أسرار الثبات والتطور

أسرار الثبات والتطور

قلت: عرفت أسرار العداوة والصداقة والسنن والأقدار.. فحدثني عن أسرار الثبات والتطور.. وعلاقتها بأسرار الحياة.

قال: بعد أن من الله علي بلقيا العلماء والعارفين الذين فتح الله لي على أيديهم مغاليق التعرف على أسرار أقدار الله ما ملأني بالرضا والأنس، رحت أبحث عن الثوابت التي ثبت الله بها الكون والحياة.. فلا يمكن أن تفهم الحياة، ولا أن تكشف أسرارها، من غير أن تعرف الجبال الرواسي التي تثبتها، وتتحكم في حركتها.

وككل مرة.. فإن الله لم يعرفني بالحقيقة إلا بعد أن عرفني بنواقضها المؤلمة.. كما لم يعرفني الإسلام إلا بعد أن عرفني بالجاهلية.. ولم يعرفني بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن عرفني بكثير من الدجالين.

ذهبت في بعض تلك الأيام إلى (مؤسسة أدنبره) في أسكتلندا بالمملكة المتحدة، وذلك مع جمع غفير من الناس لمشاهدة أشهر نعجة في التاريخ النعجة [دوللي]([1])

وقد شاء الله أن أجد في تلك المؤسسة جمعا من الصحفيين المتمرسين يجرون حوارا مع صاحب النعجة.. أو (مخترعها!) ـ كما يتوهم ـ وكان اسمه (إيان ويلمت)([2])

قال له بعض الصحفيين([3]): ألا ترى أن العلم انتقل باختراع هذه النعجة إلى شيء جديد لم يكن يخطر على بال..

قال ويلمت: ما تقصد؟

قال الصحفي: لقد كانت الاختراعات مرتبطة بالمادة الجامدة.. ولكنها تنتقل إلى المادة الحية.

قال ويلمت: ذلك صحيح.. ولذلك فإني أعتبر هذه النعجة سلما مهما جدا في تاريخ التطور العلمي المذهل الذي لم يقف في وجهه شيء..

قال الصحفي: فأنت تتنبأ إذن بالمزيد من الكشوف والاختراعات في هذا الباب؟

قال ويلمت: أجل.. هذه النعجة التي ترونها مجرد خطوة في هذا الباب.. وستليها خطوات كثيرة مذهلة.. ربما تستطيع أن تغير الحياة على هذه الأرض تغييرا نهائيا..

قال الصحفي: ما مصادر تنبئك هذا؟.. أم هو رجم بالغيب؟

قال ويلمت: تأمل سير المخترعات والاكتشافات.. وسترى أنها كلها تسير في طريق تصاعدي لا يقف في وجهه شيء..

انظر.. لقد بدأت الثورة الذرية بصناعة قنابل ذرية بسيطة.. لم تؤد إلا أغراضا بسيطة.. لم تعدو تلك الرشات التي رشتها على مدينتي هيروشيما ونجازاكي عام 1945 م.. لكن الدول المتطورة الآن تمتلك عددا من القنابل الذرية المتطورة التي تستطيع أن تدمر الأرض ست مرات على الأقل.. بل ربما نستطيع في المستقبل أن نخترع قنبلة واحدة تستطيع تدمير الأرض جميعا..

مثل ذلك انظر ثورة الإلكترونيات.. لقد ظهر علم السيبرنطيقا.. وكان ظهوره بمثابة الأساس لتقنية الحاسوب فيما بعد، ومن ثم ثورة الانترنت الذي أورث ثورة عارمة في المعلومات المختلفة في شتى الميادين..

ومثل ذلك حصل مع غزو الفضاء.. حيث بدأ بإطلاق الروس أول قمر صناعي (سبوتنيك 1) عام 1957 م.. ثم توالت بعدها المحاولات التي كان منها هبوط الإنسان على سطح القمر وإرسال مركبات للمريخ وزحل والكوكب الأخرى لدراسة أحوالها، وتم وضع أقمار صناعية حول الأرض لأغراض متعددة منها تسهيل الاتصالات والتجسس ونقل الأحداث من شتى بقاع العالم مباشرة..

ومثل ذلك حصل مع الثورة الحيوية.. والتي تمثلت في مظاهر مختلفة.. منها زراعة الأعضاء.. حيث تم عام 1967م أول عملية زرع قلب بشري.. وحظيت بالنجاح.. ثم توسعت عمليات النقل والزرع حتى سجلت الكلى والبنكرياس والكبد والقلب والرئة معاً..

ومنها الهندسة الوراثية.. حيث تم الكشف عن الحمض الريبي النووي، ونال صاحبه جائزة نوبل عام 1962م، ثم تم الكشف عن أنزيمات التحديد أو التقييد اللازمة لقص ذلك الحمض في مواقع محددة.. وتدريجياً بدأ مصطلح هندسة وراثية يتداول بين الناس لتشكل تلك الهندسة في ذاتها ثورة من أخطر الثورات العلمية..

قام صحفي آخر، وقال: قبل أن نتحدث عن الجوانب الكثيرة المرتبطة بالاستنساخ.. حدثنا ـ حضرة البروفيسور ـ عن حقيقته.. هل هو اكتشاف.. أم هو اختراع.. أم هو ماذا؟

رفع ويلمت رأسه ببعض الكبر، ثم قال: تستطيع أن تقول كل ذلك.. وغير ذلك.. إنه ليس مجرد اكتشاف.. ولكنه في نفس الوقت لا يرقى إلى أن يكون اختراعا.

قال الصحفي: فما هو إذن؟

قال ويلمت: لقد عرفته في بعض المقالات العلمية بقولي : ( هو زرع خلية إنسانية أو حيوانية جسدية تحتوي على المحتوى الوراثي كاملاً في رحم طبيعي أو صناعي، وذلك بغرض إنتاج كائن حي ( حيوان أو إنسان ) صورة طبق الأصل من نظيره صاحب الخلية الأولى)([4])

قال الصحفي: فالاستنساخ إذن بحسب هذا التعريف ينقسم إلى قسمين: استنساخ يشمل الحيوانات والنباتات.. واستنساخ يرتبط بالبشر.

قال ويلمت: أجل.. وهو ينقسم نظريا إلى ثلاثة أقسام.. أولها الاستنساخ الجنيني.. وهو معروف وواضح.. وثانيها الاستنساخ العضوي.. وهو العمل على استنساخ العضو الذي يحتاج إليه الإنسان في حياته حال حدوث عطب في هذا العضو.. وثالثها هو الاستنساخ الخلوي.. وهو زرع خلية جسدية مكان نواة منزوعة من بيضة ليتولى السيتوبلازم المحيط بالنواة الجديدة حثها على الانقسام والتنامي من طور إلى طور من أطوار الجنين الذي يكون بعد ولادته صورة مطابقة لصاحب تلك الخلية الجسمية من الناحية المظهرية.

قام صحفي آخر، وقال: كيف خطرت على العلماء فكرة الاستنساخ؟

قال ويلمت: عندما نجح العلماء في معالجة البقرة (روزي) التي يمكنها إفراز حليب مقارب لحليب الأم البشرية بعد القيام بهندستها وراثياً هي وثمان بقرات أخر لإنتاج البروتين الآدمي ألفا لاكتالبومين.. فكرت مع زميل لي هو (كامبل) في الحفاظ على هذه الخاصية في البقرة([5])..

وبعد شروح علمية مفصلة حول كيفية تحقيق ذلك التناسخ أشار ويملت إلى النعجة، وقال: بفضلنا صارت هذه النعجة أشهر نعجة في التاريخ.. لقد اشترك في وجودها ثلاث أمهات بدون أب.. أما الأولى، فأعطت الخلية المانحة للمورثات من ضرعها.. وأما الثانية، فأعطت البييضة.. وأما الثالثة، فحملت البييضة في رحمها حتى ولدت جنينها الكامل.

انظروا جيدا إلى هذه النعجة..إن تركيبها الكروموزومي يتطابق تماماً مع النعجة التي أخذت الخلية منها.. وانظروا.. إنها كائن ثدي كامل سليم التكوين.. وقد ولدت ابنتها في نيسان 1998م بشكل طبيعي.

ثم أردف يقول متأسفا: لكن شيئا واحدا نحن نأسف عليه.. ولم نجد له حلا..

ثم ربت بيده على كتف النعجة، وهو يقول: إن هذه النعجة ولدت وعمرها ست سنوات.. وهي لذلك ليست كالنعاج الطبيعية.. وهي وبالتالي ستصل لمرحلة الشيخوخة مبكراً.

قام صحفي آخر، وقال: ألا ترى أن الاستنساخ ينحرف بالتصور البشري المعروف عن عملية التكاثر.. والتي تحصرها في الطريق المعروف؟

قال ويلمت: الاستنساخ يصحح الخطأ البشري.. ولا ينحرف به.. فالإنسان يمكن أن يولد من أي خلية.. لا من الخلايا الجنسية وحدها.

قال الصحفي: ألا ترى في هذا انحرافا عن الفطرة.

قهقه ويلمت بصوت عال، وقال: ما تريد بالفطرة؟

قال الصحفي: الطبيعة التي جبلت عليها الأشياء..

قال ويلمت: ليس هناك طبيعة للأشياء.. نحن الذين نصنع الطبائع.. لا الطبائع هي التي تصنعنا.

قال الصحفي: بهذه المناسبة.. ألا تتخوفون من حصول انحرافات أخلاقية عند القيام بالاستنساخ المرتبط بالإنسان؟

قال ويلمت: عندما يفكر العالم في مراعاة مثل هذه الأمور.. فإنه يحتاج إلى أن يخلع رداء العالم ليلبس بدله رداء القسيس.. وحينذاك سنحول من هذه المؤسسة إلى كنيسة.

قال الصحفي: ليس بالضرورة تحول هذه المؤسسة العلمية المحترمة إلى كنيسة.. ولكن يمكنها أن تطعم العلم بالأخلاق.

ضحك ويلمت، وقال: العلم علم.. والأخلاق أخلاق..

الأخلاق تقيدنا بالقوانين الكثيرة.. والثوابت الكثيرة.. ولكن العلم يطلقنا من إسارنا لنرى الحياة ونتصرف في الحياة.. ونحول الحياة إلا ما نحب لا إلى ما تحب.

ومع ذلك.. فإن ما نفعله يصب في الأخلاق التي تتحدث عنها..

لعلك رأيت في حياتك الكثير من المرضى الذين يعانون من الفشل الكلوي.. إنهم يعانون بشدة.. إنهم يحتاجون لثلاث جلسات أسبوعية على الأقل لعمل الغسيل الكلوي الذي يستغرق ساعات طويلة.

إن هؤلاء حتى لو حالفهم الحظ، ووجدوا متبرعين للكلى، فإن أجسادهم ستعمل بتلك الكلى لعدة سنوات فقط، ثم سيحتاجون بعدها لعملية نقل كلى أخرى، بسبب رفض جسمهم لها لاختلاف فصائل الأنسجة.

بينما لو تمكن الإنسان من عمل نسخة منه، فإنه يضمن الحصول على أعضاء كثيرة.. مثل الكلى والرئتين والمبايض أو الخصيتين.. بل إنه يمكنه الحصول على جزء من الكبد أو نخاع العظم دون التأثير على الإنسان المنسوخ مع ضمان استمرار عمل الأعضاء المنقولة في المريض بكفاءة ؛ لأنها من نفس الفصيلة.

قال الصحفي: ألا ترى أن ذلك الإنسان المستنسخ سيصبح، وكأنه مجموعة من قطع الغيار؟

قال ويلمت: وما في ذلك.. أليست السيارات تحتاج إلى قطع غيار؟

قال الصحفي: السيارات سيارات.. والإنسان إنسان.. ولا يمكن المقارنة بينهما.

قال ويلمت: في العصور الماضية.. عندما كنا تحت سلطة الكنيسة المملوءة بالقيود.. كنا لا نقارن بينهما.. لكنا الآن في وضع مختلف تماما.. نحن الآن في عالم مختلف لا تحكمه الأخلاق.. بل يحكمه العلم.. العلم الذي لا يقيد بأي قيود.

قام صحفي آخر، وقال: ألا تخافون من أن ينجم عن الاستنساخ اختلال التوازن السكاني بسبب الاستغناء عن أحد الجنسين وفقدان التنوع الذي هو أساس المجتمع؟

لم يجب (ويلمت).. فقام آخر، وقال: ألا تخافون من أن يؤدي الاستنساخ إلى إنتاج أشخاص مشوهين أو مجرمين لديهم الاستعداد للإفساد أو التخريب؟

لم يجب (ويلمت).. فقام آخر، وقال: ألا تخافون من أن تتسابق الدول لاستنساخ أفراد ذوي صفات معينة مما يمهد للحروب، واعتبار هؤلاء أسلحة تهدد الشعوب الأخرى؟

لم يجب (ويلمت).. فقام آخر، وقال: ألا تخافون من إمكانية أن يتلاعب المتلاعبون بالجينات والخلايا والأجنة حسب الرغبات والأهواء.. ثم يستعملونها بعد ذلك للكسب والتجارة.. ؟

لم يجب (ويلمت).. فقام آخر، وقال: ألا ترون في الاستنساخ مسخا للإنسان وامتهانا لكرامته؟

لم يجب (ويلمت).. فقام آخر، وقال: ألا تخافون من احتمال حدوث خلل تقني أثناء إجراء عملية الاستنساخ مما ينتج عنه تشوهات جسمية وعقلية ونفسية لم نسمع بها من قبل؟

لم يجب (ويلمت).. فقام آخر، وقال: ألا تخافون من الآثار السلبية التي تنتج عن استبدال الطريقة الطبيعية للتكاثر وعمارة الأرض واختلال النظم الاجتماعية كالزواج والأسرة والأبوة والبنوة وغير ذلك من أسس النسيج الاجتماعي؟

لم يجب (ويلمت).. فقام آخر، وقال: ألا..

قاطعه (ويلمت)، وقال: أرى أن الصحفيين الذين سألوا كل هذه الأسئلة نسوا أنفسهم، ونسوا المحل الذين هم فيه.. أنتم لستم في كنيسة.. ولا في مدرسة تربية.. أنتم في مؤسسة علمية.. ولا ضوابط تحكم العلم.. ولا ثوابت تحكم الكون والحياة.

قال ذلك، ثم حمل حقيبته وانصرف غير مبال بالتساؤلات الكثيرة التي تنتشر في أرجاء القاعة.

***

سرت بعدها إلى مزرعة أبقار بنفس البلدة.. وقد جلست فيها لبعض العلماء.. وكان يحدثنا بحماسة عن الاختراعات التي توصل إليها في تغذية الأبقار.. ووصف لنا بأن الأيام أثبتت كونها علمية ومفيدة.. فهي تعطي الأبقار ما هي في حاجة إليه من العناصر المتنوعة المستحضرة صناعيًّا.. وهي بالتالي تجعل الأبقار أكثر إدرارًا للألبان.. وتجعلها تنمو نموًا سريعًا.. وكل ذلك سيؤدي طبعا إلى وفرة في الأرباح..

بينما هو في حماسته تلك إذا بأحد العمال يأتي مسرعا.. وهو يصيح: أدركنا يا دكتور.. لقد جنت الأبقار([6])..

بعد أيام رأينا الربح العظيم الذي ناله الدكتور.. وناله مع زملاؤه.. لقد شممنا من مكان بعيد روائح الأبقار المحروقة.. وجميع تلك الأغذية التي أرادت أن تخترق سنة الله في غذاء الأبقار.. ومعها ملايين بل ملايير الدولارات.. ومعها تلك المستشفيات التي امتلأت بجثث من أكلوا لحوم البقر المجنون.

***

سرت بعدها إلى محال كثيرة رأيت فيها من عجائب التطور الصناعي والزراعي ما ملأني بعضه بالإعجاب والانبهار، وملأني بعضه الآخر بالاشمئزاز والتقزز..

لكني بعد تلك الرحلة الطويلة، لم أجد من يدلني على أسرار الثبات والتطور مثلما وجدت في الرحلات السابقة؛ فقررت أن أذهب إلى بلدة من بلاد المسلمين، لعلي أجد فيها من كتب له أن يكون معلمي في هذا النوع من الأسرار.

كانت البلدة مقسمة بين حيين..

أحدهما موغل في محبة كل ما ورثه عن أسلافه من عادات وتقاليد، فهو لا يرى استبدالها بأي شيء.. ولذلك كان خاليا من كل شيء جديد، فلا طرقات معبدة، ولا سيارات ولا غيرها من وسائل النقل الحديثة.. ولم يكن هناك أي وسيلة من وسائل الاتصال حتى البسيطة منها.

وكانت ملابس الناس مثل مدينتهم، يشعر السائر فيها، وكأنه يعيش في العصور الوسطى.. وهكذا كانت كل شؤونهم.

وأما الحي الثاني؛ والذي كان يبعد قليلا عن الحي الأول، فقد كان على العكس من ذلك تماما.. كانت فيه كل وسائل التطور والرفاهية، ولكن ليس بجانبها العادي البسيط فقط، وإنما بجانبها المتوحش أيضا..

فقد كانت دور السينما تعرض صورا غير أخلاقية على واجهات محالها، تدعو الناس لمشاهدتها، وبأثمان رمزية.. وكان الشباب يلبسون ثيابا أقرب إلى التهتك منها إلى الستر.. وكان النساء غير محجبات..

أما  المساجد، فلا وجود لها .. إلا مسجد واحدا يشبه المتاحف.. لم يكن يقترب منه أحد.. ومع ذلك لم يجد من أهل ذلك القسم من المدينة أي حرمة، فقد كان بعض الناس يدخلون إليه بأحذيتهم ليشاهدوا عمرانه.. دون أن تحدثهم نفوسهم بأن يصلوا أو يذكروا الله فيه.

بل إني رأيت بعض الشباب يسخر من كل شيء يتعلق بالدين.. وسمعت بعضهم يقول لصاحبه، وهو يحاوره: لا شك أنك تريد بهذه الطريقة التي تفكر بها أن يتحول حينا إلى حي أشباح مثل حي أولئك الظلاميين الذين يجاوروننا.

قال له صاحبه: لم أقصد هذا.. ولكني قصدت أن بعض ما يحمله أصحاب الحي الذي تسميه ظلاميا من أفكار جميل جدا.. فقد ناقشت بعضهم، وأعجبني طرحه.

قال الأول: لو كانت أفكارهم صحيحة لأثرت في حياتهم.. وتخلفهم وظلاميتهم ليست إلا دليلا على الظلام الذي يسكن عقولهم.

قال الثاني: لم أذكر لك أن كل أفكارهم صحيحة.. ولكني ذكرت لك أن بعضها صحيح.. وأنه يمكننا أن نستفيد منها..

قال الأول: لو كان فيها فائدة لاستفادوا هم منها قبلنا.

قال الثاني: ليس بالضرورة.. فقد يكون الشخص صاحب سيارة لكنه قعيد.. ولذلك لا يستطيع أن يسوقها.

قال الأول: دعك من هذا حتى لا تقع في سجونهم.. فنحن قد آثرنا أن نتخلص من كل تلك الرواسب التي جعلتنا من المتخلفين.. ولا يمكننا أن نقبل التطور المادي، ونترك سائر أنواع التطور.. فالتطور شيء واحد.

أراد الثاني أن يقول شيئا.. لكن الأول أسرع وتركه، وهو يسخر منه بطريقة ممجوجة آذتني كثيرا.. فاقتربت منه، وقلت: لا عليك.. فهو في مرحلة الشباب والمراهقة، ولا يعرف ماذا يفعل.

قال: بل هو يعرف ما يفعل، ويتصور أنه لن يكون متطورا ولا متحضرا إلا إذا فعل هذا.. هو متأثر بممثل مشهور نال إعجاب أهل هذا الحي منذ فترة، والكل يقلده في حركاته.

قلت: لقد كان يحدثك عن التطور..

قال: أي تطور هذا.. بل كان يحدثني عن التخلف الذي طلي بطلاء التطرف.

قلت: لم أفهم.. فهل أنت من أهل الحي الذي يسميه ظلاميا؟

قال: لا .. أنا لست من أهل كلا الحيين.. بل من حي ثالث منعزل لا يعرفه كثير من الناس .. فهو حاليا لا يسكنه إلا ثلة قليلة، أنا أحدهم.. وقد أرسلني معلمي لعلي أستطيع أن أقنع بعض هذا الحي بزيارته.. لكني لم أفلح.

قلت: ولم لا تذهب إلى الحي الآخر.. فلعلك تجد فيهم من يسمعك؟

قال: لقد كنت فيه.. لكني أيضا لم أفلح.. لكني مع ذلك لن أيأس، وأنا ورفاقي ليس لنا من عمل في كل مساء إلى تنوير كلا الحيين بحقائق الثبات والتطور.

ما إن نطق بكلمة الثبات والتطور حتى اهتززت طربا.. وقلت: لعلي في هذه المدينة أظفر بأسرارهما.

قال لي: أجل.. فلم نهتد لبناء الحي الثالث إلا بعد أن تعلمنا أسرار الثبات والتطور.

قلت: فمن علمكم علومها؟

قال: معلمي .. معلم الثبات والتطور.. وإن شئت أن تزوره، فهو في انتظارك.

امتلأت فرحا بحديثه هذا، وقلت: وجدته .. هذا ما كنت أبحث عنه.

ذهبت معه إلى الحي الثالث الذي احتاج منا إلى بعض السير والجهد.. كان حيا صغيرا، لكنه ممتلئ بالجمال، وكان متطورا، ولكنه يحافظ على كل سمات الأصالة.

وأجمل ما رأيت فيه مدرسة مزودة بكل التقنيات، وأمامها مسجد، كان حينها ممتلئا ببعض الشباب والأطفال.. والذين انصرفوا إلى دروسهم بمجرد انتهائهم من الصلاة.

دخلنا على معلم الثبات والتطور.. وكان حينها بالمدرسة.. وقد عجبت حين علمت أنه يملك كثيرا من الشبهات العلمية، وفي تخصصات دقيقة، وأنه فوق ذلك يملك براءات اختراع.

وقد دعاني ذلك إلى سؤاله عن سر إعراض حي المتطورين عنه، وقلت له: لا أعجب أن يعرض عنك أولئك التقليديون.. فهم لا يؤمنون بالعلوم الحديثة.. ولكني أعجب من ترك أصحاب الحي المتطور لك، وعدم استفادتهم منك.

قال: سر ذلك بسيط، وهو انصرافهم عن معرفة أسرار الثبات والتطور.. فلو عرفوها، لميزوا بين ما يحتاج إلى التطور، وبين ما يحتاج إلى الثبات.

قلت: ولم لم تعلمهم ذلك؟

قال: وهل تركت تلك البلاد التي كنت فيها إلا لأجل هذا.. لقد جئت إليهم لأدعوهم إلى الحفاظ على أصالتهم في نفس الوقت الذي يستفيدون فيه من كل تطور سليم يتناسب مع الفطرة.. والحمد لله ها أنت ترى النتائج.. وسترى أفضل منها بعد مدة وجيزة.

قلت: كيف ضمنت ذلك؟

قال: سيصطدم أهل كلا الحيين بمخالفتهم للفطرة.. ولذلك لن يجدوا ملجأ إلا هذا الحي الذي سيكون نموذجا صالحا لهم، يكتشفون فيه النقص الذي يعيشونه.

قلت: فأنت تنشر تلاميذك بينهم ليؤدوا عنك رسالتك.

قال: أجل.. أنا أفعل ذلك.. والحمد لله، قد نجحوا في استنقاذ الكثير، وقد أصبحوا نماذج طيبة، يمكنها أن تثمر بكل صنوف الثمار بعد فترة قصيرة.

قلت: فهلا علمتني أسرار الثبات والتطور.. فأنا منذ مدة طويلة أبحث عن معلمها.

قال: وأنا منذ مدة طويلة أنتظر حضورك.

قلت: لقد عرفت مجامع أسرار السنن، ومجامع أسرار الأقدار.. فهل لأسرار الثبات والتطور مجامع تجتمع فيها؟

قال: أجل.. هما مجمعان: الحقائق والقيم.

1 ـ أسرار الحقائق:

قلت: فحدثني عن أسرار الحقائق، وعلاقتها بأسرار الثبات والتطور.

قال: أعيان الحقائق ثابتة.. والتطور معرفتها والوصول إليها وإزالة الأوهام والخرافات المرتبطة بها، وتفعيلها للاستفادة منها.

قلت: ما تعني؟

قال: ألم ير البشر جميعا الشمس، وهي تملأ الأرض بأشعتها الحنون الدافئة؟

قلت: أجل.. ولذلك ذكرت في كل الأشعار، والكتب المقدسة، بل إنها عبدت في كثير من الديانات.

قال: فحقيقة الشمس واحدة، وفي كل العصور.. لكن التعامل معها هو الذي اختلف من جهة إلى جهة، ومن زمن إلى زمن.

قلت: أجل.. فالشمس مذ كانت هي الشمس.. ومثلها القمر.. ومثلها كل الكون.. لكن العلوم الحديثة أعطتنا الكثير من المعارف التي كنا نجهلها عنها، وأزالت كثيرا من الخرافات والأوهام المرتبطة بها، وبذلك تطور فهمنا لها، ومعرفتنا بها، وازدادت استفادتنا منها..

قال: وهل التطور الذي وصل إليه البشر حولها ألغاها، أو ألغى حقيقتها؟

قلت: كلا .. بل هو زادنا طمأنينة لها، وتعلقا بها.. وشعورا بعدم إمكانية تخلينا عنها.

قال: فهل اختلف حالكم معها عن ذلك البدوي في الصحراء، أو البدائي في الكهوف؟

قلت: نحن الآن أكثر استفادة منها، وشعورا بأهميتها.. فالكثير من قومنا أصبحوا يستثمرون طاقتها في الكهرباء، وفي كل شيء.

قال: فقد عرفت إذن مجال الثبات والتطور المرتبط بالحقائق.

قلت: ما تعني؟

قال: الأشياء ثابتة في نفسها، والتطور هو موقفنا منها، ومن كيفية التعامل معها.. فإن وقفنا منها موقفا متناسبا مع حقيقتها، واستفدنا منها، كان تطورنا إيجابيا، وإن وقفنا منها موقفا لا يتناسب معها، ولم نستفد منها، أو استفدنا منها بطريقة خاطئة كان تطورنا انتكاسة وسقوطا وانحدارا.

قلت: لم أفهم.

قال: أنت تعلم أن الله تعالى أباح لآدم عليه السلام الأكل من كل شجر الجنة إلا شجرة واحدة، نهاه عن أكلها.

قلت: أجل .. وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن الكريم، فقال: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]

قال: فهل كان آدم عليه السلام عندما وسوس له الشيطان، فأكل منها بحاجة إلى ذلك الأكل، أم أن الله تعالى وفر له في الجنة كل ما يحتاج إليه؟

قلت: بل وفر الله له كل ما يحتاج إليه، ولم يكن بحاجة إلى الأكل منها، كما قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118 – 119]

قال: فلم أكل آدم عليه السلام منها بعد أن وفر الله له في الجنة كل ما يغنيه عنها؟

قلت: لقد {وَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]

قال: فهل كان ما ذكره الشيطان حقيقة أم وهما وتلبيسا؟

قلت: بل كان وهما وتلبيسا، فلم تكن في تلك الشجرة تلك المواصفات، بل على العكس من ذلك، فبمجرد أن أكلا منها { بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه: 121]

قال: فهل ما حصل لآدم عليه السلام بعد أكله من الشجرة، واكتشافه لسرها، تطور أم انتكاسة؟

قلت: لقد عبر الله تعالى عن ذلك بالهبوط، وهو لا يعني سوى الانتكاسة، كما قال تعالى: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [طه: 123]

قال: وهكذا الحقائق.. هي ثابتة.. ولكن تعاملنا معها هو المتطور، وهو ليس بالضرورة تطور إيجابي، بل قد يكون تطورا سلبيا.

قلت: ما تعني؟

قال: الله تعالى اختبرنا بشيئين: بمعرفة الحقائق كما هي من غير تبديل ولا تغيير، وبالتعامل الصحيح معها.. فلو أن آدم عليه السلام اكتفى من معرفته بالشجرة التي نهي عنها، بأنها شجرة منهي عنها، واكتفى من تعامله معها بعدم القرب منها، ثقة في ربه، لما حصلت له تلك الانتكاسة.

قلت: لا أزال لا أفهم مرادك.

قال: لتفهم هذا تحتاج إلى معرفة ركنين من أركان التعامل مع الحقائق.

قلت: ما هما؟

قال: التوثيق والتفعيل.. فلا يمكن أن نصل إلى الحقائق الثابتة، ونتطور في التعامل معها من دون هذين الركنين.

أ ـ توثيق الحقائق:

قلت: فحدثني عن توثيق الحقائق، ولم كان مقدمة لتفعيلها؟

قال: لا يمكن فهم الحقائق بالهوى أو بالظن أو بالرغبة المجردة، وإنما نحتاج إلى التعرف عليها من خلال المصادر التي تدل عليها.

قلت: أراك تشير إلى قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الاسراء:36)

قال: أجل.. فالحقائق التي تنبعث من الهوى تمتلئ بالوهم، والكذب والأسطورة.

قلت: الحمد لله.. لقد تخلص عصرنا من أوهام الخرافة والكذب والأسطورة.

قال: هو تخلص منها في بعض الجوانب.. لا في كل الجوانب.

قلت: ما تعني؟

قال: لقد تخلص مدعو التطور في هذا العصر من الخرافات التي كانت تصف الكون في العصور السابقة، ولكنه وقع في خرافات لا تقل عنها، عندما راح ينكر الحقائق الثابتة، بسبب كونها من معتقدات العصور السابقة.

قلت: أراك تشير إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة:8)

قال: أجل.. فهذه الآية الكريمة تضع مقياسا لتوثيق الحقائق، لا يخضع لزمان، ولا لمكان، ولا لدين، ولا لعرق.. بل يخضع لما تتطلبه الحقيقة نفسها من البحث الموضوعي.

قلت: هل تقصد أن نتعامل مع القضايا بحسبها، لا بحسب العصر الذي ذكرت فيه؟

قال: أجل.. فالتطوريون تصوروا أن الخرافات التي سرت للمعلومات الكونية لأهل العصور السابقة، سرى مثلها في المعتقدات، ولذلك راح ينكرونها، وليس لهم من دليل على ذلك سوى تلك الخرافات التي ردوها، وكان لهم الحق في ردها.

قلت: لم أفهم.. هل لك أن توضح لي ذلك بمثال.

قال: أرأيت لو أن شخصا استطاع أن يثبت لدى القضاء بأن لديه بعض الحقوق المالية على شخص آخر، وأثبت له القضاء صحة دعواه، وكلف المدعى عليه بأن يرد له حقوقه التي طلبها .. هل يمكن للمدعي بسبب تلك الدعوى أن يطلب حقوقا أخرى من غير إثبات، معتبرا أن نجاح دعواه السابقة كافية لإثبات دعواه اللاحقة؟

قلت: كلا .. والقاضي الذي يحكم بذلك، لا شك أنه متهم؛ فكل جريمة دليلها الخاص المثبت لها.

قال: لقد قام التطوريون بنفس خطأ أو جريمة ذلك المدعي.. ذلك أنهم راحوا يستدلون بما وقع فيه أهل القرون السالفة من خرافات على فساد كل معتقداتهم، حتى معتقداتهم في الله نفسها.

قلت: صدقت.. فقد انتشر الإلحاد بعد الثورة الفرنسية، ولم يكن لهم من دليل سوى تلك الخرافات التي كانت تؤمن بها الكنيسة أو يؤمن بها رجال الدين.

قال: وبذلك بدأت الحرب على الدين.. مع أنه كان يمكن أن توجه للخرافات المرتبطة بالدين..

قلت: صحيح.. ولكنهم يذكرون أن الدين شيء غيبي لا يمكن إثباته، ولذلك كان البحث فيه نوعا من اللهو أو اللغو الذي يبعدهم عن الحياة.

قال: وهنا كان خطؤهم الأكبر.. لأنهم حكموا على الدين من خلال أشخاصهم وأوهامهم وفهومهم، وليس بحسب ما هو عليه في الواقع.

قلت: لم أفهم.. هلا ضربت لي على ذلك مثالا.

قال: أرأيت لو أن شخصا من الناس يحب بعض الأطعمة، التي لا تضر صحته؛ فيأتي شخص ويرغبه عنها من غير حجة سوى كون ذلك الطعام مرتبطا بأهل العصور السابقة، ولا علاقة له بهذا العصر.. هل يمكن أن يقبل أحد هذه الحجة؟

قلت: لا.. هذا الرجل مفتر .. ولكل شخص الحق في أن يأكل ما يشتهي.. وليس على الآخرين نهيه، لأن الطباع مختلفة.. وما يشتهيه شخص من الناس قد لا يشتهيه غيره.

قال: فهكذا الأمر في الأديان .. فالتاريخ البشري يثبت أن الدين ركن أساسي في حياة كل الشعوب، ولا علاقة لذلك بعصر دون عصر.. لكن التطوريين في هذا العصر راحوا يتصورون أن الدين مرتبط بعصور سابقة، وأن التطور يقتضي إبعاده عن الحياة بجميع مجالاتها.. وهنا أدخلوا هواهم في هوى غيرهم، ورغبتهم في رغبة غيرهم.

قلت: ولكنهم يستدلون لذلك بتلك الخرافات التي وقع فيها أهل الأديان.

قال: أرأيت لو أن شخصا ذهب إلى بستان مملوء بالحشائش الضارة، لكنه بدل أن يطهر البستان منها راح يقضي على كل شيء فيه، حتى أشجاره المثمرة.. هل تراه مصلحا أم مفسدا؟

قلت: لا شك في كونه مفسدا.. فلا يصح أن نحكم على النافع بجريمة الضار.

قال: وهكذا فعل التطوريون .. فهم لم يكتفوا بالرد على ما في الأديان من التحريفات، وإنما راحوا يقضون عليها، وقد أسلمهم ذلك إلى أوهام كثيرة.

قلت: فما كان عليهم أن يفعلوا؟

قال: كان عليهم أن يستعملوا وسائل البحث عن الحقيقة، ويتحروا في جميع الأديان، ويطبقوا عليها جميع المقاييس المفرقة بين الحقائق والأوهام، ليميزوا بين الحقيقة فيها والأسطورة.

قلت: حينها سيصلون حتما إلى الإسلام.

قال: ولكنهم لم يفعلوا.. لأن خوفهم من الحقائق جعلهم يتوقفون في منتصف الطريق.. ولا يكتفون بذلك، بل راحوا يشنون على حقائق الإسلام ما شنوه على غيرها.

قلت: أنت تذكرني بما فعله أهل الكتاب الذين كان لديهم كل الأدلة المثبتة لكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله الذي وعدوا به.. لكنه عندما لم يتفق مع أهوائهم راحوا ينفرون منه، وينفرون.

قال: صدقت.. وقد قال الله تعالى في شأنهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [البقرة: 89]

قلت: وقد ذكر الله تعالى علة ذلك، فقال: { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } [البقرة: 90].. فقد كان الحسد هو السبب في عدم إيمانهم.

قال: أجل .. وهو سبب نفسي مبني على مزاج مريض مركب من الهوى المجرد..

قلت: وقد أضاف الله تعالى إلى ذلك السبب قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ } [البقرة: 91]

قال: وهو سبب اجتماعي مبني على عنصريتهم وطائفيتهم وكبرهم.. فلذلك أنكروا أن يكون النبي من غيرهم، مثلما فعل التطوريون الذين لم يستسيغوا أن يروا الحقائق في بلاد المسلمين.

قلت: وعيت هذا.. ووعيت معه أهمية هذا الركن من الثبات.. فالتطوريون امتنعوا من تقبل الحقائق، لا بسبب عدم الدليل عليها، وإنما بسبب نفرتهم النفسية والاجتماعية منها.

قال: أجل.. ولذلك ترانا في هذه المدرسة ندرس الحقائق الدينية بالأسلوب الذي يتناسب مع هذا العصر.. حتى لا نسيء إليها.

قلت: لم أفهم ما تعني.. هل طورتم الدين ليتناسب مع العصر.

قال: لا .. دين الله واحد.. وحقائقه ثابتة.. وإنما طورنا أساليب عرضه، وأنواع حججه ليفهمها أهل عصرنا .. ذلك أن بعض ما ذكره السابقون من أدلة لا يتناسب مع أمزجة وعقول هذا العصر.. ولذلك جددنا العرض، حتى لا يساء إلى الحقائق عندما تلبس ألبسة القرون السابقة.

قلت: أراكم استفدتم في هذا من رد الله تعالى على أولئك الذين طالبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يستعمل نفس ما استعمله الأنبياء السابقون من حجج.

قال: أجل.. لقد قال الله تعالى في ذلك: { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران: 183]

قلت: أهذا فقط ما قمتم به من تطوير يرتبط بالحقائق الدينية؟

قال: لا .. ليس ذلك فقط.. وإنما أزحنا عنها الكثير من الخرافات والدجل الذي ارتبط بها.. والذي شوهها، وحال بين الخلق وتقبلها.

قلت: هلا ضربت لي على ذلك مثالا؟

قال: عندما نقرأ كلمات الله المقدسة نجدها تصف الله بالتنزيه والتقديس المطلق.. لكن عقول رجال الأديان لم تستسغ ذلك التقديس، فراحت تصف الله بما تصف به البشر، فغرقت في أوحال التشبيه والتجسيم.

قلت: فماذا فعلتم أنتم؟

قال: لقد طهرنا العقائد من كل ذلك الرجس، لأنه افتراء على الله، وكذب عليه.

قلت: أهذا ما فعلتم؟

قال: هذا مجرد مثال.. فقد دخلت التحريفات في كل شيء.. ولذلك جردنا المقدس من كل أنواع المدنس.. وطهرنا دين الله من كل آثار دين البشر.. فتحول دين الله إلى جماله وقوته التي أضعفها ذلك الدنس الذي أحاط بها.

قلت: فهل كان لكم في ذلك حجة؟

قال: أجل.. لقد أمرنا صلى الله عليه وآله وسلم بذلك في وصاياه الخالدة.

قلت: أراك تشير إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)([7])

قال: أجل.. فدين الله يحتاج كل حين إلى تطهيره من كل الأهواء التي تسربت إليه.

قلت: لكن الذي أعلمه هو أن الأهواء تسربت إلى أهل الأديان من قبلنا.. فقد كان رجال الدين يكتمون ما أمر الله به أن ينشر.. وكانوا يضيفون للدين ما يتناسب مع أمزجتهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة:174)

بل أشار إليه الكتاب المقدس، فقد قال أرميا: (أما وحي الرب فلا تذكروه بعد، لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه إذ قد حرّفتم كلام الإله الحي رب الجنود إلهنا) (إرميا: 23: 36)، وقال: (هكذا قال رب الجنود لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين يتنبأون لكم.. فإنهم يجعلونكم باطلا.. يتكلمون برؤيا قلبهم لا عن فم الرب) (إرميا: 23/ 16)، وقال: (لأن الأنبياء والكهنة تنجسوا جميعا بل في بيتي وجدت شرهم يقول الرب) (إرميا: 23/ 11)، وقال: (كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا .. حقا إنه إلى الكذب حوّلها قلم الكتبة الكاذب) (إرميا: 8: 8)

قال: وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لتتّبعنّ سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا ذراعا حتّى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم). قلنا: يا رسول الله، اليهود والنّصارى؟. قال: (فمن؟)([8])

قلت: هل تقصد أن التحريفات التي وقع فيها أهل الأديان من قبلنا تسرب مثلها إلى الإسلام؟

قال: أجل.. ولذلك أسسنا مركزا للبحث عن كل دخيل تسرب إلى الإسلام، ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى جمال الأصيل قبل أن نطهره من دنس الدخيل.

ب ـ تفعيل الحقائق:

قلت: وعيت سر توثيق الحقائق.. وكيفية تطويرها..فما تعني بتفعيل الحقائق، وكيف تطور؟

قال: ألم تسمع قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [البقرة: 189]؟

قلت: بلى.. فما فيها من العلم؟

قال: الله تعالى يدعونا في تلك الآية الكريمة إلى تفعيل الحقائق والاستفادة منها في كل شؤون الحياة، وعدم الاكتفاء بها بمعرفتها فقط.

قلت: ألهذا لم يجب الله تعالى عن سؤالهم عن الحقيقة وأجابهم عن كيفية الاستفادة منها؟

قال: أجل.. لأن عقولهم حينذاك كانت أضعف من أن تفهم حقيقتها؛ فلذلك دعوا إلى الاهتمام بتفعيلها والاستفادة منها.

قلت: ألهذا نهى الله تعالى عن البحث عن الأحداث الدقيقة المرتبطة بأهل الكهف؟

قال: أجل.. لأن تلك الأحداث لن تقدم أو تؤخر، والعاقل هو الذي يهتم بالتفعيل والعبرة، لا الذي يهتم بالتفاصيل التي قد لا يفيده علمه بها، ولا يضره جهله.

قلت: أهذا في كل الحقائق؟

قال: أجل.. فلكل حقيقة آثارها العملية الخاصة بها.

قلت: حتى الحقائق المرتبطة بالله؟

قال: أجل.. فنحن لسنا مطالبين بأن نعرف الله فقط، وإنما طولبنا بالتواصل معه أيضا؛ وذلك تفعيل للمعرفة بالله.. فمن عرف الله، ولم يتحرك للسير إليه كان جاهلا وضالا وغافلا.

قلت: ألذلك قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]؟

قال: أجل.. فالعاقل هو الذي يجعل الله مطلوبه الأكبر؛ فيتعرف عليه، ويتواصل معه.

قلت: ولكن التطوريين يعتبرون ذلك لغوا.

قال: وذلك لجهلهم وكبرهم وغرورهم وعنادهم.. وإلا فإن الله هو المطلوب الأكبر لكل عاقل.. فماذا وجد من فقده؟.. وما الذي فقد من وجده؟

قلت: وعيت هذا.. فكيف نفعل علاقتنا بالأنبياء؟

قال: بالتواصل معهم.. واتخاذهم أسوة.. ألم تسمع قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90)

قلت: فكيف نفعل علاقتنا بالملائكة؟

قال: بمحبتهم وصداقتهم والتواصل معهم والشعور بحضورهم الدائم معنا.. ألم تسمع قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 – 11]، وقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 – 18]؟

قلت: بلى.. فما فيها من العلم؟

قال: أرأيت لو أن صاحبك الذي تحبه وتعتقد مودته كان مصاحبا لك في محل من المحال، أكنت تفعل ما يغير نظرته إليك؟

قلت: كلا .. إني حينها أستعمل كل الوسائل لأظهر أمامه بأحسن مظهر.

قال: فكذلك إن عرفت الملائكة وكمالهم وصدقهم.. وعرفت حضورهم الدائم معك، فإن ذلك يجعلك تستحيي منهم أكثر من استحيائك من صديقك.

قلت: ولكن أليس في ذلك شرك.. فنحن مطالبون بأن نعظم الله، ونكتفي بنظره إلينا.

قال: ونحن مطالبون بمراعاة أهل الله وتعظيمهم، ألم تسمع قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]

قلت: بلى.. فأخبرني عن كيفية تفعيل حقائق اليوم الآخر؟

قال: من عرف حقائق اليوم الآخر امتلأ بكل أنواع السعادة، وتزود معها بكل أنواع الهمة.

قلت: ما تعني؟

قال: أرأيت لو قيل للناس: إن هناك فترة من حياتكم بعد بلوغكم الشيخوخة، أو بعد إصابتكم بمرض خطير يشل أعضاءكم جميعا تولدون من جديد، لا شيبا كما كنتم، بل شبابا أقوياء، ويمتد شبابكم أمدا لا ينتهي.. لو قيل ذلك، ورآه الناس بأعينهم.. يرون الشيخ الكبير ينام أمامهم، ثم في الصباح يشاهدونه، وقد اخضر عوده، واشتدت أوصاله، وقام قوامه.. لو رأوا ذلك بأعينهم، كيف يكون حالهم؟

قلت: إنهم حينها يبدلون كل أشعارهم التي قالوها عن الشباب ليمدحوا بها الشيخوخة، وحينها لن يقول أبو العتاهية:

فياليتَ الشبابَ يعودُ يوماً

   فأخبرَهُ بما فعل المشيبُ

بل سيقول:

فياليتَ الشباب يعودُ يوماً

   فأخبرَهُ بأفضال المشيبُ

قال: فإذا قيل لهم: إن هذا التغيير لن يحصل لكل الناس، بل لكل من عمل أعمالا معينة.. هل ترى الناس يعرضون عن تلك الأعمال، أم سيقبلون عليها بكل شوق؟

قلت: بل سيقبلون عليها بكل شوق.. وكيف لا يقبلون عليها، وهي مصدر سعادتهم.

قال: فكذلك حقائق اليوم الآخر عندما تتشربها القلوب، وتعيها العقول، لن تبقى مجرد حقائق، بل تتحول إلى أعمال ممتلئة بالصلاح، وتتحول معها النفوس المكتئبة إلى نفوس ممتلئة بالسعادة.. وتتحول معها الهمم الدنية إلى همم رفيعة تناطح الجوزاء.

قلت: لقد ذكرتني بمقالة السحرة لفرعون، فقد دخلوا عليها أذلة يسبحون بحمده، لكنه ما إن غمر الإيمان قلوبهم حتى راحوا يتحدونه.. لقد قال الله تعالى مخبرا عن حديثهم وتحديهم: { لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه: 72 – 76]

قال: وهكذا ترى كيف تحول الحقائق الإيمانية حياة الإنسان إلى حياة ممتلئة بالإيجابية والقوة.

قلت: لكن التطوريين يذكرون أن الدين أفيون الشعوب.

قال: لقد ذكرت محل خطئهم، فهم لا يكتفون بمحل الخطأ، وإنما يتجاوزونه إلى غيره.. هم مثل ذلك الدب الذي أراد أن يذب عن صاحبه الذباب؛ فقتله.

قلت: أترى أن لهم بعض الحق فيما ذكروا؟

قال: أجل.. وما كنت لأكذبهم تكذيبا مطلقا، ولو فعلت ذلك لكنت شبيها لهم.. وكيف أفعل ذلك، والقرآن الكريم نفسه نطق بذلك قبل أن ينطقوا به..

قلت: عجبا.. هل أخبر القرآن الكريم أن الدين أفيون الشعوب؟

قال: لقد أخبر القرآن الكريم أن دين البشر هو أفيون الشعوب لا دين الله.. فدين الله هو المحرك لكل طاقات الإنسان والمجتمع لكل أنواع الفضائل.

قلت: أراك تقصد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]؛ فهذه الآية الكريمة تشير إلى ما كان يقوم به رجال الدين من استغلال للدين في سبيل تحقيق المصالح الشخصية، وتشويه الدين لأجل ذلك، حتى يصبح مطية لخدمة أغراضهم.

قال: كل القرآن الكريم يتحدث عما يفعله المفسدون في الأرض من تلاعب بالأديان.. ألم تسمع قصة السامري، وهو من أصحاب موسى عليه السلام، وفي عهده، ومع ذلك حاول أن يدنس دين الله بالوثنية.

قلت: بلى .. وقد سمعت معها تلك الإلحاحات الشديدة لليهود بأن يريهم الله جهرة، أو يجعل لهم إلها يعبدونه من دون الله.

قال: فإذا كان الأمر كذلك في حياة الأنبياء، فكيف بمن بعدهم؟

قلت: وعيت هذا .. فحدثني عن تفعيل حقائق الكون، بعد أن حدثتني عن تفعيل حقائق الإيمان.

قال: ألم تسمع قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]؟

قلت: بلى .. فما فيها من العلم؟

قال: إن الله تعالى في هذه الآية الكريمة يأمرنا بالاستفادة من الطاقات الموجودة في الأشياء لتطوير الحياة ومرافقها، وتيسير العيش فيها.

قلت: ولكنه ذكر أشياء بدائية جدا.. فالجبال لم تعد محلا للسكنى.

قال: القرآن الكريم يذكر الحقائق التي يستفيد منها الجميع.. فهل تطالبه في تلك البيئة البدوية البسيطة أن يحدثهم عن ناطحات السحاب، أو الأبراج العالية.

قلت: لا .. ولو قال ذلك لسخروا منه.

قال: ومع ذلك، فقد ذكر القرآن الكريم الكثير من الإشارات التي يمكن للعقلاء أن يستنتجوا منها الكثير من النتائج التي تفيدهم في حياتهم عندما ينظرون إلى الأشياء باعتبارها نعمة إلهية يمكن استثمارها في نواح كثيرة.

قلت: هلا ضربت لي على ذلك مثلا.

قال: ألم تسمع قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} (سبأ: 12)

قلت: بلى.. فالله تعالى يخبر عن النعم التي وهبها سليمان عليه السلام، ومنها تسخير الريح له، بحيث يستفيد منها في حاجاته المختلفة.

قال: هذا منطوقها .. أما إشارتها فهي تشير الى أن الطريق مفتوح أمام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء، وهي بذلك تحث على البحث عن القدرات المخزنة في الهواء لاستغلالها في قطع المسافات.

قلت: صدقت.. وقد ذكرتني بمقولة لبديع الزمان النورسي يقول فيها تعليقا على الآية الكريمة: (هذه الآية الكريمة تبين معجزةً من معجزات سيدنا سليمان عليه السلام. وهي تسخير الريح له، أي إنّه قد قطع في الهواء ما يُقطع في شهرين في يوم واحد. فالآية تشير إلى أن الطريق مفتوح أمام البشر لقطع مثل هذه المسافة في الهواء)([9])

قال: وهكذا قوله تعالى: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ } [آل عمران: 49]

قلت: أجل.. وقد قال فيها النورسي: (القرآن الكريم إذ يحث البشرية صراحة على اتباع الأخلاق النبوية السامية التي يتحلّى بها سيدنا عيسى عليه السلام، فهو يرغّب فيها ويحض عليها رمزا إلى النظر إلى ما بين يديه من مهنة مقدسة وطب رباني عظيم.. فهذه الآية الكريمة تشير إلى أنه يمكن أن يُعثر على دواء يشفي أشدَّ الأمراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس أيها الإنسان، ولا تقنط أيها المبتلى المصاب. فكلُّ داء مهما كان، له دواء، وعلاجُه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يمكن معالجة الموت نفسِه بلون من ألوان الحياة الموقتة) ([10])

قال: وهكذا كل القرآن الكريم.. فالعقول النيرة تفهم منه المعاني السامية التي تستثمرها في الحياة، وتوظفها لخدمتها، وأما العقول الممتلئة بالدنس؛ فتبحث في الأساطير عن تفسيرها لتحول دين الله إلى خرافة ودجل.

قلت: لقد ذكرتني ما قص علينا القرآن الكريم من قصة ذي القرنين الذي مارس كل الأساليب ليحقق الرفاه والأمن لمن ولي شأنهم ..

قال: أجل.. فقد ذكر الله تعالى أنه اتبع الأسباب.. وما الأسباب إلا ما توفره العلوم من حقائق تستغل في التقنيات المختلفة .. بل إن الله تعالى ذكر بعض تلك التقنيات التي استعملها عند استثماره لحقائق الأشياء، فقال: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} (الكهف:96)

قلت: أجل.. وقد ذكرني ما ذكرته من أن بعض العلماء المعاصرين استطاع أن يكتشف بعض تقنيات الزراعة الناجحة المرتبطة بالبيئات الجافة من خلال قراءته وتفعيله([11]) لقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} (الكهف:32)

2 ـ أسرار القيم:

قلت: وعيت أسرار الحقائق، وعلاقتها بأسرار الثبات والتطور.. فحدثني عن أسرار القيم، وعلاقتها بهما.

قال: ألا ترى الأرض وكل الكواكب تسير في مداراتها بكل دقة من غير أن تفكر في يوم من الأيام أن تغير تلك المسارات؟

قلت: بلى.. ولو فعلت ذلك لانهدت وانهد معها بنيان الكون.

قال: ألا ترى كيف يحافظ الأكسجين وغيره من الغازات على نسبته في الهواء؟

قلت: بلى.. وقد سمعت [جيمس لافلوك]، وهو عالم مختص في الكيمياء الحيوية: (لو زادت نسبة الأوكسجين عن 25 بالمائة لاشتعلت الحرائق في كافة الغابات الاستوائية والسهول القطبية، بل كافة النباتات التي تشكل الحلقة الرئيسية في شبكة الغذاء للإنسان .. أما النسبة الحالية للأوكسجين فهي محفوظة بواسطة توازن دقيق بين حد الخطر وبين الفائدة .. فلو كانت نسبة غاز الأوكسجين في الغلاف الجوي أكثر بقليل مما هي عليه لتحول كوكبنا إلى عالم لا يطاق ولا يمكن العيش عليه، لأن شرارة صغيرة تكفي لإشعال حرائق ضخمة جدا تحول كوكبنا إلى شعلة من النار .. لو كانت نسبة غاز ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي أقل مما هي عليه لنتج من ذلك عدم المحافظة على حرارة سطح الأرض ولتحولت البحار والمحيطات شيئا فشيئا إلى مسطحات متجمدة وبالتالي يصبح كوكبنا غير ملائم للحياة)([12])

قال: فهل كان الأكسوجين في العصور الوسطى مختلفا عنه في هذا العصر؟

قلت: لا .. نسبته واحدة.. ولو اختلفت لتأثر الخلق بذلك..

قال: أتدري ما سر ذلك، وما علاقته بالثبات والتطور؟

قلت: لا .. لم أفهم بعد.. واعذرني، فأنا أحتاج دائما إلى التوضيح والتفصيل.

قال: لقد خلق الله تعالى لكل شيء في هذا الكون نظاما دقيقا يسير عليه إن هو راعاه، وبقي ثابتا عليه، ولم يغيره عاش عيشة طبيعية، فإن غيره وبدله أثر ذلك فيه.

قلت: هل تقصد النظام الكوني؟

قال: بل كل شيء.. فقد جعل الله لكل شيء من القوانين ما يرتبط به .. ألم تسمع خطاب الله تعالى للنحل، فقد قال عنها: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68، 69]

قلت: بلى.. فالآيتان الكريمتان تبينان قوانين الحياة التي يسير عليها عالم النحل.

قال: فهل هذه القوانين ابتدعها النحل ابتداعا أم أن الله هو الذي جبله عليها؟

قلت: بل الله تعالى هو الذي جبله عليها.

قال: فلو أن النحل غير تلك القوانين.. وراح يتلاعب بها.. وراح بدل أكله من كل الثمرات، صار يأكل لحوم الحيوانات.

قلت: حينها سيحصل لها ما حصل للبقر من جنون.

قال: وهكذا عالم البشر.. إن هو خالف القوانين التي هداه الله إليها، وجبله عليها.. فإنه حينها سيصاب بانتكاسة أعظم من انتكاسة البقر وجنونها.

قلت: فهل هذا ما يدعو إليه التطوريون؟

قال: أجل.. فهم يتمردون على القيم التي بنى الله عليها كونه وخلقه.. ويتصورون أنهم لن ينالوا حريتهم إلا بذلك.

قلت: لقد سمعتهم يرددون هذا.. وقد قال أحدهم معبرا عن تمرده على الله: (مرة واحدة شعرت بأن الله موجود حين كنت ألعب بعيدان الكبريت، وأحرقت سجادة صغيرة، وفيما كنت أخفي جرمي أبصرني الله فجأة .. لقد شعرت بنظراته داخل رأسي .. أحسُ أنني مرئي منه بشكل فظيع، وشعرت بأنني هدف حي للرماية، ولكن الإستنكار أنقذني، فقد اغتظت لفضوله المبتذل، لهذا رفضته وجدفت عليه فلم ينظر إليَّ أبدًا فيما بعد)، وقال آخر: (يجب ألا يكون الله، حتى يكون الإنسان)، وقال آخر: (إذا كان الله موجودًا فلست بحر، أنا حر فالله إذا غير موجود)([13])

قال: لكنهم لن ينالوا إلا السراب.. ذلك أن حرية الإنسان في عبوديته لله.. فالله هو مصدر السعادة والأمان والسلام والحضارة.. وكل من ابتعد عن الله انتكس.

قلت: لقد توعد الشيطان البشر بأن يغيرهم عن الجبلة التي خلقوا عليها.

قال: أجل.. لقد آلمه أن يأمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم، فلذلك راح يتوعد بأن يحولهم من آدميتهم إلى شيطانيته.. قال تعالى: { وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 118، 119]

قلت: وقد أفلح في دعواه..

قال: أجل.. وخصوصا مع أدعياء التطور.. فهم يتوهمون أن كل جديد يأتون به من بنات أفكارهم وإبداعهم، بينما هو في حقيقته ليس سوى وساوس شيطانية، وتلبيسات إبليسية.

قلت: أتعتبر الحضارة التي يدعو إليها التطوريون حضارة إبليسية.

قال: أنا لا أقع فيما يقع فيه المعممون من الأخطاء.. بل كما ميزت بين الحق والباطل في عالم الحقائق أميز بين الخير والشر في عالم القيم.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد رأيت التطوريون يخلطون بين المبادئ والممارسات..

قلت: لم أفهم..

قال: لن تفهم أسرار الثبات والتطور في القيم حتى تفرق بين المبادئ القيمية، والممارسات القيمية.. فالمبادئ القيمية ثابتة، والممارسات القيمية متغيرة متطورة.

أ ـ المبادئ القيمية:

قلت: فحدثني عن المبادئ القيمية.

قال: المبادئ القيمية هي الثوابت التي تقوم عليها الحياة.. والتي اتفق الشرع والعقل على تحسينها، وتقبيح ما يخالفها.

قلت: ولكني سمعت أن بعض العلماء، أو بعض المدارس الإسلامية تذكر أن الحسن والقبح شرعيان، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها ولا بقبحه، بل القاضي بذلك هو الشرع وما حسّنه فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح.

قال: ما صدقوا.. وما كذبوا.

قلت: ما تعني؟

قال: هناك قيم لا يمكن للعقل المجرد أن يعرفها من دون الوحي.. وهناك قيم جعلها الله تعالى في العقول السليمة، يمكنها أن تكتشفها، بل هي في جبلتها وفطرتها.

قلت: هلا وضحت لي ذلك.

قال: لو كانت العقول المجردة وحدها كافية للتعرف على كل أنواع القيم ما احتاجت البشرية إلى شريعة إلهية.. ولذلك كانت الشريعة معينة للعقل حتى يتحقق للحياة ما أراده الله لها.

قلت: أذلك يشبه الوحي الذي أوحاه الله إلى النحل.

قال: أجل.. فالله تعالى كما أودع في عقل الإنسان تحسين الحسن وتقبيح القبيح أيده بعد ذلك بالوحي الذي يبين له كيفية القيام بذلك.. فقد يقع الخطأ نتيجة التلبيسات والأهواء.

قلت: هلا ضربت لي على ذلك مثالا.

قال: الحرية التي كنت تذكرها.. فهي قيمة من القيم النبيلة.. يحسنها العقل والشرع.. لكن العقل قد يخطئ في فهم حقيقتها ومجالاتها.. فلذلك كان الشرع هو المحدد لذلك، والمبين له.

قلت: لقد وضع الله تعالى حدودا كثيرة للحرية.

قال: أجل.. حتى لا تصبح ذريعة للانتكاسة الإنسانية.. ذلك أن الشيطان لا يستعمل وسيلة لإغراءته مثلما يستعمل الحرية.. ليحول بها الإنسان عن إنسانيته.

قلت: وعيت إنكارك على الذين ينكرون على الشرع تقريره لحسن الحسن، وقبح القبيح.. فما تقول لأولئك الذين ينكرون على العقل أن يعرف ذلك؟

قال: أدعوهم إلى سماع قوله تعالى: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص: 28]، وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [القلم: 35، 36]

قلت: فما يسمعون منها؟

قال: إن الله تعالى في تلك الآيات الكريمة بين أن العقول نفسها تقر بالفرق بين المسلمين والمجرمين.. وبين الفساد والصلاح.. وذلك يدل على أن الصلاح حسن بذاته، والفساد قبيح بذاته.

قلت: مثل ذلك كثير في القرآن الكريم.. فالله تعالى يخاطب العقول في كل المحال، لتكتشف بنفسها حسن الحسن، وقبح القبيح، كما قال تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]

قال: ولذلك قامت حجة الله على عباده.. لأن دينه الذي شرعه لهم متناسب مع عقولهم والفطر التي فطروا عليها، ولا يختلف معها.

قلت: أجل.. ولذلك قال عند ذكر بعض وصاياه لعباده: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]

ب ـ الممارسات القيمية:

قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الممارسات القيمية.

قال: الممارسات القيمية هي التي يمكن أن تتطور، وتتغير باختلاف البيئات مع الحفاظ على المبادئ.

قلت: هلا ضربت لي على ذلك مثالا.

قال: ألم تسمع قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]؟

قلت: بلى.. فالآية الكريمة تذكر الأساليب التي كان يستعملها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتأليف قلوب أصحابه رحمة بهم، وحتى لا ينفضوا عنه.

قال: فهل هذه الأساليب توقيفية.. أم أنه يمكن الاجتهاد فيها؟

قلت: بل يمكن الاجتهاد فيها.. بل لا يمكن تحقيق تلك الأساليب من دون الاجتهاد فيها مراعاة لطباع الناس المختلفة.

قال: كيف ذلك؟

قلت: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)([14]) ، وهو يدعونا بهذا إلى استعمال كل الممارسات التي تجعل الناس لا ينفرون منا، ما دامت تلك الممارسات خاضعة للقيود الشرعية.

قال: فهل ذكرت لي بعض تلك القيود؟

قلت: ألا يكون فيها غش ولا خديعة ولا أي رذيلة من الرذائل التي يأباها الشرع، وتأباها معه العقول السليمة.

قال: تقصد أنها مقيدة بالمبادئ القيمية.

قلت: يمكنك أن تقول ذلك.

قال: فالممارسات القيمية هي كل ما ترك الله تعالى فيه لعباده الحرية في النظر في كيفية تنفيذه بما يتناسب مع المبادئ القيمية.

قلت: أجل.. ذلك صحيح.

قال: وهنا يمكن أن يكون التطور..

قلت: هلا ضربت لي على ذلك مثالا.

قال: من أقرب الأمثلة على ذلك، ما اختلفنا فيها مع بعض التقليديين من سكان ذلك الحي الذي رأيته .. والذين يرفضون كل جديد حتى لو كان فيه خدمة للقيم الرفيعة التي جاءت بها الشريعة.. ذلك أنهم توهموا أن الممارسات التي مارسها سلفهم هي التي يجب أن يمارسها خلفهم.. ولذلك شوهوا المبادئ القيمية نتيجة خلطهم بين المبادئ والممارسات.

قلت: لا أزال أنتظر منك مثالا أكثر وضوحا.

قال: من الأمثلة على ذلك أن أهل ذلك الحي يرفضون نظام التعليم الحديث.. بحجة كونه مستوردا من الكفار.. مع أن ذلك النظام يخدم القيم التي جاءت بها الشريعة، والتي تدعو إلى العلم.. ومع أن الكفار لم يكفروا في ذلك المجال، وإنما كفروا في موقفهم من الله، ومن دينه، وليس في موقفهم من العلم.

قلت: وعيت هذا.. فهلا ضربت لي مثالا آخر.

قال: أهل ذلك الحي يرفضون كل تجديد في الممارسات الاقتصادية حتى لو لم يدل دليل على حرمته.. مع أن الشريعة لم تضع في الجانب الاقتصادي إلا القيم التي يجب مراعاتها، ثم تركت الحرية بعد ذلك للناس في ممارسة أي نشاط اقتصادي يريدون.

قلت: وعيت هذا.. فهلا ضربت لي مثالا آخر.

قال: أهل ذلك الحي يرفضون كل تجديد مرتبط بالحياة.. بلباس الناس أو كيفية عمارتهم لمساكنهم.. وغيرها.. وهم يتوهمون أن ذلك مخالف لما جاءت به الشريعة.. مع أنها بريئة من ذلك، بل إن الله تعالى أخبر أن سليمان عليه السلام اتخذ قصرا من الزجاج.

قلت: وعيت هذا.. ولكن ألا ترى أن هؤلاء قد اختاروا طريق الورع، وهو أسلم الطرق.

قال: هم اختاروا طريق الورع لأنفسهم، لكنهم سدوا منافذ الحق أمام الخلق.. أتدري سر ذلك الحي الذي أساء فهم التطور، وانحرف به انحرافا شديدا؟

قلت: ما سره؟

قال: لقد كان في إمكان أهل حي الثبات لو فرقوا بين المبادئ والممارسات في تعاملهم مع القيم أن يجنبوا أهل حي التطور ما حصل لهم، لكنهم لم يفعلوا.. لأنهم ظلوا مصرين على فهم الدين بتلك الصورة التقليدية التي تلقوها من أسلافهم.. وهو ما أحدث تلك الثورة السلبية التي رأيتها.. ولذلك كانوا هم سبب ما حصل لهم.

قلت: لقد ذكرتني بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر على معاذ، وهو يصلي بالناس، وقد افتتح يقرأ بسورة البقرة، فقال له: (أتريد أن تكون فتانا يا معاذ، إذا صليت بالناس فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، واقرأ باسم ربك)([15])

وفي حديث آخر أن رجلا جاء رسول الله فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضبا شديدا، ثم قال: (أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة)([16])

قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. فقد كان أهل ذلك الحي الذي يدعي الورع فتنة للحي الآخر، لأنه صور له الدين بصورة سلبية جعلته ينفر منه.. ولذلك كان ورعهم ورعا باردا، مثل ذلك الذي يبني قصرا، ويهدم مصرا.

***

بقيت مع صاحبي معلم الثبات والتطور مدة في ذلك الحي، أرى كيف يمارس أهله القيم المرتبطة بها.. وأتجول معهم في الحيين المتناقضين لننقذ كل حين بعض الشيوخ أو الشباب.. وقد رأيت من عجائب طرقه في الإنقاذ ما ملأني بالانبهار.. فقد كان مثل ذلك الصياد الماهر الذي يستحيل أن يخطئ صيدة..

وقد تعلمت من صحبته الكثير من فنون الدعوة على بصيرة، وبالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.. والتي استعملتها بعد ذلك في رحلاتي المختلفة.

وقد وجدت عند استعمالي لها قبولا كبيرا من أولئك الذين كانوا يرفضون ما أدعوهم إليه، لأن رفضهم لم يكن للحقائق التي كنت أذكرها، وإنما للأساليب التي كنت أستعملها.


([1])   هي أول حيوان ثدي يتم استنساخه بنجاح من خلية جسمية.

([2])   ننبه إلى أن الحديث الجاري هنا افتراضي محض.. ولا علاقة له بالأفكار التي يحملها هذا الرجل الذي استعملت اسمه.. وإنما ذكرت اسمه لكونه هو مستنسخ الاستنساخ النعجة دوللي.

([3])   استفدت الكثير من المعلومات العلمية المرتبطة بهذا الحوار من مقال بعنوان (الاستنساخ)، د.عبد الرشيد قاسم.. وتاريخ المقال هو  (25/10/1425 -08/12/2004 )، ولذلك فإن المعلومات الواردة فيه مرتبطة بهذا التاريخ.

([4])   ا لاستنساخ البشري لتوفيق علوان ص 13.

([5])   الاستنساخ البشري لفوزي محمد ص 130.

([6])   يعتقد العلماء أن إطعام الأبقار بالمنتجات الحيوانية المصابة قد سبب هذا المرض. وفي أواخر الثمانينيات بدأت البحوث لاكتشاف كيفية انتشار العدوى بين الحيوانات.. وفي عام 1990م ظهرت في المملكة المتحدة مخاوف من تسرب لحوم الأبقار المصابة إلى طعام البشر. وأدت هذه المخاوف إلى تناقص مبيعات اللحوم المنتجة محليًا بنسبة 20%. وبالإضافة إلى ذلك وضعت أكثر من عشرين دولة قيودًا على استيراد اللحوم والأبقار الحية من المملكة المتحدة.

([7])  الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (135)

([8])  البخاري- الفتح 13 (7320)

([9])  الكلمات، ص282.

([10])  الكلمات، ص282.

([11])  انظر: معجزات علمية (ص: 304)

([12])  انظر: الكون بين التوحيد والإلحاد (ص: 148)

([13])  انظر هذه النصوص وغيرها في: ما قاله الملاحدة ولم يسجله التاريخ (ص: 96)

([14])  رواه أحمد (2/ 400) وفي (5/ 335)، الفردوس للديلمي (4/ 77) برقم (6549)

([15])  مسلم (1/340، رقم 465) ، والنسائى (2/172، رقم 998)

([16])  البخارى (1/249، رقم 672) ، ومسلم (1/340، رقم 466)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *