أولا ـ الحفظ


بعد أن وصلنا الإسكندرية، وفي اليوم الأول.. خرجت من البيت أبحث عن مكتبة سمعت عنها كثيرا إبان طلبي العلم.. هي مكتبة خاصة مملوءة بالمخطوطات القيمة، ورثها رجل من أهل الإسكندرية عن أجداده، وقد سمعت أنه رجل لطيف يسمح لكل من قصد مكتبته بالاستفادة منها كما يشاء.. وقد سمعت في نفس الوقت أنه رجل غريب الأطوار.. فلذلك حذرني منه بعضهم قبل رحلتي.

لم أصدق كل ما سمعت.. فذهبت أبحث عن المكتبة حتى وجدتها.

كانت مكتبة رائعة الجمال.. يدل تصنيف الكتب فيها على اهتمام صاحبها بها، وعلى ما له من ثقافة.

كان اسمه المعلق على لافتتها بالبنط العريض يدل على كونه مسيحيا، بل من عائلة عريقة في المسيحية.. وقد كانت المخطوطات التي تمتلئ بها المكتبة دليلا على كون هذه العائلة قد توارثت العلم كابرا عن كابر.

رحب بي صاحب المكتبة شخصيا، وأخبرني باستعداده لدلالتي على أي كتاب أريده، بل دلالتي على الكتب التي أحتاجها، وأنه يكفي أن أخبره عن الموضوع الذي أريد ليدلني على المراجع التي كتبت عنه.

قلت: لا شك أنك قد اطلعت على الكثير من هذه الكتب.

قال: أجل.. إن حياتي كلها مرتبطة بهذه المكتبة.. أنا عاشق لها.. لقد ترك والدي ثروة ضخمة تقاسمها إخوتي.. ورضيت من قسمتي بهذه المكتبة.. قلت لهم: خذوا كل ما تريدون.. دعوا لي فقط هذه الكتب أتنسم عبيرها.

قلت: ومن أين تقتات؟.. أراك تفتح أبوابها للراغبين بالمجان.

قال: من عرف كيف يتغذى بالكلمات الطاهرة لم يحتج إلى أي غذاء.. فللكلمات خلقنا لا للأقوات.

قلت: ذكرتني بقول يوحنا:( في البدء كان الكلمة.. )(يوحنا:1/1)

قال: أنت تهتم بالكتاب المقدس إذن.. لقد خصصت جناحا كبيرا في المكتبة للكتب المقدسة جمعت فيه مخطوطاتها وتفاسيرها.

قلت: فدلني عليه.

سار معي إلى ركن جميل.. هو أجمل أركان القاعة.. وقال: هذا هو ركن الكتب المقدسة.. وقد سميته ( الكلمات المقدسة ).. ولا يدخل أحد إلا بإذني، وبعد أن ألمس فيه صدق الطلب.

قلت: فقد لمست في صدق الطلب إذن.

قال: أصدقك بأني قد ارتحت كثيرا لمرآك.. لست أدري.. لعل لي علاقة بك من قديم لا أعرفها..

قلت: أنا لا أعرفك.. ولا أذكر أني رأيتك من قبل.. بالإضافة إلى أني غريب عن هذه البلاد.

قال: لا أقصد علاقتنا هنا.. بل أقصد علاقتنا هناك في العالم الذي لم تكن معنا فيه أجسادنا.

قلت: لا أذكرشيئا عن ذلك العالم.

قال: ولا أنا.. ولكن أحيانا أتخيل أني أذكر أشياء.. ثم أنسى.. لست أدري.. دعنا من هذا.. هذا هو ركن الكتب المقدسة.

سرت في الركن.. فوجدت كتبا مقدسة من كل الأديان.. ولكني فوجئت بالقرآن الكريم.. وهو يحتل أفضل المواقع وأعلاها..

قلت: أليس هذا هو كتاب المسلمين المقدس؟

قال: بلى.. هو كتابهم المقدس.

قلت: أرى أن لك اهتماما خاصا به.. فأنت تضع مصحفه في محمل خاص بخلاف سائر الكتب.

قال: أصدقك القول.. فمع أني مسيحي.. بل من عائلة عريقة في تدينها بالمسيحية.. بل من عائلة كان الكثير من أفرادها رجال دين.. إلا أنه لم يحظ كتاب من الكتب بالأهمية عندي كما حظي كتاب المسلمين المقدس.. إني أقرؤه ولا أمل من قراءته.

قلت: لم؟

قال: لست أدري.. كأني أجده يخاطبني.. يعرفني بالعالم الذي جئت منه.. والذي نسيته، ولم تبق لي منه إلا ذكريات نسيتها..

قلت: وكتابنا المقدس بعهديه.. أتراك هجرته؟

قال: لا.. ولكني كلما مددت يدي لأقرأ ما فيه كلما وجدتني أعود لأحمل كتاب المسلمين لقراءته من جديد.

قلت: لعلك مغرم بالأدب.. فأنت تحب جمال أسلوبه.

قال: ليس هذا فقط.. لقد تعاملت مع نفسي كما أتعامل مع الأجنبي.. ورحت أحلل أسرار انجذابي للقرآن وثقتي فيه.. والتي تربو على ثقتي في كتابنا المقدس.

قلت: فما وجدت من هذه الدراسة التحليلية؟

قال: أشياء كثيرة جدا لا يمكنني أن أفصل لك ذكرها هنا.. ولكني من خلال اهتمامي بالأسانيد عرفت أن القرآن هو الكتاب الوحيد المحفوظ حفظا صحيحا من بين جميع الكتب المقدسة.. وقد كان ذلك مثار عجب عندي..

لقد ظللت أقول لنفسي: لو كان هذا الكتاب كاذبا على الله، فهل يأذن الله بحفظه بهذه الصورة العجيبة.. لكأن الكون كله خرسانة مسلحة حمي بها هذا الكتاب.. فلم يجرؤ جميع اللصوص على الاقتراب منه.

قلت: كيف عرفت ذلك؟.. إن البحث في هذا ليس بالسهولة التي تتصورها.

قال: أجل.. ولكن الله يسر لي هذه المكتبة الضخمة التي ترجع الكثير من نسخها إلى القرون المتطاولة.. وقد بحثت فيها، فوصلت إلى الحقيقة التي ذكرتها لك.

قلت: فهل ستفصل لي خلاصة ما وصلت إليه؟

قال: إن لم يشغلك ذلك عما جئت من أجله.

قلت: لا.. لعلي لم أحضر إلا لأجل هذا.

قال: ألم أقل لك: كأني أعرفك.. لقد مررت في يوم من الأيام بنفس الحالة التي تمر بها.. لكني لا أجرؤ على قول شيء.. لأني لا أكاد أذكر شيئا.

***

 اتخذنا مجلسا صالحا في [ركن الكلمات المقدسة]، وراح يحدثني عن نتائج ما قام به من بحث حول تميز القرآن الكريم.

قال: أول ما شدني إلى القرآن أنه الكتاب المقدس الوحيد الذي حفظ من أي تغيير وتبديل.. بل هو الكتاب الوحيد الذي لا يزال يقرأ باللغة التي نزل بها.. بل بنفس مخارج الحروف التي كان ينطق بها محمد.. بل إن المسلمين لا يكتفون بحفظه مكتوبا كما نحفظ كتبنا، بل يضمون إليه حفظه في صدورهم.. حتى الأعاجم منهم يحفظونه.

قلت: وما الذي شدك إلى هذا؟

قال: شدني إلى هذا مقارنتي له بما تعامل به قومي وقومك مع كتبنا المقدسة.. لقد أهانوا قداستها بما أوقعوا فيها من تحريفات.

قلت: أنت مسيحي، وتقول بوقوع التحريف في كتبنا؟

قال: أنا مسيحي نعم.. ولكني مع ذلك إنسان عاقل.. يستعمل عقله.. ولا يمكنني أن ألغي عقلي.. ولا أرى أن مسيحيتي تتنافى مع استعمالي لعقلي.. لقد قمت بدراسة لكتبنا المقدسة من ناحية مدى الوثوق فيما دون فيها، وقد خرجت بنتائج مذهلة.

قلت: فما الذي خرجت به؟

قال: لقد عرفت أن الحفظ بمعناه الحقيقي الكامل لم يتحقق في كتبنا، ولا في كتب اليهود التي نستمد منها، ولا في أي كتاب من الكتب التي تملأ أرجاء هذه القاعة، ما عدا كتاب المسلمين.. لقد أضيفت كتب كثيرة، وكلام كثير للكتب المقدسة جعلنا لا نستطيع التمييز بين المقدس منها وغير المقدس.

وقد ذكر كتاب المسلمين المقدس هذا، بل ذكر علله النفسية والاجتماعية، فقال:{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة:79)

بل وصف طريقة تلاعبهم بالكتاب وصفا دقيقا، فقال:{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران:78)

لقد مارس كثير من رجال الدين الذين امتلأوا بحب الدنيا هذه التجارة الرخيصة، تجارة التلاعب بالكتب المقدسة.

قلت: وكتاب المسملين؟

قال: لقد توفرت ظروف كثيرة لكتاب المسلمين جعلته محفوظا حفظا تاما لا يزاد فيه حرف واحد، ولا ينقص منه حرف واحد.

أذكر أني قرأت عن أحد صحابة محمد.. هو عالم من علمائهم الكبار.. يقول متوجها للذين استهواهم ما في كتبنا من قصص:( يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه، أحدث أخبار الله تقرؤونه محضًا لم يشب؟ وقد حَدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلا؛ أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل إليكم )([1])

لعل العناية الإلهية التي وعدت بحفظه جعلته بمنأى عن كل ما لحق بكتبنا من تحريفات..

أخذ مصحفا، وفتحه على مواضع محددة، وقال: اسمع.. إن إله المسلمين يعد بحفظ كتابه وعدا جازما، وهو ما تخلو منه كتبنا.. اسمع إليه، وهو يقول:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9)

بل هو يخبر بأن هذا الكتاب الذي أحمله لن يزاحمه أي باطل قدسيته، اسمع إليه:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصلت:41 ـ 42)

بل هو يخبر أن مهمة جمعه تعود إليه، فيقول:{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (القيامة: 17)

إن هذه الآيات وحدها تحمل إعجازا عظيما.. إنها تتحدى كل تلك الجيوش التي جيشت لتحريف هذا الكتاب أو تبديله أو محوه.

قلت: إن استنتاجك هذا يستدعي أدلة كثيرة..

قال: سأذكرها لك.. ولكن قبل أن نتحدث عن ذلك.. أو لنفهم ذلك.. فلنرجع إلى كتابنا المقدس الذي دنسته أيادي المحرفين.

لقد ذكرت لك أن كتاب المسلمين يحوي الوعد بحفظه، وأنه لن يصيبه سوء..

قلت: أجل.. لقد قرأت لي منه ما يدل على ذلك.

قال: وهذا ما تخلو منه كتبنا المقدسة.. فهي لا تحوي أي دلالة على أنها ستحفظ من التغيير والتبديل.. بل قد نص كتاب المسلمين على أن مهمة حفظ هذه الكتب كانت موكولة إلى رجال الدين الذين استهواهم الطمع، فراحوا يبدلون ويغيرون.

اسمع ما يقول كتاب المسلمين..

فتح المصحف، وراح يقرأ:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(المائدة:44)

ثم أغلق المصحف، وقال: لطالما شدت هذه الآية انبتاهي.. إن قرآن المسلمين يحمل احتراما كبيرا للكتب المقدسة.. إنه يصف التوراة بأن فيها هدى ونور.. ولكن هذا الاحترام لا يحول بينه، وبين أن يذكر ما حصل فيها من تحريف..

وهو يحلل أسباب ذلك في أمرين: أشار إلى الأول منهما في قوله:{ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ }

وأشار إلى الثاني في قوله:{ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً }

إنهما سببان خطيران.. أو مرضان قاتلان: الرغبة والرهبة.. الرغبة في المتاع القليل.. والرهبة من العناء القصير..

قلت: دعنا من كتاب المسلمين.. ولنرجع إلى كتابنا.

قال: مما ينقضي دونه العجب أن كتابنا المقدس نفسه يحوي هذه الحقيقة.. فهو لا يحمل أي وعد بحفظ ما فيه.. بل هو يخبر أن حفظ ما فيه كان موكولا لناس معينين  ذوي أنساب معينة.. وهذا ما أتاح لهم أن يتلاعبوا به كما يشاءون.

انتظر.. سوف آتيك بشهادات كثيرة تثبت ما أقول.

ذهب إلى رف من الرفوف.. وحمل نسخة من الكتاب المقدس.. وقال: اسمع ما يقول:( أَمَرَ مُوسَى اللاوِيِّينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ: (خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهدا عليكم. لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هوذا وأنا بعد حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي! اجمعوا إلي كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض. لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به ويصيبكم الشر في آخر الأيام لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم) سفر التثنية (31: 25-29 )

ثم أغلق الكتاب، وقال:كيف ترى موسى، وهو يردد هذا الكلام؟

قلت: كأني أراه حزينا متأسفا على حال قومه.. وهو في نفس الوقت خائف من تلاعبهم بالرسالة التي جاء بها، وبالألواح التي أنزلت عليهم.

قال: أجل.. لقد غاب عنهم أربعين يوما فقط، ومع ذلك لم يصبروا على التغيير والتبديل.. بل راحوا يعبدون العجل الذي صنعه لهم السامري.. ومع أن هارون كان معهم إلا أنه لم يكن ليفعل شيئا أمام ما جبلوا عليه من تمرد..

التوراة تذكر هذا.. والقرآن يذكره ([2]).. ولكن اسمع لقرآن المسلمين، فهو يصور هذا التغيير تصويرا جميلا..

فتح المصحف، وأخذ يقرأ بتدبر وخشوع:{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى}(طه: 83) الله يخاطب موسى في جبل الطور عند المناجاة.

ويذكر الله ما أجاب به موسى، فيقول:{ قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } (طه:84).. فيجيبه الله:{ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } (طه: 85).. وحينذاك يرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا على سرعة تغيرهم.. اسمع:{ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي }(طه: 86)

لكن كبرياءهم وصلافتهم جعلتهم لا يبالون بغضب موسى، ولا بما يقولون، بل يردون عليه قائلين:{ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ }(طه: 87 ـ 88)

هؤلاء هم بنو إسرائيل.. فهل تتصور أنهم سيحفظون ما أؤتمنوا عليه من كتاب؟

قلت: إن ألم موسى يبدو جليا في وصيته.. وكأنه يحاول أن يجد حيلة يحفظ بها كتابه من التغيير.. إنه يأمر بحفظه في تابوت العهد.. ثم يأمر بقراءته على بني إسرائيل، لعل فيهم من يحفظه، ويورث حفظه.. ولكنه في نفس الوقت يعلم أنه سيأتي اليوم الذي يغيرون فيه كتابهم.. بل يرى أن ذلك اليوم قريب جدا.. لقد قال لهم:( لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به ويصيبكم الشر في آخر الأيام لأنكم تعملون الشر أمام الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم )

 فتح الكتاب المقدس، ثم قال: بل إن موسى يردد هذه الوصية كثيرا.. فهو يعلم ما سيلحق كتابه.. اسمع ما يقول:( لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم به ولا تنقصوا منه لتحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها )(التثنية: 4/ 2 )

صمت قليلا، ثم قال: ليس موسى وحده من قال هذا.. كل الأنبياء تحدثوا عن هذا..

اسمع ما يقول النبي إرميا:( فقال الرب لي.بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمي.لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم.برؤيا كاذبة وعرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم) (إرميا: 14:14)

وهو يقول:( الأنبياء يتنبأون بالكذب والكهنة تحكم على أيديهم وشعبي هكذا أحب.وماذا تعملون في آخرتها )(إرميا:5: 31)

قلت: ولكن يا سيد.. ليست هناك أمة خلت من المتنبئين الكذبة حتى ما ذكرت عن المسلمين قد ظهر فيهم كثير من المتنبئين بعد محمد.

قال: نعم.. لقد ظهر فيهم مسيلمة، والأسود، وطلحة، وغيرهم كثير.

قلت: فلم تشنع علينا؟

قال: هل رأيت في كتاب المسلمين سفرا أو سورة أو حتى آية لمسيلمة أو للأسود، أو لطلحة؟

قلت: لا.. حتى أن المسلمين يطلقون على مسيلمة لقب الكذاب.

قال: وهذه ميزتهم.. فكتابهم لم يخترق من الأنبياء الكذبة.. نعم ظهر أدعياء حاولوا أن يخترقوا كلام نبيهم، ولكنه لم يجرؤ أحد على أن يخترق كتاب ربهم.

لكن بني إسرائيل اخترقوا الجميع.. اسمع إلى أرميا:( أما وحي الرب فلا تذكروه بعد لان كلمة كل إنسان تكون وحيه إذ قد حرّفتم كلام الإله الحي رب الجنود إلهنا ) (إرميا: 23: 36)

وهو يقول:( هكذا قال رب الجنود لا تسمعوا لكلام الانبياء الذين يتنبأون لكم.فانهم يجعلونكم باطلا.يتكلمون برؤيا قلبهم لا عن فم الرب )( إرميا: 23 /16)

وهو يقول:( لم أرسل الأنبياء بل هم جروا.لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا ) (إرميا: 23 /21)

فمن هم هؤلاء الأنبياء؟.. ولو كانوا جميعا قد تنجسوا.. جميعا.. فكيف تصدقونهم!؟

وهو يقول:( لأن الأنبياء والكهنة تنجسوا جميعا بل في بيتي وجدت شرهم يقول الرب )(إرميا: 23 /11)

وهو يصرح بكل ألم قائلا:( كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا.. حقا إنه إلى الكذب حوّلها قلم الكتبة الكاذب ) (إرميا: 8: 8)

ألا ترى هذا النص صريحا في وقوع التحريف.. إن إرميا هنا هو المتحدث لا رحمة الله الهندي، ولا ديدات.. إنه يخبرنا بالحقيقة المرة التي لا نجرؤ على التصريح بها..

قلت: لا.. يا صاحبي.. هو لا يقصد هذا.. هو يقصد ذلك التحريف المعنوي الذي لحق الكتاب المقدس.

قال: لا.. إنه يتحدث عن أقلام الكتبة.. هو يتحدث عن الكتبة، ولا يتحدث عن المؤولين.. هو يتحدث عن الكتبة المختصين بالنقل والنسخ.. فهم الذين غيروها وبدلوها وحرفوها وحولوها إلى الكذب.

بل هو يصرح بالسبب الذي ذكره القرآن.. وهو الرغبة.. اسمع إليه، وهو يقول:( لأنهم من صغيرهم إلى كبيرهم كل واحد مولع بالربح ومن النبي إلى الكاهن كل واحد يعمل بالكذب)(إرميا:6: 13)

ليس إرميا وحده الذي صرح به.. اسمع ما جاء في المزامير:( اليوم كله يحرفون كلامي.عليّ كل افكارهم بالشر ) (مزمور:56/ 5)

واسمع ما جاء في (حزقيال):( ستاتي مصيبة على مصيبة.ويكون خبر على خبر.. فيطلبون رؤيا من النبي.. والشريعة تباد عن الكاهن والمشورة عن الشيوخ) (حزقيال:7 / 26)

واسمع ما يقول إشعيا:( ويل للذين يقضون أقضية الباطل وللكتبة الذين يسجلون جورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الارامل غنيمتهم وينهبوا الايتام ) (إشعياء:10 /1-2)

إن إشعيا يتحدث عن المطامع التي جرت القضاة والكتبة إلى التحريف.. إنه يتحدث عن بيع كتاب الله بثمن بخس كما قال كتاب المسلمين.

بل هو يصرح بذلك قطعا لكل تأويل، فيقول:( ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الرب فتصير اعمالهم في الظلمة ويقولون من يبصرنا ومن يعرفنا. يا لتحريفكم. هل يحسب الجابل كالطين حتى يقول المصنوع عن صانعه لم يصنعني. أو تقول الجبلة عن جابلها لم يفهم )( إشعياء: 29 /15-16)

وهو يقول:( ويل للبنين المتمردين يقول الرب حتى انهم يجرون رأيا وليس مني ويسكبون سكيبا وليس بروحي ليزيدوا خطيئة على خطيئة ) (إشعياء: 30 /1 )

حفظ الكتاب المقدس

قلت: سمعت هذه النصوص.. ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أكتفي بها للدلالة على وقوع التحريف، أنا إنسان عاقل، ويغلب علي الحس.. ولا يكفيني الكلام المجمل الذي قد يساء فهمه.

قال: لن تجد عندي إلا ما يرضيك.. فأنا مثلك تماما.. ألم أقل لك بأن معرفة بيننا كانت؟.. ولكني نسيت أين ومتى..

لقد دفعتني هذه النصوص للبحث.. لقد جعلت الكتاب المقدس مادة للبحث من هذه الناحية.

قلت: فماذا وجدت؟

قال: ثلاثة أنواع من التحريف، لا يصيب واحد منها كتابا إلا رفع الثقة عنه.

قلت: فما هي؟

قال: الزيادة، والنقصان، والتبديل.

قلت: وهل حفظ كتاب المسلمين من هذه التحريفات؟

قال: أجل.. وسنبحث معا في هذا الركن من المكتبة لترى بعينيك صدق ما رأيته.

1 ـ الزيادة:

قلت: فلنبدأ بأول التحريفات.. وهو الزيادة.

قال: لا يصح نسبة القدسية إلى كتاب إلا إذا ثبت بالدليل القاطع أن هذا الكتاب منسوب للنبي الذي جاء به.. فالكتب المقدسة تستمد قدسيتها من نسبتها إلى الله.. فلذلك يؤثر فيها كل تدخل بشري قد يغير ما أراد الله أن يقوله لنا.

قلت: ألم يتحقق هذا في كتبنا؟

قال: لا.. لقد ذكرت لك أن كتاب المسلمين أشار إلى هذا النوع من التحريف، فقال:{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ }(البقرة: 79)

وهو ما أشار إليه إرميا قبل ذلك بقوله:( وأقاوم الأنبياء الذين يسخرون ألسنتهم قائلين: الرب يقول هذا. ها أنا أقاوم المتنبئين بأحلام كاذبة ويقصونها مضلين شعبي بأكاذيبهم واستخفافهم) (إرميا: 23 /31 ـ 32)

قلت: إن رفوف المكتبة تمتلئ بنسخ الكتاب المقدس.. فلنحاول التأكد من هذا.. أنا لا تكفي لإقناعي الأحكام العامة.

قال: أنا مثلك تماما.. لقد أخبرتك أني أعرفك.. لكن أين.. 

قلت: الكتاب المقدس قسمان: العهد القديم، والعهد الجديد، فهل دخل التحريف بالزيادة كلا القسمين.

العهد القديم:

قال: أجل.. ولنبدأ بالعهد القديم.. ولنبدأ القصة من أولها..

قلت: أجل.. فلن يفهم آخر القصة إلا بمعرفة أولها.

قال: فلنبدأ بالسند من أوله.. لقد نزلت التوراة على موسى.. وكان ينبغي أن يحفظها جميع بني إسرائيل لتنقل إلينا بعد ذلك بالتواتر كما حفظ جميع المسلمين قرآنهم، ونقلوه إلينا بالتواتر.

قلت: ألم يحصل ذلك؟

قال: لا.. لم يسلم موسى التوراة إلى بني إسرائيل.

قلت: لم؟

قال: لقد كان يخاف من اختلافهم من بعده في تأويلها.. لقد ذكرنا ما جاء في سفر التثنية أن موسى قال لبني إسرائيل:( خذوا كتاب التوراة هذا، وضعوه بجانب التابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهداً عليكم لأني أنا عارف بتمردكم ورقابكم الصلبة، هو ذا أنا بعد حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي)( سفر التثنية:24:31)

قلت: فمن تكفل بحفظ التوراة من بني إسرائيل؟

قال: لقد سلمها موسى إلى كهنة بني لاوي، فهم حاملو تابوت  عهد الرب، كما في (سفر التثنية:9/31)

قلت: فهل حافظ بنو لاوي على الثقة التي وضعها موسى فيهم؟

قال: يؤكد المؤرخون أن التوراة ظلت صحيحة في أيدي اليهود لم يغيروا منها حرفاً واحداً إلى زمن الأسر البابلي عندما حاربهم نبوخذنصر ملك بابل عام 588 ق.م تقريباً فقام بدك أسوار القدس وأحرق المدينة والهيكل بعد أن أخذ منه التابوت، وتتبع الهارونيين، وسائر الكهنة فقتلهم، ثم سبى اليهود جميعاً إلى بابل مقيدين بالسلاسل، ولم يترك فيها إلا شرذمة قليلة.

وفي هذه الحادثة انعدمت التوراة وسائر أسفار العهد القديم التي كانت مصنفة.

رأى استغرابي، فقال: لا تستغرب.. فنحن واليهود نقر بذلك.. لقد قتل جميع الهارونيين الذين كانوا يحفظون التوراة، ولم تكن التوراة محفوظة على ألسنة بني إسرائيل، فضاعت واندثرت كما اندثرت أمتهم، وتشتت بين نهري دجلة والفرات وما حولها، فذابوا بين تلك الشعوب وعبدوا آلهتهم، واستمر هذا النفي إلى عام 583ق.م، ثم عاد كثير منهم إلى فلسطين، فأعادوا بناء المدينة والهيكل.

قلت: لا يهمنا الهيكل ولا المدينة.. ماذا حصل للتوراة؟ هل استعادوها؟

قال: في عام 458ق.م عاد عزرا إلى القدس، ومعه جماعه من الكتبة اللاويين، وكان أول ما اهتموا به هو كتابة التوراة.

قلت: كيف.. وقد ضاعت؟

قال: لقد قام عزرا بجمع أسفار التوراة مرةً أخرى، فجمع من محفوظاته، ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما لفق منه هذه التوراة التي بأيديهم، ولذلك بالغوا في تعظيمه غاية المبالغة، وزعموا أن النور على الأرض إلى الآن يظهر على قبره.

قلت: والتوراة التي كتبها موسى.. أي النسخة الأصلية من التوراة؟

قال: لم يعد لها أي أثر.

قلت: فأين ذهبت؟

قال: هذا ما لا يجد له أحد جوابا.

قلت: أليس من الممكن أن يكون عزرا والكتبة قد أعادوا التوراة كما هي بنسختها الأصلية؟

قال: لقد وضعت هذا الاحتمال.. ولكني ببحث بسيط يعتمد على الحس وحده عرفت استحالة ذلك.. لقد تضخمت التوراة كثيرا مقارنة بالتوراة التي أنزلت علي موسى.

أخذ نسخة من التوراة كانت بجانبه، وقال: انظر.. هذه هي التوراة بأسفارها الخمسة.. فهي تملأ 379 صفحة بالحروف الصغيرة.

قلت: وما في ذلك؟

قال: لو ذهبنا نبحث عن عدد صفحات النسخة الأصلية من التوراة لم نجد هذا العدد.

قلت: لقد ذكرت أنها ضاعت، فكيف عرفت عدد صفحاتها؟

قال: ذلك يسير.. فقد ورد في صفتها ما يبين حجمها.. يذكر سفر الخروج ( 24: 12 )، أن موسى تلقي التوراة مكتوبة على لوحين من حجر، وهذا نص ما ورد:( وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وامكث هناك لأعطيك الوصايا والشرائع التي كتبتها على لوحي الحجر لتلقنها لهم )

ويذكر سفر الخروج أيضا في ( 32: 15 ):( ثم نزل موسى وانحدر من الجبل حاملا في يده لوحي الشهادة، وقد نقشت كتابة على وجهي كل منهما، وكان الله قد صنع اللوحين ونقش الكتابة عليهما)

وقد نص كتاب المسلمين على هذا، فقد ورد فيه:{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ}(لأعراف:145)

وورد فيه:{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(لأعراف:150)

قلت: لا مانع عقلاً من أن يكون اللوحان اللذان كتبت عليهما التوراة من العظم والاتساع، بحيث يملأ المسطر عليها 379 صفحة من الورق كما نراها الآن.

قال: ولكن التوراة نفسها تدفع هذا الاحتمال حين تحدد حجم اللوحين بالتابوت الذي أمر الله موسى أن يصنعه ويحفظ فيه التوراة، فقد جاء في سفر الخروج ( 25: 10، 16 ):( تابوتاً من خشب طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف وارتفاعه ذراع ونصف، وتضع في التابوت الشهادة التي أعطيك )

قلت: ألا يمكن أن يكون ما كتب على اللوحين، بلغت حروفه حداً من الصغر، بحيث إذا نقلت كلماته على الورق، ملأت صفحات عديدة.. فنحن نرى الآن القرآن كتاب المسلمين يكتب في صفحة واحدة لا تزيد كثيراً عن ذراع في ذراع.

قال: يمكن ذلك.. ولكن التوراة نفسها تدفع هذا الاحتمال حين تحدد لنا الزمن الذي يستغرقه كتابتها وقراءتها، بحيث لا يبقى لدينا أدنى شك في تقدير حجمها، وأنها لا تزيد عن كلمات لا تملأ أكثر من بضع ورقات.. يقول كاتب سفر التثنية(31: 9):( وكتب موسى كلمات هذه التوراة وسلمها للكهنة بني لاوي حاملي تابوت عهد الرب وإلى سائر شيوخ بني إسرائيل. وأمرهم موسى قائلا:( في ختام السبع السنوات، في ميعاد سنة الإبراء من الديون، في عيد المظال عندما يجتمع جميع الإسرائيليين للعبادة أمام الرب إلهكم في الموضع الذي يختاره، تتلون نصوص هذه التوراة في مسامعهم )

قلت: ولكن.. أليس من الجائز أن يكون موسى قد تلقى مع اللوحين نصوصا أخرى، وأن المجموع هو ما يطلق عليه التوراة؟

قال: وضعت هذا الاحتمال.. لكني وجدت نصوصا تنفيه، فقد ورد في سفر الملوك الأول ( 8: 9 ) أن سليمان حين نقل التابوت إلى المعبد الذي بناه، لم يكن فيه سوى اللوحين، وهذا نصه:( وَلَمْ يَكُنْ فِي التَّابُوتِ سِوَى لَوْحَيِ الْحَجَرِ اللَّذَيْنِ وَضَعَهُمَا مُوسَى فِي حُورِيبَ حِينَ عَاهَدَ الرَّبُّ أَبْنَاءَ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ )

قلت: فقد استدللت بالحجم إذن على الزيادات التي حصلت في التوراة؟

قال: لا.. ليس بالحجم الحسي وحده.. بل بحجم المضمون أيضا.. فالتوراة تعين لنا على لسان موسى قبل موته مضمونها، وأنها عبارة عن الوصايا العشر، وأنها فقط ما كتب في اللوحين:( ودعا موسى جميع إسرائيل، وقال لهم: اسمع يا إسرائيل الفرائض والأحكام التي أتكلم بها في مسامعكم اليوم وتعلموها واحترزوا لتعملوها، فقال: أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً.. لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً.. لا تقتل، ولا تزن، ولا تسرق، ولا تشهد على قريبك زور، ولا تشته امرأة قريبك، ولا تشته بيت قريبك ولا حقله ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا كل ما لقريبك، هذه الكلمات كلم بها الرب كل جماعتكم في الجبل من وسط النار والسحاب والضباب وصوت عظيم ولم يزد، وكتبها على لوحين من حجر وأعطاني إياها )(تثنية:5: 1، 22)

رأى صمتي، فقال: أعلم أنك لم تقتنع بعد.. يحق لك ذلك.. أنت مثلي.. من الصعب إقناعك بشيء.. ومع ذلك فسأذكر لك ما لا يمكنك دفعه.

أجبني.. أرأيت لو أن مؤلفا من القرن العاشر ألف كتابا يتحدث فيه عن أحداث القرن الحادي عشر.. هل تجزم بتصديق نسبة الكتاب إلى صاحبه.

قلت: لا.. ولا أظن عاقلا يمكن أن يصدق نسبة هذا الكتاب إلى صاحبه.

قال: فقد حصل هذا في التوراة.. إنها ـ بكل أسف ـ تذكر أحداثاً حصلت بعد وفاة موسى في سيناء.. اسمع..

فتح التوراة، وأخذ يقرأ:( وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة، حتى جاءوا إلى أرض عامرة، أكلوا المن حتى جاءوا إلى أرض كنعان )(خروج: 16/35 )

أتدري متى جاءوا إلى أرض كنعان؟

قلت: أجل.. بعد وفاة موسى حين دخلوا الأرض المقدسة، وقد أشار إلى ذلك سفر يشوع، فقد جاء فيه:( فحل بنو إسرائيل في الجلجال.. في عربات أريحا، وأكلوا من غلة الأرض.. وانقطع المن في الغد عند أكلهم من غلة الأرض )( يشوع 5/10 – 12)

قال: فكيف يتحدث موسى عن أمر حدث بعد وفاته؟

قلت: أليس من الممكن أن يكون إخباراً بالغيب؟

قال: لا.. لقد جاء بصيغة الخبر الماضي، وهي بصيغ التأريخ لا بصيغ النبوءات.. وأنت تعرف صيغ النبوءات في الكتاب المقدس.

صمت، فقال: ليس ذلك فقط.. اسمع ما جاء في سفر العدد، فإن كاتبه يشعرك أنه قد كتبه بعد جلاء بني إسرائيل من برية سيناء ودخولهم فلسطين فهو يقول:( ولما كان بنو إسرائيل في البرية، وجدوا رجلاً يحتطب في السبت )( العدد 15/32) فالكاتب ليس في البرية حتماً.. مع أن موسى كان قد مات في البرية قبل دخول الأرض المقدسة.

ليس هذا فقط.. اسمع ما ورد في التثنية:( وسكنوا مكانهم كما فعل إسرائيل بأرض ميراثهم التي أعطاهم الرب )( التثنية: 2/12)

ألا يدل هذا على أن الكاتب قد أدرك دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة، وهو ما حصل بعد وفاة موسى؟

واسمع ما جاء في سفر التكوين ـ الذي من المفترض أن يكون كاتبه موسى ـ:( اجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلّوطة مورة. وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض (فلسطين) )( التكوين 12/5 – 6 )

ألا ترى أن الكاتب قد أدرك خروج الكنعانيين من الأرض بعد دخول بني إسرائيل، وذلك ـ حتما ـ ليس موسى؟

واسمع ما يقول نفس السفر:( وكان الكنعانيون والفرزّيون حينئذ ساكنين في الأرض )(التكوين 13/7 ).. واسمع:( وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما ملكَ ملِكٌ لبني إسرائيل )(التكوين 36/31 )

فالكاتب لا يتحدث عن دخول بين إسرائيل الأرض المقدسة، فحسب .. بل يتحدث عن عهد الملكية الذي كان بعد موسى بأربعة قرون.

التفت إلي، فرآني صامتا، فقال: هل سمعت كاتبا يخبر عن وفاته والمحل الذي دفن فيه.

قلت: يمكن أن يكون ذلك في حالة واحدة.. وهي أن يكون قد كتب كتابه بعد وفاته..

قال: فاسمع هذا الخبر الذي ورد في أسفار موسى، والتي يفترض أن يكون كاتبها هو موسى:( فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب، ودفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم، وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات، ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته، فبكى بنو إسرائيل في عربات مؤاب ثلاثين يوماً، فكمُلت أيام بكاء مناحة موسى)(التثنية 34/5 – 8 )

ألا ترى أن النص يتحدث عن الماضي البعيد؟.. إنه ليس نبوءة.. فهو لا يخبر عن المستقبل.. وليست هناك أي دلالة على ذلك.

كان ينظر إلي، ويتفرس في مدى تأثير أدلته على وجهي، قال: أجبني.. لو جاءك رجل بمخطوطة تتحدث عن التلفزيون.. وقال لك: إنها من القرن العاشر.. هل تراك تصدقه.. أم تجعل وصف التلفزيون فيها دليلا على أنها مخطوطة مزورة.

قلت: بل أعتبرها مزورة.. إلا إذا أثبت لي بالسند الصحيح، أو بالدليل العلمي القوي أنها من القرن العاشر.. وحينذاك أعتبرها نبوءة لا خبرا.

قال: فإذا لم يأتك بأي من االأمرين.. بل كان في المخطوطة ما يدل على أنها كتبت في قرنك، لا في القرن العاشر.

قلت: حينذاك لا يبقى إلا أن أواجهه بالجقيقة، وهي أن المخطوطة مزورة.

قال: هذا نفسه ما حدث للتوراة.. فقد ذكرت أسماء كثيرة لمسميات لم يعرفها بنو إسرائيل إلا بعد موسى، ولم تسم بهذه الأسماء إلا بعد قرون من وفاة موسى.. وسأضرب لك أمثلة على ذلك.

جاء في سفر التكوين:(ثم رحل إسرائيل ونصب خيمته وراء مجدل عدر) (التكوين:35/21) وهذا اسم لمنارة في هيكل سليمان بنيت بعد موسى بأربعمائة سنة.

وجاء في نفس السفر:( وتبعهم إلى دان )(التكوين 14/14) مع أنها سميت بهذا الاسم في عهد القضاة، أي بعد موسى بما يربو على مائة سنة، كما ورد في سفر القضاة:( وجاءوا إلى لايش.. ودعوا اسم المدينة دان، باسم دان أبيهم )(القضاة: 18/27 – 29)

التفت إلي، فرآني صامتا، فقال: قد تتهمني في بحثي.. وقد تظن أن هناك أجوبة على ما طرحته من إشكالات.. لا.. لدي شهادات كثيرة على ما أقول.

قام إلى المكتبة، وأخذ مخطوطا، وقال:  لعل من أولها ما كتبه ابن عزرا، وهو الحبر اليهودي الغرناطي ( تـ 1167م ) فقد ألغز ملاحظته فقال في شرحه لسفر التثنية:( فيما وراء نهر الأردن.. لو كنت تعرف سر الإثني عشر.. كتب موسى شريعته أيضاً.. وكان الكنعاني على الأرض.. سيوحي به على جبل الله.. ها هوذا سريره، سرير من حديد، حينئذ تعرف الحقيقة )

قلت: ولكن ابن عزرا لم يصرح بشيء..

قال: هو لم يجرؤ على التصريح.. ولكن إلغازه لا يشير إلا إلى ذلك.. ولهذا فسر اليهودي الناقد اسبينوزا قول ابن عزرا بأنه أراد بأن موسى لم يكتب التوراة لأن موسى لم يعبر النهر، ثم سفر موسى قد نقش على اثني عشر حجراً بخط واضح، فحجمه ليس بحجم التوراة، ثم لا يصح أن تقول التوراة بأن موسى كتب التوراة، ثم كيف يذكر أن الكنعانيين كانوا حينئذ على الأرض؟، فهذا لا يكون إلا بعد طردهم منها، وأما جبل الله فسمي بهذا الاسم بعد قرون من موسى، وسرير عوج الحديدي جاء ذكره في التثنية (3/11-12) بما يدل على أنه كتب بعده بزمن طويل.

قلت: لقد حل اسبينوزا اللغز حلا جيدا.

قال: لقد حللت اللغز قبل أن أرى حل اسبينوزا.. هو واضح لكل من تأمل ما قاله ابن عزرا.. لأني نفسي كنت أستغرب مثل تلك النصوص.

سكت قليلا، ثم قال: ليس ابن عزرا وحده.. هناك جموع من المشككين..

أخذ كتابا آخر، وفتحه، وقال: في القرن التاسع عشر صرح القس نورتن بعدم صحة نسبة الأسفار لموسى فقال::( التوراة جعلية يقيناً، ليست من تصنيف موسى )

التفت إلي، فرآني مستغرقا في دهشتي، فقال: فهل ترى بعد ذلك أن هذه الأسفار الخمسة من كلام موسى أو كلام الله؟

قلت: ولكن الكتاب المقدس، أو العهد القديم منه ليس توراة موسى فحسب.

قال: لقد بحثت فيها جميعا، فوجدت في كل واحد منها من الدلائل ما يشير إلى أن تلك الأسفار بين احتمالين:

إما أن الأنبياء لم يكتبوها إطلاقا.. وإما أنهم كتبوها، ولكن تحريفات كثيرة دخلت عليها.

قلت: كيف عرفت ذلك؟

قال: سنبحث هذا مع بعضنا هنا.. خذ نسخة من العهد القديم، وافتحها.. ولنبدأ بسفر يشوع.. إن قراءة متأنية لهذا السفر تكشف عن تأخر تاريخ كتابته عن يشوع بسنين طويلة فقد جاء فيه خبر موت يشوع.. افتح (يشوع: 29:24ـ30) واقرأ علي.

فتحت في الموضع الذي حددت، وقرأت:( مات يشوع بن نون عبد الرب ابن مائة وعشر سنين، فدفنوه في تخم ملكه )

قال: هل رأيت كتابا يذكر مؤلفه فيه تاريخ وفاته، بل المحل الذي دفن فيه؟

صمت، فقال: ليس ذلك فقط.. بل إن السفر يذكر أحداثاً بعد موته، كتعظيم بني إسرائيل له بعد موته.. انظر (يشوع 31:24)

ليس ذلك فقط، بل السفر برمته يتحدث عن يشوع بضمير الغائب (انظر 35:8، 27:6 )

دعنا من سفر يشوع.. وافتح سفر القضاة.. إن هذا السفر يتحدث عن الفترة التي تلت يشوع، والتي سبقت الملكية، وهي فترة مبكرة من تاريخ بني إسرائيل.

ولكن السفر يحوى ما يدل على أنه كتب في عهد الملوك، فقد جاء فيه:( في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل )( قضاة 25:21)وفيه:( وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل )( قضاة 6:17 )

بل إن الأب لوفيفر يقول:( إن سفر القضاة أعيدت كتابته وعدلت مرات كثيرة قبل أن يصل إلى صيغته النهائية، وأن أحداثه التاريخية تعوزها الدقة )، وقومي وقومك يعترفون بأنه لا يعلم كاتب السفر.. ويظنون أنه صموئيل.

افتح سفرا صموئيل الأول والثاني.. هذان السفران ينسبان للنبي صموئيل، لكن الجزء الأول أو السفر الأول يذكر وفاة صموئيل ودفنه.. افتح( صموئيل (1) 1:25 )

فتحت، وقرأت:( فمات صموئيل فاجتمع إسرائيل، وندبوه، ودفنوه )

قال: من الذي أكمل السفر وكتب الثاني؟

صمت، فقال: يقول منقحو الكتاب المقدس الذي راجعه القسيس فانت السكرتير العام لجمعية الكتاب المقدس بنيويورك بأن مؤلف السفرين مجهول، ويحتمل أن يكون عزرا هو الذي كتبه وراجعه.

افتح سفر أيوب.. لقد جاء في وسط السفر ما يدل على أن ثمة كاتباً آخر غير أيوب قد تدخل في السفر، ففي نهاية الأصحاح 31 تجد:( تمت أقوال أيوب )( أيوب 40: 31 ).. لكن لم ينته السفر حينذاك بل استمر بعده أحد عشر إصحاحاً تحدثت عن أيوب.. وفي نهاية السفر:( وعاش أيوب بعد هذا مائة وأربعين سنة ورأى بنيه، وبني بنيه إلى أربعة أجيال، ثم مات أيوب شيخاً وشبعان الأيام) (أيوب: 16: 42ـ17)

افتح سفر المزامير.. عدد المزامير مائة وخمسون مزموراً تنسب إلى مؤلفين مختلفين، إذ ينسب لداود ثلاثة وسبعون مزموراً، ولموسى مزمور واحد، ولأساف أحد عشر مزموراً، ولبني قورح أحد عشر مزموراً، ومزموران لسليمان، وآخر لايثان، وتسمى الباقي بالمزامير اليتيمة التي لايعرف من قائلها.. فكيف وصفت بالوحي؟.. وهل كان بنو قورح أيضاً أنبياء؟

والمتأمل في المزامير يدرك بوضوح أن المزامير تعود للقرن السادس قبل الميلاد وتحديداً إلى أيام السبي البابلي، وذلك يظهر من أمثلة متعددة سنراها جميعا.. افتح ( 79: 1 – 2 )، واقرأ علي.

فتحت، وقرأت:( اللهم إن الأمم قد دخلوا ميراثك، ونجسوا هيكل قدسك، وجعلوا أورشليم أكواماً، دفعوا جثث عبيدك طعاماً لطيور السماء )

قال: اقرأ ( 147: 2 )

قرأت:( الرب يبني أورشليم، يجمع منفى إسرائيل يشفي المنكسري القلوب، ويجبر كسرهم )

قال: اقرأ ( 137: 1 )

قرأت:( على أنهار بابل جلسنا.. بكينا أيضا عندما تذكرنا صهيون.. لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذبونا سألونا فرحاً قائلين: رنموا لنا من ترنيمات صهيون )

قال: أترى أن هذه المزامير كتبت في عهد داود؟

قلت: أرى أنها تأخرت عن داود مالا يقل عن أربعة قرون.

قال: فكيف تصح نسبتها إليه إذن؟

افتح سفر إشعيا.. ينسب هذا السفر للنبي إشعيا في القرن الثامن قبل الميلاد، فقد عاصر الملك عزيا ثم يوثام ثم أحاز ثم حزقيا، ولكن السفر يتحدث عن الفترة الممتدة بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد مما يؤكد أن ثمة كاتبا أو كاتبين قد كتبوا ذلك بعد إشعيا، ومن أمثلة ذلك حديثه عن بابل الدولة العظيمة وتنبؤه بإنهيارها.

وأيضاً حديثه عن كورش الفارسي الذي ردّ اليهود من السبي.. انظر (28:44 – 1:45).. كما يتحدث عن رجوع المسبيين والشروع في بناء الهيكل في الاصحاحات 56 – 66.

افتح سفر إرمياء.. هذا السفر لا تصح نسبته للنبي إرمياء إذ هو من عمل عدة مؤلفين بدليل تناقضه في ذكر الحادثة الواحدة، ومن ذلك تناقضه في طريقة القبض على إرمياء وسجنه.. انظر: (إرمياء 37: 11 – 15 و 38: 13 )

كما أن السفر يحمل اعترافاً بزيادة لغير إرمياء ففيه:( فأخذ إرمياء درجاً آخر، ودفعه لباروخ بن نيريا الكاتب، فكتب فيه عن فم إرميا، كل كلام السفر الذي أحرقه يهوياقيم ملك يهوذا بالنار، وزيد عليه أيضاً كلام كثير مثله )( 33: 36 )، وفي موضع آخر:( إلى هنا كلام إرمياء)( 64: 51 ).. ومع ذلك يستمر السفر، فمن أكمله؟

افتح سفر دانيال.. لا يمكن أن يكون هذا السفر قد كتب في ذلك الزمن البعيد الذي روي أنه عاش دانيال فيه أي عندما سقطت بابل في يد الملك الفارسي كورش عام 538 ق. م بل لا بد أن يكون هذا السفر قد كتب بعد ذلك بثلاثة قرون أو أربعة.

قلت: كيف عرفت ذلك؟

قال: أولاً: يتضمن هذا السفر كلمات مقدونية مع أن اليهود في الأسر البابلي لم يكونوا قد خالطوا اليونان، ولا حكت أسماعهم للغة اليونانية.. ثانياً: هذا السفر فيه وصف للكلدانيين لا يتسنى الإتيان به لكاتب سابق على عصر الاسكندر.. ثالثاً: اقتبس طرفاً من أقوال أرميا وحزقيال وزكريا مع أن هؤلاء الأنبياء متفرقون في الزمن، فأرميا بداية الأسر وحزقيال في وسطه وزكريا في أواخر الدولة الفارسية.

قلت: فهذه الأسفار جميعا تفتقر إلى الأسانيد التي تثبت نسبتها لمؤلفيها؟

قال: أجل.. وليس هذا قولي فقط.. بل هو قول كل محقق مدقق.. وسأذكر لك بعض الشهادات المؤيدة لهذا.

قام وأخرج كتابا من رف من رفوف ذلك الجناح، وقال: سأقرأ لك هنا بعض ما جاء في الدراسة القيمة المسماة:( مدخل إلى الكتاب المقدس)، والتي نقلتها الرهبانية اليسوعية من الترجمة المسكونية الفرنسية للكتاب المقدس([3]).

فتح الكتاب، وأخذ يقرأ:( ما هو الكتاب المقدس؟ تكفي نظرة نلقيها على الفهرس لنرى: أنه مكتبة، بل مجموعة كتب مختلفة جداً.. ذلك أنها تمتد على أكثر من عشرة قرون، وتنسب إلى عشرات المؤلفين المختلفين، بعضها وضع بالعبرية مع بعض المقاطع بالآرامية، وبعضها الآخر باليونانية، وهي تنتمي إلى أشد الفنون الأدبية اختلافاً كالرواية التاريخية ومجموعة القوانين والصلاة والقصيدة الشعرية والرسالة والقصة )

أغلق الكتاب، ثم قال: هذا الكلام لم يقله مسلم.. ولم يقله شيوعي يكره الأديان.. هذا الكلام قاله رجال دين.. ورجال دين يعتقدون أن هذا هو كتابهم المقدس.. ومع ذلك، فهو يتضمن اعترافاً صريحاً لا لبس فيه أن هذه الأسفار المجمعة باسم (العهد القديم) والمعروفة باسم ( الكتاب المقدس) ليست من عند الله مباشرة ولا أوحى الله بها لأحد من أنبيائه، بل هي عمل مؤلفين ومحررين استلهموا أعمالهم من تقاليد الشعب وآلامه وأحلامه.. وكانت تلك الصياغات ديناميكية، أي أنها قابلة دوماً للتغيير، وليست ثابتة.. بل كان القراء ينقحونها ويعلقون عليها.. بل ويقوم بعضهم بإعادة صياغتها مرة أخرى بحيث يغير النصوص السابقة.

ثم فتح الكتاب على موضع معلم عليه، وقال: وتقول هذه الدراسة أيضاً:( لم يكن هناك حدود للكتابات المعترف بها لدى حاخامات اليهود باعتبارها وحياً من الله، لأن الإضافات كانت مستمرة والقائمة مفتوحة )

ويقول الآباء اليسوعيون في مقدمة الكتاب المقدس:( كثير من علامات التقدم تظهر في روايات هذا الكتاب وشرائعه مما حمل المفسرين من كاثوليك وغيرهم على التنقيب عن أصل الأسفار الخمسة الأدبي فما من عالم كاثوليكي في عصرنا يعتقد أن موسى ذاته قد كتب كل البانتاتيك منذ قصة الخلق إلى قصة موته، كما أنه لا يكفي أن يقال أن موسى أشرف على وضع النص الذي دونه كتبة عديدون في غضون أربعين سنة بل يجب القول مع لجنة الكتاب المقدس البابوية ( 1948 ) أنه يوجد ازدياد تدريجي في الشرائع الموسوية سببته مناسبات العصور التالية الاجتماعية والدينية تقدم يظهر أيضاً في الروايات التاريخية )([4]

قلت: هذا اعتراف خطير..

قال: هذا غيض من فيض.. الاعترافات كثيرة جدا..

العهد الجديد:

قلت: إن كل ما ذكرته مرتبط بالعهد القديم، فهل أصاب العهد الجديد ما أصاب العهد القديم؟

قال: أجل.. وعدم السند الصحيح في العهد الجديد أخطر منه في العهد القديم.

قلت: كيف ذلك؟.. أليس العهد الجديد متأخرا عن العهد القديم؟

قال: نعم.. ولكن الظروف التي مرت بها المسيحية في بدايتها جعلت من الإنجيل الواحد الذي جاء به المسيح أناجيل عديدة، بل أضافت كتبا كثيرة للعهد الجديد.

قلت: فكيف نعرف مدى صحة أسانيد العهد الجديد؟

قال: إن ذلك يستدعي معرفة الكتبة الذين كتبوه.. لقد كان جهلنا بكتبة العهد القديم هو الذي جعلنا نشك في كثير مما ورد فيه..

قلت: ولكن كتبة العهد الجديد معروفون؟

قال: دعنا نسير رويدا.. ولنبدأ بالأناجيل المعروفة لنعرف علاقتها بالكتبة، ثم علاقة الكتبة بالمسيح..

الأناجيل:

نهض من مكانه، ثم أخذ كتابا صغيرا.. وقال: فلنبدأ بأول إنجيل يطالعك،  وأنت تقرأ الكتاب المقدس، إنه إنجيل متى.. وهو يتكون من ثمانية وعشرين إصحاحاً تحكي ـ كسائر الأناجيل ـ حياة المسيح ومواعظه من ميلاده حتى رحيله.

قلت: هذا الإنجيل من أهم الأناجيل، وأقربها لعهد المسيح.. فقد كتبه متى، وهو أحد التلاميذ الإثنى عشر الذين اصطفاهم المسيح، وقد كتبه ما بين 37 – 64 م، لليهود المتنصرين.. وهو لقربه من المسيح ألف بالعبرانية([5]).

قال: فهل النسخ التي تعتمد اليوم من هذا الإنجيل نسخ عبرانية؟

قلت: لا.. لا توجد أي نسخة عبرانية من هذا الإنجيل اليوم.. كل المخطوطات الموجودة مخطوطات يونانية.

قلت: إذن لا يحق لك أن تفرح بقرب هذا الإنجيل من عهد المسيح.

قلت: لم؟

قال: لأن الأصل الذي كتبه يوحنا مفقود.. ولم يبق إلا الترجمة.. ونحن لا نعرف المترجم.. فنحن تحت رحمته.. فكيف ننسب كتابا مقدسا لمترجم لا نعرفه.. وليس لدينا الأصل الذي نعرف به مدى صحة الترجمة.

قلت: أليس من المحتمل أن يكون متى هو الذي ترجمه.. فقد قيل بذلك؟

قال: وقيل غير ذلك.. فقد ذكر القديس جيروم ( 420م )( أن الذي ترجم متى من العبرانية إلى اليونانية غير معروف ).. بل لعل مترجمه أكثر من واحد، كما قال بابياس.

وقد قال نورتن الملقب بـ (حامي الإنجيل ) عن عمل هذا المترجم المجهول:( إن مترجم متى كان حاطب ليل، ما كان يميز بين الرطب واليابس، فما في المتن من الصحيح، والغلط ترجمه )

ليست هذه شهادات مسلمين.. إنها شهادات قديسين.. اسمع شهادة أسقف هرابوليسن وهو الأسقف بابياس 155م حيث قال:( قد كتب متى الأقوال بالعبرانية، ثم ترجمها كل واحد إلى اليونانية حسب استطاعته )

قلت: أراك بدأت تشكيكي في هذا الإنجيل انطلاقا من ترجمته؟

قال: أجل.. من أهم ما يمكن أن يؤثر في الكتاب المقدس ترجمته.. خاصة إن كان المترجم غير أمين.. ولهذا كان احتفاظ الكتاب المقدس للمسلمين بلغته الأصلية من أكبر دواعي إعجابي وثقتي.

قلت: فلنحسن الظن بالمترجم.. لماذا نسيء الظن؟

قال: لقد خطر هذا على بالي.. ولذلك رحت أبحث عن متى، وعن صلته بالإنجيل المنسوب إليه؟

قلت: ولماذا تبحث عن متى؟..

قال: لقد ذكرت لك أني لا أتيقن إلا بعد أن أشك.. ألست مثلي في هذا.. بلى.. أنت مثلي.. لقد ذكرت لي ذلك.

قلت: إن متى معروف.. فهو أحد التلاميذ الاثنى عشر، وكان يعمل عشاراً في كفر ناحوم، وقد تبع المسيح بعد ذلك.

والمصادر التاريخية تذكر أنه رحل إلى الحبشة، وقتل فيها عام 70 م، وقد ذكر في العهد الجديد مرتين في إنجيله، أما المرة الأولى فعندما ناداه المسيح، وهو في مكان عمله في الجباية ( انظر متى 10/3، ولوقا 6/15 ) والثانية في سياق تعداده لأسماء التلاميذ الاثني عشر (انظر متى 10/3)

قال: ولكن مرقس ولوقا ذكرا أن العشار هو لاوي بن حلفي ( انظر مرقس 2/15، ولوقا 5/27 ) ولم يذكرا متى .. فمن نصدق؟

قلت: يمكن أن نصدق الجميع بأن نعتبر متى العشار هو لاوي بن حلفي.

قال: وما أدلة ذلك؟

قلت: لا يعقل أن إنجيلاً خطيراً كهذا.. والذي هو أول الأناجيل.. ينسب إلى شخص مجهول.. بالإضافة إلى هذا فقد ذكر بابياس في القرن الثاني الميلادي أن متى قد جمع أقوال المسيح.

ومما زادني وثوقا في هذا أن متى كان جابيا.. والجابي عادة يحتفظ بالسجلات بأمانة ودقة.. فلذلك احتفظ هذا الإنجيلي بأقوال المسيح بكل دقة.

قال: لا بأس.. إشاراتك جميلة.. ولكن عند دراستنا الموضوعية لإنجيل متى نجد أنه لا يمكن أن يكون مؤلفه هو متى حواري المسيح.

قلت: كيف ذلك؟

قال: أجبني أولا.. هل يمكن لتلميذ تربى على يدي المسيح، وشاهد أحواله أن ينقل سيرة حياة المسيح عمن لم يعرف المسيح، ولم يره، ولم يتأدب على يديه؟

قلت: لا.. المعاصر أولى من غيره.

قال: لقد لاحظت من خلال دراستي الموضوعية لهذا الإنجيل أن كاتبه ليس متى الحواري.

قلت: ما تقول؟

قال: اصبر علي.. لقد رأيت كاتب هذا الإنجيل الذي هو في الأصل متى يعتمد في إنجيله على إنجيل مرقس، فقد نقل من مرقس ستمائة فقرة من فقرات مرقس الستمائة والاثني عشر.

وليست هذه ملاحظتي فقط.. بل يقول ج ب فيلبس في مقدمته لإنجيل متى:( إن القديس متى كان يقتبس من إنجيل القديس مرقس، وكان ينقحه محاولاً الوصول إلى تصور أحسن وأفضل لله )

ويضيف القس فهيم عزيز أن اعتماد متى على مرقس حقيقة معروفة لدى جميع الدارسين، فإذا كان متى هو كاتب الإنجيل، فكيف ينقل عن مرقس الذي كان عمره عشر سنوات أيام دعوة المسيح؟ كيف لأحد التلاميذ الإثني عشر أن ينقل عنه؟

بالإضافة إلى هذا.. فإن هناك في إنجيل متى ما يؤكد هذه الشكوك..

لقد ذكر متى العشار مرتين، ولم يشر أي إشارة إلى أنه الكاتب، فقد ذكره بين التلاميذ الإثنى عشر، ولم يجعله أولاً ولا آخراً، ثم لما تحدث عن اتباعه للمسيح قال:( وفيما يسوع مجتاز هناك رأى إنساناً جالساً عند مكان الجباية اسمه متى فقال له: اتبعني فقام وتبعه ) ( متى: 9/9)

ألا ترى أنه استخدم أسلوب الغائب.. فلو كان هو الكاتب لقال:( قال لي).. ( تبعته ).. ( رآني)

قلت: فمن مؤلف إنجيل متى إذن إذا لم يكن هو متى؟

قال: هذا سؤال وجيه.. سألته لنفسي.. وقد حاولت أن أدرس المؤلف دراسة نفسية، وقد وجدت أنه ـ كما يظهر في إنجيله ـ مسيحي يهودي يربط بين التوراة وحياة المسيح.

وقد وجدت كولمان يصل إلى نفس النتيجة، فهو يصفه بقوله:( يقطع الحبال التي تربطه باليهودية مع حرصه على الاستمرار في خط العهد القديم، فهو كاتب يهودي يحترم الناموس، ويعتبر بذلك من البعيدين عن مدرسة بولس الذي لا يحترم الناموس، فهو يقول:( فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس، هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات )( متى 5/19 ).

وانطلاقا من هذا يرجح كولمان أنه عاش في فلسطين، ويرجح فنتون أنه كتب في حوالي الفترة من 85 – 105م، مع أن متى مات سنة70.. وهو يقارب ما ذهب إليه البرفسور هارنج حين قال:( إن انجيل متى ألف بين 80 – 100م )

قلت: ولكن ما تقول فيما ذكر بابياس من أن متى كتب وجمع أقوال المسيح؟

قال: ولكن هل ما تراه في هذا الإنجيل هو أقوال المسيح.. إنه قصة كاملة عن المسيح وليس جمعاً لأقواله.

زيادة على ذلك.. فإن كثيرا من الأناجيل ضاعت.. وقد يكون إنجيل متى الحقيقي من بينها..

زيادة على ذلك.. فإن من الأناجيل التي رفضتها الكنيسة إنجيلاً يسمى إنجيل متى.. أليس من المحتمل أن يكون بابياس قد عناه بقوله هذا؟

أعاد إنجيل متى إلى محله من الرفوف، وقال: فلننتقل إلى إنجيل آخر..

أخذ كتابا آخر أصغر حجما، وقال: هذا إنجيل مرقس.. وهو ثاني الأناجيل التي تطالعنا في العهد الجديد.

أراني إياه، ثم قال: انظر إليه إنه أقصر الأناجيل، ولهذا يعتبره النقاد أصح إنجيل يتحدث عن حياة المسيح.. بل هم يكادون يجمعون على أنه أول الأناجيل تأليفاً.. وقد عرفنا أنهم يذكرون أن متى نقل إنجيله عنه.

فتح أول صفحة، وقال: هذا الإنجيل هو الوحيد بين الأناجيل المسمى بإنجيل المسيح.. فأول فقرة فيه:( بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله )( مرقس 1/1 )

وهو يتكون من من ستة عشر إصحاحاً، تحكي قصة المسيح من لدن تعميده على يد يوحنا المعمداني إلى قيامة المسيح بعد قتله على الصليب.

قلت: فيمكن الاعتماد على الإنجيل إذن.. واعتباره كتابا مقدسا.

قال: ألا تعرف من هو مرقس؟

قلت: أعلم أنه ليس من الحواريين.. ولا علم لي بتفاصيل حياته بعد ذلك.

قال: هنا ترى الفرق عظيما بين أسانيد المسلمين وأسانيدنا.. إن المسلمين يتشددون كثيرا في الرواة.. حتى الرواة الذين ينقلون أحاديث نبيهم.. بل حتى الناقلين للأخبار والتواريخ.. فكيف بكتابهم المقدس؟

إن كل راو من رواة هذه النصوص المقدسة وغير المقدسة يحمل تراجم مفصلة عن حياته، ثم حكما عليه بعد ذلك بالقبول أو الرفض.. وهذا ما نفتقده نحن في أهم مصادر ديننا.

قلت: فمن هو مرقس؟

قال: يتفق المحققون في ترجمته على ما رددته مصادرنا، والتي يجمعها ما جاء في قاموس الكتاب المقدس عنه، فهو الملقب بمرقس، واسمه يوحنا، وقد رافق برنابا وبولس في رحلتهما، ثم فارقهما، ثم عاد لمرافقة بولس.

وهم يتفقون على أنه كان مترجماً لبطرس الذي له علاقة بهذا الإنجيل.

ويذكر المؤرخ يوسيبوس أنه – أي مرقس – أول من نادى برسالة الإنجيل في الإسكندرية، وأنه قتل فيها.

ومصادرنا لا تتفق على المحل الذي كتب فيه إنجيله.. فبعضها تذكر أنه كتبه في روما.. وبعضها ترى أنه كتبه في الإسكندرية.. وهي ترى أن كتابته تمت ـ على اختلاف في هذه المصادر ـ بين عام 39 ـ 75م.. ورجح أكثرها أن كتابته تمت بين 44 – 75م.. وهم يعتمدون في ذلك على شهادة المؤرخ ايرينايوس الذي قال:( إن مرقس كتب إنجيل بعد موت بطرس وبولس ).. ويرى اسبينوزا أن هذا الإنجيل كتب مرتين إحداهما قبل عام 180م والثانية بعده.

وأقدم ذكر لهذا الإنجيل ورد على لسان المؤرخ بابياس ( 140م ) حين قال:( إن مرقس ألف إنجيله من ذكريات نقلها إليه بطرس )

وقد كتب هذا الإنجيل باللغة اليونانية، ويذكر البعض أنه كتب باللغة الرومانية أو اللاتينية.

قلت: لقد ذكرت ترجمته.. فهل هناك ما يستدعي الشك في هذا الإنجيل؟

قال: إذا طبقنا المقاييس العلمية الدقيقة في النقل.. فإن شكوكا كثيرة تعترض الباحث المنصف.

قلت: مثل ماذا؟

قال: أولا.. مرقس ليس من تلاميذ المسيح، بل هو من تلاميذ بولس وبطرس.. وبولس الذي تتلمذ عليه مرقس لم يكن من تلاميذ المسيح.. بل كان أعدى أعداء المسيحيين، وللباحث المنصف معه مواقف لا مجال لذكرها هنا.. ولم يكن له من الشهرة ما يمكننا من الحكم عليه وعلى روايته.. لقد قال المفسر نينهام مفسر لوقا:( لم يوجد أحد بهذا الاسم عرف أنه كان على صلة وثيقة، وعلاقة خاصة بيسوع، أو كانت له شهرة خاصة في الكنيسة الأولى )

بل قال مؤرخ آخر.. هو المؤرخ بابياس ( 140م ):( اعتاد الشيخ يوحنا أن يقول: إذ أصبح مرقس ترجماناً لبطرس دون بكل تدقيق كل ما تذكره، ولم يكن مع هذا بنفس الترتيب المضبوط ما رواه من أقوال وأفعال يسوع المسيح، وذلك لأنه لم يسمع من السيد المسيح فضلاً عن أنه لم يرافقه، ولكن بالتبعية كما قلت، التحق ببطرس الذي أخذ يصوغ تعاليم يسوع المسيح لتوائم حاجة المستمعين، وليس بعمل رواية وثيقة الصلة بيسوع وعن يسوع لأحاديثه )

قلت: أرى شكوكا كثيرة تراودك حول هذا الإنجيل.

قال: أجل.. الإنجيل في الأصل هو ما أنزل على المسيح.. فالكتاب المقدس ـ في أصله ـ هو كلام الله الذي أنزل على عباده.. لكني بمطالعة هذا الإنجيل أراه مجرد سيرة للمسيح تحمل بعض أقواله، وهي بالتالي تحمل أثرا لشخصية الكاتب، وما يتصوره عن المسيح ودين المسيح.

قلت: لا.. أنت تحمل تصورا خاطئا للإنجيل.. أنت تقارن الإنجيل بالقرآن، وتدعو الإنجيل لأن يكون مثل القرآن.. نعم، القرآن ـ كما يدعي محمد ـ هو كلام الله.. وكل ما فيه كلام الله.. ولكن الإنجيل لا يعني ذلك.. إن كلمة إنجيل ـ وهي كلمة ليست عربية ـ تعني البشارة، أي أن الإنجيل هو البشارة بيسوع المسيح، وهذه البشارة تتضمنها هذه الأناجيل التي بين أيدينا.

قال: لقد بحثت في هذه المسألة.. وطالعت الكتاب المقدس بدقة لأعرف حقيقة الإنجيل.. فوجدت ما ذكرته لك.. اسمع من إنجيل مرقس نفسه ما الذي ورد فيه.

قلب بعض الصفحات، وقرأ:( ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله.فتوبوا وآمنوا بالانجيل ) (مرقس:1 /15)

المسيح يدعوهم هنا إلى الإيمان بالإنجيل.. أي إنجيل يقصد.. هل يقصد حياته، أم أقواله؟

قلب صفحات أخرى، وقرأ:( الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكارا لها )( مرقس:14 /9) هو هنا يشير إلى شيء معروف يسميه الإنجيل.

ثم قرأ:( وقال لهم اذهبوا إلى العالم اجمع واكرزوا بالانجيل للخليقة كلها)( مرقس:.16 /15)

قلت: لا أرى أن هذه النصوص تتعارض مع ما ذكرت لك.. فالمسيح يأمرهم بالتبشير بظهوره وأقواله.

قال: ولكن كيف يقول: (توبوا وآمنوا بالانجيل)، والإنجيل لم يكتمل بعد؟.. ألا ترى أن أهم أبواب الإنجيل عندنا هي صلب المسيح وقيامته؟

سكت، فقال: ومع ذلك.. سأقرأ لك من مرقس نفسه ما ينفي ما ذكرت.. اسمع.. قال مرقس:( فأجاب يسوع وقال: الحق أقول لكم ليس احد ترك بيتا او اخوة او اخوات او ابا او اما او امرأة او اولادا او حقولا لاجلي ولاجل الإنجيل )(مرقس: 10/ 29)

ألا ترى المسيح يفرق بين نفسه وبين الإنجيل.. ألا يدلك هذا على أنه كان هناك إنجيل بالفعل في زمن المسيح؟

بل إني أرى أن اتفاق الجميع على وضع كتب يتفقون على تسميتها الإنجيل دليل على أنه كان هناك بالفعل كتاب للمسيح اسمه الإنجيل.. ولكنه ضاع دون أن نعلم أين ضاع ولا كيف ضاع.. صدقني.. إن حياة المسيح تمتلئ بأسرار كثيرة يصعب فكها.

قلت: فأنت تعتمد على هذه الأدلة لتنفي صفة الإنجيل عن كل الأناجيل.

قال: أنا لا أنفي عنها الصدق في كثير مما حدثت به من سيرة المسيح.. ولكني أراها كتب سيرة وتاريخ.. ولا أراها كتبا تحمل تلك القداسة التي يحمل الكتاب الذي لا يتكلم فيه إلا الله.

ذلك أن قداسة الكتاب المقدس تكتسب من وحي الله..

اسمع.. سنرجع إلى كتاب المسلمين المقدس.. وهو كتاب لم أسمع منه إلا الصدق.. إنه يخبر أن هناك كتابا أنزل على المسييح اسمه الإنجيل.. وقد وصفه وصفا دقيقا.

 أخذ مصحفا، وأخذ يقرأ:{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }(المائدة: 46) ا

واسمع..:{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(الحديد:27)

إن القرآن الكريم يخبر عن تنزيل الإنجيل على المسيح.. ويخبر أن فيه هدى ونورا.

قلت: القرآن يخبر أن أن الله آتى المسيح الإنجيل.. ولم يذكر الإنزال.

قال: لقد عبر في مواضع أخرى عن ذلك بالإنزال.. اسمع ما يقول القرآن:{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ }(آل عمران:3).. لقد ذكر هنا الإنزال.. وقرنه بالتوراة ليدل على أن الأصل في الكتاب المقدس هو كلام الله المنزل.

وفي آية أخرى ورد:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(آل عمران:65)

وفي آية أخرى:{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(المائدة:47)

وفي آية أخرى:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(المائدة:66)

وفي آية أخرى:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(المائدة:68)

بل إن القرآن يذكر بعض ما كان في ذلك الإنجيل، فيقول:{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}(الفتح:29)

قلت: فأنت بهذا تنفي صفة القداسة عن كل العهد الجديد.. لأن كل كتاب أو رسالة فيه هي كلام بشر.

قال: أنا لا أنفي عنها القداسة مطلقا.. ولكني أرى أن الكتبة ذكروا أشياء هي حقيقة من الإنجيل الحقيقي.. وأشياء أخرى كثيرة لا علاقة لها بالإنجيل.. وسنعرف ذلك في محله من مناقشتنا هذه.

قلت: فلنعد إلى مرقس.. أرانا قد أطلنا الحديث عنه.

قال: نعم.. لأنه أقرب الأناجيل المعروفة إلى الصحة، ومع ذلك تعتريه كل هذه الشبهات.

قلت: ألديك شكوك أخرى فيه؟

قال: أجل.. الإسناد بين المسيح ومرقس منقطع.. فلهذا لو طبقنا مقايسس المسلمين في دراسة الأسانيد على هذا الإنجيل لرأينا أنه من الأسانيد المنكرة التي لا يمكن التعويل عليها.

لا أنكر أن أحداثا كثيرة ذكرها مرقس أو ذكرها الإنجيليون من بعده لا شك في صحتها، ومثل ذلك أقوالا كثيرة للمسيح.. ولكن أي شيء منها غير صحيح.. هذا هو محل الشك.

أرجع إنجيل مرقس، وأخذ إنجيلا آخر أكبر حجما، وقال: هذا هو إنجيل لوقا.. إنه ثالث الأناجيل وأطولها، فهو يتكون من أربعة وعشرين إصحاحاً، يتحدث الإصحاحان الأولان عن النبي يحيى وولادة المسيح، ثم تكمل بقية الإصحاحات سيرة المسيح إلى القيامة بعد الصلب و كاتبه هو لوقا.. أتعرف من هو لوقا؟

قلت: أجل.. هو كاتب الإنجيل المسمى باسمه.

قال: أتعرف علاقته بالمسيح؟

قلت: لا أكتمك بأنه لم يكن لي اهتمام كبير في التدقيق في هذه الأمور.. فلهذا تعامل معي كعامي فيها.

قال: لا علاقة للوقا بالمسيح.. بل إنه كتب إنجيله حوالي عام 60 ميلادي، والأصل الذي كتب عنه إنجيله غير موجود.. لكن أدلة كثيرة تدل على أنه اعتمد في مصادره على مرقس، فنقل عنه ثلاثمائة وخمسين من فقراته التي بلغت ستمائة وإحدى وستين فقرة، كما نقل عن متى أو عن مصدر أخر مشترك بينه وبين متى.

وبذلك تكون الثقة في إنجيله بقدر الثقة في المصادر التي اعتمد عليها.

أما عن شخصيته.. فإن الغموض يكتنفها هي الأخرى.. فبعضهم يذكر أنه كان رومانياً، وبعضهم يذكر أنه كان أنطاكياً، وبعضهم يذكر غير ذلك.

واختلفوا في مهنته، فبعضهم يذكر أنه كان طبيباً، وبعضهم يذكر أنه كان مصوراً.

واختلفوا في اللغة التي كتب بها إنجيله..

واختلفوا في السنة التي ألف فيها إنجيله بين 53 – 80 م.

تقدم إلي، وسلمني نسخة من إنجيل لوقا، وقال: خذ، واقرأ أول هذا الإنجيل.

فتحت، وقرأت من (إنجيل لوقا 1:4):( إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً ـ إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق ـ أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به )

قال: هل ترى أن مثل هذا الكلام أنزل على المسيح؟

وهل ترى لوقا ملهما في قوله هذا الكلام؟.. وهل تراه كتب إنجيله بوحي من الله؟.. إنه لم يدع أى الهام إلهى أو الهام من روح القدس كما نسب له فيما بعد، بل لم يكن يعرف أنهم سيعلون شأن ما كتب كما فعل القوم لاحقا.

هو لم يذكر إلا أنه قرر أن يكتب ما يعرفه بعد أن تتبع كل شيء، أي أنه قام بالبحث والتدقيق والتمحيص، مما يعني أنه قد كتبه بكلماته البشرية وأفكاره الخاصة، وهو يعلم بالتأكيد بأنه لم يوح إليه من الله لكتابة هذا الإنجيل لأنه لم يتحدث عن وحي سماوي، فقد قال:( إذ قد تتبعت كل شيء من الأول ) فأين نرى وحي الله في ذلك؟

ثم إنه إذا كان لا يعرف شيئا عن الإلهام، فكيف ينسب له الإلهام الذي لم يعرفه هو، بل نفاه حيث ذكر تتبعه للأحداث كما رويت له.

سكت قليلا، ثم قال: أتعرف العزيز ثاوفيلس؟

قلت: لا.. ولكن اسمه يحفظه الجميع..

قال: أجل.. لقد شرفه لوقا شرفا لم يحظ به قائد غيره.

قلت: أكان قائدا؟.. كنت أظنه رجل دين.

قال: لا.. لقد كان قائدا، ولا يعرف بالضبط في أي وقت عاش.. بعضهم يذكر أنه عاش في القرن الثاني، وبعضهم يذكر أنه عاش في القرن الرابع للميلاد.

قلت: ولكن لوقا عاش قبل ذلك.. فكيف يكتب كتابه له؟.. هل من الممكن أن يكون لوقا قد عاش 200 سنة؟

قال: هذا ما يؤيد شك من شك في نسبة هذا الإنجيل إلى لوقا.

ثم أجبني.. هل ترى في هذا الإهداء الذي خص به هذا القائد رائحة كتاب إلهي؟ 

ألا ترى أن رسائل لوقا الشخصية إلى ثاوفيلس أصبحت أناجيل مقدسة؟

أليس من الممكن أن يكون لوقا قرر بأن يكتب إنجيله لأنه أراد أن يرضي الرئيس أو القائد في ذلك العصر، وهو ثاوفيلس؟

أليست هذه الفقرة التي قرأتها ترينا بأن لوقا ما كان ليكتب هذا الإنجيل لو لم يكن من أجل ذلك القائد.. وأنه خطاب شخصي.. وأنه قام بتأليفه.. وبدافع شخصي.. وأنه نقل عن مراجع بتدقيق؟

أرجع إنجيل لوقا، وأخذ إنجيلا آخر، وقال: هذا هو إنجيل يوحنا.. إنه رابع الأناجيل.. ومع ذلك، فهو أكثر الأناجيل أهمية بين قومي وقومك.. بل هو المصدر الرسمي لعقيدتنا.. ذلك لأن الغرض من كتابته هو إثبات لاهوت المسيح.

قلت: لا يمكنك أن تشكك في صحة هذا الإنجيل.. فالسند فيه ليس منقطعا كما زعمت في سائر الأناجيل.. فكاتبه هو يوحنا بن زبدى الصياد، وهو صياد سمك جليلي تبع وأخوه يعقوب المسيح، كما أن والدته سالومة كانت من القريبات إلى المسيح، بل يرجح بعضهم بأنها أخت مريم والدة المسيح.

قال: قد كنت أقول هذا.. وأمتلئ فرحا وأنا أعتقده لولا أن ظلالا كثيرة من الشك كانت تحوم حول عيني لتمنعني من التمتع بذلك الفرح.

قلت: فهلا طردتها بنور اليقين.

قال: وأين نور اليقين؟

قلت: اسمع إلي جيدا.. وسأذكر لك من الأدلة ما يطرد عنك ما تتوهمه من أوهام.

قال: لو فعلت ذلك.. فإني سأبقى مدينا لك طول حياتي.

قلت: هناك أربعة أدلة على أن هذا الإنجيل من كتابة يوحنا تلميذ المسيح.

قال: فما أولها؟

قلت: لقد كان كاتب الإنجيل يهودياً فلسطينياً، ويظهر هذا من معرفته الدقيقة التفصيلية لجغرافية فلسطين، والأماكن المتعددة في أورشليم وتاريخ وعادات اليهود…بل يظهر من الأسلوب اليوناني للإنجيل بعض التأثيرات السامية.

قال: فهل ترى كونه يهوديا فلسطينينا كافيا للدلالة على كونه من تلاميذ المسيح؟

وهل ترى معرفته بجغرافية فلسطين، وبعادات اليهود كافية لاعتباره فلسطينيا أو يهوديا.. إنك ألماني ومع ذلك تعرف العربية، وتعرف عادات العرب.. بل تعرف من الشوارع العربية ما لا يعرفه العرب أنفسهم؟

قلت: صدقت في هذا..

قال: فكيف يعتبر هذا دليلا على كونه من تلاميذ المسيح؟

إن هذا الكلام لو استدل به محقق في أي قضية بسيطة أو معقدة لرمي خارج وظيفته.

قلت: لدي دليل ثان.

قال: ما هو؟

قلت: مما يدل على كون الكاتب واحداً من تلاميذ المسيح استخدامه أسلوب المتكلم الجمع، وفي ذكره كثيرا من التفاصيل الخاصة بعمل المسيح، ومشاعر تلاميذه.

قال: إن أي كاتب أعطي قدرة على التعبير يمكنه أن يفعل هذا.. ولو طبقنا هذه المقاييس على الدراسة الموضوعية لأي نص لتسربت نصوص كثيرة يتقنها الوضاعون والكاذبون.

وهل ترى أي قاض في الدنيا يقبل مثل هذا الدليل في قضايا البيع والشراء.. لا في إثبات كتاب يؤخذ منه تصور كلي عن الكون والإنسان والحياة؟

هات الدليل الثالث.

قلت: اعذرني.. هذا ما لدي من أدلة..

قال: لقد ذكرت أن لديك أربعة أدلة.

قلت: أجل.. كان لدي أربعة.. ولكني أرى أن ما بقي منها أوهن من أن يستدل به.. لقد كان معلمنا يذكر لنا من الأدلة أن كاتب الإنجيل هو التلميذ الذي كان المسيح يحبه.. وكان هذا التلميذ هو يوحنا نفسه.

قال: هل علمت مدى ضعف الأدلة التي يستدل بها قومي وقومك.. لكأني بهم يتلاعبون بعقولنا.. أو لكأني بهم بحسبون أنا لا عقول لنا نفكر بها.

قلت: ولكن لا يحق لك الإنكار لأجل الإنكار.. أليس الأصل حسن الظن؟

قال: صدقت.. وهذا ما انطلقت منه في دراستي الموضوعية لهذا الإنجيل.. ولكن أدلة كثيرة جعلتني أسيء الظن بهذا الإنجيل، وبكاتب هذا الإنجيل.

قلت: فاذكر لي ما توصلت إليه.

قال: اذكر لي متى كتب يوحنا هذا الإنجيل.

قلت: كتب بعد حوالي ستين عاما من رحيل المسيح على حسب ما يذكر المؤرخون([6]).

قال: فمثل هذا كيف يحفظ ما قاله المسيح؟

قلت: يمكن أن يحصل هذا.

قال: لا بأس.. أتعلم المصادر التي اعتمد عليها يوحنا في إنجيله؟

قلت: لا شك أنها مصاحبته للمسيح.

قال: لا.. إن أغلب مافي إنجيل يوحنا من رسائل بولس؟ وستعرف من هو بولس.. بل قد جاء في دائرة المعارف الفرنسية التي لم يكتبها المسلمون أن إنجيل يوحنا ومرقص من وضع بولس..

قلت: أهذا ما يشككك في إنجيل يوحنا؟

قال: ليس هذا فقط.. بل يشككني أمر خطير يتفق عليه جميع العقلاء.

قلت: ما هو؟

قال: قبل أن أجيبك عنه أريد ان تذكر لي أول جملة بدأت بها سائر الأناجيل.

قلت: أول جمله في إنجيل متىّ تقول:( كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم ) (متى:1/1)

وأول جملة في إنجيل مرقس:( بدأ إنجيل المسيح ابن الله)(مرقس:1/1)

وأول جملة في إنجيل لوقا:( إذا كانوا كثيرين قد أخذوا بتأليف قصته)(لوقا:1/1)

قال: وبينها جميعا أول جملة في إنجيل يوحنا:( في البدء كان الكلمة.. ) (يوحنا:1/1)

قلت: وما الغرابة في ذلك؟

قال: إن يوحنا يوضح مقصده من هذا الإنجيل، فهو يريد أن يثبت فيه ما ذكره في هذه المقدمة.. ولهذا لا يوجد مثل هذا الكلام إلا في إنجيل يوحنا ورسائل بولس، بينما تخلو الأناجيل الثلاثة من دليل واضح ينهض في إثبات ألوهية المسيح.

ولعل خلو هذه الأناجيل عن الدليل هو الذي دفع يوحنا، أو كاتب إنجيل يوحنا لكتابة إنجيل عن لاهوت المسيح، فكتب ما لم يكتبه الآخرون، وجاءت كتابته مشبعة بالغموض والفلسفة الغريبة عن بيئة المسيح البسيطة التي صحبه بها العوام من أتباعه([7]).

قلت: فأنت تستدل باختلاف مقدمة إنجيل يوحنا عن سائر مقدمات الأناجيل على اختلافه عنها.

قال: ليست المقدمة وحدها.. لقد كانت المقدمة هي الإعلان عن المقصد الذي قصده يوحنا من إنجيله.. والذي أعلن عنه بعد ذلك بكل صراحة بقوله:( وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله )(يوحنا:20 / 3)

بعد هذا نرى أن أشياء كثيرة يخالف بها هذا الإنجيل سائر الأناجيل:

فلا توجد في هذا الإنجيل حادثة التجلي: أي تغير هيئة المسيح على الجبل، لأن المجد الثابت و المتواصل للمسيح الأرضي لا يترك مجالاً لمثل هذا الأمر.

وفيه إشارات لكون المسيح كلي العلم، ولكون قدرة المسيح غير البارزة، و لكن الموجودة الكامنة، قدرة لا حد لها.. بل إن فيه تصويرا للمسيح على أنه لا يعتريه التعب ولا الجوع ولا العطش، وفيه عرضٌ للمسيح باعتباره شخصا ذا سيطرة وتسيير كاملين ومستديمين لكل ما يفعله وما يحصل له حتى موته.

وهو ينفرد بالتصريح باتحاد الأب والابن حيث يقول:( أنا والأب واحد) (يوحنا:10/30)، ويقول:(  كل من رآني فقد رأى الأب ) (يوحنا:14/9)

قلت: وسائر الأناجيل؟

قال: في الأناجيل الثلاثة المتشابهة.. أي أناجيل متى ومرقس ولوقا يرى المسيح محدوداً ضمن حدود حياته الأرضية ومنصبه الرسالي.. فهي تعبِّر عما قاله المسيح وما فعله في حين أن إنجيل يوحنا هو تفسير لما يمثله المسيح، فهو يعبِّر عن فهم المعنى الألوهي للمسيح، ذلك الفهم والتصور الذي تطور و نما في الدوائر المسيحية في نهاية القرن الميلادي الأول.

قلت: فكيف تفسر هذا الاختلاف؟

قال: لقد كان يوحنا ـ كما كان بولس ـ مهتما بانتشار الدين بغض النظر عن الاهتمام بصفائه.. لهذا جاء إنجيل يوحنا ليعبر عن رغبات المتدينين الجدد الممتلئين بالوثنية.

ولهذا كان الترحيب و التهليل لفكرة المسيح إلهاً استجابة طبيعية لجماعة تؤمن بإله يُعتقد فيه أن من شأنه أنه يكشف عن نفسه للإنسان ويعرِّف نفسه للإنسان.. ومن هنا نجد إنجيل يوحنا يحدثنا عن الابن الوحيد الذي أظهر اللهَ وعرَّفَه فيقول:( الله لم يره أحد، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّـر ) (يوحنا:1 / 18).. ويخبرنا أيضاً أن الابن ( خرج من عند الآب و أتى إلى العالم )(يوحنا:16/ 28)

قلت: أهذا استنتاج استنتجته.. أم حقائق توصلت إليها؟

قال: بل حقائق توصلت إليها.. إن الراوي الذي يدخل دوافعه الشخصية في روايته يجعل روايته محل شك.

قلت: فما يثبت ذلك الشك؟

قال: بمقارنة ما ذكره بما ذكره غيره.

قلت: لم أفهم سر المقارنة.

قال: أرأيت لو أن شاهدا وقف في المحكمة، وقال أمام القاضي: غرضي من شهادتي أن أثبت لك أن المتهم مجرم.. ثم راح يذكر من عنده أمورا كثيرة تثبت دعواه.. أيكتفي القاضي بهذه الشهادة؟

قلت: لو اكتفى بها لتوصل الناس إلى اتهام بعضهم بعضا من دون أي عناء.. فما أسهل أن يلفقوا ما شاءوا من القصص ليرموها في وجوه هؤلاء القضاة الأغبياء.

قال: لقد كنا نحن جميعا أغبياء.. يأتينا رجل مثل يوحنا.. لا نعرفه.. ولا نعرف حقيقة علاقته بالمسيح.. ليقول لنا غرضي أن أثبت لكم أن المسيح هو الكلمة، وأن الكلمة هو الله.. فنندفع إلى تصديقه مكذبين كل ما نعرفه من أمور متيقنة.

قلت: أليس لك دوافع من رد هذا الإنجيل.. فتتهم أنت أيضا؟

قال: لقد حسبت حسابا لهذا الاحتمال، فلذلك رحت أبحث عمن يؤيد هذا من الشهود العدول.

قلت: فمن وجدت؟

قال: كثيرون.. انتظر قليلا، سأحضر قاموس الكتاب المقدس.. ففيه كلام يؤيد ما أقول.

بحث عن الكتاب، ثم قال: يقول محررو الكتاب:( كان الداعي الآخر إلى كتابة الإنجيل الرابع تثبيت الكنيسة الأولى في الإيمان بحقيقة لاهوت المسيح وناسوته، ودحض البدع المضلة التي كان فسادها آنذاك قد تسرب إلى الكنيسة، كبدع الدوكينيين والغنوصيين والكيرنثيين والأبيونيين.. ولهذا كانت غايته إثبات لاهوت المسيح )

أتدري بم ذكرني هذا النص؟

قلت: بم؟

قال: بكذاب ظهر في المسلمين كان يضع الأحاديث، ويلفقها راويا لها عن نبي المسلمين.. طبعا علماء المسلمين كشفوه.. فقد كانوا يتعاملون كما تتعامل أجهزة المخابرات مع كل من يروي حديثا.. كان اسم هذا الكذاب نوح بن أبي مريم.

قلت: وما وجه الشبه بينهما؟

قال: لقد قيل لهذا الكذاب:( من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟)، فقال:( رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد ابن إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة )

لقد تصور أنه يكذب لصالح نبيهم ودينهم وكتابهم، ومع ذلك سموه الكذاب.. لأن الدين الحق لا ينبغي أن ينصر بأهوائنا.

قلت: أرأيت لو أن هذا الرجل كان بيننا.

قال: لو كان بيننا لجعلوه قديسا.. ولا يبعد أن يجعلوا ما اقترفه من كذب رسائل من الرسائل تضم إلى رسائل العهد الجديد.

أصدقك يا صاحبي أن البون بيننا وبينهم عظيم جدا في هذا الباب.. هم متحرون أخطر من كل متحر.. لا يبحثون إلا عن الحقيقة.. ومن مصادرها الصحيحة.

قلت: عد بنا إلى يوحنا.

قال: لقد ذكرت لك أني لم أكتف بما توصلت إليه، بل رحت أبحث في قوائم الشهود الواعين.. فوجدت الكثير يؤيدني.

لقد وجدت أن ثمة إنكار قديماً لصحة نسبته ليوحنا، وقد جاء هذا الإنكار على لسان عدد من الفرق المسيحية القديمة، منها فرقة ألوجين في القرن الثاني، كما قال صاحب كتاب ( رب المجد ):( وجد منكرو لاهوت المسيح أن بشارة يوحنا هي عقبة كؤود، وحجر عثرة في سبيلهم، ففي الأجيال الأولى رفض الهراطقة يوحنا)

قلت: ولكنه يسميهم هراطقة.

قال: هذه عادتنا في التعامل مع من يخالفنا.. فلا تنظر إلى بذاءة لسانه، وانظر إلى نتيجة ما قاله.. إنه يصرح بأن هذا الإنكار امتد من الأجيال الأولى.

وقد قالت دائرة المعارف البريطانية تؤكد هذا.. انتظر..

أخذ جزءا من دائرة المعارف البريطانية، وراح يقرأ:( هناك شهادة إيجابية في حق أولئك الذين ينتقدون إنجيل يوحنا، وهي أنه كانت هناك في آسيا الصغرى طائفة من المسيحيين ترفض الاعتراف بكونه تأليف يوحنا، وذلك في نحو 165م، وكانت تعزوه إلى سرنتهن (الملحد) ولا شك أن عزوها هذا كان خاطئاً )

قلت: إن دائرة المعارف البريطانية تكذب هذه النسبة.

قال: لا يهمنا صدقها أو كذبها.. ولكن ما يهمنا هو أن هناك شكا في النسبة.

قلت: ولكن هؤلاء نسبوه لملحد.

قال: وذلك ما قد يقوي الشك.. لقد حاول الملاحدة أن يضعوا الأحاديث الكثيرة في الإسلام ليحطموا بها بنيان الإسلام، ويحرفوا بها عقائده، لكن صيارفة الحديث تصدوا لهم.

قلت: فأين صيارفتنا؟

قال: للأسف لم يكن لنا صيارفة..

الرسائل:

سكت قليلا، ثم قال: هذا هو الجزء الأول من العهد الجديد.. وهو الأصل الذي كان ينبغي على الكنيسة أن تكتفي به.. لأنه ـ على الأقل ـ يرتبط بالمسيح.. وفيه كثير من نفحات الصدق.. ولكن الذي لم يستطع عقلي أن يتقبله هو تلك الكتب الزائدة التي أقحمت في الكتاب المقدس إقحاما، مع أنه لا علاقة لمؤلفيها بالمسيح.

وهي لم تكتف بأن تكون كتبا زائدة.. بل راحت تحرف الكتب الأصلية، وتنسخ أحكامها.. فإن شئت أن نبحث في حقيقتها فعلنا.

قلت: المنهج العلمي يقتضي ذلك.. فلنفعل ما تتطلبه الحقيقة.

نظر إلي بسرور، وقال: لقد بدأت تفهمني.. نحن الآن نقترب أكثر فأكثر من بعضنا.

سار إلى رف من الرفوف، وقال: هذه هي ملحقات الكتاب المقدس.. لا شك أنك تعرفها.

قلت: وهل في ذلك شك.. أنسيت أني رجل دين؟

قال: عفوا.. لم أقصد ذلك.. بل قصدت أن تعدها لي لننطلق في البحث عن حقيقتها.

قلت: لا تثريب عليك.. نعم.. لقد ألحق بالأناجيل الأربعة عدد من الرسائل، وهي سفر أعمال الرسل، ورسائل بولس الأربع عشر، ورسالة يعقوب، ورسالتا بطرس، ورسائل يوحنا الثلاث، ورسالة يهوذا، ورؤيا يوحنا اللاهوتي.. وهي خاتمة هذه الملحقات.

قال: فلنبدأ بأولها.

قلت: أعمال الرسل هو أولها.. وهو سفر يتكون من ثمان وعشرين إصحاحاً، تتحدث عن الأعمال التي قام بها الحواريون والرسل الذي نزل عليهم روح القدس يوم الخمسين ( 2/1 – 4 )، من دعوة ومعجزات، كما يتحدث عن شاول ودعوته ورحلاته وقصة تنصره وبعض معجزاته.

قال: أتعلم من هو مؤلف هذا السفر؟

قلت: أجل.. هو لوقا، مؤلف الإنجيل الثالث، وما في افتتاحيته يدل على ذلك، فقد جاء فيها:( الكلام الأول أنشأته يا ثاوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله.. ) ( أعمال 1/1 ).

قال: فقد عرفنا أن لوقا لم يكن حواريا.. ولم يكن له علاقة بالمسيح.. فكيف يكون كتابه مقدسا؟

قلت: لقد انعقدت المجامع على هذا.

قال: نعم.. لقد انعقدت تلك المجامع المشؤومة على هذا.. لقد انتقت ما رأته صالحا لإرضاء الأباطرة والوثنيين وردمت ما سوى ذلك.

صمت قليلا، ثم قال: ومع ذلك.. فإن هناك شكا في نسبة هذا السفر للوقا.

قلت: ما تقول؟.. وهل طال الشك هذه الملحقات أيضا؟

قال: لقد اختلف إنجيل لوقا مع سفر الأعمال في مسألة الصعود إلى السماء..  حيث يفهم من إنجيل لوقا أن صعود المسيح للسماء كان في يوم القيامة، كما في ( لوقا 24/13 – 51 )، بينما نراه في أعمال الرسل يتحدث عن ظهور المسيح بعد القيامة، فقد ذكر ظهوره بعد  أربعين يوماً، كما في( أعمال الرسل: 1/3 ).. وهذا الاختلاف يملؤنا بالشك في صحة نسبة هذا السفر إلى لوقا.

قلت: ورسائل بولس.. أتشك فيها أيضا؟

قال: هي الأجزاء الوحيدة من الكتاب المقدس التي قد لا يشك فيها أحد.

قلت: فقد ظفرنا بمصدر موثوق إذن.

قال: نعم لك أن تثق بها.. ولكن ليس لك أن تثق به.

قلت: ما تقصد.. فمن هي؟.. ومن هو؟

قال: هي رسائله.. وهو شخصه.

قلت: فما الذي يرفع الثقة عن شخصه؟

قال: لقد تتبعت سيرته، ثم قرأت رسائله قراءة متأنية، فاتضح لي بعد جهد مضن صدق مقالة المسلمين فيه.

قلت: وما يقولون؟

قال: سأقرأ عليك ما يقول بعضهم فيه.

ذهب إلى كتاب في المكتبة، لم أتبينه، وقلب صفحاته إلى أن وجد النص الذي يريد، ثم راح يقرأ:(.. إن كان بولس عند أهل التثليث في رتبة الحواريين، لكنه غير مقبول عندنا، ولا نعده من المؤمنين الصادقين، بل من المنافقين الكذابين، ومعلمي الزور، والرسل الخداعين، الذين ظهروا بالكثرة بعد عروج المسيح )

انتفضت غاضبا.. وقلت: أغلق هذا الكتاب أو احرقه.. هذا كتاب هرطقات.

قال: اصبر.. ألم نتفق على البحث العلمي العقلي المجرد؟.. دعنا نسمع لهؤلاء، فقد يكون لديهم من الحقيقة ما ليس لدينا.

واصل القراءة، وواصلت الاستماع.. قال: لقد ذكر هذا الكاتب سر موقفه من بولس، فقال:( هو خرق الدين المسيحي، وأباح كل محرم لمعتقديه، وكان في ابتداء الأمر مؤذياً للطبقة الأولى من المسيحيين، جهراً، لكنه لما رأى أن هذا الإيذاء الجهري لا ينفع نفعاً معتداً به، دخل على سبيل النفاق في هذه الملة وادعى رسالة المسيح، وأظهر الزهد الظاهري. ففعل في هذا الحجاب ما فعل، وقبله أهل التثليث لأجل زهده الظاهري، ولأجل فراغ ذمتهم عن جميع التكاليف الشرعية. كما قبل أناس كثيرون من المسيحيين في القرن الثاني منتش الذي كان زاهداً مرتاضاً وادعى أنه هو البارقليط الموعود به، فقبلوه لأجل زهده ورياضته )

قلت: أنت تنقل من المسلمين.. وهم أعداء ما جهلوا..

قال: ألسنا نبحث عن الحقيقة؟

قلت: بلى.. ولكن من فم الأصدقاء.. لا من أفواه الأعداء.

قال: ولكن هؤلاء الذين نتصورهم أعداء صادقون، وهم ينهجون المنهج الصحيح للحقيقة.. إنهم يطبقون ما ورد في كتابهم المقدس الذي ينهاهم عن الجور حتى مع الأعداء.. إنه يقول لهم بقوة وحزم:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(المائدة:8)

ويقول لهم بلطف ومودة ناصحا ومربيا:{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(الاسراء:36)

فهو لذلك قد زودهم بالمنهج الصحيح للبحث عن الحقيقة.

قلت: دعنا منهم.. ولنعد إلى بولس.. ورسائل بولس.

قال: نعم هذه الرسائل قد تكون نسبتها صحيحة إلى بولس.. فهي تمتلئ بعبارات تدل على أنه كاتبها.. وهي لذلك تصطبغ بالصبغة الشخصية له، فهي ليست لاهوتية الطابع، بل رسائل شخصية لها ديباجة وخاتمة..

ومع ذلك كله، فليس ثمة إجماع على صحة نسبة هذه الرسائل إلى بولس، بل إن بعض المحققين يميل إلى أن أربع رسائل منسوبة إليه كتبت بيد بعض تلاميذه بعد وفاته بعشرين سنة كما ذكرت دائرة المعارف البريطانية.

بل إن أرجن يشكك ـ في شرحه لإنجيل يوحنا ـ بجميع رسائل بولس المرسلة إلى الكنائس فيقول:( إن بولس ما كتب شيئاً إلى جميع الكنائس، والذي كتبه هو سطران أو أربعة سطور )

قلت: عرفت موقفك من بولس.. فلنرجع إلى الرسائل الأخرى وأصحابها.

قال: أنت تعرف أنها سبع رسائل: ثلاث منها ليوحنا، وثنتان لبطرس، وواحدة لكل من يهوذا، ويعقوب، ثم رؤيا يوحنا اللاهوتي.

فلنؤخر الكلام عن الرؤيا.. ولنبدأ بالرسائل.

قلت: هذه الرسائل تكتسب قدسيتها من كون مؤلفيها من التلاميذ الإثنى عشر:

فبطرس هو صياد سمك في كفر ناحوم، ويعرف بسمعان، بل إن محرري قاموس الكتاب المقدس يرجحون كونه من تلاميذ يوحنا المعمدان قبل صحبته المسيح، وذلك مما يزيدنا به ثقة.

ولذلك يتقدم على سائر تلاميذ المسيح، وقد دعا في أنطاكية وغيرها، ثم قتل في روما في منتصف القرن الميلادي الأول.

وأما يعقوب، فهو ابن زبدى الصياد ـ أخو يوحنا الإنجيلي ـ وهو من المقربين للمسيح، وقد تولى رئاسة مجمع أورشليم سنة 34م، وقد كانت وفاته قتلاً على يد أغريباس الأول عام 44م([8]).

أما يهوذا، فقد اختلفت فيه المصادر، فبعضها يذكر أنه يهوذا أخو يعقوب الصغير أي انه ابن زبدى، وبعضها يذكر أنه الحواري الذي يدعى لباوس الملقب تداوس.. ولا يهم هذا الاختلاف ما دام لا يخرجه عن الحواريين.

قال: عندما أنظر إلى الطريقة التي تعامل بها المسلمون مع التراث العظيم الذي وصلهم من النصوص أشعر بالأسى والحزن.

قلت: لم؟

قال: إن المسلمين فرقوا بين كلام ربهم المقدس، وكلام نبيهم، وكلام أصحابه من بعده.. فوضعوا كل شيء في محله الصحيح.

بل إنهم في تعاملهم مع كلام أصحابه لم يثبتوا إلا ما يتعلق بآرائهم وأقوالهم جاعلين لأنفسهم كل الحرية في مناقشتهم والرد عليهم.

قلت: ونحن؟

قال: نحن وضعنا الكل في سلة واحدة.. ثم اعتبرنا الكل مقدسا.. بل إنا اكتفينا بأقوال من نعتبرهم تلاميذا أو تلاميذ التلاميذ ونسينا كلام المسيح والأنبياء.. بل نسخنا كلام المسيح والأنبياء.. فكيف نسمي هذا (كلمات مقدسة)

قلت: ولكن أليس الإلهام وحيا؟

قال: وهل أخبر المسيح أن الرسائل الشخصية لتلاميذه، أو تلاميذ تلاميذه ستتحول وحيا إلهيا.. إن الإلهام هو أخطر خرافة أوقعتنا في المتاهة التي لم نخرج منها.

قلت: أليس الإلهام مصدرا من مصادر الحقيقة؟

قال: لو فتحنا هذا الباب لم نخرج.. ما أسهل أن يدعي أي مشعوذ أنه ملهم.. بل ما أسرع أن يدعي جميع من يملك نفسا مريضة أنه يوحى إليه..

أتعلم.. لقد تعرض المسلمون لهذا النوع من الناس.. بل نص قرآن المسلمين على وجود هذا النوع من الناس، فقال:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}(الأنعام:112)

قلت: فكيف نفرق بينهما؟

قال: وحي الشياطين ليس له إلا هدف واحد هو نسخ كلام رب العالمين وتحريفه.. فهل ترى فرقا بين كلام المسيح وكلام التلاميذ؟

قلت: إن شئت الحقيقة، أنا أرى فروقا كثيرة بينهما.

قال: فكيف تزعمون أن الكل مقدس!؟.. المقدس معصوم محفوظ.

ثم صمت قليلا، ثم قال: ومع كل هذا.. فنسبة هذه الرسائل إلى كاتبيها كانت محل جدل طويل في القرون الأولى، لقد وقع في أكثرها نفس الخلاف الذي وقع في رسالة بولس إلى العبرانيين.. بالإضافة إلى أن الاعتراف برسالة بطرس الثانية ورسالتي يوحنا الثانية والثالثة ورسالتي يعقوب ويهوذا ورؤيا يوحنا اللاهوتي تأخر إلى أواسط القرن الرابع الميلادي.

قلت: فما تقول في رؤيا يوحنا اللاهوتي؟

ابتسم، وقال: وما تقول أنت؟

قلت: هي رؤيا عظيمة، ولكني لا أكاد أفهمها.

ابتسم، وقال: حدثني بعقلك.. لا بما لقنته.

قلت: لست أدري ما أقول.

قال: أعرف القيود التي تحول بينك وبين أن تقول ما تريد.. ولكن لا بأس سأقول أنا.. أنا المتحرر من سلطان الكنيسة.. المتحرر من كل القيود.. عدا قيود العقل والمنطق.

سرني قوله هذا.. على الأقل سأسمع بأذني ما لم أجرؤ على قوله بلساني.

قال: أنت تعلم أن هذا السفر يحوي رؤيا منامية غريبة، ليس لها من غاية غير تقرير ألوهية المسيح، وإثبات سلطانه في السماء، وخضوع الملائكة له.. بالإضافة إلى بعض التنبؤات المستقبلية التي صيغت بشكل رمزي غامض.

أول ما يشدك إلى هذه الرؤيا هو الأسلوب الذي يوصف الله به، إنه يصف الله، فيقول:( من أجل ذلك هم أمام عرش الله، ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله، والجالس على العرش يحل فوقهم، لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحرّ، لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيّة، ويمسح الله كل دمعة من عيونهم )(الرؤيا 7/15 ـ 18).. ألا ترى أنه يصف ربه على أنه خروف.. أي وصف هذا؟.. وأي أدب هذا؟

ولا يكتفي بذلك.. بل يصور الصراع بين التنين وملائكته مع الخروف الجالس على العرش وملائكته، فيقول:( هؤلاء سيحاربون الخروف، والخروف يغلبهم، لأنه رب الأرباب وملك الملوك، والذين معه مدعوون ومختارون ومؤمنون )(الرؤيا 17/14)

.. سأكتفي بهذا..

قلت: هذه معاني رمزية قد لا يفهمها أنا ولا أنت.. ولكن ذلك لا يضرها.

قال: إذا كنت أنا وأنت.. ونحن ندرس الكتاب المقدس، ونتفرغ له لم نفهم هذا الكلام، فكيف يكون كلاما مقدسا يوحي به الله إلى عباده ليقرؤوه ويتعرفوا عليه من خلاله!؟

قارن ذلك الوصف لله مع ما ورد في كتاب المسلمين المقدس الذين نضحك عليه، ونسخر منه:

لقد ورد فيه قوله:{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}(البقرة:255)

وورد فيه:{ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(الشورى:11)

إن إله المسلمين إله قدوس منزه عن كل نقص، بل منزه عن كل كمال لا يليق به.. وهو الذي يتناسب مع صانع هذا الكون.. فالكون يدل على أن صانعه منزه كامل.. فكيف ننزل بهذا الإله الكامل إلى هذا الوصف الذي وصفه به يوحنا في رؤيا منامية.

صمت، فقال: ألا تستغرب أن تسطر رؤيا منامية في سبعة وعشرين صفحة؟

قلت: لا حرج في ذلك.. فهي ليست رؤيا كسائر الرؤى.

قال: صدقت.. هي ليست رؤيا كسائر الرؤى.. فلنترك هذا.. ولنترك اعتبارها من الإلهام الذي توحيه الشياطين.. ولنترك كونها من رجل لا علاقة له بالمسيح.. فلنترك كل ذلك..

ومع ذلك نجد تشكيكات أخرى.. لا من المسلمين.. بل من آباء الكنيسة الأوائل.. فهذا كيس برسبتر الروم ( 212م )يقول:( إن سفر المشاهدات ( الرؤيا ) من تصنيف سرنتهن الملحد )، ومثل هذا قاله ديونسيش الذي هو من قدماء الآباء.

اسمع ما ورد في مدخل هذا السفر:( لا يأتينا سفر يوحنا بشيء من الإيضاح عن كاتبه لقد أطلق على نفسه اسم يوحنا، ولقب نبي، ولم يذكر قط أنه أحد الإثنى عشر.. هناك تقليد كنسي وهو أن كاتب الرؤيا هو الرسول يوحنا.. بيد أنه ليس في التقليد القديم إجماع على ذلك، وقد بقي المصدر الرسولي لسفر الرؤيا عرضة للشك، وآراء المفسرين في عصرنا متشعبة، ففيهم من يؤكد أن الاختلاف في الإنشاء والبيئة والتفكير اللاهوتي تجعل نسبة الرؤيا والإنجيل الرابع إلى كاتب واحد أمراً عسيراً.

يخالفهم آخرون يرون أن الرؤيا والإنجيل يرتبطان بتعليم الرسول على يد كتبة ينتمون إلى بيئات أفسس)

2 ـ النقصان

قلت: قد علمت أدلتك على وجود الزيادة، فما أدلة نقصان الكتاب المقدس؟

أشار إلى ركن فارغ في الكتاب المقدس، وقال: هل ترى هذا الركن؟

قلت: أجل.. ولكنه فارغ.. هلا اشتريت الكتب التي تملؤه ليتناسق مع غيره؟

قال: لقد ظللت طول عمري أبحث عن الكتب التي تملؤه، فلم أجدها.

قلت: لو أنك حسبت أطوال الكتب وأحجامها، وذهبت إلى أي مطبعة لطبعت لك الحجم الذي تريد، وبالألوان التي تريد.. فيتناسق هذا الركن مع سائر الأركان.

ابتسم، وقال: إنك تذكرني بما يفعل قومي وقومك حين يتلاعبون بالكتب المقدسة.. ولكني لا أستطيع أن أفعل هذا.. لقد تركت هذا الركن، وفي نفسي حلم عظيم أرجو أن ييسر الله لي تحقيقه.

قلت: وما هو؟

قال: أن يرزقني تلك الأسفار المقدسة التي خبأها قومنا في سراديب النسيان، فأنقصوها من الكتاب المقدس.

قلت: وهل حصل النقص في الكتاب المقدس؟

قال: أجل.. وهو كثير.. وقد أشار إليه قرآن المسلمين، فقال:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(البقرة:174)

قلت: يمكن لكتاب المسلمين أن يقول أي شيء.. ولكني أريد أن أبحث عن مدى صدق ذلك في الواقع.. فهل هناك شك في نقص بعض الكتب المقدسة؟

قال: أجل.. ولننتهج النهج الذي استعملناه سابقا..هناك نقص في الصحف، وهناك نقص في الكلمات.

الصحف الناقصة:

قلت: فلنبدأ بالصحف التي تتصور نقصانها.

قال: أجل.. ولنبدأ بأسفار العهد القديم.

قلت: هل هناك صحف ناقصة من العهد القديم؟.. إني أراه ضخما لا يحتاج إلى أي زيادة.

قال: يمكنك أن تقسم كتب العهد القديم التي أصيبت بهذا الداء إلى قسمين: قسم فقد مطلقا، ولم نعد نعرفه إلا من خلال النصوص التي تذكره أو أتشير إليه.. وقسم لم يفقد، ولكن طوائف كثيرة من أهل ديننا ينكرونه، من غير حجة تدل على إنكاره إلا كونهم لا يرتضونه.

قلت: هذا كلام مجمل.. فهات تفاصيله.

قال: فلنبدأ بالقسم الأول.. ذلك القسم الذي تركت له هذا الركن.. وأنا آسف حزين على الثروة المقدسة التي أضاعها قومنا.

قلت: وما هي؟

قال: إذا رأيت كتابا تثق فيه يرجع إلى بعض المراجع، أو يثني عليه، أو يقدح فيه.. أيبقى عندك شك في وجود ذلك المرجع؟

قلت: لا.. إلا إذا كذبت بالمصدر الذي ذكر ذلك.

قال: فإن كان الكتاب المقدس هو الذي ذكر ذلك.

قلت: حينها.. أعتبر من الهرطقة أن أكذبه.

قال: فاحذر من الهرطقة.. واعلم أن هناك أسفارا كثيرة ضاعت.. سأذكر لك منها ما يشير إليه الكتاب المقدس فقط:

منها سفر حروب الرب، وقد جاء ذكر اسم هذا السفر في سفر العدد (21/ 14)

ومنها سفر ياشر، وقد جاء ذكر اسم هذا السفر في سفر يشوع( 10 / 13)

ومنها سفر أمور سليمان، وقد جاء ذكره في سفر الملوك الأول ( 11: 41 )

ومنها سفر مرثية أرميا، وجاء ذكر هذه المرثية في سفر أخبار الأيام الثاني ( 35: 25 )

ومنها سفر أخبار ناثان النبي.. وسفر أخيا النبي الشيلوني.. وسفر رؤى يعدو الرائي.. وقد جاء ذكر هذه الاسفار جميعا في سفر أخبار الايام الثاني ( 9: 29 )

ومنها سفر أخبار جاد الرائي، وقد جاء ذكره في سفر أخبار الأيام الأول ( 29:31 )

ومنها كتاب العهد لموسى، وقد جاء ذكره في سفر الخروج ( 24: 7 )

وغيرها..

قلت: علمت أمثلة القسم الأول.. فما أمثلة القسم الثاني؟

قال: هي أسفار كثيرة أيضا حذفنها طائفة كبيرة من قومنا.. وهي تتشير إلى طبيعة الانتقاء التي لا نزال نجني شوكها.

قلت: أي طائفة.. وما الكتب التي حذفتها؟

قال: كلنا تلك الطائفة.. كلنا حذفنا من الكتاب المقدس بأهوائنا ما لم نرغب فيه.. كما أنا كنا أثبتنا فيه ما أملاه علينا الهوى.

قلت: حدثني عن الطائفة المحددة والكتب المحددة.

قال: أحدثك عنها كمثال لتلاعبنا بالكتاب المقدس، لا كحقائق نهائية محصورة.

قلت: أعلم ذلك.

قال: فتلك الطائفة إذن هي طائفة البروتستانت التي انتقت من الكتاب المقدس ما تراه، وحذفت منه ما لم تره([9]).

ثم قام إلى ركن من المكتبة، واخذ نسخة من الكتاب المقدس، وقال: انظر هذه الطبعة من الكتاب المقدس، هي طبعة دار الكتاب المقدس.. انظر إلى فهرستها.. فلن تجد بعضاً من الأسفار المقدسة التي حذفها البروتستانت مخالفين بذلك كل المسيحيين من الأرثوذكس والكاثوليك.. فهم في كافة أنحاء العالم يؤمنون بقانونيتها.

قلت: أنت تقصد الأسفار القانونية الثانية.. أو ما يسميه البروتستانت (الأبوكريفا) التي تعني ( المخفية)

قال: أجل.. وهم يعتبرونها بهذه التسمية أسفاراً مدسوسة، لأنها لا ترقى إلى مستوى الوحي الإلهي كما أنها تضم موضوعات غير ذات أهمية وخرافات لا يقبلونها.

قلت: أعرف هذه الأسفار.. وقومي من الكاثوليك يدافعون عنها أي دفاع:

أولها سفر طوبيا، ويضم 14 أصحاحا، ومكانه بعد سفر نحميا.. وهذا السفر يتحدث عن طوبيا الذى سمى هذا السفر باسمه، وهو رجل من سبط نفتالي سباه (شلمنآسر ) ملك أشور، وسكن أثناء السبي في مدينة نينوى مع حنة امرأته وابنه الذى كان له نفس الاسم (طوبيا)، ومن المرجح أن يكون طوبيا الابن هو الذي كتب هذا السفر قبل مولد السيد المسيح بزمان.

وهو سفر يتضمن وصفاً لسيرة عائلة إسرائيلية تقية عاشت في زمن الأسر الأشورى نحو سنة 722ق.م وتقلبت عليها الأحوال، وقد نال جميع أفراد هذه العائلة كرامه وثناء بسبب محافظتهم الدقيقة على شريعة الرب ولإحسانهم إلى الذين يحبونها.

ولست أدري ما الذي حال بين البروتسنت وهذا السفر.. مع أنه جاء فى القانون 27 لمجمع قرطاجنة اعتراف صريح بقانونية هذا السفر وسفر يهوديت.. كما سماه القديس كبريانوس فى مقال له بأنه ( كتاب طوبيا الموحى به من الله )

زيادة على هذا.. فقد استشهد بالسفر الكثير من المشاهير الآباء الأولين في كتابتهم.. بل قد وردت اقتباسات من هذا السفر في العهد الجديد نقلها عنه في الإنجيل والرسائل كل من متى ولوقا وبولس الرسول.

ومنها سفر يهوديت، وهو يتكون السفر من ستة عشر أصحاحاً.. ويحكي حكاية بطلة يهودية أنقذت بمعونة الرب وبذكائها وحكمتها شعبها من بطش أعدائه([10]).

قال: كاتب هذا السفر مجهول، وهو قد كتب أولاً باللغة العبرية، والأصل العبري مفقود.. ولم يبق منه إلا نصه باللغة اليونانية، ولذلك نجده ضمن باقي أسفار العهد القديم في الترجمة السبعينية للتوراة.

 قلت: أجل.. ولكن هناك أدلة كثيرة تدل على أنه من الكتاب المقدس.. فقد أقر مجمع نيقية الأول قانونية هذا السفر، واعتبره واحداً من الأسفار الموحى بها، كما أن مجمع قرطاجنة في قانونه السابع والعشرين اعترف بأن هذا السفر من الأسفار القانونية.. ويضاف إلى هذا كله أن المجمعين اللذين عقد أحدهما في القسطنطينية وأكمل في ياش عام 1642، والذي عقد ثانيهما في أورشليم عام 1672، قد أقر سفر يهوديت ضمن الكتب المقدسة الموحى بها قائلين عنها أنها كتب مقدسة إلهية..  كما صدر قرار بنفس هذا المعنى أيضاً من المجمع التريدنتينى اعترافاً بمجموعة الأسفار القانونية الثانية باعتبار أنها جميعاً واردة في النسخة السبعينية التي ترجمت فيها التوراة للغة اليونانية سنة 280 قبل الميلاد، وقد عقد هذا المجمع في ترينت عام 1456 م.

بالإضافة إلى هذا كله استشهد الكثير من القديسين من آباء الجيل الأول والثاني والثالث والرابع وغيرهم بسفر يهوديت في كتابتهم.. ومنهم إكليمندس الرومانى في رسالته الأولى إلى كورنثوس.. والقديس إكليمندس الإسكندري في كتابة المربى.. والقديس أوريجانوس في كتابه الصلاة.. والقديس البابا أثناسيوس الرسولي في خطبته الثانية ضد أريوس، والقديس إيرونيموس والقديس أمبروسيوس وغيرهما فى كتاباتهم.

وفوق هذا.. فإن هناك اقتباسات من هذا السفر أوردها كل من لوقا وبولس في نصوص العهد الجديد.. ومنها ( فأما الذين يقبلوا البلايا بخشية الرب أبدوا جزعهم وعادوا تذمرهم على الرب، فاستأصلهم المستأصل وهلكوا بالحيات) ( يهوديت: 8: 24، 25 )، فقد ورد ما يقابله في رسالة بولس الرسول الأولى إلى كورنثوس بقوله:( ولا تجرب المسيح كما جرب أيضاً أناس منهم فأهلكتهم الحيات ) (1كو 10:9)

وزيادة على هذا، فإن بعض الكنائس البروتستانتية، كالكنيسة الألمانية تقر هذا السفر، وتعتبره ضمن الأسفار القانونية.. بل قد كتب بعض مشاهير الكتاب والمؤلفين البروتستانت تقريظات عن هذا السفر.

التفت إليه، فرأيته ينصت، وكأنه يبتسم، واصلت دفاعي عن تلك الأسفار، قلت: ومنها سفر إستير.. وهو السفر السابع عشر من أسفار التوراة بحسب طبعة دار الكتاب المقدس، غير أنة يوضع بعد سفر يهوديت بحسب عقيدة الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية.

وقد دلت البراهين التاريخية على صدق وقانونية سفر إستير كله بما فيه من إضافات يعتبرها الأرثوذكس والكاثوليك قانونية وصحيحة:

قال: ويمكنك أن تضيف لمعلوماتك عن هذا السفر أن كاتبه مجهول.. ولو أن البعض يرجح أنه عزرا أو مردخاي.. ومثل ذلك زمن كتابته فهو غير معروف على جهة التحقيق..

وأضف إلى هذا كله أن اسم ( الله ) لم يذكر مرة واحدة في هذا السفر.. ولذلك ظل موضع نقاش كثير إلى أن استقر البروتستانت على قبول العشرة إصحاحات الأولى منه.. ولسنا ندري ماذا يخبئ الزمن لهذا السفر.. هل يمن عليه بالقبول.. أم سيرمى كما رمي غيره!؟

قلت: ومن هذه الأسفار سفر الحكمة، وهو سفر يلي نشيد الإنشاد لسليمان الحكيم.. وهو مكون من 19 إصحاحا كلها تفيض بأحاديث حكيمة عميقة المعاني الروحانية.. وقد ورد هذا السفر ضمن أسفار التوراة في النسخة السبعينية المترجمة إلى اليونانية.

قال: لقد ذكرت وجهة نظرك، ووجهة نظر الطائفة التي تنتمي إليها.. أتدري لم حذفت الطائفة المخالفة (البروتستانت) هذه الأسفار؟

انتفضت غاضبا، وقلت: البروتسنت طائفة مارقة.. ولذلك قامت حروب بين البروتستانت والكنيسة البابوية برئاسة البابا بولس العاشر قتل فيها عشرات الآلاف وأحرقت ودمرت فيها بعض المدن ومئات من الكنائس والأديرة.

إنك لا تعرف مارتن لوثر قائد الثورة البروتستانتية.. لقد كان معروفا بالشطط والكبرياء.. ألم تسمع ما قال.. لقد قال:( إنني أقول بدون افتخار أنة منذ ألف سنة لم ينظف الكتاب أحسن تنظيف ولم يفسر أحسن تفسير ولم يدرك أحسن إدراك أكثر مما نظفتة وفسرتة وأدركته ).. أتظن أنه بعد هذا الكلام سيبقي الكتاب المقدس على حاله.. بل إن لوثر وأتباعه حذفوا في زمانهم أسفاراً أخرى من العهد الجديد مثل سفر الأعمال ورسالة يعقوب.. بل قيل إنهم حذفوا سفر الرؤيا، غير أنهم أعادوا هذه الأسفار لمكانها في الكتاب المقدس لما قام الناس في وجوههم.

قال: أتعلم أن ما فعله البروتستنت هو نفس ما فعله قومي وقومك قبلهم في المجامع المختلفة مع الموحدين، وأسفار الموحدين؟

قلت: كيف ذلك؟

قال:  سأقص عليك الحكاية من أولها.. لتعرف بعض العبث الذي أصاب كتابنا المقدس.

قلت: لقد أنصت لي.. فها أنا أنصت لك.

قال: أنت تعلم أن الكتاب المقدس بشقه الأول نتاج عمل العشرات من المؤلفين الذين اجتهدوا في تسجيل تاريخ بني إسرائيل.. أتدري متى اكتسبت تلك النصوص قداستها؟

قلت: منذ كتابتها اكتسبت قداستها.

قال: لا.. لقد تأخر ذلك.. فالأسفار الخمسة أقرت في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وتحديداً في عام 398 حين اعترفت الامبرطورية الفارسية بناموس اليهود حسبما جاء في دائرة المعارف الأمريكية..

ولم تعتبر هذه المجموعة معادلة لسلطة الأسفار الخمسة، ومع ذلك ألحقت بها، وقد كان ينظر إليها على أنها شروح وامتداد للأسفار الخمسة.

هذه هي المرحلة الأولى والتي تشكل بداية الاعتراف بالكتاب المقدس..

وبعدها بمدة طويلة.. وبالضبط في عام 90 م عقد الفريسيون مجمعاً في جامينيا، وقرروا اعتبار بعض الأسفار أسفاراً قانونية وهي: المزامير والأمثال ونشيد الإنشاد وراعوث، ودانيال، وأيوب، وعزرا، ونحميا، والأيام وغيرها .. واعتبروا هذه القائمة نهائية ورفضوا ما عداها من الأسفار، وقد بلغ عدد هذه الأسفار ستاً وثلاثين سفراً.

وهذه الأسفار هي التي تبناها قومنا بعد ذلك.. وقد كان الخلاف الذين نقلنا عنهم هذه الأسفار شديدا.. فقد كان الفريسيون مثلا يعتبرون سفر دانيال قانونياً، فيما لم يعتبره الصدوقيون، وكذلك كان لجماعة قمران أسفار كثيرة لم ترد في القائمة القانونية منها أخنوخ واليوبيلات وغيرها، والأسفار التي لم تدخل في القائمة كانت خمساً وثلاثين سفراً كما عددها تشارلس في مقدمة كتابه (أبو كريفا )

وفي مرحلة تالية.. اجتمع قومي وقومك في مجمع (نيقية) سنة 325م، وأقر المجتمعون النصارى سفر يهوديت فقط، وأبقوا ثمانية أسفار مشكوكاً فيها.

 وفي مرحلة تالية.. اجتمع قومي وقومك في مجمع (لوديسيا) سنة 364م، وأقر المجتمعون سفراً آخر هو سفر استير.

وفي مرحلة تالية.. اجتمع قومي وقومك في مجمع (قرطاجة)، سنة 397م بحضور اكستاين، فأضاف المجمع للقائمة ستة أسفار هي ( زوم، وطوبيا وباروخ وايكليزنا سيتكس (يشوع بن سيراخ ) والمكابيين الأول والثاني.

وفي مرحلة تالية.. اجتمع قومي وقومك في مجمع (ترلو) واعتبر المجتمعون سفر باروخ جزءً من إرميا.

وفي مرحلة تالية.. اجتمع البروتسنت في مجامعهم، وحذفوا ما شاءوا أن يحذفوا.

وفي مرحلة تالية.. سنجتمع نحن لنضيف إلى كتبنا المقدسة ما نضيف..

أليس كل ذلك صحيحا؟

سكت، فقال: كيف نصف الكتاب بالقداسة.. وهو لا يتقدس إلا في مجامعنا التي لا نعرف من يحضر فيها.. ولا من يقف وراءها؟

إن الكتاب المقدس ـ يا صاحبي ـ أعظم شأنا من أن يوضع بين يدي ثلة من الناس يلعبون بقداسته كما تلعبون بالكرة.

قلت: فلنتحدث عما تتصوره من نقص حصل للعهد الجديد.

قال: اقرأ لي مقدمة لوقا لإنجيله.

رحت أقرأ:( إذ كان كثيرون قد اخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن اكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علّمت به )(لوقا:1: 1 )

قال: ألم تر في سطور هذا الخطاب الموجه من لوقا إلى صاحب السمو ثاوفيلس ما يدلك على النقص الذي أصاب العهد الجديد؟

قلت: لا ألاحظ شيئا.. إن لوقا لم يسم أي كتاب ذكر حذفه من الكتاب المقدس.

قال: إن لوقا لا يحذف.. ألم تعلم بأن هذا دور المجامع!؟.. دور الكتبة هو الكتابة فقط.. أما المجامع فهي وحدها صاحبة الحق في أن تعطيهم شهادة القداسة التي لا تعادلها أي شهادة..

 قلت: ما الذي أشار إليه لوقا من الأسفار المحذوفة؟

قال: لقد ذكر لوقا أن كثيرا من الكتبة كتبوا مثل ما كتبه لوقا في بيان حال المسيح.

قلت: ذلك صحيح؟

قال: من الواضح جداً أنه كانت هناك كثرة في كتابة الأناجيل في ذلك الزمن.. فأين هي؟

قلت: لا حاجة لك للاستدلال بقول لوقا.. فهذا أمر مشتهر تقر به الكنيسة.. نعم هناك أسفار كثيرة محذوفة من الكتاب المقدس في شقه الجديد.

ومن أشهرها إنجيل توما ، وإنجيل بطرس ، وإنجيل باسيليوس ، وإنجيل فيلب، وإنجيل ماتياس ، وإنجيل برثولماوس ، وإنجيل أندراوس ،  وإنجيل الانكراتيين  وإنجيل ثداوس ، وإنجيل غمالائيل ، وإنجيل أبللس ، ورؤيا إستفانوس..  وغيرها من الأناجيل.

قال: فكيف اقتصرتم على الأناجيل الأربع؟.. ألكم أنتم ـ أيضا ـ غرام بالأربع حال بينكم وبين سائر الأعداد؟

قلت: هذا يعود إلى مجامعنا التي قررت ذلك.. فقد حرمت المجامع الأولى قراءة الكتب التي تخالف الكتب الأربعة والرسائل التي اعتمدتها الكنيسة، فصار أتباعها يحرقون تلك الكتب ويتلفونها.

قال: فأنتم تعطون القداسة للمجامع، لا للكتبة.. فلولا رحمة المجامع بلوقا ويوحنا وغيرهما ما وصفتموهم بالإلهام.. ولا رتلتم أناجيلهم في المجامع.

صمت، فقال: سأقرأ لك نصا من باحث صادق.. نعم لقد اتبع دين محمد.. ولكنه مع ذلك.. كان عالما باحثا.. لا يهتم بغير البحث عن الحقيقة.

أخرج كتابا من ذلك الركن الذي كنا نقف بجانبه، وقال: اسمع ما يقول القس السابق عبد الأحد داود.. إنه يقول:( إن هذه السبعة والعشرين سفراً أو الرسالة الموضوعة من قبل ثمانية كتاب لم تدخل في عداد الكتب المقدسة باعتبار مجموعة هيئتها بصورة رسمية إلا في القرن الرابع بإقرار مجمع نيقية سنة 325 م، لذلك لم تكن أي من هذه الرسائل مصدقة لدى الكنيسة.. وهناك ـ أي في مجمع نيقية ـ تم انتخاب الأناجيل الأربعة من بين أكثر من أربعين أو خمسين إنجيلاً، وتم انتخاب الرسائل الإحدى والعشرين من رسائل العهد الجديد من بين رسائل لا تعد ولا تحصى، وصودق عليها، وكانت الهيئة التي اختارت العهد الجديد هي تلك الهيئة التي قالت بألوهية المسيح، وكان اختيار كتب العهد الجديد على أساس رفض الكتب المسيحية المشتملة على تعاليم غير موافقة لعقيدة نيقية وإحراقها كلها )([11])

والغريب أن الكنيسة هي التي حددت الكتب الصحيحة التي يجب أن تُداوَل وألغت الباقي واعتبرتها كتبا غير قانونية، ومنها كتب ورسائل للمسيح نفسه، وكتاب لمريم العذراء، وأناجيل أخرى كثيرة للحواريين تلاميذه.

ألا ترى أن هذه المجامع مارست دورا بوليسيا على الكتاب المقدس؟

إنها تريد أن تفرض على الله ما يقول.. وتريد أن تفرض على الكتبة ما يلهم لهم.

أتدري سر هذا الحرص من مجمع نيقية؟

إنه ليس الإخلاص للكتاب المقدس.. بل هو الإخلاص للامبراطور.

انتفضت قائلا: كأني بك تريد أن تقول بأن الامبراطور هو الذي حدد الكتب المقدسة، ونفى غيرها.

قال: أنا لا أقول ذلك.. بل التاريخ.. وحقائق التاريخ.. هي التي تقول ذلك.. لقد قال المؤرخ ( ديورانت ) في كتابه قصة الحضارة:( وصدر مرسوم إمبراطوري يأمر بإحراق كتب آريوس جميعها، ويجعل إخفاء أي كتاب منها جريمة يعاقب عليها بالإعدام )

وقال آدم كلارك في المجلد السادس من تفسيره:( إن الأناجيل الكاذبة كانت رائجة في القرون الأولى للمسيحية، وأن فايبر بسينوس جمع أكثرَ من سبعين إنجيلاً من تلك الأناجيل وجعلها في ثلاث مجلدات )

التفت إلي، وقال: ألا تزال تنكر تأثير الامبراطور على المجمع.

صمت، فقال: كل الحقائق التاريخية تدل على أنه كان للامبراطور قسطنطين دور كبير في مجمع نيقية،لأنه كان يعلق أهمية كبرى في تكوين كنيسة واحدة في إمبراطورية واحدة.

لــذلك فقــد كان ينتقي الأساقفة المنوط بـهم الإشتراك في المجمع، وبما أنه طوال سنوات كثيرة كان هناك مقاومة ـ على أساس الكتاب المقدس ـ للفكرة القائلة أن يسوع هو الله أو ابن الله، وفي محاولة لحل الجدال دعا قسطنطين الإمبراطور الروماني جميع الأساقفة إلى نيقية.

ولم يكن قسطنطين مسيحيا، ولم يتم تعميده  إلا في أواخر حياته، بل لم يتعمد حتى صار على فراش الموت، وعنه يقول هنري تشادويك في كتاب (الكنيسة الباكرة):( كان قسطنطين كأبيه يعبد الشمس التي لا تقهر واهتداؤه لا يجب أن يفسر أنه اختبار داخلي للنعمة، لقد كان قضية عسكرية، وفهمه للعقيدة المسيحية لم يكن قط واضحا، ولكنه كان على يقين من أن الانتصار في المعركة يكمن في هبة إله المسيحين )

ومن الثابت تاريخيا أن قسطنطين قد أدار المؤتمر بصورة واقعية، فقد كان يشــعر، بل ويتصرف كرئيس للمجمع، فكان يأمر الأساقفة بما يجب عمله، وما يجب تركه، وقد أعلن في مناســبة أخرى مؤكداً:( إني أرغب في قانون كنسي ) وقد قبلت الكنيسة كل هذا صاغرة، لـذلك أصبح القيصر أسقفها العام (الدولي) المعترف به.

ولم يكن غير قسطنطين الذي أدخل ما تعارف عليه بصيغة (هومسيوس) الشهيرة في قرارات مجمع نيقية وفرضها على الأساقفة المعارضين بإستعمال سطوته.. زيادة على ذلك، فإنه لم يكن له تأثير فعّال وغير مباشر فقط على تكوين العقيدة، بل كان أيضاً يصوت معهم.

ومثل ذلك تحولت قرارات المجامع الأربعة المسكونية الأخرى بهذه الطريقة إلى قوانين عامة([12]).

قلت: أنت تتهم مجامعنا المقدسة.

قال: ما أكثر ما تستغلون القداسة.. وما أكثر ما تستغلنا القداسة.. أجبني.. وكن صادقا في إجابتي.

قلت: أفي شك أنت من ذلك؟

قال: أنا لا أشك في صدقك.. ولكني أخاف من تهربك.

قلت: لا بأس.. سأكون مع الحق.. ولو على نفسي.. أو على قومي.

قال: أكبر دليل لكم.. بل الدليل الوحيد لكم على قدسية أي سفر من الأسفار هو ما أقرته المجامع الكنسية.. أليس ذلك صحيحا؟

قلت: بلى.. هو صحيح.. وهو مفخرة لنا.

قال: فأنتم تعتبرون بذلك هذه المجامع معصومة في آرائها.. بحيث لا تختار إلا المقدس حقيقة.

قلت: ذلك صحيح.. فهي معصومة في قراراتها.. ولولا ذلك لأمكننا مناقشتها فيما تختاره.. لقد  جاء في وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قولهم:( إن ما تتضمنه وتعرضه الكتب المقدسة من حقائق موحاة مكتوبٌ كله بوحي من الروح القدس، وتؤمن أمنا الكنيسة المقدسة بموجب الإيمان الرسولي أن كتب العهدين القديم والجديد كلها وبجميع أجزائها مقدسة وقانونية، فالله هو مؤلفها مكتوبةٌ بوحيٍ من الروح القدس)([13]

قال: فقد قرر المجمع المسكونى الخامس للكنيسة أن المرأة خالية من الروح الناجية التي تنجيها من جهنم..

وقرر مجمع آخر أن المرأة حيوان نجس، يجب الابتعاد عنه، وأنه لا روح لها ولا خلود، ولا تُلقَّن مباديء الدين لأنها لا تُقبَل عبادتها، ولا تدخل الجنة، ولا الملكوت، ولكن يجب عليها الخدمة والعبادة، وأن يكمم فمها كالبعير أو كالكلب العقور، لمنعها من الضحك ومن الكلام لأنها أحبولة الشيطان.

وبناء على ذلك.. أو بناء على هذه الأفكار.. وفى عام 1500.. تشكل مجلس اجتماعي في بريطانيا لتعذيب النساء، وابتدع وسائل جديدة لتعذيبهن، وقد أحرق الآلاف منهن وهنَّ أحياء، وكانوا يصبون الزيت المغلي على أجسامهن فقط لمجرد التسلية.. وحتى لا يختلف عليك الأمر فقد كان القضاة هم رجال الكنيسة.

فلماذا لا تقرون بما قالت هذه المجامع؟

قلت: لقد أخطأت هذه المجامع في هذه القرارات..

قال: فالمجامع يمكن أن تخطئ.

صمت، فقال: أراك تتهرب.

لم أجد بدا من قولي: نعم.. يمكن أن تخطئ..

قال: والبابا أيضا يمكن أن يخطئ.. فقبل سنوات خرج علينا بابا الفاتيكان باعتذارات رسمية عما قامت به الكنيسة في سالف عهدها من اضطهاد لمخالفيها في العقيدة أو الرأي.. إذن البابا والكنيسة والمجامع يمكن أن تخطيء؟

قلت: أجل.. ذلك صحيح.

قال: فكيف تجعلون مجامعكم مقدسة؟.. وكيف تهبون لهذه المجامع سلطة تعيين الكتاب المقدس؟.. ولماذا لا تطلبون من الكنيسة أن تريكم تلك الأسفار الكثيرة التي لم يرض عنها أعضاء المجامع لتدرس على ضوء البحث العلمي الموضوعي الدقيق.. اطلبوها منهم.. واعلموا أنهم لن يسلموكم شيئا منها.. لقد حاولت ذلك مرارا.. أتدري لم؟

قلت: لم؟

قال: لأن سلطتهم ترتبط بهذه الأسفار.. لا بتلك الأسفار.. ولا يمكن لأي مجرم في الدنيا أن يقدم دليل إدانته.

الكلمات الناقصة:

صمت قليلا، ثم قال: هذا هو النوع الأول من أنواع النقصان الذي حصل للكتاب المقدس.. وهناك نوع آخر لا يقل خطرا.

قلت: ما هو؟

قال: إن قومي وقومك لم يكتفوا برفض الكتب التي لا تتناسب مع أذواقهم، بل سمحوا لأنفسهم بتعديل الكتب التي رضوا عنها لتتناسب مع أذواقهم.

قلت: ما تقول؟

قال: لا تخف.. لست أدعي ولا أكذب.. لقد ترك القوم أدلة على ما فعلوه من خيانة للكتاب المقدس.

قلت: أدلة خيانة!؟

قال: أجل.. ألا تعلم أنه لا يمكن أن تكون هناك جريمة كاملة!؟

قلت: عم تتحدث؟

قال: من أكبر الأدلة علي التحريف ما ترى في الكتاب المقدس من النصوص المنقوصة، والتي وضعوا مكانها نجوما أو نقطا، أو تُركت فارغة([14]).

هكذا فعل قومنا مع الكتاب المقدس.. لقد وضعوا مكان النصوص الناقصة نجوما أو نقاطا أو خطوطا مستقيمة أو تركوها فارغة.

أدركت ما يذكره، فقلت: أجل.. هناك أكثر من أربعين موضعا في أغلب النسخ في الكتاب المقدس وضعت خطوط مكانها.. وسبب ذلك أنها لم تكن واضحة في المخطوطة الأصلية، لذلك كان من باب الأمانة ما وضعه النساخ مكانها من نجوم أو خطوط.

قال: أهكذا بكل بساطة تتحدثون عن الكتاب المقدس.. هل الكتبة كتاب محققون.. أم أنهم حفظة لكتاب مقدس؟

قلت: هم كتبة، وهم حفاظ.

قال: فقد انفردوا بالكتاب المقدس إذن..

قلت: ما تقصد؟

قال: في العادة عندما يصعب على محقق أي مخطوطة قراءة ما فيها يلجأ إلى نسخة أخرى.. وهكذا حتى يعرف وجه الصواب.. أليس كذلك؟

قلت: بلى ..

قال: فكيف لم يفعل هؤلاء الكتبة ذلك.. هل كانت النسخ محدودة لهذه الدرجة.. أنتم تزعمون أن للكتاب المقدس نسخا لا حصر لها.

صمت، فقال: لا بأس.. لقد حل قومي وقومك المشكلة.. وسوف تأتي أجيال لن تتساءل عن هذا؟

قلت: ما تقصد؟

قال: بعد أن أشار الناس إلى هذه الفراغات، واحتاروا فيما كان موجود مكانها، وبدأت تثير الشكوك في نفوس العقلاء جاء من علمائنا من يبيح إكمال الفراغات الناقصة في هذا الكتاب على طريقة (أكمل الفراغات).. كما كنا نتعلم في المدارس، فاختاروا كلمات على مزاجهم، وأكملوا بها النصوص الناقصة.

التفت إلي، وقال: ألا تعلم بأن كتاب المسلمين المقدس أشار إلى هذا.. لقد ورد فيه:{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (المائدة: 13)؟

لقد أخبرت هذه الآية عن هذا التلاعب الذي لا يزال مستمرا.. إن الخيانة لا تزال مستمرة.. ولسنا ندري متى تنتهي.

3 ـ التبديل

قلت: علمت أدلتك على وجود النقصان، فما مرادك من التبديل؟.. وما أدلتك عليه؟

قال: من تجرأ على أن يزيد في كلام الله ما يمليه عليه هواه.. ثم تجرأ على أن ينقص منه ما لا يتناسب مع مصالحه، لن يتخاذل عن أي تبديل قد يتصادم مع هذه المصالح التي اتخذها إلها من دون الله.

قلت: أنت تعلل التبديل.. ولا تستدل له.

قال: أحيانا يكون التعليل أعظم استدلال.. أنت ترى المسيح كيف نهض في وجوه رجال الدين اليهودي في عصره.. أليس ذلك صحيحا؟

قلت: أجل.. بل إنه لم ينهض في وجه أحد كما نهض في وجههم، ولذلك لم يقاومه أحد كما قاوموه.

قال: فهؤلاء الذين بدلوا أحكام الله، وقاوموا رسل الله، ألا يسهل عليهم أن يبدلوا كلام الله؟

قلت: فرق بين الجواز العقلي، أو الجواز العادي، وبين الوقوع الفعلي.

قال: صدقت.. ولكن.. أنت تعلم بأن الأحكام العملية، أو العقائد النظرية، مرتبطة بالكتاب المقدس.. فلذلك قد تقف تلك النصوص حجر عثرة في طريقهم.. فهل ترى فيمن قتل الأنبياء من الورع ما يحول بينه وبين تبديل كلام الله؟

قلت: لا أزال مصرا على طلب الدليل الحسي.. فكل ما تذكره الآن مجرد استنتاجات.

قال: سأذكر لك الأدلة.. ولكن قبل ذلك.. سأرجع بك إلى الكتاب الذي لا أثق في كتاب في العالم مثل ثقتي فيه..

قلت: تقصد قرآن المسلمين.

قال: أجل.. إنه يعطيك الحقائق من منبعها.. اسمع إليه، وهو يقول.

فتح المصحف على مواضع محددة وراح يقرأ بخشوع، وكأنه قديم الجذور في الإسلام:{ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً}(النساء:46)

واسمع ما يقول في سورة أخرى:{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(المائدة:13)

واسمع ما يقول في موضع آخر من هذه السورة:{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(المائدة:41)

قلت: أنت تعلم أن عقلي عقل قاض لا تقنعه إلا الأدلة القوية.

قال: نعم العقل عقل القاضي الحكيم.. ليت كل مسيحي يكون له مثل هذا العقل.. إذن لتوحدت البشرية كلها وجهة واحدة.

لقد بحثت في هذا كثيرا.. وسأذكر لك أربعة أمور تدلك على التبديلات الخطيرة التي أصابت كتابنا المقدس.

قلت: فما هي؟

قال: النسخ، والترجمات، والطبعات، والمعاني.

قلت: فحدثني عن التبديل الأول؟

قال: أول تبديل حصل بالكتاب المقدس هو تباين نسخه واختلافها..

قلت: ما تقصد بذلك؟

قال: لقد رأيت أن للمسلمين جميعا مهما اختلفت مذاهبهم وأعراقهم كتابا واحدا.. ولكن الكتاب المقدس له ثلاث نسخ.. كل نسخة تختلف عن الأخرى.

قلت: تقصد النسخ المختلفة للتوراة.

قال: أجل.. فهناك النسخة العبرية، وهي المقبولة والمعتبرة لدى اليهود وجمهور علماء البروتستانت، وهي مأخوذة من النسخة الماسورية وما ترجم عنها.

وهناك النسخة اليونانية، وهي المعتبرة عند النصارى الكاثوليك، والأرثوذكس وهي التي تسمى السبعينية وما ترجم عنها.

وهناك النسخة السامرية، وهي المعتبرة لدى السامريين من اليهود.

قلت: لا حرج في هذا الاختلاف.. أليس قرآن المسلمين يقرأ بقراءات مختلفة؟

قال: فرق كبير بين قراءات قرآن المسلمين وهذه النسخ.. إن الخلاف بين القراءات في قرآن المسلمين لا يعدو الوجوه اللغوية التي تقتضيها اللغة العربية.. وليس لها أي تأثير في معاني القرآن.. بالإضافة إلى أنها نقلت تواترا عن نبيهم([15]).

قلت: ونسخ الكتاب المقدس؟

قال: لو أجرينا مقارنة بين النسخ الثلاث، وجدنا الأدلة الكثيرة على ما أصاب الكتاب المقدس من تبديل.

قلت: أخيرا وصلت إلى ما أريد.

قال: منها الاختلاف في عدد الأسفار.. فبين النسخ الثلاث اختلاف كبير في عدد الأسفار.. فالنسخة العبرية عدد أسفارها تسعة وثلاثين سفراً، وما عدا ذلك لا يعتبرونه مقدساً.

أما النسخة اليونانية، فهي تزيد سبعة أسفار عن النسخة العبرية، وهذه الأسفار يعتبرها الكاثوليك والأرثوذكس قانونية ومقدسة كما عرفنا ذلك سابقا.

أما النسخة السامرية، فلا تضم إلا أسفار موسى الخمسة فقط، وقد يضمون إليها سفر يوشع فقط، وما عداه فلا يعترفون به ولا يعدونه مقدساً.

قلت: أعلم كل هذا.. ولكن ما دلالة هذا على التبديل؟

قال: وهل هناك أعظم من هذه الدلالة؟

قلت: لم أفهم ما تقصد.

قال: أنت زعمت بأن لك عقل قاض حكيم.

قلت: أجل.. ولست أدري هل أنت تمدحني بهذا، أم تذمني.

قال: بل أمدحك.. وأصلي لله أن يملك كل مسيحي عقلا مثل عقلك، ومنطقا مثل منطقك.. الإيمان الصحيح هو الذي يقوم على المنطق الصحيح.

أخبرني لو أن ثلاثة نفر وقفوا بين يديك، وفي يد كل واحد منهم نسخة من كتاب، وكل نسخة من النسخ تختلف عن الأخرى.. وكل منهم يزعم أنه صاحب الكتاب الحقيقي.. قكيف تحكم بينهم؟

قلت: فيم؟

قال: كل منهم يريد أن يثبت أنه صاحب النسخة الأصلية..

قلت: ذلك سهل.. نتصل بالمؤلف، ليبين لنا النسخة الحقيقية لكتابه.

قال: فإن مات، أو غاب، أو لم يمكن الاتصال به؟

قلت: نبحث في تركته عن المخطوطة الأصلية للكتاب لنقارن النسخ المختلفة عليها.

قال: فإن لم يترك المؤلف أي تركة.

قلت: ننظر.. لعل النسخ متقاربة.. وأن التفاوت بينها لا يعدو التفاوت بين كلمات وحروف.. وحينها أنصحهم أن يضعوا في الهوامش ما يضعه المحققون.. فيختارون من كل نسخة ما يتناسب مع المعنى المراد.. وبذلك يرضى الجميع.

قال: فإن كان الاختلاف شديدا.. بحيث يشمل فصولا كاملة، ومباحث تامة..

قلت: حينها أؤكد جازما أن هناك إضافات في بعض النسخ، أو نقصا في بعضها.

قال: فكيف تعرف الحقيقة من الزور، والحق من الباطل؟

قلت: لا يمكن ذلك.. سيبقى الشك لا محالة.. لقد أخبرتني عن غياب المؤلف.. وعن غياب النسخة الأصلية.

قال: فكذلك الكتاب المقدس الذي تتناقلون نسخه.. لابد أن يكون بعضكم مصيبا، وبعضكم مخطئا.. ولا يمكن للمصيب أن يتيقن دلائل إصابته، ولا يمكن للمخطئ أن يجزم بخطئه.

صمت، فقال:: نكتفي بهذا.. فالأمثلة عن هذا أكثر من أن نعدها.. ولننتقل إلى تحريف آخر لا يقل خطرا.. بل هو أخطر التحريفات.

قلت: تقصد الترجمات؟

قال: أجل..

قلت: وما وجه الخطورة فيها.. أليست الكلمات المقدسة كلام الله.. وكلام الله ينبغي أن يسمعه العالم، جميع العالم، بلغاته المختلفة؟

قال: أجل.. ولكن يسمعون كلام الله المقدسة، لا كلمات المترجمين المختلطة بأهوائهم.

قلت: هذا كلام عام.. لا يقبله أي قاض في الدنيا.

قال: فاسمح لي سيادة القاضي أن أذكر لك من الأدلة ما يدين هؤلاء المجرمين الذين راحوا يتلاعبون بكلام الله المقدس.

إنهم ـ سيادة القاضي ـ يغيرون معنى الكلمات، ويقلبونها قلباً حتى لا تؤدي معناها.

إنهم يضعون ترجمات لكلمات غير موجودة، ويتركون كلمات بلا ترجمة.. ثم هم يترجمون كلمات بغير معناها.

قلت: هذا مثل ذاك.. البينة هي الحكم الذي يحكم بين الخصوم.

قال: لدي بينات كثيرة.. اسمع ما يقول (مزمور: 84 /6):( عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعا أيضا ببركات يغطون مورة ) هذا هو النص الذي ترجموه إلى العربية.

أما أصله الذي ترجم منه.. أي الإنجليزية.. فهو هذا:

Psalms:84:6: Who passing through the valley of Baca make it a well; the rain also filleth the pools.

قلت: فما الفرق بين الأصل والترجمة؟

قال: الفرق واضح جدا ـ سيادة القاضي ـ.. إنه فرق يغير الحقيقة تغييرا تاما.

قلت: ما تقصد؟

قال: لقد جاء لفظ Baca  في النسخة الإنجليزية ـ وهو اسم علم، وليس له أي معنى في اللغة الإنجليزية ـ

قلت: سمعت ذلك.

قال: لكن المترجمين عندما ترجموه إلى العربية تعمدوا أن يحولوا كلمة Baca في الإنجليزية إلي العربية، فترجموها وادي البكاء، حتى تكون بعيده تماما عن معناها الأصلي وادي بكة (בְּעֵמֶק הַבָּכָא)، والتي تقرأ (بعيمق هبكا)، فترجمها المترجمون إلى العربية إلى وادي البكاء، وترجمتها نسخة الرهبانية اليسوعية إلى (وادي البَلَسان)

قلت: سمعت هذا.. ولكن ما الفرق بين الاسمين.. فسواء سميناها وادي بكة، أو سميناها وادي البكاء.. لا تضر التسمية.

قال: أرأيت لو وضعنا على جميع مسرحيات (شكسبير) المترجمة إلى العربية اسم (الشيخ زبير)([16]) حتى توهم جميع العرب أن هذه الروايات من كتابة الشيخ زبير، لا من كتابة شكسبير.. هل يقبل ذلك ورثة شكسبير؟

قلت: لا.. لا يقبله ورثة شيكسبير.. ولا غيرهم..

قال: فهكذا فعل قومك مع وادي بكة.. لقد رأوا قرآن المسلمين يسمي مكة التي ولد فيها محمد بكة([17])، وهو اسم قديم لها، فخشوا أن يتسرب إلى الناس اسم محمد عبر اسم بكة، فراحوا يحرفون، ثم يسمون التحريف ترجمة.

لم أدر بما أجيبه به.. فقال: ومثل ذلك ما ورد في (التثنية: 33 /2)، فقد جاء فيها:(  جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبال فاران وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم )

هذا هو النص العربي.. أما النص الإنجليزي، فهو:

And he said، The Lord came from Sinai، and rose up from Seir unto them; he shined forth from mount Paran، and he came with ten thousands of saints: from his right hand went a fiery law for them.  (KJV)

أجبني ـ حضرة القاضي ـ أين ذهبت ترجمة هذه الجملة:

and he came with ten thousands of saints([18]) ..

إننا لا نجدها في النص العربي.

أتدري ما سبب ذلك.. إن هذا النص قد يشير إلى محمد.. فلذلك تعمدوا عدم ترجمته.. إنها نبوءة صريحة عن فتح مكة التي دخلها محمد، ومعه عشرة آلاف مقاتل([19]).

صمت، فقال:: نكتفي بهذا.. هذه مجرد أمثلة.. ولننتقل إلى تحريف آخر لا يقل خطرا.. وهو في نفس الوقت تحريف متطور.

قلت: تريد اختلاف الطبعات؟

قال: أجل.. فأنتم تقومون بتحديث كتابكم المقدسة كل حين ليتناسب مع التطورات المختلفة.. أليس كذلك؟

صمت، فقال: نعم ـ حضرة القاضي ـ أنت لا تكتفي بالتهمة العارية عن الدليل.. ولذلك سأذكر لك الأدلة الكثيرة التي تطمئنك إلى الحكم الذي يرضي عدالتك.

لقد ورد في (خروج 32عدد 28):( قتل بنى لاوى من عبدة العجل 3000 رجل)، بينما نرى هذ النص في طبعة 1844:( قتلوا 23000 رجل ) ، فلماذ تم تغييرها فى طبعة 1844 وما بعدها؟

هل أخطأ الرب فى الرقم الأول، أم فى الرقم الثانى؟

قلت: هذا خطا مطبعي.. الأخطاء المطبعية ممكنة.

قال: لا بأس.. يمكن أن يكون ذلك خطأ مطبعيا.. ولكن ما تقول فيما ورد في (صموئيل الأول 6عدد 19 ):( وَضَرَبَ أَهْلَ بَيْتَشَمْسَ لأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى تَابُوتِ الرَّبِّ. وَضَرَبَ مِنَ الشَّعْبِ خَمْسِينَ أَلْفَ رَجُلٍ وَسَبْعِينَ رَجُلاً )

لقد أصبح هذا العدد الضخم في طبعات الكتاب المقدس الإنجليزية والفرنسية والألمانية (70) رجلاً فقط.

فمن الذى أعطى لنفسه هذا الحق لتغيير كلمة الرب؟.. أتدري لم فعلوا ذلك؟

صمت، فقال: لقد خافوا أن يتشوه الرب في أذهان القارئين، فراحوا يكذبون عليه لينفوا عنه التهمة.

قلت: هذه أشياء لا علاقة لها بالرحمة وغيرها.. بل هي أخطاء فردية أكثرها مطبعي.

قال: لا بأس.. سأذكر لك بعض النصوص لاثبات التبديل.. ولدي هنا نسختان: نسخة حديثة هي من كتاب الحياة للعهد الجديد، لدي منها الطبعة السادسة عشر.

ولدي في نفس الوقت نسخة الملك جيمس الانجليزية المعروفة، ولدي معها ما يدعمها من الطبعة الامريكية القياسية.

هيا.. لنحاول المقارنة بين هذه الطبعات:

ولنبدأ برسالة يوحنا الاولى الاصحاح الخامس العدد 7.. اسمع ما تقول النسخة العربية الحديثة:( فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد )

هذا النص يختفى تماما من النسخة الامريكية القياسية .. انظر.

نظرت، فرأيت النص موضوعا بين قوسين.. لقد وضعت الجملة (فى السماء الاب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد) بين قوسين.

قلت: أنت ترى أن هذه الجملة قد وضعت بين قوسين.. وهم قد نبهوا في أول الكتاب إلى أن ما يوضع بين القوسين غير موجود بالأصل.

قال: وهل ترى القارئ متفرغا لقراءة تنبيهاتهم.. بل اصبر.. يوشك أن ينتزعوا القوسين ليصبح الدخيل أصلا.

ومن ذلك ما ورد في (يوحنا: 17 /3):( وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته )

هذا هو نص النسخة العربية الحديثة، أما النسخة الأصلية، فقد ورد فيها النص هكذا:

And this is life eternal، that they might know thee the only true God، and Jesus Christ، whom thou hast sent.

أتدري.. لم غيروا هذا النص؟

قلت: لا..

قال: لقد رأوا المسلمين يستخدمون هذا العدد ليستدلوا به على أن الله واحد، وأن المسيح مجرد رسول.. لذلك تم تغييره بهذه الحيلة التي لم تغير المعنى كثيرا، ولكنها أبعدته عن المعنى المراد.

أتكفيك هذه النصوص، أم أزيدك؟

صمت، فقال: أظن أنها تكفي.. فالذي تجرأ على أن يغير نصا واحدا لن يحول أي شيء بينه وبين تغيير غيره.

قلت: بقي تبديل المعاني.. فماذا تريد به؟

قال: لقد أشار إلى هذا التحريف الخطير قرآن المسلمين، فقد ورد فيه:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(المائدة:64)

قلت: فما تشير هذه الآية؟

قال: تشير إلى عادة في اليهود نص عليها ما ورد في الآية الأخرى:{ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}(البقرة:58)

قلت: فما معنى هذا؟

قال: لقد فسر محمد هذا، فقال: ( قيل لبني إسرائيل:{ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ (البقرة: 58)، فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدّلوا وقالوا: حطة: حبة في شعرة )([20])  

قلت: ما معنى ذلك؟

قال: لقد أمروا بالتواضع عند دخولهم إلى بيت المقدس، فراحوا يتلاعبون ويستكبرون على بلاد الله وشعوب الله.. كما تراهم يفعلون الآن.

قلت: وما علاقة ذلك بالتبديل؟

قال: هذا أخطر تبديل.. أن تبدل صفات الله، ويبدل شرع الله.

فهم قد بدلوا الصفات، فجعلوا الله الكريم شحيحا صاحب يد مقبوضة.

وحولوا أوامر الله إلى طقوس لا أرواح لها، وإلى حركات لا مقاصد من خلفها.

قلت: هذا على حسب كتاب المسلمين.

قال: لا.. بل هذا على حسب كتابنا المقدس.. ألا ترى تلك الأوصاف التي ألصقناها بالله، والتي تقشعر من هولها القلوب.

أدركت ما يرمي إليه، فسكت، فقال: لا تخف.. لن أذكر لك ما ورد في الكتاب المقدس من نصوص في هذا.. ولعلك ستجد من يحدثك عنها..

ولكني سأذكر لك مثالا واحدا فقط ليكون لك مجرد دليل.. لقد جاء في سفر ميخا ( 1: 8 ) هذا الحديث عن الله:( لِهَذَا أَنُوحُ وَأُوَلْوِلُ وَأَمْشِي حَافِياً عُرْيَاناً، وَأُعْوِلُ كَبَنَاتِ آوَى، وَأَنْتَحِبُ كَالنَّعَامِ )

أما في الشريعة، فاسمع هذه العنصرية التي تفوح من الكتاب المقدس:( لِلأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِباً وَلكِنْ لأَخِيكَ لا تُقْرِضْ بِرِباً لِيُبَارِكَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ فِي كُلِّ مَا تَمْتَدُّ إِليْهِ يَدُكَ فِي الأَرْضِ التِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِليْهَا لِتَمْتَلِكَهَا)( تثنية 23: 20)

حفظ القرآن الكريم

قلت: لقد عرفنا الشكوك التي يمكن توجيهها لكثير من أسفار الكتاب المقدس.. فلنتحدث عن قرآن المسلمين.. هل ترى أنه ظل محفوظا مثل ما نطق به محمد.. لم يزيدوا حرفا واحدا.. ولم ينقصوا حرفا واحدا.. ولم  يبدلوا شيئا، ولم يغيروا.

قال: لقد بحثت في هذا بحثا مضنيا.. بل لدي ركن من المكتبة خاص بذلك.. جمعت فيه النسخ والأسانيد.. وقد خرجت بنتيجة قد لا تعجبك.

قلت: ما هي؟

قال: إن كتاب المسلمين هو الكتاب الوحيد الذي حفظ.. فلم يزد فيه حرف واحد، ولم ينقص منه حرف واحد، ولم تزده الأيام إلا ثبوتا ورسوخا.

أشار إلى مصحف، وقال: كل ما هو بين دفتي هذا المصحف مما أخبر محمد أنه نزل عليه.

قلت: إن هذا كلام مجمل يحتاج إلى توثيق وأدلة.. ألا تعلم أن لي عقل قاض؟

قال: وأنا جاهز لذلك ـ حضرة القاضي ـ

قلت: ما هي أصناف الأدلة التي يمكن أن تستدل بها لكتاب وجد منذ أكثر من أربعة عشر قرنا.. هل سنبدأ الحكاية من أولها كما فعلنا مع الكتاب المقدس؟

قال: أجل.. لا مناص لمن يريد أن يبحث في التوثيق أن يبدأ السند من أوله.

قلت: فما أول السند؟

قال: هو محمد.. أليس محمدا هو الذي أخبر بأن هذا القرآن هو كلام الله الذي أوحى به إليه؟

قلت: بلى.. لا شك في ذلك.. وهذا مما يعلمه العالم أجمع.

قال: وهذا يحوجنا أن نتأكد من أن محمدا قد ألقى إلى أصحابه كل ما أوحي إليه، وأنه لم يمت حتى ترك كتابه في أيد أمينة.

قلت: ذلك صحيح.. وهو نفس ما فعله موسى.. فقد ترك التوراة عند بني هارون.

قال: ولكن هناك فرق كبير بين الأمرين.

قلت: فيم؟

قال: لقد ترك موسى الألواح عند سبط واحد من أسباط بني إسرائيل.. لكن محمدا ترك القرآن عند الجماهير من الناس من العرب والعجم.

والفرق الثاني، أن أصحاب موسى لم يحفظوا عن ظهر قلب كتابهم، بينما أصحاب محمد حفظوه.

قلت: أتقصد أن كتاب المسلمين محفوظ في الصدور، ومحفوظ في السطور؟

قال: أجل.. وقد حفظ بهذا الأسلوب في كل فترات التاريخ بدءا من عهد محمد.. ولذلك ذكرت لك أنه ليس هناك كتاب مقدس في الدنيا أوثق من كتاب محمد.

قلت: هذا الكلام مجمل.. وهو يحتاج إلى أدلة كثيرة جدا.

قال: الأدلة أكثر مما تتصور.. فلندخل البيوت من أبوابها.. ولنبدأ بعهد محمد.

قلت: ولنبدأ بما ذكرت من حفظ الصدور.

قال: أول شيء قد لا تحتاج له الآن.. أو قد لا تؤمن به الآن.. هو أن تعلم بأن محمدا حفظ كل ما أوحي إليه.

قلت: هذا يلزمني بأن أؤمن بأنه أوحي إليه فعلا، وأنا لا أؤمن بذلك.. وأنت تشاركني في ذلك.

قال: لست أدري.. هل أشاركك في ذلك، أم لا أشاركك؟.. أنا أشعر بأن كل ما يقوله صحيح.. فمحال على تلك الشمس العظيمة أن تكذب.

قلت: فما الذي يحول بينك وبينها؟

قال: نفسي.. وأخي التوأم.. وأشياء كثيرة لا يمكنني أن أذكرها لك الآن.. ولكنه مهما كثرت هذه الحجب التي تحول بيني وبين محمد.. فليس من بينها العقل.. العقل وحده يقف في معارضة كل هذه الحجب.

قال ذلك بنبرة حزينة تخفي آلاما لست أدري سرها.

قلت: لا عليك.. حدثني عما يراه عقلك.. ودعنا من نفسك.

قال، وكأنه لم يسمع ما قلت له: أتدري.. إني أقرأ آية من القرآن، فأجدها تنطبق علي تماما.. لست أدري.. هل أنا هو المقصود منها، أم المقصود منها غيري.. لقد ورد في كتاب المسلمين:{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} (النمل: 14)

إن هذه الآية تصور نفسي.. فهي مستيقنة بالحقيقة التي تنتشر أشعتها، كما تنتشر أشعة الشمس.. ولكني في نفس الوقت لا أستطيع أن أنطق بالحقيقة التي يمتلئ بها قلبي وعقلي ووجداني..

قلت: دعنا من هذا.. ولنعد إلى ما كنا فيه.

قال: لقد علمت ـ من خلال القرآن ـ أن محمدا بلغ كل ما أنزل إليه من ربه.. لم ينس حرفا واحدا([21])..

قلت: ولكن القرآن الكريم أخبر بأن محمدا ينسى.. ألم تقرأ ما ورد فيه:{ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ}  (الأعلى:6 ـ 7)، فهذه الآية، والتي تليها، تدل ـ بطريق الاستثناء ـ على أن محمدًا قد أُنسي آيات لم يجد من يذكره إياها.. اقرأ الآيتين جيدا.. ألا تراها تدل على جواز النسيان على محمد؟

قال: إن ما ذكرته من الآية لا يدل على جواز نسيان محمد القرآن.. بل معنى الآية:( سنعلمك القرآن، فلا تنساه )، فهي تدل على عكس ما أوردته من الاستدلال.

قلت: والاستثناء!؟.. إنه محل الدليل.

قال: لقد ورد الاستثناء في الآية معلقا على مشيئة الله، وقد ورد في النصوص ما يبين أن رب محمد شاء أن يجمع قرآنه وبحفظه.. لقد ورد في القرآن ما يثبت هذا، لقد جاء فيه:{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}(القيامة:17)، وورد فيه:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر:9)

ألا ترى أن هناك تناقضا لو قلنا بأن محمد نسي بعض ما أوحي إليه من ربه وهذه الآيات؟

ألا ترى أن هناك تناقضا بين دعوى النسيان، وبين ما ورد من النصوص التي تخبر بأن محمدا قد كمل دينه وتمت نعمة ربه على أمته، ألم تقرأ تلك الآية التي لا نجد مثلها في كتبنا:{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً }(المائدة: 3)؟

قلت: وما تقول في الاستثناء؟.. أراك تتهرب منه.

قال:  إن من خصائص القرآن الكبرى ربانيته، فهو يدل على الله في كل آية، بل في كل لفظة، ويعرف بالله في كل محل حتى لا تنتشر الغفلة في النفوس.

قلت: وما علاقة ذلك بهذا المحل؟

قال: لو ذكر القرآن أن محمدا لن ينسى، ثم لم يستثن بذكر الله، فقد يتصور من يتصور من أن محمدا لن ينسى، لأن له من الذاكرة ما يجعله كذلك.. ولكن الاستثناء ربط ذاكرة محمد بمشيئة الله وقوة الله.. وهو بذلك يجعل له من المدد ما يظل يفتقر إليه لو لم يذكر الاستثناء.

ربما لن تفهم ما أقصد الآن.. سأوضح لك أكثر.. لو قال الاستاذ لتلميذه النجيب الحافظ:( لن تنجح إلا أن أشاء أنا ).. فما نسبة احتمال نجاح هذا التلميذ النجيب، بعد ما قال له أستاذه هذا؟

قلت: تبقى ثابتة.. سينجح هذا التلميذ لا محالة ما دام بالصفة التي ذكرت.

قال: ولكن المعلم ذكر أنه لن ينجح إلا بمشيئته.

قلت: ربما يقصد المعلم هنا أن يبين فضله على تلميذه.. وأنا نجابة تلميذه وحدها لا تكفي لنجاحه، بل يحتاج معها إلى رضى أستاذه عنه.

قال: فطبق هذا المثال على ما ذكرت من النص.. ففيه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي.

قلت: ولكن مع ذلك لا يمكن أن نثق  في الذاكرة مهما قويت.

قال: وهكذا فعل محمد.. لقد كان حريصا على كلام ربه حرصا لا يمكن تصوره.. وقد ذكر القرآن هذا، فهو يصف هذا الحرص بقوله:{ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا }(طه: 114 )، ويقول:{ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}(القيامة:16)

قلت: عرفت حرص محمد على حفظ كتابه، فهو كتابه الذي رفع ذكره، وأعلى شأنه.. ولكن من الذي يضمن لنا صدق حفظ أتباعه لهذا الكتاب.. وليس لهم من المصالح ما لمحمد.

قال: لقد جعل القرآن ومحمد في أذهان المؤمنين وهممهم ما يدعوهم إلى حفظ الكتاب الذي جاء به..

لقد ورد في القرآن أن هذا الكتاب منزل عليهم ولهم.. هو رسالة من الله ليسمعوها ويعوها ويحفظوها.. وقد كان ذلك وحده كافيا ليملأ وعيهم بمفرداته وتراكيبه.. إن القرآن يقول للناس الذين أرسل إليهم محمد:{ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}(الانبياء:10).. فهو كتاب ذكرهم وشرفهم.. وهل يمكن لعاقل أن ينسى الكتاب الذي يشرفه هذا التشريف!؟

ولهذا كان أتباع محمد يمتلئون سرورا بالقرآن الذي ينزل.. لقد كانوا يشعرون بأن الله يكلمهم.. لقد ورد هذا في القرآن، فهو يصف هذه الحالة النفسية وصفا دقيقا، فيقول:{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(التوبة:124)، ويقول:{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى }( فصلت:44)، ويقول:{ وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا}(الإسراء: 82)، ويقول:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(لأنفال:2)

إن هذه الآيات تصف المؤمنين، وهم يتسابقون لحفظ كتاب ربهم، وهم مستبشرون بما أنزل عليهم، يبشر بعضهم بعضا به.. فهل ترى مثل هؤلاء سينسون ما أنزل إليهم؟

لقد كان الوحي هو الروح التي أحيت العرب وغيرهم من الأجناس.. أو كان هو المطر الذي نزل على صحرائهم الميتة.. وهل يمكن للبدوي أن ينسى الغيث الذي يأتيه بعد اليأس، أو الحياة التي تأتيه بعد الموت!؟

نظر إلي، فرآني ساكتا، فقال: لقد كان من أهم مزايا حفظ القرآن أن محمدا كان في بيئة لم يكن فيها رجال دين.. كان كل من حوله عبيدا أو تجارا أو عمالا بسطاء.. لقد كانت قلوبهم كالصفحات البيضاء التي تحفظ ما سجل عليها نقيا صافيا، فلا تتصرف فيه، ولا تعبث به.

ولم يكتف محمد بهذه الأحوال النفسية الجميلة التي كان يعيشها أصحابه، وهم يسمعون القرآن، بل كان يزيد في ترغيبهم في فضل حفظه ووعيه وتدبره.. ليضمن أعظم حفظ له.

لقد كان يقول لهم:( مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ القرآن، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران )([22]

وكان يقول لهم:( يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ واصعد، فيقرأ، ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر شيء معه )([23]

ويبشرهم بأن حافظ القرآن سيكون شخصية مرموقة في الآخرة، بحيث يشفع في أهله.. لقد قال:( من قرأ القرآن وحفظه أدخله الله الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد استوجب النار)([24]

بل يكرم والداه، وتعلو منزلتهما، لقد قال:(  من قرأ القرآن، وعمل بما فيه، ألبس والداه تاجا يوم القيامة، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا – لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟)([25]) .. أتدري ما أثر هذا القول؟

قلت: ما أثره؟

قال: لقد وهب أكثر المسلمين أبناءهم للكتاتيب ليحفظوا القرآن.. ويضمنوا بذلك من الشفعاء ما يقيهم حر جهنم.

ليس ذلك فقط.. بل كان يبشرهم بأن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، فقد قال:( إن لله أهلين من الناس ) قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال:( هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته )([26]

قلت: ولكني مع ذلك قرأت حديثا لبعض أصحاب محمد يخبر فيه أنه لم يحفظ القرآن في عهد النبي إلا أربعة.. فكيف توفق بين ما ذكرت، وهذا الحديث.

قال: أجل.. هذه شبهة يتعلق بها الكثير ليطعنوا في تواتر القرآن.

قلت: ولم لا تسميها دليلا على عدم تواتره؟

قال: لأنها ليست دليلا.. لقد بحثت في هذا بحثا مفصلا.. هذا الحديث رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن، وقد صرح أنس في هذه الرواية بصيغة الحصر، وهو الذي تعلق به من تعلق في إيراد هذه الشبهة.

قلت: ألا تزال تصر على تسميتها شبهة؟

قال: سأسميها كما تشتهي.. ولكن اسمع لي.. نص الحديث هو عن أنس بن مالك الذي هو أحد أصحاب محمد، لقد قال: مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد قال: ونحن ورثناه.

وفي رواية قتادة قال: قلت لأنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت ورجل من الأنصار يكنى أبا زيد )([27]

قلت: هذا الحديث صريح لا يمكن لأحد أن يفر منه.

قال: أرأيت لو روي حديث آخر في قوة هذا الحديث من صحابي آخر، يذكر أن حفظة القرآن في عهد محمد كانوا أربعمائة، أكنت تقبله، أم ترفضه؟

قلت: دعنا من (أرأيت).. نحن الآن أمام حديث صريح.

قال: وهل قال هذا الحديث محمد؟

قلت: لقد قاله بعض أصحابه.

قلت: فماذا ذكر؟

قال: لقد أحصى حفظة القرآن في عهد محمد، فذكر أنهم أربع.

قلت: أرأيت إن جاء صحابي آخر، فأخبر بحفظه للقرآن، أو أخبر بحفظ غير الأربعة للقرآن.. أكنت تصدقه؟.. أم أنك لا تصدق غير أنس؟

لم أدر ما أجيبه به.. فقد كنت أدري ما يرمي إليه، فقال: لا شك أنك ستصدقه، لأنه لا ميزة لأنس تجعله الناطق الرسمي باسم الصحابة.. فكل صحابة محمد يمكنهم أن يعبروا عن آرائهم أو عن إحصائهم.

قلت: أجل.. فهل روي في ذلك شيء يناقض ما قال أنس؟

قال: روي الكثير.. لقد ثبت في الصحيح أنه قُتِل يوم بئر معونة سبعون مِمَّن جمع القرآن([28])، وروي أنه قتل في وقعة اليمامة مثلهم.. هؤلاء فقط من قتلوا.. فكيف بمن لم يقتل.

قلت: وما تقول في حصر أنس للأربعة؟

قال: يمكنك أن تقول الكثير.. من ذلك أن تقول أن الحصر في كلام أنس إضافي، لا حقيقي.. أي أن قول أنس (أَرْبَعَةٌ) لا مفهوم له؛ أي هم أربعة بالإضافة إلى غيرهم.

ويمكنك أن تستدل لذلك باستحالة إحاطة أنس بحال كل الصحابة، وأنَّهم لم يجمعوا القرآن كله..

ويمكنك أن تستدل لذلك باختلاف الرواية عن أنس في تحديد الأربعة، ففي رواية ذكر أبي ومعاذ وزيد وأبو زيد([29])، وفي رواية أخرى أبو الدرداء مكان أبيٍّ([30]).. وهذا دليل على عدم إرادته الحصر الحقيقي، لأنه ليس معقولاً أن يكذب نفسه.

ويمكنك أن تعتبر الحصر حقيقيا.. ولكن لا على أن المراد ما توهمته من الحفظ.. بل على مراد آخر كان الصحابة يعتنون به، كما اعتنى به من بعدهم.

قلت: وماهو؟

قال: الكثير من العلوم المرتبطة بالقرآن.. مثل وجوه القراءات، فيكون المعنى حينئذ:( لم يجمعه على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بِها إلا أولئك )

أو أن يكون المراد بجمعه تلَقِّيهِ من فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير واسطة، بخلاف غيرهم، الذين يحتمل أن يكونوا قد تلقوا بعضه بالواسطة.

ومع كل ما ذكرته لك من أدلة إلا أن حديث أنس لو اعتبرناه بالمعنى الذي ذكرت من الحصر، فإنه لا يدل على انتفاء التواتر.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لأن كل جزء منه حفظ من خلائق لا يحصون، يحصل التواتر ببعضهم، وليس من شرط التواتر أن ينقل جميعُهم جميعَه، بل إذا نقل كل جزء عدد التواتر صارت الجملة متواترة بلا شك، ولا أظنك تخالفني في ذلك([31]).

قلت: ما الذي تقصد؟

قال: أرأيت لو أن جميع وكالات الأنباء أوردت خبرا، بعضهم فصل فيه، وبعضهم قصر، ولكن كل جزء من أجزاء الخبر اتفق على ذكره الكثير.. أكنت تنكر الخبر.. لكون بعضهم لم يذكر الخبر كاملا؟

قلت: لا.. لا يمكنني ذلك.. وإلا أغلقت أي وكالة أنباء لتعطي المبرر لسائر الوكالات لتكذيب الخبر.

قال: فهكذا الأمر.. لو فرضنا الأمر على ما قصدت.

قلت: هناك شيء آخر قد يكون محل شبهة.

قال: ما هو؟

قلت: لقد رأيت دوران أسانيد القراء على ثمانية من الصحابة فقط دون غيرهم.. أليس ذلك قادحا في التواتر؟

قال: ألستم تجعلون ناسا معينين في مؤتمراتكم توكلونهم بالنطق باسم المؤتمر؟

قلت: أجل.. ولا بد من ذلك.

قال: فلم لم تجعلوا كل واحد من المؤتمرين يتحدث باسم المؤتمر.

قلت: ذلك سيكلفهم عنتا.. وسيحتاج الصحفيون حينها لاستجواب الجميع.

قال: فهكذا الأمر في هذه المسألة.. لقد حفظ الكثير من الصحابة القرآن.. ولكن أسانيد التابعين توقفت على هؤلاء الثماني، لا لعدم وجود غيرهم.. بل لكون هؤلاء قد تفرغوا للقرآن وتعليمه وتصحيح القراءات، كما تفرغ الناطقون في المؤتمرات.

قلت: فلم اكتفوا بالثماني؟

قال: أرأيت لو صارت الأسانيد ألفا.. من يحفظها.. ومن يهتم لها.. ألا تعلم أن التواتر لا يحتاج إلى تكلف البحث عن الأسانيد؟

قلت: ماذا تقصد؟

قال: عندما يأتيك الخبر من كم كبير من الناس، فإنك لا تهتم بدرجاتهم، ولا التفاصيل المرتبطة بهم، فالناس في العادة لا يجتمعون على الكذب، بل لا يقدرون على الاجتماع على الكذب.

قلت: كيف لا يقدرون؟

قال: هل يمكن أن تتصور ناسا مختلفين، من بلاد مختلفة، لا علاقات تربطهم، ولا مصالح تجذبهم.. ثم يتفقون بعد ذلك على رواية قصيدة ألقاها شاعر في حفلة من الحفلات.. فيأتون بها بحروفها وكلماتها.. أيظل عندك بعد ذلك شك في القصيدة، وفي الشاعر الذي قالها؟

قلت: لا..

قال: فقد نقل القرآن جيوش من الناس عن جيوش من الناس.. كلهم يحفظه حرفا حرفا، وكلمة كلمة.. فكيف نتهمهم بالتضييع، مع أنه الكتاب الذي أخرجهم من البداوة إلى الحضارة، ومن الخمول إلى الشهرة، ومن الذل إلى العزة، ومن الظلمات إلى النور.

لقد كان القرآن هو الدرة اليتيمة التي أخرجتهم من الهاوية التي كانوا يحبسون فيها.. أفترى من تكون له مثل هذه الدرة يفرط في حفظها، أو يتهاون في نقلها؟

قلت: عرفت كيف حفظ القرآن في الصدور.. وأنا أعلم الذاكرة القوية التي يتمتع بها البدو.. لكأن ذاكرتهم مسجلة تسجل كل شيء، ولا يغيب عنها أي شيء.. فحدثني كيف حفظ القرآن في السطور مع كونه كان في هذه البيئة التي تعتمد على الذاكرة أكثر من اعتمادها على التوثيق؟

قال: صدقت في هذا.. فقد كانت بيئة محمد تعتمد على توثيق الصدور أكثر من اعتمادها على توثيق السطور.. وهي ناحية مهمة ساهمت في حفظ القرآن.

قلت: كيف ذلك؟

قال: توثيق السطور قد يصبح هدفا للكتبة الكذبة.. فقد تتاح لهم من الفرص ما يملأون كتبهم بالكذب.

قلت: وحفظ الصدور؟

قال: حاول أن تخطئ أي عامي يحفظ القرآن في حرف واحد منه.. لقد رأيت عالما يحاول مثل هذا مع صبي صغير، فلم يفلح.. حرف واحد لم يستطع أن يضيفه.

لقد ذكرني ذلك بحديث قاله محمد يَحكيه عن ربه:( إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان )([32])، فأخبر أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة قد يصيبها الماء، فيذهب ما فيها من العلم.

وعامل آخر جعل من هذا النوع من الحفظ أهم من حفظ السطور هو الحفاظ على القرآن غضا طريا باللغة التي كان ينطق بها محمد.. وهو ما لم يتحقق في أي كتاب مقدس.. أليس كذلك؟

صمت، فقال: بلى.. فأكثر كتبنا منقولة عن العبرية إلى اليونانية، ثم نحن لا نقرؤها باليونانية، بل نقرؤها بلغاتنا المحلية.

قلت: ولكن ـ مع ذلك ـ فإن لحفظ السطور أهميته، فكيف تسنى لمحمد أن يحفظ كتابه بهذا الأسلوب في تلك البيئة البدوية الأمية؟

قال: نعم هي بيئة بدوية أمية.. ولكن مع ذلك كان فيها كتبة يكتبون، وكان للعربية حروف جميلة تكتب بها.. وكان لهم مقاييس في الكتابة يخضعون لها.

لقد ذكر القرآن الكتابة، ونوه بها، ودعا لاستعمالها في التوثيق، فهو يقول:{ نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}(القلم:1) ففي هذه الآية قسم بالقلم الذي يكتب به، وبالسطور التي تكتب، والقسم لا يكون إلا بمحترم.

وهو يدعو إلى التوثيق بالكتابة في أطول آية قرآنية جاء فيها:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ }(البقرة: 282) إني أقرأ هذه الآية، فأجد فيها من الأعماق ما لا أستطيع التعبير عنه.. إنها لا تتحدث عن الدين فقط.. بل هي قانون حضاري رفيع.. انظر جيدا كم فيها من تنويه بالكتابة وبالكتبة.

قلت: حدثني عن كتابة القرآن لا عن كتابة الدين.

قال: أترى الذي أمر بكتابة ديون قد لا تضر ولا تنفع يغفل عن الأمر بكتابة القرآن.. لقد كان القرآن أهم عندهم من أنفسهم وأموالهم، فكيف تتصور غفلتهم عن كتابته؟

قلت: عرفت حرص أصحاب محمد على حفظ كتابهم.. ولا يستغرب منهم ذلك، فقد عاشوا مع محمد، وسمعوا منه، بل حفظوا القرآن على يديه.. ولكن الشك يعتري سائر الأجيال التي لم تسمع، ولم تحفظ، ولم يكن لها من الهمم ما كان لأصحابه؟

قال: لا.. بل سمعت، وحفظت، وكان لها من الهمم ما لا يقل عن همم أصحابه.. فلذلك لم تزد الأيام القرآن إلا رسوخا.. لقد انبرى كل صحابي حافظ يعلم أهله وجيرانه وأهل محلته، فصار الحفاظ بالآلاف.. بل صاروا على مدى العصور لا يعدون ولا يحصون..

قلت: أعلم ذلك.. ولكني سأورد عليك شبهة خطيرة لم يقلها المبشرون، ولا المستشرقون.. بل ولا المستغربون.

قال: تقصد ما يقوله المتطرفون من المسلمين([33]) أولئك الذين يشهرون سيوف التكفير على إخوانهم.

قلت: لا يهمني من هم، ولكنهم يذكرون أن الشيعة ـ تلك الطائفة الكبيرة من طوائف المسلمين ـ تنص على تحريف القرآن.

قال: لقد قرأت ذلك، وبحثت فيه، فوجدته لا يعدو ما ذكرناه سابقا.. هي مجرد نصوص ضعيفة تعلق بها البعض ليواجهوا التواتر الذي اتفق جميع المسلمون عليه.

قلت: ولكن هذا التواتر تخرقه هذه الطائفة الكبيرة.

قال: لقد عشت عمرا بين الشيعة في ديارهم، ولم أسمعهم يرددون أي قرآن غير هذا القرآن الذي تراه.. هم يحفظونه كما يحفظه إخوانهم، ويفسرونه كما يفسرونه، ويهتمون بترتيله وإقامة المجالس لذلك، سواء بسواء.. فكيف نترك ما علم لما جهل؟.. وكيف نترك التواتر لأجل آحاد ضعيفة لا يمكنها أن تقاوم آحادا صحيحة، فكيف تقاوم التواتر؟

قلت: وتلك الرواية التي استفاضت.. ألا يمكن أن تعتبر موقفا؟

قال: لقد روي مثلها عند إخوانهم من أهل السنة.. وكلا الفريقين يرون ضعف ما روي، ويتبرؤون منه.

ومن الروايات الواردة في كتب أهل السنة ما وري عن عائشة أنها قالت: (كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن )([34]

ومنها ما روي عن عبد الله بن عمر: (لا يقولن أحدكم قد أخذت من القرآن كله، وما يدريه ما كله؟ قد ذهب منه قرآن كثير )([35])

ومنها ما روي عن عائشة قالت: ( لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ولقد كانت في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتشاغلنا بموته دخل الداجن فأكلها)([36])

ومنها ما روي أن عمر قال لعبد الرحمن بن عوف: (لم تجد فيما أنزل علينا (أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة) فأنا لا نجدها؟ قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن )([37])

ومنها ما روي عن حذيفة قال: (قرأت سورة الأحزاب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسيت منها سبعين آية ما وجدتها)([38])

ومنها ما روي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ الآية هكذا:( كفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب)([39])

قلت: لقد أضفت إلى الشبهة أدلة أخرى.. فالفريقان إذن متفقان على تحريف القرآن؟

قال: لا.. بل الفريقان متفقان على سلامة القرآن من التحريف.. وإنما أوردت لك هذه النصوص عن أهل السنة، لترد بها على المتطرفين الذين يريدون أن يسنوا بالمسلمين سنة أقوامنا الذين اختلفوا في الكتاب المقدس.

قلت: لقد علمت إجماع أهل السنة على سلامة القرآن من التحريف.. ولكني لم أعرف موقف الشيعة.

قال: أول ما يدلك على تهافت هذا القول هو تبرؤ العلماء العدول من الفريقين منه، فقد ذكر علماء الشيعة المعتبرين الذين هم مراجع الشيعة الكبار إجماع علماء الشيعة على صيانة القرآن من التحريف بالزيادة، والنقصان، والتغيير، والتبديل، ولم يخالف هذا الإجماع إلا أفراد قلائل لا يعتدُ بقولهم.

وهم يردون ما ورد من ذلك ردا شديدا.. فهي عندهم روايات ضعاف رويت في كتبهم، كما رويت مثلها في كتب السنة.

ولهذا اشتدوا على من جمع مثل هذا، أو اهتم به كما هو الحال في موقفهم من كتاب: فصل الخطاب للنوري، وقد جمعت الكثير من آراء علماء الشيعة ابتداءً بالقرن الرابع الهجري، وانتهاءً بهذا القرن، والتي تدل على أن هذه فرية لا أساس لها من الصحة، وسأقرأ لك مما جمعته ما يدل على مدى الكذب الذي يقع فيه هؤلاء المتطرفون ليفرقوا به وحدة أمتهم.

 نهض، وأخذ أوراقا متفرقة في ركن من أركان المكتبة، ثم قال: اسمع ما يقول العدول من علماء الشيعة على مر العصور … ثم راح يقرأ: قال الصدوق (م 381 هـ): (قال جماعة من أهل الإمامة إنه لم ينقص منه كلمة، ولا آية، ولا سورة، ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله؛ وذلك كان ثابتا منزلاً، وان لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمى تأويل القرآن قرآناً )([40])

فقد وضح الصدوق علة ما ورد من نصوص في حال صحتها، وهي بذلك لا تعدو ما ورد عن السنة من تفسير مثل هذا بأن المراد منه التفسير لا الحقيقة.

وقال السيد المرتضى (م 436 هـ): (إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه في ذلك الزمان حتى عين النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جماعة من الصحابة حفظهم له، وكان يعرض على النبي، ويتلى عليه، وان جماعة من الصحابة مثل: عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وغيرهما ختموا القرآن على النبي عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور، ولامبثوث، وأن من خالف من الامامية والحشوية لا يعتد بخلافهم)([41])

وقال الطوسي (461 هـ): (وأما الكلام في زيادته، ونقصانه، فمما لا يليق به، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، وأما النقصان منه فالظاهر أيضاً من مذاهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى رضي الله عنه، وهو الظاهر من الروايات.. غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد، ولا يستوجب علماً، فالأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها)([42])

وقال ابن طاووس (644هـ): (كان القرآن مصونا من الزيادة، والنقصان كما يقتضيه العقل، والشرع.. وإن رأي الامامية هو عدم التحريف)([43])

وقال العلامة الحلي (م 726 هـ): (الحق إنه لا تبديل، ولا تأخير، ولا تقديم فيه، وإنه لم يزد، ولم ينقص، ونعوذ بالله تعالى من أن يعتقد مثل ذلك، وأمثال ذلك فإنه يوجب التطرق إلى معجزة الرسول عليه وآله السلام المنقولة بالتواتر)([44])

وقال زين الدين العاملي (م 877 هـ): (علم بالضرورة تواتر القرى، بجملته، وتفاصيله، وكان التشديد في حفظه أتم، حتى تنازعوا في أسماء السور، والتفسيرات، وإنّما اشتغل الأكثر عن حفظه بالتفكير في معانيه، وأحكامه، ولو زيد فيه أو نقص لعلمه كل عاقل، وإن لم يحفظه، لمخالفة فصاحته وأسلوبه )([45])

وقال نور الله التستري (م 1019 هـ): (مانسب إلى الشيعة الإمامية من القول بالتحريف ليس مما قاله جهور الإمامية، وإنما قاله شرذمة قليلة لا اعتداد بهم في جماعة الشيعة)([46])

وقال الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين الحارثي العاملي (م 1030هـ): (والصحيح أن القرآن العظيم محفوظ من التحريف، زيادة كانت أو نقصانا بنص آية الحفظ من الذكر الحكيم، وما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم أمير المؤمنين في بعض المواضع، فهو غير معتبر عند العلماء)([47])

وقال الفاضل التوني (1071 هـ): (والمشهور بين علمائنا الأعلام إنه محفوظ ومضبوط كما أُنزل لم يتبدل، ولم يتغير، حفظه الحكيم الخبير)([48])

وقال الفيض الكاشاني (1091 هـ): يرد على روايات التحريف بأنها مخالفة للقرآن: (ويرد على هذا كله إشكال، وهو إنه على هذا التقدير لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن، إذ على هذا يحتمل في كل آية منه أن يكون محرفا، ومغيرا، ويكون على خلاف ما أنزل الله، فلم يبق لنا في القرآن حجة أصلاً، فتنتفي فائدته، وفائدة الأمر باتباعه والوصية بالتمسك به. إن خبر التحريف مخالف لكتاب الله، مكذب له، فيجب رده والحكم بفساده أو تأويله.. ولا يبعد أن يقال: إن بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان ولم يكن من أجزاء القرآن، فيكون التبديل من حيث المعنى، أي حرفوه وغيروا في تفسيره، وتأويله)([49])

وقال محمد بن الحسن الحرّ العاملي (1104 هـ): (إن من تتبع الأخبار، وتفحص التواريخ، والآثار علم علماً قطعياً بأن القرآن قد بلغ أعلى درجات التواتر، وأن آلاف الصحابة كانوا يحفظونه، ويتلونه، وأنه كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله مجموعاً مؤلفاً)([50])

وقال محسن الأعرجي (1227 هـ): (اتفق الكل ؛ لا تمانع بينهم على عدم الزيادة.. والمعروف بين أصحابنا، حتى حكي عليه الإجماع، عدم النقيصة أيضاً )([51])

وقال جعفر كاشف الغطاء (1228 هـ): (لا ريب في أن القرآن محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان، كما دل عليه صريح الفرقان، وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر، وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها)([52])

وقال إبراهيم الكلباسي الاصبهاني (1262 هـ): (إن النقصان في الكتاب مما لا أصل له)([53])

وقال محمد جواد البلاغي (1352: (ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامة المسلمين جيلاً بعد جيل، استمرت مادته، وصورته، وقراءته المتداولة على نحو واحد، فلم يؤثر شيئا على مادته، وصورته..)([54]

وقال محمد حسين كاشف الغطاء (1366هـ): (وإن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه صلى الله عليه وآله للإعجاز والتحدي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام، وإنه لا نقص فيه ولا تحريف، ولا زيادة، والأخبار الواردة من طرقنا، أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملاً)([55])

وقال محسن الأمين العاملي، (1371 هـ): (لا يقول أحد من الإمامية، لا قديماً ولا حديثا: إن القرآن مزيد فيه قليل، أو كثير، بل كلهم متفقون على عدم الزيادة، ومن يعتد بقولهم متفقون على أنه لم ينقص منه، ومن ينسب إليهم خلاف ذلك، فهو كاذب مفتر، متجري على الله ورسوله)([56])

وقال شرف الدين العاملي (1377 هـ): (ومن الأدلة على اعتقاد الإمامية بعدم سقوط شيء من القرآن الكريم: صلاتهم لأنهم يوجبون قراءة سورة كاملة بعد الحمد في الركعة الأولى، والثانية.. وصلاتهم بهذه الكيفية والأحكام دليل ظاهر على اعتقادهم بكون سور القرآن بأجمعها في زمن الرسول صلى الله عليه وآله على ما هي عليه الآن، وإلا لما تسنى لهم هذا القول )([57])

وقال محمد رضا المظفر (1384 هـ): (.. لا يعتريه التبديل، والتغيير والتحريف وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي، ومن أدعى فيه غير ذلك فهو مخترق، أو مغالط أو مشتبه)([58])

وقال محسن الحكيم (1370 هـ): (إن سلف المسلمين كافة، وعلماء الإسلام عامة منذ بدء الإسلام إلى يومنا هذا، يرون أن القرآن في ترتيب سوره، وآياته، هو كما بين أيدينا، ولم يعتقد أحد من السلف في التحريف)([59])

وقال مرتضى المطهري (1399 هـ): (وبما أن المسلمين كانوا قد اعتقدوا بأنه كلام الله وليس كلام البشر، فقد كانوا يقدسونه، ولا يسمحون لأنفسهم أن يتلاعبوا بكلمة، أو حرف منه)([60])

وقال العلامة الطباطبائي (1403 هـ) صاحب الميزان: (القرآن محفوظ بحفظ الله عن كل زيادة، ونقيصة وتغيير في اللفظ، أو في الترتيب يزيله عن الذكرية ويبطل كونه ذكرا لله سبحانه بوجه. فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله بعينه)([61])

وقال السيد الخوئي (1409 هـ)، وهو يورد أجوبة على الأخبار التي يفهم منها القول بالتحريف: (إن الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه قراءة وكتابة، يقف على بطلان تلك المزعومة (التحريف) وما ورد من أخبار إما ضعيف لا يصلح للاستدلال به، أو مجعول تلوح عليه أمارات الجعل، أو غريب يقضي بالعجب، أما الصحيح منها فيرمى إلى مسألة التأويل والتفسير، وإن التحريف إنما حصل في ذلك، لا في لفظه، وعباراته)([62])، ويورد أدلة حفظ القرآن من التحريف اللغوي يقول: (إن حديث تحريف القرآن حديث خرافة، وخيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل)([63])

وقال السيد الگلپايگاني (1414 هـ): (وبعد فالصحيح من مذهبنا إن كتاب الله الكريم الذي بأيدينا بين الدفتين هو ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه من لدن عزيز حكيم، المجموع المرتب في زمانه، وعصره بأمره بلا تحريف وتغيير وزيادة ونقصان، والدليل على ذلك تواتره بين المسلمين كلا وبعضا ترتيبا وقراءة مع توفر الدواعي لهم في حفظه وإبقائه ونقله بلا زيادة ونقيصة)([64])

قلت: ولكن ما تقول في كتاب (فصل الخطاب) الذي يذكر الأدلة الكثيرة على تحريف القرآن؟

قال: لقد وقف علماء الشيعة موقفا متشددا من هذا الكتاب الذي يرجع إليه المتطرفون في إثبات دعاواهم، وألفوا الكتب الكثيرة في ذلك، ومنها كتاب (الرد على فصل الخطاب )، وهو كتاب ضخم، رد فيه على روايات فصل الخطاب واحده واحدة، ونظر فيها واحدا واحدا، وهذا المؤلف معاصر له.

ومنها كتاب (آلاء الرحمن في تفسير القرآن) للشيخ البلاغي الذي هو معاصر للشيخ النوري، فقد رد عليه بشدة.

وقد ذكر الشيخ آقا بزرك الطهراني تلميذ المحدث الميرزا النوري، في كتاب (الذريعة إلى تصانيف الشيعة)، تحت عنوان (فصل الخطاب)، على أن الميرزا النوري لم يكن معتقدا بمضامين هذه الروايات، ولم يكن معتقدا بكون القرآن ناقصا ومحرفا، مع علمه بأحوال أستاذه وبأقواله.

زيادة على هذا، فإنا لو سلمنا أن الشيخ النوري يعتقد بنقصان القرآن، فهو قوله، لا قول الطائفة، وقول الواحد لا ينسب إلى الطائفة.

زيادة على هذا كله لماذا يرجع هؤلاء إلى رأي واحد أو اثنين في إثبات التحريف، ويغفلون عن الجموع الكثيرة التي تنفيه، وتشتد في نفيه.

قلت: إن قومنا لا يكتفون بالكلام النظري، بل هم ينشرون في كتبهم، وفي مواقعهم، وبكل ما لديهم من وسائل الإعلام سورتين من سور القرآن يتصورون أن الشيعة يقولون بقرآنيتهما.

ابتسم، وقال: تقصد سورتا الولاية والنورين.

قلت: أجل.. وإن سمحت لي سأقرأهما عليك لترى مبلغ صدقي.

قال: وتحفظهما أيضا؟

قلت: كيف لا أحفظهما، وهما سلاح من أسلحتنا الحادة التي نشهرها للاستدلال على تحريف القرآن.

ابتسم، وقال: هل تعتبر ذلك النظم الغريب، وذلك الأسلوب الركيك قرآنا.. إن العجز يلوح في ألفاظه وتركيبه وفي كل كلماته..!؟

قلت: نحن لا يهمنا ركاكة ألفاظه، بل يهمنا أنه قيل بقرآنيته.

قال: ومن قال ذلك.. إن ذاكر هذه النصوص وغيرها لا يملك غير مجرد الدعوى العارية من الدليل.. وأنا أتحدى من أتى بهذا أن يذكر إسنادا واحدا لهذه النصوص.. ولو كان إسنادا ضعيفاً.

قلت: صدقتك في هذا.. كما صدقتك في غيره.. ولكن أجبني: هل ترى أن المسلمين سيظلون على هذا الاهتمام بكتابهم؟.. ألا يمكن أن تجرفهم التيارات الحديثة، فيغفلون عن كتابهم.. ويأتي من يدس فيه بعد ذلك ما يشاء؟

قال: لقد وجدت من خلال استقرائي لتأثير الأزمات في حفظ القرآن ناحية مهمة جديرة بالاهتمام.

قلت: ما هي؟

قال: لقد وجدت أنه كلما تضاءل اهتمام المسلمين بكتابهم من الناحية التنفيذية لتعاليمه، كلما اشتد حرصهم عليه من ناحية المحافظة على حروفه وكلماته.. وكأنهم يقولون في نفوسهم: نعم نحن قصرنا في كتابنا.. ولكن مع ذلك لن نحرم الأجيال التالية بركات هذا الكتاب.

طبق هذه القاعدة على عصرنا.. فسترى العجب العجاب..

إنك ترى القرآن الآن في كل مكان.. في كل منزل ومكتب وسيارة.. حتى غير المسلم يحافظ على القرآن ويحمله..

قلت: لقد ذكرتني برجل من أهل بلدي من ألمانيا يفكر في أن يكتب القرآن في صفحة واحدة..بشكل جميل.

قال: ولكنه لم يفكر في أن يفعل ذلك مع الكتب الأخرى.. إن هناك شيئا عجيبا في هذا الكتاب يجعل دولة كاليابان وإيطاليا تتفننان في طباعة المصحف بشكل جميل أنيق.

إن القرآن يقرأ الآن في كثير من محطات العالم التلفزيونية والإذاعية، وهو يترجم لكل اللغات، وهو يوضع في أجمل البرامج وأحلى الحلل.. ولا يكاد يوجد في الدنيا من يجهله.

أما سر ذلك.. فإني لا أجهله.. إنه لولا أن الله أراد ان يحفظ كلامه ما قيض له كل هذه الجيوش المجيشة لتحميه.

لقد رأى الله تقصير عباده في حفظ كلامه.. فتولى حفظه بنفسه.

***

 ما وصلنا إلى هذا الموضع من حديثنا حتى دخل رجل المكتبة، كان يشبهه تماما، بحيث يستحيل التفريق بينهما.

 لما رآه صاحبي أعاد الكتاب الذي كان يحمله إلى مكانه، وقد بدا عليه بعض الوجل، قلت: ما الذي حصل؟.. من هذا الداخل الذي يشبهك تماما؟

قال: هذا أخي التوأم.. هذا هو الحجاب الأكبر الذي يحول بيني وبين التمتع بأشعة شمس محمد.. ليتني أنتهي منه في يوم من الأيام.

قلت: ما تقول يا رجل.. لقد كنت أحسبك عاقلا.. فكيف تريد أن تقتل أخاك؟

قال: لا.. لم أقصد هذا.. أريد إنهاء جدله ولهوه ولغوه وحرصه وكبره.. والذي يحول بيني وبين الحقائق.

قلت: فكيف تقتل هذه الأدواء فيه؟

قال: ذلك يحتاج إلى أسلحة كثيرة وعلوم كثيرة وهمم عظيمة.. ولن أقعد دون ذلك.. وسيأتيك اليوم الذي تسمع فيه بانتصار حقي على باطلي.. وانتصار عقلي على نفسي.. وانتصار روحي على طيني.

قال ذلك.. ثم انصرف إلى أخيه ليبتسم في وجهه، ويجلس معه.

أما أنا فقد انصرفت بحيرة جديدة.. وببصيص جديد من النور اهتديت به بعد ذلك إلى أشعة محمد.

في ذلك المساء عندما عدت إلى بيتي وجدت أخي التوأم يحمل ملازم من الكتاب المقدس قد تم طبعها ذلك اليوم، والسرور يبدو على وجهه، وقال: انظر.. لقد قمنا في هذه الطبعة بإنجاز ضخم، سيكون له تأثيره الكبير في نصرة الحقيقة.

قلت: هل نقحت الكتاب المقدس؟

قال: تستطيع أن تقول ذلك.. إنه إنجاز ضخم سيسر به قومنا كثيرا.. وسترتفع بسببه درجاتنا في سلم الطريق إلى كرسي البابا.

قلت: ما فعلت بالكتاب المقدس؟

قال: لم أفعل شيئا سوى أني حذفت قوسين كانا يجثمان عليه كما تجثم العلل على القلوب.

قلت: أفي الكتاب المقدس أقواس؟.

قال: هناك أقواس أضيفت لتمهد لحذفها.. وقد نلت شرف حذف قوسين منهما.

قلت: ما الذي تقصد؟

قال: انظر هذا النص من رسالة يوحنا الاولى الاصحاح الخامس العدد 7.. اسمع ما تقول النسخة العربية الحديثة:( فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد )

نظرت، فرأيت النص موضوعا بين قوسين.. لقد وضعت الجملة (فى السماء الاب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد) بين قوسين.

قال: أنت ترى أن هذه الجملة قد وضعت بين قوسين؟

قلت: أجل.. رأيتها، وقد علمت أنهم نبهوا في أول الكتاب إلى أن ما يوضع بين القوسين غير موجود بالأصل.

قال: فقد قمت أنا وأنت بهذا الإنجاز الضخم.. لقد نزعت القوسين ليصبح النص أصلا.

قلت: ألا تعتبر ذلك تحريفا؟

قال: لقد فعله القديسون من قبلي.. ولا يمكن أن أتقدس إن لم أفعله.

تركته، وانصرفت إلى فراشي.. وقد كان ما سمعته منه أخطر بكثير من كل ما سمعته من صاحبي.

وفي فراشي مددت يدي إلى محفظتي لأستخرج بعض ما أحتاجه منها، فامتدت يدي إلى الورقة التي سلمها لي صاحبك، فعدت أقرأ فيها..

لقد أيقنت حينها أن هذا السور الأول من أسوار الكلمات المقدسة لم يتحقق به أي كتاب في الدنيا غير القرآن الكريم.


([1])   رواه البخاري.

([2])   ولكن الفرق بينهما عظيم فالتوراة تجعل هارون هو الذي قام بدور السامري كما في سفر الخروج (32/1-7)

([3])   إصدار الرهبانية اليسوعية، بيروت، دار المشرق، 1985م، كتب الشريعة الخمسة.

([4])  الكتاب المقدس للآباء اليسوعيين:1 / 4 .

([5])  يرى بعضهم أنه ألف بالسريانية أو اليونانية.

([6])  كتب إنجيل يوحنا في حوالي 90 – 95 م.

([7])   ينبه ديدات إلى أن هذا النص قد انتحله كاتب الإنجيل من فيلون الإسكندراني( ت40م)، وأنه بتركيباته الفلسفية غريب عن بيئة المسيح وبساطة أقواله وعامية تلاميذه، وخاصة يوحنا الذي يصفه سفر أعمال الرسل بأنه عامي عديم العلم، فيقول:« فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا »( أعمال 4/13)

وفيلون الإسكندراني ( 20 ق . م ـ 40 م ) يهودي عاش في العصر الهلنستى بالإسكندرية، وهو فيلسوف ومفكر كان متأثراً بالفلسفة اليونانية، فقد كان يعتبر أن العقل أو اللوجوس هو الذي صدر عنه وجود كل المخلوقات . وكان يكني هذا ( اللوجوس ) بقوله ( الكلمة ) ومن المعروف أن يوحنا كتب إنجيله بعد وفاة ( فيلون ) واستعار منه ( مصطلح الكلمة )

([8])   هذا على الأرجح، وقد ذهب آخرون إلى أن اليهود قتلوه حين طرحوه من جناح الهيكل ورموه بالحجارة سنة 62م .

([9])    المعلومات المنقولة هنا عن الخلاف بين الكاثوليك والبروتستنت في اعتبار هذ الأسفار مستفادة من مقال منقول من موقع كنيسة السيدة العذراء مريم بدرياس.

([10])   انظر الحديث عن هذا السفر، وما يحتوي عليه في الفصول التالية.

([11])  الإنجيل والصليب صفحة 14.

([12])   انظر المراجع التي تحدثت عن مجمع نيقيه: ككتاب تاريخ الأمة القبطية، وكتاب ابن البطريق ( نُظُم الجوهر ) الذي ألفه وحكى فيه تاريخ المجامع، وهو مسيحي طبعاً، وكتاب الروح القدس في محكمة التاريخ، للمؤلف روبرت كيل تسلر.

([13])   وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ص 408.

([14])  من ذلك على سبيل المثال: حزقيال:23عدد43:« فقلت عن البالية في الزنى الآن يزنون زنى معها وهي****»

مزمور137 عدد 5: أن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني******   ، حبقوق 1 عدد 1:الوحي الذي رآه حبقوق النبي ــــــــــــ    ،  وهنا يبدوا أن الوحي الذي رآه حبقوق النبي كان وحيا عظيماً جداً وسريا، لذلك وضعوا مكانه خطا.

([15])   سنعرض الحديث عن هذه الشبهة عند ذكرنا لحفظ القرآن الكريم.

([16])   أشير بهذا إلى نكتة منتشرة عندنا، وهي أن بعض محبي العربية ممن يزعم أن مصدر كل العلوم والآداب هم العرب، اعتبر شكسبير عربيا، وأن أصل اسمه ( شيخ زبير ) لكن التحريف طال اسمه كما طال اسم ابن سينا وغيره من علماء المسلمين.

([17])   كما قال تعالى:) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران:96)

([18])   أي: وجاء مع عشرة آلاف فارس.

([19])  هذا في الكتب المطبوعة .. أما في المواقع التي ينشئونها على الإنترنت، فحدث ولا حرج، ومن ذلك ما جاء في موقع البشارة http://www.albichara.org/، فقد ورد في ترجمة النسخة الكاثوليكية لإنجيل يوحنا الفقرة 4: 21-24 على هذا الموقع تقول:« قالَ لَها يسوع:« صَدِّقيني أَيَّتُها المَرأَة تَأتي ساعةٌ فيها تَعبُدونَ الآب لا في هذا الجَبَل ولا في أُورَشَليم أَنتُم تَعبُدونَ ما لا تَعلَمون ونَحنُ نَعبُدُ ما نَعلَم لِأَنَّ الخَلاصَ يَأتي مِنَ اليَهود ولكِن تَأتي ساعةٌ – وقد حَضَرتِ الآن – فيها العِبادُ الصادِقون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ فمِثْلَ أُولِئكَ العِبادِ يُريدُ الآب إِنَّ اللهَ رُوح فعَلَى العِبادِ أَن يَعبُدوهُ بِالرُّوحِ والحَقّ  »

وكان فى الترجمة العربية المشتركه:« قالَ لها يَسوعُ:« صدِّقيني يا اَمرَأةُ، يَحينُ وقتٌ يَعبُدُ النّـاسُ فيهِ الآبَ، لا في هذا الجبَلِ ولا في أُورُشليمَ وأنتُم السّامِريّـينَ تَعبُدونَ مَنْ تَجهَلونَهُ، ونَحنُ اليَهودَ نَعبُدُ مَنْ نَعرِفُ، لأنَّ الخلاصَ يَجيءُ مِنَ اليَهودِ ولكِنْ ستَجيءُ ساعَةٌ، بل جاءَتِ الآنَ، يَعبُدُ فيها العابِدونَ الصادِقونَ الآبَ بالرُّوحِ والحَقِّ »

حيث نلاحظ أن كلمة السامريين واليهود ليست موجودة في النسخة الأصلية.

([20])  صحيح البخاري برقم (4479).

([21])    سنذكر الأدلة الكثيرة على هذا في الفصول التالية.

([22])   رواه البخاري.

([23])   رواه ابن ماجة.

([24])  رواه ابن ماجه، ورواه الترمذي، وقال: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ وَحَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.

([25])  أبو داود في كتاب الصلاة باب في ثواب قراءة القرآن (2/70)ح: 1453 وأحمد في مسنده: مسند الْمكيين (4/466) ح 15218.

([26])  رواه ابن ماجه .

([27])   رواه البخاري ومسلم.

([28])   رواه البخاري، ومسلم.

([29])   رواه البخاري ومسلم.

([30])   رواه البخاري.

([31])   شرح النووي على صحيح مسلم (16/20)، وفتح الباري (8/668)، والإتقان (1/200).

([32])   رواه مسلم.

([33])   مع ما لهذه القضية من خطورة إلاّ أننا لا نجد صدى لهذا الاتهام عند من اهتموا بذكر مقولات الفرق المختلفة، فلا نجد هذه التهمة عند الأشعري في (مقالاته)؛ ولا عبد القاهر البغدادي في (أصول الدين)، ولا (الفرق بين الفرق)، ولا عند ابن حزم في (الفصل في الملل والنحل)، ولا الشهرستاني في (الملل والنحل). وهؤلاء هم قمة من أرخوا للفرق الإسلامية وغيرها.

ومثل ذلك  علماء الكلام لا نجد كذلك صدى لهذه القضية في كتاباتهم الكلامية وهم يعرضون لأوجه إعجاز القرآن وحفظه ورعايته من الله تعالى. فيخلو من صدى هذه القضية كتاب (المواقف) لعضد الدين الايجي، و(الإرشاد) لإمام الحرمين الجويني، و(شرح المقاصد) لسعد الدين التفتازاني، و(التمهيد) للباقلاني، و(أصول الدين)للبزدوي.

ونفس الموقف أيضاً عند المفسرين فمحمد بن جرير الطبري، وجمال الدين الجوزي، القرطبي، وأبو البركات عبدا لله بن أحمد النسفي، وابن كثير، وأبو حيان الأندلسي، وجلال الدين السيوطي، وأبو السعود، والشوكاني، وكل هؤلاء لم يذكر كلمة واحدة حول هذه القضية، لا من قريب ولا من بعيد اللهم إلاّ بعض تلميحات أوردها الفخر الرازي في تفسيره الكبير في هذا الموضوع لا تثبت الاتهام، بقدر ما توضح طريقة الفخر الرازي في رد احتجاج القاضي عبد الجبار على إنكار ما ذهب إليه بعض الإمامية من دخول التحريف في القرآن الكريم، وتبعه في ذلك الآلوسي في (روح المعاني).

([34])   الإتقان: 3/81.

([35])  المصدر نفسه 3/81.

([36])  مسند أحمد 6/269، الايضاح/218، تأويل مختلف الحديث/310.

([37])  كنز العمال 2/567، الاتقان 2/52 الدر المنثور 1/106.

([38])  الدر المنثور 5/180.

([39])  المصدر نفسه 5/192.

([40])  أوائل المقالات/54، المفيد، مكتبة الداوري، قم.

([41])  تفسير القرآن الكريم/25، عبدالله شبر، مكتبة النجاح، طهران ط 2.

([42])  مجمع البيان 1/15.

([43])  سعد السعود 193، ابن طاووس، قم منشورات الرضي، 1407 هـ.

([44])  أجوبة المسائل المهناوية/121، الحلي، قم مطبعة الخيام 1401 هـ.

([45])  التحقيق في نفي التحريف/16، عن الصراط المستقيم 1/45.

([46])  آلاء الرحمن 1/25 ـ 26.

([47])  المصدر السابق .

([48])  البرهان/113 هاشم البحراني، قم ـ إسماعيليان.

([49])  تفسير الصافي 1/51 ـ 52، الفيض الكاشاني ـ مؤسسة الاعلمي.

([50])  الفصول المهمة/166.

([51])  صيانة القرآن من التحريف/55.

([52])  التحقيق في نفي التحريف/20.

([53])  التحقيق في نفي التحريف/21.

([54])  آلاء الرحمن 1/29.

([55])  اصل الشيعة وأصولها/133.

([56])  أعيان الشيعة 1/51، محسن الأمين العاملي، دار التعارف.

([57])  أجوبة مسائل جار الله 28، شرف الدين العاملي، مطبعة النعمان 1386هـ.

([58])  عقائد الإمامية/85.

([59])  دراسات قرآنية/168، محمد حسين الصغير، مكتب الاعلام الإسلامي ط 2.

([60])  التعرف على القرآن الكريم/14.

([61])  الميزان 12/106.

([62])  تهذيب الأصول 2/165، السبحاني، طبعة اسلامي، 1363 هـ ش.

([63])  البيان/259.

([64])  صيانة القرآن من التحريف/64.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *