أسرار السعادة والشقاء

قلت: عرفت أسرار العداوة والصداقة والسنن والمقادير والثبات والتطور والفناء والبقاء.. فحدثني عن أسرار السعادة والشقاء.. وعلاقتها بأسرار الحياة.
قال: بعد أن علمت علم اليقين بأن الله قدر لهذه الحياة عمرا أطول بكثير من كل تصور.. بل عمرا لا يطيق الخيال أن يجسمه أو يصوره أو يحسبه.. فلذلك يكتفي المنطق الرياضي بالتعبير عنه بكونه (ما لا نهاية)
بعد أن علمت هذه الحقيقة العظيمة.. رحت أبحث عن أهم سر من أسرار الحياة، وهو سر السعادة والشقاء.. لقد قلت لنفسي: نعم.. الخلود جميل ولذيذ.. لكنه لا يكون كذلك إلا إذا كان مصحوبا بالسعادة.. أما إذا صحبه الشقاء والألم والكآبة؛ فإن الموت أفضل منه.
وعندما جادلتني نفسي المحبة للحياة في هذا قلت لها: ألا ترين المنتحرين الكثيرين.. لقد وضعوا نفوسهم بين الشقاء والموت، فاختاروا الموت على الشقاء؟
عندما علمت هذا سحت في الأرض، ولقيت أقواما كثيرين منهم العامي البسيط.. ومنهم المفكر العبقري.. ومنهم المشتهر بين الناس.. ومنهم الخامل بينهم.. وقد اكتشفت من صحبتي لهم الكثير من أسرار السعادة والشقاء.. وسأنقل لك بعض المشاهد التي عشتها، ورأيتها، لتكتشف بنفسك تلك الأسرار.
قلت: فلم لا تحدثني عنها جميعا؟
قال: ألم تسمع قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [غافر: 78]؟
قلت: بلى .. فما تقصد منها؟
قال: لقد اكتفى الله تعالى لتعريف الأدوار التي قام بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، والحقائق والقيم التي دعوا إليها بذكره لعدد محدود منهم.. حتى لا ينشغل قراء القرآن الكريم بالقصص عن العبرة.
قلت: أجل.. ذلك صحيح.. فالقرآن الكريم يكتفي بالنماذج والأمثلة ليعبر منها العابرون إلى الحقائق الكبرى..
قال: ولذلك سنستن بسنة القرآن الكريم في ضرب الأمثال لتكون عبرة للمعتبرين.. وسأكتفي لك بأربعة مشاهد منها.
قلت: فحدثني عن المشهد الأول من المشاهد التي اكتشفت بها أسرار السعادة والشقاء.
قال: لقد كان أول مشهد رأيته، مشهدا ملأني بالأسى، فقد كنت أسير في شارع من شوارع الأرجنتين الفقيرة، وهناك التقيت امرأة منبطحة على الأرض([1]).. تكاد تلقي بآخر أنفاسها.. فأسرعت إليها، وطلبت منها أن أرسل إلى الإسعاف.. لكنها رفضت، وقالت لي: لا.. لا داعي للإسعاف.. لم يبق لي من الحياة إلا هذه الكلمات التي سأسمعك إياها.. وأخاف أن أموت بحسرة لا نظير لها لو أني لم أسمعك إياها.
قلت: أنت تعرفينني إذن؟
قالت: أنت الذي تبحث عن أسرار السعادة والشقاء؟
قلت: أجل.. وقد بذلت جهدا طويلا في ذلك.
قالت: وأنا (كرستينا أوناسيس)..
تفاجأت من هول ما ذكرت، وقلت: كرستينا أوناسيس!؟.. ابنة المليونير المشهور (أوناسيس) ذلك الذي يملك المليارات.. ويملك معها الجزر.. والأساطيل؟
قالت: أجل.. لقد مات أبي.. وقبله ماتت أمي.. وبينهما مات أخي.. وبقيت الوارثة الوحيدة مع زوجة أبي لهذه الثروات الطائلة.. أتدري ـ أيها الباحث عن السعادة ـ كم ورثت؟
قلت: أعلم أنك من عائلة غنية جدا..
قالت: لقد ورثت من أبي ما يزيد على خمسة آلاف مليون ريال.. وورثت أسطولا بحريا ضخما.. وورثت جزرا كاملة.. وورثت شركات طيران.. لكني مع ذلك كله لم أذق طعم السعادة لحظة في هذه الحياة..
لقد عشت حياة ممتلئة بالشقاء.. أما أمي.. فقد ماتت بعد حياة مأساوية، كان آخر فصولها الطلاق.. وأما أخي.. فقد هلك بعدما سقطت به طائرته، التي كان يلعب بها.. وأما أبي.. فقد اختلف مع زوجته الجديدة التي هي (جاكلين كندي).. وقد اختار لشقاوته أن يتزوج زوجة الرئيس الأمريكي السابق (كندي).. لتجعله رغم غناه عبدا لها.. لقد صرف عليها ملايين الدولارات.. لا لشيء إلا لأجل أن يقال: إنه تزوج بزوجة الرئيس الأمريكي (جون كندي)، ومع ذلك فقد عاش معها في شقاء دائم.. لقد كان عبدا لها بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان.
بعد أن يئست من أن أجد السعادة في المال بحثت عنها في الرجال.. لقد تصورت أني إن تزوجت سأعيش السعادة التي كانت حلمي الأكبر..
في حياة أبي تزوجت برجل أمريكي.. لكني لم أعش معه إلا شهورا، ثم طلقته.. أو طلقني.. ثم تزوجت برجل من أهل بلدي.. يوناني.. لكن الآخر لم يكن أحسن حظا من الأول.. فلم أعش معه إلا شهورا، ثم طلقته.. أو طلقني.. ثم تزوجت شيوعيا روسيا.. وقد التقت بزواجنا قمة الرأسمالية مع قمة الشيوعية.. أذكر أن الصحفيين سألوني حينها قائلين: أنت تمثلين الرأسمالية، فكيف تتزوجين بشيوعي؟.. قلت لهم: أنا أبحث عن السعادة.. ولا يهمني أن أجدها عند رأسمالي أو عند شيوعي.
لقد ذهبت معه إلى روسيا، وبما أن النظام هناك ـ في ذلك الحين ـ لا يسمح بامتلاك أكثر من غرفتين، ولا يسمح بخادمة، فقد جلست أخدم في بيتي، بل في غرفتي.
جاء الصحفيون الذي يتابعونني في كل مكان يسألونني: كيف يكون هذا؟.. فقلت لهم: أبحث عن السعادة.. لكني مع كل هذه التضحيات لم أجد السعادة التي كنت أبحث عنها.. فطلقته كما طلقت من قبله.
لقد أقيمت ـ بتلك المناسبة ـ حفلة في فرنسا، وسألني الصحفيون: هل أنت أغنى امرأة؟.. فقلت: نعم.. أنا أغنى امرأة، ولكني أشقى امرأة..
وهكذا بقيت الحياة تتقلب بي من شقاء إلى شقاء.. ومن ألم إلى ألم إلى أن بعثت بي إلى هذا المحل الذي تراني فيه.. وها أنت تراني أموت بحسرتي وشقائي.. ولم أرتشف طيلة حياتي إلا زخارف من السعادة الوهمية التي لم تزدني ذكراها إلا آلاما.
قالت ذلك، ثم لفظت آخر أنفاسها.. قمت بما وجب علي من تجهيزات.. ورحت أواصل بحثي عن السعادة.
قلت: لقد آلمني كثيرا هذا المشهد، فحدثني عن مشهد أرق منه وألين.
قال: لك ذلك .. لقد عاينت هذا المشهد في بقعة من بقاع الأرض لم يكن فيها من الحياة إلا اسم الحياة.. ولولا أني وجدت خيمة هناك وأمامها بعض الجمال لسرى إلى ذهني أني في المريخ أو في أي كوكب من تلك الكواكب التي لا وجود فيها لأي أثر من آثار الحياة.
كان الجو كئيبا.. وكان الحر شديدا.. وكان الماء شحيحا.. وكان الطعام قليلا.. وكان الكلأ الذي تأكل منه تلك الجمال ليس إلا أشواكا قاسية كقساوة الطبيعة التي تحيط بها.. ومع ذلك، فقد شاء الله أن أكتشف في هذا المحل السر الأول من أسرار السعادة.
فبعد أن أصابني الإعياء في تلك الصحراء.. وأخذ مني الجوع والعطش كل مأخذ سرت إلى تلك الخيمة المنفردة المنعزلة الممتلئة في ظاهرها بالكآبة..
وقفت بعيدا عنها.. وأنا متردد في المناداة على صاحبها خشية أن يرميني بسهم من سهامه.. أو خشية أن يأتي بسكينه ليجعلني طعاما لعشائه.. لكني.. ولفرط جوعي وعطشي في تلك الصحراء لم أجد إلا أن أناديه.. ليسقيني ويطعمني.. ولا يهمني بعدها ما يصيبني من سهامه أو من سكينه..
لقد كاد الجوع والعطش يفني جسدي.. ويملؤه بالشقاء..
لقد أثرت تلك القساوة على عقلي.. فلم يعد يستطيع أن يفكر في شيء.. فكلما أراد شيئا ارتسمت صورة المياه وصورة الخبز في مخيلته، فحجبته عن كل فكرة.
في تلك الحال القاسية خرج إلي الرجل صاحب الخيمة.. فلاحظت صورة لا تختلف عن صورة تلك الصحراء.. كانت صورة دميمة بشعة.. قد أثرت فيها تلك الأجواء، فلم تعد تختلف عنها..
لكن قلب الرجل وعقله كانا مختلفين تماما..
لقد أسرع إلي، وأخذ بيدي.. وحملني إلى خيمته.. وقدم لي ما استطاع تقديمه من ماء وطعام.. كانا لا يختلفان في قساوتهما عن تلك الأجواء جميعا..
بعد أن ارتدت إلي روحي نظرت إليه، وقلت: ما مكوثك في هذه البلاد.. إنها بلاد الموت، لا بلاد الحياة؟
ابتسم، وقال: أحيانا تكون بلاد الموت أسعد من بلاد الحياة..
قلت: هذا لا يمكن.. بلاد الموت لا سعادة فيها.. ولا يمكن مقارنتها ببلاد الحياة.
قال: لقد فررت من تلك البلاد التي تسميها بلاد الحياة إلى هذه البلاد التي تسميها بلاد الموت.
قلت: أمجنون أنت.. من أوقعك في هذا الفخ؟
قال: إن كان هذا فخا.. فديني هو الذي أوقعني فيه..
قلت: هذا دين سوء.. فاتركه إلى دين الحياة.. فلا خير في دين يبعث بك إلى الموت.
قال: أنا رجل مسلم..
قاطعته قائلا: مسلم.. وتقول هذا.. لا شك أنك تحمل فهما خاطئا للإسلام.. فالله تعالى يقول :{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (لأعراف:32)
قال: وهو القائل :{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف:46)
قلت: لا تعارض بين هذا وذاك.. فيمكنك أن تذكر الله وتعيش مع الله وأنت في بلاد الحياة لا في بلاد الموت.
قال: فقد قال الله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء:97)
قلت: وما علاقة هذه الآية بما نحن فيه؟
قال: هذه الآية تخاطبني.. هذه الآية هي التي حركتني إلى هذه الأرض.. لقد كنت رجلا صاحب مال ومتاع وقصور وجنات.. ولكني كنت مع ذلك ممتلئا بالشقاء.. جربت كل المذاهب والأديان بحثا عن السعادة، فلم أجدها.. وعندما بحثت في الإسلام وجدت كل شيء.. وجدت كل ما أبحث عنه.. لكني ما إن أعلنت إسلامي حتى راح ذلك المستبد يتهمني بأبشع التهم.. ثم راح يصادر أموالي وقصوري وجناتي.. وليته اكتفى به.. بل راح يراودني عن ديني، ويخيرني بينه وبين النفي إلى هذه الأرض.. فاخترت النفي إلى هذه الأرض عن أن أبيع ديني الذي لا تتحقق سعادتي إلا به.
قلت: أنت تذكرني بمشهد ذكره القرآن الكريم لبعض المؤمنين الذين تعرضوا لمساومات في دينهم، فاختاروا دينهم.
قال: تقصد قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [البقرة: 207]
قلت: أجل.. فهذه الآية الكريمة تتحدث عن شخص فعل مثلما فعلت تماما.
قال: بل هي تتحدث عني وعنه وعن كل من فعل فعله.. فلا تحصر القرآن في التاريخ.. فالزمن أضعف من أن يحيط بحقائقه.
قلت: صدقت.. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، فقد تركت هذه الآية الكريمة التاريخ جميعا مجالا لفهم حقائق القرآن الكريم.
قال: لقد كان أول ما طرق سمعي من القرآن الكريم ـ قبل إسلامي ـ تلك الآية الكريمة.. فرحت أتساءل متعجبا عن هذا الدين الذي يضحي من أجله صاحبه بنفسه وماله.. وقد كنت صادقا في سؤالي، فهداني الله إلى الإسلام..
قلت: ما الذي حركك في تلك الآية؟
قال: لقد ذكرت لك أني كنت صاحب مال ومتاع.. وكنت مغرما بالدنيا غراما عجيبا.. ولكني مع ذلك كنت ممتلئا بالحزن والكآبة..
فقد كنت أنظر بحسرة لمغيب كل شمس.. لأني أعلم أنها بغيابها أقترب خطوة إلى القبر.. ثم إلى العدم بعدها.. وكان ذلك ينغص علي كل شيء..
لكني ما إن أن سمعت تلك الآيات.. وتأملت تلك المعاني العظيمة التي تحملها.. حتى رحت أبحث وأستيقن عن مدى صدق هذه الدعوى العظيمة.. دعوى أنه يمكن أن تكون هناك سعادة لا تعرف الموت ولا المرض ولا الألم ولا الكدورة..
وقد وجدت ـ بحمد الله ـ من رجال الله من دلني على ذلك..
بقيت عنده أياما أتزود من أسرار السعادة ما ملأني بالعجب.. فالرجل، وعلى الرغم من شظف العيش الذي كان يعانيه إلا أن حياته الحقيقية كانت خالية تماما من كل الكدورات، ذلك أنه كان يعيش بجسده في تلك الصحراء القاحلة، بينما كانت روحه تعيش في المصير الذي طلق كل شيء من أجله.
قلت: ما أجمل هذا المشهد.. فحدثني عن المشهد الثالث.
قال: لقد حصل لي ذلك المشهد في بعلبك.. ففيها لقيت رجلا في صلاة المغرب في بعض مساجدها.. عرفت بعد ذلك أن اسمه (شداد).. وكان كأنه (شداد بن أوس)([2]) الحقيقي.. ذلك الصحابي الجليل الذي امتلأ قلبه خشية من الله.
وقف يصلي بجانبي في الصف.. وقرأ الإمام حينها قوله تعالى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]
شعرت بجسمه يرتعش جميعا.. وكأنه كما قال الشاعر:
وإنى لتعرونى لذاكراك هزة كما انتفض العصفور بلله القطر
قرأ الإمام في الركعة الثانية قوله تعالى : {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } [الإسراء: 58]، فشعرت بجسمه يزداد ارتعاشا.. وبدموعه، وهي تفيض من غير حساب..
عندما انتهينا من الصلاة نظرت إليه.. فوجدته هائما مستغرقا، وكأنه ينظر إلى شيء لا أراه، أو يستمع إلى شيء لا أسمع له.
في ذلك الحين خطر على بالي أن أتبعه لأرى حقيقته.. فقد شعرت بأن لديه من أسرار الحياة ما يمكن أن ينفعني الله به..
انتظرت إلى أن أنهى أذكاره.. وصلاته.. وما أجمل صلاته، وما أرقها..
بعد أن انتهى منها جميعا ذهبت إليه، وقلت له: أنا رجل قد انقطعت بي السبل في هذه البلاد، فإن شئت دللتني على مطعم أتقوت منه.. أو فندق أبيت فيه..
افتر ثغره عن ابتسامة عذبة تخفي ألما دفينا، وقال: أولا أدلك على ما هو أفضل من ذلك؟
قلت: وما هو؟
قال: تذهب معي إلى بيتي، فتأكل معي من فضل الله.. وتبيت معي في كنف الله.
قلت: لا يسرني إلا ذلك..
ذهبت معه إلى بيته.. وقد كان بيتا متواضعا.. ولكنه يفيض بكل معاني الجمال..
استقبلنا بعض ولده.. وقدموا لنا طعاما طيبا.. فأكلنا.. وبينما نحن كذلك إذ طرق طارق الباب، فأسرع إليه، وأدخله معي إلى البيت.. كان الرجل يلبس بذلة محترمة تدل على أن له منصبا مرموقا.. وقد فوجئت به مع تلك الحال يخاطب شدادا كما يخاطب الموظف البسيط مسؤوله الأكبر.
وفوجئت أكثر عندما علمت من خلال الحديث أن شدادا كان صاحب مؤسسة كبيرة تمتد فروعها في جميع أرض لبنان.. وأن الرجل صاحب الهيئة المحترمة الذي زاره لم يكن إلا موظفا مكلفا بالعلاقات العامة في تلك المؤسسة.
وقد دعاني ذلك إلا التنصت والاهتمام لحديثهما:
قال الرجل: لقد عرضوا علينا مبلغا لا يمكن الاستهانة به.. إنه مبلغ يجعل لنا القدرة على فتح فروع للمؤسسة خارج هذه البلاد..
قال شداد: والله لو عرضوا علينا أموال الدنيا جميعا.. فلن أقبل هذا.. إن تلك المبالغ التي يعرضونها علينا ليست سوى جمرات من نار تريد أن تحرقنا وتحرق معنا خلقا كثيرا.
قال الرجل: لقد ذهبت إلى بعض الفقهاء.. وقد وجد لها مخرجا.. وها هو نص فتواه.. وعليها إمضاؤه.
قال شداد: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (استفت نفسك.. البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك فى نفسك، وتردد فى صدرك، وإن أفتاك الناس وأفتوك)([3])
قال الرجل: بلى .. سمعت الحديث، فأنت تكرره دائما.. ولكن.. ألا تخشى من أن تعدو العوادي على مؤسستك، فتصيبها بالإفلاس الذي أصاب الكثير من المؤسسات؟
قال شداد: أنا لا أخشى إلا عذاب الله والحجاب عن الله.. أما هذه المؤسسة، فأنا مجرد وكيل فيها عن الله.. فإن شاء أن تبقى أبقاها، وإن شاء أن تزول أزالها.. لقد عاهدت الله مذ رزقني من فضله أن لا أسير فيها إلا بما يقتضيه الورع.. وقد وفى الله لي بفضله فأعطاني ما لم أكن أحلم به.. وليس علي إلا أن أوفي بما عاهدته عليه..
قال الرجل: ولكن.. ما تقول في فتوى الفقهاء؟
قال شداد: أنا أحترم فتاوى الفقهاء.. ولكني في هذه المسألة خصوصا أعرف من ثغراتها ما لا يفطن له الفقهاء..
أنا أعلم أن الشريعة رحمة كلها.. وعدالة كلها.. وما تعرضه علي يتنافى مع العدالة والرحمة..
قال الرجل: ولكن السوق وأهلها لا يتعاملون بهذه القيم التي تتحدث عنها.
قال شداد: أنا أفكر في سوق الآخرة.. ولا يهمني ما يفكر فيه أهل أسواق الدنيا.. أنا أفكر في اليوم الذي تتطاير فيه الصحف.. وليس لي في ذلك الحين إلا أمل واحد هو أن لا آخذ كتابي بشمالي..
أتدري ماذا يقول حينها من يأخذ كتابه بشماله.. إنه يقول: {يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 25 – 29]
أتدري ما يقال له حينها.. لقد ذكر الله ذلك، فقال :{ {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: 30 – 37]؟
قال الرجل: ولكن الله تعالى أمرنا بمراعاة نصيبنا من الدنيا.. ألم تسمع قوله: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]؟
قال شداد: بلى.. ولكنه أمرنا بألا نبيع ديننا بدنيانا، فسعادتنا لا تتحق إلا بديننا.. أما سعادة الدنيا الخالية من الدين، فهي مجرد أحلام وأوهام وسراب.. ألم تسمع قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]
لم يجد الرجل إلا أن ينصرف، وهو يتأسف لعدم قبول شداد للصفقة.. وقد شاء الله ألا أخرج من المدينة إلا بعد أن أرى العواقب الجميلة التي نالها شداد بسبب ذلك الموقف، ذلك أن كل من قبل تلك الصفقة أقيمت عليه دعاوى لدى القضاء، ثم صودرت أمواله، ولم ينج من ذلك إلا شداد لورعه وتقواه.
قلت: لقد ذكرت لي أنه كان متألما خائفا، فكيف تزعم أنك اكتشفت من خلاله السعادة.
قلا: لم يكن ألمه ألم القانطين، ولا خوفه خوف المكتئبين المحبطين.. بل كان مع خوفه ممتلئا بالرجاء لله، يعاين فضل الله الذي ينتظره، بكل سعادة.
قلت: أراك تذكر الكثير من المعاني المتناقضة.. فهل يمكن أن تجتمع السعادة مع ما ذكرت؟
قال: أرأيت لو أن شخصا كانت له أموال كثيرة، وكان في بيئة مملوءة باللصوص، وكان حريصا عليها، يستعمل كل الوسائل لحمايتها، ولا يثق في أي شخص قد يسلبها منه.. هل تعتبر ذلك شقاء؟
قلت: لا .. بل هذا حرص.. وهو حرص ممدوح.
قال: فكذلك كان شداد.. لقد كان حريصا على السعادة التي بلغها، فلم يكن ليأذن لأي شيء يسلبها منه.
قلت: حدثتني عن المشهد الثالث.. فحدثني عن المشهد الرابع.
قال: لقد حصل لي هذه المشهد أثناء زيارتي لتركيا.. حيث التقيت فيها برجل اسمه سعيد([4]).. تعلمت منه من أسرار السعادة ما أزال عني كل أوهام الشقاء.
التقيت به في (أنقرة) في يوم من الأيام الأخيرة لفصل الخريف، حيث كانت الدنيا مملوءة بالكآبة.. قلت له، وقد رأيت الشيب قد اشتعل في رأسه، والوهن قد ملك عليه جسده: أراك يا سعيد تسير إلى الموت الذي كنت تخاف منه سيرا حثيثا.
قال، وهو يبتسم: نعم كنت أخاف منه، وأمتلئ رعبا من ذكره، وأمتلئ تشاؤما من وجوده.. لكني اليوم أشعر أن أجمل الأيام ذلك اليوم الذي يزورني فيه.. فكل أماني أن يزورني، وأنا في حالة طيبة، حتى ألقى الله بصورة جميلة.
قلت: لكأني بك كفرت بتلك المقولات التي قالها [شوبنهاور]، والتي كنت ترددها علي كل حين.. لقد كنت تذكر لي قوله : (حياة الإنسان كلها ليست إلا نضالا مستميتا من أجل البقاء على قيد الحياة مع يقينه الكامل بأنه سيهزم في النهاية) .. وقوله: (ينبغي أن ندمر في داخلنا، وبكل الأشكال الممكنة، إرادة الحياة، أو الرغبة في الحياة، أو حب الحياة) .. وقوله: (يُقال أن السماء تحاسبنا بعد الموت على ما فعلنا في الحياة الدنيا .. وأنا أظن أنه بإمكاننا أن نحاسبها أولًا عن المزحة الثقيلة للوجود الذي فُرض علينا من دون أن نعلم لماذا؟ وإلى أي هدف؟).. وتردد معها مقولة (فكتور فرنكل): (للكثير من الناس اليوم وسائل للحياة، غير أنهم يفتقدون معنى يعيشون لأجله)([5])
قال: أجل.. كنت أردد ذلك قبل أن يذوق قلبي طعم الإيمان.. لقد كانت القسوة والجفاء والغلظة تطبع حياتي جميعا، نتيجة تركي للهداة الدالين على الحقائق، وتمسكي بأولئك الدجالين الذي نصبهم الشيطان أئمة للضلال.
قلت: عجبا.. لطالما كنت أسمعك تردد علي مقولة شوبنهاور التي يذكر فيها (أن الدين هو من صنيعة البشر ابتكروها لتفسير ما هو مجهول لديهم من ظواهر طبيعية أو نفسية أو اجتماعية، وكان الغرض منه تنظيم حياة مجموعة من الناس حسب ما يراه مؤسس الدين مناسبا وليس حسب الحاجات الحقيقية للناس الذين عن جهل قرروا بالالتزام بمجموعة من القيم البالية)
قال: أجل.. كنت أردد ذلك.. وكنت ممتلئا بالشقاء بسبب ذلك..
قلت: فكيف عرفت الحق؟
قال: باللجوء لأهل الحق..
قلت: فكيف لجأت إليهم؟
قال: بعد أن عرفت دجل الدجالين، وكذبهم، وكونهم صناعة شيطانية.
قلت: فكيف اهتديت إلى ذلك؟
قال: لقد علم الله صدقي في طلب الحق، ورأى معه عدم تكبري عن أهله.. فلذلك دلني عليهم..
قلت: ولكنك قضيت كل عمرك مع الدجالين.
قال: ألم يقض سحرة فرعون كل عمرهم في صناعة السحر، وخدمة فرعون؟
قلت: بلى..
قال: ولكن الله شاء أن يختم لهم بتلك الخاتمة الطيبة.. لأنهم مع الشرور الكثيرة التي قاموا بها كان فيهم الكثير من الصدق، ومعه الكثير من التواضع.. وهذان وحدهما كافيان ليصدا كل وساوس الشياطين في أي لحظة من لحظات الوعي.
قلت: لكأني بك تذكرني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)([6])
قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. وإياك أن تحسب أن ذلك جبر، أو مخالف للحكمة؛ فتتهم ربك.
قلت: فكيف يكون ذلك؟
قال: ذلك الذي لم يبق بينه وبين الجنة إلا ذراع كان فيه الكثير من التواضع والصدق، ولكنه ربما يكون فيه من الغفلة ما أتاح لأهل الضلال بأن يجذبوه إلى صفهم.. فلذلك ما إن يرى الحقيقة حتى يسرع إليه، في أي عمر كان..
قلت: والذي قضى عمره في عمل أهل الجنة؟
قال: ذلك هو المملوء بالكبر والطغيان.. ولذلك يبدو في ظاهره من الصالحين، لكن باطنه يفوح بتلك الروائح المنتنة التي نطق بها فرعون حين قال: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ولذلك يهيء الله من الاختبارات ما تبلى به سريرته، وتظهر به حقيقته، مثلما حصل مع إبليس حين لم تغن عنه كل عباداته بسبب سجدة واحدة استكبر أن يسجدها.
قلت: أجل.. فعد بنا إلى نفسك، وأخبرني كيف حصل لك هذا التبدل الكبير.
قال ([7]) : ذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدت إلى قمة (قلعة أنقرة)، التي أصابها الكبر والبلى أكثر مني، فتمثلت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية، ومن شيخوخة الدنيا.. فاضطرتني تلك الحالة إلى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن نور، وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحس به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط.
حينها نظرت إلى اليمين الذي هو الماضي باحثا عن نور ورجاء، فبدت لي تلك الجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي وأجدادي والنوع الإنساني، فأوحشتني بدلا من أن تسليني .
ثم نظرت إلى اليسار الذي هو المستقبل مفتشا عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضا من أن يؤنسني.
ثم نظرت إلى زمني الحاضر بعد أن امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التاريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.
فلما يئست من هذه الجهة أيضا، رفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري، فرأيت أن على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط، وهي تنظر إلي، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظرا إلى جذور شجرة عمري، فرأيت أن التراب الذي هناك ما هو إلا رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معا وامتزجا، وهما يداسان تحت الأقدام، فأضافا إلى دائي داء من دون أن يمنحاني دواء.
ثم حولت نظري على مضض إلى ما ورائي، فرأيت أن هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في أودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبت هذه النظرة السم على جروحي بدلا من أن تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي.
ولما لم أجد في تلك الجهة خيرا ولا أملا، وليت وجهي شطر الأمام ورنوت بنظري بعيدا، فرأيت أن القبر واقف لي بالمرصاد على قارعة الطريق، فاغرا فاه، يحدق بي.
بينما أنا في تلك الحال، تتوالى علي صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، إذا برجل يقترب مني، لست أدري من أين جاء.. لكنه كان مختلفا تماما عن كل أولئك الفلاسفة الذين ملأوا حياتي بالتشاؤم والشقاء.
لقد قال يخاطبني، وكأنه علم ما في نفسي: ما أجمل اسمك يا سعيد..
قلت: بل أنا شقي.. فليس لي من السعادة إلا الاسم الذي سماني به والدي.. وقد أخطأ خطأ كبيرا في ذلك، فهذا العالم مملوء بالشقاء، ولا محل فيه للسعادة.
قال: أنا أحسبك يا سعيد عاقلا، وأحسب أن ما حصل لك لم يكن ناتجا عن كبرك وتعاليك، ولكنه ناتج عن جهلك بالذين تأخذ منهم حقائق الحياة.
قلت: ما تعني.. ألا ترى أني قد لجأت إلى الفلاسفة، وهم أعقل العقلاء؟
قال: وقد يكونون أكبر المخادعين.. فالعقل الكبير ليس بالضرورة عقل ناصح، فعقول اللصوص والمختلسين الكبار ممتلئة بالذكاء، ولكنها ممتلئة كذلك بالخداع.
قلت: فكيف أميز بين المخادعين والصادقين.
قال: الصادقون هم الذي لم يتاجروا بالحقائق التي دعوا إليها، وهم الذين ألهم الله قلوب البشر لاتباعهم، وهم الذين دلوا على مصدر الحقائق، وأخبروا أن كل ما عندهم ليس من بنات أفكارهم، وإنما هو من منبع الحقيقة نفسها.
قلت: أراك تقصد الأنبياء؟
قال: إن لم يدلنا الأنبياء على الحقائق .. فمن يدلنا؟
قلت: لكن أتباع الأنبياء مختلفون.. فكيف أثق فيهم؟
قال: والفلاسفة وأتباع الفلاسفة كذلك مختلفون، ومع ذلك كنت أراك تتبع بعضهم، وتؤمن بما يقول، وتترك غيره.
قلت: صدقت في هذا.. لكن كيف أميز بين الحق الذي جاء به الأنبياء من الباطل الذي سار عليه أتباعهم.
أخرج مصحفا من جيبه، وقال: اقرأ هذا الكتاب.. وسترى فيه كل حقائق الوجود.. فقط كن صادقا معه، وامسح عن قلبك كل ذلك الران الذي ملأه.. وستسمع الله نفسه يحدثك.
كان الرجل ممتلئا بالصدق والوقار، ويظهر عليه كل سيما الصالحين، فلذلك أخذت المصحف منه، وشكرته، وقد كان ذلك من باب المجاملة، وقطع الحوار، لا أكثر.. فانصرف، وهو يقول: أسأل الله كما أمسكته يداك أن يمسكه قلبك..
لست أدري كيف خطر لي بعد ذهابه أن أفتحه، وبمجرد فتحي له، وقعت عيني على قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185]
رحت أتأمله، وأتأمل الحقائق التي يحويها.. فإذا بي أرى فيها كل شيء.. فالموت الذي ذكره القرآن الكريم يختلف عن الموت الذي ذكره لي فلاسفة التشاؤم.. الموت الذي ذكره القرآن الكريم مرحلة بسيطة في سلم الحياة، وبعدها تكون السعادة، أو يكون الشقاء.
وقد جعلني ذلك أبحث فيه عن أسرار الفوز والسعادة، فوجدتها كلها من الخلال النبيلة والأخلاق الطيبة.. لقد قرأت في القرآن الكريم قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) } [المؤمنون: 1 – 12]
وكل هذه معان طيبة، وأخلاق نبيلة.. لم يذكر لي الفلاسفة الذين ملأوني بالتشاؤم منها، لأنهم كانوا يقتصرون فقط على ذكر ما يرونه من حقائق دون أن يربطوها بأي سلوك مؤثر في الحياة.
لا أكذبك أنني في ذلك الحين، ومع كون الإيمان لم يدخل إلى قلبي بعد دخولا كاملا إلا أني رحت أحاول أن أطبق تلك المعاني التي ربط القرآن الكريم السعادة بها، وأولها القيام بخدمة الناس، وإطعام المساكين، وتوفير كل أصناف العناية بهم.. وكان الكل يدعون لي، فأشعر مع دعواتهم بأمطار السعادة، وهي تتنزل على قلبي فتطهره من كل أدناس الشقاء.
وهكذا بقيت أجمع مدة بين تلك الخدمات، وقراءتي الدائمة للقرآن الكريم إلى أن من الله علي فشرح صدري للإيمان، فصرت أرى تلك الحقائق بعيني.. صرت أرى أهل الجنة يتنعمون فيها، وأهل النار يصيحون فيها.. وكنت أعمل كل الوسائل لأبتعد عن النار، وأدخل الجنة، حتى أحقق السعادة الأبدية.
وقد أصبح لحياتي منذ ذلك الحين معنى ملموسا، بعد أن
كانت فارغة من أي غاية، وكانت لذلك مملوءة بكل أنواع الشؤم.. وبذلك فإن الإيمان لم
ينقذ آخرتي فقط، وإنما أنقذ دنياي أيضا.
([1]) أنبه هنا إلى أن القصة حقيقية.. لكني تصرفت في بعضها بما يقتضيه المقام.
([2]) أشير به إلى شداد بن أوس، وقد كان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان له عبادة واجتهاد.. وقد اخترناه هنا لما روي عنه من الروايات الدالة على اجتهاده بسبب خوفه من عذاب الله.. ومما يروى في ذلك عنه أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم فيقول : ( اللهم ان النار اذهبت مني النوم، فيقوم فيصلي حتى يصبح)، ووصفه بعضهم، فقال : (كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كان حبة على مقلى فيقول: اللهم ان النار قد اسهرتني ثم يقوم إلى الصلاة)
([3]) أحمد (4/228، رقم 18030) واللفظ له، وأبو يعلى (3/160، رقم 1586)
([4]) أشير به إلى بديع الزمان النورسي.
([5]) انظر هذه النصوص وغيرها في كتابي [كيف تناظر ملحدا]، ص 380.
([6]) رواه البخاري 11/ 417، ومسلم رقم (2643)
([7]) هذا النص مقتبس بتصرف شديد من اللمعات، ص 322.