أسرار الأقدار

قلت: عرفت أسرار العداوة والصداقة والسنن.. فحدثني عن أسرار الأقدار، وعلاقتها بأسرار الحياة.
قال: بعد أن عرفت أسرار السنن الإلهية، سرت باحثا عن السر الرابع من أسرار الحياة.. سر الأقدار.. ذلك السر الذي أشار إليه قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49)، وقد عرفته بفضل الله في مدينة من المدن، دخلت إليها بعد خروجي من مدينة السنن، وقد عجبت للصراع الدائر بين أهلها حول الجبر والاختيار، فقد كان أول سؤال سألني عنه من استضافني فيها قوله لي: ما تقول في الإنسان، وهل هو مجبر، أم مخير؟
ومع كونه عاميا بسيطا إلا أنه قالها لي بكل حماسة، وكأن الإجابة عنها هي التي تحدد موقفه مني، وبما أني كنت في ذلك الحين في غاية الإرهاق؛ فقد رحت أحتال عليه للفرار من الإجابة، لأني لم أكن أعلم أي فريق يشجع، هل هو الفريق الذي يقول بالتسيير والجبر، أم الفريق الذي يقول بالحرية والاختيار.
لكني في الصباح الباكر، عرفت ميله إلى الجبر؛ فقد كان ينسب كل شيء لله، حتى تقصيره وتفريطه.. ومع أنني لم أكن أتجسس عليه، إلا أنني عرفت ذلك من حديثه مع أهله؛ فعندما طلبوا منه بعض الأمور، قال لهم: لا يمكنني أن أفعل ذلك.. فلو أن الله أذن فيه وقدره، لقدره أول مرة حين ذهبت أحاول الحصول عليه، لكني لم أنجح، لأن الله لم يقدر لي ذلك، وما كان علي أن أعترض على مقادير الله.
قالت أهله: الملوم أنت في ذلك اليوم، لأنك لم تعطهم الوثائق التي طلبوها، وقد سلمتها لك قبل ذهابك، لكنك رفضت أخذها.. وقلت لي: لا يحتاج الله إلى هذه الوثائق حتى يسلمني ما طلبته منه.
قال لها: ولي الحق في ذلك.. ألم تسمعي قصة أبي سعيد الخراز عندما قال يحدث عن نفسه: دخلت البادية بغير زاد فأصابني فاقة فرأيت المرحلة من بعيد، فسررت بأن وصلت، ثمّ فكّرت في نفسي أنّي سكنت واتّكلت على غيره وآليت أن لا أدخل المرحلة إلّا أن أحمل إليها، فحفرت لنفسي في الرمل حفرة وواريت جسدي فيها إلى صدري، فسمعت صوتا في نصف اللّيل عاليا: يا أهل المرحلة إنّ للَّه تعالى وليّا حبس نفسه في هذا الرمل فألحقوه، فجاء جماعة فأخرجوني إلى القرية ([1]).
ومثلها تلك التي حدث بها أبو حمزة الخراساني عندما قال: حججت سنة من السنين فبينا أنا أمشي في الطريق إذ وقعت في بئر، فنازعني نفسي أن أستغيث، فقلت: لا واللّه لا أستغيث فما استتممت هذا الخاطر حتّى مرّ برأس البئر رجلان فقال أحدهما للآخر: تعال حتّى نسدّ رأس هذا البئر لئلاّ يقع فيه أحد، فأتوا بقصب وبارية وطمّوا رأس البئر فهممت أن أصيح، فقلت في نفسي: إلى من أصيح؟ هو أقرب منهما وسكنت، فبينا أنا بعد ساعة إذا أنا بشيء جاء وكشف عن رأس البئر وأدلى رحله وكأنّه يقول: تعلّق بي في همهمة له كنت أعرف ذلك، فتعلّقت به فأخرجني فإذا هو سبع([2]).
ومثلها تلك التي حدث بها بعضهم عن بعض العباد أنّه عكف في مسجد ولم يكن له مال، فقال له الإمام: لو اكتسبت لكان أفضل لك، فلم يجبه حتّى أعاد عليه ثلاثا، فقال في الرابعة: يهوديّ في جوار المسجد قد ضمن لي كلّ يوم رغيفين، فقال: إن كان صادقا في ضمانه فعكوفك في المسجد خير لك، فقال: يا هذا لو لم تكن إماما تقف بين يدي اللّه وبين العباد مع هذا النقص في التوحيد كان خيرا لك، إذ فضّلت وعد يهوديّ على ضمان اللّه تعالى بالرزق([3]).
قالت: لقد سمعت كل هذا منك سابقا.. لكن أنت ترى الحال التي صرنا إليها، وفي إمكانك أن تأخذ جميع حقوقك، وبوثائق قليلة تسلمها لهم، وهي عندك في بيتك.. فلم لا تأخذها، فإن الله تعالى ما نهاك عن ذلك؟
راح يستمر في حديثه، وكأنه لم يسمع لما تقول له: لقد حدثني شيخي أن إمام المسجد قال لبعض المصلّين: من أين تأكل؟ فقال: يا شيخ اصبر حتّى أعيد الصلاة الّتي صلّيتها خلفك ثمّ أجيبك([4]).
قالت: لكن ألم تعلم ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم..
قاطعها، وقال: لقد حدثنا شيخنا أن بشرا كان يعمل بالمغازل فتركها، وذلك لأنّ البعادي كاتبه قال: بلغني أنّك استعنت على رزقك بالمغازل أرأيت إن أخذ اللّه سمعك وبصرك الرزق على من؟ فوقع ذلك في قلبه فأخرج آلة المغازل من يده وتركها([5]).
بعد أن سمعت هذه الأحاديث منه، حاولت أن أتقرب إليه، لعلي أستطيع أن أكافئة على ضيافته لي ببعض النصائح التي قد تفيده، لكنه لم يسمع لي، ولم أجد إلا أن أخرج معه، ثم لا أعود بعد ذلك إلى بيته خشية أن أثقل عليه.
لكني ما إن ودعته، وشكرته على حسن ضيافته لي حتى عثرت بعصا لرجل مدها أمام قدمي، ولست أدري هل كان يتعمد ذلك أم لا.. لكني سقطت عندها على متاع لبعض المارة، فآذيته بسقوطي؛ فلم أجد إلا أن أعتذر له، وأقول: اعذرني، فقد مد هذا الرجل عصاه فجأة؛ فتعثرت.. وإن كنت بحاجة لتعويض الضرر، فسأفعل.
قال: ويلك.. حتى لو مد عصاه.. ألا ترى كبر سنه؟.. أليس لك عينان تبصر بهما؟.. لم لا تأخذ حذرك؟
توهمت أنه مثل الرجل الأول، فرحت أقول له: المقادير تريك ما لا يخطر ببالك.. وإذا نزل القدر غشّى البصر.. وإذا نزل الحين غطّى العين.. ولا يغني حذر من قدر.. ومن مأمنه يؤتى الحذر.
وهنا قامت قيامته، فقد كان من القائلين بالحرية المطلقة، ومسؤولية الإنسان عن كل أعماله، والنافين لتدخل القدر في حياة الناس، لذلك رفض كل التوسلات التي توسلت بها إليه، بل رفض ما عرضته عليه من التعويضات، وطلب مني أن نذهب للقضاء، ليحكم بيننا، لا على المتاع الذي أثر فيه سقوطي فقط، وإنما على مقولتي له..
وقد كان القاضي من أصحابه، ولذلك ما إن دخلت عليه، وسمع من المدعي علي مقالته حتى راح يصرخ في وجهي قائلا: ألا تعلم الجريمة التي قمت بها؟
قلت: لقد طلبت منه أن يطلب المبلغ الذي يريد، لأعوضه إياه.
قال: هو لم يدع عليك لأجل الدنيا ومتاعها، بل ادعى عليك لأجل تحريفك للدين، وكذبك على الله، وادعائك أن ما حصل لك لم يكن منك، وإنما كان بقدر الله.
أردت أن أتحدث لأدافع عن نفسي، لكنه رفض أن يسمع مني، بل راح يقول لي: أنت ترتكب نفس جريمة إبليس عندما قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16]
وترتكب نفس جريمة المشركين عندما راحوا يتهمون الله بأنه سبب جرائمهم، كما قال تعالى: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148]، وقد رد الله عليهم بقوله: { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]
ثم نظر إلي بغضب، وهو يقول: انظر كيف احتج المشركون بالقدر على شركهم، ولو كان احتجاجهم مقبولاً صحيحاً ما أذاقهم الله بأسه..
أردت أن أجيبه، لكنه راح يقول لي بكل عنف: ألم تسمع قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 165]، فلو كان الاحتجاج بالقدر سائغاً لما انقطعت الحجة بإرسال الرسل، بل كان إرسال الرسل لغوا، لا قيمة له في الواقع.
ولو كان الاحتجاج بالقدر صحيحا، لاتهم المشركون يوم القيامة ربهم، ولم يتهموا أنفسهم، ألم تسمع حكاية الله تعالى لقولهم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 106، 107]؟
ألم تسمع قولهم، وهم يصيحون في دركات الجحيم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك: 10]، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك: 11]
لست أدري كيف أتيحت لي فرصة للحديث بعد أن رأيته يمسك كأس ماء ليشرب، وقلت: سيدي القاضي مع احترامي الشديد لك.. لكني لم أردد عليه إلا ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يغني حذر من قدر)([6])
وهنا زاد غضب القاضي حدة، وراح يقول لي: لم تقطع الحديث.. ألم تسمع تتمته.. لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك: (الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)، وقد أثبت بذلك أن القدر ليس لازما.. بل نحن الذين نختار ما نسميه قدرا لنا.
قلت: لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول في موعظته البليغة لابن عباس: (واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصّحف)([7])
وقال في نصيحة أخرى: (المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف، وفي كلّ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله. وما شاء فعل، فإنّ لو تفتح عمل الشّيطان)([8])
ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعانا إلى التسليم لقدر الله في الأمور التي لا نطيق دفعها، وقد حصل لي ما لم يكن بالحسبان.
قال القاضي: إن ما تذكره من التبريرات التي أسأت بها فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي التي أوقعتنا في كل المصائب، حتى صرنا نرمي كل شيء على الله، ونعفي أنفسنا من كل مسؤولية..
قلت: ولكن..
قاطعني.. ولم يدعني أتحدث.. ثم أمر بي إلى السجن، وهو يقول: هذا هو القانون الذي يطبق على أمثالك من الذين يكذبون على الله.
لا أخفيك.. أني تألمت لذلك الحكم القاسي، والذي لم يدع لي فيه القاضي أي فرصة لأدافع عن نفسي.. لكني بعد أن دخلت السجن حمدت الله، فقد لقيت فيه ولي الله الذي عرفت منه أسرار الأقدار.
فبمجرد أن دخلت السجن، والألم يعصر قلبي، قال الرجل الممتلئ بالحكمة والإيمان: لقد طال انتظاري لك.. ما بك قد تأخرت كل هذا التأخر.
قلت: معذرة.. فأنا لا أعرفك.
قال: كيف لا تعرفني، وأنت لم تأت هذه المدينة إلا لتبحث عني.. وأنا لم أدخل السجن إلا لأنتظرك.. وقد ساقتك الأقدار إلي.. كما ساقت الأقدار صاحب يوسف عليه السلام، ليلتقي به في السجن، ثم يكون ذلك سببا لنجاة المصريين، ولتمكين الله ليوسف في الأرض.
قلت: أخبرني أولا.. هل أنت من القائلين بالجبر، أم القائلين بالاختيار، فقد اختلطت علي الأمور في مدينتكم؟
قال: لا أنا من القائلين بالجبر.. ولا أنا من القائلين بالاختيار.. بل أنا من أتباع ذلك الإمام الجليل الذي قيل له أخبرنا عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه، وبيت مظلم فلا تدخله، وسر الله فلا تبحث عنه، ثم قال: (إنه أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض)، فقال الرجل: إن فلانا يقول بالاستطاعة، وهو حاضر، فقال: علي به، فأقاموه فلما رآه قال له: الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله، وإياك أن تقول واحدة منهما فترتد، فقال: وما أقول؟ قال: (قل: أملكها بالله الذي أنشأ ملكتها)([9])
وأنا من أتباع ذلك الإمام الذي قيل له: (إن أصحابنا بعضهم يقول بالجبر، وبعضهم يقول بالاستطاعة)، فقال: (قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوتي أديت إلي فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي، جعلتك سميعا بصيرا قويا، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وذلك أني أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني، وذلك أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون، فقد نظمت لك كل شئ تريد) ([10])
قلت: فأنت لست من كلا الفريقين في المدينة.
قال: أجل.. أنا من كليهما، ولست من كليهما.
قلت: لم أفهم.
قال: كلاهما يملك بعض الحق.. وكلاهما يملك بعض الباطل.. ولو أنهما التقيا، لما حصل لهما هذا الشقاق الذي تراه.
قلت: فهل عندك حل لذلك؟
قال: أجل.. ولو أنهم سمعوني لارتفع عنهم الخلاف، ولعرفوا الله وعظموه، وعرفوا مسؤولياتهم وأدوها.
قلت: فاعتبرني أحدهم، وأدل لي بما عندك.. فلعل أقدار الله وهبت لي فضل تبليغهم ما تريد.
قال: ربما يكون ذلك.. ولذلك كنت أنتظرك.
قلت: كيف تنتظرني، وأنا لم آت هذه المدينة إلا بغتة.. ولم يكن في بالي زيارتها.
قال: نعم أنت أتيتها بغتة.. لكن لطف الله ومقاديره العجيبة هي التي حركتك من غير أن تشعر، ألم تسمع قول يوسف عليه السلام مخاطبا والده بعد تلك الأحداث العجيبة التي مر بها: { يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف: 100]
قلت: بلى.. فما فيها من العلم المرتبط بأسرار الأقدار؟
قال: لو أن يوسف عليه السلام كان من أولئك المتحررين الذين يتصورون أن الأمر بأيديهم لا بيد الله، لنسبوا نجاحهم لأنفسهم، ولتصوروا أنهم بقدرتهم حققوا ما حققوه من مكاسب.. لكن يوسف عليه السلام لم يفعل ذلك.
قلت: فهل تراه من الجبرية الذي يزعمون أنه لا مجال لحرية الإنسان؟
قال: معاذ الله أن يقع نبي الله في ذلك.. وكيف يقول ذلك، وهو الذي نسب جريمة إخوته إليهم، فقال: { هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89]؟
قلت: لكنه نسب ما حصل له من فضل إلى الله، فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [يوسف: 101]
قال: لأن الأمر كذلك..
قلت: لم أفهم..
قال: الأقدار مثل الأمطار.. تنزل على الورود؛ فيعبق الجو بأريجها العطر، وتنزل على المستنقعات، فتزكم الأنوف من روائحها النتنة.
قلت: لم أفهم.
قال: الأقدار من الله جارية في كل لحظة، وبكل الألوان، ونحن الذين نختار الألوان التي تناسبنا.
قلت: أتقصد أن الأقدار مثل اللون الأبيض الذي تجتمع فيه كل الألوان، ثم تختلف بحسب استعدادات الأجسام لها.
قال: أجل.. أقصد ذلك.. فالقدر من الله.. ولا يصح أن نعزل الله كما يفعل القائلون بالاختيار المطلق.. وللإنسان حرية اختيار ما ينسابه.. ولذلك لا يصح ما يذكره أهل الجبر المطلق.
قلت: فهلا ذكرت لي من النصوص المقدسة ما يدل على ذلك؛ فهذا أمر لا يصح أن نفتي بعقولنا، ألم تسمع قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ } [الأنعام: 93]
قال: بلى، ونعوذ الله من أن نقدم بين {بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، إنا إذن لظالمون.
قلت: لقد عرفت مجامع السنن، وارتباطها بالتغيير والتمكين.. فما مجامع أسرار الأقدار؟
قال: ما شرحته لك سابقا.
قلت: تقصد الإرسال والاستقبال.
قال: أجل.. فمن لم يفقه أسرار الإرسال والاستقبال لم يفقه أسرار الأقدار.
قلت: فهلا وضحت لي ذلك بمثال.
قال: ألا يضع قومك للقنوات الفضائية التي يبثونها تشفيرات خاصة.. من اهتدى إليها اهتدى إلى تلك القناة؟
قلت: أجل.. هم يفعلون ذلك..
قال: فهل يمكن للمرسل أن يفرض على المستقبل القناة التي يرغب فيها؟
قلت: لا.. حتى أن المستقبل إذا لم يستطع أن يستقبل إلا قناة واحدة، ولم تعجبه أغلق جهازه، ولم يشاهد تلك القناة.
قال: فهل للمستقبل أن يشاهد قناة لا يوجد لها بث؟
قلت: هذا مستحيل.. فهو لا يستقبل إلا ما بث من قنوات.
قال: فقد فهمت إذن أسرار الأقدار.
قلت: فهمت أسرار الإرسال والاستقبال، ولم أفهم أسرار الأقدار.
قال: المثال قنطرة الحقيقة؛ فمن فهمه اقترب منها.
قلت: فأنا قريب إذن من فهم الحقيقة.
قال: أجل.. ولا عليك إلا أن تنزه المثال من درون الكثافة والتشبيه، فالله أعظم من أن تضرب له الأمثال.
قلت: أجل .. فحدثني عن أسرار الإرسال.. تلك الأقدار الصادرة من الحق لعباده.
قال: الأقدار هي تنظيمات الله لكونه وعباده بما تقتضيه رأفته ورحمته بهم، ولذلك يمن عليهم بأفضاله عبر ما يكتبه لهم منها، لييسر لهم منافذها وطرقها.. ويختبرهم بها.
قلت: أتلك التي أشار إليها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحج:70)، وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام:59)
قال: أجل.. فعلم الله وخبرته بخلقه محيطة بهم، فلا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء.. كما قال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} (الفرقان:6)
قلت: فقد آل الأمر إلى الجبر إذن ..
قال: لا .. بل آل الأمر إلى التوحيد.. فالله الخالق لكل شيء يستحيل عليه الجهل والعجز والإكراه، ولذلك لم يكن لأحد أن يخالف علم الله فيه.
قلت: فهو مجبر إذن على ما لا يستطيع الفكاك منه.
قال: أقدار الله المرسلة لعباده نوعان، منها ما لا يستطيعون الفكاك منه، ومنها ما يمكنهم ذلك..
قلت: لم أفهم ..كيف ذلك؟
قال: ألا ترى في امتحانات العباد بعضهم لبعض في الدنيا، كيف يضعون بعض الأسئلة الإجبارية، ويضعون بعدها ومعها بعض الأسئلة الاختيارية؟
قلت: بلى.. هم يفعلون ذلك.
قال: فلذلك كان من سنة الله في خلقه أن يضع لهم بعض الاختبارات التي لا انفكاك لهم منها، لأنهم قد يولدون عليها، ويعيشون بها.. ووضع لها معها اختبارات أخرى يمكنهم أن يتصرفوا معها وفق ما تقتضيه إرادتهم.
قلت: فهم يحاسبون على الثانية .. لا على الأولى.
قال: وقد يحاسبون على الأولى إذا لم يسلموا لربهم، واعترضوا عليه، وراحوا يتهمونه.. مثلما يحاسب الطالب الذي يرفض بعض الأسئلة التي يوجهها له أستاذه.
قلت: فالأقدار المرسلة نوعان إذن.
قال: أجل.. وقد أشار إليها قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (الرعد:39)، فالآية الكريمة تشير إلى نوعين من الأقدار: أقدار جازمة ثابتة جبرية، وأقدار اختيارية محتملة، يمكن أن تمحى أو تبدل.
قلت: فحدثني عن الأقدار الجبرية الجازمة.
قال: هي التي يجد العبد نفسها مختبرا بها من غير أن يكون له كسب فيها.. وقد يتألم لها، مع أن الله لم يقدرها عليه إلا لمصلحته.. وقد يغتر بها ويستكبر، مع أنها ليست من عمل يده.
قلت: أتقصد تلك التي أشار إليها قوله تعالى عند ذكر التنوع في بسط الرزق وقبضه:{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى:27)، أي لو أعطاهم فوق حاجتهم التي تختلف باختلاف طبائعهم وأحوالهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان.
قال: أجل، فالله تعالى بحكمته وخبرته بعباده يختار لكل واحد منهم ما يناسبه من العطاء المرتبط ببيئته وزمانه وحاله وكل ما يصلحه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أتانى جبريل فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إلا بالصحة ولو أسقمته لكفر)([11])
قلت: فقد آل الأمر في هذا النوع من المقادير إلى الجبر.
قال: لا .. أنت لم تفهم الآية ولا الحديث.. فهي لا تعني أن ذلك قضاء لازم لا مفر منه.. وإلا لو كان ذلك لما أمكن للفقير أن يتحول إلى الغنى، ولا للمريض أن يتحول إلى الصحة.
قلت: فكيف توفق بين ما ورد في النصوص المقدسة، وما ذكرته؟
قال:أرأيت لو أن شخصا كتب الله له أن يعيش في بيئة فقيرة، ثم راح جميع عمره يتأسف على ما كتب له من العيش في تلك البيئة، هل ترى ذلك نافعا له في دنياه وأخراه؟
قلت: لا.. بل هو لن يكسب من ذلك سوى الألم والحسرة، ولو أنه بدل أن يتألم للمصير الذي وجد نفسه فيه، فكر في الطريقة التي يخرج بها منه، لكان أولى له، وأجدى نفعا.
قال: وهذا ما تشير إلى النصوص المقدسة؛ فهي تطلب من العباد عدم الاهتمام بالوضع الذي لا يستطيعون الخروج منه، ليهتموا بدل ذلك بالطريقة التي يخرجون بها منه..
قلت: أذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد:22)، فقد قال بعدها: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد:23)
قال: أجل.. فالله تعالى في الآيتين الكريمتين يذكر لعباده سر إخبارهم عن علمه وسبق كتابته للأشياء قبل كونها، وذلك حتى لا يأسوا على ما فاتهم، ولا يفخروا على الناس بما أنعم اللّه به عليهم.. وكلا الأمرين يحول بين الإنسان والعمل الصالح الجاد، فالأول هو الوهن الذي يسببه تحمل جميع أثقال الماضي، والثاني هو البطر الذي يسببه الفرح بالحاضر، والإيمان بالقدر يقي من كليهما.. فإذا وقي الإنسان من كليهما توجه بكليته للعمل الجاد المثمر الذي أتيح له التحكم فيه.
قلت: صدقت.. ولهذا أرى الذين ينكرون على المؤمنين ما طبعوا عليه من تسليم الأمر لله في مثل هذه الأمور التي تخرج من أيديهم وكسبهم، لا يفعلون شيئا سوى رميهم في أتون الإحباط أو البطر الذي يجعلهم مستعبدين لذواتهم بعيدين عن ربهم، ومن ثم بعيدين عن كل عمل إيجابي.
قال: أجل.. فالإيمان بالقدر مرهم الله لعباده الذي يملؤهم بالسكينة والطمأنينة والتسليم، لأنهم يعلمون أن مصدر ذلك البلاء هو الله الرحيم الرحمن، وأنه ما ابتلاهم إلا لعلمه بأن في ذلك مصلحتهم.
قلت: ولكن الناس لا يرحمون هذا المبتلى، بل قد يعتبرونه حجابا بينهم وبين الله.. ألم تسمع بمعضلة الشر؟
قال: بلى.. وهذا من أسرار تنزل هذا النوع من البلاء.. حتى يميز الخبيث من الطيب، ألم تسمع قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:165)؟
قلت: بلى.. وقد سمعت معها تلك الآيات الكريمة التي تشير إلى سر اختلاف البشر في المتاع الدنيوي، كقوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:165)، فقد ربطت الآية الكريمة بين التكليف ـ الذي هو الخلافة في الأرض ـ والاختبار باختلاف الدرجات الذي يعني التفاوت في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان.
قال: أجل.. ومثلها قوله تعالى: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32)، أي أن العلة في ذلك التفاوت هي أن يسخّر بعضُهم بعضاً في الأعمال، لاحتياج بعضهم لبعض.
قلت: وعيت هذا.. لكن قد يتهم بعض هؤلاء المختبرين ربه، لأنه أنزل عليه ذلك البلاء الذي عافى منه غيره.
قال: عدالة الله قسمت بين الخلق البلاء والعافية.. ولذلك كان الكل مبتلون، أولئك الذين ابتلوا بالفقر، أو أولئك الذين ابتلوا بالغنى.. لذلك كان الصادق من المؤمنين مسلما لله، عالما أن ذلك لم يكن إلا لمصلحته.
قلت: لقد ذكرني حديثك هذا بحديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر فيه أن الله تعالى أراد اختبار ثلاثة نفر من بني إسرائيل أبرص، وأقرع، وأعمى، ليخرجوا ما يخفيه جوهرهم من صفات، فبعث ملكا فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها.
وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال شعر حسن، ويذهب هذا عني، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب وأعطي شعرا حسنا، فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها.
وأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال، يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره، فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم فأعطاه شاة والدا.
وبعد مدة أنتجت تلك الأنعام التي اختبروا بها، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من غنم.
وعندما اكتملت لهم النعمة عاد الملك ليختبرهم من جديد، فأتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين، تقطعت به الحبال في سفره، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا؛ فأعطاك الله، فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له: مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال له: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأعمى في صورته، فقال رجل مسكين، وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله، ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك([12]).
قال: أجل.. فهذا الحديث يدل على أسرار تنوع البلاء سواء للشخص الواحد أو للمجتمع ككل، ولهذا يوجد في كل مجتمع من المجتمعات، بل في حياة كل شخص الاختبارات المختلفة المتناقضة التي قد يتصورها عشوائية بينما هي تسيير من الله ليظهر الإنسان ما يخفيه جوهره من صفات.
ب ـ الأقدار الاختيارية:
قلت: وعيت هذا.. فما الأقدار الاختيارية؟
قال: هي تلك الأقدار التي يساهم الإنسان في صنعها من غير أن تفرض عليه.
قلت: فهي تمثل الأسئلة الاختيارية في الامتحان الإلهي لعباده.
قال: أجل.. وهي أكثر أنواع الأسئلة، ذلك أن الله تعالى أتاح للإنسان مجالا كبيرا للحرية، ليعبر عن شخصيته بالطريقة التي يريد.. حتى أنه يمكنه أن يدخل الكثير من التحسينات على ما فرض عليه من أقدار الحياة.. فيتحول مرضه إلى صحة، وفقره إلى غنى، وبلاؤه إلى عافية.
قلت: كيف تقول ذلك، وقد ورد في الحديث ما يشير إلى عكس ما ذكرت، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:(إن أحدكم يجمع خلقه في بطن امه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا ويؤمر باربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه واجله وشقي أو سعيد)([13]) .. ألا يدل هذا الحديث على أن سعادة الإنسان وشقاءه مكتوبان عليه، وأنه لا انفكاك له عنها؟
قال: هذا الحديث لا يدل على المقادير الإجبارية، بل هو يدل على المقادير الاختيارية، وهي المقادير التي تحتمل النسخ، وهي التي يشير إليها قوله تعالى:{ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } (الرعد: 39)
قلت: كيف ذلك.. وهل يمكن للإنسان أن يغير من عمره، فيزيد فيه أو ينقص منه؟
قال: أجل.. ولذلك فإن ما يكتبه الملاك هو العمر الافتراضي للإنسان، مثلما يفعل أي صانع يدرك العمر الافتراضي لصناعته، وبذلك يكون الأجل الذي سأل عنه هنا هو هذا العمر الافتراضي، ومع ذلك يمكن الزيادة فيه، كما وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طريق ذلك، فقال: (صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن في الاعمار)([14])، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من سره أن يمد الله له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله، وليصل رحمه)([15])
قلت: وهل يمكن الإنقاص منه؟
قال: أجل.. مثل من يقتل نفسه، ولذلك ورد في الحديث العقوبة الشديدة للمنتحر، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك: (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة)([16]) ، وهو يشبه ذلك التلميذ المشاغب الذي يخرج من الامتحان قبل أن ينتهي من الإجابة على الأسئلة المطروحة عليه.. ولذلك يتحمل مسؤولية عمله.
قلت: وعيت هذا.. لكن ما تقول في ذكر الحديث لكتابة العمل.. وذلك يدل على أن الإنسان مجبر على كل عمل يعمله، ولا انفكاك له عنه؟
قال: معاذ الله.. ولوكان ذلك كذلك لانقطع التكليف، ولم تقم الحجة لله على عباده.
قلت: فكيف توجه الحديث إذن؟
قال: المراد من عمله ليس كسبه، وإنما الوظيفة التي ندب لها، ونوع الأسئلة التي تطرح عليه، وليس ما يعمله، أو ما يجيب به.
قلت: وما تقول في رزقه الذي كتب له؟
قال: أنت ترى في الواقع أن لكل إنسانا شعورا يجذبه لحرفة معينة، أو لطعام معين، فيكون رزقه من تلك الحرفة أو من ذلك الطعام، وقد جعل الله ذلك كذلك حتى يستقيم أمر الخلق، فلا يمكن أن يتوجهوا جميعا نحو حرف واحدة، ولا أن يأكلوا من طعام واحد.
قلت: وما تقول في الشقاوة والسعادة المذكورة في الحديث؟
قال: أقول فيها ما ورد في الدعاء المشهور الذي وردت به دواوين الأحاديث والآثار، ودعا به جميع الصالحين: (اللهم، إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه، واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب)([17])
قلت: ما تعني بذلك؟
قال: ألا ترى أن أي مؤسسة من المؤسسات تضع علامات للنجاح من بلغها فاز، ومن لم يبلغها رسب.. ثم تعلم جميع المنتمين إليها بذلك.. فتكون اختياراتهم هي التي تحدد مصيرهم؟
قلت: بلى.. وكل حياتنا قائمة على ذلك.
قال: فالشقاوة والسعادة مرتبة بذلك.. وهي باختيار العبد، ولا يفرض عليه أحدهما، بل إن الله كتب الجميع.. فمن شاء أن يسعد عمل عمل السعداء، ومن شاء أن يشقى عمل عمل الأشقياء.
قلت: ولكن بعضهم قد يتعلل بكونه كتب من الأشقياء ليسير سيرهم.
قال: ذلك هو المحجوب.. فكيف عرف أنه كتب من الأشقياء مع أن الله قد أتاح له كل فرص السعادة.. بل أعطاه المدة الفسيحة ليراجع نفسه.
قلت: أجل.. وقد ذكرتني بما ورد في آخر الحديث، فقد قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة) ([18])
قال: فهذا الحديث يدعو السعداء إلى مراعاة أنفاسهم في كل لحظة، حتى لا تسلبها منهم الأهواء.. ويدعو الأشقياء إلى المسارعة إلى التوبة، فرحمة الله وكرمه لا تمتنعان منهما مثلما لا تمتنعان من المحسنين، لأن الجميع مرسل متاح، والأعمال هي التي تحدد المصير.
2 ـ أسرار الاستقبال:
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن أسرار الاستقبال.
قال: ألم تسمع سورة العصر؟
قلت: بلى.. تلك التي تحدد قوانين الربح والخسارة، وقد قال فيها الإمام الصادق مبينا فضل قراءتها والتدبر فيها: (من قرأ [والعصر] في نوافله بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه، ضاحكا سنه، قريرة عينه، حتى يدخل الجنة)([19])
قال: أجل .. فهذه الفضيلة العظيمة، تدل على مكانة المعاني التي تحملها السورة، وقد قال فيها بعض العلماء: (لو تدبر الناس هذه السورة، لوسعتهم)([20])
قلت: وقد روي في الحديث أن الرجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانا إذا التقيا، لم يتفرقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها، ثم يسلم أحدهما على الآخر([21]).
قال: هم يفعلون ذلك، حتى يذكروا أنفسهم بقوانين الربح والخسارة، والسعادة والشقاء.. فهي وإن تنزلت من السماء إلا أن استقبالها لا يكون إلا في الأرض.. وبحسب المستقبلين.. مثلما تنشر الأقمار الصناعية قنواتها، ليتفرق المشاهدون في مشاهدة ما يشاءون منها.
قلت: وعيت هذا.. وقد وضحت سورة العصر ذلك بأخصر عبارة، فقد ورد فيها قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 – 3]
قال: فما القانون الذي يحدد الربح والخسارة، وهل وضع في أيدي العباد، أم أنه خارج عن إرادتهم؟
قلت: لقد ذكر القرآن الكريم أن القانون الذي يقي العباد من الخسارة هو الالتزام بالإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.. وكلها في متناول يد الإنسان.. بل هي سهلة ويسيرة عليه.
قال: فهل كلف الله عباده ما لا يطيقون؟
قلت: لا .. وقد قال الله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة: 286]، وقال: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]
قال: فهل وفر الله لهذه القوانين من يشرحها ويبينها ويقنع الخلق بها، ويبين لهم كيفية تنفيذها؟
قلت: أجل.. فقد أرسل الله تعالى الرسل، وأنزل الكتب، وبين كل الحقائق والقيم، ووضحها، وأقام الحجج بها، وقد قال تعالى بعد ذكره لكثير من أسماء الرسل عليهم الصلاة والسلام: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 164، 165]
قال: فهل في هذه القوانين ما يتنافى مع الفطرة السليمة، أو تأباه العقول؟
قلت: كلا .. فدين الله متناسب مع الفطرة تماما، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30)
قال: وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الإنسان يولد بفطرته مسلما، لكن البيئة التي يعيش فيها هي التي تساهم في تضليله، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعَاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)([22]) وقال حاكيا عن ربه عز وجل: (يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم)([23])
قلت: وعيت هذا.. ولكني لا أزال متعجبا من أن يكون الله وهو الرحمن الرحيم اللطيف بعباده، لم ينزل السعادة فقط، وإنما أنزل الشقاء أيضا.
قال: ومن قال ذلك.. الله أرحم بعباده من أن ينزل عليهم الشقاء.
قلت: ولكن الله خالق كل شيء.. والشقاء والشر من مخلوقاته.
قال: أرأيت النار التي نطبخ بها طعامنا.. هل هي رحمة أم نقمة، وهل تسبب لمستعمليها السعادة أم الشقاء؟
قلت: بل هي رحمة.. فلولاها ما هنأ لنا عيش.. فنحن نستدفئ بحرها، وننعم بلذيذ الطعام المطبوخ بها.. بل إنها ـ وبسبب الطاقة التي تعطيها ـ أساس الحضارة التي نعيشها.. فلولا النار ما كان شيء مما ينعم به الناس من وسائل الحضارة.
قال: ولكني سمعت أن بعض قومك راحوا يحرقون أنفسهم بها، ويحولونها إلى مصدر شقاء.
قلت: أجل..
قال: فهل هي شر بسبب كونهم فعلوا ذلك بها؟
قلت: معاذ الله .. بل هي خير وفضيلة.. لكنهم هم الملومون لأنهم حولوا النعمة نقمة، والعافية بلاء.
قال: فقد آل أمر الشقاء إلى المستقبلين لا إلى الله.. فالله لم ينزل على عباده إلا ما ينفعهم.. ولم يحذرهم إلا ما يضرهم.. ولذلك ذكر لهم قوانين السعادة ليلتزموها، وقوانين الشقاء ليبتعدوا عنها.
قلت: أتعني أن الله لم يخلق الشر المجرد.. وإنما الخير هو الذي قد يتحول إلى شر.
قال: أجل.. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك عندما ذكر ما فعله الشياطين ببعض العلوم التي أنزلها الله على سليمان عليه السلام حيث حولوها إلى علوم سحر، كما قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102)
قلت: لطالما تعجبت من هذه الآية الكريمة، وخاصة بعد قراءتي لما ورد فيها من التفاسير المشحونة بالإسرائيليات.
قال: هذه الآية الكريمة تشير إلى أن العلوم التي كان يبثها ذانك الملكان (هاروت وماروت) من العلوم التي تصف حقائق كونية .. كتلك الحقائق التي توصل إليها علماء عصرنا .. وقد كانت تلك العلوم تحمل ثمارا طيبة خيرة يمكن أن تستفيد منها البشرية، وتحمل في نفس الوقت ثمارا خبيثة يمكن أن تتحول إلى شر محض .. ولهذا، فإن هذين الملكين كانا ينبهان كل من يدرس على يديهما تلك العلوم إلى المحاذير التي تنطوي عليها المعارف التي يدرسونها .. فالعلم وحده إن لم يصحبه التوجيه الأخلاقي سيكون وبالا على أصحابه ..
قلت: فهي تشبه إذن العلوم الذرية، التي يمكن أن نستفيد منها طاقة نووية سلمية، ويمكن أن نستفيد منها قنابل مدمرة.
قال: أجل.. فبحسب المستقبلين، تكون الأشياء نافعة أو ضارة.
قلت: ألهذا يقال: العلم سلاح ذو حدين؟
قال: أجل.. وليس العلم فقط.. بل كل شيء سلاح ذو حدين.. فالسياسة عند الصالحين وسيلة للإصلاح، وعند الفاسدين وسيلة للمصالح.. والاقتصاد عند الصالحين وسيلة لإطعام الجائعين، وهو عند الفاسدين وسيلة للاختلاس والسرقة وكل أنواع اللصوصية.. وهكذا كل شيء.
قلت: واختيارات الإنسان هي التي تحدد بعد ذلك مصيره؟
قال: أجل.. ألم تسمع قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [الإسراء: 20] ؟
قلت: بلى.. وقد قال الله تعالى قبلها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18، 19]، فالآيتان الكريمتان تذكران أن المصير المقدر لكل إنسان ناتج عن اختياراته في الدنيا.
قال: بل حتى مصيره الدنيوي.. فالله سيد مقادير الدنيا والآخرة.. ألم تسمع قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (لأعراف:96)، فقد أخبر الله تعالى أن كل ما يحصل في الأرض من مشاق هو نتيجة حتمية للذنوب، على حسب ما يقتضيه العدل الإلهي والحكمة الإلهية، التي رتبت المشقة على المعصية، كما رتبت الراحة على الطاعة.
قلت: بلى .. وقد قال الله تعالى يذكر ذلك في آية أخرى عن أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة:65 ـ 66)
قال: وهكذا؛ فإن أكثر ما تراه من أنواع البلاء ناتج عن اختيارات البشر، فهم الذين يعذبون أنفسهم بسلوكهم الناتج عن أنانيتهم وبعدهم عن الحق.
قلت: لقد ذكرتني بقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41)، فالآية الكريمة تشير إلى أن الكثير من الشرور التي نراها في العالم مصدرها الإنسان نفسه، والحرية التي وهبت له.
قال: ولذلك فإن الله تعالى أرحم بعباده من أن يعاقبهم، بل هم الذي يعاقبون أنفسهم، وما يرونه من أنواع العقاب ليس سوى تجسيم لجرائمهم..
قلت: أجل.. وقد ذكرني ذلك بقوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (النساء:147)
***
ما وصلنا من حديثنا إلى هذا الموضع حتى حصل شيء عجيب، ملأني بالانبهار.. ذلك أنه دخل علينا السجن القاضي، برفقة المدعي علي، والعجيب أنه كان معهما صاحب العصا التي سقطت بسببها.
وعندما رأيتهم تصورت أن المدعي علي قد سحب دعواه، وأن صاحب العصا أقر بذنبه، وأن القاضي جاء ليعفو عني.. لكني فوجئت بأن الجميع يعرف بعضهم بعضا، وأن ما حصل لي لم يكن سوى مسرحية لاستدراجي لسماع تلك الكلمات النورانية.
وقد سمعت منهم أنهم لم يفعلوا ذلك بي فقط، وإنما فعلوه بغيري أيضا، وأنه من الوسائل التي يستعملونها لتصحيح المفاهيم الخاطئة التي تمتلئ بها تلك المدينة.
وعندما سألتهم عن سر اختيار هذا الأسلوب للتعريف بأسرار الأقدار، ذكروا لي قصة موسى والخضر عليهما السلام، وكيف علم الخضر موسى عليه السلام بعض أسرار الأقدار بخرقة للسفينة وبنائه للجدار وقتله للغلام..
ذلك أن من الأقدار التي نتوهم
أنها شر، ليست سوى خير عظيم، لأن العبرة ليست بتلك اللحظات القليلة التي نتألم
لها، وإنما بالنتيجة العظيمة التي تنتظرنا.. مثلما يحصل مع المريض الذي قد تؤذيه
مرارة الدواء، ولكن عاقبتها الشفاء.
([1]) إحياء علوم الدين (4/ 271)
([2]) المرجع السابق، (4/ 272)
([3]) المرجع السابق، (4/ 270)
([4]) المرجع السابق، (4/ 270)
([5]) المرجع السابق، (4/ 269)
([6]) رواه ابن عدى (3/212)، والحاكم (1/669 رقم 1813) والخطيب (8/453)
([7]) الترمذي (2516) واللفظ له وقال: هذا حديث حسن صحيح، أحمد (1/ 293، 303)
([8]) مسلم (2664)
([9]) بحار الأنوار، 5/57، والقائل هو الإمام علي.
([10]) المرجع السابق، 5/57، والقائل هو الإمام الرضا.
([11]) رواه الخطيب (6/14)، والديلمى (5/250، رقم 8098)
([12]) رواه البخارى (3/1276، رقم 3277) ، ومسلم (4/2275، رقم 2964)
([13]) رواه البخارى (3/1174، رقم 3036) ، ومسلم (4/2036، رقم 2643)
([14]) رواه أحمد، ج 6 ص 159.
([15]) رواه الحاكم، ج 4 ص 160.
([16]) رواه البخاري 6 / 362 ، ومسلم رقم (113)
([17]) انظر الآثار الكثيرة الواردة في هذا في تفسير ابن كثير (4/ 469)
([18]) رواه البخارى (3/1174، رقم 3036) ، ومسلم (4/2036، رقم 2643)
([19]) مجمع البيان، ج10، ص545..
([20]) تفسير ابن كثير (8/ 479)
([21]) المعجم الأوسط برقم (5097)
([22]) أبو يعلى (2/240، رقم 942) ، والطبرانى (1/283، رقم 828) ، والبيهقى (6/203، رقم 11923)
([23]) رواه الحكيم الترمذي، (1/310)