أسرار الصداقة

أسرار الصداقة

قلت: حدثتني عن أسرار العداوة.. فحدثني عن أسرار الصداقة.. وعلاقتها بأسرار الحياة.

قال: بعد أن كشف الله لي من أسرار العداوة ما شاء أن يكشفه لي.. رحت أبحث عن أسرار الصداقة..

وقد دعاني إلى ذلك البحث أني كنت أعلم علم اليقين أن الله ما أودع في فطرتي الحنين إلى اتخاذ الأصدقاء إلا وقد وفر لي في هذه الحياة من يصلح أن أتخذه صديقا..

علمت ذلك علم اليقين.. لكنه لم تنكشف لي أسرار ذلك، ولا كيفياته إلا بعد تلك الرحلة التي سرتها في الأرض، وكنت فيها كذلك الصحفي الجوال الذي أراد أن يحقق في قضية من القضايا المعقدة، ولذلك اضطر لأن يلبس في كل مرة لباسا جديدا ينسجم مع القضية التي يريد التحقيق فيها.

وقد شاء الله أن يكون أول من ألتقي بهم ـ أثناء بحثي عن أسرار الصداقة ـ نفرا من الشعراء، وأنت تعرف قدرة الشعراء على تصوير الواقع.. وقد رأيت منهم جميعا من التشاؤم ما ملأني رغبة عن الصداقة.. وعن جميع أسرار الصداقة..

كان أولهم شاعرا، رأيته عندما زرت قبيلة خزاعة.. وكان يضع كلتا يديه على جميع خديه، وهو يردد بحزن قائلا:

أيا رب كل الناس أبناء علة

   أما تعثر الدنيا لنا بصديق

وجوه بها من مضمر الغل شاهد

   ذوات أديم في النفاق صفيق

إذا اعترضوا دون اللقاء فإنهم

   قذى لعيون أو شجى لحلوق

وإن أظهروا برد الوداد وظله

   أسروا من الشحناء حر حريق

ألا ليتني حيث انتوت أفرخ القطا

   بأقصى محل في الفلاة سحيق

أخو وحدة قد آنستني كأنني

   بها نازل في معشري وفريقي

فذلك خير للفتى من ثوائه

   بمسبعة من صاحب ورفيق

اقتربت منه، وسألته عن سره، وسر تشاؤمه؛ فراح ينشد من غير أن يلتفت لي:

وصاحب كان لي وكنت له

   أشفق من والد على ولد

كنّا كساق تسعى بها قدم

   أو كذراع نيطت إلى عضد

حتّى إذا دانت الحوادث من

   عظمي وحلّ الزّمان من عقدي

ازورّ عنّي وكان ينظر من

   طرفي ويرمي بساعدي ويدي

صحت فيه: ما بالك هلا حدثتني كما يحدث الخلق بعضهم بعضا.

نظر إلي، وقال:

أشرّق أم أغرّب يا سعيد

   وأنقص من ذمامي أو أزيد

عدتني عن نصيبين العوادي

   فبختي أبله فيها بليد

وخلّفني الزّمان على رجال

   وجوههم وأيديهم حديد

لهم حلل حسنّ فهنّ بيض

   وأخلاق سمجن فهنّ سود

ألا ليت المقادر لم تقدّر

   ولم تكن العطايا والجدود

تركته بعد أن يئست من أن أستفيد منه شيئا، لكني ذهبت إلى شخص ذكر لي أنه الصديق الذي سبب له كل ذلك الاكتئاب، وعندما التقيت به وجدته لا يختلف عنه في الشكوى، ولا في الاكتئاب، فقد قال لي عندما سألته عنه، وعن سر العداوة التي حصلت بينه وبين صديقه:

وخليل لم أخنه ساعة

   في دمي كفيه ظلماً قد غمس

كان في سري وجهري ثقتي

   لست عنه في مهم أحترس

ستر البغض بألفاظ الهوى

   وادعى الود بغش ودلس

إن رآني قال لي خيراً وإن

   غبت عنه قال شراً ودحس

ثم لما أمكته فرصة

   حمل السيف على مجرى النفس

وأراد الروح لكن خانه

   قدر أيقظ من كان نعس

طلبت منه أن يترك الشعر، ويحدثني كما يحدث الخلق بعضهم بعضا، فنظر إلي، وقال:

شرّدتني خيانةٌ من صديق

   أنا مستسلمٌ له وهو حربُ

مضمرٌ للنفاق والقلب فيهِ

   مبطنٌ بغضه وباديهِ حبُّ

قلت يوماً له وإن مضى مِن

   هُ فعال أتى بها أنتَ كلبُ

قال: للمزح قلتُ ذا أم لثلبي؟

   قلت للثلبِ قال ما فيه ثلبُ

شيمةُ الكلب حفظه لوليٍّ

   وعن الحيِّ في دجا الليل ذبُّ

يحفظُ الجار للجوار ويُمسي

   ساهِرَ المقلتين يحنوهُ سَغبُ

يرقدُ النائمون أمنا ويمسي

   خائفا هلكهم يحاكيهم صب

وتر الكلب في المهامِهِ غوثا

   ويجيب اللهيف والنار تخبو

وتراه ينابحُ الكلب خوفا

   وإلى الصوت في دجا الليل يحبو

فلماذا أنحَستَه الحظّ قل لي

   لِمْ تُشِن حُسنَه وما فيه سبُّ

 تركته، وانصرفت.. وفي بلدة المعرة من بلاد الشام التقيت شاعرا مزج بين الفلسفة والشعر، كان ممتلئا شؤما، كان يقال له (أبو العلاء)، سمعته ينشد، وعيناه تسحان بالدموع:

ليس الذي يُبكى على وصله

   مثل الذي يُبكى على صَدِّه

قالوا فلانٌ جَيِّدٌ لصديقه

   لا يكذبوا، مافي البريةِ جيدُ

فأميرهمْ نالَ الإِمارةَ بالخَنا

   وتقيهمْ بصلاتِه متصيِّدُ

كنْ من تشاءُ مُهجَّناً أو خالصاً

   وإِذا رزقتَ غنىً فأنتَ السيدُ

واصمتْ فما كثرَ الكلامُ من امرئٍ

   إِلا وظُن بأنه متزيدُ

أردت أن أكلمه.. فأشاح بوجهه عني هو الآخر.. وراح يقول([1]):

كم صديقٍ كنتَ منه في عَمىً

   غَرَّني منهُ زماناً منظرُهْ

كان يلقاني بوجهٍ طلقٍ

   وكلامٍ كاللآلي ينثرهْ

فإِذا فتشتهُ عن غيبِه

   لم أجدْ ذاكَ لودٍ يضمرهْ

فدعِ الإِخوانَ إِلا كلِ من

   يضمِرُ الودِّ كما قد يظهرهْ

وفي بلاد الشام.. وفي حماه.. التقيت شاعرا يقال له أسامة كان من نسل (أسامة بن منقذ).. كان ممتلئا همة وشجاعة، لكني ما إن سألته عن أسرار الصداقة حتى رأيت وجهه قد تغير، وهمته قد خارت.. ثم انصرف عني، وهو يقول:

قلَّ الصديقُ وإِن أصبحتَ تعرف لي

   مكانهُ، فأبنْ لي أينَ أقصدهُ

كم قد عرفْتُ صديقاً بعد مَعْرِفتيْ

   إِياهُ صرْتُ فراراً منه أجحدُهُ

كفرتُ بالودِّ منه حين أوحشني

   وكنتُ وُجْداً به في الناسِ أعبدُهُ

دعِ العدوِّ وكن ما عِشْتَ ذا حذرٍ

   من الصديقِ الذي زُورٌ توددهُ

وليس فتكةُ من بالذمِّ تقصِدُهُ

   كفتكةٍ من حميمٍ أنتَ تحمدُه

ولا يغرنْكَ ثَغْرٌ لاحَ من ضَحِكٍ

   بياضُهُ، فبياضُ المَكْرِ أسودُهُ

بقيت أتردد على مضارب القبائل المختلفة.. إلى أن وصلت إلى الكوفة.. وهناك التقيت رجلا وهب من صناعة الكلام ما جعل أعداءه يتهمونه بدعوى النبوة.. وقد كانوا يطلقون عليه لذلك ـ حسدا ـ (المتنبي).. عندما سألته عن أسرار الصداقة نظر إلى الأفق البعيد بحزن، وقال:

عدوُّك من صديقِكَ مستفادٌ

   فلا تستكثرَنَّ من الصحاب

فإِن الداءَ أكثرُ ماتراهُ

   يحولُ من الطعامِ أو الشرابِ

إِذا انقلبَ الصديقُ غدا عدواً

   مُبيناً، والأمورُ إِلى انقلابِ

ولو كان الكثيرُ يطيبُ كانَتْ

   مصاحبةُ الكثيرِ من الصوابِ

ولكن قلما استكثرْتَ إِلا

   سقطْتَ على ذئابٍ في ثيابِ

فدعْ عنك الكثيرَ فكم كثيرٌ

   يُعافُ وكم قليلٍ مستطابِ

بعد أن لقيت هؤلاء الشعراء وغيرهم امتلأت يأسا من أن أجد صديقا صدوقا يفضي إلي من أسرار الصداقة ما يجعلني أفقه هذا السر الخطير من أسرار الحياة..

لكني وأنا في تلك الحال الممتلئة باليأس والإحباط رأيت رجلا قد التف به جمع من الناس يسألونه؛ فاقتربت منه، فسمعته يقول([2]): الصداقة التي تدور بين الرغبة والرهبة شديدة الاستحالة، وصاحبها من صاحبه في غرور، والزلة فيها غير مأمونة، وكسرها غير مجبور.

قال له بعض الحاضرين: فما تقول في صداقة الملوك؟

ابتسم، وقال: الملوك فقد جلوا عن الصداقة، ولذلك لا تصح لهم أحكامها، ولا توفي بعهودها، وإنما أمورهم جارية على القدرة، والقهر، والهوى، والشائق، والاستحلاء، والاستخفاف.

قال آخر: وما تقول في خدمهم وحشمهم والمقربين منهم؟

قال: هم على غاية الشبه بهم، ونهاية المشاكلة لهم، لانتشابهم بهم، وانتسابهم إليهم، وولوع طورهم بما يصدر عنهم، ويرد عليهم.

قال آخر: فما تقول في صداقة الفلاحين وأصحاب الضياع والتجار؟

قال: أما أصحاب الضياع، فليسوا من هذا الحديث في عير ولا نفير.. وأما التجار فكسب الدوانيق سد بينهم وبين كل مروءة، وحجزهم عن كل مكرمة.

قال آخر: فما تقول في صداقة الكتاب وأهل العلم؟

قال: لا خير لك في صحبتهم.. فإنهم ممتلئون بالتنافس، والتحاسد، والتماري، والتماحك، ولذلك لا تصح لهم الصداقة، ولا يظهر منهم الوفاء.

قال آخر: فما تقول في صداقة عامة الناس؟

ابتسم، وقال: أولئك رجرجة بين الناس، لا محاسن لهم فتذكر، ولا مخازي فتنشر، ولذلك قيل لهم همج، ورعاع، وأوباش، وأوناش، ولفيف، وزعانف، وداصة، وسقاط، وأنذال، وغوغاء، لأنهم من دقة الهمم، وخساسة النفوس، ولؤم الطبائع على حال لا يجوز معها أن يكونوا في حومة المذكورين، وعصابة المشهورين.

وهكذا بقي ينفرهم من كل من يذكرون له، حتى يئست تاما من أن يفتح الله علي من أسرار الصداقة ما فتح لي من أسرار العداوة.

1 ـ أصدقاء الغيب:

لكني بعد ذلك اليأس، فوجئت، وأنا أسير في بعض الحدائق يرجل يجلس مع نفسه، وهو في غاية السرور، وكان يبتسم كل حين، حتى توهمت أن به مسا من الجن.

لكن لست أدري كيف وجدت نفسي أشعر أن لديه علما بالسر الذي أبحث عنه.. فاقتربت منه بحيث أراه ولا يراني.. ففوجئت به يقرأ بصوت جميل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } [سبأ: 10]

ثم فوجئت به، وهو يتحدث مع داود عليه السلام نفسه، وكأنه جالس بين يديه، وكان يقول له: بورك لتلك الجبال والطيور التي سمعت صوتك يا حبيبي يا داود.. ليتني كنت معهم لأسمع كما سمعوا، وأطرب كما طربوا..

ثم راح يقول: بلى.. يمكنني أن أكون معهم.. فحجاب الزمن الرقيق يمكنني أن أمزقه وأتجاوزه، لأرحل إليك، وأسمع منك.

ثم رأيته يتمايل مثلما يتامل الناس عند سماعهم لما يطربهم.. فاقتربت منه، وقلت، وأنا ممتلئ خوفا من أي مفاجأة قد تحدث لي معه: مرحبا بحبيب داود.

فنظر إلي مبتسما، وهو يمد يده، ويقول لي بكل لطف: مرحبا بك أخي الكريم.. وشكرا لأنك خاطبتني بهذا الخطاب الجميل، وأسأل الله أن يجعلنا جميعا من أحباب داود عليه السلام، وجميع الهداة الكرام، والملائكة العظام عليهم الصلاة والسلام.

قلت: هلا أخبرتني عن شأنك، فقد رأيتك تنفعل انفعالا كبيرا أثناء قراءتك للآيات التي تتحدث عن داود عليه السلام، ثم رأيتك تحدثه.. فما قصتك معه؟

قال: ليست قصتي معه وحده.. بل مع كل الصالحين المذكورين في القرآن الكريم.. فأنا أريد أن تنعقد بيني وبينهم الصحبة في الدنيا، قبل ملاقاتهم في الآخرة، حتى أفد عليهم، وهم يعرفوني، وأنا أيضا أعرفهم.

قلت: لم أفهم.

قال: لقد علمت أن الصديق الحقيقي هو الذي ينفعك في دينك ومآلك، ولذلك لم أكتف بأصحابي في عالم الشهادة، وإنما رحت أبحث عن أصحاب لي في عالم الغيب.

قلت: ولكن الزمان يحول بينك وبينهم.

قال: الزمان لم يخلق لأصحاب البصائر، وإنما خلق للمحجوبين، الذين استغرقوا في عالم الملك، ونسوا عالم الملكوت.

قلت: أمن الممكن أن يخترق أحدنا حجاب الزمن الكثيف؛ فيرحل لكل العصور.. إن هذا لا نسمع به إلا في الأساطير، وقصص الخيال.

قال: عندما ترفع الحجب عن عقلك؛ فسيصبح كل شيء أمامك حاضرا.. الماضي والمستقبل.. والقريب والبعيد.. والزمان والمكان.. والحس والمعنى.. والكثيف والمجرد.

قلت: لا أكاد أفهم ما تقول.

قال: ألم تقرأ في القرآن الكريم ذلك الطلب الغريب الذي طلبه سليمان عليه السلام من المقربين إليه، والذي قال لهم فيه: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [النمل: 38]؟

قلت: بلى.. وقد قال العفريت حينها: { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39]

قال: لكن سليمان عليه السلام لم يقبل هذا العرض..

قلت: أجل.. لأنه حدد زمنا بعيدا.. ولذلك راح يقبل العرض الآخر، والذي قال فيه صاحبه: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40]

قال: ألا ترى أنه عرض مرتبط بتمزيق حجاب المكان؟

قلت: بلى.. فهو قد موعدا لا يمكن تحقيقه إلا لمن مزق هذا الحجاب.

قال: فكما يمكن تمزيق حجاب المكان؛ فتطوي ما تشاء من المسافات لتصل لما تشاء من الغايات.. فكذلك يمكنك أن تطوي حجاب الزمن، لترحل لمن تشاء، وتلتقي بمن تشاء.

قلت: ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك؟

قال: الأداة التي تمزق بها حجاب المكان هي نفسها التي تمزق بها حجاب الزمان.

قلت: وما هي؟

قال: لقد ذكرها الله تعالى، وبين أنها العلة التي استطاع بها سليمان عليه السلام اختراق تلك الحجب.

قلت: هل تقصد قوله تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40]؟

قال: أجل.. فبقدر ما يكون عندك من العلم بالكتاب، بقدر ما يمكنك أن تخرق الحجب.. وتسير في العوالم.. ظاهرها وباطنها.

قلت: لكن كيف ذلك؟

قال: لاشك أنك تعرف هذه الأجهزة التي يقال لها الحواسيب.. والتي يتفنن قومي وقومك في التعامل معها والاستفادة منها.

قلت: وكيف لا أعرفها، وهي من نعم الله علينا في هذا العصر؟

قال: ألا تراهم بمجرد الضغط على أيقونات معينة يصلون إلى كل ما يرغبون فيه من البرامج والكتب المودعة فيه؟

قلت: بلى.. فكل ما أودع فيه يمكن الوصول إليه بضغطة زر، بل أحيانا بكلمات تقال للجهاز، وإذا به يطبقها حرفيا.

قال: فكذلك العلم من الكتاب.. فمن كان له هذا العلم استطاع أن يصل به إلى كل ما أودع فيه من الحقائق.

قلت: هل تقصد علم المفسرين؟

قال: علم المفسرين قد يرتبط بالحروف والكلمات.. لكني أقصد علم العابرين، أولئك الذين يرحلون من الحروف والكلمات إلى الحقائق والمعاني.. أو أولئك الذين تتجسد لهم الحروف والكلمات في قوالبها الحقيقية.

قلت: لم أفهم علاقة كل هذا بحديثك مع داود عليه السلام.

قال: لقد جلست مع كلام ربي أردده، وأحاول بكل كياني أن أعيشه، فكلام ربي أعظم من أن نعطيه ألسنتنا، ونحجب عنه قلوبنا.

قلت: فما الذي حصل؟

قال: لقد كان لذلك الترديد والاستغراق أثره في نفسي وبصري وبصيرتي.. لقد رفع عن عيني الحجب.. وأراني الحقائق رأي العين.

قلت: هل تقصد أنك في هذا المحل كنت تجلس مع داود عليه السلام، وأن عينيك كانتا تشاهدانه؟

قال: لقد طغت بصيرتي على بصري؛ فجعلتني أرى ذلك رأي العين.

قلت: ألهذا كنت أسمعك تحدثه؟

قال: أجل.. وهل يمكن أن يحدث أحد ما لا يرى؟

قلت: ولكن كيف ذلك.. ألا ترى أن هذا نوعا من الخرافة؟

قال: لا.. بل هذا هو التدبر.. وهذه مرحلة من مراحله.. ألم تسمع قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24]؟

قلت: بلى.. والتدبر واجب، والقرآن يوبخ من لا يتدبره؟

قال: لقد وصف الله القلوب التي لا تتدبر القرآن بكونها مقفلة.

قلت: أجل.. فهي مقفلة عن فهم الحقائق الواردة في القرآن.

قال: وهي مقفلة عن رؤيتها.

قلت: ما تعني؟

قال: التدبر الذي يجعلك تفهم الحقائق بعقلك تدبر المبتدئين.. وقد يقعون بسببه في أخطاء كبيرة.

قلت: فهل هناك تدبر أصحاب المستويات العالية؟

قال: أجل.. وهو تدبر المستبصرين والمتوسمين.. أولئك الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (الحجر:75).. أولئك الذين تتحول الحروف والكلمات في أعينهم وقلوبهم إلى حقائق يرونها بأبصارهم وبصائرهم، ولا يرددونها فقط بألسنتهم.

قلت: هل يمكن أن يحصل هذا؟

قال: ألم تسمع بحديث الحارث بن مالك الأنصاري؟

قلت: هل تقصد ذلك الذي قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أصبحت يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: انظر ما تقول! فإن لكل شئ حقيقة؛ فما حقيقة إيمانك؟ فقال الحارث: (عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت لذلك ليلى وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا حارث! عرفت فالزم)([3])

قال: ألا ترى كيف خرق للحارث حجاب المكان؛ فأصبح يرى عرش ربه.. وخرق له حجاب الزمان، فأصبح يرى أهل الجنة وأهل النار؟

قلت: بلى.. والحديث واضح..

قال: العبرة ليست بحديث الحارث.. وإنما بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فقد قال له: (يا حارث! عرفت فالزم).. فالمعرفة التي لا يندمج لها كل الكيان معرفة ناقصة.

قلت: هل تقصد بذلك أن نعيش كل الحقائق القرآنية؟

قال: هذه هي المعرفة.. وبها يمكنك أن تصاحب من تشاء، وبها يمكنك أن تعرف أسرار الصداقة الحقيقية.

ثم أخذ يردد بصوت جميل:

قلوب العارفين لها عيون

   ترى مالا يري للناظرين

وألسنة بأسرار تناجي

   تغيب عن الكرام الكاتبين

وأجنحة تطير بغير ريش

   إلى ملكوت رب العالمين

هزتني كلماته وإنشاده؛ فقلت، وأنا ممتلئ طربا، وقد زالت عني كل تلك الآلام التي عاينتها عند ترددي على من ذكرت لك من الشعراء المتشائمين: لا شك أنك أنت الذي كنت أبحث عنه.

قال: أجل.. فأنا الذي كلفت بأن أكشف لك أسرار الصداقة.. فلا يمكن لأحد أن يعرف الحياة، ولا أن يتنعم فيها دون أن يعلم هذا السر.

قلت: فهل كان ما تحدثني عنه من هذا السر؟

قال: أجل.. كنت أحدثك عن أشرف صداقة، وأعظم صداقة، وأكرم صداقة.. ومن ظفر بها فلن يذوق طعم الوحشة حتى لو هجره الخلق جميعا.

قلت: أتقصد صداقة الغيب؟

قال: بل هي صداقة الشهادة.. فالغيب غيب المحجوبين، أما الذين امتلأوا بالأسرار القرآنية، وأنوارها القدسية؛ فإن الحجب ترفع عن أعينهم ليصبح الغيب عندهم شهادة، والملكوت عندهم ملكا.

صحبة الله:

قلت: فمن أول أصدقاء الغيب؟

قال: ما هو أعظم الأسماء في القرآن الكريم، وأكثرها تكرارا؟

قلت: إنه بلاشك اسم [الله]

قال: فهل يمكنك أن تردد هذا الاسم بلسانك، ثم لا تستشعره بقلبك.. أو لا تراه ببصيرتك؟

قلت: ما تعني؟.. وهل يمكن لأحد أن يرى الله؟.. ألم تقرأ قوله تعالى: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الأنعام: 103]

قال: وقد قرأت معها قول الإمام علي عندما سئل: هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقد أجاب بقوله: (ما كنت أعبد ربّا لم أره)، فقيل له: وكيف رأيته؟ فقال: (لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان)([4])

قلت: أجل.. وقد قرأت معها ما روي عن الإمام الصادق أن أبا بصير سأله، فقال: أخبرني عن الله عزّ وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ فقال الإمام: «نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة)، فقال أبو بصير: متى؟.. قال الإمام: (حين قال لهم: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، ثم قال: (وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تره في وقتك هذا؟)، فقال أبو بصير: جعلت فداك فأحّدِّث بهذا عنك؟ فقال الإمام: (لا، فإنك إذا حدثت به فأنكر منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثم قدّر ان ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون)([5])

قال: فقد أجاباك.. ولا حاجة لك إلى جوابي.

قلت: فكيف تجمع بين ما ذكر القرآن الكريم، وما ذكره هذان الإمامان الجليلان؟

قال: الجمع بينهما بسيط.. فالرؤية القلبية تتوجه إلى المعاني لا إلى الحس، وإلى اللطائف لا إلى الكثافات.. ولذلك لا تختلط بأوثان المجسمة، ولا بدنس المشبهة.

قلت: لم أفهم.

قال: ألم تسمع قول الشاعر:

صفاءٌ، ولا ماءٌ، ولُطْفٌ، ولاهَواً، ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جسمُ

قلت: بلى.. فما يعني بها؟

قال: الرؤية المقدسة ليست رؤية الماء، وإنما رؤية الصفاء.. وليست رؤية النار.. وإنما رؤية النور.. وليست رؤية الجسم.. ولكن رؤية الروح.. فمن أطاقت بصيرته التجرد؛ فسيرى كل الحقائق من غير أن يقع في دنس القوالب الكثيفة.

قلت: أبهذا تصاحب الله؟

قال: أجل.. فلا يمكنك أن تصاحب من لا تراه ولا تسمعه.

قلت: أبعلم الكتاب أيضا تصاحب الله، وترحل إليه؟

قال: أجل.. بل هو أشرف علوم الكتاب.. فالعلم الذي لا يدلك على مولاك حجاب.. والطريق الذي لا يوصلك إليه طريق هلاك لا طريق نجاة.

قلت: لكن كيف ذلك؟

قال: ألم تسمع قول الإمام علي: (فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه)([6]) ومثله قال حفيده الإمام الصادق: (لقد تجلى الله سبحانه وتعالى لعباده في كلامه ولكنهم لا يبصرون)

قلت: بلى.. وقد ذكرتني بما يروى عنه من أنه كان يكرر بعض آيات القرآن الكريم، ثم يقول: حتى كأني سمعته من قائله..

قال: أجل.. فقد جعل الله تعالى القرآن الكريم بذلك النظم الخاص، حتى تتحول القلوب إلى عيون ترى الحقائق، ولا تكتفي بقراءتها.

قلت: ألا ترى أنه قد يشنع عليك المغرضون بهذا.. بل قد تحشر في زمرة المبتدعة، وأنت تعلم أنها النار الموقدة التي تطلع على الأفئدة.

قال: ولم ذلك؟

قلت: نحن نعبد الله تعالى، ولا نصاحبه.. فنحن عباد الله لا أصدقاء الله.

قال: أعظم العبودية هي أن تصحب ربك.. وتستأنس به.. وتمتلئ شوقا إليه.. حتى يصير هو أنيسك الأعظم..

قلت: أجل.. وقد ذكرتني بما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أسحر في سفر قال: (سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا([7])، ربنا صاحبنا وأفضل علينا، عائذا بالله من النار)([8])

ومثله ما وري عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان من دعائه إذا سافر: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل)([9])

قال: أجل.. فالصالحون لم يكون لهم أنس إلا بصحبة ربهم.

قلت: لقد ذكرتني بذلك الدعاء الرقيق الذي ورد عن بعض أئمة الهدى، والذي يقول فيه ـ مناجيا ربه ـ: «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل الى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك)([10])

 قال: كل أدعية ومناجيات أئمة الهدى تسأل الله الصحبة، ألم تسمع تلك المناجاة التي يقول فيها ذلك الإمام السجاد: (إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك، فرام منك بدلا؟ ومن ذا الذي أنس بقربك، فابتغى عنك حولا؟ إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودك ومحبتك، وشوقته إلى لقآئك، ورضيته بقضآئك، ومنحته بالنظر إلى وجهك، وحبوته برضاك، وأعدته من هجرك وقلاك، وبوأته مقعد الصدق في جوارك، وخصصته بمعرفتك، وأهلته لعبادتك، وهيمت قلبه لارادتك، واجتبيته لمشاهدتك، وأخليت وجهه لك، وفرغت فؤاده لحبك، ورغبته فيما عندك، وألهمته ذكرك، وأوزعته شكرك، وشغلته بطاعتك، وصيرته من صالحي بريتك، واخترته لمناجاتك، وقطعت عنه كل شيء يقطعه عنك)([11])

قلت: بلى.. وفيها يقول: (اللهم اجعلنا ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين، ودهرهم الزفرة والانين، جباههم ساجدة لعظمتك، وعيونهم ساهرة في خدمتك، ودموعهم سآئلة من خشيتك، وقلوبهم متعلقة بمحبتك، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك، يامن أنوار قدسه لابصار محبيه رآئقة، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شآئقة، يا منى قلوب المشتاقين، ويا غاية آمال المحبين أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يوصلني إلى قربك، وأن تجعلك أحب إلي مما سواك وأن تجعل حبي إياك قائدا إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائدا عن عصيانك، وامنن بالنظر إليك علي وانظر بعين الود والعطف إلي، ولا تصرف عني وجهك، واجعلني من أهل الاسعاد والحظوة عندك، يا مجيب يا أرحم الراحمين)([12])

قال: وقد قال إمام آخر من أئمة الهدى مخاطبا ربه: (أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدوك.. وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك.. أنت المونس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم.. ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك؟!)([13])

قلت: بلى.. وهو الذي يقول فيها: (لقد خاب من رضي دونك بدلا، وقد خسر من بغى عنك متحولا)

قال: ويقول فيها: (يا من أذاق أحباءه حلاوة مؤانسته فقاموا بين يديه متملقين.. ويا من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بعزته مستعزين.. أنت الذاكر قبل الذاكرين، وأنت البادي بالإحسان قبل توجه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء قبل طلب الطالبين، وأنت الوهاب، ثم لما وهبت لنا من المستقرضين.. إلهي، اطلبني برحمتك حتى أصل إليك.. واجذبني بمنك حتى أقبل عليك)

قلت: إن ما تذكره جميل.. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟

قال: لقد ذكرت ذلك لبعض شيوخي، فقال لي: (حدّد بصر الإيمان تجد اللّه في كل شيء وعند كل شيء ومع كل شيء وقبل كل شيء وبعد كل شيء وفوق كل شيء وتحت كل شيء وقريبا من كل شيء ومحيطا بكل شيء بقرب هو وصفه وبحيطة هي نعته، وعد عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب بالمسافات، وعن الدور بالمخلوقات، وامحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن وهو هو هو، كان اللّه ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان)

قلت: ولكن هذه المعاني لم ترد في القرآن الكريم.. بل هي من كلمات الشيوخ، وربما تكون من شطحاتهم وترهاتهم.

قال: بل هي معان قرآنية.. ألم تسمع قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد: 3]؟

قلت: بلى.. لكن المسافة كبيرة بينها وبين ما قالوا؟

قال: عندما تزيل حجب الكثافة، وتبعد عن بصيرتك أوهام الحس، وتشرب من شراب التنزيه المقدس.. فسترى أن كل شيء من الله وبالله ولله، وستسمع حينها من سرادقات الغيب ربك، وهو يقول لك: { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126].. ولذلك لن ترى شيئا إلا وترى الله معه وقبله وبه.. بل ترى كل شيء مجرد حروف، أو مرائي تتجلى فيها حقائق الأزل.

صحبة الملائكة:

قلت: وعيت هذا.. فهل لك صاحب آخر غير الله؟

قال: كل ما في القرآن الكريم من حقائق يمكنك أن تصاحبها وتعيشها.. فالله تعالى لم ينزل لنا هذه الحقائق لنقرأها، وإنما أنزلها علينا لنراها، ونعيشها.

قلت: كيف تقول ذلك، والعادة جارية بأن يصاحب كل جنس جنسه الخاص به؛ فهل يمكن أن يصاحب الإنسان الملائكة؟

قال: وما المانع من أن يصاحبهم.. هم لا يمانعون في ذلك.. بل هم يتمنون ذلك.. والبشر هم الذين يستكبرون عن صحبتهم.

قلت: ما تعني؟.. هل حقا يمكننا أن نعقد صداقة مع الملائكة عليهم السلام، أولئك المعصومون المبرؤون المطهرون الذين {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]

قال: أجل.. فإنك إن لم تعقد صحبتك مع المعصومين المطهرين، فستقع في أدناس صحبة الشياطين.. ذلك أنك في كل نفس من أنفاسك بين أحدهما.. بين قرين من الملائكة، أو قرين من الشياطين.. فإن وجهت وجهتك نحو شيطانك، صرفته عن ملاكك.

قلت: لقد ذكرتني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الآخرى فليتعوذ بالله من الشيطان)([14])

قال: أرأيت أنه لابد لك من صحبة ترتبط بعالم الغيب شئت أم أبيت..

قلت: أجل.. وقد ذكرني هذا بقوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ } [ق: 27]، فقد ذكر الله تعالى أن ذلك الشيطان مصاحب للإنسان في كل حين.

قال: ومثله الملاك.. فالله تعالى أجل وأكرم من أن يدع الإنسان مع أعدائه من الشياطين، من دون أن ينقذه بأحبابه من الملائكة.

قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [التحريم: 4]، فقد قرن الله تعالى الصالحين من المؤمنين بالملائكة.. واعتبرهم جميعا من المناصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: وهم مناصرون لكل من سار على سيره صلى الله عليه وآله وسلم، واقتفى أثره.. فكل من سار خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نال من الفضل العظيم، والهدايا الجسام ما لا يمكن تصوره.

قلت: أجل.. ونسأل الله أن يرزقنا حسن الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..

قال: وحسن الصحبة لملائكة الله.. فلا يمكن لمن يريد أن يصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخلف عن صحبة ملائكة الله.. فكل ملائكة الله رسل لله وسفراءه إلى خلقه.

قلت: أصدقك القول.. فمع ما ذكرت لي من النصوص المقدسة إلا أن عقلي لا يزال كليلا دون استيعاب ما قلت.. ذلك أن مما حفظته في جميع مراحل دراستي أن الملائكة لا تتنزل إلا على الأنبياء.. فهل ترى أن الخلق كلهم أنبياء؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [الرعد: 23، 24]؟

قلت: بلى.. ولكن ذلك في الآخرة.. لا في الدنيا.. وفي الجنة.. لا في أي محل آخر؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 – 32]؟

قلت: بلى.. ولكن ما تقول لأولئك الأساتذة.. وما شحنوا به عقلي من المعارف والعلوم.. وهل تشككني فيها؟

قال: لا أشكك فيها.. ولكني أدعوك إلى سماع كلام ربك.. فالله تعالى لم يذكر في تلك الآيات الرسل، وإنما ذكر {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [فصلت: 30]

قلت: أجل.. وهي تنطبق تماما على الأنبياء عليهم السلام.

قال: بل هي تنطبق على كل من قال قولهم، وفعل فعلهم.. وقد كان بعض الصالحين إذا أصبح يخاطب الملائكة، ويقول: (مرحبا بملائكة الله، اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر).. وكان آخر يقول مخاطبا لهم: (يا ملائكتي طالت صحبتي لكما فإن كان لكما عندالله شفاعة فاشفعا لي)

قلت: أجل.. ولعلي قد وجدت حلا يجمع بين ما ذكرت، وما ذكر أساتذتي.

قال: وما هو؟

قلت: صحبة الملائكة عليهم السلام مرتبطة بأولئك الذين يعيشون معنا من الملائكة الكتبة أو الحافظين.. والذين قال الله تعالى فيهم: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61]، وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 – 12].. أما غيرهم؛ فلا مطمع في صحبتهم.

قال: ومن الذي قال ذلك.. ألم تسمع قوله تعالى: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 97، 98]؟

قلت: هاتان الآيتان الكريمتان تردان على اليهود الذين أظهروا عداوتهم لجبريل عليه السلام.. وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا.

قال: وهما تردان كذلك على الذين يحجبون قلوبهم عن حب جبريل وميكائيل وكل الملائكة المكرمين.

قلت: ليس في الآيتين ما يدل على ذلك.

قال: بل فيهما كل ما يدل على ذلك.. فما ذكر الله تعالى اسم جبريل وميكائيل وغيرهما في القرآن الكريم إلا لنعقد الصحبة معهم.. فالأسماء في القرآن الكريم معارج نرحل بها إلى الحقائق.. فهل ترى أنه يمكن لأحد أن يذكر هذه الأسماء ثم لا ينفعل لها، أو يتأثر؟

قلت: صدقت.. ووعيت ما قلت.. لكني لا أعرف كيف أعيش هذا المعنى.. وكيف تتحول كلمات الله في عيني إلى مرائي أبصر بها الحقائق.

قال: عندما يتحول علمك من علم اليقين.. إلى عين اليقين.. فسترى كل الحقائق القرآنية.. وعندما يتحول علمك من عين اليقين إلى حق اليقين، فستصحبها وتعيشها..

قلت: أليس علي سوى أن أرتقي بعلمي؟

قال: بلى.. فهل ترى في إمكانك أن ترى الكواكب البعيدة بعينك المجردة؟

قلت: بل أحتاج إلى مراصد ضخمة.

قال: فزود بصيرتك بتلك المراصد الضخمة لترى الكون من العرش إلى الفرش.

صحبة الصالحين:

قلت: وعيت هذا.. فهل لك أصدقاء آخرون غير من ذكرت.

قال: لا يمكنك عد أصدقائي، فأنا أعيش في كون ضخم مملوء بالأصدقاء.

قلت: لقد رأيتك تتحدث مع داود عليه السلام..

قال: أنا أصادق جميع الأنبياء والأئمة والصالحين.. وكل من تراه في القرآن الكريم ممن ذكرت أسماؤهم أو لم تذكر أشعر بالعلاقة الوثيقة التي تربط بيني وبينهم.

قلت: فأنت تصادق عباد الرحمن إذن.

قال: أجل.. وكيف لا أصادقهم.. بل أنا أهتز طربا كلما رأيتهم، أو مررت عليهم، أو جلست بينهم.. يا لله ما أجملهم، وأجمل تواضعهم، ولينهم وطيبتهم.. لا تصدق كم يملؤني السرور عندما أرى قيامهم وخشوعهم وأخلاقهم العالية.

قلت: وهل تصادق المخبتين.. أولئك الذين ذكرهم الله تعالى، فقال: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [الحج: 34، 35]

قال: أجل.. وأصحب معهم كل المتبتلين والسائحين والساجدين.. وكل أولئك الطيبين الطاهرين الذي ذكرت أوصافهم أو أسماؤهم في القرآن الكريم.. أنا أصحبهم جميعا، وأستفيد من علمهم وأخلاقهم.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة)([15])

قلت: بلى.. ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبين في هذا الحديث مدى تأثير الصاحب.

قال: ولذلك انتقيت أولئك الأصحاب المضمخين بأجمل عطور الدنيا والآخرة.

قلت: ولكن القرآن الكريم لم يذكر سوى أوصافهم.. فهل تراك تصحب الأوصاف؟

قال: يستحيل على القرآن الكريم أن يذكر الأوصاف التي لا موصوف لها.. ولذلك كانت تلك الأوصاف أسماء لمسميات حقيقية.

قلت: ولكنك لا تعرفها.. والقرآن الكريم لم يذكر أسماء أصحابها.

قال: قد تستفيد من صاحبك، وتعيش معه جميع عمرك من غير أن تعرف اسمه.. فالاسم مجرد شكل من أشكال التمييز.. وأنا لا تهمني الأسماء، بل تهمني المسميات.. ولا تهمني المسميات، بل تهمني تلك الحقائق والقيم التي تملأ تلك المسميات، وقد كفاني القرآن الكريم كل تفاصيلها.

قلت: ولكن القرآن الكريم لم يكتف بذكر الأوصاف، وإنما ذكر أسماء.

قال: أنا أصحب الجميع.. أصحب أصحاب الأوصاف بأوصافهم.. وأصحب أصحاب الأسماء بأسمائهم.

قلت: فأنت تصاحب كل النبيين في القرآن الكريم إذن؟

قال: أجل.. فالله تعالى ما ذكرهم لنا إلا لنذكرهم ونصحبهم ونعيش معهم.. ألم تسمع قوله تعالى بعد ذكر أسمائهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]

قلت: بلى.. ولكن الله تعالى ذكر الاهتداء، ولم يذكر الصحبة.

قال: لا يمكني أن تهتدي بأحد دون أن تصاحبه.. فهل يمكنك أن تتعلم من أستاذك من دون أن تجلس إليه؟

قلت: ذلك أستاذي.

قال: ورسل الله عليهم السلام هم سادة الأساتذة.. فهل ترى نفسك أكبر من أن تتتلمذ على أيديهم؟

قلت: بل أرى نفسي أصغر من ذلك.

قال: فهل كان أبو جهل وأبو لهب أكرم على الله منك؟

قلت: ما تعني؟

قال: لقد عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحبته على أبي جهل وأبي لهب، لكنهما رفضا استكبارا وعلوا.

قلت: ولكنه لو عرضها علي لطرت فرحا.

قال: بل قد عرضها عليك.. ألم تسمع قوله، وهو يخاطب من صحبه من أهل زمانه: (وددت أني لقيت إخواني)، فقالوا: أوليس نحن إخوانك؟ قال: (أنتم أصحابي، ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني)([16])

قلت: بلى.. هو من الأحاديث المشهورة المعروفة.. فما فيه من العلم؟

قال: ألا ترى من العجب أن يشتاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلينا، ثم لا نشتاق نحن إليه؟

قلت: ولكنه سمى من لم يكن في زمانه من أمته إخوانا، لا أصحابا.

قال: وهل الإخوان إلا أصحاب.. بل إن الأخوة أعظم من الصحبة وأشرف منها.. فهل ترى أخاك دون صاحبك؟

قلت: نحن في واقعنا نرى إخواننا أقرب إلينا.

قال: ذلك في كل واقع.. ولهذا طلب الله تعالى من المؤمنين أن تكون العلاقة بينهم علاقة أخوة، قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10]

قلت: أيمكننا أن نصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن في هذا العصر البعيد؟

قال: خاب من لم يتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحبا.. وهل هناك أشرف أو أكرم على الله منه.

قلت: لقد ذكرتني ببعض الصالحين، وهو أبو العباس المرسي؛ فقد كان يقول: (لو غاب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة ما عددت نفسي من المسلمين)([17]).. ومثله الشيخ علي الجمل العمراني، فقد كان يقول: (مما منَّ الله به عليَّ أني ما ذكرتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا خطر على قلبي إلا وجدتني بين يديه)([18])

صحبة الكون:

قلت: لقد ذكرت لي أن أصدقاءك بحدود الكون.. فهل تراك تصادق الشجر والحجر.. وتلك الحيوانات العجماوات اللاتي لا تعرف إلا مرعاها؟

قال: وما لي لا أصادقها، ونحن جميعا إخوان في مملكة واحدة، لرب واحد.. نتطلع جميعا إليه بشوق وحنان، ليمدنا بفضله ومدده.

قلت: لقد قبلت منك ما ذكرت لي سابقا.. لكني الآن أراك بدأت تخرج عن حدود العقل.. فهل هناك عاقل في الدنيا يقول ما تقول؟

قال: ألم تسمع كتاب ربك، وهو يذكر تسبيح الكائنات جميعا؟

قلت: بلى.. فقد سمعت قوله تعالى:{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحديد:1)، وقوله: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الجمعة:1)، وغيرها من الآيات الكريمة.

قال: أنت قرأتها.. ولكنك لم تسمعها.

قلت: بلى.. لقد سمعتها من أفواه كبار القراء، وبأجمل التراتيل، وطربت لها كثيرا.

قال: لكنك لم تسمعها من الحق.. لأنك لو سمعتها منه لأسرعت تصادق هؤلاء الجالسين في حلقة الذكر العظمى يسبحون الله ويحمدونه.

قلت: لقد سمعت بعض الشيوخ يذكر أن تسبيح الكائنات وحمدها لله من باب الإشارة.. لا من باب الحقيقة.. أي أن الكائنات كلها دلائل على وحدانية الله وقدرته، فهي تنزهه عن الشرك والعجز.. وليس المقصود من تسبيحها أنها تفعل ذلك.. لأن ذلك يقتضي منها قدرات كبيرة لا تتوفر لها.

قال: مثل ماذا؟

قلت: أولها الحياة.. فلا يمكن للجماد أن يمارس ما يمارسه الأحياء..

قال: ومن ذكر لك أن هذه الكائنات الجامدة ليست حية؟

قلت: أنت الذي ذكرت ذلك.. فمجرد وصفك لها بكونها جامدة، يعني عدم حياتها.

قال: وما شروط الحياة التي تراها؟

قلت: لست أنا الذي يراها.. بل كل العقلاء يرونها.. فهم يذكرون أن الحي يحتاج إلى أن يكون مدركا على الأقل..

قال: فهل ترى أن هذه الكائنات التي مدحها الله تعالى بأنها تسبحه ليست مدركة لما تقول؟

قلت: ما تعني؟

قال: لو أن أحدا وضع في آلة تسجيل تسبيحا لله، ثم راح يقول لقومه: انظروا كيف تسبح هذه الآلة الله.. هل يقبلون منه ذلك؟

قلت: لا شك أنهم لن يقبلوا منه ذلك؛ فالتسبيح يحتاج إلى وعي.. والآلة ليس لها وعي.

قال: ولو أن أحدا اخترع روبوتا، ثم راح يبرمجه على هيئة الصلاة، فيصلي في كل وقت.. ويذكر الله بين الصلوات، ويقرأ القرآن، هل يمكن اعتباره روبوتا عابدا؟

قلت: لاشك أنه لا يمكن اعتباره كذلك.. لأن حركاته مجردة عن الوعي.

قال: فهل سمعت قوله تعالى: { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (الرعد:15)

قلت: بلى.. وقد سمعت معها قوله تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (النحل:48)

قال: فهل ترى الله تعالى يثني على هذه الكائنات، وتعظيمها لله، وتسبيحها له، وسجودها لعظمته، ثناء فارغا لا معنى له؟

قلت: بل هو ثناء حقيقي، فتعالى الله أن يثني على من لا يستحق الثناء.

قال: فأنت تقر إذن بأنها مدركة لما تقول.

قلت: لا يمكنني أن أقول خلاف ذلك.. ولكني لم أستطع أن أتصور أن هناك كائنا يمكنه أن يكون مدركا من غير أن تتوفر له شروط الإدراك التي نعرفها..

قال: ذلك من كبرنا نحن البشر.. فقد رحنا نتوهم أننا وحدنا في الكون.. وأنه لا عاقل غيرنا.. ولذلك صرنا نتهم كل شيء بالعجز والجهل والموت المطبق.. مع أن كل شيء يسبح بحمد الله ويقدسه ويقنت له ويسجد بين يدي عظمته.

قلت: لا بأس.. أظن أنك أقنعتني بحياة الكائنات.. ولكن ذلك وحده لا يكفي لعقد الصداقة معها.. فالصداقة تقتضي مشاعر المحبة والمودة.

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن جبل أحد: (هذا جبل يحبنا ونحبه)([19]

قلت: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقصد بذلك ظاهر ما فهمته.. بل كان يقصد أن ذلك الجبل بمن دفن فيه من أصحابه وقرابته صار يحبه.. مثلما قال الشاعر:

أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى

  أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا

وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي

   وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَالدِيارا

قال: فما تقول في وصف حب الجبل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أم ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ذلك من دون أن يكون لكلامه معنى واقعيا؟

قلت: معاذ الله.. وأستغفر الله.. وقد ألقمتني الحجة، فبورك فيك.. فقد حجبتني الغلظة أن أسمع ذلك.. وقد تذكرت لتوي حنين الجذع لفقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يسكن حتى ضمه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب إلى لزق جذع فأتاه رجل رومي فقال أصنع لك منبرا تخطب عليه فصنع له منبرا هذا الذي ترون، قال فلما قام عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب حن الجذع حنين الناقة إلى ولدها، فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضمه إليه فسكن فأمر به أن يحفر له ويدفن)([20])

قال: لقد ذكر القرآن الكريم ما يحمله هذا الكون الذي يراه الخلق جامدا من المشاعر النبيلة التي لا يستطيع أن يعيها القاسية قلوبهم من ذكر الله، ومنها ذكر مشاعر الحجارة وهي تهبط أو تتفجر أو تتشقق من خشية الله، كما قال تعالى:{ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه}(البقرة: 74)

قلت: أجل.. بل إن الله تعالى وبخ العتاة الغلاظ حين قارن قلوبهم بالجبال التي يرونها قاسية، بينما هي أكثر لينا منهم، فقال: { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]

قال: وهكذا أخبر عن تأثر الكون جميعا بتلك الشتائم التي يسب بها البشر ربهم من دون أن يعوا ما يقولون.. لقد قال في ذلك: { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 90 – 92]

قلت: أجل.. وقد ذكرني حديثك هذا بأحاديث كثيرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنستنيها الغفلة.. ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة) قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: (هم الذين إذا فسد الناس صلحوا)، ثم قال: (ألا لا غربة على مؤمن، وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى:{ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ }، ثم قال:(ألا إنهما لا يبكيان على الكافر) ([21])

قال: إن هذا الحديث يبين لك ما ذكرته من كثرة أصدقاء المؤمن، حتى لو بدا غريبا بين الخلق.. ذلك أن الكل معه.. الله وملائكته ورسله وجميع الصالحين.. بل جميع الكائنات.. كلها معه.

قلت: لقد جعلني حديثك هذا أعي جيدا سر ذكر الله تعالى لكلب أصحاب الكهف في كل مرة يذكرون فيها.. بل إنه اعتبر أحدهم، حين ذكر ما قيل في عددهم، قال تعالى: { سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف: 22]

قال: أجل.. فقد كان ذلك الكلب الذي اتبعهم، وحرص على صحبتهم أفضل حالا من أولئك الجبابرة الذين أخرجوهم من بيوتهم، واضطروهم إلى أن يأووا إلى الكهف.

قلت: صدقت، وقد ذكرني حديثك هذا بنهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ ظهور الدواب منابر، ثم علل ذلك بقوله: (فرب مركوبة خيرا أو أكثر ذكرا لله تعالى من راكبها)([22])

قال: ولهذا أمرنا أن نذكر الله تعالى عند ركوبنا لها، لأنه أجرتها؛ فهي تستمع بذكرنا لله، وتستمع بذكرنا للقائه، قال تعالى: { وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } [الزخرف: 12 – 14]

قلت: لقد ذكرتني بحديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيه: (من قال إذا ركب دابة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، سبحانه ليس له سميّ، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كما له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعليه وسلم، قالت الدابة: بارك الله عليك من مؤمن خففتَ عن ظهري، وأطعتَ ربك، وأحسنتَ إلى نفسك، بارك الله في سفرك، وأنجح مقصدك)([23])

قال: أجل.. ولهذا كان من بركات هؤلاء الأصدقاء الطيبين هذه الدعوات التي تنالها منهم.

قلت: أجل.. وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر يصلون على معلم الناس الخير)([24])

2 ـ أصدقاء الشهادة

قلت: وعيت هذا، وقد تمنيت لو أن أولئك الشعراء المتشائمين الذين مررت عليهم قبل المرور عليك عرفوا هذا، لأنهم لو عرفوه لما أصابهم ذلك التشاؤم، ولاكتفوا بما اكتفيت به أنت من أصدقاء الغيب؛ فلا خير إلا في عالم الغيب.

قال: الخير في عالم الغيب والشهادة..

قلت: ولكني أراك قنعت بأصدقائك من عالم الغيب، وقليت بهم عالم الشهادة، وما يعج به من الضجيج والفوضى واللغو.

قال: لا تقل هذا.. فكما يوجد في عالم الشهادة ما ذكرت، يوجد أيضا غير ما ذكرت، والعاقل هو الذي يزن الأمور بموازين الحقيقة، لا بموازين الهوى.

قلت: ولكن الكل متفقون على أنه لا صداقة في عالم الشهادة، وقد أثبتت لهم التجارب ذلك؛ فكل من يصادقونه يغدر بهم.

قال: وقد يغدرون هم به..

قلت: ذلك ممكن.

قال: الصديق الصادق هو الذي لا يطلب من صديقه إلا شيئا واحدا، وهو أن يسير معه إلى الله، ويتعاون معه على عبادة الله، فيجتمعان عليه، ويتفرقان عليه.. أما الصداقة التي تجمع بينها المطامع والأغراض؛ فسرعان ما تزول بزوالها، أو تتأثر بكل ما يؤثر فيها.

قلت: جميل ما تذكر.. وقد ذكرني حديثك هذا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث السبعة الذين يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه؛ فقد ذكر منهم: (.. رجلان تحابّا في اللّه اجتمعا عليه وتفرّقا عليه)([25]).. لكن وجود هذا الصنف في عصرنا يكاد يكون مستحيلا، أو هو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع.. وإن شئت الصراحة، فإني اقتنعت بكل ما ذكرته لي عن أصدقائك من عالم الغيب، لكني لن أصدق أبدا ما تذكره من أصدقاء عالم الشهادة.

ابتسم، ثم نظر إلى الشمس، وهي تكاد تنحدر للغروب، فقال: أظن أن الشمس تكاد تغرب، ولذلك أرجو أن تشرفني بالذهاب معي إلى بيتي؛ فقد دعوت بعض أصدقائي الليلة.. فلعلك تجلس معهم، ولعلك ترى منهم ما يقنعك بأن الله الذي رزقنا أصدقاء الغيب، يمكنه أن يرزقنا أصدقاء الشهادة.. فالله رب الغيب والشهادة، وكرمه يشمل الغيب والشهادة، ويتجاوزهما.

لم أجد ما أقول له، فقد كانت فرصة عظيمة لي لأكتشف المزيد من الأسرار عن الصداقة.. وبالفعل، فقد كان لتلك الزيارة إلى بيته أثرها الكبير على نفسي، ليس في تلك البلدة فقط، بل في كل البلاد، وليس في تلك الفترة فقط، بل في حياتي جميعا.

لقد رأيته مع أصدقائه مثل الأنوار الطاهرة المليئة بكل ألوان الجمال.. فقد كان الاحترام والمودة والأخلاق العالية هي الحاكمة في العلاقة بينهم.. ولم أكن أسمع بينهم أي لغو.. بل كانوا مثالا صادقا لتلك الأخوة التي ذكرها الله تعالى عن المؤمنين في الجنة حين قال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [الحجر: 47]

وقد كانوا يجتمعون كل حين، وكانت مجالسهم كلها مجالس خير وصلاح؛ فهم بين مذاكرة علم، أو قراءة قرآن، أو سماع وعظ، أو ممارسة رياضة، أو سياحة في الأرض، أو تعاون فيما بينهم في شؤون الدنيا، أو في شؤون الدين.

ولم تكن علاقتهم مرتبطة بهم فقط، بل كانت تشمل أسرهم أيضا، حيث كانوا يشكلون مع بعضهم مجتمعا إيمانيا راقيا لم أر مثله في حياتي.

والأعجب من ذلك كله هو دوام تلك العلاقة بينهم، لتشمل معظم حياتهم؛ فكلهم يعرف بعضهم بعضا منذ الطفولة الباكرة.. والأعجب منه تنوع وظائفهم تنوعا شديدا من غير أن يحول ذلك بينهم.

بعد أن رأيت كل ذلك، وعند عزمي على السفر لاستكمال رحلتي، سألت صاحبي عن سر نجاحه في اختيار أصدقائه؛ فابتسم، وقال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)([26])

 قلت: بلى.. هذا الحديث يتحدث عن الأعمال، وارتباط الأجور بنيات أصحابها، لكن لست أدري ما علاقته بما نحن فيه.

قال: الأصدقاء الطيبون المخلصون من الأجور التي يقدمها الله لعباده في الدنيا، إن أحسنوا نياتهم.. فإن كانت نيتهم لله، وفي الله أثمرها الله، وأدامها، أما إن كانت لدنيا يطلبونها أو أهواء يتبعونها؛ فإن الله يرفع عنهم بركتها، وما كان لشيء رفعت بركته أن يدوم.

قلت: صدقت.. وقد ذكرني حديثك هذا بقوله تعالى: { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67]؛ فقد أخبر الله تعالى فيها أن المودة البادية بين الأخلاء في الدنيا، ستنقطع إلا مودة المتقين..

قال: أجل.. فما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.

قلت: كم كنت أتمنى أن أقضي عمري بينكم.. لكن شاء الله لي أن أكمل سياحتي في الأرض.. فهناك الكثير من المهام التي تنتظرني.

قال: أجل.. وكم تمنينا أن تبقى بيننا.. لكن عليك أن تؤدي ما كلفت به؛ فهناك الكثير ممن ينتظرك ليعلمك من أسرار الحياة، ما ينيلك خيرها، ويقيك شرها.

قلت: فهلا نصحتني قبل أن أكمل رحلتي.

قال: أنت لم تأخذ بعد عني كل أسرار الصداقة.. فهلم أكملها لك.

قلت: لقد تصورت أني اغتنيت بما رأيته منك، ومن أصدقائك.

قال: إن ما رأيته لم يكن ليتحقق لولا تلك النصائح الجليلة التي سمعناها جميعا من أفواه الصالحين الهداة.. أولئك الذين علمونا أسرار كل شيء.

قلت: ما تقصد؟

قال: لقد ذكرت لك أن صداقتنا كانت مؤسسة على طاعة الله، ومبنية على محبته.

قلت: أجل.. ألا يكفي ذلك لتأسيس الصداقة؟

قال: ما ذكرته جميل، ولكنه لا يكفي؛ فنحن نحتاج إلى دراسة متأنية في نوع الأصدقاء الذي يتناسبون معنا ومع طباعنا وتكاليفنا.

قلت: هل تقصد أننا نحتاج إلى انتقاء من نصاحبه؟

قال: أجل.. فقد يكون بعض الناس من المؤمنين الصادقين، ولكنك لا تجد في نفسك ما يدعوك إلى صداقته، ليس كبرا، وإنما لاختلاف الطباع والأمزجة.

قلت: لقد ذكرني حديثك هذا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)([27])

قال: أجل.. وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك في قوله: (إن أرواح المؤمنين تلتقي على مسيرة يوم، ما رأى أحدهم صاحبه قط)([28])

قلت: لقد عبر الشاعر عن هذا المعنى، فقال:

وقائل كيف تفارقتما

   فقلت قولا فيه إنصاف

لم يك من شكلي ففارقته

   والناس أشكال وألاف

قال: أجل.. ولذلك لا ينبغي لمن يبحث عن الصداقة الحقيقية أن يرغم نفسه على من لا يتشاكل مع نفسه من الأصدقاء؛ فقد يؤدي ذلك إلى العداوة، وبها يتجاوز حدود الله، ويقع في الكثير من المحرمات.

قلت: لقد ذكرتني بالطعام؛ فمع كونه قد يكون حلالا إلا أن بعضنا يرغب في طعام، والآخر في غيره.

قال: أجل.. وقد كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه (ما عاب طعاماً قطُّ، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه)([29]).. وهكذا الأصدقاء؛ فإنك إن رحت ترغمهم على نفسك حصل الشنآن بينك وبينهم، وتقع بذلك في الهجران المحرم، مع أنه كان في إمكانك ألا تقيم العلاقة أصلا.

قلت: صدقت.. وربما يكون أولئك الذين مررت بهم من المتشائمين لم يدركوا هذا؛ فلهذا تحولت صداقتهم إلى عداوة.

قال: أجل.. فالصداقة مثل البناء.. إذا بني على غير أسس صحيحة انهار.

قلت: لكن وضع ما ذكرت من الأسس صعب.. فهل عندك من العلم ما يجعلني أضع به المعايير التي أميز بها الأصدقاء الذين تنفعني صحبتهم عن غيرهم.

قال: لقد ذكر لنا الهداة الذين تتملذنا على أيديهم الكثير من الموازين التي نزن بها الأصدقاء الذين يمكننا أن نستفيد منهم.

قلت: فهلا ذكرتها لي.

قال: سأذكر لك أربعة منها.. إن ظفرت بمن توفرت فيه ظفرت بالإكسير الأحمر الذي يغنيك عن كل أصدقاء الدنيا.

صحبة العقلاء:

قلت: فما أول موازين الأصدقاء؟

قال: ما أول شروط التكليف؟

قلت: العقل.. فلا يمكن أن يكلف مجنون.

قال: فكذلك الصداقة، لا يمكنك أن تصاحب مجنونا، وإلا عداك بجنونه.

قلت: لا أحد من الناس يرغب في صحبة المجانين، وهم لا يكادون يرغبون في صحبة أحد.. ولذلك لم تكن بحاجة لوضع هذا الميزان، لأنه موجود في الفطرة.

قال: الجنون ليس فقدان العقل فقط.. فمن الجنون ما لا يختفي فيه العقل، وإنما يختفي فيه استعماله.

قلت: ما تقصد؟

قال: هل تعرف قصة ذلك الرجل الذي صاحب دبا؟

قلت: أجل.. وأحفظها منظومة.. فقد قال الشاعر ينظمها ([30]):

كفعل ذاك الدُبِّ

   بِخِلِّه المُحِبِّ

روى أولوا الأخبار

   عن رجل سَيَّار

أبصر في صحراءْ

   فسيحة الأرجاءْ

دُبًّاً عظيما مُوثَقا

  في سِرْحة معلقا

يعوي عواء الكلب

   من شدة وكرب

فأدركته الشفقه

  عليه حتى أطلقه

وحله من قيده

   لأمنه من كيده

ونام تحت الشجرة

   منام من قد أضجره

طولَ الطريق والسفر

   فنام من فرط الضجر

فجاء ذاك الدب

   عن وجهه يَدِبُّ

فقال هذا الخِلُّ

   جَفاه لا يحِلُّ

أنقذني من أسري

  وفك قيدَ عُسري

فحقه أن أرصده

   من كل سوء قصده

فأقبلت ذبابه

   ترن كالربابه

فوقعت لحينه

   على شِفار عينه

فجاش غيظُ الدب

   وقال لا وربي

لا أدع الذبابا

  يُسِيمُه عذابا

فأسرع الدبيبا

  لصخرة قريبه

فَقَلَّها وأقبلا

  يسعى إليه عَجِلا

حتى إذا حاذاه

   صك بها مَحذاه

ليقتل الذبابة

   قتلاً بلا إرابه

فَرَضَّ منه الرأسا

   وفرق الأضراسا

وأهلك الخليلْ

  بفعله الجميلْ

قال: فهل فهمت القصد من هذه الرواية؟

قلت: أجل.. وقد ذكره صاحبها، فقال بعد ذكره لها:

فهذه الرواية

   تنهى عن الغواية

في طلب الصداقة

  عند أولي الحماقة

إذ كان فعل الدب

   هذا لفرط الحب

قال: وقد ذكر في مقدمتها ما يبين غرضه منها، فقال:

لا تصحبنَّ الأحمقا

   المائقَ الشَّمقمقا

عدو سوء عاقلُ

  ولا صديق جاهلُ

إن اصطحاب المائق

   من أعظم البوائق

فإنه لحمقه

   وخَبطه في عمقه

يحب جهلاً فعله

  وأن تكون مثله

يستحسن القبيحا

  ويبغض النصيحه

بيانه فهاهة

  وحلمه سفاهة

وربما تمطَّى

  فكشف المغطَّى

لا يحفظ الأسرارا

  ولا يخاف عارا

يعجب من غير عجبْ

  يغضب من غير غضبْ

كثيرُه وجيز

   ليس له تمييز

وربما إذا نظر

   أراد نفعا فأضر

قلت: أجل.. وقد قال قبله أبو العتاهية:

احذر الأحمق أن تصحبه

   إنّما الأحمق كالثّوب الخلق

كلّما رقّعته من جانب

   زعزعته الرّيح يوما فانخرق

أو كصدع في زجاج فاحش

   هل ترى صدع زجاج يلتصق

فإذا عاتبته كي يرعوي

   زاد شرّا وتمادى في الحمق

قال: فقد نصحك هؤلاء الشعراء؛ فاستمع لنصائحهم، واستفد من تجاربهم؛ فالحكمة ضالة المؤمن أين وجدها؛ فهو أحق بها.

قلت: ولكني لم أؤمر أن آخذ ديني من الشعراء، { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } [الشعراء: 225، 226]

قال: وقد قال ذلك الحكماء، بل سادة الحكماء، ألم تسمع وصية الإمام علي التي يقول فيها: (لا عليك أن تصحب ذا العقل وإن لم تحمد كرمه، ولكن انتفع بعقله واحترس من سيء أخلاقه، ولا تدعن صحبة الكريم وإن لم تنتفع بعقله، ولكن انتفع بكرمه بعقلك، وافرر كل الفرار من اللئيم الاحمق)([31])، وقال في درر حكمه: (صحبة الأحمق عذاب الروح)([32])

قلت: بلى.. وقد ذكرني حديثك هذا بما رواه الإمام الصادق من وصية ورقة بن نوفل لخديجة بنت خويلد، والتي قال لها فيها: (يا بنت أخي، لا تماري جاهلا ولا عالما، فإنك متى ماريت جاهلا آذاك، ومتى ماريت عالما منعك علمه، وإنما يسعد بالعلماء من أطاعهم.. أي بنية، إياك وصحبة الأحمق الكذاب، فإنه يريد نفعك فيضرك، يقرب منك البعيد، ويبعد منك القريب، إن ائتمنته خانك، وإن ائتمنك أهانك، وإن حدثك كذبك، وإن حدثته كذبك، وأنت منه بمنزلة السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا)([33])

قال: ويكفيك أن تقرأ القرآن الكريم لترى قيمة العقل

قلت: ولكن لم لا نصادق الحمقى بنية توجيههم وتربيتهم وإصلاحهم، ومنعهم من ارتكاب أي حماقات؟

قال: مجاهد من يفعل ذلك.. لكن عليه أن يلبس من الدروع، ويسكن من الحصون ما يتقي به هجمات الحمق ونوباته.

قلت: ما تعني؟

قال: ألم تسمع قول الشاعر:

لكلّ داء دواء يستطبّ به   إلا الحماقة أعيت من يداويها

قلت: بلى.. وقد سمعت معه قول المتنبيّ:

ومن البليّة عذل من لا يرعوي    عن جهله وخطاب من لا يفهم

قال: وقبلهم جميعا ما روي عن المسيح عليه السلام، وأنه أتي بأحمق ليداويه، فقال: (أعياني مداواة الأحمق، ولم يعيني مداواة الأكمه والأبرص)([34])

صحبة الحلماء:

قلت: وعيت هذا؛ فما الميزان الثاني لاختيار الأصدقاء.

قال: العقل عقلان.. عقل يعقل به صاحبه المعاني، وعقل يعقله عن الطيش والعجلة والعنف.. ويملؤه بالحكمة والتؤدة واللطف.

قلت: أراك تومئ إلى الحلم.

قال: أجل.. فلا خير في صديق عجول، يغضب لأدنى الأسباب، ويقطع حبال المودة والألفة لأقل خطأ يراه.

قلت: إن مثل هذا لا يحسن له أن يصحب إلا المعصومين، وإلا فإن كل البشر خطاءون.. ولا يمكن أن يجد معصوما.

قال: إن مثل هذا لن يقبل حتى بصحبة المعصومين.

قلت: كيف؟

قال: ألم تسمع بذلك الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل)

قلت: بلى.. وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينها: (ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل.. قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل)([35])

قال: فهذا الرجل كان يملك عقلا مملوءا بالطيش والتهور والجهل، ولذلك اعتبر نفسه ميزانا يزن به الحقائق والقيم.. بل يزن به أعمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسها.

قلت: هل تقصد أن مثل هذا لا تحسن صحبته؟

قال: أجل.. لأنه لا يريدك أن تمارس حياتك بحسب ما ترتضيه من القيم، وإنما يريد أن يقلب حياتك لما يراه منها.. ولذلك قد يرى صوابك خطأ، وعدلك ظلما.

قلت: ولكنه قد يكون ناصحا بذلك.

قال: فرق كبير بين الناصح الحليم، والناصح الجهول.. فالناصح الحليم يتأنى ويستعمل كل ألوان الحكمة، حتى يوصل لك نصيحته من حيث لا تشعر، وأما الجهول الذي يعتبر نفسه ناصحا، فإنه يثور فيك، ويحتقرك، ويملأ حياتك مهانة.. ولذلك كانت نصيحته في حال صحتها فضيحة، وكان نهيه عن المنكر منكرا لا يقل عن نهيه.

قلت: لقد ذكرتني بأولئك الجهال من المشركين الذين راحوا يفرضون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل مستواهم حتى يقبلوا صحبته.. لقد قال الله تعالى في شأنهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا } [الفرقان: 7، 8]

قال: أجل.. {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 90 – 93]، وقد أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93]

قلت: وعيت هذا.. وأصدقك القول؛ فإن الصديق الحقيقي هو الذي لا تشعر معه بأي تكلف، ولا ثقل، بل تكون معه كما تكون وحدك.. ذلك أن الذي يحاسبك على الصغير والكبير لن تنال من صحبته إلا الغصص.

قال: ولذلك كان هذا الميزان مكملا لميزان العقل.. فالجهول لا يختلف عن الأحمق.. بل قد يكون الأحمق ألين جانبا من الجهول.

قلت: صدقت.. فبعض الجهلة يريد من صديقه أن يكون عبدا من عبيده، يأتمر بأوامره، وينتهي عند نواهيه، ولا يقبل منه إلا ذلك.

قال: أجل.. فعلامة اكتمال العقل اكتمال الحلم.. والجهول والمستعجل لم يكتمل عقله، ولذلك يحكم على الأشياء من غير ترو ولا بصيرة ولا نظر.

قلت: صدقت.. وقد قال الشاعر يذكر ذلك:

ما تم حلم ولا علم بلا أدب

   ولا تجاهل في قوم حليمان

وما التجاهل إلا ثوب ذي دنس

   وليس يلبسه إلا سفيهان

قال: ليس ذلك فقط، بل إن الجهول غير مكتمل الإيمان.. ولو كان مؤمنا حقا، لردعه إيمانه عن الجهل على خلق الله.. وقد روي عن بعض الصالحين أنه قال لابنه: (إذا غضبت فانظر إلى السماء فوقك، وإلى الأرض تحتك، ثم عظم خالقهما)

صحبة الطاهرين:

قلت: وعيت هذا؛ فما الميزان الثالث لاختيار الأصدقاء؟

قال: ذلك الذي الذي أشار إليه قوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [المدثر: 4]

قلت: تقصد أصحاب الثياب الطاهرة النظيفة الذين لا تشم منهم إلا الروائح الطيبة..

قال: وأقصد معها أصحاب القلوب الطاهرة النظيفة التي لا تسمع منها غيبة ولا نميمة، ولا تشم منها روائح حقد ولا حسد ولا ظغينة.

قلت: أتلك التي قال الله تعالى في وصف أصحابها: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [الحجر: 47]

قال: أجل.. فلا يمكنك أن تثق في صديق يزين ظاهره، ويخرب باطنه.. لأن باطنه سيسيطر على ظاهره، ليعديك أو يؤذيك.. ولذلك سبق الآية التي ذكرتها قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ } [الحجر: 46]، ذلك أنه لا يمكن أن يحل السلام مع صديق ممتلئ بدنس العداوة.

قلت: ولكن الآية الكريمة تصف أهل الجنة.

قال: لن يدخل أحد الجنة حتى يصبح أهلا لها.. وأول شروط دخول الجنة طيبة القلب وطهارته، ألم تسمع قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]؟

قلت: بلى.. وقد سمعت معها قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام، وهو يصف منهاج النجاة: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 – 89]

قال: وقد قال الله تعالى بعدها: { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90]، ليبشرنا أن الجنة أقرب ما تكون لأصحاب القلوب السليمة، بل تعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة..

قلت: أجل.. لكن ما علاقة هذا بالصداقة، وباختيار الأصدقاء؟

قال: بم شبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصديق الصالح؟

قلت: شبهه بحامل المسك، فقال: (مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة)([36])، وفي رواية: (مثل الجليس الصالح كمثل العطار، إن لا يحذك يعبق بك من ريحه)([37])

قال: فقد دعانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نعيش إخوانا على سرر متقابلين في جنة الدنيا قبل أن نعيشها في جنة الآخرة.. ذلك أن روائح الأعمال الصالحة، والقلوب الطاهرة، والنفوس النقية هي التي نراها عيانا يوم القيامة في ذلك النعيم الأبدي.

قلت: أجل.. وقد ذكرني حديثك هذا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان؛ فيجىء سرير هذا حتى يحاذى سرير هذا، فيتحدثان بما كانا فى الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه: يا فلان، تدرى أى يوم غفر الله لنا، يوم كذا، فى موضع كذا وكذا؛ فدعونا الله فغفر لنا)([38])

قال: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نوع الأحاديث التي كان يتحدث بها هؤلاء الإخوان في الدنيا، والتي أهلتهم لدخول الجنة.

قلت: ما تقصد بذلك؟

قال: من أول ثمرات صحبتك للطاهرين أن المجالس التي تجلس معهم فيها تفوح بروائح الطهارة الزكية.

قلت: لقد ذكرتني بقصيدة جميلة للشيخ أبي مدين التلمساني يقول فيها:

تحيا بكم كل أرض تنزلون بها

   كأنكم في بقاع الأرض أمطار

وتشتهي العين فيكم منظراً حسناً

   كأنكم في عيون الناس أزهار

ونوركم يهتدي الساري برؤيته

   كأنكم في ظلام الليل أقمار

لا أوحش الله ربعاً من زيارتكم

   يا من لهم في الحشا والقلب تذكار

قال: وقد قال في قصيدة أخرى يصف أصدقاءه الصالحين من الفقراء إلى الله:

ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا

   هم السلاطين والسادات والأمرا

فاصحبهموا وتأدب في مجالسهم

   وخل حظك مهما قدموك ورا

واستغنم الوقت واحضر دائما معهم

   واعلم بأن الرضا يختص من حضرا

ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل

   لا علم عندي وكن بالجهل مستترا

ولا تَرَ العيب إلا فيك معتقداً

   عيباً بدا بيِّناً لكنه استترا

وحط رأسك واستغفر بلا سبب

   وقف على قدم الإنصاف معتذرا

إن بدا منك عيب فاعتذر وأقم

   وجه اعتذارك عما فيك منك جرى

وقل عبيدكموا أولى بصفحكموا

   فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا

هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم

   فلا تخف دركا منهم ولا ضررا

وبالتغني على الإخوان جد أبداً

   حساً ومعنى وغض الطرف إن عثرا

قلت: ما أجمل هذه الكلمات.

قال: وأجمل منها المعاني التي تحملها.. فمن عاش في صحبة الطاهرين، تطهر قلبه، وكانت صحبته لهم معراجا يعرج به إلى ربه.

قلت: أجل.. فالصداقة ليست مجرد محل للأنس فقط، بل هي محل للتطهير والطهارة..

قال: كما أنها محل للتنجيس والنجاسة.

قلت: أجل.. ولذلك أخبر الله تعالى عن الندم العظيم الذي يصيب أولئك الذين لم يستعملوا عقولهم في اختيار أصدقائهم.. لقد قال الله تعالى في شأنهم: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } [الفرقان: 27 – 29]

قال: وفي مقابل ذلك وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولئك الأصدقاء الطيبين الممتلئين بالطهارة، فقال: (إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله)، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: (هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)، ثم قرأ قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]

قلت: أجل، وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل: يا رسول الله أي جلسائنا خير؟ قال: (من ذكركم الله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم في الآخرة عمله)([39])

قال: هذه هي الصداقة الحقيقية.. وهي سر دوامها.. فالطاهر لا يمل منه، ولا يحمل في قلبه من الأحقاد ما قد ينفجر في أي لحظة.

قلت: صدقت.. فالكثير من أسباب انقطاع المودة والتآلف بين الأصدقاء تلك الأحقاد التي تنتشر بينهم، والتي تحولهم إلى أعداء بعد أن كانوا أصدقاء..

قال: بل لم يكونوا أصدقاء أبدا.. فالصداقة تبنى على الصدق، ولا محل فيها للأحقاد والضغائن.

صحبة الناصحين:

قلت: وعيت هذا؛ فما الميزان الرابع لاختيار الأصدقاء؟

قال: ذلك الذي الذي أشار إليه قوله تعالى في السورة التي تشرح موازين الربح والخسارة: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر:3)

قلت: هل تقصد التناصح والتواصي بالبر والتقوى؟

قال: أجل.. فلا خير في الصديق الذي يحمي صاحبه من نيران الدنيا، ثم لا يبالي أن تحرقه نيران الآخرة.

قلت: لقد قرن الله تعالى التواصي بالحق بالتواصي بالصبر؛ فهل لذلك علاقة بالصداقة؟

قال: أجل.. فلا يمكن أن يصدق في نصيحته من لم يتحل بحلية الصبر، ألم تسمع وصية لقمان عليه السلام لابنه، والتي يقول له فيها: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان:17)؟

قلت: بلى.. فقد قرن دعوته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوته للصبر.. ولكني لا أزال أسأل عن سر ذلك.

قال: الصديق الصادق الصدوق هو الذي يبذل نصيحته بكل شفقة ومحبة، ثم لا ينتظر بعدها جزاء ولا شكورا، بل قد ينتظر سبابا وشتائم.. لذلك دعانا الله تعالى إلى الصبر والتحمل، وعدم المقابلة بالمثل، وعدم قطع الصداقة لأجل ذلك، وإلا كان القاطع شريكا للمخطئ.

قلت: ألا يمكن أن يصبر أحدنا على أخطاء أخيه؛ فلا يغيرها حتى لا يتسبب ذلك في قطع حبال المودة.. فأكثر الناس الآن يعتبرون النصيحة تدخلا في الشؤون الشخصية.

قال: صديقك من صدقك، لا من غشك، ومن رأى منكرا، وهو قادر على أن يغيره فلم يفعل كان شريكا لصاحبه.

قلت: إن هذا يهدد الصداقة.

قال: بل هو يؤسس لها أساسا صحيحا.. ذلك أن صديقك الذي تغضبه نصيحتك، وقد يقاطعك بسببها، سرعان ما يعود إليك، وهو أكثر احتراما لك، لأنه يشعر أنك كنت صادقا معه.

قلت: أنت تذكرني بما حصل لي في بعض الفترات من حياتي مع بعض أصدقائي؛ فقد حذرته من بعض الجهات التي كانت تحرضه على الفتنة.. وقد ثار في وجهي حينها، وغضب غضبا شديدا، لكنه بعد فترة قصيرة جاء إلي معتذرا، وأخبرني أنه قد فطن إلى ما كان يراد منه، وأن نصيحتي التي رفضها في ذلك الحين، بقيت تعمل عملها في خاطره إلى أن دعته للتثبت والتحقيق، وقد اكتشف بنفسه كل ما ذكرته له.

قال: ولهذا يقرن الله تعالى النصيحة بالصبر.. فالناصح الصادق هو الذي يلقي كلمته، مثلما يلقي الفلاح البذرة.. ثم لا ينتظر أن تنتج في ذلك الحين.. بل قد يحتاج نباتها إلى زمن طويل.

قلت: فالنصيحة إذن هي بذر بذور الخير دون انتظار حصادها.

قال: هذا هو الناصح الصادق.. فهو يتعامل مع ربه قبل أن يتعامل مع صديقه.. وهو يؤدي ما وجب عليه، ولا ينتظر أن يرى ثمار ما غرسه.

قلت: صدقت.. وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى لأشرف خلقه صلى الله عليه وآله وسلم: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} (الشورى: 48)، وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور:54)، وقال حاكيا عن رسله: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (يّس:17)

قال: الهداية بيد الله، والناصح ليس سوى دال عليها، وله أجر ذلك.. ولذلك كان أدبه فيها أن يراعي حقوقها، ويؤديها كما أمر بها، ثم يترك صاحبها وشأنه.

قلت: فما حقوقها؟

قال: أولها أن ينظر في نصيحته، وهل هي من المعاني المتفق فيها، أم من المختلف فيها؛ فإن كانت من المختلف فيه؛ فليس عليه أن يتشدد فيها، بل يكفيه أن يذكر ما يراه، ويحترم رأي غيره.. بل ليس له أن يسوقها في قالب النصح، وإنما أن يسوقها كما يسوق سائر الحديث.

قلت: أجل.. ولهذا نص الفقهاء على أنه لا إنكار على المختلف فيه.. وقد قال في هذا بعضهم: (إذا رأيت الرجل يعمل العلم الذي اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه)، وقال: (ما اختلف فيه الفقهاء، فلا أنهي أحداً من إخواني أن يأخذ به)، وقال آخر: (لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب، ولا يشدد عليهم)([40])

قلت: ألهذا كان أصدقاؤك من مذاهب متعددة، ومشارب متنوعة؟

قال: أجل.. وقد استفدت من تنوعهم الكثير من العلوم والمعارف والقيم التي لم أكن لأستفيد منها لو كانوا نوعا واحدا.

قلت: ولكن.. ألا تتألم عندما تراهم مختلفين معك في الكثير من القضايا؟

قال: ولم أتألم؟.. أليس الله هو الديان، ونحن لسنا سوى عبيده؟

قلت: ألهذا لم أرك مع طول مقامي معكم تنصحهم؟

قال: وكيف عرفت أني لا أقوم بذلك؟

قلت: لقد كنت معكم، ولم أرك تقوم بذلك.

قال: لو قمت بذلك لكان ما فعلته فضيحة لا نصيحة.. فالنصيحة تحتاج إلى اختيار الزمان والمكان المناسبين، وألا يكون فيها أي أذى للمنصوح.

قلت: صدقت.. وقد ذكرني قولك هذا بما ذكره بعض الفقهاء عند ذكره لآداب النصيحة، فقد قال: (من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه)([41])، وقال آخر: (المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير)، وقال آخر: (وإذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، وبتعريض لا تصريح، إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك، فلابد من التصريح)([42])

قال: على هذا نص الكل.. ولا ينبغي للفقيه إلا أن ينص على هذا.. فالمؤمن هو الذي يراعي مشاعر الآخرين، ويتسلل إلى قلوبهم بكل هدوء، وإن أراد نصحهم استعمل لذلك كل الحيل المناسبة حتى يوصل لهم رسالته من غير أن يشعروا.

قلت: لقد ذكرتني بحديثك هذا عن الإمامين الجليلين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، فقد روي أنهما مرا على شيخ يتوضأ ولا يُحسن، فأخذا في التنازع يقول كل واحد منهما: أنت لا تحسن الوضوء، فقالا: أيها الشيخ كن حكما بيننا، يتوضأ كل واحد منا، فتؤضآ، ثم قالا: أيّنا يحسن الوضوء؟ قال: (كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يُحسن وقد تعلّم الآن منكما، وتاب على يديكما ببركتكما، وشفقتكما على أمة جدكما)([43])

بعد هذه الأحاديث وغيرها رحلت عن هذه البلدة، وأنا أشعر بأن الله قد من علي؛ فعرفت سرا من أسرار الحياة العميقة، التي لا يمكن لأحد أن يفلح، ولا أن يفوز، ولا أن يجتاز العقبات دون أن يعرفها.


([1])   هذه الأبيات في الأصل لمحمد بن إِبراهيم البصري.

([2]) هذا النص وما بعده مقتبس بتصرف من كتاب الصداقة والصديق لأبي حيان التوحيدي (ص: 32)

([3]) رواه الطبرانى (3/266، رقم 3367)

([4]) أصول الكافي، 1/ 98.

([5]) التوحيد: ص117ح20..

([6]) نهج البلاغة، الخطبة 147.

([7])   سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه: أي ليسمع السامع، وليشهد الشاهد على حمد الله سبحانه وتعالى على نعمه وحسن بلائه.. وقيل : معناه : انتشر ذلك وظهر، وسمعه السامعون. وحسن البلاء : النعمة. والبلاء : الاختبار والامتحان فالاختبار بالخير : ليتبين الشكر، والابتلاء بالشر : ليظهر الصبر.

([8])   رواه مسلم: 4/2086 ح2718.

([9]) رواه مسلم رقم (1342)

([10]) هذا الدعاء من المناجاة المشهورة في شهر شعبان، انظر: الإقبال: ص687..

([11]) الصحيفة السجادية الكاملة، ص 294.

([12]) الصحيفة السجادية: 294..

([13]) إقبال الأعمال: 349.

([14]) رواه الترمذي (2988) ، و النسائي في الكبرى، تحفة الأشراف (9550)

([15]) رواه البخاري 4 / 271 ، ومسلم رقم (2628)

([16]) رواه أحمد 20/ 38 ح (12579)، وأبو يعلي (3390)، والطبراني في الأوسط (5490).

([17]) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (3/ 54)

([18]) المرجع السابق.

([19])    البخاري: 2/539، مسلم: 2/993.

([20])    الترمذي: 2/379، الدارمي: 29.

([21])    تفسير الطبري (25/75) ورواه ابن أبي الدنيا في ذكر الموت كما في الدر المنثور (7/412) وهو مرسل..

([22])  رواه أحمد، 3/439.

([23]) الدعاء للطبراني (ص: 247)

([24]) رواه الترمذي (2609)

([25]) رواه البخاري،  1357 ، ومسلم 1031.

([26]) البخاري: 1/ 3.

([27]) رواه البخاري، 3158 ، ومسلم  (2638)

([28]) رواه أحمد (6636)

([29]) مسلم (2064) (188)

([30]) انظر: منظومة نغمة الأغاني في عشرة الإخوان، وناظمها هو ابن معصوم أحمد بن علي الحسني.

([31]) الكافي 2: 446 | 1.

([32]) غرر الحكم: 5839.

([33]) الأمالي للطوسي ص : 45.

([34]) محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (1/ 28)

([35]) البخاري (3610) ومسلم (1064)

([36]) رواه البخاري ، 5534..

([37]) رواه ابن المبارك في الزهد (358) ، وابن أبي شيبة 13/385-386.

([38]) رواه البزار، جامع الأحاديث (3/ 117)

([39]) البيهقى فى شعب الإيمان (7/57، رقم 9446)

([40]) انظر: الآداب الشرعية: 1/ 186..

([41]) جامع العلوم: (ص:77)

([42]) الأخلاق والسير: (ص 44)

([43]) بحار الأنوار 43/319.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *