عاشرا ـ الصمد

عاشرا ـ الصمد

بعد أن أمضينا ما يقرب من اليوم نلهج مع صاحبنا (جاستن مارتن) بذكر اسم الله.. وفي الثلث الأخير من الليل.. شعرنا بروحانية تسري في كل خلية من خلايانا، بل في كل ذرة من ذراتنا.. فاستحال كل شيء أمامنا أنوارا صرفة تدلنا على الله، وتعرفنا به.

في ذلك الحين، وفي ظلال تلك اللذة الروحانية العميقة، قام صاحبنا الأول الذي ذكرته لك في بداية حديثي عن رحلتي هذه..

قام، وقال: أبشروا أيها الجمع المبارك.. فالرب الذي عرفتموه هو (الله) الحقيقي الذي إذا دعي أجاب، وإذا سئل أعطى، وإذا استعيذ أعاذ.. وقد من الله علي، فعرفت من أسرار إجابته ما أريد أن أحدثكم به اليوم، على درب من سبقني من المتحدثين.

لقد حدثكم من قبلي عن الله الواحد القدوس الحميد البديع الملك العدل الرحيم الودود.. وأنا سأحدثكم عن الله الصمد المجيب الذي لا يرد من سأله، ولا يخيب من أمل فيه وفي فضله.

وقبل أن أحدثكم حديث هذه الأسماء، أحب أن أعرفكم باسمي.. وسر علاقتي بهذه الأسماء.

أما اسمي فهو (محمد)..

أما مسماي، فهو مسمى رجل سار في كل الأرض يبحث له فيها عن ملجأ ممن يحاربونه ويطاردونه.. وهو ينتظر بكل شوق ذلك اليوم الذي يتقدم فيه لرفع رفع راية الله لتنشر أنوارها على العالم أجمع.

اندهشت الجماعة المحيطة به من قوله هذا، ورددوا جميعا: فأنت مسلم إذن؟

قال: أجل.. أنا مسلم بفضل الله وحمده ومنته.

قال واحد من الجمع: فلم لم تبادر بتعريفنا بربنا؟

قال آخر: لم تركتنا نخوض غمار البحث الشاق المجهد بنفوسنا الضعيفة القاصرة؟

قال آخر: لم تركت لعقولنا الحرية في البحث عن ربنا، وأنت تعرفه.. ألم يكن الأولى بك أن تتقدم، فتقود جمعنا لتسير به إلى الله؟

ابتسم محمد، وقال: أولا.. لقد استننت في هذا بسنة أبي إبراهيم – عليه السلام -.. فقد ذكر الله من أساليب دعوته لقومه هذا الأسلوب، فقال:{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} (الأنعام)

انظروا كيف مهد إبراهيم – عليه السلام – بهذه التمهيدات جميعا ليعرف الخلق بالخالق.

هذا أولا.. أما ثانيا.. فقد رأيت أني لو بدأت وبادرت بالحديث عما علمني ديني من المعارف المرتبطة بربي.. لانتفض كل واحد منكم وثارت فيه من النخوة ما يدعوه إلى الدعوة لدينه والتعصب له، لذلك آثرت أن تكونوا أنتم أول المتحدثين.

والحمد لله.. فإني أرى الله قد فتح عليكم من المعارف ما جعلكم أهلا لأن تحقق لكم المطالب، وترفع لكم الحاجات.. وهذا الوقت وقت مبارك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الله يجيب فيه من سأله، ويعطي فيه من طلبه.

قال رجل منا: أهذا هو الوقت الوحيد الذي يجيب الله فيه السائلين؟

قال محمد: لا.. الله جواد كريم يجيب عباده في كل الأوقات.. ولكل الحاجات.. ولكن هذا الوقت كأوقات أخرى كثيرة يمتلئ بالنورانية.. وهي مناسبة جليلة لصفاء النفس، ورقة القلب وسمو الروح.. والدعاء لا يرفع إلا إذا صدر من روح سامية ونفس صافية وقلب رقيق.

ولذلك أدعوكم –إخواني – لترفعوا أيديكم إلى الله.. وادعوه.. وناجوه([1]).. فقد ألهمني الله بأنه سيستجيب في هذا الحين لكل ما تطلبونه.

***

رفع أحدنا يديه، وقال([2]): إلهي ألبستني الخطايا ثوب مذلتي، وجللني التباعد منك لباس مسكنتي، وأمات قلبي عظيم جنايتي، فأحيه بتوبة منك يا أملي وبغيتي، ويا سؤلي ومنيتي، فو عزتك ما أجد لذنوبي سواك غافرا، ولا أرى لكسري غيرك جابرا، وقد خضعت بالانابة إليك، وعنوت بالاستكانة لديك، فإن طردتني من بابك فبمن ألوذ!؟ وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ!؟ فوا أسفا من خجلتي وافتضاحي، ووالهفا من سوء عملي واجتراحي!

إلهي هل يرجع العبد الآبق إلا إلى موالاه!؟ أم هل يجيره من سخطه أحد سواه!؟

إلهي إن كان الندم على الذنب توبة، فإني وعزتك من النادمين، وإن كان الاستغفار من الخطيئة حطة فإني لك من المستغفرين، لك العتبى حتى ترضى.

يا مجيب المضطر، يا كاشف الضر، يا عظيم البر، يا عليما بما في السر، يا جميل الستر استشفعت بجودك وكرمك إليك، وتوسلت بجنابك وترحمك لديك، فاستجب دعائي، ولا تخيب فيك رجائي، وتقبل توبتي، وكفر خطيئتي بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

***

رفع آخر يديه، وقال([3]): إلهي إليك أشكو نفسا بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الامل، إن مسها الشر تجزع، وإن مسها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوء ة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة، وتسوفني بالتوبة.

إلهي أشكو إليك عدوا يضلني، وشيطانا يغويني، قد ملأ بالوسواس صدري، وأحاطت هواجسه بقلبي، يعاضد لي الهوى، ويزين لي حب الدنيا، ويحول بيني وبين الطاعة والزلفى.

إلهي إليك أشكو قلبا قاسيا، مع الوسواس متقلبا، وبالرين والطبع متلبسا، وعينا عن البكاء من خوفك جامدة، وإلى ما يسرها طامحة.

إلهي لا حول ولا قوة إلا بقدرتك، ولا نجاة لي من مكاره الدنيا إلا بعصمتك. فأسألك ببلاغة حكمتك، ونفاذ مشيتك، أن لا تجعلني لغير جودك متعرضا، ولا تصيرني للفتن غرضا، وكن لي على الاعداء ناصرا، وعلى المخازي والعيوب ساترا، ومن البلايا واقيا، وعن المعاصي عاصما، برأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

***

رفع آخر يديه، وقال([4]): إلهي أتراك بعد الايمان بك تعذبني!؟ أم بعد حبي إياك تبعدني!؟ أم مع رجائي لرحمتك وصفحك تحرمني!؟ أم مع استجارتي بعفوك تسلمني!؟ حاشا لوجهك الكريم أن تخيبني، ليت شعري أللشقاء ولدتني أمي، أم للعناء ربتني!؟ فليتها لم تلدني ولم تربني، وليتني علمت أمن أهل السعادة جعلتني؟ وبقربك وجوارك خصصتني؟ فتقر بذلك عيني وتطمئن له نفسي.

***

رفع آخر يديه، وقال([5]): يا من إذا سأله عبد أعطاه، وإذا أمل ما عنده بلغه مناه، وإذا أقبل عليه قربه وأدناه، وإذا جاهره بالعصيان ستر على ذنبه وغطاه، وإذا توكل عليه أحسبه وكفاه.

إلهي من الذي نزل بك ملتمسا قراك فما قريته!؟ ومن الذي أناخ ببابك مرتجيا نداك فما أوليته!؟ أيحسن أن أرجع عن بابك بالخيبة مصروفا، ولست أعرف سواك مولى بالاحسان موصوفا!؟ كيف أرجو غيرك والخير كله بيدك!؟ وكيف أؤمل سواك والخلق والامر لك!؟ أأقطع رجائي منك وقد أوليتني مالم أسإله من فضلك؟ أم تفقرني إلى مثلي وأنا أعتصم بحبلك!؟ يا من سعد برحمته القاصدون، ولم يشق بنقمته المستغفرون كيف أنساك ولم تزل ذاكري!؟ وكيف ألهو عنك وأنت مراقبي!؟ إلهي بذيل كرمك أعلقت يدي، ولنيل عطاياك بسطت أملي، فأخلصني بخالصة توحيدك، واجعلني من صفوة عبيدك.

***

رفع آخر يديه، وقال([6]): إلهي إن كان قل زادي في المسير إليك، فلقد حسن ظني بالتوكل عليك، وإن كان جرمي قد أخافني من عقوبتك، فإن رجائي قد أشعرني بالأمن من نقمتك، وإن كان ذنبي قد عرضني لعقابك، فقد آذنني حسن ثقتي بثوابك، وإن أنامتني الغفلة عن الاستعداد للقائك، فقد نبهتني المعرفة بكرمك وآلائك، وإن أوحش ما بيني وبينك فرط العصيان والطغيان، فقد آنسني بشرى الغفران والرضوان.

إلهي استشفعت بك إليك، واستجرت بك منك، أتيتك طامعا في إحسانك، راغبا في امتنانك، مستسقيا وابل طولك، مستمطرا غمام فضلك، طالبا مرضاتك، قاصدا جنابك، واردا شريعة رفدك ملتمسا سني الخيرات من عندك، وافدا إلى حضرة جمالك، مريدا وجهك، طارقا بابك، مستكينا لعظمتك وجلالك، فافعل بي ما أنت أهله من المغفرة والرحمة ولا تفعل بي ما أنا أهله من العذاب والنقمة برحمتك يا أرحم الراحمين.

***

رفع آخر يديه، وقال([7]): اللهم ألهمنا طاعتك، وجنبنا معصيتك، ويسر لنا بلوغ ما نتمنى من ابتغاء رضوانك، وأحللنا بحبوحة جنانك، واقشع عن بصائرنا سحاب الارتياب، واكشف عن قلوبنا أغشية المرية والحجاب، وأزهق الباطل عن ضمائرنا، وأثبت الحق في سرائرنا، فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن، ومكدرة لصفو المنائج والمنن.

اللهم احملنا في سفن نجاتك، ومتعنا بلذيذ مناجاتك، وأوردنا حياض حبك، وأذقنا حلاوة ودك وقربك، واجعل جهادنا فيك، وهمنا في طاعتك، وأخلص نياتنا في معاملتك، فإنا بك ولك، ولا وسيلة لنا إليك إلا أنت. إلهي اجعلني من المصطفين الاخيار، وألحقني بالصالحين الابرار، السابقين إلى المكرمات المسارعين إلى الخيرات، العاملين للباقيات الصالحات، الساعين إلى رفيع الدرجات، إنك على كل شئ قدير، وبالاجابة جدير، برحمتك يا أرحم الراحمين.

***

رفع آخر يديه، وقال([8]):  سبحانك ما أضيق الطرق على من لم تكن دليله! وما أوضح الحق عند من هديته سبيله! إلهي فاسلك بنا سبل الوصول إليك، وسيرنا في أقرب الطرق للوفود عليك، قرب علينا البعيد، وسهل علينا العسير الشديد، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإياك في الليل والنهار يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون الذين صفيت لهم المشارب، وبلغتهم الرغائب، وأنجحت لهم المطالب، وقضيت لهم من فضلك المآرب، وملات لهم ضمائرهم من حبك، ورويتهم من صافي شربك، فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا، ومنك أقصى مقاصدهم حصلوا، فيامن هو على المقبلين عليه مقبل، وبالعطف عليهم عائد مفضل، وبالغافلين عن ذكره رحيم رؤوف، وبجذبهم إلى بابه ودود عطوف.

***

رفع آخر يديه، وقال([9]):  إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا.

إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودك ومحبتك، وشوقته إلى لقائك، ورضيته بقضائك، ومنحته بالنظر إلى وجهك، وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك وقلاك، وبوأته مقعد الصدق في جوارك، وخصصته بمعرفتك، وأهلته لعبادتك وهيمت قلبه لارادتك، واجتبيته لمشاهدتك، وأخليت وجهه لك، وفرغت فؤاده لحبك، ورغبته فيما عندك، وألهمته ذكرك وأوزعته شكرك، وشغلته بطاعتك، وصيرته من صالحي بريتك واخترته لمناجاتك، وقطعت عنه كل شئ يقطعه عنك. اللهم اجعلنا ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين، ودهرهم الزفرة والأنين، جباهم ساجدة لعظمتك، وعيونهم ساهرة في خدمتك ودموعهم سائلة من خشيتك، وقلوبهم متعلقة بمحبتك، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك. يا من أنوار قدسه لابصار محبيه رائقة، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة. يا منى قلوب المشتاقين، ويا غاية المحبين. أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يوصلني إلى قربك،. أن تجعلك أحب إلي مما سواك، وأن تجعل حبي إياك قائدا إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائدا عن عصيانك، وامنن بالنظر إليك علي وانظر بعين الود والعطف إلي، ولا تصرف عني وجهك، واجعلني من أهل الاسعاد والحظوة عندك، يا مجيب يا أرحم الراحمين.

***

رفع آخر يديه، وقال([10]):  إلهي ليس لي وسيلة إليك إلا عواطف رأفتك، ولا لي ذريعة إليك إلا عوارف رحمتك وشفاعة نبيك، نبي الرحمة، ومنقذ الامة من الغمة، فاجعلهما لي سببا إلى نيل غفرانك، وصيرهما لي وصلة إلى الفور برضوانك، وقد حل رجائي بحرم كرمك، وحط طمعي بفناء جودك، فحقق فيك أملي، واختم بالخير عملي، واجعلني من صفوتك الذين أحللتهم بحبوحة جنتك، وبوأتهم دار كرامتك، وأقررت أعينهم بالنظر إليك يوم لقائك، وأورثتهم منازل الصدق في جوارك. يا من لا يفد الوافدون على أكرم منه، ولا يجد القاصدون أرحم منه، يا خير من خلا به وحيد، ويا أعطف من آوى إليه طريد. إلى سعة عفوك مددت يدي، وبذيل كرمك أعلقت كفي، فلا تولني الحرمان، ولا تبلني بالخيبة والخسران، يا سميع الدعاء يا أرحم الراحمين.

***

رفع آخر يديه، وقال([11]):  إلهي كسري لا يجبره إلا لطفك وحنانك وفقري لا يغنيه إلا عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكنها إلا أمانك، وذلتي لا يعزها إلا سلطانك، وأمنيتي لا يبلغنيها إلا فضلك، وخلتي لا يسدها إلا طولك، وحاجتي لا يقضيها غيرك، وكربي لا يفرجه سوى رحمتك، وضري لا يكشفه غير رأفتك، وغلتي لا يبردها إلا وصلك، ولوعتي لا يطفيها إلا لقاؤك، وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إلى وجهك، وقراري لا يقر دون دنوي منك، ولهفتي لا يردها إلا روحك، وسقمي لا يشفيه إلا طبك، وغمي لا يزيله إلا قربك، وجرحي لا يبرئه إلا صفحك، ورين قلبي لا يجلوه إلا عفوك، ووسواس صدري لا يزيحه إلا أمرك. فيا منتهى أمل الآملين، ويا غاية سؤل السائلين، ويا أقصى طلبة الطالبين، ويا أعلى رغبة الراغبين، ويا ولي الصالحين، ويا أمان الخائفين، ويا مجيب دعوة المضطرين، ويا ذخر المعدمين، ويا كنز البائسين، ويا غياث المستغيثين، ويا قاضي حوائج الفقراء والمساكين، ويا أكرم الاكرمين، ويا أرحم الراحمين. لك تخضعي وسؤالي، وإليك تضرعي وابتهالي. أسألك أن تنيلني من روح رضوانك وتديم علي نعم امتنانك. وها أنا بباب كرمك واقف، ولنفحات برك متعرض، وبحبلك الشديد معتصم، وبعروتك الوثقى متمسك. إلهي ارحم عبدك الذليل، ذا اللسان الكليل والعمل القليل وامنن عليه بطولك الجزيل، واكنفه تحت ظلك الظليل، يا كريم يا جميل، يا أرحم الراحمين.

***

بقينا على هذه الحال إلى أن طلعت الشمس من غير أن نشعر بها، ولا أن نشعر بشيء مما حولنا.. فقد جعلنا ذكر الله ومناجاته نعيش في عوالم من الأنس لم نر مثلها طيلة حياتنا.

لكنا فجأة.. ونحن على تلك الحال التي وصفتها لك، سمعنا شهيقا وبكاء كثيرا استغربنا له.. فقد كان له من الصدى ما لم يكن لأصواتنا المحدودة أن تحدثه.

فتحنا أعيننا، والتفتنا إلى ما حولنا، فوجدنا ناسا كثيرين يحيطون بنا، وهم يرفعون أيديهم إلى السماء كما نرفعها، وتنحدر الدموع من مآقيهم مثلما تنحدر من مآقينا.

لقد ملأنا ذلك المشهد بالعجب.. فراح أحدنا يسألهم عن سرهم وسر حضورهم، فقام أحدهم، وقال: نحن قوم من أهل هذه البلاد.. طردتنا الأرض، أو طردنا أهل الأرض، فلم نجد ملجأ إلا هذه الأرض الوعرة التي وقعتم فيها، وقد كنا نسأل رب هذا الكون كل حين أن يدلنا عليه، وأن يعرفنا به، وأن يأوينا إذ طردنا الناس، وأن يحمينا إذ قهرنا الناس، وأن يقربنا إذ قلانا الناس.. وها قد استجاب لنا ربنا.. فقد سمعنا من ذكركم لربكم ومناجاتكم له ما زادنا معرفة به، وحبا له، وأنسا به.

ونحن نشعر الآن أننا قد ولدنا ولادتنا الحقيقية.. فلا خير في حياة لا يعرف صاحبها ربه.. ولا خير في عيش لا يأنس صاحبه فيه بملك هذا الوجود ومالكه ومدبر أمره.

قال آخر: أنتم أهل الله الذين ظللنا نحلم بأن نراكم، ونسمع كلامكم، ويسري إلينا من أحوالكم ما يخرجنا من أوهام النفوس ودجل الشياطين.

قال آخر: لقد من الله علينا أخيرا فأرسل لنا من دلنا عليه، ونحن شاكرون فضله، حامدون نعمته، ولا نطلب منه إلا أن يذيقنا من الأنس به والشوق له ما أذاقكم، وأن يسقينا من الشراب الذي سقاكم.

قال آخر: بينما كنا في بيوتنا نأوي إلى الظلمة والفناء.. ونحلم بالعدم والألم.. سمعنا صياحكم باسم (الله).. لقد كانت صيحات حارة قوية أشعلت في قلوبنا من الأشواق ما لم تشعله أي صيحة.. فلذلك جئنا على رؤوس أقدامنا نسعى لنشرب معكم من ذلك النبع الذي لا يظمأ من شرب منه.

بعد أن تحدث الجمع بهذه الأحاديث طلبوا منا أن نسير معهم إلى المحل الذي يقيمون فيه، وقد عجبنا إذ رأيناه لا يبعد عنا كثيرا.. ولكن القدر صرفنا عن البحث عنه.. لنبحث بدله عن الله.. وقد حمدنا الله على ذلك.. وعرفنا ما تختزنه الآلام من أنواع النعم التي يحجب عنها الغافلون.


([1]) آثرنا أن نقتصر في هذا الفصل على ذكر بعض ما أثر من مناجاة أولياء الله الرقيقة.. وخاصة مناجاة سجاد آل محمد r.. فهي مناجاة تجمع ألوان المعرفة.. بل هي تعبر عن الحقائق الإيمانية بمنتهى الرقة والجمال.. وهي في قوتها الدلالية أقوى بكثير من كثير من الصيغ الجدلية الممتلئة بالجفاف.

([2])من دعاء السجاد في مناجاة التائبين (ببعض تصرف)

([3]) من دعاء السجاد في مناجاة الشاكين (ببعض تصرف)

([4]) من دعاء السجاد في مناجاة الخائفين (ببعض تصرف)

([5]) من دعاء السجاد في مناجاة الراجين (ببعض تصرف)

([6]) من دعاء السجاد في مناجاة الراغبين (ببعض تصرف)

([7]) من دعاء السجاد في مناجاة المطيعين (ببعض تصرف)

([8]) من دعاء السجاد في مناجاة المريدين (ببعض تصرف)

([9]) من دعاء السجاد في مناجاة المحبين (ببعض تصرف)

([10]) من دعاء السجاد في مناجاة المتوسلين (ببعض تصرف)

([11]) من دعاء السجاد في مناجاة المفتقرين (ببعض تصرف)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *