فيها أكثرها عقود سفاح([24]).

قال: فهل رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خلال ما ورد في السيرة.. أو من خلال ما ورد في القرآن المكي يتحدث عن هذه القضايا، ويركز عليها، ويجعلها محط اهتمامه؟

قلت: لا.. ولولا أن المحدثين ذكروها في أسباب نزول بعض آيات المدنية ما عرفنا ذلك.

قال: لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكيما في تعامله مع البيئة التي كلف بإصلاحها.. لقد بدأ بالمحرك الذي يتحرك من خلاله كل سلوك إنساني، فأصلحه.. فلما أصلحه صلح الإنسان جميعا..

قلت: فما النوع الثاني؟

قال: على عكس هذا.. عادات طيبة متوارثة.. كالكرم والمروءة، وإغاثة الملهوف، والتعاون في حاجات المجتمع، وما شابه ذلك.

قلت: لقد كفى هؤلاء شرهم.. فما حاجتهم للحكيم؟

قال: الحكيم هو الذي يعتني ببذور الخير الموجودة في هذه النفوس والمجتمعات ليخرج منها الثمار اليانعة الطيبة.

قلت: فهل ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى هذه؟

قال: أجل.. فنحن بحمد الله لا نستقي إلا من بحار النصوص المقدسة.

قلت: فاذكر لي أمثلة على ذلك.

قال: من أمثلة ذلك أن القرآن الكريم أثنى على بعض العادات الطيبة عند أهل الكتاب، فقال ـ مثلا ـ:{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:75).. فهذه الآية تثني على الوفاء عند بعض من أهل الكتاب.. ولم يمنع كفرهم من الثناء عليهم.

قلت: وعيت هذا.. فهل ورد في السنة ما يشير إليه؟

قال: لقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثنى على بعض أفعال الجاهلية، ومن ذلك ثناؤه على التحالف الذي كانوا يفعلونه على عمل الصالحات، كحلف المطيَّبين([25])، وحلف الفَضول([26])، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(شهدت حلف المطيَّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَمِ، وأني أنكثه)([27])

قلت: فما النوع الثالث؟

قال: بين هذا وذاك.. عادات سكت عنها الشرع، فلم يحرمها ولم يوجبها.. وقد ترك الشرع هذه المساحة عفوا..

قلت: مثل ماذا؟

قال: مثل ما اعتاده الناس في أطعمتهم وألبستهم وولائمهم وأفراحهم، وأدويتهم، وطرق بنائهم، وما شابه ذلك..

قلت: وما حاجة الحكيم لهذا؟

قال: ألا تعرف المثل الذي يقول (إذا كنت في قوم فاحلب في إنائهم)؟

قلت: بلى.. أعرفه..

قال: فالحكيم هو الذي يطبقه مع مخاطبيه.. فهو يراعي أعرافهم ويحترمها ليكون ذلك سببا في إقبالهم عليه، وانفعالهم له.

قلت: فهل لذلك أمثلة؟

قال: بل ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك قاعدة لها تحكم في كثير من فروع الأحكام.. لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في هذا: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)([28])

مراتب الخطاب

وضعت الدفتر الأول في محله، ثم فتحت الدفتر الثاني، وكان عنوانه (مراتب الخطاب).. وقد زين غلافه بقوله تعالى:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177)،وتحتها قوله تعالى:{ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (البقرة:189)

قلت: أهذا الدفتر ـ مثل الذي سبقه ـ وضعته لأسماء من تريد أن تخاطبهم؟

قال: لا.. لقد وضعت في هذا الدفتر المعاني التي أريد أن أخاطب بها من أرى نفسي ملزما بدعوتهم إلى الله.

قلت: الدعوة تشمل الإسلام جميعا بجميع ما ورد فيه من تفاصيل..

قال: والحكيم هو الذي يضع تفاصيل أحكام الإسلام في مراتبها الصحيحة.. فلا يتجاوز مرتبة قبل أن يحكم التي قبلها.

قلت: لم أفهم.

قال: بم وصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معاذا ‏حين بعثه إلى اليمن؟

قلت: لقد قال له:(إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه ‏شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله ‏قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم ‏أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم)([29])

قال: ألا ترى كيف رتب صلى الله عليه وآله وسلم المواضيع التي أراد من معاذا أن يدعو إليها؟

قلت: ذلك صحيح..

قال: أرأيت لو أن معاذا خلط هذا الترتيب.. فبدأ بالزكاة.. كيف سيتصوره الناس حينها؟

قلت: سيرونه جابيا أو لصا.

قال: فلهذا أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعمق الإيمان في قلوبهم أولا، فإن هم آمنوا أمرهم بالصلاة التي هي عبادة محضة.. فإن هم فعلوا، وزينت قلوبهم بحلاوة العبادة أمرهم حينها بالزكاة والصدقات.

قلت: نعم.. هذا ما تقتضيه الحكمة..

الإيمان:

فتحت الدفتر، وكان أول عبارة قابلتني فيه (الإيمان قبل العمل)، فسألته عنها، فقال: لقد تأملت ما ورد في النصوص حول مرتبتي الإيمان والعمل.. فوجدتها جميعا تنص على تقديم الإيمان على العمل.. فالله تعالى يقول ـ مثلا ـ:{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} (النساء:39).. فقد قدم الله في هذه الآية الإيمان على النفقات..

قلت: أحفظ من ذلك الكثير.. فقد قدم الله تعالى الإيمان على الجهاد في قوله تعالى:{ وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} (التوبة:86)

وقدمه على أدب الاستئذان في قوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور:62)

وقدمه على النفقات في قوله تعالى:{ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (الحديد:7)

قال: وهكذا.. لقد وجدت القرآن في كل المناسبات يرتب الإيمان قبل العمل، فهو يخاطب المؤمنين بالتكاليف بحسب ما عندهم من الإيمان، فيقول ـ مثلا ـ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183)، ويقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة:208)

فهذا النداء المرتبط بالإيمان كأنه يقول للمخاطبين: ما دمتم قد تحققتم بالإيمان، وامتلأتم به، فإن ذلك يفرض عليكم أن تلتزموا بالسلوك الذي يقتضيه الإيمان.

وهكذا في تعليل أسباب دخول الكفار إلى جهنم، فقد قيد الإيمان على العمل، فقال تعالى:{ إنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34} (الحاقة)

قلت: صدقت.. بل إن القرآن يحدد الإيمان كشرط لإمكانية التحقق بالعمل، كما قال تعالى ـ مثلا ـ:{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:232).. فكأن الله تعالى يقول في هذه الآية: إن من لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه لن يتأثر بموعظة، ولن يستجيب لطلب.. ويكون حاله في ذلك كحال الكافرين في قولهم لأنبيائهم:{ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْوَاعِظِينَ} (الشعراء: 136)

ومثل ذلك ما ورد في السنة كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من كان يؤمن باله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليسكت)([30])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليسكت)([31])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً، أو ليصمت) ([32])

فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأحاديث الإيمان بالله واليوم الآخر هو الأساس الذي تنبني عليه تلك المكارم التي حض عليها.

قال: ولهذا.. فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكث في قومه ثلاث عشرة سنة، يدعوهم إلى الإيمان، ويُربِّيهم عليه، دون أن يتعرض لمعظم الأحكام، أو ينهى عن معظم المحرمات.. مع أنه كان من أصحابه في ذلك الوقت من يمارس ما عُدّ بعد ذلك من الكبائر، كالخمر، والميسر وما شابه ذلك، ولم ينههم عنها صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: أجل.. فمن المشهور أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بعد ثلاث سنوات خَلَوْنَ من هجرته صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.

قال: ولذلك كان لذلك النهي تأثيره الكبير الذي لم يكن ليحدث لو لم تفرش تلك الأرضية الصحيحة من الإيمان..

قلت: لقد ورد في الحديث ما يدل على تأثير ذلك النهي في المسلمين، فقد حدث أنس  قال: كان لنا خمر غير فَضِيخِكُم هذا الذي تسمونه الفَضِيخ([33])، فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وماذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلاس يا أنس، قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل([34]).

قال: وهكذا استقبل النساء الأمر بالحجاب..

قلت: أجل.. لقد حدثت عائشة قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله:{ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ} (النور: 31)، شققن مُرُوطَهُنَّ، فاختمرن بها)([35])

قال: أتدري ما الثمرة التي ينالها من قدم الدعوة إلى العمل على الإيمان؟

قلت: هو لن ينال أي ثمرة.. فيستحيل على من لم يؤمن أن يخضع للتكاليف.

قال: الأصل هو ما قلت.. ولكنه بنوع من الهمة والاجتهاد قد ينال بعض الثمار.. ولكنها ثمار مرة سامة.. لقد عبر الله عن تلك الثمار، فقال:{ إِنّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوَاْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسالىََ يُرَآءُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَىَ هـَؤُلآءِ وَلاَ إِلَى هََؤُلآءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (النساء: 142-143)

قلت: تقصد النفاق؟

قال: هكذا سماه القرآن.. فالمنافق هو الذي يتحرك بالحركات الظاهرة.. ولكن باطنه المقصود بتلك الحركات خاو منها.. ولهذا ذكر الله تعالى أنهم يقومون كسالى لأداء أوامر ربهم، ثم هم لا يقصدون بأدائها إلا الرياء والسمعة.

قلت: فهمت سر الرياء.. فما سر الكسل؟

قال: أرأيت لو أن الكسول النائم المستحلي لنومه عرض في السرير الذي ينام عليه حريق.. هل تراه يبقى نائما، أم تراه يسرع فارا بنشاط وحيوية؟

قلت: بل أراه يسرع فارا بنشاط وحيوية.

قال: لم؟

قلت: إن ما يراه من نار تريد أن تلتهمه يجعله يطير من غير جناحين.

قال: فإن لم ير النار في تلك الحال، ولكن ثقة أخبره بأن حريقا سينزل بتلك الدار على تلك الساعة التي ينام فيها.. أتراه يظل نائما؟

قلت: لا.. فالأمر في الحالين سواء.

قال: فالإيمان هو الذي جعله يتحرك إذن بذلك النشاط.. فلولا الإيمان ما حدثت حركة جادة في الوجود كله.. لا في عالم الإنسان وحده.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى:{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُواْ رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 45-46)، فالله تعالى يخبرنا ـ في هاتين الآيتين ـ أن أداء الصلاة شاق على الذين لا يؤمنون بها، ولا يخشعون فيها، وذلك لفقدان الإيمان بالعبادة المؤداة.

قال: قارن بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(جُعلت قرّة عيني في الصلاة)([36])

قلت: وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول لبلال ـ إذا حان وقت الصلاة ـ:(أرحنا بها يا بلال)([37])

قال: وفوق هذا كله فإن الدعوة إلى الإيمان قبل الدعوة للأحكام نوع من مضيعة الوقت.. ذلك أن الإيمان شرطٌ لقبول العمل، فلا يصح عمل بلا إيمان، كما قال تعالى:{ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ} (الأنبياء: 94)

قلت: ولأجل هذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر بالإيمان في كل مناسبة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)([38])، وقوله ـ للرجل الذي قال له: يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك ـ:(قل آمنت بالله، ثم استقم)([39])

لقد أشار القرآن الكريم إلى معنى هذا الحديث، فقال:(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (فصلت: 30 -31)

الإلهيات:

رأيت مراتب كثيرة تحت (الإيمان).. وهي مرتبة بمراتب مختلفة، فقلت: ما هذه المراتب.. أحسب الإيمان شيئا واحدا، فكيف عددت مراتبه؟

قال: في قضايا الإيمان أصول وفروع.. وليس من الحكمة أن أبدأ بالفروع قبل الأصول.. وفي الإيمان متفق عليه ومختلف فيه.. وليس من الحكمة أن أبدأ بالمختلف فيه قبل المتفق عليه.

قلت: ألم تقوله تأصيل شرعي، أم هو مجرد اجتهاد؟

قال: ما كان لعقلي أن يجتهد في أمر خطير كهذا.. إن هذا ما تدل عليه النصوص الصريحة القطعية.. فالله تعالى رتب مراتب الإيمان وأصوله فقال:{ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } (البقرة: 177)، وقال:{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة:285)، وقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} (النساء:136)

وذكر صلى الله عليه وآله وسلم الأركان الأساسية للإيمان، فقال:(الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره)([40])

قلت: ألهذا وضعت الإلهيات قبل النبوات، ووضعت النبوات قبل السمعيات؟

قال: أجل.. فلا يمكن أن ندعو إلى النبوة قبل أن نعرف بالله.. إن تعريف (رسول الله) لا يستقيم إلا بعد التعريف بالله.. والإيمان بالغيبيات لا يستقيم قبل إثبات النبوات.

قلت: الواو في اللغة لا تفيد الترتيب.. فكيف فهمت أنت منها الترتيب؟

قال: أنا أعلم أن كلام الله مفصل تفصيلا عجيبا.. فلذلك لا يقدم ولا يؤخر إلا لغرض.. وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم مشيرا إلى هذا:(أبدأ بما بدأ الله به)([41])

بالإضافة إلى أني وجدت أن الدعوة للإيمان بالله وتوحيده هي أساس دعوة الرسل ـ عليهم السلام ـ، كما قال تعالى:{ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف:45)، وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:25)

وقد ذكر الله تعالى عن كل من الرسل ـ عليهم السلام ـ أنهم افتتحوا دعوتهم بتوحيد الله، قال تعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف: 59)، وقال تعالى:{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} (لأعراف:65)، وقال تعالى:{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف: 73)، وقال تعالى:{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (لأعراف: 85) 

ولهذا كان التوحيد هو أول ما يُدخل به إلى الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)([42])

ولهذا كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التأذين في أذن المولود، ليكون أول ما يسمعه توحيد الله، وقد كانت أم سليم الرميصاء أم أنس بن مالك خادم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسلمت وكان أنس صغيراً، لم يفطم بعد، فجعلت تلقن أنساً قل: لا إله إلا الله، قل أشهد أن لا إله إلا الله، ففعل، فيقول لها أبوه: لا تفسدي على ابني فتقول: إني لا أفسده([43]).

قلت: أراك وضعت قائمة بأسماء الله الحسنى، ومراتبها..

قال: أجل.. إن أسماء الله الحسنى هي المعارف التي أذن الله فيها لوسائل إدراكنا البسيطة أن تتعرف بها على كمالات الألوهية، وهي لذلك من الأهمية بحيث لا يمكن مقارنتها بأي معرفة من المعارف الأخرى، لأن كل ما في الكون أثر من آثار أسماء الله.

وهي لذلك أبواب علاقتنا بالله، لأن لكل اسم من أسماء الله دلالته الخاصة التي تتطلب عبوديته الخاصة.

ولهذا أمرنا الله تعالى أن ندعوه بأسمائه الحسنى، مستشفعين بها إليه، ومتوسطين بها لديه، كما قال تعالى:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } (الأعراف: 180)

قلت: صدقت في هذا.. فالدعاء ـ في أصله ـ مقتضى من مقتضيات المعرفة بالله، فالمعرفة بأسماء الله هي التي تدعو إلى الثقة فيه، وهي التي تدعو إلى سؤاله، وقد أشار ابن عقيل إلى سر الصلة بين الدعاء وأسماء الله الحسنى، فقال:(قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معانٍ: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يُدعى، الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يُدعى، الثالث: السمع، فإن الأصم لا يُدعى، الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يُدعى، الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يُدعى، السادس: القدرة، فإن العاجز لا يُدعى)

قال: وهكذا لو ذهبنا نعد مع ابن عقيل لوجدنا أن أسماء الله تعالى تقتضي رفع أيدينا إليه بالسؤال، بل إفراده في هذا الرفع.. ولهذا نرى امتزاج أدعيته صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء الله..

قلت: أجل.. ومما أحفظه من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا ورجل يصلي، ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لقد دعا الله باسمه العظيم)([44])

وقد علم صلى الله عليه وآله وسلم من أصابه هم أو حزن أن يقول:(اللهم إني عبدك، ابن عبدك ابن أمتك في قبضتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب غمي)([45])، ثم بين أثر ذلك في نفسه، فقال:(فما قالها عبد قط إلا أبدله الله بحزنه فرحا)

قال: إن تأثير الدعوة إلى هذه الأسماء ليس مقتصرا على الدعاء فقط.. بل إن لها تأثيرا تربويا عظيما.. إنها تغير الإنسان كله.

قلت: لقد ذكرتني بقول العز بن عبد السلام:(فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من: الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات)([46])

ويقول مفصلا أسباب ذلك:(ذكرُ الله بأوصاف الجمال موجب للرحمة، وبأوصاف الكمال موجب للمهابة، وبالتوّحد بالأفعال موجب للتوكل، وبسعة الرحمة موجب للرجاء، وبشدة النقمة موجب للخوف، وبالتفرّد بالإنعام موجب للشكر)

وقد اهتم الغزالي في كتابه الجليل (المقصد الأسنى) بالبعد التربوي لأسماء الله الحسنى، فكان يذكر عند نهاية شرح كل اسم حظ العبد السلوكي منه، فهو يعتبر ولكل صفة من صفات الله تعالى أو اسم من أسمائه أثره الخاص به، والذي لا يمكن للإنسان الحصول عليه إذا لم يستولي على قلبه معنى ذلك الاسم او تلك الصفة، وهو معنى الإحصاء الذي ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة)([47])

قلت: لم أرك تذكر في هذا الباب ما يطنب الكثير في الدعوة إليه من..

قال: دعنا من لغوهم.. فلسنا أعرف بالله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قلت: ولكنهم يقتبسون ما يذكرونه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قال: بم أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن ينبئ عباده؟

قلت: لقد قال له:{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50} (الحجر)

قال: فهل في أسماء الله الحسنى (ذو الساق.. وذو اليد..)؟

قلت: لا.. ولا ينبغي أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه.. ولكنهم يعتبرون ذلك صفات ولا يعتبرونه أسماء.

قال: فأين كلمة (صفات الله) في القرآن الكريم أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قلت: لا أحفظ نصا في ذلك.

قال: ولا يوجد نص في ذلك.. إن المعرفة التي طولبنا بها هي معرفة الله بأسمائه الحسنى.. أما ما عداها.. فعقولنا أعجز من أن تحيط به أو تدركه.. ولذلك نفوض لله علم ما لا نعلم، ولا نشغل عقول العوام الغارقة في التشبيه في مثله.

النبوات:

رأيته في المرتبة الكبرى الثانية من مراتب الإيمان يضع النبوات.. فسألته عنها، فقال: إن النبوات هي العنصر الثاني من الأركان الأساسية للإيمان، ولذلك امتلأت آيات القرآن الكريم بالثناء عليهم وذكر قصصهم وأحوالهم لتملأ القلوب محبة لهم وإجلالا، وتشحن الطاقات قدوة وسلوكا، فيعيش المؤمن في صحبتهم، ويترفع من خلالها إلى الآفاق العليا من الكمال الإنساني.

قال: ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحبب الأنبياء ـ عليهم السلام ـ إلى أمته، ويقص عليهم قصصهم.. بل يصف لهم أحيانا صورهم لتقريب ما يصفه القرآن الكريم من أحوالهم، قال 🙁 رأيت عيسى بن مريم وموسى وإبراهيم فأما عيسى فابيض جعد عريض الصدر وأما موسى فآدم جسيم قالوا فابراهيم قال انظروا إلى صاحبكم)([48])، وقال :(رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا كأنه من رجال شنؤة ورأيت عيسى بن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأي)

قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم التأثير التربوي العظيم الذي يحمله الإيمان بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.. لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، فقال:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } (الأنعام: 90)

قلت: لقد ظللت دهرا أبحث عن سر هذا.. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في منتهى الكمال، فكيف يؤمر بالاقتداء بالأنبياء ـ عليهم الصلاة ـ.. أيؤمر الفاضل بالاقتداء بالمفضول؟

قال: ليس في هذا الباب فاضل ولا مفضول.. فالسلوك الطيب يمثل معناه ولا يمثل شخص من سلكه.. فسلوك الكرم الذي اشتهر به حاتم كان داعية للكرم ولم يكن داعية لحاتم.

قلت: فلم لم يكتف بالأمر بالمعاني، بل رأينا الله تعالى يأمرنا بالاقتداء بمن تلبس بها؟

قال: ذلك يرجع إلى أن المعارف تظل أرواحا مجردة قد لا تجد من يلتفت إليها حتى تجد الأجساد الطاهرة التي تمثلها، فتخرج من عالم المثال إلى عالم الواقع.

وكمثال على ذلك تمثيل الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ لدور التجرد والإخلاص في التعامل مع الله، وهذا ما تبرهن عليه خطبهم لأقوامهم في القرآن الكريم، والتي يحرص القرآن الكريم على ذكرها وتكرارها لتصبح في محل نظر المقتدي، فلا يتيه بالحوادث عن مواضع القدوة، قال تعالى على ألسنتهم:{ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} (هود:51)

ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يردد أقوالهم، اقتداء بهم فقال تعالى:{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الفرقان:57)

ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يستحضر مواقف الأنبياء ليعيد إحياءها من جديد، فكان يستحضر في المواقف المختلفة ما حصل لإخوانه من الأنبياء، عن عبد اللّه بن مسعود قال: قسم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قسماً فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه اللّه، قال، فقلت: يا عدو اللّه أما لأخبرن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بما قلت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فاحمر وجهه ثم قال:(رحمة اللّه على موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)([49])

وفي موقف آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أقول كما قال أخي يوسف:{ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 92))([50])

وقد استدل ابن عباس بهذا على مشروعية سجدة سورة ص، فعن العوام قال: سألت مجاهداً عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال: أوما تقرأ:{  وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَان} (الأنعام: 84)، { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90)؟ فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه الصلاة والسلام، فسجدها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم)([51])

قلت: إن بعضهم لا يذكر الأنبياء إلا ويذكر معهم من الخطايا ما يندى له الجبين.

قال: أولئك حجب.. فلا تلتفت للحجب..

قلت: كيف تقول هذا.. وهذا قد ذكر في كتب التفسير والحديث.. بل اعتبر الكلام فيه من الكتاب والسنة.

قال: ذلك دين كعب الأحبار ووهب بن منبه.. لا دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. فمن رغب في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعليه أن يصفي عقله وقلبه وروحه وسره من كل تأثير غير التأثير الذي دعاه إليه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

الغيبيات:

قلت: أرك وضعت الإيمان بعوالم الغيب في المرتبة الأخيرة..

قال: أجل.. لأنه لا يمكنك أن تدعو للإيمان بالملائكة قبل أن تدعو لله ولرسول الله.

قلت: وعيت أنه لا يمكن الدعوة للملائكة قبل الدعوة لله.. ولكن لم لم يمكن الدعوة للملائكة قبل الدعوة لرسل الله؟

قال: لأنه لولا رسل الله ما عرفنا الملائكة.. إن العلماء يسمون هذا الباب من العقائد (السمعيات).. ذلك أنه يكتفى فيها بالأدلة المعصومة، ويعزل العقل عن البت فيها بقول أو بدليل إلا دليل الإمكان.

قلت: أجل.. وقد قال تعالى بعد ذكر كثر من الأخبار والقصص:{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران:44)، وقال:{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود:49)، وقال:{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:102)، وقال:{ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} (الكهف: 26)

قال: ولهذا الإيمان تأثيره النفسي والتربوي الكبير على الإنسان.. إنه ينقله من عالم البهيمية الذي تلقيه فيه غرائزه وأهواؤه إلى عالم الإنسانية الرفيع..

قلت: إن بعض الناس يمزجون الحديث بعالم الغيب بقصص هي أقرب إلى الأساطير منها إلى الحقائق([52]

قال: عالم الغيب هو العالم الذي وردت النصوص المعصومة بالإخبار عنه، أما ما عداه فعالم خرافة.

قلت: ولكن تفاصيله مبثوثة في كتب العقيدة والتفسير والحديث والفقه؟

قال: كتبة تلك الكتب بشر.. يخطئون ويصيبون.. فخذ بصوابهم، واحذر من خطئهم.

قلت: فكيف أميز صوابهم من خطئهم؟

قال: ما جاءك من المعصوم، فهو معصوم.. وما جاءك من غيره، فخذ منه ودع.

قلت: فما آخذ، وما أدع؟

قال: ما دل عليه العقل.. فخذه.. وما لم يدل عليه، فدعه.

قلت: أأقدم عقلي على دين الله.

قال: لقد خلق الله لنا العقول لنميز بها الطيب من الخبيث والحق من الباطل، ولم يخلقها لنا لنودعها سجون الإهمال.

العمل:

بعد أن انتهيت من سرد مراتب الإيمان على لقمان الحكيم وشرحها لي.. وجدت مرتبة العمل، فسألته عنها، فقال: إذا باشر الإيمان القلب هان عليك أن تكلفه التكاليف.. بل إن المدعو نفسه هو الذي يرغب إليك في أن تعمله ما كلفه به ربه.. فيؤديه عن طواعية ومحبة.

العبادات:

رأيته وضع في المرتبة الأولى (العبادات).. فسألته عنها، فقال: إن أول ما يبدأ به الداعية إلى الله في تقريب العباد إلى الله هو الدعوة إلى عبادة الله.. فإنه لا يثبت الإيمان في القلوب كالعبادات..

قلت: والسلوك!؟

قال: كما أن الإيمان يمهد للعبادة.. فإن العبادة تمهد للسلوك.. لقد قال الله تعالى يذكر ذلك:{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت:45)، وقال:{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة:103)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (صوم ثلاثة أيام من الشهر تذهب وحر الصدر)([53])

وقال:(الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن، أو تملأ مابين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)([54])

قلت: تعلمت أن أبدأ الدعوة للإيمان من الإيمان بالله، فمن أين أبدأ الدعوة للعبادات؟

قال: بم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نبدأ.. فقد علمنا سيد الحكماء كيف نرتب الأمور في مراتبها، وكيف لا نعدو بها منازلها.. لقد حدث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)([55])

وما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم هو ما تدل عليه النصوص الكثيرة الدالة على أن أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تربية أصحابه هو تربيتهم على إقامة الصلاة.. ومن ذلك ما ورد في سورة المزمل ـ وهي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم ـ من الأمر بالصلاة، ومن الإخبار بحرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة عليها، كما قال تعالى:{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المزمل:20)

الأخلاق:

بعد مرتبة (العبادات) وجدت مرتبة (الأخلاق)، فسألته عنها، فقال: إن من عرفته بالله، وعلمته كيف يعبد الله لن يصعب عليك أن تدعوه لمكارم الأخلاق..

قلت: لم.. ولم لم نبدأ بالدعوة لمكارم الأخلاق؟

قال: إن الأخلاق بجميع فروعها تستدعي قوة إيمانية عالية.. لأنها تستدعي ثبات داعي الحق أمام داعي الهوى.. ولا يمكن لداعي الهوى أن يدحر ويهزم إلا إذا قاومه داعي الإيمان.

قلت: ولكني أرى على البعض ـ رغم عدم تدينه ـ من الأخلاق ما ليس للمتدينين؟

قال: صدقت.. هناك من فطر على كثير من الأخلاق الطيبة، أو ربي عليها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في هذا لبعض أصحابه:(إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)([56]).. ومثل ذلك أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن معادن الناس، فقال:(تجدون الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خيار الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهيةً، وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ، وهؤلاء بوجهٍ)([57])

قلت: إن هذه النصوص تقضي على ما ذكرت من الدعوة للأخلاق.. فالأخلاق شيء فطري لا يحتاج إلى التكلف للدعوة إليها؟

قال: إن قولك هذا يشبه قول من يقول: إن الصحة شيء فطري.. ولا حاجة للأطباء.. أترى هذا القول مستقيما؟

قلت: لا.. فقد يمرض الصحيح، وقد يصح المريض.

قال: فكذلك الأخلاق.. فقد ينحرف صاحب الخلق الطيب، وقد يعتدل صاحب الخلق الخبيث..

قلت: فما الذي يرجح الطيبة أو الخبث؟

قال: الدعوة.. الدعوة إلى السلوك الطيب تنشر الطيبة.. والدعوة إلى السلوك الخبيث تنشر الخبث..

قلت: أهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال: أجل.. بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن من أساسيات دعوته الدعوة إلى مكارم الأخلاق، فقال:(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)([58])..

وكان يربي أمته على هذا.. فهو صلى الله عليه وآله وسلم يعرف البر ـ الذي هو جامع خصال الخير ـ بأنه حسن الخلق، فقد روي أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البر والإثم فقال: (البر حسن الخلق، والإثم: ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)([59])

وبما أن كل مؤمن يود أن يثقل ميزان حسناته يوم القيامة، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه (ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذي)([60])

وبما أن كل مؤمن يود أن يدخل الجنة، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن دور الخلق الحسن في ذلك.. فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: الفم والفرج([61]).

وبما أن كل مؤمن يود أن يكون أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثير حسن الخلق في ذلك، فقال:(إن أقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون)([62])

وبما أن كل مؤمن يود أن يكون أكمل المؤمنين إيماناً، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثير حسن الخلق في ذلك، فقال:(أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)([63])

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصحح النظرة القاصرة التي تحصر الدين في العبادة المجردة، دون أن تجعل له أي علاقة بالأخلاق.. فكان يقول:(إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)([64])

وروي أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة تكثر من الصلاة والصيام غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(هي في النار)([65])

قلت: أعرف ما ورد في النصوص المقدسة من فضائل الخلق الحسن، وأنا لا أسألك عنه الآن، ولا أجادلك فيه.. ولكني أسألك عن مراتب الخطاب.. فكيف عرفت أن الدعوة للأخلاق مرتبة من المراتب السابقة؟

قال: لا شك أنك تعرف حديث جعفر مع النجاشي.

قلت: أجل.. كيف لا أعرف تلك الخطبة الجليلة التي هي من أعظم خطب الدعوة للإسلام.

قال: فماذا قال جعفر للنجاشي؟

قلت: لقد قال له:(: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصناما ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسئ الجوار ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام).. فعدد عليه أمور الإسلام، ثم قال: (وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدقناه وآمنا واتبعناه على ما جاء به من الله تعالى: فعبدنا الله تعالى وحده ولم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم الله علينا وأحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا إلا نظلم عندك إيها الملك)([66])

قال: بورك في قراءتك للخطبة جميعا، فكلها تبين أهمية الخلق ومدى تأثيره.. ففيها أن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي جذب القلوب إليه.. وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو إلى الأخلاق.. وفيها أن أساس اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحبشة لهجرة أصحابه هو ما كان ينعم به ملكها من حسن الخلق.

الشرائع:

بعد مرتبة (الأخلاق) وجدت مرتبة (الشرائع)، فسألته عنها، فقال: إن من عرفته بالله، وعلمته كيف يعبد الله، ثم ملأته بالحنين للقيم الرفيعة والأخلاق النبيلة، لن يصعب عليه أن يتلقى الشرائع الإلهية.. بل إنه سيتلقاها بطيبة نفس ورحابة صدر.

قلت: فما سر ذلك؟

قال: لأن الشرائع هي التنفيذ العملي لما تتطلبه الأخلاق الكريمة.. ولذلك نحتاج إلى التوعية بقيمة الأخلاق قبل الدعوة للتنفيذ العملي لها.

قلت: اضرب لي مثالا يقرب هذا.

قال: سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله كلها تدل على هذا وتمثل له.. سأضرب لك مثالا عن شريعة مهمة وخطيرة من شرائع الإسلام، وهي شريعة (تحريم الخمر)، وهي الشريعة التي لم يطق أي دين من الأديان ولا قانون من القوانين تنفيذها..

قلت: أجل.. ولكن الإسلام استطاع أن يشرع التشريعات المناسبة لها.. بل قد روي أن المسلمين كانوا هم الذين طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم في الخمر بيانا شافيا.

قال: لقد حصل ذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بث عن طريق الدعوة إلى الأخلاق الحسنة وعيا عاما بضرورة وضع التشريعات التي تحمي الأخلاق، وتحفظها، وتؤسس لها.. ولذلك صار المخاطبون هم الذين يطالبون بالتشريعات.. لا التشريعات هي التي تريد أن تفرض نفسها على المخاطبين.

قلت: ألا تضرب لي مثالا يقرب لي هذا؟

قال: أرأيت لو أن مدرسا أراد أن يضيف ساعات دراسة لتلاميذه مع إعطاء الحرية لهم في الحضور وعدمه.. هل تراهم سيحضرون؟

قلت: أما تلاميذ هذا الجيل.. فلا شك أنهم يتمردون عليه.

قال: ولو أنه قدم لذلك بما يملأهم رغبة في العلم وحبا له.

قلت: حينها سيطالبون هم بالساعات الإضافية.

قال: فهكذا يفعل الحكيم.. فهو لا يهجم على الناس بالتشريعات.. بل يدع واقعهم الإيماني والأخلاقي هو الذي يطلب تلك التشريعات.

قلت: إن بعض قومي يركزون في دعوتهم للدين على الدعوة للشرائع.. ولا أراهم يبدأون إلا بالحدود.. حتى توهم البعض أن الإسلام لم يأت إلا ليقطع ويجلد..

قال: أولئك جهلة منفرون.. إن مثلهم مثل من وصف طبيبا حكيما، فقال من غير مقدمات تبين مهنته: هذا رجل لا هم له إلا إسالة دماء من يقصده، وتقطيع أوصالهم.. فهل ترى أحدا من الناس سيقبل عليه؟

 قلت: وكيف يقبلون عليه، وقد نفروا منه.. بل خوفوا منه؟

قال: ولو قال لهم: هذا طبيب خبير يستأصل الأدواء، وينعم الله على من يصحبه بالشفاء.. وهو إن اضطر إلى إسالة الدماء، فإنه لا يسيلها إلا ليداوي بها العلل، ويبرئ بها من الأسقام.

قلت: حينذاك سيقبل الجميع عليه.. بل يتوددون له حتى يطهرهم.

قال: وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد بث من الوعي الإيمان والأخلاقي في المجتمع ما جعل المجتمع هو الذي يطالب بتطهيره وإقامة الشرائع عليه.

قلت: وعيت كل ما ذكرته في مراتب الخطاب، ولكن اعتراضا يفرض نفسه..

قاطعني، وقال: تقصد قوله تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3)؟

قلت: أجل.. فإن ما ذكرته قد يصلح مع من عاش الإسلام في مراحله الأولى.. أما نحن الآن فلسنا في العهد المكي.. ولذلك قد ينهار كل ما ذكرته من مراتب.

قال: لا أقصد بما ذكرته لك أني أريد إعادة إحياء العهد المكي بحروفه وسنواته، فإن ذلك لم يقل به أحد من الناس، ولكني أقصد بأن الأسلوب الذي تعامل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع من دعاهم سواء في المرحلة المكية أو المدنية كله يدل على هذا..

سأذكر لك نصين قد يقربان لك هذا، ويفتحان لك من الآفاق في هذا الباب ما كان منغلقا:

أما أولهما.. فما ورد في حديث وفد ثقيف، فعن وهب قال: سألت جابراً عن شأن ثقيف إذ بايعت، قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يقول:(سيتصدقون، ويجاهدون إذا أسلموا)([67])

أما الحديث الثاني، فما حدث به نصر بن عاصم عن رجل منهم: أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلم على أنه لا يصلي إلا صلاتين فقبل ذلك منه([68]).

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في كلا الحديثين تنازل ـ في الظاهر ـ عن بعض الأحكام، ولكنه في الحقيقة يعلم أن من التزم ببعض أحكام الشريعة التزاما صادقا سيؤدي به ذلك على التزام سائر أحكامها.. فالشريعة سلسلة من سلاسل الرحمة يؤدي بعضها إلى بعض لا محالة.

قلت: إن ما ذكرته من الحديثين عظيم.. فهل يمكن القياس عليه؟

قال: قس عليه ما تشاء.. واعلم أن الموت على المعصية خير من الموت على الكفر.

قلت: صدقت.. لطالما كنت أحلم بنص يدلني على هذا.. فأنا ـ أحيانا ـ تأتيني المرأة الحريصة على الإسلام.. ولكنه لا يحول بينها وبين دعوتها إليه إلا ترددها في الحجاب، فهي لا تحب أن تتخلى على ما تعودته من زينة.. وأنا أخشى أن أعرض لها الإسلام من دون حجاب، فأكون كمن أنقص من شرائع الإسلام ما لم يؤذن له بإنقاصه.

قال: فإذا لقيت مثل هذه المرأة.. فلا تحدثها عن الحجاب.. ولا عن أي شريعة قد تحجبها عن ربها.. فإن حلاوة الإيمان وحدها كافية لتجعلها تأتيك ـ بعد ذلك ـ لتسألك عن أحكام شريعة ربها.. بل لعلها تأتيك، وفي قلبها من الورع ما لم يكن يخطر على بالك.

مراتب الأساليب

وضعت الدفتر الثاني في محله، ثم فتحت الدفتر الثالث، وكان عنوانه (مراتب الأساليب).. وقد زين غلافه بقوله تعالى:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل:125)

قلت: أهذا كتاب نحو، أم كتاب بلاغة؟

قال: هو كتاب نحو وكتاب بلاغة.. فهو يبحث في الأساليب.. والأساليب تحتاج إلى كلا العلمين.

فتحت الدفتر، فلم أجد فيه لا نحوا ولا بلاغة، فقلت: أتسخر مني.. وإنت الحكيم؟

قال: لم أسخر.. أنا لم أقل لك إلا الحقيقة.. أليس النحو هو التعرف على مراتب الكلمات، فلا توضع إلا في محالها الصحيحة؟

أليس اللحن في النحو هو خلط تلك المراتب، بنصب الفاعل أو رفع المفعول.. فتختلط المراتب؟

قلت: بلى.. ما تقوله صحيح..

قال: فمن خلط في كلامه لمن يريد أن يدعوهم بأن رفع ما ينبغي أن ينصب، أو نصب ما ينبغي أن يرفع كان لاحنا.. واللحن في هذا أخطر من اللحن في النحو؟

قلت: ذلك صحيح.. فكيف ذكرت أنه يبحث في البلاغة؟

قال: أليست البلاغة هي أن يكون الكلام متناسبا مع موضوعه، فلا يتحدث في الرثاء بأسلوب التهنئة؟

قلت: بلى.. ذلك صحيح..

قال: فلهذا كان هذا الدفتر دفترا لنحو الدعاة وبلاغتهم.

ابتسمت، وقلت: لقد عرفت كيف تتخلص.

قال: من العلوم الضرورية للدعاة أن يعرفوا كيف يتخلصوا.. وإلا فسيكونون حجابا لا دعاة.

قلت: التخلص يحتاج إلى الحيلة.. والمسلم أشرف من أن ينزل إلى حضيض الاحتيال.

قال: حيلة أهل الحق ليست بالكذب ولا التزوير.. إنها حيلة تحاول أن تتسلل إلى القلوب لتطهرها من رجسها وتدلها على ربها.. وهي لا تجد لذلك من سبيل إلا الصدق.. فلا يمكن أن تكون النجاة في غيره.

الحكمة:

فتحت الدفتر، فوجدت أول كلمة فيه (الحكمة)، فقلت: أليست كل هذه الدفاتر تبحث في الحكمة؟

قال: بلى..

قلت: فكيف يتحول الكل جزءا؟

قال: الحكمة نوعان: حكمة في المنهج.. وهي الكل الذي تنضم حوله كل ما رأيته من أجزاء.. وحكمة في الأسلوب.. وهو ما وضعت مراتبه هنا.

قلت: فما دليلك عليه؟

قال: الآية التي أذنت لي في أن أبحث في هذا..

قلت: الآية التي زينت بها مدخل الكتاب؟

قال: كتاب الله أعظم من أن نختصره في التزيين.. إن كل آية من كتاب الله بحر من بحار العلم .. ولا خير في علم لم يزين مدخله بكلام ربه.

قلت: فما الفرق بين هذه الأساليب الثلاث؟

قال: من خلال اطلاعي على علاقة المخاطبين بالحقائق وجدت ثلاثة أصناف كبرى، تنطوي تحتها أصناف كثيرة.. وقد وجدت أن هذه الآية الكريمة تعلمنا الأسلوب الذي نخاطب به هؤلاء الثلاثة.

قلت: فما أول هذه الأصناف، وبم يخاطبون؟

قال: أولهم هم أهل البحث عن الحقائق، والاستعداد لتقبلها، وهم من غلبوا عقولهم على نفوسهم.. وهؤلاء يخاطبون بأسلوب (الحكمة) التي هي عرض الحقائق مع براهينها الدالة عليها.

قلت: وما الصنف الثاني، وبم يخاطبون؟

قال: هم من أصحاب النفوس التي تمتلئ رغبة ورهبة..

قلت: إن هؤلاء محجوبون بنفوسهم عن عقولهم، فكيف يمكنك خطابهم، وبينك وبين عقولهم تلك الحجب الكثيفة؟

قال: بالموعظة التي دلنا عليها ربنا.. فالموعظة هي التي يمكن التسلل من خلالها إلى العقول والقلوب والأرواح وجميع اللطائف.

قلت: وما الصنف الثالث، وبم يخاطبون؟

قال: هم أصحاب عقول، وأصحاب نفوس.. فهم لم يتمحضوا لعقولهم، ولم يتمحضوا لنفوسهم..

قلت: إن خطاب مثل هؤلاء صعب.

قال: لقد أرشدنا الله إلى استعمال الجدال الحسن مع هؤلاء..

قلت: لم؟

قال: لنميز خطاب النفس من خطاب العقل، ولنتسلل من خلال ذلك إلى خطاب العقل والروح والسر وكل لطائف الإنسان.

قلت: أترى انحصار الطوائف في هذا؟

قال: أجل.. لقد استقرأت كل طوائف الناس، ونوع الأسلوب الذي يتناسب معهم، فوجدت أن الآية تعلمنا كيف نخاطبهم جميعا([69]).

قلت: فحدثني عن الأسلوب الأول.

قال: هذا الأسلوب هو أصل الأساليب، ومبدؤها، ولا مندوحة للداعية إلى الله من تحصيل العلوم الموصلة إليه.

قلت: أيحتاج هذا الأسلوب إلى علوم؟

قال: أجل.. كل أسلوب من الأساليب يحتاج علوما خاصة به.

قلت: فما الذي يحتاجه هذا الأسلوب من علوم؟

قال: يختلف ذلك باختلاف من تريد أن تخاطبهم.. فإن كنت تريد أن تخاطب فيلسوفا بالحكمة، فعليك أن تكون عارفا بفلسفته، ومنهج تفكيره لتتسلل إليه من خلاله.

وإن كنت تخاطب رجل دين.. أي دين.. فعليك أن تكون مطلعا على دينه، وعلى المنهج العقلي الذي ارتضاه لنفسه لتخاطبه من خلاله.. وهكذا.. فالحكمة أن تخاطب العقول بما تفهم.. وأن تنطلق من البديهيات والمسلمات إلى ما لم يسلم لك، وما لم يقبل منك.

قلت: إن الحكمة بذلك تحتاج قدرات كبيرة.

قال: أجل.. ولهذا، فإن الله تعالى أثنى على الحكمة وأهلها ثناء عظيما في القرآن([70]).. قال تعالى:{ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (البقرة:269)([71])

وقد اعتبر القرآن الكريم الحكمة نوعا من أنواع النعم التي من الله بها على عباده المؤمنين، فقال تعالى:{ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231)

وهو يخبره عن فضله على الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ بإعطائهم الحكمة، قال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } (آل عمران: 81)، وقال:{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} (النساء:54)، وقال:{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } (البقرة: 251)، وقال:{ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} (آل عمران:48)، وقال:{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} (صّ:20)، وقال:{ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (الزخرف:63) 

وهو يمن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله أنزل عليه الحكمة، فقال:{ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113)، وقال:{ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (الاسراء:39)

قلت: فهل في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على هذا الأسلوب؟

قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها تدل على هذا الأسلوب حتى أن من الناس من سمى السنة (حكمة) مستنبطا ذلك من قوله تعالى:{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة:151) وغيرها من الآيات([72]).

قلت: فاذكر لي مثالا يقرب لي هذا.

قال: سأذكر لك أمثلة على ذلك.. ولعلك تلتقي من ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يزودك بالكثير من الأمثلة على هذا.

لقد حدث ابن عباس أن ضمادًا قدم مكة وكان من ‏أزد شنوءة وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، ‏فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه فقال: يا محمد: إني أرقي ‏من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فقال رسول صلى الله عليه وآله وسلم:(‏إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن ‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد..)، قال: فقال أعد كلماتك ‏هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد ‏بلغن قاموس([73])البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال ‏رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(وعلى قومك)، قال: وعلى قومي([74]).

انظر هذا الرجل كيف اكتفى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتلك الكلمات الممتلئة بفيوضات الحكمة.. اكتفى بها من غير جدل، ولا مراء، ولا خصومة.. وقد عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تنطوي عليه نفسه من خير، فلذلك بايعه على أن يدعو قومه لله.

وهكذا في دعوته صلى الله عليه وآله وسلم لرجل لم يحفظ التاريخ اسمه، ولكنه حفظ لنا حكمته، والأسلوب الذي خاطبه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فعن حرب بن سُريج قال: حدثني رجل من بلْعَدَوِيَّة، قال: حدثني جدِّي قال: ‏انطلقت إلى المدينة فنزلت عند الوادي، فإذا رجلان بينهما عنز واحدة وإِذا المشتري يقول للبائع؛ ‏أحسن مبايعتي، قال: فقلت في نفسي: هذا الهاشمي الذي قد أضلَّ الناس أهو هو؟ قال: فنظرت فإذا ‏رجل حسن الجسم عظيم الجبهة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من ثُعْرة نحره إلى سُرّته مثل ‏الخيط الأسود شعر أسود، وإِذ هو بين طِمْرين قال: فدنا منا فقال: السلام عليكم، فرددنا عليه، فلم ‏ألبث أن دعا المشتري فقال: يا رسول الله، قل له: يحسن مبايعتي، فمدَّ يده وقال: (أموالكم تملكون، ‏إنِّي أرجو أن ألقى الله عزّ وجلّ يوم القيامة لا يطلبني أحد منكم بشيء ظلمته في مال ولا في دم ولا ‏عرض إلا بحقه، رحم الله أمرأ سهل البيع، سهل الشراء، سهل الأخذ، سهل العطاء، سهل القضاء، ‏سهل التقاضي)، ثم مضى، فقلت: والله لأقضينَّ هذا فإنه حسن القول، فتبعته فقلت: يا محمد، فالتفت إليَّ بجميعه فقال: (ما ‏تشاء؟)، فقلت: أنت الذي أضللتَ الناس وأهلكتَهم وصدَدتهم عمَّا كان يعبد آباؤهم؟ قال: (ذاك ‏الله)، قال: ما تدعو إليه؟ قال: (أدعو عباد الله إلى الله)، قلت: ما تقول؟ قال: (أشهد أن لا إله إلا ‏الله وأنِّي محمد رسول الله، وتؤمن بما أنزله عليَّ، وتفكر باللات والعُزَّى، وتقيم الصلاة، وتؤتي ‏الزكاة)، قلت: وما الزكاة؟ قال: (يردّ غنينا على فقيرنا)؛ قلت: نِعمَ الشيء تدعو إليه. ‏قال: فلقد كان وما في الأرض أحد يتنفس أبغض إليّ منه، فما برح حتى كان أحب إليّ من ولدي ‏ووالديَّ ومن الناس أجمعين، فقلت: قد عرفتُ؛ قال:(قد عرفتَ؟) قلت: نعم؛ قال: (تشهد أن لا ‏إِله إِلا الله وأنِّي محمد رسول الله، وتؤمن بما أُنزل عليّ)، قلت: نعم، يا رسول الله، إنِّي أرد ماءً ‏عليه كثير من الناس فأدعوهم إلى ما دعوتني إليه، فإنِّي أرجو أن يتَّبعوك، قال: نعم، فادعهم؛ فأسلم ‏أهل ذلك الماء رجالهم ونساؤهم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه([75]).

الموعظة:

رأيت في المرتبة الثانية من مراتب الأساليب (مرتبة الموعظة)، فسألته عنها، فقال: هي كل أساليب التأثير التي تخاطب بها النفوس لتمتلئ بحقائق الإيمان.

قلت: فمن أصحاب هذه المرتبة؟

قال: لقد ذكرهم الرازي، فقال: (هم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية)([76])

قلت: فهم وحدهم المخصوصون بهذه المرتبة إذن؟

قال: لا.. كل المخاطبين قد يحتاجون إلى هذه المرتبة.. وما ذكره الرازي هو الأعم الأغلب.

قلت: ما تعني؟

قال: إن كل إنسان مهما بلغت به مرتبته من الكمال العقلي، فإنه لا محالة صاحب نفس، وهي لا محالة تؤثر فيه، وتؤثر عليه.. ولذلك كان من كمال الخطاب العقلي مزجه بخطاب النفس.

قلت: فبم تخاطب النفس؟

قال: النفس ترغب وترهب، وتحب وتبغض، وتشح وتحرص.. فلذلك يتسلل إليها العاقل مما تحب ليوجهها إلى عوالم الحكمة والحقائق.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أرأيت اللص الحريص على جمع المال من حله وحرامه؟

قلت: هو مجرم بفعله.

قال: أعلم ذلك.. وأنا لا يهمني أن أحكم عليه.. بل كل همي هو التفكير في كيفية تخليصه من اللصوصية والإجرام.

قلت: أحسن وسيلة هي أن يزج به في السجن مع المجرمين.

قال: أترى السجن رادعا له؟

قلت: لو حوى السجن من أساليب التعذيب ما يقهر نفسه لتاب من جرائمه.

قال: فأنا أفعل هذا معه.

قلت: ألك علاقة بالشرطة؟

قال: لي علاقة بالشرطة الإلهية.. فأنا كما ذكرت لك من المخابرات الإلهية.. لا من المخابرات الأرضية.

قلت: صرح، فأنا لا أطيق فهم التلميح.

قال: إن هذا الرجل الذي برمجت نفسه على الخوف من الألم، والحرص على الراحة والسعادة.. أطرق نفسه من هذه الأبواب لأخرجه من ظلمات نفسه إلى نور الإيمان والحكمة.

قلت: كيف؟

قال: بالموعظة الحسنة.

قلت: فما الموعظة الحسنة.. وما ضوابطها.. وما سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها؟

قال: لن أجيبك أنا عن هذا.. فأنا الحكيم ولست الواعظ.. ولا ينبغي لي أن أتحدث خارج تخصصي.

قلت: فمن يجيبني؟

قال: إن علم الله صدقك، فسيرسل لك من يعلمك الموعظة، كما أرسل لك من يعلمك الحكمة([77]).

الحوار:

رأيت في المرتبة الثالثة من مراتب الأساليب (مرتبة الحوار)، فقلت له: لقد ذكر القرآن (الجدل)، فكيف وضعت أنت (الحوار)؟

قال: أنا لم أرغب عن المصطلح الذي وضعه القرآن الكريم، ولكني وجدت أن الحوار هو المصطلح المتعارف عليه للدلالة على (الجدال بالتي هي أحسن)، ولا مشاحة في الاصطلاح.

زيادة على أن هذا المصطلح استعمله القرآن الكريم، قال تعالى:{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة:1)، ففي هذه الآية إخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل الحوار في إقناعه المرأة.

وفي آية أخرى أخبر الله أن بعض ورثة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ استعمله في دعوة صاحبه لله، قال تعالى:{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } (الكهف:37)

قلت: فمن يخاطب بهذا الأسلوب؟

قال: اثنان من الناس: إما من فيهم فطانة ظاهرة ترقوا بها عن العوام ولكنها ناقصة.. أو كانت ‏الفطرة كاملة،ولكن باطنهم مشحون بالخبث والعناد والتعصب والتقليد.

قلت: فما المجادلة الحسنة، وما أصولها؟

قال: أهم أصولها أخذ الأصول التي يسلم بها المجادل، واستنتاج  الحق منها، مع الإبتعاد عن اللجاجة والمراء والجدال المنهي عنه..

قلت: هلا ضربت لي مثال اعلى ذلك.

قال: لقد ضرب الغزالي لها مثلا، فقال:(وليته كانت له أسوة حسنة بإبراهيم الخليل _ صلوات الله عليه _ حيث حاج خصمه، فقال:{  رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (البقرة: 258)، فلما رأى أن ذلك لا يناسبه،وليس حسنا عنده عدل إلى الأوفق بطبعه والأقرب لفهمه،فقال:{ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (البقرة: 258)

قلت: فاذكر لي أصول هذا الأساليب وآدابها، فإن من قومي من يبدأون بالحوار، وينتهون بالجدل، ومنهم يبدأون بالحوار، وينتهون بالشغب.

قال: لست المكلف بتعليمك علوم هذا.. وإن تك صادقا، فسيقيظ الله لك من يعلمك ما طلبته([78])..

مراتب الوسائل

وضعت الدفتر الثالث في محله، ثم فتحت الدفتر الرابع، وكان عنوانه (مراتب الوسائل)، وقد زين غلافه بقوله تعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد:25)، وتحته قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك ‏أضعف الإيمان)([79])

قلت: ما الذي تقصد بالوسائل؟

قال: أقصد بها كل الأدوات التي يستخدمها الداعي إلى الله من أجل تبليغ رسالة الله.

قلت: ألهذه الأدوات المراتب؟.. قد كنت أحسب أن الداعي إلى الله هو الذي لا يدخر أي أداة في سبيل تبليغ رسالة ربه.

قال: لكل شيء في هذا الوجود مرتبته الخاصة به.. فمن حاد به عنها وقع في الانحراف والضلال والإضلال.

قلت: فما الإضلال الذي يمكن أن يقع في هذا الباب؟

قال: أكثر الإضلال يقع في هذا الباب.. فقد يستعمل بعضهم من الوسائل ما لم يسمح له باستعماله، وقد يقدم بعضهم من الوسائل ما ينبغي أن يؤخر، وقد يؤخر ما ينبغي أن يقدم.

قلبت صفحات الدفتر، فوجدت أربعة مراتب كبرى، هي (العيان، واللسان، والإحسان، والسنان)، فقلت: أهذه مراتب هذا الباب؟

قال: هذه بعض مراتب هذا الباب.. أو هي مجامع مراتب هذا الباب.

العيان:

قلت: فما العيان؟

قال: الإنسان.

قلت: لم أفهم.. كيف يكون الإنسان وسيلة؟

قال: الإنسان هو أعظم الوسائل.. وليس في الدعوة إلى الله أعظم من الإنسان.

قلت: تقصد لسان الإنسان، أم جميع الإنسان؟

قال: لسان الإنسان بعض الإنسان.. وهو وسيلة من الوسائل.. وهو أقصر بكثير من وسيلة (الإنسان)

قلت: أنت تعلم صعوبة حلي للألغاز، فوضح لي ما ترمي إليه.

قال: أرأيت لو أن خطيبا مفوها جاء بخطبة طويلة عريضة يصف فيها سلعة من السلع.. ثم جاء آخر لم يتحدث كلمة واحدة، وإنما عرض السلعة، وأراهم من خلال سلوكها وفوائدها قيمتها.. أيهم أقوم قيلا، وأفصح لسانا؟

قلت: لا شك أنه الثاني.. فـ (ليس الخبر كالعيان)([80])

قال: فهكذا في عرضنا للإسلام.. قد نعرضه في مقالات وخطب.. وتظل تلك المقالات والخطب مجرد كلمات قد تبث فيها الحياة، وقد تظل ميتة لا يهتم لها أحد، ولا يستفيد منها أحد.. لكنا لو عرضنا الإسلام عبر النماذج الإنسانية الراقية، وقلنا للعالم:(هذا هو الإنسان الذي لا يصنع إلا في مصنع الإسلام) حينها سيدخل الناس في دين الله أفواجا.

قلت: تقصد صناعة القدوة؟

قال: إن البشر بطبيعتهم التي جبلوا عليها لا تكفي في تغييرهم الأقوال، وهم لذلك يحتاجون إلى النماذج الراقية التي تبعث الحياة في أجساد الكلمات.

قلت: فما مجامع هذا، وما أصوله، وكيف نصل إليه؟

قال: ذلك علم من العلوم لم يؤذن لي أن أبثه لك.. وإن كنت صادقا، فسيقيض الله لك من يعلمك علومه([81]).

قلت: فاذكر لي دليلا يدل عليه.

قال: قوله تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، فقد أشار الله تعالى في هذه الآية إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم داعية إلى الله بأفعاله وسلوكه وآدابه.

اللسان:

قلت: فكيف جعلت اللسان في المرتبة الثانية؟

قال: لأن الله تعالى جعل اللسان هو وسيلة الخطاب.. ولذلك فإن الداعية إلى الله يستثمره أعظم استثمار في الدعوة إلى ربه.. لقد ورد لفظ: (قل) الداعي إلى استعمال هذه الوسيلة ‏في القرآن الكريم في أكثر من ثلاثمائة آية.. وقد أثني الله تعالى على أقوال الدعاة إلى الله، فقال:{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33)

وقد أخبر الله تعالى أنه ما أرسل من رسول إلا بلسان قومه، فقال:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (ابراهيم:4)

قلت: فهل استثمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الوسيلة؟

قال: أعظم استثمار.. فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدع مناسبة من المناسبات، ولا فرصة من الفرص إلا ودعا فيها إلى ربه..

فحينما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف دعاهم إلى الله بالقول، يقول ابن إسحاق:  لما انتهى ‏رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر ثقيف.. فدعاهم إلى الله، وكلمهم ‏بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه.

وحينما ‏أمره الله بعرض نفسه على القبائل، كان يدعوهم بالقول، يقول ابن إسحاق:  فكان رسول الله ‏صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك من أمره، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى ‏الإسلام، ويعرض عليهم نفسه، وما جاء به من الهدى والرحمة.

وبالقول استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إقناع وفد الأنصار بدعوة الحق حين التقى بهم، فقد قال لهم ـ ‏كما يروي ابن إسحاق ـ: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز ‏وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.

وكان القول وسيلة مبعوثيه صلى الله عليه وآله وسلم في إقناع مدعويهم، فقد قال مصعب بن عمير وهو مبعوثه صلى الله عليه وآله وسلم إلى ‏المدينة المنورة لزعيمي بني عبد الأشهل:  أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن ‏كرهته عزلنا عنك ما تكره؟

فهذه النصوص وغيرها كثير تبين أن اللسان من أهم وسائل الدعوة إلى الله.

قلت: فكيف نستثمر هذه الوسيلة؟

قال: بكل ما يمكن أن تستثمر به.. بالموعظة التي تدمع لها العيون.. والخطبة التي ترتجف لها القلوب.. والحوار الذي يصد عن الباطل ويهدي إلى الحق.. والمعلومة التي يقضى بها على الجهل.. وهكذا فميادين اللسان لا يمكن حصرها.

قلت: إن ذلك يستدعي علوما كثيرة.

قال: أجل.. ففاقد الشيء لا يعطيه.. وما اللسان إلا ثمرة لما غرس في الجنان.

قلت: فبأي لسان نتحدث.. فالألسنة كثيرة؟

قال: لقد قال الله تعالى :{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (ابراهيم:4)

قلت: إن ذلك يستدعي تعلم لغات العالم.

قال: أجل.. فما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.

الإحسان:

قلت: فما الإحسان، وكيف جعلته في المرتبة الثالثة؟

قال: ألا تعرف البيت الذي يقول:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

قلت: بلى.. أعرفه.. فهذا  البيت أشهر من نار على علم.. يعرفه منا الصغير والكبير، والنساء والرجال.

قال: أتدري لم يحفظونه؟

قلت: أجل.. فهو يعبر عن حقيقة تمتلئ بها نفوسهم جبل عليهم طبعهم، فلا يستطيعون الانفكاك عنها.

قال: أي طبيعة؟

قلت: الإنسان بطبعه يميل إلى من أحسن إليه، ويحبه، ويخضع له.

قال: ولذلك كان الداعية إلى الله السائر على قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يستثمر هذه الطبيعة ليتسلل منها إلى القلوب ليملأها بأنوار الهداية([82]).

قلت: ألا تخاف أن تنبت هذه الوسيلة المنافقين؟

قال: قد تنبت المنافقين.. ولكنها قد تنبت الصادقين.

قلت: فلم لم تسد الذريعة التي تنبت النفاق؟

قال: وكيف أسد الذريعة التي قد تنبت الصادقين؟

قلت: إن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.

قال: إن أعظم مفسدة هي الضلال.. والضلال يتحقق في كل ما يبعد عن الله سواء كان كفرا أو معصية أو نفاقا..

قلت: فهل في السنة ما يدل على هذا؟

قال: ألم تقرأ قوله تعالى:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة:60)؟

قلت: بلى.. إن هذه الآية تذكر مصارف الزكاة.

قال: ألا ترى أن من مصارف الزكاة التي نصت عليها الآية مصرف (المؤلفة قلوبهم)؟

قلت: بلى .. ولكن هل طبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الوسيلة؟

قال: أجل.. فما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهتدي إلا بهدي القرآن الكريم..

قلت: فحدثني بما ورد في ذلك ليطمئن قلبي.

قال: لقد روى علماء السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد غزوة حنين ـ بدأ بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس، فأعطى أبا سفيان بن حرب 40 أوقية من الفضة و100 من الإبل وكذا ابناه يزيد ومعاوية، وأعطى حكيم بن حزام 100 من الإبل، ثم سأله مئة أخرى فأعطاه إياها، وأعطى النضر بن الحارث بن كلدة 100 من الإبل، وكذا أسيد بن جارية الثقفي والحارث بن هشام، وصفوان بن أمية، وقيس بن عدي، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، والأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف.

وأعطى العباس بن مرداس 40 من الإبل فقال في ذلك شعراً فأعطاه 100 من الإبل، وأعطى مخرمة بن نوفل 50 بعير، وكذا العلاء بن حارثة وسعيد بن يربوع وعثمان بن وهب وهشام بن عمرو العامري، فبلغ ما أعطى ممن ذكروا 14850 من الإبل.

قلت: إن البعض قد يرى في تفضيل أمثال هؤلاء الذين كانوا حربا على الإسلام إسرافا لا مبرر له؟

قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الناس حكمة.. لقد رأى أن أمثال هؤلاء لا يجذبهم شيء كما يجذبهم الإحسان، فلذلك راح يطوق أعناقهم به.

قلت: فهل أثر هذا العطاء فيهم؟

قال: لقد حدث صفوان بن أمية عن نفسه بعد أن أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عطاءه، فقال:(والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي)([83]

وحدث أنس عن أثر ذلك العطاء، فقال:(إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، ‏فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها) ([84])

قلت: ولكن.. ألم يهز ذلك أولئك المؤمنين البسطاء الذين قضوا حياتهم كلها جهادا وتضحية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال: لقد وجد بعضهم من ذلك، لكنه ما إن بين لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سر ذلك التفضيل حتى راحوا يسلمون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصرفه..

قلت: وما قال لهم؟

قال: سأحدثك بالحديث من أوله.. لقد حدث جمع من الصحابة([85]) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصاب غنائم حنين، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، فوجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثر فيهم القالة حتى قال قائلهم: يغفر الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن هذا لهو العجب يعطي قريشا، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا، وددنا أنا نعلم ممن كان هذا، فإن كان من أمر الله تعالى صبرنا، وإن كان من رأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعتبناه.

فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم، قال: (فيم؟)، قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(فأين أنت من ذلك يا سعد؟) قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)، فخرج سعد يصرخ فيهم حتى جمعهم في تلك الحظيرة، حتى إذا لم يبق أحد من الانصار إلا اجتمع له، أتاه فقال يا رسول الله: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن جمعهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:(هل منكم أحد من غيركم؟) قالوا: لا يا رسول الله إلا ابن أختنا، قال: (ابن أخت القوم منهم)، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله تعالى وعالة فاغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم، ومتفرقين فالفكم الله؟)، قالوا: بلى يا رسول الله، الله ورسوله أمن وأفضل.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟)، قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وماذا نجيبك؟ المن لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك، ومكذبا فصدقناك)، فقالوا: المن لله تعالى ورسوله، فقال: (وما حديث بلغني عنكم؟)، فسكنوا، فقال: (ما حديث بلغني عنكم؟) فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم قالوا يغفر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتالفهم، أوجدتم يا معشر الانصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله تعالى لكم من الاسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رحالكم تحوزونه إلى بيوتكم، فو الله لمن تنقلبون به خير مما ينقلبون به، فو الذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار.. أنتم الشعار والناس دثار.. الأنصار كرشي وعيبتي، ولولا أنها الهجرة لكنت امرأ من الانصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار)، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله حظا وقسما.

قلت: لقد نجح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التعامل مع الحدث.

قال: بالصدق نجح في التعامل معه.. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم ما تمتلئ به قلوبهم من محبة الله ومحبة رسوله، فلذلك خاطبهم بهما([86]).

قلت: أبالمال وحده يمكن الإحسان؟

قال: لا.. الإحسان أعم من أن يقتصر على المال، ألم تسمع قوله تعالى:{ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة:263)؟

قلت: بلى..

قال: فقد أشار الله في هذه الآية إلى أن القول المعروف والمغفرة قد يكونان خيرا من الصدقة.

قلت: فهل أثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء.

قال: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستعمل كل الوسائل ليجذب القلوب إلى التعرف على الله وعبادته..

قلت: فحدثني عن المغفرة.

قال: المغفرة من الأخلاق التي أمر الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبر أن لها من التأثير ما جعل القلوب تلتف به صلى الله عليه وآله وسلم.. قال تعالى:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران:159)

وفي موضع آخر قال تعالى:{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (لأعراف:199)

وقد أخبر الله تعالى عن تأثير العفو والمقابلة بالحسنى في المودة، فقال:{ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34)

قلت: فهل ورد في السنة ما يدل على هذا؟

قال: ذلك كثير.. منه ما حدث به جابر بن عبد الله ‏أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرة، ‏فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا فجئناه، فإذا ‏عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، ‏فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فها هو ذا جالس)، ثم لم ‏يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

وقد كانت نتيجة هذا العفو أن رجع الرجل إلى قومه، وقال:(جئتكم من عند خير الناس)([87])

ومنه ما حدث به الرواة من قصة ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وأسره.. فقد ورد في بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ولا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسنوا اساره)، فربطوه بسارية من سواري المسجد([88]).

وفي رواية أخر أن ثمامة كان رسول مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك وأراد اغتياله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه تبارك وتعالى أن يمكنه منه، فدخل المدينة معتمرا وهو مشرك فدخل المدينة حتى تحير فيها فأخذ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله فقال: (اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه)، وأمر بلقحته ان يغدى عليه بها ويراح، فجعل لا يقع من ثمامة موقعا ويأتيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: (ما عندك يا ثمامة؟) فيقول: (إيها يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن ترد الفداء فسل منه ما شئت)، فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان الغد فقال: (ما عندك يا ثمامة؟) قال: عندي ما قلت لك، وذكر مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أطلقوا ثمامة)، فأطلقوه فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: (أشهد ألا اله الا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلى من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلى، والله ما كان من دين أبغض إلى من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلى، والله ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلى، وان خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟) فبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يعتمر.

قال ابن هشام: فبلغني أنه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبى فكان أول من دخل مكة يلبي، فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا، فلما قدمو ه ليضربوا عنقه قال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة لطعامكم فخلوه، وقالوا: أصبوت يا ثمامة؟ فقال: لا، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتبعت خير دين، دين محمد، ووالله لا تصل اليكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا منها شيئا إلى مكة حتى أكلت قريش العلهز.

فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا)، فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل، وأنزل الله عز وجل:{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (المؤمنون:76)([89])

ومنه الحديث الذي سارت به الركبان من عفوه صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل مكة بعد كل ما صدر منهم في حقه وفي حق أصحابه وفي حق دعوته.. لقد روى جمع من الصحابة([90])قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج من البيت استكف له الناس، وأشرف على الناس وقد ليط بهم حول الكعبة ـ وهم جلوس ـ قام على بابه فقال:(لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، يا معشر قريش ماذا تقولون؟ ماذا تظنون؟)، قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا، نبي كريم، وأخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(فاني أقول كما قال أخي يوسف:{ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 92)، اذهبو فانتم الطلقاء)، فخرجوا كأنما نشروا من القبور، فدخلوا في الاسلام.

السنان:

قلت: فما السنان، وكيف جعلته في المرتبة الرابعة؟

قال: السنان هو أداة السلطان.. و(الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)([91])

قلت: ما دام بيد السلطان، فكيف وضعته هنا؟

قال: لأعرف أهله، فأدل السلطان عليهم.

قلت: ألا تكون بذلك واشيا؟

قال: بل أكون داعيا.. لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك ‏أضعف الإيمان)([92])

قلت: لم يذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث السلطان، فكيف ذكرته؟

قال: كل من تولى شيئا كان له السلطة عليه، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته؛ والمرأة راعيةٌ على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته)([93]

قلت: بلى.. وهذا الحديث أشهر من نار على علم.

قال: فلذلك لا تغير منكرا بيدك إلا إذا كانت لك سلطة عليه، أو إذن من السلطة.

قلت: فسر لي ذلك.

قال: انظر.. فقد وضعت لهذا خمس حالات.. ووضعت لكل حالة حلها.

نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الأولى:(أن يكون للمغيِّر ولاية خاصة على ذي المنكر)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟

قال: أقصد ما ذكره صلى الله عليه وآله وسلم من الولاية الخاصة، كولاية الوالد على ولده، والزوج ‏على زوجته.. فلهؤلاء الحق في تغيير ما يرونه منكرا ممن تولوهم.. لقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا النوع من الولاية بقوله:(مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)([94])، فقد أذن صلى الله عليه وآله وسلم في استعمال هذه الأسلوب في تربية الأولاد، ولكن بعد ثلاث سنين تجرب فيها جميع الوسائل الأخرى.

وهكذا.. إذا رأى الزوج من زوجته منكرا، فإنه يجب عليه أن يغيره بيده..

قلت: فللأب أن يقيم الحدود على ابنه، وللزوج أن يقيم الحدود على زوجته.

قال: لا.. ذلك للإمام الأعلى..

قلت: فما التغيير باليد إذن؟

قال: التغيير باليد ذو صور ومراحل عديدة.. منها استخدام اليد في إفساد آلات المنكر، أو إذهاب عين المنكر، كتحطيم أدوات شرب ‏الخمر وإراقتها، وتهديم حاناتها، إذا لم تكن تصلح إلا لذلك، أو غلق الطرق المؤدية إليها، أو ‏قطع المياه وأدوات الإنارة عنها، أو إفساد آلات الغناء الماجن المحرم، وإفساد أماكن بيعه وتوزيعه، إذا لم تكن تلك الأماكن ‏صالحة إلا لذلك..

قلت: فقد انحصر الأمر في إفساد آلة المنكر.. والضرب.

قال: أما إفساد آلة المنكر، فلا يفسدها إلا إذا كانت لمحض المنكر.. وأما الضرب، فله حدود وضوابط لابد من التزامها، وإلا كان التغيير نفسه منكرا([95]).

نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الثانية:(أن يكون للمغيِّر ولاية عامة على ذي المنكر)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟

قال: الولاية العامة هي ولاية الحاكم على رعيته.. وبما أن هذا الحاكم مفوض من الرعية بإقامة العدل، وتوفير الأمن، فقد أعطاه الشرع حق استعمال الشدة في محلها، ولأهلها.

قلت: فلم لم يضع طرقا أكثر رحمة، وأميل إلى الرفق؟

قال: أرأيت لو أن مريضا من الأمراض أصابه ورم عجز كل علاج عن شفائه، فلم ير الطبيب حلا لذلك إلا استئصال الورم بعملية جراحية.. أكان في ذلك رحيما أم قاسيا؟

قلت: ما دام لم يجد أي علاج.. فما وصفه عين الرحمة؟

قال: وبهذا جاء الشرع الممتلئ بالحكمة.. لقد وضع منهجا متكاملا في التربية والإصلاح في كل المجالات.. ثم جعل بعد ذلك للحاكم من السلطة ما يفرض به قوانين العدالة والرحمة.

قلت: إن البعض يشنع في مثل هذا([96]).

قال: دعهم يشنعون، فإنهم بذلك ينصرون المستكبرين المجرمين.. فلا يدافع عن المجرم إلا مجرم، أو من يحلم بأن يصير مجرما.

اسمع هذه الآية الشديدة التي تتحدث عن الجزاء المرتبط بهؤلاء:{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة:33)

واسمع الآية الأخرى التي تأمر بإقامة حد الزنا، وعدم الالتفات لما تمليه العواطف في ذلك:{  الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (النور:2)

ألا ترى أن في تعليق الحاكم لافتة بأمثال هذا في كل المحال، سيردع كل محارب، وسيقمع نفس كل مجرم؟

قلت: بلى.. ذلك صحيح.

قال: فلهذا ورد في الأثر: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)

نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الثالثة:(ألا يكون للمغيِّر أي ولاية على ذي المنكر)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟

قال: هذا هو الأعم الغالب.. فأكثر أفراد الرعية لا سلطان لبعضهم على غيره.

قلت: فكيف يتم الإنكار باليد هنا؟

قال: ليس لذلك إلا سبيل واحد.

قلت: ما هو؟

قال: إذا كان الحاكم عادلا، وناصحا، ومهتما بشأن رعيته، أو فوض من يقوم بذلك، فإن على المؤمن أن يسعى إلى هؤلاء طالبا منهم أن يقوموا بتغيير المنكر بما أوتوا من وسائل الحزم.

قلت: فإن لم يكن.

قال: لم يبق حينها إلا الجهاد باللسان.. فلا يحق لمسلم أن ينشر الفتنة بتغيير المنكر بيده.. إنه بذلك يغير منكرا واحدا، ويحيي مناكر كثيرة.

قلت: الجهاد باللسان مع الحاكم المقصر، أم مع المحكوم؟

قال: مع كليهما.. فكلاهما في منكر.. أما الحاكم فبسكوته، وأما المحكوم فبفعله.

نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الرابعة:(أن يكون لذي المنكر ولاية خاصة على من يقوم بتغيير منكره)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟

قال: كأن يكون ذو ‏المنكر والد المغيِّر أو زوجها..

قلت: فما عسى هؤلاء المستضعفين أن يفعلوا؟

قال: يفرق هنا بين نوع المنكر ‏ودرجته.. فإن لم يترتب عن تغيير المنكر باليد أي إيذاء أو ضرر، فلهما ذلك.. أما إذا ترتب عنه ضرر، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها([97]).

نظرت، فرأيت مكتوبا في الحالة الخامسة:(أن يكون ذو المنكر ذا ولاية عامة على من يقوم بتغيير منكره)، فقلت: ما الذي تقصد بهذا؟

قال: هذه الحالة أخطر حالات إنكار المنكر، وأدقها، وأصعبها.. فهي ترتبط بالإنكار على الحاكم.

قلت: فما مصدر الصعوبة فيها؟

قال: الحاكم في نظر الشريعة يمثل أمرين: العدل، والأمن.. والحاكم الكامل هو الذي جمع بين الأمرين.. فلذلك إن لم يترتب عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إخلال بكلا الجانبين، وجب الإنكار.. أما إذا ترتب عنه الإخلال بهما، أو بأحدهما، وجب استعمال وسائل أخرى بديلة.

قلت: عرفت العدل.. فما الأمن؟

قال: أن تنتشر الفوضى التي هي مرتع الفتن ومنبعها..

قلت: فهل نسالم مثل هذا الإمام؟

قال: السلام الذي يزين بالنصيحة، لقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك..

قلت: أجل.. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الدين النصيحة، فقيل له: لمن؟ فقال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم([98]).

قال: وقد صرح صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن قتال الأئمة الظالمين، ما داموا لم يتدخلوا في شؤون الدينية الأساسية، فقال:(إنه يُستعمل عليكم أُمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن ‏من رضي وتابع)، قالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال لا، ما صلُّوا([99]).

***

ما استتم صاحبي حديثه هذا حتى وجدنا أنفسنا قد قطعنا المرحلة الأولى من الطريق من غير أن نشعر بأي عناء أو تعب..

لقد كنت أتخيل نفسي في الهند.. ومع هذا الرجل الحكيم.. ومع ذلك النبي الحكيم الذي امتلأ العالم جميعا بلطائف حكمته، وأنوار هدايته.. ولم يخطر على بالي طيلة هذه المرحلة ما كنا نقطعه من غابات موحشة، ومن سباع عادية تتربص بنا من كل اتجاه.

سألت صاحبي عن لقمان الحكيم وكيف تركه، فقال: لقد ظللت فترة مهمة من عمري في صحبته، إلى أن توفاه الله، وهو في طريق الله.. وقد كان موته ـ كحياته ـ لا يختلفان.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد كنت أسير معه في بادية من البوادي.. وكان فيها بعض الحاقدين عليه، وعلى الدين الذي يدعو إليه، وعلى السلام الذي تمتلئ به نفسه.. فلذلك استغل فرصة من فرص غفلتنا، فراح يطعنه بما امتلأت به نفسه من حقد.

قلت: فكيف عرفتم الجاني؟

قال: لقد أقر بجنايته..

قلت: عجبا.. كيف يقر بجنايته.. وهو لم يلحظه أحد؟

قال: عندما قدمنا، فوجدنا صاحبنا مضرجا في دمائه، والبسمة تملأ شفتيه، والأسارير الصافية تملأ وجهه، وجدنا بجانبه قاتله يبكي عليه كما يبكي على أعز الناس.

قلت: إن هذا لعجيب.. أمجنون من قتله؟

قال: بل عاقل.. ولكن حقده غلب على عقله، فقتله.

قلت: فكيف غلب عقله على حقده، فندم؟

قال: لقد كان لقمان الحكيم هو سبب توبته وندمه.. لقد ظل لقمان داعية إلى الله إلى آخر قطرة من عمره.

قلت: إن ما تقوله عجيب.. كيف وقد قتل؟

قال: لقد حكى لنا قاتله من أمره ما قفت له شعورنا، وعلمنا منه أنه كان لصاحبنا من الصدق والإخلاص ما لم نكن نتصوره.

قلت: فما حكى؟

قال: بعد أن طعنه، ونفذت الطعنة القاتلة فيه، نظر إليه والبسمة تملأ شفتيه، وقال له: يا أخي.. ما أنا سوى بشر بسيط.. وجسدي الذي طعنته بشفرتك لا يختلف كثيرا عن التراب الذي تسير عليه.. فلا تنشغل بي عن السير إلى ربك.. سر إلى الله، فإنك إن سرت ترى العجائب.

ثم قال له: إن كان لي حق في قتلك لي.. فقد أسقطته.. وأرجو أن نلتقي عند ربنا أخوين لندخل جميعا جنة الرضوان.. تلك الجنة التي لا غل فيها ولا حقد ولا صراع..

قال ذلك، ثم ابتسم ابتسامة عريضة، وقال: أعوذ بك يا رب أن يشقى هذا المسكين بسببي.. فافتح له من أبواب رحمتك وفضلك وهدايتك ما تريد الشياطين أن تغلقه في وجهه.

قلت: إن هذا مشهد مؤثر.. فما فعل القاتل؟

قال: لقد أخبرنا بما نزل على قلبه من أشعة النور التي حولته فردا من أهل الله، وقد صحبنا زمانا، ورأينا من علامات صدق توبته ما جعلنا نؤمن بعظم المنهج الذي اختاره الحكيم في الدعوة إلى ربه.. منهج الحكمة الذي استفاده من النبي الحكيم.


([1])   أشير به إلى لقمان الحكيم الذي ذُكر في القرآن الكريم، وأطلق اسمه على سورة لقمان، وقد ذكر المؤرخون أنه عاصر داود عليه السلام، وأنه لد وعاش في بلاد النوبة، وأنه كان عبدا حبشيا أسودا، وأنه أول من تحرر من عبوديته بدفع ثمنه بالمكاتبة، وكان خياطا او نجارا او راعيا، وأنه نزل بالموصل في قرية يقال لها (كومليس او كوماس) بالعراق وانه مات في الشام حيث قبره بها في قرية اسمها طبرية وهي مدينة بقرب دمشق.

وقد روي في الحديث: ( ثلاثة من سادات أهل الجنة لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن) [المعجم الكبير للطبراني ج11 ص159 ]، وروى عن الامام علي أنه سئل عن سلمان الفارسي فقال ( بخ بخ سلمان منا أهل البيت، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم علم علم الأول والآخر ) [الاحتجاج للطبرسي ج1 ص387].

([2])  ذكرنا المسألة بتفصيل في رسالة (أسرار الأقدار)

([3])   في ظلال القرآن: 6/3692- 3693.

([4])   رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى.. وانظر: سير أعلام النبلاء: 2 / 59.

([5])  رواه مسلم.

([6])  رواه مسلم.

([7])   رواه البخاري وغيره.

([8])   رواه مسلم.

([9])   رواه البخاري ومسلم.

([10])اختلف المفسرون فيمَن هو المعاتب في الآيات الكريمة من أول سورة عبس على رأيين:

الأول: ما ذكرناه هنا، وهو المشهور بين عامّة المفسّرين وخاصتهم، وهو أنها نزلت في عبداللّه بن اُم مكتوم، إنّه أتى رسول اللّهصلى الله عليه وآله وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب واُبي واُميّة بن خلف يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعم، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام والمسلمين)، فقال: يا رسول الّله، أقرئني وعلمني ممّا علمك اللّه، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية.. وكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي»، ويقول له: «هل لك من حاجة».استخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين)

الثاني: ما روي عن الإمام الصادق: «إنّها نزلت في رجل من بني اُميّة، كان عند النّبي، فجاء ابن اُم مكتوم، فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك، وأنكره عليه»( تفسير مجمع البيان، ج10، ص437) وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.

وقد قال ناصر مكارم الشيرازي عن الرأي الأول: وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول، فإنّ فعل النّبيصلى الله عليه وآله وسلم  والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا ينافي العصمة، وللأسباب التالية:

أوّلاً: على فرض صحة ما نسب إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش، فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع في نشر الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.

ثانياً: إنّ العبوس أو الإنبساط مع الأعمى سواء، لأنّه لا يدرك ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد اللّه بن اُم مكتوم» لم يراع آداب المجلس حينها، حيث أنّه قاطع النّبي صلى الله عليه وآله وسلم مراراً في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع الآخرين، ولكن بما أنّ اللّه تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه من خلال تنبيهه على ضرورة الإعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.

ويمثل هذا السياق دليلاً على عظمة شأن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم كتاب إلهي وأنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضاً) فلا داعي لإستعتاب نفسه…

ومن مكارم خلقه صلى الله عليه وآله وسلم  ـ كما ورد في الرواية المذكورة ـ إنّه كان يحترم عبد اللّه بن اُم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.

وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والإستهداء بها في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك، وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين (الأمثل:ج19، ص412)

([11])   ومما يدل على مكانته في قريش قولهم: إن صبأ أبو الوليد لتصبون قريش كلها (ابن هشام، السيرة النبوية 1 / 229)

([12])   رواه ابن إسحق.

([13])   رواه البخاري.

([14])   فتح الباري: 7 /695.

([15])   سيرة ابن هشام: 2 / 59.

([16])   رواه البيهقي في الدلائل.

([17])   رواه البخاري ومسلم.

([18])   رواه البخاري ومسلم.

([19])   رواه أحمد واللفظ له، والطبراني في الكبير وفي مسند الشاميين.

([20])   رواه أبو داود وأحمد والبيهقي في السنن.

([21])   رواه الترمذي وأحمد.

([22])   ذكره مسلم في المقدمة، ورواه أبو داود.

([23])   رواه البخاري ومسلم.

([24])   فقد ورد أن الزواج كان عندهم على أنواع: منها نكاح الاستبضاع.. وغيرها، رواه البخاري وغيره.

([25])  حلف المطيبين: وهو حلف عقد في أيام الجاهلية، وسمّي بهذا لأن المتحالفين طيّبوا الكعبة، وطيّبوا بعضهم، السيرة لابن هشام [1/150]

([26])  الفضول: هو حلف عقد في الجاهلية، وقيل: سمّي بذلك لأن معظم المتحالفين كانت أسماؤهم (الفضل) السيرة لابن هشام [1/153]

([27])   رواه أحمد والبيهقي في السنن الكبرى وصححه الحاكم ووافقه الذهبي..

([28])  رواه مسلم.

([29])   رواه البخاري ومسلم.

([30])   رواه البخاري ومسلم.

([31])   رواه مسلم بهذا اللفظ، وروى البخاري بعضه.

([32])   رواه البخاري ومسلم.

([33])   الفضيخ: شراب يتخد من البسر (التمر قبل أن يصبح رطباً ويسمى بلحاً) وحده من غير أن تمسه النار. انظر لسان العرب( 3/45)

([34])   رواه البخاري ومسلم.

([35])   رواه البخاري.

([36])  رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.

([37])   رواه أبو داوود والطبراني في الكبير.

([38])   رواه البخاري ومسلم.

([39])  رواه النسائي والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.

([40])   رواه النسائي، والطبراني في الكبير.

([41])   رواه مسلم.

([42])    رواه أحمد وأبو داود والحاكم.

(1)    سير أعلام النبلاء 2/305.

([44])    رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجة وغيرهم.

([45])    رواه ابن السني وابن حبان عن ابن مسعود.

([46])    شجرة المعارف والأحوال، ص 1.

([47])    الترمذي وابن ماجة.

([48])    البخاري:4/22.

([49])    رواه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ لأحمد.

([50])    رواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب ابن السني في عمل يوم وليلة.

([51])     البخاري.

([52])  والأمثلة على دخول الخرافة هذه العوالم الغيبية كثيرة، منها ـ مثلا ـ الخرافات التي نسجت حول الملائكة الموكلين بالعرش ـ عليهم السلام ـ والتي تلبست بلباس الحديث الشريف، فذكرت أنهم (ثمانية أملاك على صورة الأوعال)، وأن (لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس)، و(أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش)

وقد رويت هذه الأساطير ـ للأسف ـ في كتب التفسير المعتمدة، وهي مما يحرص العامة على مثله، وهي خرافات لا حظ لها من العلم، ولا حظ لراويها وملفقها من الذوق، وقد رد عليها ـ بحمد الله ـ الشيخ محمد زاهد الكوثري، برسالة سماها « فصل المقال في بحث الأوعال) أو (فصل المقال في تمحيص أحدوثة الأوعال)، فذكر المصادر التي أخرجت هذه النصوص وتتبع أقوالهم تمحيصا وتحليلا وانتهى إلى أنّها أقاصيص دخيلة لا أصل لها.

([53])   رواه أحمد والنسائي في السنن وفي الكبرى.

([54])   رواه مسلم.

([55])   رواه البخاري ومسلم.

([56])   رواه مسلم.

([57])   رواه البخاري ومسلم.

([58])   رواه أحمد والبيهقي والحاكم وصححه.

([59])   رواه مسلم.

([60])   رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([61])   رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([62])  رواه الطبراني في مكارم الأخلاق من حديث جابر بسند ضعيف.

([63])   رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([64])   رواه أبو داود.

([65])   رواه أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه.

([66])   رواه ابن إسحق وغيره.

([67])   رواه أحمد وأبو داود والبيهقي في دلائل النبوة.

([68])   رواه أحمد وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني وأبو نعيم، واسناده صحيح، ورجاله ثقات.

([69])   ذكر الفخر الرازي وجه الانحصار في هذه الأساليب، فذكر أن أهل العلم ثلاث طوائف:

1. الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة.

2. الذين تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية، والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام، وهذان القسمان هما الطرفان. فالأول: هو طرف الكمال، والثاني: طرف النقصان.

3. الواسطة، وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالموعظة الحسنة.

ثم تحدث عن مراتب هذه الأساليب، فذكر أن  أدناها المجادلة، وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققون، وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة، وفيهم الكثرة والغلبة، وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة. (انظر: التفسير الكبير)

وقريب من هذا ما ذكره الغزالي في (القسطاس المستقيم) حين سأله رفيق التعليم عن أصناف الخلق وكيفية علاجهم،فذكر أنهم ثلاثة:( عوام، وهم أهل السلامة، وخواص هم أهل البصيرة وخواص الذكاء، ويتولد بينهم طائفة هم (أهل الجدل والشغب)

قال الغزالي:( فأدعو هؤلاء [العوام] بالموعظة،وأهل البصيرة بالحكمة،وأدعو أهل الشغب بالمجادلة)

([70])    خلافا للعلم، فقد ذكر في مواضع الثناء والذم جميعا.

([71])    قال القرطبي تعليقا على هذه الآية:( إن من أعطي الحكمة والقرآن فقد أعطي أفضل ما أعطي من جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها، لأنه قال لأولئك:{ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً( (الاسراء: 85)، وسمى هذا خيرا كثيرا، لأن هذا هو جوامع الكلم(القرطبي: 3/330)

([72])  كما قال الشافعي:( الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قول قتادة، قال أصحاب الشافعي:( والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً وتعليمه ثانياً ثم عطف عليه الحكمة، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب، وليس ذلك إلا سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)، قال ابن القيم:(  وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر) ( مدارج السالكين: 2/472)

([73])  قاموس البحر: هو وسطه ولجته (النهاية في غريب ‏الحديث والأثر: 5 / 81)

([74])  رواه مسلم.

([75])  رواه أبو يَعْلى قال الهيثمي وفيه: راوٍ ‏لم يسمَّ، وبقية رجاله وُثِّقوا.

(1)         التفسير الكبير:20/288.

([77])   سنتحدث عن الموعظة في فصل (الواعظ) من هذه الرسالة.

([78])   انظر فصل (المحاور) من هذه الرسالة.

([79])  رواه مسلم.

([80])   رواه أحمد وابن منيع والطبراني والعسكري وابن حبان والحاكم موقوفا على ابن عباس.

([81])   انظر فصل (القدوة) من هذه الرسالة.

([82])   يثير المبشرون وغيرهم في كتبهم ومواقعهم التبشيرية بين الحين و الآخر شبهة مفادها أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة عبارة عن رشوة تستقبحها الضمائر النزيهة و أنه من غير المعقول أن يدعو المسلمون غير المسلمين إلى دينهم عن طريق دفع الرشاوى، حتى وصلت جرأة أحدهم لأن يسأل في وقاحة:( أليست هذه رشوة؟ يعطي ثروة مهولة لقوم، لكي يدخلوا الاسلام، أليس هذا شراء للضمائر والذمم؟)، و يصيح آخر في هستيرية:(أليس هذا من أسوأ أنواع الرشوة؟ أليس هذا شراء لضمائر الناس؟ أيعجز محمد عن إثبات دينه بالمعجزات الربانية و الخوارق فيلجأ إلى أرخص الوسائل وأسهلها و هي شراء الولاءات؟ فبماذا تختلف هذه الأفعال عن قولنا أن الغرب يشتري حكّام العرب؟ فهي تدفع لهم حتى يخدموا مصالحها)

وسنتحدث عن جواب هذه الشبهة هنا.

([83])   رواه مسلم.

([84])   رواه مسلم.

([85])   رواه ابن إسحاق، وأحمد عن أبي سعيد الخدري، وأحمد، والبخاري ومسلم من طريق أنس بن مالك، وهما عن عبد الله بن يزيد بن عاصم.. بروايات مختلفة، وقد حاولنا  الجمع بينها.

([86])   ذكر محمد بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد حين دعاهم أن يكتب بالبحرين لهم خاصة بعده دون الناس، وهي يومئذ أفضل ما فتح عليه من الارض، فقالوا: (لا حاجة لنا بالدنيا بعدك)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)

([87])   رواه البخاري.

([88])   رواه البخاري ومسلم.

([89])   رواه البيهقي عن ابن اسحاق.

([90])   رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن عبد الله بن عمر والبخاري في صحيحه عن مجاهد، وابن أبي شيبة، وابن إسحاق عن صفية بنت شيبة، والبيهقي عن عبد الله بن عمر، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبيدة.

([91])   روي عن عثمان موقوفا ونحوه عن عمر موقوفا.

([92])   رواه مسلم.

([93])   رواه البخاري ومسلم.

([94])  رواه أبو داود والحاكم.

([95])   ذكرنا الضوابط الشرعية لاستعمال هذه الوسيلة في كتاب (الأساليب الشرعية لتربية الأولاد) من سلسلة (فقه الأسرة برؤية مقاصدية)

([96])   انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (عدالة للعالمين) من هذه السلسلة.

([97])  ذهب الغزالي إلى أن للولد مع والده الواقع في المنكر، أن يغيره ‏بالمنع، بالقهر، بطريق المباشرة، (بأن يكسر مثلاً عوده، ويريق خمره، ويحل الخيوط من ‏ثيابه المنسوجة من الحرير، ويرد إلى الملاك، ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو ‏سرقه، أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين إذا كان صاحبه معيَّناً، ويبطل الصور ‏المنقوشة على حيطانه، والمنقورة في خشب بيته، ويكسر أوان الذهب والفضة، فإنَّ فعله في ‏هذه الأمور ليس يتعلق بذات الأب، بخلاف الضرب والسب، ولكن الوالد يتأذى به ويسخط ‏بسببه إلا أنَّ فعل الولد حق وسخط الأب منشؤه حبه للباطل وللحرام، والأظهر في القياس أنه ‏يثبت للولد ذلك بل يلزمه أن يفعل ذلك) (انظر: الإحياء: 2/318)

([98])  رواه مسلم.

([99])   رواه مسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *