أسرار الفناء والبقاء

أسرار الفناء والبقاء

قلت: عرفت أسرار العداوة والصداقة والسنن والمقادير والثبات والتطور.. فحدثني عن أسرار الفناء والبقاء.. وعلاقتها بأسرار الحياة.

قال: بعد أن علمت أسرار الثبات والتطور الذي أودعه الله في جميع الكائنات، والذي تنتقل به من البساطة إلى التعقيد.. ومن السطحية إلى الأعماق.. ومن الجهل إلى العلم.. تاقت نفسي لمعرفة سر الفناء والبقاء.. ذلك أنهما ركنان أساسيان في الحياة.. فالكل يخشى الفناء، ويهرب منه بكل الطرق.. والكل يحب البقاء، ويستعمل له كل الوسائل.

وبمجرد أن خطر هذا على بالي، أتاح الله لي وسائل التعرف عليه من غير أن يكون لي أي جهد في ذلك؛ فالله تعالى برحمته جعل لعباده من الآيات ما يعرفون به الحقائق الكبرى، حتى لا يحتجوا عليه بجهلها، أو بصعوبة فهمها.

وقد كتب الله لي أن أتعرف على هذه الأسرار في مقبرة ببلدتي، ذهبت إليها لزيارة قبري صديقين لي توفيا في نفس اليوم، بسبب حادث ألجأهما إلى المستشفى أياما، ثم ما لبثا أن غادرا الحياة.

وقد عجبت إذ وجدت قبريهما متجاورين مع أن المسافة بينهما أثناء الحياة كانت متباعدة جدا، وفي كل شيء.

أما أحدهما، فكان صاحب ثروة ضخمة، وكان مسرفا على نفسه، يعطيها من الأهواء كل ما ترغب فيها، فإذا ما عوتب على ذلك، أنشد قول الخيام:

هلم حبيبي نترك الهم في غد

   ونغنم قصير العمر قبل فوات

سنزمع عن ذي الدار رحلتنا غدا

   بسبعة آلاف من السنوات

وكان إذا ما اجتمع مع صديقنا الثاني قال له: قبل أن تقدم لي نصائحك، اسمع مني هذه المقطوعة:

يقول المتقون غدا ستحيا

   على ما كنت في هذي الحياة

لذا اخترت الحبيبة والحميا

   لأحشر هكذا بعد الممات

أما الصديق الثاني، فكان تقيا ورعا ممتلئا بكل معاني الزهد والنبل، وكان مخلصا في نصيحته لصديقه الذي كان يعمل معه في نفس الشركة، ثم افترقا بعد أن نال الصديق الأول حظه من الدنيا بصفقة مشبوهة تحول بها من عامل بسيط إلى ثري صاحب مال كثير.

وقد حصلت بينهما بعض الشحناء بسبب ذلك؛ فكلاهما كانا محاسبين في شركة كبيرة، وعرضت على كليهما بعض الرشاوى لتزوير بعض الحسابات؛ فقبل الأول، وأعرض الثاني.

وقد كان من نتائج ذلك أن أصبح الأول في قمة الثراء، بينما بقي الثاني في حياته البسيطة التي تشبه حياة كل الموظفين العاديين.

لست أدري بدقة سبب الحادث، ولا كيف تم، لكني سمعت الكثير يذكر أن الأول هو الذي حاول أن يدهس الثاني بسيارته، بعد أن خاف أن يشي به، وبما قام به من تزويرات، وما نال على ذلك من رشاوى.

وكان من نتائج ذلك أن كليهما أصيب إصابة بليغة، ألجأته إلى المستشفى، ثم مات بعدها.. ليبقى سرهما في طي الكتمان عن كل الجهات.. إلا تلك الجهات المقربة منهما، والتي ذكرت سبب الحادثة.

لست أدري كيف أصابتني غفوة، وأنا بجانب قبرهما، أتذكر تلك الأيام التي جمعتني بهما..

وقد رأيت أثناء تلك الغفوة من المشاهد ما تعلمت منه أسرار الفناء والبقاء.. فقد كانت من الوضوح بحيث شعرت فيها، وكأني أنا بجسدي وروحي ونفسي وكل لطائفي أعيش ما أراه وأسمعه.

لقد رأيت كلا القبرين.. لكن بصورة مختلفة تماما.. أما أولهما، وهو قبر ذلك الصديق المسرف على نفسه، فقد كان على هيئة كوخ حقير، محاط بالقاذورات، التي تجمعت عليها أنواع الحشرات السامة وغير السامة..

وأما الثاني، وقد كان مجاورا له، فقد رأيته بصورة قصر منيف، محاط بكل ألوان الزينة، وتعبق من جنباته روائح الزهور الزاهية الممتلئة بالجمال.

بينما أنا في دهشتي إذا بالمعلم الذي كتب لي أن أتعلم أسرار الفناء والبقاء على يديه، يقدم إلي، وهو يقول: لقد وصلتنا رغبتك في أن تتعرف على أسرار الفناء والبقاء.. ولذلك شاء الله أن تراهما بعينيك؛ فليس الخبر كالعيان.

قلت: من أنت.. وكيف عرفت رغبتي في معرفة هذين السرين؟

قال: لا تسل عن الكيف.. فأنت لا تطيقه.. واعلم أن الله تعالى هو المعلم الأكبر لعباده، ولذلك إن أراد أن يعلمهم شيئا يسر لهم من الأسباب ما يخرجون به من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة.

قلت: هل أنت بشر أم ملاك؟.. وما هذا العالم الذي أراه؟.. وفي أي بلاد أنا؟

قال: لن أجيبك إلا على ما أذن لي الإجابة عليه، ولن أعلمك إلا ما أذن لي في تعليمك إياه.. فلا تسلني إلا ما ينفعك.. فلله تعالى من الشؤون ما لا يمكن لأحد الإحاطة به.. فسلم لربك تسلم.

قلت: سلمت أمري لله.. فحدثني عن سر هذا الكوخ.. والقصر الذي بجانبه.

قال: هذان ثمرتان لبعض أعمال صديقيك اللذين جئت تزورهما.

قلت: اللذان توفيا؟

قال: لم تكن وفاتهما إلا رحلة عن المدينة التي تسكنون فيها إلى هذه المدينة الجديدة التي تراها.. فالله ما خلق خلقه للفناء، وإنما خلقهم للبقاء، ألم تسمع قول الشاعر:

خلق الناس للبقاء فضلت

   أمة يحسبونهم للفناء

إنما ينقلون من دار أعمال

   إلى دار شقوة أو رشاد

قلت: بلى.. وقد سمعت معه القرآن الكريم، وهو يحدثنا عن البقاء.. وأنه مصير كل الخلائق.. لكني أسأل عن هذا الذي أراه.

قال: ألم تسمع قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } [الكهف: 46]؟

قلت: بلى.. وقد سمعت معها قوله تعالى: { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا } [مريم: 76]

قال: فهذا الكوخ، وذاك القصر كلاهما يمثلان الباقيات الصالحات، والباقيات الموبقات..

قلت: هل تقصد أنهما ثمار للأعمال التي كان يقوم بها صديقاي في الدينا.

قال: بل هي تجسيد لأعمالهما.. فقد كان أحدهما يرسل في كل لحظة حشرة من الحشرات التي تقززت منها، وكان الآخر يرسل في كل لحظة لبنة من لبنات القصر الذي أعجبت به.

قلت: هل تقصد أن مصير ذلك الصديق المسرف على نفسه هو هذا الكوخ، وأن مصير ذلك الصديق المحسن هو هذا القصر؟

قال: لم أقصد هذا.. فأعمالهما أكبر من أن يبنى بها كوخ أو قصر.. إنما هذه بعض أملاكهما..

قلت: ولكن صاحب الكوخ لا يملك إلا الحشرات والقاذورات وهذا الكوخ الممتلئ بالآلام..

قال: أجل.. فقد كان بأعماله يقوم ببنائه، وبتوفير كل ما تراه فيه من دنس وألم وقاذورات .. وما خفي عن عينيك أعظم.

قلت: وصاحب القصر.. كيف حصل على كل هذا؟

قال: لقد كان يرسل كل يوم.. بل كل لحظة .. بل مع كل نفس من أنفاسه من الأعمال الصالحة ما هيأ له هذا القصر، ومعه قصور وجنات كثيرة.. هو الآن يرتع فيها، ممتلئا بالسعادة.

قلت: والآخر.. أين هو؟

قال: لقد ذهب قبل قليل ليشاهد شريطا وثائقيا عن المصير الذي ينتظره في الآخرة..

قلت: ما تعني؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى عن آل فرعون: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا } [غافر: 46]؟

قلت: بلى.

قال: لقد كان صاحبك يسير سيرة آل فرعون، فلذلك بمجرد أن رحل من تلك المدينة إلى هذه المدينة، صار منهم وفيهم.. يعامل مثلما يعاملون.. وهو الآن صديق حميم لقارون الذي كان نظيرا له في تلك المدينة، فصار صديقا له في هذه المدينة.

قلت: وصديقي الثاني.

قال: هو الآن مع كل الأولياء والأصفياء والعلماء الذين كان يحبهم في الدنيا.. وقد ذهب قبل قليل مع رفاقه إلى سياحة في بعض الحدائق، ليشاهد معهم بعض عجائب خلق الله، والتي كان يتوق إلى مثلها في المدينة التي كان يسكن فيها.

قلت: هل تقصد أن كل ما كان يتوق له في الدنيا حقق له هنا؟

قال: أجل.. بل حقق له ما لم يكن يحلم، أو يخطر على باله.. ألم تسمع قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]

قلت: بلى، وقد سمعت معها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قال اللّه تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)([1]) .. ولكن ذلك في جنة المأوى.

قال: تعالت رحمة الله وكرمه أن يخص بالجنة دون غيرها..

قلت: صدقت.. فإن الله تعالى وفر من النعيم الصالح للصالحين في الدنيا، ما جعلهم يشعرون أنهم في الجنة.. ولكن كيف حصل صاحبي الصالح على ذلك؟

قال: لأنه عرف المفاتيح التي يفتح بها أبواب البقاء.. ولذلك حفظ الله له كل أعماله الصالحة، والتي شكلت له رصيدا ضخما، هو الآن يتنعم به.

1 ـ الباقيات الموبقات:

بينما كنا مستغرقين في هذا الحديث، إذا بالمعلم يغيب عن عيني فجأة، ويحل بدله شخص ممتلئ بالدمامة والروائح الكريهة، فسألته عنه، فقال: ألا تعرفني.. أنا صديقك فلان؟

قلت: ولكن صديقي مات.

قال: لقد كنت مثلك أظن أن الموت فناء.. لكني اكتشفت أن الموت ليس إلا رحلة من مدينة إلى مدينة، ومن عالم إلى عالم.. وواحسرتاه على ما جنته يداي.

قلت: لكن صديقي كان وسيما صاحب رائحة طيبة.

قال: ذاك جسده الذي كان حجابا بينك وبين معرفته.. أما ما تراه فهي نفسه الخبيثة الممتلئة بكل ألوان الدنس.. كل ما تراه من دمامة ليس سوى أخلاقي وأعمالي التي شكلت منها نفسي في تلك المدينة.

قلت: فكيف وجدت طعم الموت؟

قال: ألم تسمع ما ذكره القرآن عن النازعات.

قلت: بلى.. فقد قال الله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات: 1 – 2]، وقد ذكر في تفسيرها أنها (الملائكة، حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعنف فتغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط)([2])

قال: فقد كنت أنا من أولئك الذين قبضت أرواحهم بشدة.. لقد ذكر لي ذلك صاحبي، وحذرني منه، لكني كنت أسخر منه، لقد تلا علي حينها بعض آيات من القرآن تذكر ما تفعله الملائكة بأصحاب النفوس الخبيثة.. لكني لا أذكر ما قرأه، ولا أستطيع.

قلت: لعله كان يقرأ عليك قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)} [الأنعام: 93، 94]

قال: أجل.. كان يقرأ علي هذه الآيات، وكنت أسخر منها ومنه.. لكني اكتشفتها ورأيتها بحقيقة عيني.. لقد كنت أطالبه بدليل حسي على ما يقوله، وكان حينها يقرأ علي آيات أخرى.. لا أذكرها، ولا أستطيع أن أنطق بها.

قلت: لعله كان يقرأ عليك قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)} [الفرقان: 21 – 23]

قال: أجل.. فهذه الآيات تنطبق علي تماما؛ فأنا مذ رأيت أولئك الملائكة الذين قدموا علي في تلك اللحظات القصيرة قبل موتي، وأنا لا أرى طعم الراحة.

قلت: فقد تألمت إذن عند قبض روحك؟

قال: وكيف لا أتألم.. وقد ذكر لي حينها المصير الذي سأصير إليه.

قلت: أجل.. لقد أخبر الله تعالى أن الموتى يعرفون مصيرهم قبل موتهم، قال تعالى مخبرا عن ساعة الاحتضار: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 83 – 94].. فهل عاينت كل هذا؟

قال: لا .. أنا لم أعاين سوى ما عاينه أمثالي من المكذبين الضالين.

قلت: ولكنك كنت مسلما، وعشت في بلاد المسلمين.. وكل أجدادك مسلمون، ويحملون أسماء إسلامية.. بل إن بعضهم يذكر أن أسرتكم من الأسر الطيبة التي لها تاريخ كبير في الصلاح.

قال: أنت لا تعرف قوانين هذا العالم الذي أعيشه.. فهو عالم لا يغني فيه اسم ولا نسب ولا حسب .. ولا آباء ولا أجداد.. لا يغني فيه إلا العمل الصالح.

قلت: فكيف أجبت الملائكة حين سألوك؟.. لاشك أنك أجبتهم بما حفظناه في دروس التربية الإسلامية.. وبما سمعناه في المساجد ودروس الوعظ، فقد كنت تقلدها، وتحفظ الكثير منها.

قال: لقد كنت أحفظها في ذاكرة جسدي، لا في ذاكرة روحي.. ولذلك سرعان ما ارتبكت حين سئلت.. فلم أجد نفسي إلا وأنا أقول لملائكة ربي: ها ها .. لا أدري..

ثم ترجيت أن يتركوا لي الفرصة لأتذكر.. لكني لم أستطع، فقد غابت عني حينها كل الحقائق التي كنت أحفظها..

قلت: ولكن .. لم؟

قال: لأني كنت أحفظها، ولا أؤمن بها.. أو كان إيماني بها لا يتجاوز حنجرتي.. بل كنت أحيانا أسخر منها.

قلت: كيف ذلك.. لم أكن أعلم ذلك.

قال: لم أكن غبيا حتى أخبر الناس بذلك.. لأني كنت أجد مصالحي في الإيمان الذي عليه قومي.. لكن قلبي كان مستغرقا في الدنيا، لا يرى سواها.. ولولا ذلك ما شاركت في تلك الصفقة المشؤومة التي بعت بها كل ما عندي من بذور الخير، لأشتري بها هذا الكوخ الذي تراه.

قلت: أهذا الكوخ هو ثمن تلك الصفقة؟

قال: أجل.. لقد جسد الله لي عملي في هذا الكوخ المشؤوم الذي تراه.

قلت: لا بأس .. فما أكثر الذين كانوا يعيشون في الأكواخ في الدنيا.

قال: أنت لا تعرفه.. هذا ليس مثل الأكواخ التي تعرفها.. إنه كوخ عاقل مثل كل شيء تراه..فكلما أويت إليه راح يضيق علي، ويجمع لي كل أصناف الحشرات والعقارب والحيات، ثم يخاطبني بكل ما يملؤني بالأسى والاكتئاب والإحباط.

قلت: فقد ندمت على تلك الصفقة إذن.

قال: ولات ساعة مندم.. لقد تمنيت أن تسوي بي الأرض، أو أتحول إلى تراب، ولا أكون أجريتها.

قلت: فما سر الحشرات التي أراها؟

قال: ويلك هل هذه حشرات .. هذه أسود وسباع وحيات وعقارب.

قلت: لكني أراها حشرات..

قال: أنت تراها كذلك.. لأنك لم تعاين أفعالها في جسدك، ولو عاينتها لعرفت أنه لو اجتمعت جميع سباع الدنيا وحياتها وعقاربها ما عادلت واحدة منها.

قلت: فهل أنت الذي صنعتها؟

قال: أجل.. لقد كنت في الدنيا أتفنن في صناعة الحيات والعقارب.. كنت أكذب وأغش وأحسد وأمشي بين الناس بالنميمة.. وكل تلك الصفات تجسدت لي فيما تراه.. وما خفي أعظم.. لقد شاهدت اليوم ككل يوم بعض ألوان العذاب المعدة لي، فامتلأت رعبا.

قلت: إلى متى يظل هذا حالك؟

قال: لا أظن أنني سأخرج من هذه الحال أبدا، فجرائمي كثيرة، وآخرها جريمة قتلي لصديقي الذي قضى كل عمره ينصحني، لكني كنت مستكبرا عن نصيحته.. وها أنت ترى مصيري.

قلت: هو الآن جارك.. فهل تراه يزورك؟

قال: وكيف يكون جاري.. وقد سمعت أنه حشر مع الشهداء.

قلت: لكن قصره بجانب كوخك.

قال: أي قصر هذا.. أنا لا أرى أمامي أي قصر.

قلت: ها هو .. حدق ببصرك جيدا لتراه.

قال: أنت تقول ذلك، لأنك لا تعرف قوانين هذا العالم.. فهو ليس كعالمنا نشترك فيه في رؤية الأشياء أو الإحساس بها.. نحن هنا في عالم العدالة المطلقة.. فلا يرى أحد شيئا أو لا يحس بشيء إلا بحسب ما قدمه من عمل.

قلت: فهل تركت في أهلك من يرسل لك بعض الهدايا الصالحة التي قد تنقذك من هذه الحال.

قال: بل تركت فيهم من يرسل لي كل حين أنواع البلاء.. فآثار أعمالي لا تزال في ذلك العالم تملؤه بالأسى.. لقد علمت أولادي جميعا فنون الاحتيال واللصوصية، وهم الآن يمارسونها، وأنا أتحمل كل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا.

قلت: لعلك أعنت من قد يرسل لك بعض الدعوات.

قال: وما عسى دعواته تفعل لي.. وخصومي لا يعدون.. وآثار أعمالي لا يمكن إحصاؤها.

2 ـ الباقيات الصالحات:

ما إن وصل من حديثه إلى هذا الموضع حتى غاب عني هو الآخر، بل تلاشى، وحل بدله شخص آخر ممتلئ جمالا، وتنبعث منه روائح طيبة، ما إن رأيته حتى توهمت أنه يوسف عليه السلام، وكدت أقول ما قال النسوة عنه: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف: 31]

قلت، وأنا مندهش مما أرى: من أنت.. هل أنت من ملائكة الله، أم أحد النبيين أو الصديقين والصالحين؟

قال: بل أنا صديقك فلان.

قلت: لم أرك في حياتي بهذا الجمال أبدا.. بل كان الكل يصفونك بالدمامة، ويعيرونك بها.

قال: كانوا ينظرون إلى جسدي.. والذي لم يكن سوى قناع ابتلاني الله به، وابتلاهم به.. لنكشف من خلاله عن حقائقنا.

قلت: لكني كنت أراك راضيا، بل كنت دائم البشر والابتسامة.

قال: لأني لم أكن أنظر إلى جسدي، وإنما كنت أنظر إلى حقيقتي، وأحمد الله تعالى على أن زين نفسي بالفضائل.. أما جسدي فكنت أراه كما أرى سائر الأشياء، مجرد واجهة ألبسها لمدة محدودة، ثم سرعان ما أتركها.

قلت: صدقت.. فالأخلاق هي الصورة الحقيقية للإنسان.. وأما الجسد فليس سوى قناع عن تلك الحقيقة.

قال: لا أستطيع مهما قلت أن أصف نعم الله علي.. مذ دهستني تلك السيارة.

قلت: ألم تشعر بألم الدهس؟

قال: وكيف أشعر به.. وقد كتبني الله بفضله من الشهداء، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يصف ميتتهم.. فقد قال: (ما يجد الشهيد من مس القتل، إلا كما يجد أحدكم مس القرصة)([3])

قلت: بلى.. فأخبرني .. كيف واجهت الملائكة عليهم السلام لأول مرة.. ألم يصبك الفزع؟

قال: وكيف يصيبني الفزع، وأنا في كل حياتي كنت مصاحبا لهم، مشتاقا للالتقاء بهم.. وقد شرفني الله تعالى بذلك.. آه يا صديقي العزيز لو رأيت جمالهم ولطفهم وأنوارهم، إنها وحدها كافية لتمسح عنك كل الآلام.

قلت: فهل حدثتهم؟

قال: وكيف لا أحدثهم.. لقد تعاملوا معي بكل لطف.. وقد رأيت كل ما ذكره ربي من أنوار وروح وريحان.. وأنواع الجمال التي لا يمكنني أن أعبر عنها.. فاللغة التي كنا نتحدث بها لا يمكنها أن تصف هذا العالم الذي نعيشه.

قلت: أنت تسكن الآن في هذا القصر؟

قال: هذا مجرد قصر واحد من قصوري.. وأنا أتردد إليه أحيانا.. لكني معظم أوقاتي أقف أمام باب الجنة لأشاهد فيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)([4])

قلت: لقد سمعت في بعض الأحاديث أن أرواحكم (في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)([5])

قال: الله أكرم من أن يضع أرواحنا في جوف الطيور.. بل نحن نسرح في الجنة بخلقتنا التي خلقنا الله عليها، والتي تراها الآن.

قلت: أجل.. لقد ذكرتني بمقولة للإمام الصادق يقول فيها لمن سأله عن أرواح المؤمنين في الجنة: (في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها، ويشربون من شرابها، ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة، وانجز لنا ما وعدتنا)، وسئل عن أرواح المشركين، فقال: (في النار يعذبون، ويقولون ربّنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا)([6])

وروي أنه قيل له: (جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش)، فقال: (لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير، لكن في أبدان كأبدانهم)([7])، وفي رواية: (فإذا قبضه الله عزّوجلّ صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا)([8])

قال: أجل.. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك، بل صرح به، فقد قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ([آل عمران: 169، 170]

قلت: إن هذه الآية الكريمة تشير إلى معرفتكم بأهل الدنيا.

قال: أجل.. نحن نطلع على كل شيء يحصل فيها، مثلما تطلعون أنتم في وسائل الإعلام على كل ما يحصل في أنحاء العالم.

قلت: ولكنا قد نشارك بآرائنا ومواقفنا.. وربما بأعمالنا.. وقد عزلتم أنتم عن ذلك.

قال: نحن مختلفون في ذلك.. منا من يكتفي بما ذكرت.. ومنهم من يتاح له المشاركة.

قلت: كيف؟

قال: ذلك غيب لا يمكنني أن أشرحه لك.. ولكن اعلم بأن من جزاء المؤمن أن الله تعالى يكافئة نتيجة زهده في الدنيا وورعه فيها بأن يعطيه كليهما.

قلت: لا أكاد أفهم هذا.

قال: نحن هنا لا نرى إلا الأعمال.. فكل عمل من الأعمال له جزاؤه الخاص المناسب له.. ولذلك لا يمكنك أن تعد أنواع الجزاء، هي تشمل كل ما يخطر على بالك، وما لا يخطر على بالك.

قلت: ألست تشتاق إلى أهلك؟

قال: وكيف أشتاق إليهم، وأنا أراهم كلما خطروا على بالي.. أتنقل إليهم متى أشاء، وقد يتاح لي أن أتدخل في حياتهم بما ينفعهم.

قلت: لم أفهم..كيف ذلك؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]؟

قلت: بلى.. وقد ذكر الله تعالى فيها كيف ذهب الخضر وموسى عليهما السلام لخدمة ذينك الولدين بسبب أبيهما الصالح.

قال: فنحن كذلك قد ندعو بعض الصالحين ليفعل بأسرنا ما فعله الخضر وموسى عليهما السلام.

قلت: كنت أظن أن ذلك خاص بهما.

قال: معاذ الله .. فرحمة الله وكرمه أوسع من أن تشمل من عباده شخصا واحدا، ثم تضيق بغيره.

قلت: أخبرني عن هذا القصر.. ما هو العمل الذي عملته حتى نلته؟

قال: خدمات بسيطة قدمتها لبعض الناس.. وقد دعا لي أحدهم بأن يرزقني الله قصرا في الجنة بسبب ذلك، وهذا القصر بني في تلك اللحظة التي دعا لي فيها هذا الدعاء.

قلت: كنت أحسبه جزاء خاصا بتلك التضحية التي قمت بها في الشركة التي كنت تعمل فيها.

قال: جزاء تلك التضحية لا يمكنك تصوره.. لقد أعطاني الله به فضلا عظيما بغير حساب..

قلت: هل تتمنى أن ترجع للدنيا؟

قال: أجل.. بمجرد أن رأيت ما رأيت من فضل الله تمنيت أن أرجع للدنيا.

قلت: ويلك .. أتريد أن أقول لك ما قال الله تعالى لبني إسرائيل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61]

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:  (ما من نفس تموت لها عند اللّه خير، يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة)([9])

قلت: بلى.. وقد سمعت معها قوله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر عند استشهاد أبيه: (أعلمت أن اللّه أحيا أباك فقال له: تمنَّ، فقال له: أردُّ إلى الدنيا فأقتل فيك مرة اخرى، قال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون)([10]) ، وسمعت معها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده لولا أن رجالا يكرهون أن يتخلفوا بعدي ولا أجد ما أحملهم ما تخلفت لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)([11])

قلت: فهل تأكلون وتشربون .. ؟

قال: نحن نمارس حياتنا بكل معانيها.. فنأكل ونشرب ونلبس ونتجول.. ونسيح في ملكوت الله.. ونصحب أولياء الله.

قلت: فهل تتذوقون اللذات مثلما نتذوقها نحن أهل الدنيا؟

قال: لا.. لا يمكن ذلك.

قلت: كيف.. كنت أحسبكم تتلذذون مثلنا.

قال: كل لذات الدنيا منغصة ومكدرة ومملوءة بالشوائب.. أما نحن فلذاتنا خالصة صافية، ليس فيها شائبة.. ونحن نتلذذ بجميع كياننا، لا ببعض أجسامنا مثلما كنا في الدنيا.

قلت: أكل هذا تجسد لأعمالكم؟

قال: أجل.. فمن وهب كل حياته لله.. وهبه الله كل شيء.

قلت: هلا أدخلتني هذا القصر، وقدمت لي بعض الطعام، مثلما كنت تستضيفني في الدنيا..

***

ما قلت هذا حتى استيقظت من تلك الغفوة، وقد كان عجبي شديدا حين لقيت ذلك الذي سميته معلما أثناء غفوتي، يقف بجانبي، وهو يقول لي مبتسما: ليس الآن.. الآن دورك أن تعمل.. أما الجزاء، فقد ادخره الله لك في تلك الدار.. فأرسل من أعمالك الصالحة ما ستجده هناك، فالله لا يضيع عنده شيء.

قلت: من أنت.. هل أنت من الإنس أم من الجن.. من البشر أم من الملائكة؟

قال: ألا تزال تسأل هذه الأسئلة.. ألم يخلق ربك غير الإنس والجن والملائكة؟

قلت: فهل أنت خلق آخر من خلق الله؟

قال: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } [المدثر: 31]

قلت: ما الذي حصل لي، وكيف دخلت معي في غفوتي؟

قال: لم تكن تلك غفوة.. ولم يكن ذلك نوم.. بل كنت ترى الحقائق التي طلبتها.. ألم تطلب أن ترى أسرار الفناء والبقاء.

قلت: بلى.. وقد كنت أتصور أني أحتاج لرحلة طويلة لأتعرف على أسرارها.

قال: لقد علم الله تعالى صدقك، فلذلك أرسلني إليك لأريك هذه الحقائق رأي العين.. فلا يمكن لأسرار الفناء والبقاء أن تشرح بأحسن من رؤيتها رأي العين.


([1])  رواه البخاري رقم (4780)

([2])  تفسير ابن كثير (8/ 312)

([3])  رواه أحمد (7953)، والترمذي (1668)، والنسائي (3161)، وابن ماجة (2802)، وابن حبان (4655)، والبيهقي (18525)

([4])  رواه البخاري رقم (4780)

([5])  مسلم (1887)

([6])  بحار الأنوار: 6/ 269.

([7])  بحار الأنوار: 6/ 268..

([8])  بحار الأنوار: 6/ 270..

([9])  البخارى (3/1029، رقم 2642) ، ومسلم (3/1498، رقم 1877)

([10])  أبو نعيم فى الحلية (2/4)

([11])  النسائى (6/20، رقم 3132) ، وابن عساكر (52/135)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *