أولا ـ إرهاصات

أولا ـ إرهاصات

في اليوم الأول.. خرجت مع بولس إلى القرية الهندية الفقيرة الجميلة.. فرأينا الناس مجتمعين حول بيت من البيوت، وهم ممتلئون فرحا وسعادة، وقد علمنا أن سبب فرحهم يرجع إلى ولادة مولود لأحدهم، كان به مرض يمنعه من الإنجاب، ولكن الله قدر أن يرزقه هذا الولد بعد أن هرم، وكاد يرد إلى أرذل العمر.

اقتربنا منهم، لنهنئهم بذلك الميلاد السعيد، فسمعنا ذلك الشيخ الوقور يحدث أضيافه عن دعائه الله بأن يرزقه ولدا صالحا، وكيف رأى الرؤى الصالحة التي تبشره بميلاد ذلك الولد.. وحدثهم عن أشياء كثيرة ترتبط بميلاد ذلك الولد هي أقرب للخوارق منها إلى العادات.

هنا تحين بولس الفرصة ليبدأ تبشيره.

 بولس: إن ما تذكرونه من إرهاصات بمولد هذا الصبي يذكرنا بالمسيح..

لقد كانت للمسيح إرهاصات كثيرة ارتبطت بمولده الشريف.

إن حادث ميلاد المسيح لم يكن له مثيل في تاريخ البشرية، فقد كان مظاهرة سمائية وأرضية، فرح في السماء، وبهجة علي الأرض.

 فبالرغم من أنه ولد في مزود حقير للبقر، إلا أن ما حدث كان أكبر وأروع من أن يحدث مع أي من أبناء البشر مهما كانت مكانتهم علي الأرض.

لقد جاء ملاك من السماء، ومعه جمهور من الجند السماوي في احتفال سمائي، وبشر جماعة من الرعاة بميلاد المسيح الذي وصفه بالمخلص الرب: (وإذا ملاك الرب وقف بهم ومجد الرب أضاء حولهم فخافوا خوفا عظيما. فقال لهم الملاك: (لا تخافوا. فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب: أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب. وهذه لكم العلامة: تجدون طفلا مقمطا مضجعا في مذود). وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: (المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة). ولما مضت عنهم الملائكة إلى السماء قال الرعاة بعضهم لبعض: (لنذهب الآن إلى بيت لحم وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب). فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعا في المذود.

فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي. وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة. وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها)(لوقا:2/8ـ19)

وهذا ما لم يحدث ولن يحدث مع أي كائن ظهر علي الأرض، لم تهتف السماء لميلاد أحد، ولم تسبح الملائكة لميلاد أحد، سواء كان نبيا أو رسولا أو قديسا، سوى شخص المسيح فقط.

التفت إلى الجمع المندهش لحديثه، وقال: أتدرون لماذا؟

ثم أجاب نفسه بنفسه: لأن المسيح هو فوق الكل، أو كما قال هو في مقارنة بينه وبين كل من وجد علي الأرض (فقال لهم: (أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم)(يوحنا:8/23)، وقال القديس يوحنا بالروح (الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع والذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلم. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع) (يوحنا:3/31)

ابتسم ابتسامة عريضة، ثم قال: ليس ذلك فقط.. هناك المزيد من الإرهاصات..

لقد جاء المجوس، وهم حكماء علماء، من المشرق، يحملون هدايا لهذا المولود الإلهي، وكان قد ظهر لهم نجم من السماء ليبلغهم بخبر الميلاد ويرشدهم في الطريق للوصول إلي هذا الطفل الإلهي، يقول الكتاب: (ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم. قائلين: (أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له)، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا وأتوا إلى البيت ورأوا الصبي مع مريم أمه فخروا وسجدوا له ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا: ذهبا ولبانا ومرا)(متى: 2/1-12)

قال رجل من الجمع، عرفت بعد ذلك أنه مستأجر من بولس للقيام بدور السائل والمتأثر: ما هذا النجم يا مولانا.. إن خبره لعجيب!؟

سر بولس لهذا السؤال، وقال ـ متوجها للسائل ـ: بورك فيك.. لقد آتاك الله ذكاء وفهما.. وسؤالك هذا يدل على ذلك.

إن علماء اللاهوت ذكروا أن هذا النجم قد يكون نجما حقيقيا جعله الله يتحرك خارج إطار قانون وناموس الكون ويظهر بصورة إعجازية، ليرشد المجوس إلي ميلاده ومكان ولادته.

وإما أنه ملاك ظهر في شكل نجم ليقوم بنفس المهمة.

فإذا اعتبرناه نجما حقيقا ـ كما هو الظاهر ـ فإنه بذلك يعبر عن أن الأفلاك السمائية شاركت هي أيضا في الاحتفال بهذا المولود الإلهي.

التفت إلى الجمع، وقال: فهل حدث مثل هذا عند ميلاد أحد الأنبياء؟! ولماذا حدث ذلك عند ميلاد المسيح؟ والإجابة هي كما قال الملاك أنه هو (المسيح الرب)، وليس سواه.

أظهر مستأجر بولس الكثير من الاستغراب والدهشة لكلام بولس، وقال: إن هذا لعجيب.. فهل هناك غيره؟

 بولس: أجل .. في وقت ختانه في اليوم الثامن في الهيكل حسب عادة اليهود جاء رجل من أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل يقول عنه الكتاب أنه كان (بارا تقيا ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه. وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. فأتى بالروح إلى الهيكل. وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال: (الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم ومجدا لشعبك إسرائيل). وكان يوسف وأمه يتعجبان مما قيل فيه. وباركهما سمعان وقال لمريم أمه: (ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل ولعلامة تقاوم. وأنت أيضا يجوز في نفسك سيف لتعلن أفكار من قلوب كثيرة)(لوقا:2/25ـ36)

وكان هناك ـ أيضا ـ في الهيكل امرأة نبية اسمها حنة يقول عنها الكتاب: (وكانت نبية حنة بنت فنوئيل من سبط أشير وهي متقدمة في أيام كثيرة قد عاشت مع زوج سبع سنين بعد بكوريتها. وهي أرملة نحو أربع وثمانين سنة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلا ونهارا. فهي في تلك الساعة وقفت تسبح الرب وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم) (لو2/36ـ38).

فجاء سمعان إلي الهيكل بالروح، وكان الروح القدس قد سبق أن وعد أن لا يري الموت قبل أن يري المسيح الرب، وتكلمت عنه حنة النبية مع جميع الذين كانوا يتوقعون ميلاده، بحسب النبوات، جميع المنتظرين الفداء الذي كان سيأتي من إسرائيل.

قال ذلك، ثم التفت للجمع، وقال: هذا ما حدث في ميلاد المسيح.. فهل حدث مثل ذلك عند ولادة أي نبي أو رئيس أنبياء أو أي شخص ظهر علي الأرض مهما كانت أهميته؟

ثم أجاب نفسه بنفسه: بالطبع لم يحدث مثل ذلك إلا في ميلاد الرب يسوع لأنه ليس مجرد شخص عادي، ولا هو مجرد نبي، بل هو المسيح الرب الذي ظهر في الجسد، فهو مرسل الأنبياء.

لم يكن بولس يتصور أن يفاجأ بأي اعتراض، فقد كان يتصور أنه يتكلم مع أميين جهلة لا علم لهم يناقشون به ما يقال، ولا عقول لهم تستطيع أن تعترض على ما يقال.

لكنه فوجئ بصوت يريد أن يناقشه.. وقد فوجئت مثله، لا بالاعتراض، وإنما بصوت المعترض.. لقد عرفته.. إنه صوت عبد القادر، ذلك الرجل الذي سمعته يتحدث مع عبد الحكيم في الطائرة..

لست أدري كيف شعرت بسرور عظيم، وأنا أسمع صوته، وكأن روحي أدركت أنها ستنال من ذلك الصوت بعض الحقائق التي حرمت من سماعها في البيئة التي ولدت فيها.

 عبد القادر: إن أذنت لي ـ حضرة القس الفاضل ـ فإن قرآننا قد ذكر في ميلاد المسيح من العجائب ما لم تذكره، سأقرأ عليك ما ورد في القرآن الكريم من ميلاد المسيح u.

فتح عبد القادر المصحف، وراح يقرأ بخشوع ما ورد في قصة ميلاد المسيح من سورة مريم:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)}(مريم)

رفع رأسه، والتفت إلى بولس، وقال: هذه هي قصة ميلاد المسيح u كما وردت في القرآن الكريم..

إن المسيح u ولد من عذراء.. وقد حصل لأمه في فترة حملها من البركات والخيرات ما ذكره القرآن الكريم.

وعند ميلاده أنطقه الله في المهد ليصور حقيقته ووظيفته التي أنيطت به على هذه الأرض، لقد كانت أول كلمة قالها، وأشرف كلمة قالها هي { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } (مريم: 30).. لقد بدأ بإعلان عبوديته لله، فليس هو ابن الله، ولا هو الله، ولا هو ثالث ثلاثة هم إله واحد، وهم في نفس الوقت ثلاثة آلهة.

ثم يذكر أن الله جعله نبيا، لا ولداً ولا شريكا، وأنه بارك فيه، وأوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته وأوصاه بالبر بوالدته والتواضع مع عشيرته.. وأنه قدر له السلام والأمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.

ظهر عبد الحكيم، هو الآخر، وقال: هذا ما يقوله العقل والمنطق.. فلا يمكن لهذا الكون أن يكون له إله غير إله واحد.. إن النظام والتناسق والدقة تدل على أن المبدع واحد.

هنا تدخل مستأجر بولس، وأراد أن ينقذ الموقف، فقال: ولكن ما تقول في تلك المعجزات العظيمة التي صاحبت ميلاد المسيح.. لقد ولد كما ذكرت من عذراء..

ابتسم عبد الحكيم، وقال: إن هناك ملايين الكائنات يولدون من عذراوات، فهل نعتبرهم جميعا آلهة؟

ثم التفت لبولس، وقال: أيهما أحق بالألوهية من لم يكن له والد أصلا لا أما، ولا أبا، أم من له أم؟

سكت بولس، فقال: لقد خلق الله آدم من تراب.. ليس له أب، ولا أم.. فلذلك لو اعتمدنا المنطق الذي تعتمدونه في هذا الباب، فهو أحق بالألوهية من المسيح([1]).

لقد ذكر القرآن الكريم هذا، فقال تعالى:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (آل عمران:59)

قال مستأجر بولس: ولكن ما تقول في هذه الخوارق التي حصلت للمسيح، ولم تحصل لغيره؟

 عبد القادر: ومن قال: إنها لم تحصل لغيره.. إن الله تعالى بحكمته يظهر بعض الإرهاصات الدالة على المصطفين الذين يختارهم لهداية خلقه.. ليكون ذلك تمهيدا لتقبل الناس لهم.

لقد ذكر القرآن الكريم هذا عن موسى u.. فموسى u هيئ منذ ولادته للوظيفة الخطيرة التي كلف بها.

فبعد أن ذكر الله تعالى ما أراده للمستضعفين من بني إسرائيل من الخروج عن ضعفهم، فقال:{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)}(القصص)

بعدها ذكر الله تعالى مقدمات تلك التهيئة، فقال:{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}(القصص)

ويحي u ذكر القرآن الكريم قصة ميلاده، وما ارتبط بها من البشارات، والإرهاصات..

وهكذا كل الأنبياء ـ عليهم السلام ـ جعل الله في مقدمات حياتهم ما يشير إلى الدور الخطير الذي كلفوا به.

بولس: إلا محمد.. فمحمد ولد ولادة عادية، كما يولد سائر الناس.

 عبد القادر: نعم ولد ولادة عادية بفضل الله، ولكنه ـ كسائر الأنبياء ـ سبق ميلاده ورافقه إرهاصات كثيرة تدل على الوظيفة الخطيرة التي هيئ لها.

مستأجر بولس: ذلك غير صحيح.. لقد ولد ولادة عادية.. هذا ما أعرفه.

ابتسم عبد القادر، وقال: أنت تحثني إذن على أن أعرفك ما لم تكن تعرف، وأعلمك ما لم تكن تعلم.

قال الجمع: نعم.. لقد حدثنا هذا عن إرهاصات المسيح، فحدثنا أنت عن إرهاصات محمد.

 عبد القادر: لقد حدثت لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أنواع من الإرهاصات ـ على حسب ما ذكرت للمسيح u ـ: إرهاصات سبقت مولده، وإرهاصات تزامنت مع مولده، وإرهاصات حدثت بعد مولده.. وسأحدثكم عن بعض الحوادث المرتبطة بكل نوع منها.

قبل الميلاد

قالوا: فحدثنا عن الإرهاصات التي سبقت مولده.

 عبد القادر: لقد كانت الجزيرة العربية في ذلك الزمن الذي ولد فيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلها على أحر من الجمر في انتظار ذلك النبي الموعود الذي بشرت به الأنبياء.

قالوا: فكيف عرفوا أنه سيبعث في ذلك الزمان؟

 عبد القادر: لقد ذكر الكتاب المقدس الكثير من العلامات المرتبطة بهذا النبي، والزمن الذي سيولد فيه، والمكان الذي سيخرج منه([2])، والذي حرف أكثره بعد أن أرسل الله رسوله.

قالوا: من فعل ذلك، ولم؟

 عبد القادر: فعله من وكله الله بحفظ كتابه، وفعلوه ليصرفوا النبوة عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم بغيا وحسدا.. لقد ذكر القرآن الكريم هذا، فقال:{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة:89)

فهذه الآية الكريمة تخبر عن ذلك الانتظار الطويل الذي عاناه أهل الكتاب، وهم يبشرون الناس بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قالوا: فحدثنا عن ذلك.

انتظار طويل:

 عبد القادر: لقد رويت الروايات الكثيرة الدالة على ذلك.. وسأذكر لكم منها ما يبين لكم الجو العام الذي كان يمهد لمجيئ محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

حدث عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثنا أشياخ شتى قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منا، كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب وكنا أهل وثن، وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا: إن نبيا مبعوثا الآن قد أظل زمانه نتبعه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.

فلما بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم اتبعناه وكفروا به، ففيهم أنزل الله تعالى:{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة:89))([3])

وعن ابن عباس قال: كانت يهود خيبر تقاتل يهود غطفان، فلما التقوا انهزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالوا: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى:{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (البقرة:89))([4])

وعن محمد بن عدي أنه سأل أباه كيف سماه في الجاهلية محمدا؟ فقال: خرجت مع جماعة من بني تميم، فلما وردنا الشام نزلنا على غدير عليه شجر، فأشرف علينا ديراني([5]) فقال: من أنتم؟ قلنا: من مضر، فقال: أما إنه سوف يبعث منكم وشيكا نبي فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا، فإنه خاتم النبيين. فقلنا: ما اسمه؟ فقال: محمد. فلما صرنا إلى أهلنا ولد لكل واحد منا غلام فسماه محمدا([6]).

وعن سعيد بن المسيب قال: كانت العرب تسمع من أهل الكتاب ومن الكهان أن نبيا يبعث من العرب اسمه محمد، فسمى من بلغه ذلك من ولد له محمدا، طمعا في النبوة([7]).

التفت عبد القادر إلى بولس، وقال: هذه أول الإرهاصات.. فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم كان منتظرا من الكل.. من اليهود، ومن المسيحيين، ومن الأحناف الذين يبحثون عن ملة إبراهيم.

مستأجر بولس: نحن نريد الآيات العجائب.

 عبد القادر: وهذا من الآيات العجائب.. فكيف يتفق كل ذلك الجمع على ذلك الانتظار؟

ثم كيف يرحل الأحبار والرهبان من ديارهم لينتظروا ذلك المولود الموعود في تلك البلاد القاحلة؟ ومع ذلك.. فهناك آية أخرى تتناسب مع الطريقة التي تفكر بها.

قال الجمع: ما هي؟

حماية الكعبة:

 عبد القادر: أنتم تعلمون أن محمدا ولد بمكة المكرمة في عام يسمى عام الفيل.

قالوا: أجل.

 عبد القادر: لقد كان هذا الفيل الذي ولد في عامه محمد صلى الله عليه وآله وسلم إرهاصا من إرهاصات النبوة.

قالوا: كيف ذلك؟

عبد القادر: في ذلك الحين، قدم أبرهة الأشرم ملك اليمن إلى مكة المكرمة، لهدم الكعبة المشرفة، ولكن الله حماها منه، وأنزل به وبجنوده عقابا أليما خارقا.

وخلاصة الحادثة أن الحاكم الحبشي لليمن ـ في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة ـ بعد طرد الحكم الفارسي منها وتسميه الروايات (أبرهة)، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة، وجمع لها كل أسباب الفخامة، على نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة، وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم إلى هذا البيت، شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشماليها، وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية.

لكن العرب لم ينصرفوا عن بيتهم المقدس، فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي هذا البيت، وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر بالأنساب، وكانت معتقداتهم على تهافتها أفضل في نظرهم من معتقدات أهل الكتاب من حولهم، وهم يرون ما فيها من خلل واضطراب وتهافت كذلك.

عندئذ صح عزم (أبرهة) على هدم الكعبة ليصرف الناس عنهم؛ وقاد جيشاً جراراً تصاحبه الفيلة، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم.

فتسامع العرب به وبقصده، وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم، فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن البيت الحرام، فأجابه إلى ذلك من أجابه، ثم عرض له فقاتله، ولكنه هزم وأخذه أبرهة أسيراً.

ثم وقف له في الطريق كذلك نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عرب كثير، فهزمهم كذلك وأسر نفيلا، الذي قبل أن يكون دليله في أرض العرب.

حتى إذا مر بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف فقالوا له: إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة، وذلك ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للاّت، وبعثوا معه من يدله على الكعبة.

فلما كان أبرهة بالمغمس بين الطائف ومكة، بعث قائداً من قواده حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.

وبعث أبرهة رسولاً إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد، ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت، فإن لم يتعرضوا له فلا حاجة له في دمائهم، فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك.

فلما كلم عبد المطلب فيما جاء به قال له: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة. هذا بيت الله الحرام. وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه.

ثم انطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه، فلما استؤذن لعبد المطلب، قالوا لأبرهة: هذا سيد قريش، فأذن له.

فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال له: حاجتك؟ فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له فقال أبرهة: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتك، أتكلمني عن مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه.

فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل، فانصرف إلى قريش، فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز بالجبال والشعاب تخوفا عليهم معرة الجيش، وقد كانوا أكثر من قريش عددا.

ثم قام عبد المطلب، فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجيشه.

وكان مما قال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

لا هم أن العبد يمنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم   ومحالهم غدوا محلك

إن كنت تاركهم   وقبلتنا فأمر ما بدا لك

فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له، فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا([8]).

ثم إن الله تعالى أرسل على هذا الجيش جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، حتى قدموا به صنعاء، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات.

وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحادثة، فقال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) }(الفيل)

 بولس: قد أسلم بما ذكرت من أنها حادثة خارقة، ولكن كيف تذكر أنها من الإرهاصات المرتبطة بمحمد.

 عبد القادر: أنت تعلم أن بيت المقدس لا يقل حرمة عن الكعبة المشرفة.

 بولس: نحن لا نرى للكعبة أي مكانة مقارنة ببيت المقدس.

 عبد القادر: ومع ذلك فقد استولى عليه بُخْتُنَصَّر سنة 587 ق‏.‏م، ثم استولى عليه الرومان سنة 70 م، ولكن الكعبة المشرفة لم يتم استيلاء مسيحيو الحبشة عليها مع كونهم من المسيحيين، وأهل الكعبة من المشركين‏.‏

وليس لذلك من سر إلا حفظ هذا البلد من كل تأثيرات أجنبية قد تنحرف بالدين الخاتم.

بالإضافة إلى ذلك، فقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ نبؤها إلى معظم المعمورة المتحضرة إذ ذاك،‏ فالحبشة كانت لها صلة قوية بالرومان، والفرس لا يزالون لهم بالمرصاد، يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم؛ ولذلك سرعان ما جاءت الفرس إلى اليمن بعد هذه الوقعة، وهاتان الدولتان كانتا تمثلان العالم المتحضر في ذلك الوقت‏.‏

فهذه الوقعة لفتت أنظار العالم ودلته على شرف بيت الله، وأنه هو الذي اصطفاه الله للتقديس، فإذن لو قام أحد من أهله بدعوى النبوة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذه الوقعة، وكان تفسيرًا للحكمة الخفية التي كانت في نصرة الله للمشركين ضد أهل الإيمان بطريق يفوق عالم الأسباب‏.

عند الميلاد

سكت عبد القادر، فقال الجمع: لقد وعدتنا بأن تحدثنا عن الإرهاصات المرتبطة بمولد محمد، فحدثنا عنها.

نجم محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

 أجير بولس: عم تريدون أن يحدثكم؟.. عن نجم محمد!؟.. لم يظهر عند ولادة محمد أي نجم، كما ظهر للمسيح.

 عبد القادر: لقد روى الرواة ـ وهم لا يقلون عن رواة نجم المسيح ثقة ـ بأن نجما ظهر في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسأذكر لكم بعض ما وري في ذلك.

لقد حديث حويصة بن مسعود قال: كنا ويهود فينا كانوا يذكرون نبيا يبعث بمكة اسمه أحمد، ولم يبق من الأنبياء غيره، وهو في كتبنا وما أخذ علينا صفته كذا وكذا حتى يأتوا على نعته.

قال: وأنا غلام وما أرى أحفظ وما أسمع أعي إذ سمعت صياحا من ناحية بني عبد الأشهل، فإذا قوم فزعوا وخافوا أن يكون أمر حدث، ثم خفي الصوت ثم عاد فصاح ففهمنا صياحه: يا أهل يثرب هذا كوكب أحمد الذي ولد به.

قال: فجعلنا نعجب من ذلك، ثم أقمنا دهرا طويلا ونسينا ذلك، فهلك قوم، وحدث آخرون، وصرت رجلا كبيرا، فإذا مثل ذلك الصياح بعينة: يا أهل يثرب قد خرج محمد، وتنبأ وجاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى عليه الصلاة والسلام.

فلم أنشب أن سمعت أن بمكة رجلا خرج يدعي النبوة، وخرج من قومنا وتأخر وأسلم فتيان منا أحداث ولم يقض لي أن أسلم، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة([9]).

وعن حسان بن ثابت قال: إنى لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت، إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه ـ وأنا أسمع ـ فقالوا: ويلك مالك؟ قال: قد طلع نجم أحمد الذى يولد به في هذه الليلة([10]).

و عن مالك بن سنان قال: جئت بنى عبد الاشهل يوما لأتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحرب، فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظل خروج نبى يقال له أحمد يخرج من الحرم.

فقال له خليفة بن ثعلبة الاشهلى، كالمستهزئ به: ما صفته؟ فقال رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة ويركب الحمار، سيفه على عاتقه وهذا البلد مهاجره.

قال: فرجعت إلى قومي بنى خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلا منا يقول: ويوشع يقول هذا وحده!؟ كل يهود يثرب يقولون هذا.

قال أبى مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بنى قريظة فأجد جمعا، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذى لم يطلع إلا لخروج نبى أو ظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذا مهاجره.

قال أبو سعيد: فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبره أبى هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أسلم الزبير لأسلم ذووه من رؤساء اليهود، إنما هم له تبع)([11])

وعن زيد بن ثابت قال: كان أحبار يهود بنى قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي، وأنه لا نبى بعده، واسمه أحمد ومهاجره إلى يثرب، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أنكروا وحسدوا وكفروا([12]).

وعن أسامة بن زيد قال: قال زيد بن عمرو بن نفيل: قال لى حبر من أحبار الشام: قد خرج في بلدك نبى، أو هو خارج، قد خرج نجمه، فارجع فصدقه واتبعه([13]).

أحداث كبرى:

قال رجل، عرفت بعد ذلك أنه مستأجر من طرف عبد الحكيم ليقوم بالدور الذي يقوم به أجير بولس: لقد سمعنا أشياء أخرى ارتبطت بمولده صلى الله عليه وآله وسلم منها ارتجاس الإيوان، وسقوط الشرفات، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وغيرها من الإرهاصات.

 عبد القادر: أجل.. لقد رويت في ذلك روايات كثيرة، وهي لا تقل عن مرويات الأناجيل وثوقا، فقد تحدث بعض المعاصرين لميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة([14]).

ليس هذا فقط.. بل قد انتشر خبر ميلاده صلى الله عليه وآله وسلم بين الكثير من الأحبار والرهبان([15])، لعلامات خاصة كانوا يعرفونها، ومن ذلك ما ما رواه الرواة أنه كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى عيصا من أهل الشام، وكان متخفرا بالعاص بن وائل، وكان الله قد آتاه علما كثيرا، وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طيب ورفق وعلم.

وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة في كل سنة، فيلقى الناس ويقول: إنه يوشك أن أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة يدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه، ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه، فخالفه أخطأ حاجته، وبالله ما تركت أرض الخمر والخمير والامن ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف إلا في طلبه.

وكان لا يولد بمكة مولد إلا يسأل عنه، فيقول: ما جاء بعد، فيقال له: فصفه، فيقول لا.

ويكتم ذلك للذى قد علم أنه لاق من قومه، مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الاذى يوما.

ولما كان صبيحة اليوم الذى ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيصا، فوقف في أصل صومعته، ثم نادى: يا عيصاه، فناداه من هذا؟ فقال: أنا عبد الله.

فأشرف عليه فقال: كن أباه فقد ولد المولود الذى كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت الاثنين.

قال: فإنه قد ولد لى مع الصبح مولود.

قال: فما سميته؟ قال: محمدا قال: والله لقد كنت أشتهى أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها، منها أن نجمه طلع البارحة، وأنه ولد اليوم، وأن اسمه محمد، انطلق إليه فإن الذى كنت أخبركم عنه ابنك.

قال عبد الله: فما يدريك أنه ابني؟ ولعله أن يولد في هذا اليوم مولود غيره؟ قال: قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله ليشبه علمه على العلماء، فإنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع، فيشتكى أياما ثلاثة، فيظهر به الجوع ثلاثا ثم يعافى، فاحفظ لسانك، فإنه لم يحسد أحد حسده قط، ولم يبغ على أحد كما يبغى عليه، إن تعش حتى يبدو مقاله، ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبر وعلى ذل، فاحفظ لسانك ودار عنه، قال: فما عمره؟ قال: إن طال عمره وإن قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتر دونها من الستين في إحدى وستين أو ثلاث وستين في أعمار جل أمته([16]).

أنوار الميلاد:

 أجير بولس: هل حدث شيء عند ميلاده ينبئ عنه؟

 عبد القادر: أجل.. لقد روى الرواة الكثير من ذلك..

وأول ذلك ما من الله به على أمه من أنها لم تجد مشقة في حمله، بل إن الله تعالى بشرها بحمله، وبما له من شأن عظيم:

فقد ذكرت آمنة ـ أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنها لما حملت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت تقول: ما شعرت أني حملت به، ولا وجدت ثقله كما تجد النساء إلا أنني أنكرت رفع حيضتي وربما ترفعني وتعود وأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان فقال لي: هل شعرت أنك حملت؟ فأقول: ما أدري فقال: إنك حملت بسيد هذه الأمة ونبيها وذلك يوم الأثنين وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وضع فسميه محمدا.

قالت: فكان ذلك مما يقن عندي الحمل، ثم أمهلني حتى إذا دنت ولادتي أتاني ذلك فقال قولي: (أعيذه بالواحد من شر كل حاسد)، قالت: فكنت أقول ذلك، فذكرته لنسائي فقلن: تعلقي عليك حديدا وفي عضديك وفي عنقك([17])، ففعلت، فلم يكن يترك علي إلا أياما، فأجده قد قطع، فكنت لا أتعلقه([18]).

وعن ابن عباس أن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: (لقد علقت به فما وجدت له مشقة حتى وضعته)([19])

وكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، من كل بر عاهد وكل عبد رائد، يذود عنى ذائد، فإنه عند الحميد الماجد، حتى أراه قد أتى المشاهد([20]).

وروي عن أبي جعفر محمد بن علي قال: أمرت آمنة وهي حبلى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تسميه أحمد([21]).

وعند مولده ظهرت الأنوار العظيمة التي أشار إليها قوله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سئل:يا رسول الله أخبرنا عن نفسك، فقال: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام)([22])

وقد ذكرت بعض النسوة الحاضرات مولده صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأنوار، فعن عثمان بن أبى العاص، قال: حدثتني أمي، أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة ولدته، قالت: فما شئ أنظره في البيت إلا نور، وإنى أنظر إلى النجوم تدنو حتى إنى لأقول: لتقعن على([23]).

وقد اشتهر هذا النور الذي ظهر وقت ولادته صلى الله عليه وآله وسلم في قريش وكثر ذكره فيهم، وإلى ذلك أشار عمه العباس في قوله في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض

  وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النو

  ر وسبل الرشاد نخترق

وقد قال الشاعر يذكر تلك الأنوار:

لما استهل المصطفى طالعا  أضاء الفضا من نوره الساطع

وعطر الكون شذى عطره الطيب   من دان ومن شاسع

ونادت الأكوان من فرحة         يا مرحبا بالقمر الطالع

وفي خروج هذا النور معه صلى الله عليه وآله وسلم حين وضعته إشارة إلى ما يجئ به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، كما قال الله تعالى:{ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة: 15)

ومما حصل عند مولده ما ذكره الرواة من أنه وقع على يديه، رافعا رأسه إلى السماء، وقبض قبضة من تراب:

فعن موسى بن عبيدة عن أخيه قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوقع على يديه رافعا رأسه إلى السماء وقبض قبضة من تراب، فبلغ ذلك رجلا من لهب فقال لصاحبه: انجه لئن صدق الفأل ليغلبن هذا المولود أهل الأرض ([24]).

وعن محمد بن عمر الأسلمي بأسانيد له متعددة عن آمنة أنها قالت: لما وضعته خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع جاثيا على ركبتيه معتمدا على الأرض بيديه، ثم أخذ قبضة من تراب وقبضها ورفع رأسه إلى السماء، وأضاءت له قصور الشام وأسواقها، حتى رأيت أعناق الإبل ببصرى([25]).

وعن حسان بن عطية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما ولد وقع على كفيه وركبتيه شاخصا ببصره إلى السماء([26]).

وقد رووا أن المولود كان إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح يكفأن عليه برمة، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة، فكفأن عليه برمة، فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين، ووجدنه مفتوح العينين شاخصا ببصره إلى السماء.

فأتاهن عبد المطلب فقلن له: ما رأينا مولودا مثله، وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحا عينيه شاخصا ببصره إلى السماء.

فقال: احفظنه فإنى أرجو أن يكون له شأن، أو أن يصيب خيرا.

فلما كان اليوم السابع ذبح عنه ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب، أرأيت ابنك هذا الذى أكرمتنا على وجهه، ما سميته؟ قال: سميته محمدا.

قالوا: فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض.

بعد الميلاد

بعد أن أنهى عبد القادر حديثه عن الإرهاصات المرتبة بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، استحثه أجير بولس قائلا: لقد حدث بعد ميلاد المسيح الإرهاصات الكثيرة المنبئة عن عظم شأنه، فهل حصل مثلها لمحمد؟

 عبد القادر: إن المسيح ومحمدا أخوان.. وقد أظهر الله للناس ما يدل على مكانتهما، ليتبعوهما، وليس بينهما أي تنافس في هذا، ولا في غيره.

فكلاهما عبد لله، وكلاهما يبشر بما أمره الله أن يبشر به.

غلام له شأن:

 أجير بولس: لقد ذكر الكتاب المقدس عن المسيح أن المجوس عرفوا أنه المسيح.

 عبد القادر: وقد روي من ذلك الكثير عن معرفة أهل الكتاب وغيرهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي عن رجل من العرب كان عائفا، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم، فأتى به أبو طالب، وهو غلام مع من يأتيه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم شغله عنه شيء، فلما فرغ قال: الغلام.. علي به، فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول: ويلكم ردوا علي الغلام الذي رأيت آنفا، فوالله ليكونن له شأن، فانطلق به أبو طالب خوفا عليه([27]).

وعندما خرج مع عمه أبي طالب في تجارة إلى الشام، ونزل الركب ببصرى، كان هناك راهب يقال له (بحيرى) في صومعة له، وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وسبب ذلك هو أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم.

فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم، فما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟

فقال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما، فتأكلوا منه كلكم.

فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي ؛ قالوا له: يا بحيرى، ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدث القوم سنا، فتخلف في رحالهم فقال لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.

فقال رجل من قريش مع القوم: واللاتي والعزى، إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام.

فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى، فقال له: يا غلام أسألك بحق اللاتي والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال له بحيرى ذلك، لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسألني باللاتي والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما)، فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: (سلني عما بدا لك)، فجعل يسأله عن أشياء من حاله في نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال له بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؛ قال: فإنه ابن أخي ؛ قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده([28]).

رؤى صادقة:

 عبد القادر: ومن الإرهاصات المعرفة بعظم شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رؤى كثيرة رؤيت تنبئ بأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو رسول الله الذي كان ينتظره العالم.

ومن تلك الرؤى ما حدث به أبو طالب عن رؤيا أبيه عبد المطلب، قال: بينما أنا نائم في الحجر، رأيت رؤيا هالتني، ففزعت منها فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش وعلي مطرف خز وجمتي تضرب منكبي، فقلت لها: إني رأيت الليلة كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء، وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورا أزهر منها، أعظم من نور الشمس بسبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم لها ساجدين، وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى وساعة تظهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قوما من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخذهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها، ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا، فلم أقدر فقلت: لمن النصيب؟ قال: النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها، وسبقوك، فانتبهت مذعورا.

فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب ويدين له الناس.

فقال عبد المطلب لأبي طالب: لعلك أن تكون عم هذا المولود.

فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج ويقول: كانت الشجرة والله أبا القاسم الأمين([29]).

ومن تلك الرؤى التي سبقت مبعثه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم ما روي عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص قالت، قبيل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان خالد بن سعيد بن العاص ذات ليلة نائما فقال: رأيت كأنه قد غشيت مكة ظلمة عظيمة حتى لا يبصر امرؤ كفه، فبينما هو كذلك إذ خرج نور من زمزم، ثم علا في السماء، فأضاء في البيت، ثم أضاءت مكة كلها، ثم ضرب إلى نخل يثرب فأضاءها، حتى إني لأنظر إلى البسر في النخل، فاستيقظت، فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد، وكان جزل الرأي فقال: يا أخي إن هذا لأمر يكون في بني عبد المطلب، ألا ترى أنه خرج من حفرة أبيهم.

قال خالد: فإنه لمما هداني الله للإسلام.

قالت أم خالد: فأول من أسلم ابني وذلك أنه ذكر رؤياه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يا خالد: أنا والله ذلك النور وأنا رسول الله.

فقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد وأسلم عمرو بعده ([30]).

ومما يروى من هذا عن حرام بن عثمان الأنصاري قال: قدم أسعد بن زرارة من الشام تاجرا في أربعين رجلا من قومه، فرأى رؤيا أن آتيا أتاه، فقال: إن نبيا يخرج بمكة يا أبا أمامة، فاتبعه، وآية ذلك أنكم تنزلون منزلا، فيصاب أصحابك، فتنجو أنت، وفلان يطعن في عينه.

فنزلوا منزلا، فبيتهم فيه الطاعون، فأصيبوا جميعا غير أبي أمامة، وصاحب له طعن في عينه([31]).

ومما يروى في هذا عن عمرو بن مرة الجهني قال: خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا خرج من الكعبة حتى أضاء لي من الكعبة إلى جبل يثرب وأشعر جهينة، فسمعت صوتا في النور، وهو يقول: انقشعت الظلم وسطع الضياء وبعث خاتم الأنبياء.

ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن، فسمعت صوتا في النور، وهو يقول: ظهر الإسلام، وكسرت الأصنام، ووصلت الأرحام.

فانتبهت فزعا، فقلت لقومي: والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث، وأخبرتهم بما رأيت.

فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا خبر أن رجلا يقال له أحمد قد بعث، فخرجت حتى أتيته فأخبرته بما رأيت فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا عمرو بن مرة أنا النبي المرسل إلى العباد كافة أدعوهم إلى الإسلام وآمرهم بحقن الدماء وصلة الأرحام وعبادة الله ورفض الأصنام وحج بيت الله وصيام شهر رمضان شهر من اثني عشر شهرا، فمن أجاب فله الجنة ومن عصى فله النار، فآمن بالله يا عمرو بن مرة يؤمنك الله من هول جهنم)

فقلت: يا رسول الله، آمنت بما جئت به من حلال وحرام.

ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به وهي:

شهدت بأن الله حق وأنني    لآلهة الأصنام أول تارك

لأصحب خير الناس نفسا ووالدا رسول مليك الناس فوق الحبائك ([32])

عصمة النشأة:

 أجير بولس: لقد حفظ المسيح من صغره من تأثيرات البيئة اليهودية المنحرفة، فهل حفظ محمد؟

 عبد القادر: أجل.. ومما يروى في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يحكي عن صباه: لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى، وأخذ إزاره، فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك ؛ قال: فأخذته وشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي([33]).

وفي حديث آخر عن ابن عباس قال: حدثني أبي العباس بن عبد المطلب قال: لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي، فجعلنا نأخذ أزرنا، فنضعها على مناكبنا، ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينا هو أمامي إذ صرع، فسعيت، وهو شاخص ببصره إلى السماء، فقلت: يا بن أخي ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانا.

قال: فكتمته حتى أظهره الله بنوته([34]).

ومما له علاقة بهذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يحلف بحلف أهل الجاهلية الذين كانوا يحلفون بأصنامهم، ومما يروى في ذلك أن بحيرا حين ناشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم باللات والعزى، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسألني باللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئا)([35])

ويخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما هم بشيء من فعل الجاهلية من اللهو، ولو كان من المباح، فعن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (ما هممت بشئ مما كان أهل الجاهلية يهمون به من الغناء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله منهما.

ثم ذكر تينك الليلتين، فقال: (قلت ليلة لبعض فتيان مكة، ونحن في رعاية غنم أهلنا، فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الفتيان، فقال: بلى، فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا وغرابيل ومزامير، قلت ما هذا؟ قيل: تزويج فلان فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: (ما فعلت شيئا)، ثم أخبرته بالذي رأيت.

ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة، ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: لا شي، ثم أخبرته بالذي رأيت، فو الله ما هممت ولا عدت بعدهما لشئ من ذلك، حتى أكرمني الله بنبوته([36]).

وإذا كان بهذه الحالة، فحري به أن لا يقع فيما كان يقع فيه أهل الجاهلية من عبادة الأصنام وشرب الخمر وغيرها، وقد ذكر علي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل عبدت وثنا قط؟، قال: (لا) قالوا: فهل شربت خمرا قط؟ قال: (لا وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان)([37])

وفوق هذا كله، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غاية الخلق والنبل، حتى لقبه قومه (الصادق الأمين)([38])

ولهذا عندما نادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قريش بطنا بطنا فقال: (أرأيتم لو قلت لكم: إن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟)، قالوا: نعم ما جربنا عليك كذبا قط([39]).

***

 لست أدري كيف ظهر لبولس أن ينصرف، ويجرني معه، ليترك عبد القادر وعبد الحكيم مع الجمع يذكرون لهم ميلاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإرهاصات التي ارتبطت به، والتي لا تقل عن الإرهاصات التي ارتبطت بميلاد المسيح وغيره من الأنبياء.

انصرفت مع بولس، وفي قلبي بصيص من النور اهتديت به بعد ذلك إلى شمس محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


([1])  هناك ردود كثيرة جدا متصلة بهذا ذكرناها في (الباحثون عن الله) من هذه السلسلة.

([2])  انظر: أنبياء يبشرون بمحمد.

([3])  رواه ابن إسحاق.

([4])  رواه الحاكم والبيهقي.

([5])  الديرني: الراهب الذي يسكن الدير.

([6])  رواه الطبراني والبيهقي وأبو نعيم.

([7])  رواه ابن سعد.

([8])  وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله   صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة، فقالوا: خلأت القصواء (أي حرنت)، فقال رسول الله   صلى الله عليه وآله وسلم:«ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل »

وفي الصحيحين أن رسول الله   صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم فتح مكة:« إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب »

([9])  رواه الواقدي وأبو نعيم.

([10])  رواه ابن إسحق.

([11])  رواه أبو نعيم.

([12])  رواه أبو نعيم.

([13])  رواه أبو نعيم وابن حبان.

([14])  رواه الخرائطي وابن إسحق وغيرهما، ونحن نورد هذا من باب التساهل في النقل في مثل هذه المواضع، وإلا فإن البعض تشدد فيها، كالدكتور أكرم ضياء العمري الذي قال في كتابه (السيرة النبوية الصحيحة) (1/98-101):« وكذلك وردت روايات موضوعة حول هواتف الجان في ليلة مولده وتبشيرها به، وانتكاس بعض الأصنام في المعابد الوثنية بمكة. وحول ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط شرفاته، وخمود نيران المجوس، وغَيض بحيرة ساوة، ورؤيا الموبذان الخيل العربية تقطع دجلة، وتنتشر في بلاد الفرس. كذلك وردت روايات ضعيفة عن إخبار يهود بليلة مولده، وإخبار الراهب عيصا بمر الظهران بمولده. وقول العباس عمه إنه رآه في المهد يُناغي القمر. ولكن ثمة أخباراً تَقوى ببعضها إلى الحسن احتفَّت بمولده منها ما يفيد أن آمنة رأت حين وضعته نوراً خرج منها أضاءت منه قصور بصرى من أرض الشام »

ونحن لا نعتبر ما روي من ذلك أحاديث مرفوعة، فلذلك لا نحبذ وصفها بالوضع، فالحديث الموضوع لا يجوز روايته، ولكنها أخبار تاريخية، قد تدل بمجموعها على حقيقة الإرهاصات التي سبقت ميلاد رسول الله   صلى الله عليه وآله وسلم.

بالإضافة إلى ذلك، فإنا قد أوردنا هذا هنا من باب المشاكلة، فالأسانيد التي روى بها المسيحيون إرهاصات المسيح u ليست أقوى من الأسانيد التي روى بها علماء السيرة إرهاصات محمد   صلى الله عليه وآله وسلم.

([15])  انظر (أنبياء يبشرون بمحمد) من هذه السلسلة.

([16])  رواه أبو نعيم وغيره.

([17])  على عادة الجاهلية.

([18])  رواه ابن سعد، والبيهقي وغيرهما.

([19])  رواه ابن سعد وابن عساكر.

([20])  رواه محمد بن إسحاق.

([21])  رواه البيهقي.

([22])  رواه الحاكم وصححه والبيهقي.

([23])  رواه البيهقى.

([24])  رواه ابن سعد.

([25])  رواه ابن سعد.

([26])  رواه ابن سعد وأبو نعيم بسند قوي.

([27])  رواه ابن إسحق.

([28])  سيرة ابن هشام:1/180.

([29])  رواه أبو نعيم في الدلائل.

([30])  رواه أبو نعيم.

([31])  رواه ابن سعد.

([32])  رواه وابن الجوزي.

([33])  سيرة ابن هشام:1/184.

([34])  رواه الطبراني والبيهقي في الدلائل وابن جرير في التهذيب، وأبو نعيم في المعرفة وفي الدلائل، وهذا يدل على أن هذه الحادثة مخالفة للأولى، وقد قال السهيلي وتبعه ابن كثير وأبو الفتح وابن حجر: إن صح حمل على أن هذا الأمر كان مرتين مرة في حال صغره، ومرة في أول اكتهاله عند بنيان الكعبة.

([35])  رواه الترمذي، أبو نعيم في الدلائل (127) وابن سعد في الطبقات:1 / 100.

([36])  رواه ابن إسحاق وإسحاق بن راهويه والبزار وابن حبان، قال ابن حجر: وإسناده حسن متصل.

([37])  رواه أبو نعيم وابن عساكر.

([38])  فعن الزهري، أن قريشا سمت رسول الله   صلى الله عليه وآله وسلم الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي، فطفقوا ألا ينحروا جزورا إلا التمسوه فيه، فيدعو لهم فيما.

([39])  رواه البخاري ومسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *