تاسعا ـ الودود

تاسعا ـ الودود

في اليوم التالي([1]).. ومع تنفس الصبح سمعنا صوتا يصيح بتأوه وشوق (الله.. الله.. الله)([2]).. يمد بها صوته، وكأن روحه كانت تنطق بكل حرف من حروفها.

أسرعنا إلى مصدر الصوت، وقد تعجبت كما تعجب رفاقي جميعا إذ كان الصائح بذلك الصوت رجل من قومنا كان اسمه (جاستن مارتن)([3]).. وقد كان مسيحيا، صوفيا في مسيحيته.. وكان دائم الذكر لـ (جاستن الشهيد)، ولم نكن نسمع عنه الحديث عن الإسلام، ولا عن إله المسلمين.

لكنا في ذلك اليوم سمعناه يصيح بما ذكرته لك، فلذلك تعجبت غاية العجب.

مكث مدة، وهو يتأوه بشوق منشدا اسم الله بأصوات رخيمة لذيذة..

بعد فترة انتبه إلينا، فرآنا ملتفين حوله قد ملأنا العجب من حاله، فقال، والبسمة تملأ شفتيه: عذرا.. لم أنتبه لحضوركم.. هل من جديد؟

قال رجل منا: أنت هو الجديد.. وقد جئناك لنسمع منك كما سمعنا من رفاقك.

قال جاستن: وما تريدون أن تسمعوا مني؟

قال الرجل: كيف وصلت إلى هذه الحال؟.. أخبرنا.. فإننا نشعر بأننا من خلال كلماتك التي كنت ترددها نكاد نقترب من ربنا.

قال جاستن: صدقت.. أنا نفسي أشعر بما تشعرون به..

قال الرجل: فكيف لم تخبرنا من قبل؟

قال جاستن: تلك قصة طويلة حجبتني عنها حجب كثيرة.. ولن تفهموا آخرها حتى تسمعوا أولها.

قال الرجل: فهلم حدثنا، فما أشوقنا لحديث يوصلنا إلى ربنا.

قال جاستن: لاشك أنكم تعرفون أن اسمي هو (جاستن مارتن)

قال الرجل: أجل.. وهذا ما زاد في عجبنا من حالك.. فجاستن رجل من المسيحية.. ونراك الآن تتغنى باسم إله المسلمين.

قال جاستن: إله المسلمين هو نفسه إله المسيحية الحقيقي قبل أن يلحقها من التحريف ما لحق.. لقد ذكر قرآن المسلمين هذا، فقال:{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} (العنكبوت)

بل إن إله المسلمين هو نفسه إله جميع هذه الأمم.. وهذه المذاهب.. وهذه الأفكار.. قبل أن يلحقها دنس التشبيه، والتمثيل والتحريف.. وقبل أن يتخذ أحبارها ورهبانها (الله) وسيلة لمكاسبهم وأهوائهم ودنياهم.

قال الرجل: فكيف تعرفت على إله المسلمين.. وأنت جاستن المسيحي الذي لا يعرف إلا المسيحية؟

قال جاستن: في البداية.. وفي مقتبل عمري عندما فتحت عيني على الحياة بأبعادها الكثيرة كنت أشعر بشوق عظيم لمصدر وجودي، ومصدر وجود هذا الكون جميعا.

وقد قلبت طرفي في الكون أبحث عنه.. وأبحث عن سبل الاتصال به.. لكني لم أظفر في فترة طويلة من حياتي على غير السراب.

في البداية سقطت على بعض الملحدين الذي راح يزين لي عبادة الطبيعة.. وهي في الحقيقة ليست إلا عبادة السراب والوهم الذي إذا جئته لم تجده شيئا.

ثم انتقلت من السراب إلى عبادة الأنداد.. فامتلأ قلبي بأهواء كثيرة لم تزده إلا ألما([4]).

وبعد أن شببت عن الطوق، وتخلصت من القفص الذي أرادت الشياطين أن أقضي عمري بين قضبانه رحت أبحث عن الله.. فقد علم عقلي أنه لابد لهذا الكون من إله.. بل لابد له من إله في غاية الجلال والجمال.. وأنه إله يستحق أن يكون محبوبا لكل عاقل كامل في عقله.

وقد كان أول ما شدني إلى الدين – بسبب تنشئتي الأسرية – هو نصوص من الكتاب المقدس رحت أكررها كل حين إلى أن حفظتها عن ظهر قلب.. 

كان منها صلاة يسوع الكهنوتية، والتي يقول فيها: (يا أبت، قد أتت الساعة: مجد ابنك ليمجدك ابنك بما أوليته من سلطان على جميع البشر ليهب الحياة الأبدية لجميع الذين وهبتهم له. والحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح. إني قد مجدتك في الأرض فأتممت العمل الذي وكلت إلي أن أعمله فمجدني الآن عندك يا أبت بما كان لي من المجد عندك قبل أن يكون العالم. أظهرت اسمك للناس الذين وهبتهم لي من بين العالم. كانوا لك فوهبتهم لي وقد حفظوا كلمتك وعرفوا الآن أن جميع ما وهبته لي هو من عندك وأن الكلام الذي بلغتنيه بلغتهم إياه فقبلوه وعرفوا حقا أني من لدنك خرجت وآمنوا بأنك أنت أرسلتني. إني أدعو لهم ولا أدعو للعالم بل لمن وهبتهم لي لأنهم لك. وجميع ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي وقد مجدت فيهم.لست بعد اليوم في العالم وأما هم فلا يزالون في العالم وأنا ذاهب إليك. يا أبت القدوس احفظهم باسمك الذي وهبته لي ليكونوا واحدا كما نحن واحد. لما كنت معهم حفظتهم باسمك الذي وهبته لي وسهرت فلم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك فتم ما كتب. أما الآن فإني ذاهب إليك. ولكني أقول هذه الأشياء وأنا في العالم ليكون فيهم فرحي التام. إني بلغتهم كلمتك فأبغضهم العالم لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم. لا أسألك أن تخرجهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير. ليسوا من العالم كما أني لست من العالم. كرسهم بالحق إن كلمتك حق. كما أرسلتني إلى العالم فكذلك أنا أرسلتهم إلى العالم وأكرس نفسي من أجلهم ليكونوا هم أيضا مكرسين بالحق. لا أدعو لهم وحدهم بل أدعو أيضا للذين يؤمنون بي عن كلامهم. فليكونوا بأجمعهم واحدا: كما أنك في، يا أبت، وأنا فيك فليكونوا هم أيضا فينا ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني. وأنا وهبت لهم ما وهبت لي من المجد ليكونوا واحدا كما نحن واحد: أنا فيهم وأنت في ليبلغوا كمال الوحدة ويعرف العالم أنك أنت أرسلتني وأنك أحببتهم كما أحببتني. يا أبت، إن الذين وهبتهم لي أريد أن يكونوا معي حيث أكون فيعاينوا ما وهبت لي من المجد لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم. يا أبت البار إن العالم لم يعرفك أما أنا فقد عرفتك وعرف هؤلاء أنك أنت أرسلتني. عرفتهم باسمك وسأعرفهم به لتكون فيهم المحبة التي أحببتني إياها وأكون أنا فيهم) (يوحنا: 17/1-26)

بالرغم من أن الكثير من النصوص في الكتاب المقدس متناقضة إلا أنها كانت بالنسبة لقلبي ملاذا يشعرني بالأنس.. فقد كنت أشعر بالحاجة إلى رب محب.. وقد كان في هذه النصوص ما يدلني على أن ربي محب.

لكني مع ذلك كنت أتألم كثيرا عندما أقرأ في الكتاب المقدس التناقضات الكثيرة التي تصور ذلك الحب أحيانا بصور لا تتناسب مع جلال الإله وكماله.. ولذلك كنت أميل إلى وجود التحريف في الكتاب المقدس.. وقد كان أول من دلني عليه هو سميي (جاستن مارتن).. فقد كان من الآباء الأوائل الذين أشاروا إلى وجود التحريف وخاصة في حواره مع تريفو([5]).

ولهذا كنت أناضل بكل قوة على أن النصوص التي ورد فيها ما يشوه محبة الإله مدسوسة في الكتاب المقدس، وليست منه، وقد جمعت من الأدلة على ذلك ما قضيت طول عمري في البحث عنه.

ولكني مع ذلك كله كنت أتألم.. لأني لم أسمع كلمات الإله السليمة من أي تحريف.

وقد ظللت على هذا مدة طويلة من عمري.. إلى أن جاء اليوم الذي أذن الله فيه أن أجد غايتي.. ولكني بعد أن وجدتها، وأيقنت بما فيها من الحقائق والجمال أعرضت عنها.. ولم أتذكرها إلا هذه اللحظات..

لقد حق في ما قاله قرآن المسلمين فيمن أتته آيات الله، ثم انسلخ عنها.. لقد قال في حقه:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} (الأعراف)

***

قال ذلك، ثم غرق في صمت عميق، فنبهناه إلى ما كان يرمي الحديث عنه، فقال: لا أزال أذكر ذلك اليوم جيدا.. إن المشاعر الجميلة التي شعرتها فيه لم أشعر بمثلها في حياتي أبدا..

لقد كنت فيه قريبا جدا من الله.. ولولا الأهواء التي تثاقلت إليها لكنت الآن وليا من الأولياء.. أو قديسا من القديسين.

كنت في إسطنبول قرب مسجد أياصوفيا([6]).. وهناك خطر على بالي تلك الأجيال الكثيرة من المسيحيين والمسلمين التي مرت على ذلك المكان.

وقلت في نفسي: يا ترى.. أين هم الآن.. وهل ظفروا بمقصودهم.. أم أنه حيل بينهم وبينه؟

بينما أنا كذلك إذ ربت على كتفي رجل، وقال: ابحث عن مكان لك في العربة المقدسة التي تريد أن ترحل إلى الله.. فلا يهمك من قعد ولم يركب فيها.

قلت: أيمكن أن نرحل إلى الله، ونحن نحتفظ بهذه الأجساد؟

قال:  إن كنت تتعلق بجسدك، وترتبط به.. فلا يمكنك أن ترحل.. لا يمكن أن يركب في العربة المقدسة إلا من طرح جميع الأكفان التي تحول بينه وبين ربه.

قلت: كيف ذلك؟.. وأنى ذلك؟

قال: إن كنت صادقا فسترى بجانب هذه الديار من الهداة والمرشدين ما لا يراه إلا الصادقون.

قلت: أيمكن أن أرى ما لا يرى غيري؟

قال: الصادق يرى ما لا يرى الكاذب.

قلت: كيف هذا؟

قال: ألا ترى أن الجاحدين حيل بينهم وبين معرفة الله حتى أنكروا وجوده؟

قلت: بلى.. ولكن ما علاقة ذلك بهذا؟

قال: أما العارفون فلم يروا في الأكوان غير مولاهم.

قلت: ذلك صحيح.

قال: فقد أجبت على سؤالك إذن.. الصادق يرى ما لا يرى غيره.. فالله يكشف له من أسرار الخصوصية ما ينحجب عن رؤيته الغافلون.

قال ذلك، ثم انصرف عني..

***

ما هي إلا لحظات قليلة حتى ربت على كتفي رجل آخر، وقال: هلم إلينا إن كنت تريد أن تركب العربة المقدسة.. فلا يمكن أن يجد مولاه أو يطمع في وصاله من لم يتشرف بالركوب فيها.

قلت: من أنتم؟.. فلا يمكنني أن أركب مع من لا أعرفهم.

قال: نحن قوم عرفنا أن ربنا أعظم من أن تحيط به العقول.. فرحنا نبحث عنه بقلوبنا وأرواحنا.. لقد سمعناه يقول:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (مريم:96).. وسمعناه يخبرنا بأن من أسمائه الحسنى (الودود)([7]) كما قال تعالى:{ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } (البروج:14).. وأخبرتنا آيات كثيرة بطريق الوصول إلى محبة الله.. فرحنا نجاهد أنفسنا على التخلق بها.. فلا يمكن أن يمكّن الله أحدا من التعرف عليه إلا إذا كان محبا.. فالمعرفة بذر الحب.. كما أن الحب بذر المعرفة:

لقد جعلنا الطريق إلى ربنا – بدل الجدل العقلي – هو البحث عن تلك المظان..

قلت: وما تلك المظان؟

قال: كثيرة.. يتربع على عرشها (الإحسان).. فهو الخصلة الجامعة لجميع مجامع الخير، قال تعالى:{ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (البقرة:195).. وقال:{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (آل عمران:134).. وقال:{ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (آل عمران:148)..

قلت: فما ترى السر في هذه المحبة؟

قال: لقد عرفنا به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن الله جميل يحب الجمال)، والمحسن هو الذي اكتمل جمال روحه حتى صار مجلاة للحق، وصار بذلك أهلا لمحبة الحق، كما قال  تعالى:{ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) } (الرحمن) وقال: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) الحسنى وزيادة} (يونس)

قلت: صدق قرآنكم في هذا.. فلا يمكن أن يكشف أحد منا عن أسراره إلا لمن يحبه ويثق فيه ويرى منه ما يدله على صدق محبته.. ولاشك أن الإحسان هو من أهم دلائل هذا الصدق.. فهل هناك غير هذا؟

قال: أجل.. لقد ذكر لنا ربنا الطهارة بجميع معانيها، فقال:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} (البقرة)، وقال لنا:{ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } (التوبة:108).. فلذلك رحنا نسارع إلى الطهارة بكل أنواعها.. طهارة الحس وطهارة المعنى.. وطهارة الجسد، وطهارة القلب.

قلت: صدق قرآنكم في هذا.. فالقلب الذي طهره ماء التوبة والإنابة قلب قد بذرت فيه شجرة الجمال، وصفيت مرءاته لتستعد لتجلي أنوار الحق.

لقد صدق قرآنكم في نصحكم.. فهل ذكر لكم غير هذا؟

قال: لقد ذكر لنا التقوى الحاجزة عن معصية الله، فقال:{ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (آل عمران:76)، وقال:{ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (التوبة:4)

قلت: صدق قرآنكم في هذا.. فلا شك أن المعصية هي الحجاب الحائل بين الحق وعباده، فإن أزيل هذه الحاجز بالتقوى تقرب القلب من الرب، وصار أهلا لمحبته.

صدق قرآنكم في نصحكم.. فهل ذكر لكم غير هذا؟

قال: لقد ذكر لنا الصبر، فقال:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } (آل عمران:146)

قلت: صدق قرآنكم في هذا أيضا.. فلا شك أن جميع مجامع الخير مرتبطة بصبر صاحبها في ذات الله، أو في طاعته، أو عن معصيته، أو على مقاديره.

لقد صدق قرآنكم في نصحكم.. فهل ذكر لكم غير هذا؟

قال: أجل.. لقد ذكر لنا التوكل على الله، فقال:{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159)

قلت: صدق قرآنكم في هذا أيضا.. فلا شك في ارتباط التوكل بمحبة الله.. ذلك أن التوكل هو ثقة العبد في الله وإحسان الظن به، وهو صادر عن التوحيد المحض الذي يغيب فيه القلب عن غير الحق.

لقد صدق قرآنكم في نصحكم.. فهل ذكر لكم غير هذا؟

قال: أجل.. لقد ذكر لنا القسط، فقال:{ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (المائدة: من الآية42)  وقال:{ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (الممتحنة:8)

قلت: صدق قرآنكم في هذا أيضا.. فلا شك أن المقسط الذي أخلص في عبوديته لربه، وذبح بسيف الحق جميع أهوائه  أهل لكل خير.. فهل ذكر لكم غير هذا؟

قال: أجل.. لقد ذكر لنا التضحية، فقال:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف:4)

قلت: صدق قرآنكم في هذا أيضا.. فلا شك أن التضحية، مع توحد المضحين هو قمة سمو العلاقات بين المؤمنين، وكلاهما دليل على التوجه الخالص لله.

لقد صدق قرآنكم في نصحكم.. فهل ذكر لكم غير هذا؟

قال: أجل.. لقد ذكر لنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (آل عمران:31)

فكل ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طريق من طرق محبة الله، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو محبب العباد إلى الله، ومحبب الله إلى عباده، فهو واسطة الحب المقدس.

لم أجد ما أجيبه به عندما ذكر لي هذا.. فرحت أقول له: وعيت هذا.. ولكن هل يمكن للقلوب والأرواح أن تتشرف بمعرفة ربها؟

قال: لقد سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حاكيا عن ربه تعالى:( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن: يكره الموت، وأنا أكره مساءته)([8])

لقد رأينا ربنا في هذا الحديث يرسم لنا المنهج الصحيح الذي نصل به إليه.

إنه منهج بسيط.. وفيه بعض الجهد.. ولكنه جهد لذيذ.. والنتائج فيه محتمة.

قلت: ما تقصد بذلك؟

قال: أنت تعلم أن البشر يختلفون في الطرق التي يسلكونها إلى الله.. وقد ارتضى كل قوم منهجا من المناهج.. ولله من الطرائق بعدد أنفاس الخلائق.. أما نحن، فقد ارتضينا ما ذكره الحديث منهجا.. إن هذا الحديث يرسم هذا المنهج بدقة.

قلت: فما هو هذا المنهج؟

قال: الحب.. الحب هو أقرب الطرق التي تصل بها إلى ربك.. ذلك أن ربك ودود.. والودود يقرب من تودد إليه.. ومن تقرب إلى الله عرفه..

ألم تسمع إلى ربنا.. وهو يقول لنا:( وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه) ([9])

***

لست أدري الوجهة التي ذهب إليها بعد أن حدثني بتلك الأحاديث.. ولكن الذي أعلمه هو أنه بذلك الكلام قد أشعل في قلبي من الأشواق ما جعلني أرى ما لم أكن أرى، وأسمع ما لم أكن أسمع.

كان أول ما سمعت بعد أن انصرف عني صوت امرأة تنشد:

أحبك حُبين حب الهوى

  وحبا لأنّك أهل لذاكا

فأما الذي هو حُب الهوى

  فشغلي بذكرك عَمّن سواكا

وأما الذي أنت أهلٌ له

  فلست أرى الكون حتى أراكا

فما الحمدُ في ذا ولا ذاك لي

  ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

اقتربت من مصدر الصوت، فإذا امرأة في مقتبل شبابها.. كان على وجهها من أنوار الإيمان ما لم أر مثله في حياتي.. وقد تعجبت من ذلك غاية العجب، فتقدمت إليها، وقلت لها: أي حبيب هذا الذي ملك عليك قلبك، فلم ترضي بأن تحبيه حبا واحدا حتى أحببته حبين؟

قالت: لا يحب حبين إلا الجميل الذي لا يفنى ولا يزول، ولا يتغير ولا يتحول.

قلت: ليس ذلك إلا الله.

قالت: فما أبخس بضاعة من باع قلبه لغير الله، أو أنس بغير مولاه.. 

قلت: لم؟

قالت([10]): إن في القلب شعثاً لا يلمه إلا الإقبال على الله.. وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته.. وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته.. وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه.. وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى لقائه.. وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبداً.

قالت ذلك، ثم راحت تنشد بصوت عذب:

خَطَرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَسِيغُ مَودَّتي

  فَأُحِسُّ مِنْها في الفُؤادِ دَبِيبَا

لاَ عُضْو لِي إِلاَّ وَفِيهِ صَبَابةٌ

  فَكأنَّ أَعْضَائِي خُلِقْنَ قُلُوبَا

غنى بهم حادي الأحبة في الدجى

  فأطار منهم أنفسا وقلوبا

فأراد مقطوع الجناح بثينة

  وهمو أرادوا الواحد المطلوبا

قلت: عهدي بمن هن مثلك في مثل سنك وجمالك الانشغال بحب آخر غير هذا الحب الذي تنشدينه؟

قالت: لقد كنت كذلك إلى أن رزقني الله زيارة بيته الحرام([11])، وبينما أنا أطوف في هزيع الليل المظلم سمعت صوت فتاة شابة تطوف بالبيت، وهي تقول:

أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته

  فأصبح عندي قد أناخ وطنبا

إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره

  وإن رمت قربا من حبيبي تقربا

ويبدوا فأفنى ثم أحيا به له

  ويسعدني حتى ألذ وأطربا

 فقلت لها: يا أختاه.. أما تتقين الله.. أفي مثل هذا المكان تتكلمين بمثل هذا الكلام؟ فالتفتت إلي، وقالت: يا نفيسة([12]) الخير..

إن التقى شردني
 
كما تري عن وطني
  
أفر من وجدي به
 
فحبه هيمني
  

ثم قالت: يا نفيسة.. أتطوفين بالبيت أم برب البيت؟ فقلت: أطوف بالبيت.. فرفعت رأسها إلى السماء، ثم قالت: سبحانك ما أعظم مشيئتك في خلقك.. خلق كالأحجار يطوفون بالأحجار..

ثم أنشأت تقول:

يطوفون بالأحجار يبغون قربة

  إليك وهم أقسى قلوبا من الصخر

وتاهوا فلم يدروا من التيه من هم

  وخلوا محل القرب في باطن الفكر

فلوا أخلصوا في الود غابت صفاتهم

  وقامت صفات الود للحق بالذكر

ثم تعلقت بأستار الكعبة، وقالت:

أنت تدري يا حبيبي
 
من حبيبي أنت تدري
  
ونحول الجسم والدمع
 
يبوحان بسري
  
يا عزيزي قد كتمت الحب
 
حتى ضاق صدري
  

ثم قالت: إلهي.. بحبك لي إلا رددت علي قلبي، فقلت لها: من أين تعلمين أنه يحبك؟ فقالت: ألا ترين كيف جيش من أجلي الجيوش، وأنفق الأموال، وأخرجني من دار الشرك، وادخلني في التوحيد، وعرفني نفسه بعد جهلي إياه، فهل هذا إلا لعناية بي؟ فقلت لها: كيف حبك له؟ فقالت: أعظم شيء وأجله.. فقلت لها: وتعرفين الحب؟ فقالت: فإذا جهلت فأي شيء أعرف؟ إنه الحلو المجتنى ما اقتصر، فإذا أفرط عاد خبلا قاتلا، أو فسادا معطلا.. وهو شجرة غرسها كريه، ومجناها لذيذ.. ثم ولت وهي تقول:

وذي قلق لا يعرف الصبر والعزا

  له مقلة عبرى أضر بها البكا

وجسم نحيل من شجى لاعج الهوى

  فمن ذا يداوي المستهام من الضنا

ولا سيما والحب صعب مرامه

  إذا عطفت منه العواطف بالفنا

عندما سمعت منها ذلك تحرك في قلبي من الحب المقدس ما كان ساكنا.. واشتعل فيه ما كان خامدا.. والحمد لله أن من علي ربي بتشريفي بالسلوك إليه.. وشرفني بعد ذلك، فملأ قلبي بمحبته.

قالت ذلك، ثم رفعت يديها إلى السماء، وأخذت تقول: إلهي وسيدي ومولاي لو أنك عذبتني بعذابك كله لكان ما فاتني من قربك أعظم عندي من العذاب.. ولو نعمتني بنعيم أهل الجنة كلهم كانت لذة حبك في قلبي أكثر.

إلهي لو أمرت بي إلى النار ما وجدت للنار حرارة مع حبك.. ولو أمرت بي إلى الجنة لما وجدت للجنة لذة مع حبك.. فحبك غلب كل شيء.

قلت: إنك تبالغين في وصفك للحب.. أله كل ما تذكرين من قيمة؟

قالت([13]): لولا الحب ما دارت الأفلاك.. وما تحركت الكواكب النبيرات.. ولا هبت الرياح المسخرات.. ولا مرت السحب الحاملات.. ولا تحركت الكواكب النبيرات.. ولا تحركت الأجنة في بطون الأمهات.. ولا انصدع عن الحب أنواع النبات، واضطربت أمواج البحار الزاخرات.. ولا تحركت المدبرات والمقسمات.. ولا سبحت بحمد فاطرها الأرضون والسماوات، وما فيها من المخلوقات.

قالت ذلك.. ثم انصرفت عني إلى ذكر ربها، والانشغال بمناجاته.

***

ما سرت قليلا حتى سمعت صوتا يقول([14]): (إلهي إني مقيم بفنائك مشغول بثنائك، صغيراً أخذتني إليك، وسربلتني بمعرفتك، وأمكنتني من لطفك، ونقلتني وقلبتني في الأعمال ستراً وتوبةً وزهداً وشوقاً ورضاً وحباً، تسقيني من حياضك، وتهملني في رياضك، ملازماً لأمرك، ومشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً وقد اعتدت هذا منك صغيراً، فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف)

لست أدري كيف صحت فيه من حيث لا أشعر: الله يطلب أعمالا لا أقوالا.

ابتسم، وقال: لأن يمتلئ قلبي بمثقال خردلة من الحب أحب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب.

قال ذلك، ثم التفت إلي، وقال: لو سمع الخلق صوت النياحة على الدنيا في الغيب من ألسنة الفناء لتساقطت القلوب منهم حزنا، ولو رأت العقول بعيون الإيمان نزهة الجنة لذابت النفوس شوقا، ولو أدركت القلوب كنه المحبة لخالقها لانخلعت مفاصلها ولها، ولطارت الأرواح إليه من أبدانها دهشا.. سبحان من أغفل الخليقة عن كنه هذه الأشياء وألهاهم بالوصف عن حقائق هذه الأنباء.

ثم طأطأ رأسه، وقال:  يا (جاستن) الليل طويل فلا تقصره بمنامك.. والنهار نقي فلا تدنسه بآثامك.

***

تركته، وسرت إلى محل آخر وجدت فيه رجلا كأنه الشمس أو قريب من الشمس، وقد أحاط به قوم كأنهم الهالة التي تحيط بالشمس، وكان مما سمعته منه قوله لهم([15]): الوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ماله من غيره.. وما له الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه.. بل إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض.. وإنما هو موجود من حيث نسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقي.. فالموجود الحق هو الله تعالى، كما أن النور الحق هو الله تعالى.

لقد قال الشاعر العارف يعبر عن ذلك:

الله قل وذر الوجود وما حوى

  إن كنت مرتاداً بلوغ كمال

فالكل دون الله أن حققته

  عدم على التفصيل والإجمال

واعلم بأنك والعوالم كلها

  لولاه في محو وفي اضمحلال

من لا وجود لذاته من ذاته

  فوجوده لولاه عين محال

والعارفون بربهم لم يشهدوا

  شيئاً سوى المتكبر المتعال

ورأوا سواه على الحقيقة هالكاً

  في الحال والماضي والاستقبال

ومن هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم، فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.. (88)} (القصص) لا أنه يصير هالكا في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلا وأبدا لا يتصور إلا كذلك، فإن كل شيء سواه إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض ؛ وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول الحق رؤى موجودا لا في ذاته لكن من الوجه الذي يلي موجده فيكون الموجود وجه الله تعالى فقط.. فلكل شيء وجهان: وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه ؛ فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه. فإذن كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا.

إن هؤلاء لم يفتقروا إلى يوم القيامة ليسمعوا نداء الباري تعالى:{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} (غافر).. بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أدبا.. ولم يفهموا من معنى قوله (الله أكبر) أنه أكبر من غيره، حاش لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه ؛ بل ليس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية.. بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه.. فالموجود وجهه فقط.. ومحال أن يقال إنه أكبر من وجهه.. بل معناها أنه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة، وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه، نبيا كان أو ملكا.. بل لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله.. بل كل معروف داخل في سلطة العارف واستيلائه دخولا ما.

ثم سكت قليلا، وقال: العارفون – بعد العروج إلى سماء الحقيقة – اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق.. لكن منهم من كان له هذه الحال عرفانا علميا، ومنهم من صار له ذلك حالا ذوقيا، وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة واستوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه، ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضا، فلم يكن عندهم إلا الله، فسكروا سكرا دفع دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم:(أنا الحق)، وقال الآخر:(سبحاني ما أعظم شأني).. وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى.

فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه (أنا من أهوى ومن أهوى أنا)

***

بعدها سرت في نواحي ذلك المسجد.. فرأيت حلقة يجلس فيها رجل عليه هالة من نور كان يقال له (الجيلاني)([16])

وقد سمعته يقول مخاطبا أحد المحيطين به([17]): كن مع الله عزّ وجلّ كأن لا خلق، ومع الخلق كأن لا نفس، فإذا كنت مع الله عزّ وجلّ بلا خلق وجدت، وعن الكل فنيت.. وإذا كنت مع الخلق بلا نفس عدلت وبقيت ومن التبعات سلمت، واترك الكل على باب خلوتك، وادخل وحدك تر مؤنسك في خلوتك بعين سرّك، وتشاهد ما وراء العيان، وتزول النفس، ويأتي مكانها أمر الله وقربه.. فإذا جهلك علم، وبعدك قرب، وصمتك ذكر، ووحشتك أنس.

يا هذا: ما ثم إلا خلق وخالق، فإذا اخترت الخالق فقل للخلق:{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } (الشعراء:77)

ثم التفت إلى آخر، وقال: يا هذا: الفناء إعدام الخلائق، ثم لحوقك بالمنهاج الأول، وحينئذ يسقيك ربّك ما يسقيك، ويزرع فيك ما يزرع.

إن أردت هذا فعليك بالإسلام، ثم الاستسلام، ثم العلم بالله، ثم المعرفة، ثم الـوجود. وإذا كان وجودك له كان كلك له.

الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد.

ثم التفت إلى آخر، وقال: ضاق أبى الأمر يوماً فتحرك في النفس، فقيل لي: ماذا تريد؟ فقلت: أريد موتاً لا حياة فيه وحياة لا موت فيها؟ فقيل لي: ما الموت الذي لا حياة فيه وما الحياة التي لا موت فيها؟قلت: الموت الذي لا حياة فيه موتى عن جنسي من الخلق فلا أراهم في الضر والنفع، وموتى عن نفسي وهوائي وإرادتي ومنائى في الدنيا والأخرى فلا أحس في جميع ذلك ولا أجد.

و أما الحياة التي لا موت فيها: فحياتي بفعل ربى عزّ وجلّ بلا وجودي فيه، والموت في ذلك وجودي معه عزّ وجلّ، فـكـانـت هـذه الإرادة أنـفـس إرادة أردتـهـا مـنـذ عـقـلـت.

ثم التفت إلي، وقـال([18]): اصرف نظرك عن الجهات كلها.. ولا تبصبص على شئ منها.. فما دمت تنظر إلى واحدة منها لايفتح لك جهة فضل الله عز وجل وقربه.. فسد الجهات جميعا بتوحيده وإمحاء نفسك ثم فنائك ومحوك وعلمك.. فحينئذ يفتح عين قلبك جهة فضل الله العظيم، فتراها بعيني رأسك إذا ذاك شعاع نور قلبك وإيمانك ويقينك فيظهر عند ذلك النور من باطنك على ظاهرك كنور الشمعة التي في البيت المظلم في الليلة الظلماء، يظهر من كوى البيت ومنافذه فيشرق ظاهر البيت بنور باطنه، فتسكن النفس والجوارح إلى وعد الله وعطائه عن عطاء غيره ووعد غيره عز وجل.. وارحم نفسك ولا تظلمها ولا تلقها في ظلمات جهلك ورعونتك، فتنظر إلى الجهات وإلى الخلق والحول والقوة والكسب والأسباب فتوكل إليها، فتسد عنك الجهات ولم تفتح لك جهة فضل الله عز وجل عقوبة ومقابلة لشركك بالنظر إلى غيره عز وجل، فإذا وجدته ونظرت إلى فضله ورجوته دون غيره وتعاميت عما سواه، قربك وأدناك، ورحمك ورباك وأطعمك وسقاك، وداواك وعفاك، وأعطاك وأغناك، فلا ترى بعد ذلك لا فقرك ولا غناك.

***

بعد أن سمعت تلك الكلمات العذبة من ذلك الولي الممتلئ بأنوار الإيمان سرت من غير أن أعلم أين ولا لماذا.. وهل أنا أسير في المكان أم أسير في الزمان.. أم أسير على الأرض، أم أحلق في أجواء السماء.

فجأة سمعت صوتا عذبا يترنم بأجمل مناجاة سمعتها في حياتي.. لقد كنت نسيتها.. ولكني الآن.. وبعد أن حرك الله لساني بذكره أذكرها جيدا.. أذكرها حرفا حرفا.. وكلمة كلمة.. وكأني أسمعها لأول مرة..

لقد كانت في ظاهرها مناجاة لكنها في باطنها كانت تمتلئ بالإجابة الشافية عن كل التساؤلات الخطيرة التي شغلت الفلاسفة والمفكرين أجيالا طويلة.

لن أطيل عليكم.. سأقرأ عليكم المناجاة كما سمعتها.. واسمحوا لي أن أتفاعل معها.. فلا يمكن لكلمات الربانيين أن تسرد كما يسرد سائر الكلام..

قال ذلك.. ثم رفع يديه إلى السماء، وأخذ يترنم بهذه الأغنية المضمخة بعطر الإيمان([19]):

إلهي، أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرا في فقري؟!

إلهي، أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولا في جهلي؟!

إلهي، إن اختلاف تدبيرك وسرعة حلول مقاديرك منعا عبادك العارفين بك عن السكون إلى عطاء واليأس منك في بلاء.

إلهي، مني ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك.

إلهي وصفت نفسك باللطف والرأفة بي قبل وجود ضعفي، أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي؟!

إلهي، إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك، ولك المنة علي.. وإن ظهرت المساوي مني فبعدلك، ولك الحجة علي.

إلهي، كيف تكلني إلى نفسي وقد توكلت لي؟! وكيف أضام وأنت الناصر لي، أم كيف أخيب وأنت الحفي بي؟!

ها أنا أتوسل إليك بفقري إليك.. وكيف أتوسل إليك بما هو محال أن يصل إليك؟! أم كيف أشكو إليك حالي وهو لا يخفى عليك؟! أم كيف أترجم بمقالي وهو منك برز إليك؟! أم كيف تخيب آمالي وهي قد وفدت إليك؟! أم كيف لا تحسن أحوالي وبك قامت إليك؟!

إلهي، ما ألطفك بي مع عظيم جهلي، وما أرحمك بي مع قبيح فعلي!

إلهي، ما أقربك مني وما أبعدني عنك!

إلهي، ما أرأفك بي، فما الذي يحجبني عنك؟!

إلهي، علمت باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار أن مرادك مني أن تتعرف إلي في كل شيء حتى لا أجهلك في شيء.

إلهي، كلما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك.. وكلما آيستني أوصافي أطمعتني مننك.

إلهي، إن القضاء والقدر غلبني. وإن الهوى بوثائق الشهوة أسرني.. فكن أنت النصير لي حتى تنصرني وتنصر بي. وأغنني بفضلك حتى استغني بك عن طلبي.

أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدوك.. وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك. ولم يلجأوا إلى غيرك.. أنت المونس لهم حيث أوحشتهم العوالم. وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم.. ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك؟!

لقد خاب من رضي دونك بدلا، ولقد خسر من بغى عنك متحولا.

كيف يرجى سواك وأنت ما قطعت الإحسان؟!

وكيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان؟!

يا من أذاق أحباءه حلاوة مؤانسته فقاموا بين يديه متملقين.. ويا من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بعزته مستعزين.. أنت الذاكر قبل الذاكرين، وأنت البادي بالإحسان قبل توجه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء قبل طلب الطالبين، وأنت الوهاب، ثم لما وهبت لنا من المستقرضين.

إلهي، اطلبني برحمتك حتى أصل إليك.. واجذبني بمنك حتى أقبل عليك.

إلهي، إن رجائي لا ينقطع عنك وإن عصيتك.. كما أن خوفي لا يزايلني وإن أطعتك.. فقد دفعتني العوالم إليك. وقد أوقفني علمي بكرمك عليك.

إلهي، كيف أخيب وأنت أملي، أم كيف اهان وعليك متكلي؟!

إلهي، كيف أستعز وفي الذلة أركزتني، أم كيف لا أستعز وإليك نسبتني؟!

إلهي، كيف لا أفتقر وأنت الذي في الفقر أقمتني! أم كيف أفتقر وأنت الذي بجودك أغنيتني!

إلهي أنت الذي لا إله غيرك، تعرفت لكل شيء فما جهلك شيء.. وأنت الذي تعرفت إلي في كل شيء فرأيتك ظاهرا في كل شيء وأنت الظاهر لكل شيء.

يا من احتجب في سرادقات عزه عن أن تدركه الأبصار.. يا من تجلى بكمال بهائه فتحققت عظمته الأسرار.. كيف تخفى وأنت الظاهر؟! أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر؟! إنك على كل شي قدير.. والحمد لله وحده.

***

بعد أن ألقى جاستن هذه المناجاة بانفعال وتواجد عظيمين، التفت إلينا، وقال: بعد أن سمعت هذه المناجاة الرقيقة دخلت إليه.. فوجدته جالسا كالشمس المتربعة في فلكها يحيط بها مريدون كالأقمار.. زيتهم يكاد يضيء، ولو لم تمسسه نار.

قال أحدهم: يا سيدنا.. لقد ذكر المتكلمون أدلة كثيرة على الله.. وقد حصل بينهم الخلاف في بعضها.. فما ترى الدليل على الله؟

قال: الله هو الدليل على الله..

قال المريد: كيف ذلك؟

قال: معرفة الله على قسمين: معرفة برهان، ومعرفة عيان.. أما البرهان، فللمتكلمين.. وأما العيان فللمشاهدين.. ففي الوقت الذي يتيه فيه العلماء بحثا عن الأدلة، ويتنازعون وفق ما تقتضيه أنظارهم يجلس العارفون المتخلصون من كثافة حجاب العقل المقيد بقيود الحس والوهم في أرائك جنة المشاهدة والمكاشفة واليقين.

قال المريد: من هم المشاهدون؟

قال: من لم تحجبهم الأكوان عن ربهم.. ومن استدلوا بالله على الله([20]).. فشَتَّانَ بَينَ مَنْ يَسْتَدِلُّ بِاللهِ ومن يَسْتَدِلُّ على الله.. المُسْتَدِلُّ بِالله عَرَفَ الحَقَّ لأَهْلِهِ، فأَثْبَتَ الأَمْرَ مِنْ وُجودِ أَصْلِهِ.. ومن استدل على الله، فذلك مِنْ عَدَمِ الوُصولِ إليَهِ.. وَإلّا فَمَتى غابَ حَتّى يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ؟!.. وَمَتى بَعُدَ حَتّى تَكونَ الآثارُ هِيَ الَّتي تُوْصِلُ إلَيْهِ؟!

قال المريد: فكيف يتحققون بهذا؟

قال: بالصفاء.. فإنه:

إذا سكن الغدير على صفاء

  وجنب أن يحركه النسيم

بدت فيه السماء بلا امتراء

  كذاك الشمس تبدو والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلي

  يرى في صفوها الله العظيم

قال المريد: ولكن الحجب التي تحول بيننا وبينه كثيرة..

قال: الحق ليس بمحجوب، وإنما المحجوب أنت عن النظر إليه.. إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصرا، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر، والله هو القاهر فوق عباده.

ثم رفع رأسه إلى السماء([21])، وقال: الكون كله ظلمة ،وإنما أناره ظهور الحق فيه.. فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده فقد أعوزه وجود الأنوار.. وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار.

فهو سبحانه كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء!.. وكيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء!.. وكيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء!.. وكيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر لكل شيء!.. وكيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الظاهر قبل وجود كل شيء!.. وكيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أظهر من كل شيء!.. وكيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الواحد الذي ليس معه شيء!.. وكيف كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو أقرب إليك من كل شيء!.. وكيف يتصور أن يحجبه شيء ولولاه ما كان وجود كل شيء!

ثم التفت إلى محدثه، وقال: ألا ترى أن من العجب أن يظهر الوجود في العدم؟.. ألا ترى أن من العجب أن يثبت الحادث مع من له وصف القدم؟

قال المريد: إن ما تقوله، وما يقوله جميع أولياء الله جميل.. ولكن عموم الناس لا يرون ما تذكره..

قال: لا يصل إلى هذه المعرفة إلا من محا صور الأكوان من مرآته.. فلا يمكن أن يتجلى الله في قلب ممتلئ بالأصنام.

قال المريد: لم؟

قال: لأن الله واحد.. ولا يعاين الواحد إلا من تخلى عن الأنداد.

قال المريد: لم؟

قال: كيف تريد لقلب أن يشرق وصور الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف تريده أن يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟.. أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟.. أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟!)

قال المريد: فقد أيأستنا من أنفسنا إذن؟

قال: لا.. فلولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين.. إذ لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك.. ولا قطيعة بينك وبينه تمحوها وصلتك.

قال المريد: فكيف نصل إلى الله، ونحن ممتلئون بالمساوئ؟

قال: لو أنك لا تصل إلى الله إلا بعد فناء مساويك ومحو دعاويك فلن تصل إليه أبدا.. ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه ستر وصفك بوصفه، وغطى نعتك بنعته، فوصلك إليه بما منه إليك لا بما منك إليه.

***

بعد أن سمعت تلك المعاني العظيمة شعرت بأن الكثافة التي كانت تمسك بي إلى الأرض تكاد تزول.. وصرت أشعر وكأني أرفرف مع الطير في السماء.. ثم لم أجد نفسي إلا وأنا أحمل رسالة لم أعرف من صاحبها، ولا لمن يراد إرسالها.

فتحتها لأعرف ما فيها.. فوجدت فيها هذه العبارة التي حفظتها من طول تردادي لها: (إلى شيخي وقدوتي ومولاي ودليلي إلى ربي حجة الإسلام أبي حامد الغزالي.. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته..

سيدي.. لقد طوتني ظلمات الأكوان.. وحجبتي أنواء الأزمان عن السير إلى ربي.. فصف لي من الطرق أخصرها، وعلمني من الأسرار أدقها.. لعلي أفتح بها من أبوابي ما انغلق، وأرتق بها من حالي ما انفتق)

عندما قرأت الرسالة شعرت بداع عميق في نفسي يدعوني إلى البحث عن هذا الذي أرسلت له الرسالة..

فرحت أسير في ذلك المحل الممتلئ بالغرابة..

وقد استوقفت بعضهم فيه، وسألته عن هذا  الغزالي الذي أرسلت له تلك الرسالة، فقال لي: ألا تعرف الغزالي؟.. إنه أحد قواد العربة المقدسة.. إنك أمام بيته.. وليس عليك إلا تدق بابه ليفتح لك.

ما إن مددت يدي إلى الباب لأدق عليه حتى سمعت صوتا جهوريا يقول لي: ادخل با جاستن؟

تعجبت من معرفته باسمي، فقلت: كيف عرفت اسمي؟

قال: ادخل وافتح الرسالة واقرأها علي..

ازداد عجبي منه، لكني لم أجد إلا أن أدخل، وأفتح الرسالة، كما طلب مني.. ثم قرأتها له كما قرأتها لكم.

سار خطوات قليلة، وأحضر الدواة والقلم، ثم سلمهما إلي، وقال: اكتب على ظهر الرسالة ما أمليه عليك.

أمسكت بالقلم والدواة، فراح يملي علي قوله([22]): (اعلم أن سعادة كل شيء ولذته وراحته تكون بمقتضى طبعه، وطبع كل شيء ما خلق له؛ فلذة العين في الصور الحسنة، ولذة الأذن في الأصوات الطيبة، وكذلك سائر الجوارح بهذه الصفة. ولذة القلب خاصة بمعرفة الجوارح بهذه الصفة. ولذة القلب خاصة بمعرفة الله سبحانه وتعالى لأنه مخلوق لها.

وكل ما لم يعرفه ابن آدم إذا عرفه فرح به، مثل لعبة الشطرنج، إذا عرفها فرح بها، ولو نهى عنها لم يتركها ولا يبقى له عنها صبر. وكذلك إذا وقع في معرفة الله سبحانه وتعالى، وفرح بها، ولم يصبر عن المشاهدة؛ لأن لذة القلب المعرفة.

وكلما كانت المعرفة أكبر كانت اللذة أكبر. ولذلك فإن الإنسان إذا عرف الوزير فرح، ولو عرف الملك لكان أعظم فرحاً.

وليس موجودا أشرف من الله سبحانه وتعالى؛ لأن شرف كل موجود به ومنه، وكل عجائب العالم آثار صنعته؛ فلا معرفة أعز من معرفته، ولا لذة أعظم من لذة معرفته، وليس منظر أحسن من منظر حضرته.

وكل لذات شهوات الدنيا متعلقة بالنفس، وهي تبطل بالموت.

ولذة معرفة الربوبية متعلقة بالقلب، فلا تبطل بالموت؛ لأن القلب لا يهلك بالموت، بل تكون لذته أكثر، وضوؤه أكبر؛ لأنه خرج من الظلمة إلى الضوء.

أما الطريق إلى هذه المعرفة.. فقد اختلفت فيها الخلائق.. وقد طلبت مني أن أصف لك أخصر الطرق وأيسرها، وأقربها إلى تحصيل المراد.. وأنا سأجيبك إلى طلبك..

فاعلم أن أقرب الطرق إلى الله هو طريق اسمه (الودود).. فبهذا الاسم يتقرب العباد إلى ربهم.. وبه يسيرون إليه.. وبه يصلون إليه.

فلا يمكن لقلب أن يعرف ربه ما لم يعرفه ربه.. هكذا تحدث جميع الأولياء..

وقد وصفوا الطريق المختصر لذلك، فذكروا أن أن القلب مثل المرآة، وأن فيه استعدادا جبليا لمطالعة أنوار الملكوت.

فإذا جلس في مكان خال، وعطل طريق الحواس، وفتح عين الباطن وسمعه، وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت، وقال دائما: (الله – الله – الله) بقلبه، ولسانه، إلى أن يصير لا خير معه من نفسه، ولا من العالم، ويبقى لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى انفتحت تلك الطاقة، وأبصر في اليقظة الذي يبصره في النوم؛ فتظهر له أرواح الملائكة، والأنبياء، والصور الحسنة الجملية، وانكشف له ملكوت السماوات والأرض، ورأى ما لا يمكن شرحه ولا وصفه، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغربها)، وقال الله عز وجل:{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)} (الأنعام)، لأن علوم الأنبياء – عليهم السلام – كلها كانت من هذا الطريق، لا من طريق الحواس، كما قال تعالى:{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)} (المزمل)، معناه: الانقطاع عن كل شيء، وتطهير القلب من كل شيء، والابتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية.

وهذه الدرجة الكبيرة مختصرة من طريق النبوة، وكذلك علم الأولياء؛ لأنه وقع في قلوبهم بلا واسطة من حضرة الحق، كما قال تعالى:{ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} (الكهف)

وهذه الطريق لا تفهم إلا بالتجربة، وإن لم تحصل بالذوق لم تحصل بالتعليم.. والواجب التصديق بها حتى لا تحرم شعاع سعادتهم، وهو من عجائب القلب. ومن لم يبصر لم يصدق، كما قال تعالى:{ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)} (يونس)، وقوله:{.. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)} (الأحقاف)

ولا تحسب أن هذا خاص بالأنبياء والأولياء؛ لأن جوهر ابن آدم في أصل الخلقة موضوع لهذا كالحديد لأن يعمل منه مرآة ينظر فيها صورة العالم، إلا الذي صدأ فيحتاج إلى إجلاء، أو جدب فيحتاج إلى صقل أو سبك لأنه قد تلف.

وكذلك كل قلب إذا غلب عليه الشهوات والمعاصي لم يبلغ هذه الدرجة وإن لم تغلب عليه تلك الدرجة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة)([23])، وقال تعالى:{ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا..(172)} (الأعراف).. وكذلك بنو آدم في فطرتهم التصديق بالربوبية كما قال تعالى:{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} (الروم)، والأنبياء والأولياء هم بنو آدم، قال تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. (110)} (الكهف)

فكل من زرع حصد، ومن مشى وصل، ومن طلب وجد)

قال: هل كتبت كل ما طلبت منك كتابته؟

قلت: أجل.. لقد كتبت كل ما طلبت مني.. ولكني محتار في صاحب الرسالة.. لقد وجدتها في يدي فجأة، وأنا لا أعلم لمن أوصلها.

قال: فاحتفظ بالكتاب لنفسك.. وسيأتي اليوم الذي تعرف فيه أصحاب الرسالة.

قلت: ولكنها أمانة.. ولابد أن أوصلها إلى أهلها في أقرب وقت.. ولا يمكنني أن أفعل ذلك ما لم أعرف صاحبها الآن.

قال: لكل شيء أوانه.. خذ هذه الرسالة.. وخزنها عندك.. وارحل بها إلى كل محل.. فربما ترى أهلها في يوم من الأيام.. وحينذاك اقرأها عليهم، وبلغهم سلامي.

***

أخرج لنا جاستن ورقة من جيبه، وقال: هذه هي الرسالة التي أملاها علي الغزالي.. وهي التي جعلتني أذكر تلك الأيام الجميلة التي تحركت فيها للبحث عن ربي..

قلنا: فكيف وجدتها؟

قال: عندما ذكر لي ذلك خبأتها في حقيبة من الحقائب التي أضع فيها حاجاتي النفيسة.. وقد غفلت عنها بسبب الأهواء التي اجتذبتني.. وبينما كنت اليوم أنظر في تلك الحقيبة إذا بي أجدها، وأجد معها كل تلك الذكريات الجميلة التي ذكرتها لكم.

قلنا جميعا بصوت واحد: لاشك أن الغزالي كتب هذه الرسالة لنا.. فهلم نفعل ما أمرنا به.. فلعل الله أن يفتح علينا بذكر اسمه ما فتح على أوليائه وقديسيه.

***

قلنا ذلك، ثم رحنا جميعا نردد بصوت واحد (الله.. الله.. الله).. وبقينا على ذلك إلى أن مر اليوم جميعا من غير أن نشعر به.. ولا أن نشعر بما حولنا.. لقد عرفنا بالذوق ما لم نستطع معرفته بتقليب الأدلة.. ووجوه النظر..

لقد تجلى لنا في ذلك الحين ما لا تستطيع قراطيس الدنيا جميعا أن تعبر عنه.


([1]) كما ذكرنا في الفصول الماضية السبل النقلية والعقلية للتعرف على الله، فإنا سنحاول في هذا الفصل التعرف على المنهج العرفاني أو الصوفي، وهو منهج من المناهج الشرعية.. بل هو أقرب المناهج إلى الشريعة، وأيسرها على العامة والخاصة.. وقد اخترنا أن نجعله في خاتمة الفصول باعتبار هذا المنهج هو المنهج الذي آل إليه الكثير من المتكلمين.. وهذا لا يعني الانتقاص من سائر المناهج.. بل نرى تكاملها.. فالمناهج العقلية والنقلية تخاطب العقل.. وهذا المنهج يخاطب الوجدان.. ولا تناقض إن اختلف محل الخطاب.

([2])  يعترض البعض على ذكر الله بهذه الصيغة، وهو اعتراض غير وجيه من وجوه متعددة:

منها أنه ورد في الحديث عن النبي r مشروعية هذا الذكر، ففي الحديث عن النبي r قال: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله، الله)، وفي رواية عنه:(لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله، الله) (رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان)

وروى أحمد في الزهد عن ثابت قال: كان سلمان في عصابة يذكرون الله فمر النبي r فكفوا فقال: ما كنتم تقولون؟ قلنا: نذكر الله ، الله، فقال: إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها ثم قال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر معهم.

ومنها أن الكثير من العلماء أفتوا بمشروعية ذلك بناء على ما ورد من النصوص، فقد قال العلامة ابن عابدين في حاشيته الشهيرة عند شرح البسملة وتبحثه عن لفظ (الله) روى هشام عن محمد عن أبي حنيفة أنه أي الله اسم الله الأعظم، وبه قال الطحاوي: وكثير من العلماء وأكثر العارفين حتى أنه لا ذكر عندهم لصاحب مقام فوق الذكر به كما في شرح التحرير لابن أمير حاج. (حاشية ابن عابدين ج1ص5 -7)

وقال الخادمي:(واعلم أن اسم الجلالة (الله) هو الاسم الأعظم عند أبي حنيفة والكسائي والشعبي وإسماعيل بن إسحاق وأبي حفص وسائر جمهور العلماء وهو اعتقاد جماهير مشايخ الصوفية ومحققي العارفين فإنه لا ذكر عندهم لصاحب مقام فوق مقام الذكر باسم الله مجردا قال الله لنيه المصطفى r: ﴿قل الله ثم ذرهم﴾.

وقال الجنيد: (ذاكر هذا الاسم (الله) ذاهب عن نفسه متصل بربه قائم بأداء حقه ناظر إليه بقلبه قد أحرقت أنوار الشهود صفات بشريته)

وقال ابن عجيبة:(فالاسم المفرد (الله) هوسلطان الأسماء وهو اسم الله الأعظم ولا يزال المريد يذكره بلسانه ويهتز به حتى يمتزج بلحمه ودمه وتسري أنواره في كلياته وجزئياته..)( تجريد ابن عجيببة على شرح متن الأجرومية ص 15)

وقال أبو العباس المرسي:(ليكن ذكرك (الله، الله) فإن هذا الاسم سلطان الأسماء وله بساط وثمرة فبساطه العلم وثمرته النور وليس النورمقصودا لذاته بل لما يقع به من الكشف والعيان فينبغي الإكثار من ذكره واختياره  على سائر الأذكار لتضمنه جميع ما في (لا إله إلا الله) من العقائد والعلوم والآداب والحقائق) (نور التحقيق ص 174)

ومن المعاصرين يقول محمد سعيد رمضان البوطي: (ولكن عامة المسلمين من غيرهم أي الذين ينكرون الذكر بالاسم المفرد (الله) لا يجدون حرجا من ان يذكروا الله بأي من أسمائه وصفاته المفردة أو يذكروه بشيء من الصيغ أو الجمل الدالة على معنى يتضمن حكما من أحكام التوحيدأو التنزيه ودليلهم على ذلك صريح قول الله عز وجل ﴿واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا﴾ (الأعراف:25).. ومن المعلوم أن أول أسمائه تعالى الله، وقال تعالى ﴿واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين﴾( الأعراف: 205)

وذكر الله في النفس أعم من أن يقيد بمدلول جملة ذات معنى متكامل يتضمن حكما من أحكام التوحيد او التنزيه فإن الجملة من مستلزمات التراكيب اللفظية والذكر النفسي قد لا يعتمد على شيء من هذه التراكيب وإنما يكون بإجراء اسم الجلالة أو أي صفة من صفات الله تعالى كالخالق الرزاق المصور الحكيم.. وغيرها على القلب بحيث يكون يقظا لشهود الله تعالى ففي اسمه المفرد أو أي صفة من صفاته المعروفة. (السلفية، البوطي، ص 193- 194)

أما ما يورده بعضهم من أن الاسم الله المفرد لا يؤلف جملة مفيدة تامة يحسن السكوت عليها كقولنا الله غفور، فقد أجاب العلماء على ذلك بأن الذاكر باسم الله المفرد إنما يخاطب الله وحده وهو جل جلاله عالم بما في نفسه مطلع على سريرته فلا يشترط في الخطاب معه ما يشترط في الخطاب مع البشر من جعل الكلام تاما مفيدا يحسن السكوت عليه.

وقول (الله ، الله) إنما هو نداء بحذف أداة النداء وأصله ( يا الله، يا الله) كقوله تعالى ﴿يوسف أعرض عن هذا﴾( يوسف: 29)، وأصله يا يوسف، ثم إن المنادى عند النحويين مفعول به لفعل محذوف وأصل الكلام (أدع الله) وقد يكون المبتدأ الله والخبر الله أو اسم من أسماء الله عز وجل، ويكون هناك في القلب ( العفو، الرحيم..) وذلك كما أراد أحدهم أن يشبه شجاعة زيد بشيء آخر فلم يستطع فقال: زيد زيد.

([3])أشير به إلى (جاستن مارتن)، وهو المعروف بـ (جاستن الشهيد) ، وقد وُلد في إحدى مدن السامرة في فلسطين سنة 89م، وآمن بالمسيحية سنة 133م، واشتهر في سنة 140م إلى أن استُشهد سنة 168.. وقد كتب عدَّة كتب دفاعاً عن المسيحية، منها رسالة للإمبراطور (تيطس أنطونيوس بيوس)، ورسالة للإمبراطور (ماركوس أنطونيوس) ولأعضاء مجلس الشيوخ في روما ولسكانها.. وله محاورة مع (تريفو اليهودي) باقية إلى الآن، وهي تُظهر تبحّره في فلسفة فيثوغورس وأفلاطون، وأنه رأى أن الأسلم التمسّك بالمسيحية.. وتكلم عن الأناجيل الأربعة، وقال: إن المسيحيين كانوا يتعبدون بتلاوتها في معابدهم، وتكلم عن رسائل بولس وبطرس ويوحنا وسفر الرؤيا.. (انظر: شبهات وهمية، للدكتور القس منيس عبد النور)

وقد اخترناه هنا لبيان أن الأديان في أصلها لا تختلف في كون الله ودودا، وسنرى في هذا الفصل من النصوص من الكتاب المقدس ما يدل على ذلك.

([4]) انظر رسالة (سلام للعالمين) فصل (القلب)

([5])  ومما ورد في ذلك الحورا قوله: (وانا بعيد كل البعد من أن اضع ثقتي في معلميك (اليهود) الذين يرفضون الإعتراف بالنسخة السبعينية التي ترجمها السبعون الذين كانوا مع بطليموس (بأمر من بطليموس) ملك مصر، وأخذوا في تلفيق نسخة أخري. وأرغب منك أن تدرك انهم حذفوا كليا نصوصا كثيرة من تلك النسخة التي ترجمها السبعون ان هذا الرجل الذي صلب عبر عنه بتعبيرات تثبت انه إله وانسان وانه يصلب ويموت، ولأني أعلم أنكم لا تقرون بذلك فسوف أتجنب تلك النقاط وسوف أناقشك معتمدا علي النصوص التي مازلتم تعترفون بها.

لقد أقررت بالنصوص التي ذكرتها لك لكنك تعارض المعني (ها العذراء تلد) لكنك تقول ان النص يقرأ (ها امراة شابة تحبل)، وقد وعدتك أني سوف ابرهن لك ان النبوة  لا يشير الي حزقيا كما علموك ولكن تشير الي المسيح والآن اليك الدليل..

وهنا قال تريفو: نسألك أولا، وقبل أي شيء أن تخبرنا عن تلك النصوص التي تزعم أنها مسحت كليا؟

قال جاستن: سوف أفعل كما تحب: من نص عزرا الذي ذكر فيه شرائع عيد الفصح أزالوا عنه ما يلي:( وقال عزرا للناس , هذا الفصح هو مخلصنا وملجأنا, إن فهمتم ذلك وآمنت قلوبكم , وتواضعنا له وكان رجاءنا فيه فلن يهجر هذا المكان الي الأبد ,  هكذا يقول السيد رب الجنود، ولكن ان لم تؤمنوا ولم تسمعوا له تكونون سخرية الأمم) (هذا النص اختفي تماما. أشار اليه آدم كلارك في تفسيره لعزرا 10:44)

ومن أرميا أزالوا النص التالي (انا (كنت) كشاة سيقت الي الذبح، ولم أعلم انهم تآمروا علي قائلين لنفسد عليه خبزه ونقطع ذكره من أرض الاحياء)( يبدوا أن محاولات إخفاء هذا النص فشلت فلم يختف، فهو في(ارميا 11:19)

ولكن نص ارميا مازال يوجد في بعض النسخ اليهود لأن ازالتها تمت حديثا، ومن هذا النص يتضح ان اليهود تشاوروا عن المسيح ليصلبوه ويقتلوه، وهو أيضا الذي تنبأ عنه اشعياء في انه سوف يساق كالخروف إلى الذبح مصورا اياه في شكل حمل وديع، وكونهم في موقف صعب  منها أجدفوا.

ومن أرميا ايضا أزالوا النص القائل: (الرب الإله تذكر شعبه الميت من اليهود الراقدين في القبور فصعد يبشرهم بالخلاص)

وكلمة الخشب حذفت من (مزمور 96)

ومن مزمور 95 ( 96) قطعوا هذه العبارة الصغيرة (من الخشب) من قول داود:(قولوا أنتم بين الأمم الرب قد ملك بالخشب ( يقصد الصليب) وأبقوا (قولوا انتم بين الأمم)

إلى آخر الحوار، وقد ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (الكلمات المقدسة) من هذه السلسلة.

([6]) أيا صوفيا أروع وأشهر نموذج للعمارة البيزنطية في العالم.. وكانت كاتدرائية بناها جستنيان الأول بين عامي 532 و537م في إسطنبول. وبُنيت قبّةٌ أعلى من القبة الأصلية، بين عامي 558 و 563م بعد أن تشوّهت القبة الأولى، إثر زلزال. واستعمل المبنى مسجدًا بعد عام 1453م، عندما فتح الأتراك المدينة. وأصبحت أيا صوفيا مُتْحَفًا عام 1935م. وتعني عبارة أيا صوفيا في اليونانية القديمة الحكمة المقدسة.

ونرمز بها هنا إلى ما يرمي إليه هذا الفصل من محاولة بيان المنهج العرفاني الصوفي في البحث عن الله.

([7])الودود من أسماء الله تعالى يحتمل معنيان:

أحدهما: أنه الواد لعباده ، أي المحب لهم ، ولهذا قرنه باسمه الغفور إعلاما بأنه يغفر الذنب ويحب التائب منه، ويوده.

والثاني: أنه المودود ، وعلى هذا يكون سر اقتران الودود بالغفور ، هو استدعاؤه مودة العباد له ومحبتهم إياه باسم الغفور.

ولاشك في اقتران كلا المعنين، فالله يحب عباده، وهم يحبونه.

([8]) رواه البخاري وغيره.

([9]) رواه البخاري وغيره.

([10]) من كلام جميل معروف لابن القيم.

([11]) الحكاية في الأصل رواها الجنيد، وقد تصرفنا فيها بما يقتضيه المقام.

([12]) أشير به إلى السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (145 – 208 ه = 762 – 824 م) ها، وعن آبائها، وهي صاحبة المشهد المعروف بمصر، وهي تقية صالحة، عالمة بالتفسير والحديث.. ولدت بمكة، ونشأت في المدينة، وتزوجت إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق..وانتقلت إلى القاهرة فتوفيت فيها.. حجت ثلاثين حجة.. وكانت تحفظ القرآن.. وسمع عليها الامام الشافعي، ولما مات أدخلت جنازته إلى دارها وصلت عليه.. وكان العلماء يزورونها ويأخذون عنها، وهي أمية، ولكنها سمعت كثيرا من الحديث.. ولي أبوها إمرة المدينة للمنصور، ثم حبسه دهرا..ودخلت هي مصر مع زوجها (انظر: الأعلام، للزركلي)

([13])  هذا الذي نذكره من قولها من كلام ابن القيم في الجواب الكافي، ص 38.

([14]) هذا الكلام الحكيم ليحيى بن معاذ.

([15]) هذا التحليل العقلي كما هو ظاهر للغزالي من (مشكاة الأنوار)، بتصرف اقتضاه المقام.

([16])أشير به إلى الشيخ الجليل (عبد القادر الجيلاني)، وهو عبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلي ثم البغدادي، ولد بجيــلان في ايران، ووفد بغداد شاباً سنـة 488هـ، وتفقه على عدد من مشايخها خاصة أبي سعيد المُخَرَّمي.. جلس للوعظ سنة 520ﻫ، وحصل له القبول من الناس، واعتقدوا ديانته وصلاحه، وانتفعوا بكلامه ووعظه.

صنف مصنفات كثيرة في الأصول والفروع وفي أهل الأحوال والحقائق منها ما هو مطبوع ومنها مخطوط ومنها (إغاثة العارفين وغاية منى الواصلين)، و(أوراد الجيلاني)، و(آداب السلوك والتوصل إلى منازل السلوك)، و(تحفة المتقين وسبيل العارفين)، و(جلاء الخاطر في الباطن والظاهر)، و(حزب الرجاء والانتهاء)، و(رسالة في الأسماء العظيمة للطريق إلى الله)، و(الغُنية لطالبي طريق الحق)، وهو من أشهر كتب الشيخ في الأخلاق والآداب الإسلامية وهو جزءان، و(الفتح الرباني والفيض الرحماني): وهو من كتب الشيخ المشهورة وهو عبارة عن مجالس للشيوخ في الوعظ والإرشاد.. و(فتوح الغيب)، ومن هذه الكتاب استفدنا ما نذكره عنه.

([17])  من (فتوح الغيب) المقالة السابعة والسبعون فـي الـوقـوف مـع الله و الـفـنـاء عـن الـخـلـق (بتصرف)

([18])انظر: المقالة الثامنة والخمسون فـي صـرف الـنـظـر عـن كـل الـجـهـات، و طـلـب جـهـة فـضـل الله تـعـالـى (بتصرف)

([19]) هذه المناجاة مروية عن الإمام الحسين، وعن ابن عطاء الله السكندري.. ولا حاجة للتحقيق في الأصح منهما، لأن المعاني الواردة فيها معان ورد مثلها عن أهل البيت.. والعبرة بالمعاني لا بكسوة الألفاظ.

([20]) سنذكر هنا ـ بتصرف ـ بعض ما أورده ابن عطاء الله في حكمه من الطريق إلى معرفة الله على منهج أهل المحبة.

([21]) لا نريد بهذا ما يفهمه البعض من الجهة، فقد ذكرنا أن الله تعالى عنها وتقدس، ولكنا نريد ما تعارفنا عليه مما هو من باب تعظيم الله، لا من باب تحديد الجهة.

([22]) هذه الرسالة ملخصة بتصرف من (كيمياء السعادة) للغزالي.

([23]) رواه البخاري ومسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *