أولا ـ الجحود

أولا ـ الجحود

انصرفت إلى بيتي.. وفي فجر اليوم التالي سرت إلى المدرسة، ففوجئت بالأعداد الهائلة من الناس من مختلف الأعمار تنتظر عند بابها..

فتح عليهم محسن الباب، وقال: لدينا سبعة أقسام في هذه المدرسة.. لكل قسم منها دروسه الخاصة به.. ولكل قسم منها أستاذه الخبير الذي كلف به.

قالوا: فما هو القسم الأول؟

قال: هو قسم (الجحود).. وأستاذكم فيه هو (أبو بكر الخرائطي)([1]).. وهو رجل قدير خبير بالنفس وأسرارها.. وقد ألف كتبا في التربية والأخلاق، منها كتاب سماه (مكارم الأخلاق ومعاليها)، ومنها (مساوىء الأخلاق ومذمومها وطرائق مكروهها).. فاجلسوا إليه، وسلوه ما بدا لكم.. وبعدها عودوا إلى سوقكم لتطبقوا ما درستموه.

ذهبنا إلى الخرائطي في القسم الخاص به.. وقد استقبلنا بكل أدب.. ثم طلب منا أن نجلس..

فجلسنا، وقد بدأ حديثه بعد حمد الله والصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وآله بقوله: لنبدأ دروسنا بالإثم الأول.. إنه الإثم الذي تأسست منه الآثام، وتفرعت عنه الذنوب.. إنه الجحود.. فمن امتلأ قلبه بجحود مولاه لم ينل في حياته خيرا ولا بركة ولا فضلا.

لقد أشار القرآن الكريم إلى ارتباط هذا الإثم بالإنسان في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وكأنه ينبهنا إلى هذا الوحش الخطير الذي يريد أن ينحرف بحياتنا عن المنهج الذي أراده الله لنا..

سأقرأ عليكم ما ورد في القرآن الكريم من ذلك لتتعرف على الأتون الآثم الذي يحترق به الإنسان من حيث يشعر، أو من حيث لا يشعر..

لقد ذكر الله تعالى سرعة ميل الإنسان إلى الكفر والجحود والغفلة بمجرد أن يفرج الله عنه، فقال :{ وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (يونس:12).. وقال :{ وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (الزمر:8).. وقال:{ فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر:49).. وقال :{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} (فصلت:51).. وقال :{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً } (الاسراء:67)

انظروا الصورة التي يمثلها الإنسان بهذا الجحود.. إن أوهامه تصور له أنه يمثل على الله ويخادع الله ويحتال عليه.

وهكذا ذكر القرآن الكريم يأس الإنسان وكفره في حال الضرر، فقال :{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ} (هود:9).. وقال :{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} (الاسراء:83).. وقال :{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ } (الشورى:48)

وهكذا ذكر جحود الإنسان وغفلته عن فضل ربه عليه، فقال ـ وهو يستعرض نعم الله على عباده ـ :{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34)} (إبراهيم).. وقال :{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)} (الحج)

ولهذا كله، فإن الله يصف الإنسان بالكفر الشديد المبين الذي لا فوقه كفر ولا مثله جحود، قال تعالى :{ قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس:17)

قال رجل من الحاضرين: عرفنا ما ورد في القرآن من الحديث عن كفر الإنسان وجحوده.. ولكن كيف عرفت أن هذا هو مبدأ الآثام وأصلها الذي تتفرع منه ؟

قال الخرائطي: لقد عرفت ذلك من مصادر كثيرة.. لعل أهمها تجربتي الشخصية.. لقد من الله علي فأكرمت بعض المحتاجين في بعض الأسواق بما رفع فقره وفاقته.. وقد كان أول ما واجهني به بعد أن من الله عليه من خيره ما من.. وبعد أن ارتفعت عنه قيود الفقر.. وحلت عليه تباشير الغنى أن قابل إحساني بالإساءة.. بل فعل ما هو فوق ذلك مما لا يخطر على بال..

قلنا: ما فعل؟

قال الخرائطي: لقد تصور أن غناي منافس لغناه.. فلذلك راح يستعمل كل الوسائل ليحطمني لتصوره أنه لا يمكن أن يبنى بنيانه مع بنياني..

لم أتعجب من سلوكه هذا.. فقد كان لي من الإيمان العظيم ما جعلني أدرك أن النعمة سرعان ما تغادر من جحدها.

قلنا: فكيف أيقنت بهذا؟

قال: لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ثلاثة نفر في بني إسرائيل أبرص، وأقرع، وأعمى، أراد لله عزوجل أن يبتليهم، فبعث ملكا فأتى الابرص، فقال : أي  شيء أحب اليك؟ قال : لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب، وأعطي لونا حسنا وجلد حسنا، فقال : أي المال أحب اليك ؟ قال : الابل، فأعطي ناقة عشراء، فقال : يبارك لك فيها.

وأتى الاقرع، فقال : أي  شيء أحب اليك ؟ قال شعر حسن، ويذهب هذا عني، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب وأعطي شعرا حسنا، فقال : فأي المال أحب اليك ؟ قال : البقر، فأعطاه بقرة حاملا، وقال : يبارك لك فيها.

وأتى الاعمى، فقال : أي  شيء أحب اليك ؟ قال، يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره، فقال : فأي المال أحب اليك ؟ قال : الغنم فاعطاه شاة والدا.

فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من الابل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتي الابرص في صورته وهيئته فقال : رجل مسكين، تقطعت به الحبال في سفره، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري، فقال له : إن الحقوق كثيرة، فقال له : كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا، فأعطاك الله، فقال : لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.

وأتى الاقرع في صورته وهيئته، فقال له : مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال له : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.

وأتى الاعمى في صورته، فقال رجل مسكين، وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله، ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال : قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا، فخذ ما شئت، فو الله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال : (أمسك مالك فانما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك)([2])

بل أخبرنا قبل ذلك القرآن الكريم.. ففيه الآيات الكثيرة الدالة على عواقب جحود النعمة..

اسمعوا لهذه الآيات وهي تتحدث عن قوم مثلنا أصابهم الله بعذابه، بعد أن جحدوا الله وجحدوا آياته، قال تعالى مخبرا عن قوم عاد:{ وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)} (هود)

 وما حصل لعاد بسبب جحودهم هو ما حصل لغيرهم، قال تعالى يذكر ذلك، ويذكر به :{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)} (فصلت)  

وقال :{ وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26)} (الأحقاف)

وقال :{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)} (سبأ)

الإعراض:

قال رجل منا: لقد اعتبرت هذه الآيات الإعراض هو سر ما حصل لسبأ من المهالك.

قال الخرائطي: أجل.. فالإعراض هو الصورة البشعة التي ينم بها الجحود عن نفسه.

قال الرجل: فما صور الإعراض التي يظهر بها؟

قال الخرائطي: كثيرة جدا.. وقد أشار القرآن إلى مجامعها([3])..

فمن ذلك الإعراض عن الطّاعات والسّهو عنها، كما قال تعالى :{ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ.. (16)} (سبأ)

ومنها الإعراض عن سماع المواعظ والتأثر بها، كما قال تعالى :{ فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (94)} (المدثر)

ومنها الإعراض عن تذكر حساب الله لعباده، كما قال تعالى :{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)} (الأنبياء)

ومنها الإعراض عن ذكر اللّه، ليمتلئ الإنسان بدله بالغفلة التي تؤهله لكل أنواع العذاب، كما قال تعالى :{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً (124)} (طه)

ومنها الإعراض عن النظر إلى آيات اللّه في الكون وتبصرها، كما قال تعالى :{ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105)} (يوسف)

ومنها الإعراض عن الحقّ وعدم الإذعان له، كما قال تعالى :{.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)} (الأنبياء)

ومنها الإعراض عن النّبإ العظيم قال تعالى :{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ(68)} (ص)

ومنها الإعراض عن الوفاء بعهود الله التي أخذها على عباده، قال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} (البقرة)

قال الرجل: عرفنا صور الإعراض، فما عقوبته؟

قال الخرائطي: لقد ذكرتها النصوص المقدسة.. وأولها وأخطرها عدم مبالاة الله تعالى بمن أعرض عنه، فالله الغني الكريم لا يضره جحود الجاحدين كما لا تنفعه طاعة الطائعين، قال تعالى :{ وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)} (الأنعام)، وقال:{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)} (الأنفال)

وفي الحديث أنه بينما كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم جالسا في المسجد والنّاس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وذهب واحد، فوقفا على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فأمّا أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأمّا الآخر فجلس خلفهم، وأمّا الثّالث فأدبر ذاهبا.. فلمّا فرغ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (ألا أخبركم عن النّفر الثّلاثة؟ أمّا أحدهم فآوى إلى اللّه فآواه اللّه، وأمّا الآخر فاستحيا فاستحيا اللّه منه، وأمّا الآخر فأعرض فأعرض اللّه عنه)([4]

الضلال:

قال رجل من الحاضرين: فكيف يهتدي من أعرض الله عنه؟.. إنه لا شك سيقع في هاوية الضلال.

قال الخرائطي: أجل.. فمن لم يتنعم باسم الله الهادي، وقع تحت اسم الله المضل.. ولله من أبواب الإضلال ما يعدل أبواب هدايته.

قال الرجل: ولكن كيف يفتح الله أبوابا للإضلال؟

قال الخرائطي: إن الله تعالى خلق الجنة، وجعل لها صفات من توفرت فيه استحق دخولها، ومن لم تتوفر فيه دخل النار.. وهكذا، فالهداية الغالية التي هي مفتاح الجنة لها صفات من ظفر بها حلت عليه، ومن لم يظفر بها وقع في أسر الإضلال الذي هو مفتاح لجميع أبواب جهنم.

قال الرجل: ولكن القرآن الكريم ذكر أن الإضلال يقع من الشيطان للإنسان، أو من الإنسان للإنسان، فهو يقول:{ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)} (المائدة)، وفيه:{ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)} (المائدة)، وفيه:{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (29)} (الفرقان)

قال الخرائطي: إن الرزق الذي يأتيك من الإنسان لا يعني أن الإنسان هو الرزاق.. والشفاء الذي يأتيك على يد الإنسان لا يعني أنه الطبيب..

قال الرجل: ما تعني بذلك؟

قال الخرائطي: لله تعالى من سلاسل الأسباب التي تقتضيها الحكمة ما ينحجب به الغافلون، ويعرف به العارفون.

قال الرجل: فهل في القرآن ما يدل على أن الله هو الذي عاقب الجاحدين بالإضلال؟

قال الخرائطي: أجل.. فقد أخبر الله تعالى عن موسى u، فقال:{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (يونس:88)

فهذا دعاء من موسى u على فرعون وملئه بعد أن استنفذ كل الوسائل لدعوتهم، وهو يشبه دعاء نوح u على قومه بعد ذلك الجهد العظيم الذي بذله، كما قال تعالى على لسانه:{ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً } (نوح:24)، وقال تعالى:{ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} (نوح:28)

وأخبر الله تعالى عن المنافقين ومواقفهم من القرآن الكريم، فقال :{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} (التوبة:127)

فهؤلاء المنافقون لانصرافهم عن القرآن الكريم ونفورهم منه عاملهم الله تعالى على مقتضى طبيعتهم، فصرف قلوبهم عن الحق، لأن التكليف يتطلب الطواعية والاختيار، فلذلك من رغب عن الحق رغب الحق عنه، ومثل ذلك قوله تعالى:{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (الصف:5)

الكذب:

قال رجل من الحاضرين: وعينا أن الجحود يؤدي إلى الإعراض، والإعراض يؤدي إلى الضلال.. فإلى ما يؤدي الضلال؟

قال الخرائطي: يؤدي إلى الكذب والتكذيب.. فمن ضل عن الحق لا شك أنه سيكذب به.. ومن كذب بالحق لاشك أنه سيكذب عليه.

لقد ذكر الله تعالى أن من صفات الضالين التكذيب بآيات الله، فقال:{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)} (البقرة)

قال الرجل: فما عاقبة الكذابين المكذبين؟

قال الخرائطي: لقد ذكرها الله تعالى، فقال:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)} (آل عمران)، وقال:{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)} (آل عمران)، وقال:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)} (المائدة)، وقال:{ وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)} (الأنعام)، وقال:{ وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)} (الأنعام)

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بالصّدق، فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند اللّه صدّيقا. وإيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابا)([5]

وقال: (ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذّاب، وعائل مستكبر)([6]

وقال: (لا تكذبوا عليّ؛ فإنّه من كذب عليّ فليلج النّار)([7]

وقال:(من تحلّم([8]) بحلم لم يره كلّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرّون منه صبّ في أذنه الآنك([9]) يوم القيامة، ومن صوّر صورة عذّب وكلّف أن ينفخ فيها وليس بنافخ)([10]

قال الرجل: ولكنا قد نضطر أحيانا إلى الكذب؟

قال الخرائطي: إن كان من باب قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الكذّاب الّذي يصلح بين النّاس فينمي([11]) خيرا أو يقول خيرا)([12]) فنعم.. وإن كان من باب قوله (أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) ([13] فلا.

قال الرجل: ما تعني؟

قال الخرائطي: لقد ذكر العلماء أن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكلّ مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يكن تحصيله إلّا بالكذب، ثمّ إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا، وإن كان واجبا كان الكذب واجبا.. فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله، أو أخذ ماله، وأخفى ماله، وسئل إنسان عنه وجب الكذب بإخفائه([14]).

قال الرجل: وعيت هذا.. فما علاج الكذب؟

قال الخرائطي: لا يمكن معرفة العلاج قبل معرفة الدواعي والأسباب.

قال الرجل: فما دواعي الكذب، وما أسبابه؟

قال الخرائطي([15]): منها الكذب لاجتلاب النّفع واستدفاع الضّرّ، فيرى الكذّاب أنّ الكذب أسلم وأغنم، فيرخّص لنفسه فيه اغترارا بالخدع، واستشفافا للطّمع.

ومنها أنه يؤثر أن يكون حديثه مستعذبا، وكلامه مستظرفا، فلا يجد صدقا يعذب ولا حديثا يستظرف، فيستحلي الكذب الّذي ليست غرائزه معوزة، ولا طرائفه معجزة.

ومنها أن يقصد بالكذب التّشفّي من عدوّه فيسمه بقبائح يخترعها عليه، ويصفه بفضائح ينسبها إليه.

ومنها أن تكون دواعي الكذب قد ترادفت عليه حتّى ألفها، فصار الكذب له عادة، ونفسه إليه منقادة.

ومنها حبّ التّرأّس، وذلك أنّ الكاذب يرى له فضلا على المخبر بما أعلمه، فهو يتشبّه بالعالم الفاضل في ذلك.

قال الرجل: عرفنا الدواعي، فما العلاج؟

قال الخرائطي: علاج الداء بمقاومته.. وعلاج الدواعي بالتخلي عنها.

الخداع:

قال رجل من الحاضرين: فما الهاوية التي يؤدي إليها الكذب؟

قال الخرائطي: أخطر هاوية يؤدي إليها الكذب هي الخداع.. فالكاذب يتصور أن له القدرة على قلب الحقائق.. ولذلك ذكر الله تعالى عن المنافقين توهمهم – لفرط كذبهم على الله – أنهم يخادعونه، قال تعالى :{ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)} (البقرة)، وقال:{ إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142} (النساء)، وقال :{ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} (الأنفال)

في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن غرّ كريم، والفاجر خبّ لئيم)([16]

قال الرجل: فما صور الخداع؟

قال الخرائطي: كثيرة.. لا يمكن حصرها، فهي تشمل جميع مناحي الحياة..

قال الرجل: لا مناص لك من ذكر بعضها لنا، لنستدل بما ذكرت على ما لم تذكر.

قال الخرائطي: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض صور الخداع، فقال: (لا يتلقّى الرّكبان لبيع([17])، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا([18])، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصرّوا الإبل والغنم([19]).. فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النّظرين، بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردّها، وصاعا من تمر)([20])

وقال: (ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السّبيل. ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له باللّه لأخذها بكذا وكذا فصدّقه، وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلّا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف)([21])

الغش:

قال رجل من الحاضرين:وعينا هذا.. فهل هناك هاوية غيرها؟

قال الخرائطي: أجل.. هناك هاوية الغش.. لقد ذكر الله الغاشين، فقال:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)}  (المطففين)

وفي الحديث عن أنس قال: كنّا جلوسا عند رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يطلع عليكم الآن من هذا الفجّ رجل من أهل الجنّة.. الحديث وفيه : فما بلغ بك ما قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: ما هو إلّا ما رأيت. قال: فانصرفت عنه، فلمّا ولّيت دعاني فقال: ما هو إلّا ما رأيت غير أنّي لا أجد في نفسي على أحد من المسلمين غشّا، ولا أحسده على خير أعطاه اللّه إيّاه. فقال عبد اللّه: (فهذه الّتي بلغت بك، وهي الّتي لا نطيق)([22]

ومرّ صلى الله عليه وآله وسلم على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا. فقال: (ما هذا يا صاحب الطّعام؟) قال: أصابته السّماء يا رسول اللّه. قال: (أفلا جعلته فوق الطّعام كي يراه النّاس؟ من غشّ فليس منّي)([23])

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من عبد يسترعيه اللّه رعيّة، يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيّته إلّا حرّم اللّه عليه الجنّة)([24]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثا): الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين وشهادة الزّور (أو قول الزّور)، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم متّكئا فجلس. فما زال يكرّرها حتّى قلنا ليته سكت)([25]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم في خطبته: (ألا إنّ ربّي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني يومي هذا. كلّ مال نحلته عبدا، حلال. وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم. وإنّهم أتتهم الشّياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا. وإنّ اللّه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلّا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء([26]) تقرؤه نائما ويقظان. وإنّ اللّه أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: ربّ إذا يثلغوا رأسي([27]) فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك. واغزهم نغزك([28]) وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك. قال: وأهل الجنّة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدّق موفّق. ورجل رقيق القلب لكلّ ذي قربى ومسلم. وعفيف متعفّف ذو عيال. قال: وأهل النّار خمسة: الضّعيف الّذي لا زبر له، الّذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الّذي لا يخفى له طمع وإن دقّ إلّا خانه. ورجل لا يصبح ولا يمسي إلّا وهو يخادعك عن أهلك ومالك. وذكر البخل أو الكذب (والشّنظير([29])الفحّاش)([30]

وفي الحديث أن أأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تتلقّى السّلع حتّى تبلغ الأسواق([31]).

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يتلقّى الرّكبان لبيع ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصرّوا الإبل والغنم. فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النّظرين، بعد أن يحلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ردّها وصاعا من تمر)([32]

الافتراء:

قال رجل من الحاضرين:وعينا هذا.. فهل هناك هاوية غيرها؟

قال الخرائطي: أجل.. هناك هاوية الافتراء.. لقد ذكر الله تعالى أهل هذه الهاوية، فقال:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)} (آل عمران)، وقال:{ ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)} (المائدة)، وقال:{ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)} (الأنعام)، وقال:{ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)} (النحل)

وأخبر تعالى أن أكبر الظلم افتراء الكذب على اللّه وعلى النبيين وعلى الصالحين، فقال:{ كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)} (آل عمران)، وقال:{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)} (النساء)، وقال:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)} (الأنعام)

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن عظم جرم المفترين، فقال: (إنّ أعظم النّاس فرية، لرجل هاجى رجلا، فهجا القبيلة بأسرها، ورجل انتفى من أبيه، وزنّى([33]) أمّه)([34])، وقال: (إنّ من أعظم الفرى أن يدّعى الرّجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم تره، أو يقول على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقل)([35])، وقال: (ليس من رجل ادّعى لغير أبيه- وهو يعلمه- إلّا كفر باللّه، ومن ادّعى قوما ليس له فيهم نسب فليتبوّا مقعده من النّار)([36])، وقال: (من تحلّم بحلم لم يره كلّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرّون منه صبّ في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صوّر صورة عذّب وكلّف أن ينفخ فيها، وليس بنافخ)([37])

الغدر:

قال رجل من الحاضرين:وعينا هذا.. فهل هناك هاوية غيرها؟

قال الخرائطي: أجل.. هناك هاوية الغدر.. لقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم الغدر من صفات المنافقين، فقال: (أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)([38]

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (قال اللّه: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثمّ غدر، ورجل باع حرّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)([39]

وقال: (لكلّ غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره. ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامّة)([40]

وقال: (من أمّن رجلا على دمه فقتله فإنّه يحمل لواء غدر يوم القيامة)([41]

وقال: (ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)([42]

وقال: (ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمّة اللّه وذمّة رسوله فقد أخفر بذمّة اللّه فلا يرح رائحة الجنّة، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا)([43]

وقال: (خيركم قرني، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم )- قال عمران: لا أدري أذكر النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد قرنين أو ثلاثة- إنّ بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السّمن([44])([45])  

وقال: شهدت حلف المطيّبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحبّ أنّ لي حمر النّعم وأنّي أنكثه) قال الزّهريّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لم يصب الإسلام حلفا إلّا زاده شدّة، ولا حلف في الإسلام) وقد ألّف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بين قريش والأنصار)([46]

وقال: (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقدة، ولا يحلّها حتّى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء)([47])

وقال: (المسلمون تتكافأ دماؤهم: يسعى بذمّتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يردّ مشدّهم على مضعفهم، ومتسرّعهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده)([48]

وقال: (من أعطى بيعة ثمّ نكثها لقي اللّه وليست معه يمينه)([49]

وقال: (من خرج من الطّاعة، وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليّة([50])، ومن قاتل تحت راية عمّيّة([51]) يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة. أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهليّة، ومن خرج على أمّتي يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاش  من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس منّي ولست منه)([52]

وكان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سريّة، أوصاه في خاصّته بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيرا. ثمّ قال: (اغزوا باسم اللّه في سبيل اللّه. قاتلوا من كفر باللّه. اغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليدا)([53]

وعن جابرقال: لمّا رجعت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مهاجرة البحر قال: (ألا تحدّثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟) قال فتية منهم: بلى يا رسول اللّه! بينا نحن جلوس، مرّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلّة من ماء. فمرّت بفتى منهم. فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثمّ دفعها: فخرّت على ركبتيها. فانكسرت قلّتها. فلمّا ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم، يا غدر إذا وضع اللّه الكرسيّ، وجمع الأوّلين والآخرين، وتكلّمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك، عنده غدا. قال: يقول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (صدقت. صدقت. كيف يقدّس اللّه أمّة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم)([54]

***

بقينا مع الخرائطي أياما معدودات يعلمنا فيها أسرار الجحود وأركانه وآثاره، ويستعمل في التنفير عنه كل ما آتاه الله من العلم والحكمة..

وبعد أن رأى أن المحيطين به قد فقهوا عنه ما أراد أن يبلغهم إياهم ويدربهم عليه، طلب منهم أن يسيروا للقسم الثاني من أقسام المدرسة.


([1])أبو بكر الخرائطي السامري (240 – 327 ه) من حفاظ الحديث، من أهل السامرة بفلسطين، ووفاته في مدينة يافا.

([2])   رواه البخاري ومسلم.

([3]) ذكر القرآن الكريم في المقابل صورا محمودة للإعراض: منها الإعراض عن المشركين والجاهلين، قال تعالى :﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)﴾ (الأنعام)، وقال :﴿ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً (42)﴾ (المائدة)، وقال :﴿ أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ (63)﴾ (النساء)، وقال :﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)﴾ (الأعراف)

ومنها الإعراض عن اللّغو: قال تعالى :﴿ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ (55)﴾ (القصص)

([4]) رواه البخاري ومسلم.

([5]) رواه البخاري ومسلم.

([6]) رواه مسلم.

([7]) رواه البخاري ومسلم.

([8]) من تحلم: تكلف الحلم.

([9]) الآنك: الرصاص المذاب.

([10]) رواه البخاري.

([11]) فينمي: أي يبلغ على وجه الاصلاح وطلب الخير.

([12]) رواه البخاري ومسلم.

([13]) رواه البخاري ومسلم.

([14]) رياض الصالحين: 459.

([15]) أدب الدنيا والدين: 256.

([16]) رواه أبو داود والترمذي والحاكم.

([17]) لا يتلقّى الركبان لبيع: هو أن يتلقى الحضري البدوي قبل وصوله إلى البلد. ويخبره ما معه كذبا ليشتري منه سلعته بالوكس وأقل من ثمن المثل.

([18]) التناجش: الاستثارة أي يثير رغبة الناس فيها ويرفع ثمنها.

([19]) لا تصروا الإبل والغنم: من التصرية وهي الجمع أي لا تجمعوا اللبن في ضرعها عند إرادة بيعها حتى يعظم ضرعها فيظن المشتري أن كثرة لبنها عادة لها مستمرة.

([20]) رواه البخاري.

([21]) رواه البخاري ومسلم.

([22]) رواه أحمد.

([23]) رواه مسلم.

([24]) رواه البخاري ومسلم.

([25]) رواه البخاري ومسلم.

([26]) كتابا لا يغسله الماء: معناه محفوظ في الصدور لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على ممر الزمان.

([27]) إذا يثلغوا رأسي: أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز، أي يكسر.

([28]) نغزك: أي نعينك.

([29]) الشنظير: فسره في الحديث بأنه الفحاش، وهو السيء الخلق.

([30]) رواه مسلم.

([31]) رواه البخاري ومسلم.

([32]) رواه البخاري ومسلم.

([33]) زنّى أمّه: رماها بالزنا.

([34]) رواه ابن ماجه والبخاري في الأدب المفرد.

([35]) رواه البخاري.

([36]) رواه البخاري.

([37]) رواه البخاري.

([38]) رواه البخاري ومسلم.

([39]) رواه البخاري.

([40]) رواه البخاري ومسلم.

([41]) رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات.

([42]) رواه أبو داود.

([43]) رواه البخاري، والترمذي، وهذا لفظ الترمذي.

([44]) يظهر فيهم السّمن: أي يحبون التوسع في المآكل والمشارب، وهي أسباب السمن. وقيل: المراد يظهر فيهم كثرة المال.

([45]) رواه البخاري ومسلم.

([46]) رواه أحمد.

([47]) رواه مسلم.

([48]) رواه أبو داود.

([49]) رواه الطبراني بسند جيد.

([50]) ميتة جاهلية: أي على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم.

([51]) عمية: هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه.

([52]) رواه مسلم.

([53]) رواه مسلم.

([54]) رواه ابن ماجة وأبو يعلي وله شاهد عند البزار والبيهقي في السنن وابن حبان.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *