سابعا ـ العدل

في اليوم التالي لذلك اليوم أيقظنا رجل منا في أعدل أوقات الليل وأسكنها، وهو يقول: استيقظوا إخواني لقد تذكرت أشياء مهمة في حياتي.. لكأني أراها الآن رأي العين.. فهلم لأحدثكم عنها عسانا نقترب بها من ربنا الحقيقي الذي نبحث عنه.
استيقظ جميع أصحابي، وراحوا يمسحون ما بقي من آثار النوم عن عيونهم، وهم يرددون مستبشرين: بورك فيك.. هلم حدثنا.. فما أعظم أشواقنا إلى معرفة ربنا.
جمع صاحبنا أنفاسه، ثم قال: لن أحدثكم عن ربي إلا بعد أن أحدثكم عن نفسي.. فقد علمت من خلال أحاديث رفاقي أن الله تعالى لا يتجلى لعباده إلا بحسب اهتماماتهم وهممهم..
قلنا: فمن أنت؟.. وما كانت همتك؟
قال: أما أنا فقد كنت رجلا من (الهزازين)([1]).. وقد كانت همتي كما كانت همة رفاقي جميعا هي البحث عن العدل والسلام.. ولذلك لم أكن أهتم كثيرا باللاهوت مع أني كنت أزور الكنيسة كل حين.. وأهتز كما يهتز رفاقي جميعا أثناء ممارسة الطقوس الدينية.
قال رجل منا: كيف تزور الكنيسة، وأنت لا تهتم باللاهوت؟
قال: أصدقك القول في هذا.. فأنا مع زيارتي للكنيسة، وانتمائي لجمعية من جمعياتها أبعد الناس عن الله.. ولهذا لم أنظر إلى الكنيسة إلا كمؤسسة يمكنني أن أستثمرها وأتعاون مع أفرادها في تحقيق ما تهفو إليه نفسي من العدل والحب والسلام.
أما الله.. فقد رأيت من خلال قراءاتي للكتاب المقدس أن الحديث عنه لن يزيدني إلا بعدا عن رفاقي الذين ألفتهم وألفوني.. فلذلك كنا في مجالسنا لا نتحدث إلا عن العدل، وعن ترقب المسيح الذي سيأتي بالعدالة المطلقة.. أما الله فلم نكن نتحدث عنه أبدا.
قال الرجل: لم؟
قال: لقد رأيت أن (الله) – بحسب ما تلقننا إياه الكنيسة- تتناقض صفاته مع العدل الذي تنتسب إليه طائفتنا.. ولم نشأ جميعا أن نعكر صفوها بذلك.
قال الرجل: هلا زدتنا توضيحا.
قال: لا بأس.. ولو أن ذلك سيصرفني عما أريد أن أبثه لكم من حقيقة العدل الإلهي الذي لا تطيق العقول تصور حده.
وقبل أن أذكر لهم هذا سأقص عليكم قصة تختصر ما يرطن به قومنا من أحاديث حول الكفارة والفداء وعلاقتها بالعدل الإلهي:
كان هناك أحد الملوك، وكان عنده مجموعة من العبيد، وكان شديد المحبة لهم.. ولكنهم – ولغير سبب معقول- خانوه، وتمردوا عليه، وعصوه، ولم يتركوا شيئاً يغضبه إلا فعلوه، ولم يسمعوا ولا أمرا واحدا له، وهكذا استحقوا عقوبته.. بل إن عقوبته طالت أولادهم وأحفادهم أيضا مع كونهم لم يقعوا فيما وقع فيه آباؤهم.
لكن ذلك الملك الطيب، وبسبب حبه لهم أراد أن يعفو عنهم.. فراح إلى تصرف غريب يقوم به.
لقد كان له ولد طيب هو كأبيه تماما في رحمته وعدله.. وقد رأى الأب أنه لا يعفى عن الأحفاد الذين ورثوا الخطيئة عن الأجداد إلا بتقديم ابنا قربانا لنفسه..
ولذلك عمد إلى ابنه الوحيد، فقربه لهؤلاء العبيد، ثم قال لهم: هذا الولد هو أنا أو كأنه أنا بالضبط، لا فرق بيني وبينه، ولأني أحبكم وأريد أن أسامحكم، فخذوا ابني هذا واضربوه وأهينوه وعذبوه واقتلوه شر قتله على الصليب.. نعم اصلبوه واقتلوه، وبعد هذا سأسامحكم على الخطيئة التي فعلها أجدادكم)
قام أحدنا، وقال: عن أي خرافة تحدثنا؟.. نحن نريد أن نتعرف على ربنا.. وليس لدينا الوقت لنسمع خرافات العجائز.
ابتسم صاحبنا الهزاز، وقال: هذه – للأسف – ليست خرافة.. هذه هي العقيدة التي تريد منا كنائسنا أن نقتنع بها، بل تريد منا أن نؤمن بها… هذه هي عقيدة الصلب والفداء..
انظروا مدى الانحطاط الذي يوقعنا فيه رجال ديننا حين يوهموننا أن رب هذا الكون العظيم بهذه الصفة..
قال رجل منا: ولكن.. ألم يكن يستطيع أن يقول لهؤلاء العبيد اذهبوا فقد سامحتكم؟.. فيسامحهم بكل بساطة كما نفعل عندما نشاء.
قال آخر: ما علاقة ابنه بهؤلاء العبيد؟.. ما ذنب ذلك الابن المسكين الذي ما جاء أساساً إلا ليقتل بلا ذنب ولا خطيئة فعلها؟
قال آخر: كيف يصدق عاقل أن الله يفعل ذلك؟ أين العدل الإلهي في ذلك؟ ألم يكن الله يستطيع أن يقول اذهبوا فقد غفرت لكم؟.. ألم يكن يستطيع ذلك الإله الضعيف أن يغفر للبشر دون أن يصلب ابنه أو يصلب نفسه على الصليب؟ ولماذا يحاسبنا الله على ذنب لم نرتكبه أساسا؟
قال آخر: لا.. لا.. لا يمكن أن يقول هذا الكلام مسيحي يقرأ الكتاب المقدس.. لاشك أن ما تقوله غير صحيح.
قال الهزاز: ليت الأمر كما تقول.. لقد ذكرت لكم أني كنت ابنا للكنيسة.. وقد كان من أول الدروس التي ألزمنا حفظها ما يمكن تسميته بالمفهوم الكنسى للخطيئة الموروثة، وهو أن كل إنسان يولد خاطئاً، لأن أبانا آدم وأمنا حواء عصيا الله وأكلا من الشجرة المحرمة، فوقعا في الخطيئة، وبذلك يكون آدم وزوجته ونسلهم يستحقون جميعاً العقاب على مقتضى العدل الإلهي.
ولكن بما أن رحمة لله تستوجب العفو، فقد نتج عن هذا تناقض بين عدل الله وبين رحمته، فتطلب الأمر شيئاً يجمع بين الرحمة والعدل، فكانت الفدية التي يتم بها ناموس العدل ويتحقق بها ناموس الرحمة!
هذا هو القانون الذي فرضه رجال ديننا على الله..
بل زادوا، فذكروا أن من شروط هذه الفدية أن تكون طاهرة غير مدنسة.. وبما أنه ليس في الكون ما هو طاهر بلا دنس إلا الله.. وبما أن الله لا يمكن أن يكون فدية.. فقد أوجبت المشيئة أن يتخذ الله جسداً يتحد فيه اللاهوت والناسوت؛ أي جسداً يكون إلها وبشراً في الوقت نفسه، فاتحد اللاهوت والناسوت في بطن العذراء، فنتج عن هذا الاتحاد إنساناً كاملاً، من حيث هو ولدها وكان الله في الجسد إلهاً كاملاً([2])، وقد تمثل هذا كله في المسيح الذي أتى ليكون فديه لخلقه.. وكان ذلك هو الفداء.
ثم قدم هذا الإله ذبيحة ليكون ذبحه إعفاء البشر من جريمة الخطيئة، فمن أجل ذلك مات المسيح على الصليب.. وهذا هو الصلب.
وكان هذا كله كفارة لخطايا البشر وتخليصهم من الهلاك.. وهذا هو الخلاص.
ولما كان البشر كلهم خطاه بخطيئة أبيهم آدم وأمهم حواء فهم هالكون، ولا ينجيهم من هذا الهلاك سوى إيمانهم بالمسيح الفادي.
قال رجل منا: ولكن هؤلاء يتناقضون مع أنفسهم..
قال آخر: بل يتناقضون مع الكتاب المقدس.. ففيه النصوص الكثيرة التي يمكن أن نكتشف من خلالها أن الله عادل.. ففيه: (أصغي أيتها السماوات فأتكلم ولتنصت الأرض إلى أقوال فمي. لينهمر تعليمي كالمطر، وليقطر كلامي، فيكون كالطل على الكلإ وكالغيث على العشب. باسم الرب أدعو، فمجدوا عظمة إلهنا. هو الصخر، وصنائعه كلها كاملة، سبله جميعها عدل. هو إله أمانة لا يرتكب جورا، صديق وعادل هو. لقد اقترفوا الفساد أمامه، ولم يعودوا له أبناء بل لطخة عار، إنهم جيل أعوج وملتو أبهذا تكافئون الرب أيها الشعب الأحمق الغبي؟ أليس هو أباكم وخالقكم الذي عملكم وكونكم؟ اذكروا الأيام الغابرة، وتأملوا في سنوات الأجيال الماضية. اسألوا آباءكم فينبئوكم، وشيوخكم فيخبروكم) (تثنية 32: 1- 7)
وفيه: (وقال عن سبط جاد: لتحل البركة على من وسع تخوم جاد حيث يربض جاد هناك كالأسد، يفترس الذراع مع قمة الرأس. اختار خير الأرض لنفسه، واحتفظ لنفسه بنصيب القائد: وعندما اجتمع شيوخ الشعب أجرى حق الرب العادل وأحكامه مع إسرائيل) (تثنية 33:20- 21)
وفيه: ( والآن بعد كل ما جرى علينا من جراء أعمالنا السيئة وآثامنا العظيمة، نعلم أنك عاقبتنا يا إلهنا بأقل من آثامنا، ووهبتنا نجاة مثل هذه. أنعود بعد ذلك ونتعدى على وصاياك ونصاهر الأمم الذين يرتكبون هذه الرجاسات؟ ألا تسخط علينا آنئذ حتى تفنينا فلا تبقى منا بقية ولا نجاة؟ أيها الرب إله إسرائيل، أنت عادل لأننا مازلنا بقية ناجية إلى هذا اليوم، وها نحن نمثل أمامك في آثامنا، مع أنه لا حق لنا في ذلك) (عزرا 10: 13 -15)
وفيه: (والآن يا إلهنا، أيها الإله العظيم الجبار المرهوب حافظ العهد ومغدق الرحمة، لا تستصغر كل المشقات التي أصابتنا نحن وملوكنا ورؤساءنا وكهنتنا وأنبياءنا وآباءنا وكل شعبك، منذ أيام ملوك أشور إلى هذا اليوم، فقد كنت عادلا في كل ما حل بنا، لأنك عاقبتنا بالحق، ونحن الذين أذنبنا. ولم يطع ملوكنا ورؤساؤنا وكهنتنا وآباؤنا شريعتك، ولا استمعوا إلى وصاياك وتحذيراتك التي أنذرتهم بها. ولم يعبدوك في ملكهم، ولا حين كانوا يتمتعون بخيرك العميم الذي أنعمت به عليهم، ولا في أرضهم الشاسعة الخصيبة التي بسطتها أمامهم، ولم يرتدوا عن سيئات أعمالهم) (نحميا 9: 32- 35)
قال الهزاز: لقد فات هؤلاء أن هناك بدائل كثيرة مقبولة ومتوافقة مع سنن الله الماضية في البشر.. وهي جميعا أولى من اللجوء إلى صلب المسيح تكفيرا للخطيئة ووفاء بسنة الانتقام والعدل.. ومن أهم هذه البدائل ما تعرضه مصادرنا المقدسة من التوبة، والمغفرة، والعفو، وصكوك الغفران، والاكتفاء بعقوبة الأبوين على جريمتهما.. وكل ذلك من السنن التي يقرها الكتاب المقدس.
لست أدري ما الذي دعا بولس لأن يقول:( بدون سفك دم لا تحصل مغفرة) ( عبرانيين 9/22)؟
هل غفل المسكين عن نصوص الكتاب المقدس الكثيرة.. التي تتحدث بإسهاب عن التوبة وقصصها وقبول الله لها؟
ألم يسمع أخبار المسيح.. وكيف كان يجلس مع العشارين والخطاة، فيتذمر الفريسيون والكتبة لذلك قائلين: (هذا يقبل خطاة ويأكل معهم) ( لوقا 15/2) لكن المسيح كان يعلمهم حرصه على توبتهم؟
ألم يسمع بما أخبر به لوقا من كلام المسيح.. فقد ورد فيه ( لوقا 15/3-7): (وكلمهم بهذا المثل قائلا: أي إنسان منكم له مائة خروف وأضاع واحدا منها، ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضال حتى يجده، وإذا وجده يضعه على منكبيه فرحا ويأتي إلى بيته، ويدعو الأصدقاء والجيران قائلا لهم: افرحوا معي، لأني وجدت خروفي الضال.. أقول لكم: إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب)؟
ألم يسمع بالمثلين اللذين ضربهما بالابن الضال والدرهم الضائع (لوقا 15/8 – 32)؟
ألم يسمع بوعد الله التائبين بالقبول كما في (حزقيال 18/21-23): ( فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي وفعل حقا وعدلا، فحياة يحيا، لا يموت، كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه، بره الذي عمل يحيا، هل مسرة أسر بموت الشرير)
ألم يسمع بما قال يوحنا المعمدان مخاطبا اليهود مذكرا إياهم بأهمية التوبة.. لقد قال لهم ـ كما في (متى 3/7 -9) ـ: ( يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبا) فالتوبة هي الطريق، وليس النسب كما ليس الفداء؟
ألم يسمع بما قال الرب ـ كما في (الأيام (2) 7/14) ـ: (فإذا تواضع شعبي الذين دعي اسمي عليهم وصلوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الردية فإنني أسمع من السماء)؟
ضرب كفيه بعضهما ببعض، ثم قال: رغم كل هذه النصوص المقدسة وغيرها.. يقول قومنا: ( التوبة مهما كان شأنها ليست بكافية للصفح عما مضى من خطايانا)
***
قلنا: دعنا من كل هذا.. فنحن نعرفه جميعا.. وحدثنا بما أردت أن تحدثنا عنه.
قال: بعد أن امتلأت نفسي بالغثاء الذي ذكرته لكم حنت روحي لإلهها.. إلهها الحقيقي الذي لم تدنسه يد الأهواء.
وقد صادف أن شعرت بذلك الحنين في جزر ممتلئة بالطهر والعفاف والجمال.. لعلكم تعرفونها.. إنها (جُزُر القُمُر)([3])
لقد سرت إليها في مهمة تبشيرية.. لكني ظفرت فيها ببشارات أغنتني عن كل البشارات التي كنت أحملها.
كان أول من صادفني عند نزولي من القارب الذي نقلني إليها رجل وضيء ممتلئ هيبة ووقارا، كان الناس يطلقون عليه (عليا الهادي)([4]).. لقد كان – كمسماه – عليا وهاديا.. وقد استفدت منه في الفترة القصيرة التي صحبته فيها ما لم أستفد مثله طول عمري.. ولولا أن الدنيا جذبتني بكلاليبها لما رضيت لحياتي خيرا من صحبته والتتلمذ عليه.
عندما نزلت من القارب، ورآني، قال لي: أهلا بأخينا الذي يريد أن يبشرنا بالخلاص.
فرحت كثيرا لقوله هذا، وظننت أني قد ظفرت بأول مستعد للخلاص الذي يبشر به قومنا.. بل طمعت في أن أحول من هذا الصيد السهل شباكا أصطاد به غيره.
لكن أملي خاب من أول الكلمات التي بدأ يخاطبني بها..
نعم أملي خاب في ذلك الحين.. لكني شعرت بعدها أن تلك الرحلة قلبت حياتي رأسا على عقب.
لقد محت كلماته الممتلئة بالحكمة والإيمان جميع ما حاول رجال الكنيسة أن يشحنوه في عقلي من وساوس.
كان أول ما قال لي عندما جلست معه في حديقة من حدائق تلك الجزيرة الجميلة: لقد سمعت من بعض إخوانك المبشرين أنه بعد أن هزمت الخطيئة آدم سلب الله منه الحرية والإرادة، فأصبح حراً في إتيان الإثم، غير حرٍ في صنع المعروف.
قلت، كما تعودت أن أقول من غير أن أعي ما أقول: أجل.. فالعقاب المعقول للذنب هو الذنب بعده، بعد تخلي رحمة الله عنه.
قال: وسمعت أنهم يذكرون أن الخطيئة أصبحت مركبة من طبيعة الأبوين، وانتقلت منهما وراثة إلى سائر أبنائهما.. فلذلك يولد الطفل وهو ملطخ بأوزار الذنوب.
قلت: صدقوا في ذلك.. فوباء الخطيئة قد سرى إلى هذا الطفل وراثة.. لقد ذكر ذلك، ونص على سببه القديس أوغوسطينوس، فقد قال يشرح ذلك: ( إن آدم هو ـ كما يروي سفر التكوين ـ أول إنسان خلقه الله على الأرض، وهذا الإنسان قد ارتكب الخطيئة الأولى التي يروي الفصل الثالث من سفر التكوين أحداثها، وبسبب وضعه المميّز في الفردوس ومسؤوليته الشاملة كجدّ للبشرية كلها، فقد انتقلت الخطيئة بالوراثة منه إلى جميع الناس)
وصور القديس (توماس أكويناس) ذلك بالذنب تذنبه الروح، لكنه ينتقل إلى أعضاء وجوارح الإنسان.
وشبه (كالوني) أحد علماء البروتستانت انتقال الخطيئة لبني آدم بانتقال الوباء، فقال:(حينما يقال: إننا استحققنا العذاب الإلهي من أجل خطيئة آدم، فليس يعني ذلك أننا بدورنا كنا معصومين أبرياء، وقد حملنا ظلماً ذنب آدم.. الحقيقة أننا لم نتوارث من آدم العقاب فقط، بل الحق أن وباء الخطيئة مستقر في أعماقنا، على سبيل الإنصاف الكامل، وكذلك الطفل الرضيع تضعه أمه مستحقاً للعقاب، وهذا العقاب يرجع إلى ذنبه هو، وليس من ذنب أحد غيره)
وبرر (ندرة اليازجي) هذه العقيدة تبريرا حسنا، فقال: ( آدم هو مثال الإنسان، الإنسان الذي وجد في حالة النعمة وسقط، إذن سقوط آدم من النعمة هو سقوط كل إنسان، إذن خطيئة آدم هي خطيئة كل إنسان، فليس المقصود أن الخطيئة تنتقل بالتوارث والتسلسل لأنها ليست تركة أو ميراثاً.. إنما المقصود أن آدم الإنسان قد أخطأ، فأخطأ آدم الجميع إذن، كل واحد قد أخطأ، وذلك لأنه إنسان)
قال: وهكذا أصبح البشر جميعاً خطائين.
قلت: صحيح ذلك، وللأسف.. لقد قال عوض سمعان في كتابه ( فلسفة الغفران في المسيحية) يفسر ذلك: (وبما أن آدم الذي ولد منه البشر جميعاً كان قد فقد بعصيانه حياة الاستقامة التي خلقه الله عليها، وأصبح خاطئاً قبل أن ينجب نسلاً، إذن كان أمراً بدهياً أن يولد أبناؤه جميعاً خطاة بطبيعتهم نظيره، لأننا مهما جُلنا بأبصارنا في الكون لا نجد لسنة الله تبديلاً أو تحويلاً، ولذلك قال الوحي: ( بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم) (رومية 5/12 – 21)
ابتسم، وقال: بعد أن ذكرت لي ما ذكرت هل تأذن لي في أن أطرح بعض التساؤلات الثقيلة التي لم أجد لها جوابا؟.. اسمح لي فأنا ثقيل بطبعي.. لا أستطيع أن أجامل، ولا أن أكتم.. ربما كان هذا من دلائل إخلاصي وصدقي في البحث.. وربما كان نوعا من الهرطقة..
على العموم.. أنا لا أقصد إلا البحث عن الحقيقة..
قلت: تحدث كما يحلو لك.. فلن تجد عندي إلا الجواب الكافي، والمرهم الشافي.
قال: أنا – كأهل هذه البلاد- ولدت مسلما، ونشأت مسلما.. ولكني – مع ذلك- أبحث عن الحقيقة، وأحن إلى الخلاص.. وقد رأيت من خلال تأملات عميقة أن الحقيقة يختزنها العدل.
فالعدل هو القيمة الكبرى التي تحكم الوجود.. تصور لو لم يكن هناك عدل في الكون.. فهل يمكن أن تراه بالصورة التي هو عليها الآن..
قلت: أنا مثلك أحب العدل.. بل أنا من جماعة مسيحية لا هم لها إلا البحث عن العدل، والتبشير به.. بل لم آت هذه البلاد إلا للتبشير بالعدل الذي جاء به المسيح.
قال: جيد جدا.. فأنا وأنت إذن نتفق في الهدف، ولكنا نختلف فقط في الوسيلة إليه.. ولست أدري هل الحق مع ما نشأت عليه، أم مع تلك العقيدة التي سمعت إخوانك المبشرين يدعون إليها.
قلت: لقد عرضت علي ما يذكره إخواني من المبشرين، لكنك لم تعرض علي العقيدة التي نشأت عليها.. أم أنك تستحي من ذكرها.. لا تستحي.. قل ما تشاء.. فالباحث عن الحقيقة لا يستحيي من شيء.. لقد مررت على بدائيين كثيرين.. ربما كان لهم من العقائد ما هو أغرب من العقيدة التي تريد أن تحدثني عنها.
قال: ما دمت قد ذكرت ذلك، فسأذكر لك الأركان التي تقوم عليها عقيدتنا في هذا الباب.. ربما نستطيع جمعها في أربع كلمات: البراءة، والتكليف، والمدد، والمجازاة.
قلت: فحدثني عن الركن الأول.. حدثني عن البراءة.
قال: إن نصوصنا المقدسة تدل على أن الإنسان خلق بريئا لم يتلبس بأي معصية.. بل إن المعصية عارضة عليه، وهي لا تعرض عليه إلا بسبب ما يكتسبه من عمل..
وبالرغم من أننا نتفق معكم في أن آدم وقع في المعصية إلا أننا نختلف في آثارها..
فنحن نرى أن معصية آدم قاصرة عليه.. بل نرى فوق ذلك أن آدم u استغفر الله، وتاب إليه، وأن الله تعالى برحمته قبل توبته..
لقد ورد في القرآن الكريم النص على توبة الله على آدم u، ففيه:{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37)
قلت: ولكن آدم نزل من الجنة.. وقد اشتركت معه ذريته في هذا النزول.. ألا تعتبر ذلك عقوبة؟
قال: لا.. ليس ذلك عقوبة.. لأن آدم أصلا خلق ليمتحن في الأرض.. فلا يمكن أن يمتحن في الجنة.. لقد ذكر القرآن الكريم هذا، ففيه:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} (البقرة)
قلت: لكنه مع ذلك ورث ذريته الاستعداد للخطيئة.
قال: هو لم يورثهم ذلك.. بل هم أصلا خلقوا مستعدين لذلك.. فالوظيفة التي كلفوا بها تقتضي هذا.. لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذ، فقال: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)([5])
قلت: فأنت تتفق معي إذن في أن الإنسان خلق ملطخا بالمعصية.
قال: أنا لم أقل هذا.
قلت: لقد كنت تذكره.
قال: فرق كبير بين استعداد الإنسان للمعصية، وبين تلطخه بها.. لقد ذكرت لك أن الإنسان خلق بريئا من التلطخ بأي معصية.. هو كالصفحة البيضاء.. ولكنه باختياره وإرادته قد يلطخ صفحته..
لقد ذكرت نصوصنا المقدسة هذا، ففي الحديث: ( كل مولود يولد على الفطرة – وفي رواية: على هذه الملة – فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء)([6])
وفي حديث آخر: ( يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم، عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم)([7])
وفي حديث آخر: ( يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ قال: فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي)([8])
إن هذا حقيقة من حقائق الإسلام الكبرى.. فالأصل في الإسلام براءة الإنسان من كل ذنب لم يفعله..
لقد ورد في القرآن الآيات الكثيرة الدالة على هذا.. سأسوق لك منها ما يكفي لدلالتك على ذلك.. ففيه:{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (الأعراف).. أي لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه.
وفي آية أخرى:{ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } (فاطر: 18)
وفي آية أخرى:{ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلا مَا سَعَى) (لنجم:39)
وفي آية أخرى:{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً) (مريم:80)
وفي آية أخرى:{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} (مريم)
إن هذه النصوص وغيرها كثير تقرر المسؤولية الفردية، وأن كل إنسان مسؤول عن خاصة نفسه في عمله وسلوكه وحياته، ثم هو نتيجة هذه المسؤولية سيحاسب وحده، وسيلقى الله وحده.
وقد حدثني آبائي عن آبائهم أن أبا حنيفة خرج ذات يوم من عند الصادق، فاستقبله موسى بن جعفر، فقال له: ياغلام! ممّن المعصية؟ فقال: (لا تخلو من ثلاثة: إمّا أن تكون من الله عزّوجلّ وليست منه فلا ينبغي للكريم أن يعذّب عبده بما لم يكتسبه، وإمّا أن تكون من الله عزّوجلّ ومن العبد فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإمّا أن تكون من العبد وهي منه فإن عاقبه الله فبذنبه وإن عفا عنه فبكرمه وجودِه)
وقيل لموسى بن جعفر: أيكون العبد مستطيعاً؟، فقال: نعم بعد أربع خصال: أن يكون مخلّى السرب، صحيح الجسم، سليم الجوارح، له سبب وارد من الله عزّوجلّ، فإذا تمّت هذه فهو مستطيع.. فقيل له: مثل أي شيء؟.. فقال: يكون الرجل مخلّى السرب، صحيح الجسم، سليم الجوارح لا يقدر أن يزني إلاّ أن يرى امرأة فإذا وجد المرأة فإمّا أن يعصم فيمتنع كما امتنع يوسف، وإمّا أن يخلي بينه وبينها فيزني وهو زان ولم يطع الله بإكراه، ولم يعص بغلبة)
وقال موسى بن جعفر: (في التوراة مكتوب مسطور: ياموسى! إنّي خلقتك واصطفيتك وقوّيتك وأمرتك بطاعتي، ونهيتك عن معصيتي، فإن أطعتني أعنتك على طاعتي، وإن عصيتني لم أعنك على معصيتي، ولي المنّة عليك في طاعتك، ولي الحجّة عليك في معصيتك)
وقال الحسين: (الناس في القَدَر على ثلاثة أوجه: رجل زعم أنّ الله عزّوجلّ أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله عزّ وجلّ في حكمه وهو كافر، ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم فهذا وهن الله في سلطانه فهو كافر، ورجل يقول: إنّ الله عزّوجلّ كلّف العباد ما يطيقون، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد الله، وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ)
وسئل الرضا عن قول الله عزّوجلّ:{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)} (البقرة)، فقال: إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف، وخلّى بينهم وبين اختيارهم)
وسئل عن قول الله عزّوجلّ:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)} (البقرة)، فقال: (الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم كما قال تعالى:{ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)} (النساء)
وسئل عن الله عزّوجلّ هل يجبر عباده على المعاصي، فقال: (بل يخيّرهم ويمهلهم حتّى يتوبوا)
قيل له: فهل يكلّف عباده ما لا يطيقون؟ فقال: (كيف يفعل ذلك وهو يقول:{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} (فصلت)
قلت: ولكن ألم تقرأ هذه الآية:{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } (العنكبوت: 13).. وهذه الآية:{ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (النحل: 25)
قال: هاتان الآيتان لا تعارضان النصوص السابقة.. بل هي تؤيدها وتقويها.
قلت: كيف ذلك.. أنا أراهما متعارضتان.
قال: أجبني.. أرأيت لو أن شخصا أخطأ فشرب الخمر أو ارتكب أي معصية.. ألا يحاسب على ذلك؟
قلت: بلى..
قال: أرأيت لو أنه لم يكتف بشربه ولا بمعصيته.. بل راح ينشر المعاصي ويدعو إليها ويستعمل كل الأساليب لذلك، فغر بسببه ناس كثيرون.
قلت: يحاسبون جميعا على ما فعلت أيديهم.
قال: ألا ترى أنه سيتميز عنهم بمزيد من العقاب؟
قلت: بلى.. فهو لم يكتف بأن يعصي.. بل راح يحرض عليها.. وربما كان التحريض أكبر من الخطيئة نفسها.
قال: ولذلك نصت تينك الآيتين على أن الإنسان قد يتحمل أوزار غيره إن كان سببا فيها..
وقد وردت النصوص الكثيرة تدل على هذا.. وتعتبر أن الداعية للأعمال حسنة أو سيئة ينال جزاء دعوته أو إثمها:
ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)([9])
وفي حديث آخر:( إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير)([10])
ابتسمت، وقلت: فأنت تريد أن تنسخ ما ذكره الآباء والقديسون بما ورد في القرآن..
قال: لا.. لم أقصد ذلك.. ليس القرآن وحده هو الذي يقرر هذا.. لقد قرأت الكتاب المقدس.. فوجدته يقرر هذه الحقيقة تقريرا قطعيا لا شك فيه.. ولست أدري كيف غاب ذلك عن قديسينا الأجلاء..
سأقرأ عليك بعض ما أحفظه من نصوص الكتاب المقدس التي تدل على هذا، كما قرأت لك من نصوصنا المقدسة ما يدل عليه:
لقد ورد في (حزقيال 18/20 – 21): (النفس التي تخطيء هي تموت، الابن لا يحمل من إثم الأب، والأب لا يحمل من إثم الابن، بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون)
وفي ( التثنية 24/16): ( لا يقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يقتل)
وفي (إرمياء 31/30): ( بل كل واحد يموت بذنبه، كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه)
وفي ( إرميا 32/19): ( الذي عيناك مفتوحتان على كل طرق بني آدم لتعطي كل واحد حسب طرقه، وحسب ثمرة أعماله)
وفي ( الأيام (2) 25/4): ( لا تموت الآباء لأجل البنين، ولا البنون يموتون لأجل الآباء، بل كل واحد يموت لأجل خطيته).
وفي ( حزقيال 18/17): ( فإنه لا يموت بإثم أبيه)
وفي ( التكوين 18/23 – 25): ( أفتهلك البار مع الأثيم، عسى أن يكون خمسون باراً في المدينة، أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين باراً الذين فيه، حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر: أن تميت البار مع الأثيم، فيكون البار كالأثيم. حاشا لك، أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً)
كما أنكر المسيح الخطيئة الأصلية بقوله ـ كما في ( يوحنا 15/22 – 24) ـ: ( لو لم آت وأكلمهم، لم تكن لهم خطيئة، وأما الآن فليس لهم حجة في خطيئتهم… لو لم أعمل بينهم أعمالاً لم يعملها آخر، لما كانت لهم خطيئة، أما الآن فقد رأوا وأبغضوني).. إن هذا النص لا يتحدث عن خطأ سابق عن وجوده، بل عن خطأ وقع فيه بنو إسرائيل تجاهه، هو عدم الإيمان بالمسيح، وليس فيه أي ذكر للخطيئة الموروثة، بل هو ـ كما يبدو ـ لا يعرف شيئاً عنها.
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الكلمة الثانية.. حدثني عن التكليف.
قال([11]): المراد بالتكليف – – على حسب المصطلح الإسلامي – الوظيفة التي ندب الله لها البشر على هذه الأرض، وقد عبر عن هذه الوظيفة في القرآن الكريم تعابير مختلفة، لكل منها دلالته الخاصة، ولكل منها علاقته بالعدل الإلهي في التكليف.
فقد عبر عن التكليف بكونه أمانة، كما قال تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)، ثم قال بعدها:{ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب:73)
فهاتان الآيتان تجمعان جميع دلائل العدالة الإلهية في تكليف الإنسان:
وأول ذلك أن الإنسان خير في قبول التكليف، فقبله عن طواعية تامة ورضى خالص، بل إنه تعالى ـ من باب العدالة المطلقة ـ قدم عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، ليكون للإنسان أسوة في حال الامتناع، ولكنه رضي عن طواعية تامة بهذا التكليف.
وجاء في الآية الثانية الإخبار بالجزاء الذي يرتبط بالقدر الذي تؤدى به الأمانة لا بأي ارتباط آخر، وهو ما يقتضيه العدل.
أما إخباره تعالى بأن الإنسان ظلوم جهول، ففيه دلالة قوية على السر الذي جعله مستعدا لتحمل الأمانة، فظلمه يحمل بذور العدل، وجهله يحمل طاقة التعلم، فكانت طاقاته التي وهبها تؤهله لهذا التكليف.
وعبر عن التكليف – أيضا- بالخلافة، كما قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)
فليس المراد بالخلافة التي تتحدث عنها الآية الكريمة الخلافة الممثلة في شخص آدم u، بل هي شاملة للجنس البشري كله، بدليل أن ما تخوف منه الملائكة من الإفساد في الأرض وسفك الدماء لم يتحقق في آدم u، وإنما تحقق في البشرية على امتدادها التاريخي.
وقد أشارت آيات كريمة أخرى إلى هذا الاستخلاف العام، ومنها قوله تعالى على لسان هود u لقومه:{ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } (لأعراف: من الآية69)، وقوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً} (فاطر:39)
وهذه النصوص جميعا، والتي ورد التعبير فيها عن التكليف بالخلافة تشير إلى عدالة الله المطلقة:
فالتعبير بالخليفة، أو اصطلاح ( الخلافة) نفسه يقتضي حرية المكلف فيما استخلف فيه وعدم تقيده إلا بالموازين التي أمره مستخلفه بإقامتها.. فالخلافة مسؤولية، والمسؤولية لا يقوم بها إلا الكائن الحر، فبدون الاختيار والحرية لا تتحقق المسؤولية.
ولهذا استنتجت الملائكة من إخبار الله لها بأنه سيجعل خليفة على الأرض أنه سيجعل الكائن الحر المختار، ومثل هذا يمكن أن يصلح في الأرض، ويمكن أن يفسد فيها، لأن الاختيار والإردة تسويان بين الجهتين.
وفي قوله تعال:{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس:14)، وقوله تعالى على لسان موسى u:{ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (لأعراف: من الآية129) إشارة إلى هذه الحرية التي أوتيها الإنسان ليستقيم تكليفه، فقد عبر تعالى عن غاية التكليف بأنها مجرد النظر إلى أعمالهم، لا حملهم على أعمالهم أو إجبارهم عليها، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن اللّه مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء)([12])
والله تعالى مع إخباره عن علمه بحقيقة هذا الخليفة والذي رد به على الملائكة، لم يحاسب الخلق على علمه فيهم، بل ترك لأعمالهم المجال لذلك.
ثم إن الله تعالى أشار في هذه الآيات إلى أن نتيجة الاستخلاف هي التي تحدد مصير الإنسان، فتجعله من الكافرين أو من المؤمنين قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً} (فاطر:39)
وعبر عن التكليف – كذلك- بالعبادة،كما قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذريات:56)، فقد حصر الله تعالى غاية الخلق في هذه الآية في العبادة.
وقد وردت النصوص الكثيرة في القرآن الكريم تخبر عن هذه الغاية التي هي تفسير للأمانة والخلافة السابق ذكرهما، ومن ذلك قوله تعالى في إخباره عن الغاية من إرسال الرسل:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: من الآية36)، وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:25)، وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الانبياء:25)
قلت: فالتكليف الذي كلف البشر بأدائه إذا هو العبادة.. فما معنى العبادة؟.. وهل للتكليف بالعبادة علاقة بالعدل الإلهي؟
قال: لقد اتفقت هذه الأمة على أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والاعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الامانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من ألوان العبادات.
وتشمل كذلك ما له علاقة بالأحوال والمعارف كحب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وغيرها.
وهذه الألوان جميعا، والتي تتلون بها عبادة الله تعالى، تستلزم ركنين:
الركن الأول هو الذلة المطلقة لله، كما يقال: طريق معبد اذا كان مذللا قد وطئته الاقدام.
والركن الثاني هو كون ذلك الخضوع ناشئا عن طواعية تامة لله تعالى، وهذا هو الجانب الذي أبته السموات والأرض من تحمل الأمانة، لأن الركن الأول من العبادة، وهو الخضوع المطلق لله،والذي لا سلطة للخاضع فيه ولا اختيار هو عمل الكون جميعا، كما قال تعالى:{ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} (الانبياء:19)، وقال تعالى:{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (الرعد:15)، وقال تعالى:{ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران: من الآية83)
***
قلت: فما علاقة العبادة بعدالة التكليف؟
قال: إنها علاقة واضحة ظاهرة..فالله تعالى لم يكلف خلقه أن يعبدوه أو يعرفوه أويحبوه رغم أنوفهم، بل ترك ذلك لعقولهم وقلوبهم لتعبد الله عن طواعية تامة واختيار تام، ثم تتحمل بعد ذلك نتيجة اختيارها.
قلت: ولكني سمعت بأن من المسلمين من يقولون بالجبر، معللين بذلك بأن من أركان الإيمان الإيمان بالقضاء والقدر.
قال: لقد أساء هؤلاء فهم الإيمان بالقضاء والقدر.. فليس المراد منه ما يفهمون.
قلت: لقد قرأت لعلماء كبار يقولون هذا.
قال: إما أنك لم تفهمهم وإما أنهم مخطئون..
لقد حدثني آبائي عن آبائهم من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهم أعرف الخلق بالله، وبمراد الله، وبدين الله.. أن رجلا دخل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقال: أخبرنا عن خروجنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر؟ فقال له أمير المؤمنين: ( أجل ياشيخ! فوالله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من الله وقدر)، فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي ياأمير المؤمنين! فقال: (مهلا ياشيخ! لعلّك تظنّ قضاءاً حتماً وقدراً لازماً، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم تكن على مسيء لائمة، ولا لمحسن محمدة، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب، والمذنب أولى بالإحسان من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن، وقدريّة هذه الاُمّة ومجوسها، ياشيخ! إنّ الله عزّوجلّ كلّف تخييراً، ونهى تحذيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يُطع مكرهاً، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار)
فنهض الشيخ وهو يقول:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته |
يوم النجاة من الرحمن غفرانا |
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً |
جزاك ربّك عنّا فيه إحسانا |
وذكر بعضهم الجبر والتفويض عند الإمام الرضا، فقال: ألا أُعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلاّ كسرتموه؟ قلنا: إن رأيت ذلك.. فقال: (إنّ الله عزّوجلّ لم يُطع بإكراه، ولم يُعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً، ولا منها مانعاً، وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه)، ثمّ قال: (من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه)
وسأل زنديق الحسين، فقال: أخبرني عن الله عزّوجلّ كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان على ذلك قادراً؟ فقال: (لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب، لأنّ الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنّة ولا نار، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته واحتجّ عليهم برسله، وقطع عذرهم بكتبه ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون، ويستوجبون بطاعتهم له الثواب، وبمعصيتهم إيّاه العقاب)
قال الزنديق: فالعمل الصالح من العبد هو فعله، والعمل الشرّ من العبد هو فعله؟
قال الحسين: العمل الصالح العبد يفعله والله به أمره، والعمل الشرّ العبد يفعله والله عنه نهاه..
قال الزنديق: أليس فعله بالآلة التي ركّبها فيه؟
قال الحسين: نعم، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها على الشرّ الذي نهاه عنه.
قال الزنديق: فإلى العبد من الأمر شيء؟
قال الحسين: ما نهاه الله عن شيء إلاّ وقد علم أنّه يطيق تركه، ولا أمره بشيء إلاّ وقد علم أنّه يستطيع فعله لأنّه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون.
قال الزنديق: فمن خلقه الله كافراً يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة؟
قال الحسين: إنّ الله خلق خلقه جميعاً مسلمين، أمرهم ونهاهم، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد، ولم يخلق الله العبد حين خلقه كافراً، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من الله فعرض عليه الحقّ فجحده، فبإنكاره الحقّ صار كافراً.
قال الزنديق: فيجوز أن يقدّر على العبد الشرّ ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله ويعذّبه عليه؟
قال الحسين: إنّه لا يليق بعدل الله ورأفته أن يقدّر على العبد الشرّ ويريده منه، ثمّ يأمره بما يعلم أنّه لا يستطيع أخذه، والإنزاع عمّا لا يقدر على تركه، ثمّ يعذّبه على تركه أمره الذي علم أنّه لا يستطيع أخذه)
وسئل: هل منع الله عمّا أمر به؟ وهل نهى عمّا أراد؟ وهل أعان على ما لم يرد؟
فقال: أمّا ما سألت: هل منع الله عمّا أمر به؟ فلا يجوز ذلك، ولو جاز ذلك لكان قد منع إبليس عن السجود لآدم، ولو منع إبليس لعذره ولم يلعنه.
وأمّا ما سألت: هل نهى عمّا أراد؟ فلا يجوز ذلك، ولو جاز ذلك لكان حيث نهى آدم عن أكل الشجرة أراد منه أكلها، ولو أراد منه أكلها ما نادى عليه صبيان الكتاتيب:{ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} (طه)، والله تعالى لا يجوز عليه أن يأمر بشيء ويريد غيره.
وأمّا ما سألت عنه من قولك: هل أعان على ما لم يرد؟ فلا يجوز ذلك، وجلّ الله تعالى عن أن يعين على قتل الأنبياء وتكذيبهم، وقتل الحسين بن علي والفضلاء من ولده، وكيف يعين على ما لم يرد، وقد أعدّ جهنّم لمخالفيه، ولعنهم على تكذيبهم لطاعته، وارتكابهم لمخالفته ; ولو جاز أن يعين على ما لم يرد لكان أعان فرعون على كفره وادّعائه أنّه ربّ العالمين! أفترى أراد الله من فرعون أن يدّعي الربوبية؟)
***
قلت: لا بأس.. سلمت لك بهذا.. ولكن كيف يكون العدل في التكليف، والبشر يتعرضون لاختبارات مختلفة متناقضة؟.. فهذا يختبر بالفقر.. وهذا يختبر بالغنى.. وهذا يبتلى بالصحة.. وهذا يبتلى بالمرض.. وهذا يعيش في الصحارى القاحلة أو في الأراضي المتجمدة.. وهذا يعيش في السهول اليانعة، والجنان الوارفة.. وهذا يعمر إلى أن تمل الأيام مرآه.. وهذا يختطف، فلا يكاد تبصره الحياة، ولا يكاد يبصرها.. وهذا يقبل عليه الخلق، بل يتفانون فيه، وهذا يعرضون عنه، بل يسارعون في أذاه.
ألا تحمل هذه الاختبارات المتناقضة علامات الجور والظلم؟ فكيف يستوي في الامتحان كل هؤلاء وحياتهم لم تستو؟ ([13])
قال: إن ما نراه مما نتوهمه تناقضا هو في الحقيقة منتهى العدالة والحكمة والرحمة الإلهية..
قلت: كيف ذلك؟
قال: ألم تخرج يوما لرؤية المباريات التي تقام للرياضات المختلفة؟
قلت: بلى.. لقد خرجت كثيرا.. فأنا من هواة الرياضة بجميع أنواعها.. هل علي في ذلك من حرج؟
قال: لا.. لا حرج عليك في ذلك.. ولكن أجبني هل رأيت في بعض تلك المباريات مباراة في الملاكمة بين العداء الذي يباري الضباء في عدوه مع بطل العالم في الملاكمة؟
قلت: لا.. ولو حدث هذا.. فسيكون نوعا من المزاح.. فلا طاقة للعداء أن ينازل الملاكم في اختصاصه.
قال: ألا ترى ذلك عدلا؟
قلت: لا شك أن ذلك مجاف للعدل.
قال: وهل من العدل أن يكلف السباح الماهر بمسايفة من تمرن على المسايفة حتى صارت رياضته التي اختص فيها؟
قلت: لا يعقل هذا.. كما لا يعقل أن يختبر الطبيب في الهندسة، أو يختبر المهندس في التشريح.
قال: ومثل هذا يقال في كل اختبارات الدنيا، فيستحيل أن يتساوى الخلق جميعا في اختبار واحد لتعدد مواهبهم وطاقاتهم.
قلت: ما غرضك من كل هذا؟
قال: ما ذكرناه في اختبارات الدنيا هو نفسه ما يحصل في اختبارات الله تعالى لخلقه.. فبما أن طاقاتهم مختلفة ومواهبهم مختلفة، فلذلك من عدل الله تعالى أنه يعاملهم بحسب أحوالهم المختلفة.
وهذه المعاملة ترجع إلى خبرة الله بخلقه، كما قال تعالى عند ذكر التنوع في بسط الرزق وقبضه:{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى:27) أي لو أعطاهم فوق حاجتهم التي تختلف باختلاف طبائعهم وأحوالهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان.
والشاهد هنا هو ختمه الآية بإرجاع علة ذلك إلى خبرة الله وبصره بخلقه، كما ورد في الحديث القدسي:( إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إلا بالصحة ولو أسقمته لكفر)([14])
ويدل على هذا ما ورد في الحديث من اختبار الله لثلاثة نفر في بني إسرائيل أبرص، وأقرع، وأعمى، ليخرجوا ما يخفيه جوهرهم من صفات، فبعث ملكا فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل، فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها.
وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال شعر حسن، ويذهب هذا عني، قد قذرني الناس، فمسحه فذهب وأعطي شعرا حسنا، فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها.
وأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال، يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره، فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم فأعطاه شاة والدا.
وبعد مدة أنتجت تلك الأنعام التي اختبروا بها، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من غنم.
وعندما اكتملت لهم النعمة عاد الملك ليختبرهم من جديد، فأتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين، تقطعت به الحبال في سفره، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا؛ فأعطاك الله، فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له: مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال له: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأعمى في صورته، فقال رجل مسكين، وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله، ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك([15]).
فهذا الحديث يدل على أسرار تنوع البلاء سواء للشخص الواحد أو للمجتمع ككل، ولهذا يوجد في كل مجتمع من المجتمعات، بل في حياة كل شخص الاختبارات المختلفة المتناقضة التي قد يتصورها عشوائية بينما هي تسيير من الله ليظهر الإنسان ما يخفيه جوهره من صفات.
زيادة على هذا، فإن الله تعالى يختبر عباده بعضهم ببعض، فيختبر القوي بضعف الضعيف ليرى هل يعينه أم يتسلط عليه، ويختبر الغني بالفقير، هل ينفق عليه أم يستسخره، ويختبر الصحيح بالمريض هل تطغيه نعمة الصحة أم تجعله متواضعا لربه.
وإلى هذا الإشارة بالآيات القرآنية التي تذكر سر اختلاف البشر في المتاع الدنيوي كقوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:165)
فقد ربطت الآية الكريمة بين التكليف الذي هو الخلافة في الأرض والاختبار باختلاف الدرجات الذي يعني التفاوت في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي، والمناظر والأشكال والألوان، وكأنه يشير بذلك إلى ان الخلافة تقتضي هذا التفاوت.
وتشير إلى ذلك آية أخرى تبين أثر هذا التفاوت في العلاقات بين البشر والتي يتمحض عنها جوهر الإنسان وحقيقته التي تؤهله للثواب او العقاب، قال تعالى:{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: من الآية32)
أي أن العلة في ذلك التفاوت هي أن يسخّر بعضُهم بعضاً في الأعمال، لاحتياج بعضهم لبعض.
وفي نفس الوقت، فإن الله تعالى بحكمته جعل هذه الدار مثالا مصغرا عن الدار الآخرة، فلذلك ينبه القرآن الكريم الضمائر إلى أن هذا التفاوت المحدود سيعقبه في الآخرة تفاوت لا محدود، فلذلك يقترن ذكر المتاع الدنيوي بالمتاع الأخروي، كما قال تعالى:{ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الاسراء:21)
وقال تعالى بعد ذكر المتاع الدنيوي الذي يحرص على جمعه المترفون:{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:15)، وقال تعالى:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (الأنعام:32)
وأعطى مثالا لهذا التفاوت المحدود في الدنيا بالمقارنة مع ما ينتظر الإنسان في الآخرة من نعيم أو عقاب، كما قال تعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (الحديد:20)
ثم إن الله تعالى بعد كل هذا أخبر أنه لا يختبر الإنسان إلا في حدود ما آتاه من أشياء، كما قال تعالى:{ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } (المائدة: من الآية48)، وقال في الآية السابقة جامعا بين الخلافة والبلاء:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام:165)
ولهذا تقترن العبادات بالاستطاعة، بل إن الله تعالى برحمته نوع التكاليف لينال كل امرئ ما يتناسب مع وضعه وطبيعته وحاله، فلا يميز الإنسان إلا بحسب عمله.
بل إن الله تعالى عوض من لا يستطيع عملا من الأعمال بأعمال أخرى يمكنه من خلالها أن يتدارك ما فاته، ومما يقرب هذا المعنى ما روي في الحديث أن ناسا من الفقراء قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور([16]) بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة)([17]).. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أرشد الفقراء إلى ما يكنهم فعلهم ليعوضهم عن الصدقات التي لا يملكون إخراجا.
بل إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تقسيمه لأصناف الناس اعتبر هذه الناحية، فقال:( مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله، ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، وهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما ولا مالا وهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، فهما في الوزر سواء) ([18])
ولهذا ورد في الحديث اعتبار النية من أهم أصول الجزاء، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( يا أيها الناس إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ([19])
وبذلك.. فإن أي شخص حتى ولو كان مقعدا يمكنه أن ينال من الفضل والجزاء ما ينال أي عامل مهما أوتي من قوة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في بعض الغزوات:( لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرًا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه)
فتعجبوا، وقالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبينا أن السير إلى الله قد لا يحتاج أي جارجة من الحوارح:( حبسهم العذر)([20])
***
قلت: وعيت هذا.. ولكن لم اختلفت الشرائع التي هي الإجابات الصحيحة على اختبارات الله تعالى، فكان في الشرائع ما يميل إلى التشديد، ومنها ما يتطلع إلى رفع الحرج، بل يجعل ذلك قاعدته العامة؟ أليس البشر كلهم عبيدا لرب واحد، ويقعون تحت اختبار واحد؟ فلماذا تختلف الإجابات؟ ولماذا يفضل بعضهم على بعض؟
قال: الإجابة على هذا كالإجابة على ما سبق، فالله تعالى العالم بأحوال عباده وما يختزنه خلقهم من مواصفات هو الذي شرع لهم ما يتناسب مع تلك الأحوال.
وكمثال بسيط يقرب هذا المعنى أن موسى u أمر قومه بأمر واضح بسيط هو أن يذبحوا بقرة، كما قال تعالى على لسانه:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة: من الآية67) وقد جاء بها منكرة لتدخل أي بقرة في هذا الأمر كما روي عن عبيدة السلماني قال:( لو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال:( واللّه لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً) ([21])
وكان أول جواب لهم ينم عن سوء أدبهم أن قالوا:{ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً (، فرد عليهم u:{ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة: من الآية67)
فعادوا إلى جدالهم ليقولوا:{ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ } (البقرة: من الآية68)
فقال موسى u:{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} (البقرة: من الآية68)
فلم يكفهم هذا، بل عادوا ليسألوا:{ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا } (البقرة: من الآية69)
فقال موسى u:{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} (البقرة: من الآية69)
فلم يكفهم هذا، فالأمر في تصورهم لا زال مشتبها يحتاج إلى تفصيل وتوضيح، فقالوا:{ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} (البقرة: من الآية70)
فقال موسى u:{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا } (البقرة: من الآية71)
وبعد هذا التردد الطويل، وتكليف موسى u أن يرجع إلى ربه من أجل الاستفسار عن بقرة، قالوا بسوء أدبهم:{ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقّ } (البقرة: من الآية71) وكأنهم كانوا يعرفون البقرة من قبل، واكتفى القرآن الكريم بأن عقب عليهم بقوله تعالى: { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (البقرة: من الآية71)
فمثل هذا النموذج الذي يكاد يملي اختياره على الله كيف لا يشدد عليه، بل إنهم هم الذين شددوا على أنفسهم، والله الرحمن الرحيم تعامل معهم كتعامله مع الخلق جميعا برحمته التامة الشاملة.
ومن الأمثلة على هذا مما يتعلق بشريعة بني إسرائيل أن ما طبعوا عليهم من عصيان وتمرد اقتضى أن تكون شريعتهم متناسبة مع هذه الطبيعة حتى أنهم بمجرد مجاوزتهم البحر طلبوا أن يجعل لهم موسى u شريكا مع الله، كما قال تعالى:{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (لأعراف:138)
ولذلك فإنهم لم يقبلوا شريعة الله إلا بعد أن رفع فوقهم الطور، كما قال تعالى:{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (النساء:154)، وقال تعالى:{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (لأعراف:171)
وكان سر هذه المعاصي أن طبيعتهم المتأبية كانت تأبى الخضوع لغير هواها، ولذلك قالوا لموسى u في قصة البقرة بعد الأخذ والرد:{ الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } (البقرة: من الآية71)، وكأنهم هم الذين يحددون الحق، أو كأنهم هم الذين يحددون لله ما يأمرهم به.
وهذا ما فعلوه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أبوا على الله أن يغير القبلة، فسماهم الله لذلك سفهاء، فقال تعالى:{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } (البقرة: من الآية142)، ثم رد عليهم بقوله تعالى:{ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (البقرة: من الآية142)
انطلاقا من هذا أخبر الله تعالى أن هذه الطبيعة القاسية المتأبية هي السر فيما لحق شريعتهم من التشديد، كما قال تعالى:{ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً( (النساء:160ـ 161)، أي بسبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله وغير ذلك من الآثام شدد عليهم فحرمت عليهم الطيبات كان أصلها حلالا.
وقد ذكر القرآن الكريم بعض النماذج عن هذه الطيبات المحرمة، كما قال تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (الأنعام:146)
فعلة هذا التحريم كما نصت الآية الكريمة هو أنه جزاء يتناسب مع بغيهم وعدوانهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى:{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل:118)
والقرآن الكريم ينص على أن هذه المحرمات كان أصلها حلالا لبني إسرائيل لولا أن تدخلوا بأهوائهم أو ألحوا في السؤال فحرم عليهم ما أحل لهم، كما قال تعالى:{ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران:93)
هذا نموذج عن أثر الطبيعة في نوع الأحكام والشرائع..
وهو أمر غير مستغرب عقلا ولا واقعا، فالقوانين المنظمة لحياة المساجين ليست نفس القوانين المنظمة لحياة الطلبة، لأن طبيعة كل واحد تحتم أن يوضع لها قانون خاص يتناسب معها.
ومن رحمة الله أن الشريعة الخاتمة، والتي لم تكن معلقة بطائفة معينة أو زمن معين كان من خصائصها رفع الإصر الذي وجد في الشرائع السابقة، كما قال تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (لأعراف: من الآية157)
ولذلك عبر عنها بأنها شريعة الفطرة، أي تتناسب مع الفطرة السليمة التي لم تتأثر بالمؤثرات الخاجية، كما قال تعالى:{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30) بخلاف شريعة بني إسرائيل التي شرعت لفطرة انتكست وانحرفت عن مسارها.
ولهذا عندما عرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الإسراء الخمر واللبن، فتناول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم اللبن، فقال له جبريل u:( أصبت الفطرة) ([22])فاللبن باق على أصل خلقته، بخلاف الخمر الذي تحول بالتخمر عن طبيعته.
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الكلمة الثالثة.. حدثني عن المدد.. ما تريد به؟
قال: أمن العدل أن يرسل الجندي إلى المعركة من غير أن يدرب على خوضها، أو من غير أن يحمل السلاح الذي يعينه على خوضها؟
قلت: لا.. ليس من العدل ذلك.. بل إن من يفعل ذلك يوشك أن لا يريد به إلا إصابة الجندي في مقاتله.
قال: وكذلك من عدل الله أن أمد الله جنده من المكلفين بما يعينهم على المعركة التي كلفوا بخوضها.
قلت: أي معركة؟
قال: ألم تعلم أن الله استودع للإنسان أمانة، وطالبه بأدائها؟
قلت: ولكن هذه ليست معركة.. فتحمل الأمانة ليس فيه شيء من الصراع.
قال: لا.. فيه صراع كبير.. هناك صراع من داخل النفس.. وهناك صراع من خارجها.
قلت: صراع من داخل النفس!؟
قال: أجل.. لقد ذكرت لنا النصوص المقدسة أن الإنسان زود بطاقات يمكن أن تستعمل في الخير، ويمكن أن تستعمل في الشر([23]).. ولذلك فإن الإنسان سيحتاج إلى نوع من الحرب مع نوازع الشر التي تريد أن تزاحم نوازع الخير فيه.
قلت: وعيت هذا.. فما العدو الخارجي الذي يتربص بالإنسان.
قال: الشيطان.. الشيطان هو العدو الأكبر الذي أقسم أن يغوي الإنسان لينصر طاقات الشر فيه.. لقد ذكر الله لنا ذلك، وحذرنا منه.. قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)} (النساء)، وقال مخبرا عن مقالة الشيطان يوم أمر بالسجود لآدم:{ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} (ص)
قلت: وعيت هذا.. فما المدد الذي أعين به الإنسان على خوض هذه المعركة.. وما مدى العدل الذي في هذا المدد؟
قال: مدد كثير.. كله من فيض الله الهادي..
قلت: فاذكر لي منه ما يجعلني أعي ما تقول.
قال: سأذكر لك أربعة أنواع من المدد الإلهي وردت بجميعها نصوصنا المقدسة.
قلت: فما المدد الأول؟
قال: المدد الأول هو ما زود به الإنسان من طاقات لأداء ما طلب منه من تكليف، ومواجهة ما يواجهه من صراع.. لقد ذكر الله تعالى لنا هذا بعد ذكره إرادته في جعل الإنسان خليفة على الأرض، فقد قال بعدها:{ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:31)
ففي هذه الآية الكريمة نستشف الكثير من الحقائق المرتبطة بمؤهلات التكليف، ومنها أن الله تعالى ـ لجعل آدم u خليفة ـ وفر له من العلم ما يستطيع أن يؤدي بها مهمة الخلافة.
وقد عبر الله تعالى عن هذا العلم الذي أوتيه الإنسان في بدء الخلق بأنه علم الأسماء كلها.. وهي تعني معاني كثيرة كلها لها علاقة بالطاقات التي يحتاج إليها الإنسان لأداء وظيفتها.
قلت: فما هذه الأسماء؟
قال: منها الأسماء التي تتعلق بما استخلف فيه، وهو كل ما يتعلق بحياته على الأرض من معارف أساسية، ومن لغة يستطيع بواسطتها بناء علاقاته وإنماء معارفه.
وإلى هذا النوع الإشارة بالروايات الواردة عن سلفنا الصالح، ومن ذلك ما روي عن ابن عباس من قوله:( علمه أسماء جميع الأشياء كلها جليلها وحقيرها)، وعن سعد مولى الحسن بن علي قال:( كنت جالسا عند ابن عباس فذكروا اسم الآنية واسم السوط، قال ابن عباس ( وعلم آدم الأسماء كلها)، وقال ابن عباس:( علمه أسماء كل شيء حتى الجفنة والمحلب)([24])
وهذه الروايات كلها تدل على أن اللغة مأخوذة توقيفا، وأن الله تعالى علمها آدم u جملة وتفصيلا، ولم يرد في النصوص ما يحدد هذه اللغة التي علمها آدم u، لعدم الحاجة إلى ذلك.
وروي من جهة أخرى ما يدل على أن آدم u عرف بخصائص الأشياء التي يتعامل معها ومنافعها ومضارها، وفي هذا روي عن قتادة قال: علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم يعلم الملائكة، وسمي كل شيء باسمه وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه.
وهذا يدل ـ كذلك ـ على ان المعارف الأساسية للإنسان في جميع المجالات معارف توقيفية لا اجتهادية.
ومنها الأسماء المتعلقة بالمستخلف عليه.. وهو أيضا من المعارف الأساسية التي يحتاج إليها في أداء وظيفة الخلافة..
قلت: ما تعني بهذا؟
قال: لقد ورد في نصوصنا المقدسة الإخبار بأن جميع الكون، دقيقه وجليله يستند إلى أسماء الله الحسنى التي تمده بمعاني الوجود التي هو عليها.
ويدل على هذا أن القرآن الكريم لم يذكر كلمة ( الأسماء) معرفة إلا وأراد بها الأسماء الحسنى، كما قال تعالى:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (لأعراف:180)، وقال:{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (الاسراء:110)، وقال:{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (طـه:8)، وقال:{ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر:24)
أما الأسماء الورادة نكرة، فلها بعض الدلالة، لأنها وردت في التسميات الخاطئة للأوثان التي عبدت من دون الله، وكأن أسماء الله بذلك أعيرت ـ من باب الشرك ـ لتلك الأوثان، قال تعالى عن يوسف u:{ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (يوسف: من الآية40)، وقال:{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (لنجم: من الآية23)
قلت: وعيت هذا، ولكن كيف ذكر قرآنكم أن الملائكة جهلت معرفة الأسماء مع ما لها من القرب من الله؟
قال: ذلك يرجع إلى أن أسماء الله لا يحصرها الحاصر، وهي تتعلق بكل الأشياء.. ولذلك لا يعرف شيء منها إلا من له علاقة به.
فالملائكة ـ عليهم السلام ـ مفطورون على الطاعة، وتستحيل في حقهم المعصية، فلذلك قد لا يدركون من أسماء الله التي يعرفونها ما يتعلق بالمغفرة والتوبة، فذلك لما عرضت هذه الأسماء أخبروا عن جهلهم بها وردوا العلم فيها إلى الله.. ولعله لأجل هذا أسرع آدم u بالتوبة بمجرد اقتراف المعصية لما علمه من أسماء الله المقتضية لذلك.
قلت: إن كل ما ذكر من مؤهلات التكليف يخص آدم u، فكيف يكون العدل في تكليف البشرية جميعا بمؤهلات وهبت لفرد منها؟
قال: مع أن المعارف التي تلقاها آدم u ورثها لذريته، إلا أن رحمة الله تعالى لم تكتف بهذا التوريث الذي قد يدخل فيه من التحريف ما ينحرف به مسار الإنسان، بل زودت الإنسان بمدد آخر هو المدد الثاني.. وهو من أهم الأمداد.
قلت: فما هو؟
قال: لقد زود الله الإنسان بمعلمين دائمين للأسماء والحقائق، ولهذا قال تعالى لآدم u بعد نزوله إلى الأرض:{ اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: من الآية38)
ولذلك أخبر تعالى أنه لم يخل القرى من الأنبياء والرسل المقومين لأقوامهم والمعرفين بالفطرة الأصلية، والمعلمين للأسماء، والهادين إلى الإجابات الصحيحة على اختبارات التكليف، قال تعالى:{ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر:24)، وقال تعالى:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (النحل:36)
فهاتان الآيتان الكريمتان تدلاَّن على أن كل الأمم السابقة أرسل الله لها من ينذرها، ويعرفها بوظيفتها، وبمقتضيات هذه الوظيفة، ولذلك نبه من قد يتصور أن الأنبياء مقصورون على ما ورد ذكرهم في القرآن الكريم إلى وجود غيرهم، فقال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: من الآية78)
ولذلك من الأخطاء الشائعة اعتقاد النبوة خاصة بمناطق معينة كالشام والحجاز ونحوها، بل على سلالات معينة كسلالة إبراهيم u، بل إن النبوة تشمل الأرض جميعا، ولكن القرى لم تلق بالا لهؤلاء الأنبياء، فلذلك نسوا، وأهمل ذكرهم،أو حرفت تعاليمهم ([25]).
ولذلك كان من عدل الله ورحمته بخلقه أن لا يحاسبهم إلا بعد إرسال الرسل إليهم، كما قال تعالى:{ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام:131) أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه دعوة، ولكن أعذرنا إلى الأمم وما عذبنا أحد إلا بعد إرسال الرسل إليهم.
ولهذا تستفهم الملائكة ـ عليهم السلام ـ المعذبين عن إرسال الرسل إليهم بمجرد إلقائهم في العذاب، كما قال تعالى:{ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} (الملك:8 ـ 9)، وقال تعالى:{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الزمر:71)، وقال تعالى:{ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (فاطر:37)
وقد بين الله تعالى سنته في ذلك ـ والتي لا تبديل لها ـ فقال تعالى:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء: من الآية15)
قلت: ولكن الرسل معدودون ومحدودون.. وأنت ترى أن أجيالا مرت على البشرية لم يرسل لها فيها رسول واحد.
قال: لقد تفضل الله على عباده برحمته، فأنزل عليهم كتبا فيها كلامه لهم.. ليعرفهم فيها بنفسه، وبحقيقتهم، ووظيفتهم، ويدعوهم بكل الأساليب ليتخلصوا بها من كل الحجب، ويقضوا على كل العصابات التي تحول بينهم وبين الامتحان العظيم الذي أعده لهم.
وكتب الله لا تعد ولا تحصى، وكلمات الله إلى خلقه لا تنفذ، قال تعالى:{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف:109)، وقال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان:27)
والله تعالى ـ برحمته ـ أمد عباده في أول لحظة احتاجوا فيها إلى كلماته ليضمدوا بها الجراح التي أحدثتها فيهم عصابات الغفلة، قال تعالى:{ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:37)
وظلت هذه الكلمات هي السيف الأعظم الذي يحطم حجب الغفلة، ويقضي على عصاباتها، قال تعالى:{ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (يونس:82)
وسر ذلك يرجع إلى التأثير العظيم الذي جعله الله في هذه الكلمات، قال تعالى:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21)
والبشرية التي تاهت عن الله، فاستحقت بذلك أن تطبق عليها قوانين العدالة الإلهية لم تته لأن الله حرمها من كلماته، وإنما تاهت لأنها احتقرت كلمات الله، أو تدخلت فيها كما يتدخل المجرمون، فيحولون من القوانين وسائل إجرام، قال تعالى عن المبدلين الذي تدخلوا في كتب ربهم ينسخونها بما ينسجم مع أهوائهم:{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)} (آل عمران)
وقال تعالى:{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} (البقرة)
ولو أن هذه البشرية تخلصت من أهوائها، وراحت تقرأ رسائل ربها بصدق، فإنها تجد الحق أمامها أقرب إليها من كل شيء، قال تعالى:{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (المائدة)
وقال تعالى:{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) } (المائدة)
وفي تلك اللحظات ستنزل عليهم جميع بركات الله التي حجبتها عنهم عصابات الغفلة، قال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} (المائدة)([26])
قلت: ولكن كلمات الله قد يساء فهمها، وهي على العموم لا تغني عن المبلغين والشارحين.
قال: ولذلك كان من رحمة الله وعدله بين عباده أن جعل في البشر خلفاء للرسل يحفظون هديهم.. ولا يخلو منهم زمان.. لتقوم بهم الحجة على عباده، قال تعالى:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( لا نزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)([27])
وقال:( لن تخلو الارض من ثلاثين مثل ابراهيم خليل الرحمن، بهم تغاثون، وبهم ترزقون، وبهم تمطرون)([28])
وقال:( إن أبدال أمتي لم يدخلوا الجنة بالاعمال ولكن إنما دخولها برحمة الله، وسخاوة الانفس، وسلامة الصدر، ورحمة لجميع المسلمين)([29])
فهذه الأحاديث وغيرها كثير يثبت لطف الله بعباده.. فكل من احتاج الوصول في أي لحظة وجد من يدله عليه([30]).
ولهذا، فإن الله تعالى لا يقيم الساعة إلا بعد أن تنفذ الأرض من أوليائه، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الارض: الله الله)([31])، وقال: ( لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)([32])
قلت: وعيت هذا.. فما المدد الثالث؟
قال: المدد الثالث هو تفريغ الإنسان للاختبار بتيسير حياته على الأرض، بحيث لا يستهلك وقته في رعاية جسده وحفظ وجوده.. ويشير إلى هذا قوله تعالى عقب الآية المخبرة عن غاية الخلق:{ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (الذريات:57)، ثم تعقيبها بقوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } (الذريات:58)
ففي ذلك كله إشارة إلى تفريغ الإنسان إلى ما طلب منه من مزاولة الخلافة، وأداء ما أمر به من عبادة.
وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من النصوص الدالة على تيسير الحياة على الأرض وتوفير ما يحتاجه الإنسان من مرافق ليتفرغ للتكليف.
وهذا سر من أسرار تسخير الأشياء للإنسان ليتناول منها باسم الله ما يحتاجه وجوده على هذه الأرض، وليكون اختبارا من جهة أخرى، ولذلك يعرض القرآن الكريم أنواع المسخرات لتشير إلى مدى التفرغ الذي أوتيه الإنسان لمزاول التكليف:
ومن المسخرات المذكورة في القرآن الكريم تمهيد الأرض وتيسير الحياة عليها حتى صارت كالدابة الذلول، كما قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك:15)
ومنها تسخير الوسط والأجواء التي يعيش فيها الإنسان كما قال تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (ابراهيم:33)، وقال تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل:12)، وقال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحج:65)
ومنها تسخير جميع الكائنات الحية التي على الأرض للإنسان، كما قال تعالى:{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج:37)، وقال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل:14)
بل إن القرآن الكريم يخبرنا عن تسخير ما في السموات كتسخيره ما في الأرض للإنسان، كما قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} (لقمان:20)، وقال تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثـية:13)
ومن خلال ما ورد في النصوص، فإن الغرض من هذا التسخير ليس هو تفريغ الإنسان لعبودية الله فقط، بل هناك غرض آخر يرتبط بالتكليف، وهو اختبار سلوك الإنسان مع هذه المسخرات، هل يتعامل معها باسم الله، أم باسمه هو، وهل ينسبها إلى الله أم ينسبها إلى نفسه، ولذلك عقب تعالى على تسخير الحيوانات المركوبة بقوله تعالى:{ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (الزخرف:13)
وقد ورد في النصوص ما يدل على أن المقصد من تفريغ الإنسان عبادته لله، كما قال تعالى:{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } (الشرح:7)، أي إذا فرغت من أُمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، واخلص لربك النية والرغبة.
ومن ذلك قوله تعالى:{ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل:8)، أي أكثر من ذكره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته.
وقد ورد في الحديث القدسي:( يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك)([33])
وإلى هذا المعنى أشار الأثر الإلهي المشهور:( ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء)
ولذلك يشير العارفون إلى هذا المعنى في تربية السالكين حتى لا ينشغلوا بما ضمن لهم عما طلب منهم، كما قال ابن عطاء الله معبرا عن ذلك:( اجتهادُكَ فيما ضَمِنَ لكَ، وتقصيرُكَ فيما طَلَبَ منكَ، دليلٌ على انْطماسِ البصيرةِ منْكَ)
قلت: وعيت هذا.. فما المدد الرابع؟
قال: ما بثه الله من أنوار الهداية.. فهي كالمصابيح تضيء للسالكين إلى الله دروب الهدى.
قلت: فما هذه الأنوار؟
قال: أعظمها نور الله.. فمن عرف الله تعالى رأى كل ما في الكون أنوارا من أنوار الهداية، فكل شيء يدل على الله، وكل شيء يعرف بالله، حتى ما نتصوره من حجب تحجب عن الله هي في حقيقتها أدلة على الله وهادية إليه.
فإن من أسمائه تعالى النور والظاهر والهادي، فهو النور الذي استمدت منه جميع الأشياء وجودها، قال تعالى:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (النور: من الآية35)
وهو الهادي الذي دل على نفسه بكل شيء { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53)
فكيف بعد هذا يتصور أن يحتاج إلى ما يدل عليه و{ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (الحديد:3)
وكيف يتصور أن يحتاج إلى ما يدل عليه، و( جميع ما في العالم شواهد ناطقة وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها ودالة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته)([34])
فإن كان البشر يستدلون بعقولهم التي يتيهون بها على الكون على حياة الكاتب وليس لها من شاهد إلا ما أحسسنا به من حركة يده، ( فكيف لا يظهر عندنا ما لا يتصور في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها إلا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله، إذ كل ذرة فإنها تنادى بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها ولا حركتها بذاتها، وأنها تحتاج إلى موجد ومحرك لها يشهد بذلك)
ولهذا لا يرى العارف الذي أعمل ما أعطاه الله من طاقات ومواهب ( إلا الله تعالى، ولا يعرف غيره، يعلم أنه ليس في الوجود إلا الله، وأفعاله أثر من الآثار قدرته فهى تابعة له، فلا وجود لها بالحقيقة دونه، وإنما الوجود للواحد الحق الذى به وجود الأفعال كلها، ومن هذه حاله فلا ينظر في شيء من الأفعال إلا ويرى فيه الفاعل، ويذهل عن الفعل من حيث إنه سماء وأرض وحيوان وشجر،بل ينظر فيه من حيث أنه صنع الواحد الحق فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره)([35])
ولهذا، فإن أول نور من أنوار الهداية هو الله، فالله هو النور الذي يستدل به، ولا يحتاج للاستدلال عليه.
ولهذا يقول العارفون في مناجاتهم:( إلـهي! كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟)
ويرددون مع أبي الحسن الشاذلي:( كيف يعرف بالمعارف من به عرفت المعارف؟ أم كيف يعرف بشيء من سبق وجوده وجود كل شيء)
فهذا النور من أنوار الهداية كاف واحده لإضاءة جميع ظلمات الكون، وكاف وحده لخرق جميع حجب الغفلة، ولحرق جميع عصابات الغواية.
قلت: أنعم به من نور.. فما غيره؟
قال: أكوان الله..
قلت: أليست الأكوان هي سبب الغفلة؟
قال: عندما ننظر إلى الأكوان بمنظار الغفلة تكون من جند الغفلة ومددها.. لكنا إن نظرنا إليها بمنظار اليقين والإيمان، فإنا سنراها مرائي تتجلى فيها الحقيقة بأكمل صورها..
ولهذا اعتبر القرآن الكريم الكون جميعا هاديا إلى الله ومعرفا بالله.. ولهذا دعا الخلق الغارقين في أو حال الجدل إلى إغلاق أسفارهم التي تبحث عن وجود الله لينظروا:{ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} (الغاشية)
والله تعالى يخاطب العقول جميعا التي يتفق البشر جميعا على أن لهم منها النصيب الأوفر، بل إن أكبر مسبة لهم أن يتهمهم أحد في عقولهم ليقول لهم:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة:164)
ويعرفهم بـ { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} (ابراهيم:32)
ويسأل عقولهم التي تشق الشعر بذكائها، ليقول لها:{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل:60)
ويقول لها:{ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (النمل:61)
ويقول لها:{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل:62)
ويقول لها:{ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل:63)
ويقول لها:{ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل:64)
بعد هذا، وهو رشحة من محيط الدلائل على الله، هل يمكن لعاقل أن يقول بأن الكون حجاب عن الله، وهو كتاب الله الذي تجلى لعباده من خلاله.
وهل يمكن أن نجعل أولئك المسدلين حجب الغفلة أصلا، ونجعل كل هذه الدلائل أنوارا كاسفة؟.. أم نتصور أن شمس الكون تحجبها تلك الأكف الهزيلة التي تريد أن تحول بين الخلق وإبصارها؟
***
قلت: أنعم بما ذكرت من أنواع المدد.. ولكن ألا ترى أن كتابكم المقدس الذي ينص على ما ذكرت من معان هو نفسه من يخبر بأنواع كثيرة من السدود تمنع الضال من الهداية والكافر من الإيمان!؟
فكيف يحطم الضال أو العاصي حصون الختم والطبع والأكنة والغطاء والغلاف والحجاب والوقرة والغشاوه والران والغل والسد والقفل والصمم والبكم والعمي والصد والصرف والضلال والإغفال والمرض والخذلان والأركاس والتثبيط والتزيين التي يحدثنا القرآن الكريم أنها حواجز منيعة تحول بين الكافر والإيمان([36])!؟
وكيف تفسر ما ورد في القرآن من أن الله هو الذي وضع الحجب التي تحول بين عباده والإيما.. فقد ورد فيه:{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} (يّـس:9) ثم ذكر نتيجة هذه السدود بقوله:{ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (يّـس:10)
وفيه الإخبار عن ختم الله على القلوب والأسماع:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة:7)، وفيه:{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (الجاثـية:23)
قال: ألا ترى أن المجرم في أي قانون من قوانين الدنيا يحاسب ويعاقب بحسب جرائمه، فقد يكتفى بحجزه أياما معدودة، قد يتلقى فيها بعض التوجيهات، ثم يطلق لحال سبيله.
وقد تزيد جريمته، فيشتد عليه بحسبها، بل قد يحكم عليه بأن يقضي حياته محجوبا في السجن، أو يقضى عليه بالإعدام؟
قلت: صحيح هذا.. ولكن ما علاقته به؟
قال: أهذا السلوك الذي سلك مع المجرم بسبب جرائمه سلوك عادل أو ظالم؟
قلت: بل هو سلوك عادل.. وكل الفطر تسلم لذلك.
قال: فما ذكره القرآن الكريم من المصطلحات الحسية المرتبطة بهذا لا يعني إلا هذا.
قلت: لم أفهم.. كيف يحبس القلب أو كيف يختم عليه.. ثم يكون ذلك الحبس والختم عقوبة عادلة.
قال: أرأيت لو وهب للمتحنين في أي امتحان ورقة بيضاء نقية كنقاوة الفطرة الإنسانية، فاشتغل بعض الطبة بتلطيخ تلك الورقة إلى أن أصبحت ورقة سوداء لا محل فيها لأي إجابة صحيحة أو خاطئة، فهل يقال بأن مراقب الامتحان إن أخبر الممتحن العابث بأن ورقته قد طبع عليها أو ختم عليها، فليس فيها محل لأي جواب يكون المراقب قد أجبره على ذلك الطبع والختم؟
قلت: لا.. المراقب هنا يصف الحقيقة..
قال: فمثل ذلك تماما ورقة الفطرة الإنسانية، وصفحة القلب إن ملأها صاحبها بصنوف المعاصي..
لقد ورد في نصوصنا المقدسة الإشارة إلى هذا.. فالله تعالى عندما حدثنا عن شخصية المطفف المحتال الذي يتعامل مع الحقائق الكبرى انطلاقا من مصالحة الضيقة المحدودة، فتختصر الدنيا والآخرة عنده في تلك المكاييل التي يكيل بها، وفي تلك الفوائد التي يجنيها.. بدأ فأخبرنا بمصيرهم الأخروي الذي ينتهي بهم إلى سجين، وهي السجن الضيق، وهو سجن يتناسب مع قلوبهم التي ضاقت عن الحقائق واكتفت بالمكاييل، قال تعالى:{ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)} (المطففين)
والآيات الكريمة لا تقتصر على عادة القرآن الكريم في ذكر العقوبة دون ذكر التهم الموجهة لأصحابها، فلذلك جاء بعد هذه الآيات ما يبين انسجام العقوبة مع نفسية وسلوك صاحبها، فقال تعالى:{ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) } (المطففين)
فالآيات الكريمة تتحدث عن علة تلك العقوبة العظيمة، وهو أن هؤلاء الذين يتعرضون لصنوف الهداية من المرسلين أو من ورثتهم ينحجبون بالغفلة التي أفرزتها الأهواء في قلوبهم عن رؤية الحق أو الاستماع له، فلذلك ينسبون تلك الآيات التي يتلوها المؤمنون إلى أساطير الأولين.
وهم في ذلك يشبهون ذلك الممتحن الذي يلطخ صفحته البيضاء الطاهرة بصنوف العبث والعشوائية.
ثم بينت الآيات السبب لذلك، وهو لا يختلف عن السبب الذي جعل الممتحن يلطخ ورقة إجابته، وهو ما نص عليه قوله تعالى:{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (المطففين:14)، أي أن كسبه وعمله وحركة قلمه هي التي ملأت فطرته بقعا منحرفة حالت بينها وبين التعرف على الحق أو سلوكه.
وقد فسر صلى الله عليه وآله وسلم الآية بقوله:( إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول اللّه تعالى:{ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ()([37])
وإن أردنا تمثيلا واقعيا آخر على هذا، وهو ما يكاد ينطق به هذا الحديث الشريف هو ما نعرفه في الواقع من تأثير الإدمان على الجسد، بحيث لا يملك صاحبه دفع آثاره، فالمدمن هو الذي أقبل على ما أدمن عليه باختياره، ولكنه نتيجة للمبالغة فيه وصل إلى حالة المتحكم فيه بعد أن كان متحكما في نفسه، كما قال الشاعر:
تولع بالعشق حتى عشق |
فلما استقل به لم يطق |
رأى لجة ظنها موجة |
فلما تمكن منها غرق |
والقلب في ذلك كالجسد، قد يتمكن منه ما بالغ فيه إلى الحد الذي لا يبقى في قلبه محلا لغيره، وحينذاك يغلق قلبه أو يقفل أو يختم عليه، ويكون ما حاق به من ذلك أمرا غير مستغربا، ويكون هو الجاني على نفسه في كل ذلك.
ولذلك لم ترد هذه التعابير في القرآن الكريم إلا مع من اشتد في كفره وبالغ فيه إلى درجت محقت من قلبه كل استعداد للخير، أما الكفار العادي، فإن أكثر من تبع الأنبياء ونالوا فضل صحبتهم كانوا كفارا، وانتقلوا إلى الإيمان لأنه لم يختم على قلوبهم بختم الإدمان.
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الكلمة الرابعة.. حدثني عن المجازاة.
قال: لقد نصت جميع نصوصنا المقدسة على أن كل جزاء يناله الإنسان خيرا أو شرا، في الدنيا أو الآخرة هو ثمرة من ثمار كسبه، وحصاد من نبت زرعه، فلا ينال الإنسان إلا ما كسبت يداه، قال تعالى:{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (آل عمران:25)
قلت: إن في نصوصنا المقدسة ما يدل على هذا أيضا.. فما أسهل الدعاوى.. وما أسهل نقضها.
قال: لا.. ليس في نصوصنا المقدسة أي تناقض في هذا.. بل إنها جميعا في منتهى التكامل والتوافق والعقلانية.
أعجبتني أحاديثه، فرحت أستفزه بقولي: فما الكلمات التي تعلمتها من نصوصك المقدسة في هذا؟
قال: كلمات كثيرة.. سأقتصر لك منها على أربع كلمات.
أما أولاها فهي المساواة.. فالجزاء الإلهي يتساوى فيه الجميع، فلا يفضل فلان من الناس على غيره.. ولا تفضل فيه أمة على غيرها.. فالخلق كلهم خلق الله.. والعدل يقتضي أن يعاملوا كلهم معاملة واحدة.
وأما الثانية، فهي الموازين.. فالجزاء الإلهي موزون بموازين دقيقة تسجل كل شيء، ولا يغيب عنها شيء.
وأما الثالثة، فهي المحاكمة.. فالجزاء الإلهي لا يناله صاحبه إلا بعد أن يحاكم محاكمة عادلة، يتاح له فيها أن يستشهد من يشاء من الشهود، ويدافع عن نفسه بما استطاع أن يدافع.
وأما الرابعة، فهي التوافق.. فالجزاء الإلهي متوافق تماما مع الأعمال، وكأنه حصاد لبذور الأعمال، فمن زرع شوكا لن يجني إلا شوكا.
قلت: أنعم بما ذكرت.. فحدثني عن أولاها..
قال: إن الوصف الأول للجزاء الإلهي هو المساواة، فالله تعالى يعامل عباده معاملة واحدة، والمعاملة الواحدة تقتضي أن يجازى كل شخص بحسب عمله، لا بحسب هواه.
ولهذا كانت آخر آية من القرآن الكريم، أو آخر وصية من الله لعباده هي قوله تعالى:{ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (البقرة:281)
وهو المعنى الذي أكدته بتعابير مختلفة كثير من آيات القرآن الكريم، قال تعالى:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: من الآية286)، وهذه الآية الكريمة جمعت بين العدالتين: عدالة التكليف وعدالة الجزاء.
وبهذا، فإن كسب الإنسان وحده هو الذي يحدد مصيره، والعدل يقتضي تفرد الكسب بتحديد المصير حتى لا ينجح في هذا الامتحان إلا الجادون المجتهدون الصادقون، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)([38])
والمراد بالهوى هنا هو كل ما يتصوره الإنسان فكرا سليما أو ذوقا رفيعا أو كشفا صادقا يحول بينه وبين ممارسة العمل الذي كلف به الخلق جميعا، أو يجعل له من المزية ما ليس لغيره مما يتناقض مع نظام العدل الذي بني على أساسه الكون.
ولهذا ما ذكر الهوى في القرآن الكريم إلا مذموما، وقد قال ابن عباس:( ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال الله تعالى:{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} (لأعراف: من الآية176)، وقال تعالى:{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف: من الآية28)، وقال:{ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّه} (الروم: من الآية29)، وقال:{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (القصص: من الآية50)، وقال:{ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (صّ: من الآية26))([39])
ولهذا نفى القرآن الكريم كل ما يتوهمه الإنسان من الأهواء والعلل التي يتصور أنها قد تلغي عدالة الله:
ومنها تصوره ارتباط مصيره بمجرد أمانيه وأحلامه وأوهامه، وكأن أوهامه هي التي تملي على الله ما يطلبه، أوكأنه يريد أن يساوي لذات أمانيه بعرق ودماء وجهد العاملين المخلصين، قال تعالى نافيا هذا الوهم:{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (النساء:123 ـ 124)
وقال منكرا على من غرته الأماني:{ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} (لنجم:24)أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له، وقد عقبت هذه الآية بقوله تعالى:{ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} (لنجم:25)، وكأنها تشير إلى أن عجز الأماني وقصورها عن تحقيق مطالب الإنسان في الدنيا هو نفسه عجزها وقصورها عن تحقيق مطالبه في الآخرة.
ومنها الفهم الخاطئ لحقيقة الشفاعة، حيث حولتها الأماني القاصرة إلى وساطة كوساطات الدنيا تعمق الجور، وتولد الظلم، فلذلك عقبت الآيات السابقة من سورة النجم بقوله تعالى:{ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (لنجم:26)
والشفاعة في حقيقتها ـ والتي تدل عليها النصوص ـ هي جزاء كسائر أنواع الجزاء التي ينالها الخلق في الآخرة لأعمال عملوها أو صفات اتصفوا بها، وليست كما يتوهم من أنها وساطة ينجو على أساسها قوم في الوقت الذي يحرم منها غيرهم مع تساوي الاستحقاق، لأن ذلك لا يتناسب مع العدل المطلق الذي بنيت عليه قوانين الآخرة.
ولذلك أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا ينتفع من لا يستحق من أمته من هذه الشفاعة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم في موعظة جمع لها الصحابة y:( أيها الناس إنكم محشورون إلى اللّه عزَّ وجلَّ حفاة عراة غرلا { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } (الانبياء: من الآية104)، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح:{ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} (المائدة)، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)([40])
ومن الأهواء التي تصورها الخلق بديلا عن الكسب الاغترارا بالأنساب، وتوهم أنها من القوة بحيث تحول بين الله وعقوبة من يستحق العقوبة، فيتساوى في منطقها الصائم القائم بالسكير الفاجر لأن نسب الفاجر ـ على حسب هذا الوهم ـ من القوة ما يلغي عدالة الله بين عباده.
ولهذا أنكر تعالى على الأمم قبلنا هذا الوهم، فقال تعالى:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة:18)
وأخبر تعالى أن لكل أمة ما كسبت، فلا يسأل إلا المكتسب، قال تعالى:{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة:134)، أي أن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيراً يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم.
وقد أشار تعالى إلى هذا عدم جدوى هذا الوهم بقوله على لسان يعقوب u:{ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (يوسف: من الآية67)
وإلى هذا أيضا يشير قوله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من أن الأمر لله وحده، قال تعالى:{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران:128)
ولهذا ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من رجل يسلك طريقا يطلب فيه علما إلا سهل الله له طريق الجنة ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)([41])
وفي هذا الحديث جمع لطيف بين المجتهد الذي يسلك طريق العلم، فيسلك بسلوكه طريق الجنة، وبين من يكتفي بالقعود مع التغني بأمجاد سلفه التي لا تغني عنه شيئا.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشتد في نفي هذه الأنواع من الأوهام، وقد قرأ مرة قوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)
ثم قال:( فليس لعربى على عجمى فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لاسود على أبيض فضل، ولا لابيض على أسود فضل، الا بالتقوى، يا معشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على أعناقكم، ويجئ الناس بالاخرة، فانى لا أغني عنكم من الله شيئا)([42])
وهذا القانون الإسلامي هو الفاصل بين فهم الإسلام لدور الكسب، وبين فهم المسيحية التي تربط مصير الخلق جميعا بخطيئة أبيهم آدم u، ثم تربط تكفير الخطيئة بمن لم يعملها.
ومنها وهم الانتساب إلى مذاهب أو أديان مع الخلو من الأعمال، فيتصور المتوهم أن انتسابه وحده كاف في نجاته، ولذلك قال تعالى رادا على بني إسرائيل في قولهم:{ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } (البقرة: من الآية111)
وقد رد الله تعالى على هذا الوهم بقوله تعالى:{ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: من الآية111)
ويدخل في هذا الوهم هذه التصنيفات الكثيرة التي امتلأت بها أسماع الأمة من تقسيمها إلى سنة وشيعة وغيرها.. فيحسب كل سني أنه قد ظفر بالفردوس الأعلى ما دام قد احتكر سوق السنة..ويحسب الشيعي أن غيره عامة لن يرقى إلى رتبته ما دام قد احتكر سوق أهل البيت..
وهذه كلها أوهام..
فالله تعالى قسم عباده أقساما كثيرة.. وليس منها واحد من هذه الأقسام، فقد قال تعالى:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32)
فكل صنف من هذه الأصناف قد يكون سنيا، وقد يكون شيعيا، وقد يكون من غيرهما.
فالله تعالى بعدله لن يسأل الناس يوم القيامة عن متون العقائد، وهل حفظوها، وإنما يسألهم عما انطوت عليه جوانحهم من الإيمان، وعما كسبته جوارحهم من السلوك.
ولهذا ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن رجلا كان قبلكم رغسه([43]) الله مالا وولدا، فقال لبنيه لما أحتضر: إي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: إني لم أعمل خيرا قط فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، قم اذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله فقال: ما حملك؟ قال مخافتك فتلقاه برحمته)([44])
فهذا الرجل ـ على حسب هذا الحديث الصحيح ـ كان يحمل عقيدة منحرفة في قدرة الله تعالى ([45]).. فهو تصور أنه إن فعل به ما فعل لن يقدر الله على جمعه، ومع أن هذه العقيدة عقيدة كفر إلا أن الله تعالى برحمته نظر إلى قصده ونيته، فغفر له.
ومنها وهم من ألفوا الرشوة في الدنيا، فيتصورون أن بإمكانهم رشوة الملائكة، أو ربما رشوة الله تعالى، قال تعالى:{ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الحديد:15) أي لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهباً ومثله معه ليفتدي به من عذاب اللّه ما قبل منه.
ومنها أوهام كثيرة تخالف سنة الله في التعامل مع خلقه، والذي أثبته في الكتب السالفة كما أثبته في القرآن الكريم، قال تعالى في آخر سورة النجم التي جمعت أوهام القاعدين عن الكسب:{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} (النجم)
فهذه سنة الله التي لا تحتمل التغيير ولا التبديل، وكل ما يتوهم أنه شذوذ عنها، فسببه اختلاط المفاهيم أو تدخل الأهواء فيها.
وبناء على هذا فإن الخلق في الدنيا والآخرة يصنفون بحسب أعمالهم، ويجازون بحسب أصنافهم، فلا يدخل في كل صنف إلا من وفر من دلائل انتسابه ما يؤهله لذلك.
ولهذا نفت الآيات القرآنية الكثيرة أي مساواة بين العامل والمتكاسل، أو بين المصلح والمفسد، قال تعالى:{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (صّ:28)
وفي آية أخرى يستفهم مستنكرا:{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (القلم:35)
وقد شبه الله تعالى ـ لتقريب الصورة للأذهان ـ ولإقناع العقل المجادل بصحة هذا التصنيف ـ بعدم تساوي التعامل مع ما نراه من المحسوسات، فقال تعالى:{ قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيث} (المائدة: من الآية100)
وشبه ذلك بالبحار المختلفة الطعوم والمنافع، قال تعالى:{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (فاطر:12)
وشبه ذلك بالتمايز الذي نراه بين الحي والميت، فقال تعالى:{ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (فاطر:22)
وشبه الفريقين من المؤمنين وغيرهم بالمنعم عليهم بالحواس والفاقدين لها، قال تعالى:{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (هود:24)، وقال تعالى:{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: من الآية16)
وشبه الفريقين بالأحرار والعبيد، فقال تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل:76)، وقال تعالى:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر:29)
ولهذا، فإنه لا يستوي ـ في ميزان العقل ـ المجتهد بالمتكاسل والعامل بالمقعد والقائم بالنائم، قال تعالى:{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الزمر:9)
ولا يستوي المجاهدون المضحون بأنفسهم في سبيل الله بالراكنين إل مخادع الرخاء، قال تعالى:{ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:95)
وهذا التفريق شامل لأجزية الدنيا والآخرة، قال تعالى:{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثـية:21)
فحكمة الله وعدالته التي قام عليها السموات والآرض تأبى المساواة بين المسيء والمحسن، قال تعالى:{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (لنجم:31)
قلت: وعيت هذا.. ولكن هذا خاص بالمكلف.. فكيف يتحق العدل مع غير المكلف؟ مع ذلك الصبي الذي مات وهو يحمل بذور الخير والشر، والتي لم تسق بعد فتنبت.. أو مع ذلك الفلاح الذي عاش في أقاصي الأرض منهمكا مع محراثه لا يعلم بإله، ولا يعرف نبيا.. أو مع ذلك المعتوه الذي يرمى بالحجارة، ولو كان عاقلا لتبين معدنه، وتحقق خبثه أو طيبه.. إن قلنا بأنهم يدخلون الجنة، فبأي عمل عملوه؟ وإن قلنا بأنهم يدخلون النار، فبأي جناية جنوها؟ وإن قلنا: إن أمرهم للمشيئة، أو لعلم الله فيهم، فلماذا لم يكن أمر الخلق جميعا للمشيئة، فلم تقم محكمة القيامة، ولم يكن هناك حساب ولا كتب ولا موازين؟ وإن قلنا: إن أمرهم للرحمة، فقد يقول البالغ: لماذا يارب لم تتوفني صبيا لتشملني رحمتك التي شملت الصبي؟ ويقول العاقل: لم يارب لم تذهب عقلي لأبصر من الرحمة ما يبصره المجنون؟ ويقول الفيلسوف: لم يا رب لم تجعلني في غياهب الجهل التي حميت بها ذلك الفلاح البسيط من التعرض لمقتك وعقابك؟ ([46])
قال: لقد ورد في نصوصنا المقدسة أن هؤلاء الذين لم تتح لهم فرصة التكليف في الدنيا تتاح لهم هذه الفرصة في الآخرة.. فقد ورد فيها أن الله تعالى يرسل إليهم رسولا، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، وبناء على ذلك يكون بعضهم في الجنة وبعضهم في النار([47]).
ومما ورد في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:( أربعة يمتحنون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في الفترة، أما الأصم فيقول:( يا رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا) وأما الأحمق فيقول:( يا رب قد جاء الإسلام والصبيان يرمونني بالبعر) وأما الهرم فيقول:( يا رب قد جاء الإسلام وما أعقل شيئا) وأما الذي مات في الفترة فيقول:( ما أتاني لك رسول)، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما، ومن لم يدخلها سحب إليها)([48])
قلت: ولكن الدار الآخرة دار جزاء لا دار التكليف.. فكيف يكلف هؤلاء بالعمل؟
قال: مع أن لهؤلاء أحوالهم الخاصة التي قد لا يشاركهم فيها غيرهم إلا أن الأدلة متظافرة على أن هذا الاعتقاد السائد ليس على عمومه، فقد قال تعالى:{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} (القلم:42)، وقد ثبت في الحديث أن المؤمنين يسجدون للّه يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً، كلما أراد السجود خر لقفاه ([49]).
وفي حديث الآخر ورد في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها، أن اللّه يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مراراً، ويقول اللّه تعالى:( يا ابن آدم ما أغدرك!) ثم يأذن له في دخول الجنة([50]).
زيادة على ذلك ما ثبت في النصوص الكثيرة من الامتحانات والأسئلة التي يتعرض لها أهل القبور.
قلت: ولكن ألا ترى غرابة واستحالة أن يكلفهم اللّه دخول النار، لأن ذلك ليس في وسعهم؟
قال: ولكن ذلك في وسعهم من جهة، وهو مع مشقته لا يختلف كثيرا عن الكثير من التكاليف التي يطلب بها الفوز بسعادة الأبد:
ومنها أن الله تعالى يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، ومنهم الساعي ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم المكدوش على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.
ومنها ما ثبت في السنّة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً([51])، وهذا يشبه إلى حد كبير هذا الامتحان الذي تعرض له هؤلاء.
ومنها أن الله تعالى أمر بني إسرئيل أن يقتلوا أنفسهم، فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها اللّه عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل ([52])، وهو لا يقل مشقة على النفوس مما تعرض له هؤلاء.
زيادة على ذلك كله، فإن أن أمرهم بدخول النار ليس عقوبة لهم، وكيف يعاقبهم على غير ذنب؟ ( وإنما هو امتحان واختبار لهم هل يطيعونه أو يعصونه، فلو أطاعوه ودخلوها لم تضرهم وكانت عليهم بردا وسلاما، فلما عصوه وامتنعوا من دخولها استوجبوا عقوبة مخالفة أمره، والملوك قد تمتحن من يظهر طاعتهم هل هو منطو عليها بباطنه فيأمرونه بأمر شاق عليه في الظاهر، هل يوطن نفسه عليه أم لا؟فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أعفوه منه، وإن امتنع وعصى ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه)([53])
ومن هذا الباب أمر الله تعالى الخليل u بذبح ولده، ولم يكن مراده تعالى من ذلك سوى امتحانه على مدى امتثاله وتسليمه وتقديمه محبة الله على محبة الولد، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح.
بل إن عباد النار ـ مع كفرهم ـ يتهافتون فيها ويلقون أنفسهم فيها طاعة للشيطان، ولا يقولون: ليس ذلك في وسعنا مع تألمهم بها غاية الألم، ( فعباد الرحمن إذا أمرهم أرحم الراحمين بطاعته باقتحامهم النار كيف لا يكون في وسعهم وهو إنما يأمرهم بذلك لمصلحتهم ومنفعتهم)([54])
بل إن اقتحامهم النار المفضية بهم إلى النجاة لا تختلف عن الكي الذي يحسم الداء، أو هي بمنزلة تناول الداء الكريه الذي يعقب العافية.
فليس أمرهم بدخول النار من باب العقوبة في شيء، لأن ( الله تعالى اقتضت حكمته وحمده وغناه ورحمته ألا يعذب من لا ذنب له، بل يتعالى ويتقدس عن ذلك كما يتعالى عما يناقض صفات كماله، فالأمر باقتحام النار للخلاص منها هو عين الحكمة والرحمة والمصلحة، حتى لو أنهم بادروا إليها طوعا واختيارا ورضي حيث علموا أن مرضاته في ذلك قبل أن يأمرهم به لكان ذلك عين صلاحهم وسبب نجاتهم، فلم يفعلوا ذلك ولم يمتثلوا أمره، وقد تيقنوا وعلموا أن فيه رضاه وصلاحهم، بل هان عليهم أمره وعزت عليهم أنفسهم أن يبذلوا له منها هذا القدر الذي أمرهم به رحمة وإحسانا لا عقوبة)([55])
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الثانية.
قال: كما أن العدل سار في جميع المكلفين، فلا يقدم أحدهم على غيره إلا بما كسبت يداه، فإن العدل كذلك سار في الموازين التي توزن بها الأعمال، فلا يظلم أحد مثقال ذرة، قال تعالى:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الانبياء:47)
وهذه الموازين تعتمد على الأعمال التي أحصاها الله تعالى على عباده، فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة، قال تعالى في موعظة لقمان u لابنه:{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (لقمان:16)
وقد أخبر تعالى عن مقالة المكلفين حين يبصرون دقة موازين الله، فقال تعالى:{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49)
ولذلك فإن الإنسان يرى في القيامة كل ما كسبت يداه ابتداء من مثاقيل الذر، وهذا من العدل الذي يجعل المتهم مبصرا لجرائمه وذنوبه التي يحاكم على أساسها، قال تعالى:{ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة:7 ـ 8)
وقد أخبر تعالى أن ثقل هذه الموازين بالأعمال الطيبة هو الكفيل بالنجاة، قال تعالى:{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (لأعراف:8)، وقال تعالى:{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المؤمنون:102)
وبخلافه من خفت موازينه، قال تعالى:{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} (لأعراف:9)، وقال تعالى:{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (المؤمنون:103)
ومن مظاهر العدل الإلهي التي لا يمكن وصفها أن الله تعالى لا يزن الأعمال فقط، كما نفعل في الدنيا حين نكتفي بتقييم الأعمال دون نظر إلى ما يحيط بها من ملابسات، فنقع بذلك في أخطاء كثيرة وجور عظيم.
لكن الله ـ بعدله ـ يزن العمل، وكل ما يرتبط بالعمل من قريب أو من بعيد، ولهذ ورد التعبير عن الميزان في القرآن الكريم بلفظ الجمع.
فمن موازين الله العادلة ميزان الأعمال، وهو ميزان مختص بوزن الأعمال التي يقوم بها الإنسان، فلكل عمل عند الله تعالى وزنه الخاص، وقيمته الخاصة.
وقد ورد في النصوص أن هذا الميزان يزن كل شيء.. الصغير والكبير.. الجليل والحقير.. ذلك أن الملائكة الكتبة يكتبون كل شيء.. كما قال تعالى:{ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} (ق)
وقد روي في الحديث عن بلال بن الحارث المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عليه بها، سخطه إلى يوم يلقاه) قال: فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث([56]).
ومن الأحاديث التي رويت فيما يوزن في هذا الميزان ويثقله قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)([57])
وفي حديث آخر، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( والذي نفسي بيده لو جيء بالسموات والأرض ومن فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن)([58])
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي أبا ذر فقال:( ألا أدلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله، قال:( عليك بحسن الخلق، وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما)([59])
وفي حديث آخر، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( ما من شيء يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن)([60])
ومن موازين الله العادلة التي تقام في يوم المحاكمة الأكبر ميزان آثار الأعمال، وهو ميزان مختص بوزن آثار الأعمال التي يقوم بها الإنسان، وهو من دلائل العدل المطلق، وأنه لا يظلم أحد.
وهذا الميزان يستحيل أن تقيم مثله أي محكمة من محاكم الدنيا، ذلك أن محاكم الدنيا ـ في جزائها الإيجابي أو السلبي ـ لا تستطيع أن تمد من تريد أن تجازيه بالعمر الذي يكفي لذلك الجزاء.
ويشير إلى هذا الميزان قوله تعالى:{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يّـس:12)
ويشير إليه قوله تعالى:{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (العنكبوت:13)، وقوله تعالى:{ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (النحل:25)
فهذه النصوص تخبر أن الله تعالى لا يحاسب على العمل فقط.. بل يحاسب على آثاره سواء كانت سلبية أو إيجابية، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، وَمَنْ دعا إلى ضلالة كان عليه مِنَ الإثم مثل آثام مَنِ اتبعه إلى يوم من غير أن ينقص من آثامهم شيئا)([61])
ويشير إلى هذا الميزان من الحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)([62])
ففي هذا الحديث يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا النوع من الموازين، ذلك أن أثر العمل الصالح لا يقل عن العمل نفسه، وأثر الجريمة لا يقل عن الجريمة نفسها.
وهذا من العدل الذي لا يمكن لبشر أن يطبقه.
فالجريمة عندنا جريمة ترتبط بحادثة معينة تبدأ بها، وتنتهي عندها، فالقاتل يتهم بجريمة واحدة هي قتل ضحيته فقط.. بينما آثار تلك الجريمة قد تكون أخطر بكثير من تلك الجريمة الوحيدة.
وعن هذا عبر قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل)([63])
بل إنه ـ يوم القيامة ـ يأتي بعض الناس ممن لم يقتل حشرة، فيحشر في خانة كبار المجرمين.. لا لأنه قتل، ولكن لأنه كتب رواية ملأها بالدماء المسفوكة، أو أخرج فيلما ضمنه ما تختزن نفسه الشريرة من جرائم..
وهكذا بالنسبة للعامل الصالح.. فقد يعمل الرجل العمل الواحد، ويكون له جزؤه لكن الله الشكور الكريم يشكر عبده، فيجازيه بالآثار الإيجابية لذلك العمل.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى معبرا عن أدعية الصالحين الممثلة لأمانيهم:{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان:74)
فهؤلاء الصالحون لم يقصدوا بالإمامة إلا هذا.. فيكونوا قدوة صالحة لغيرهم.. ثم يجيئون يوم القيامة في موازين حسناتهم.
ومن هذا الباب استحب علماء السلوك المسلمين إظهار الأعمال الصالحة، ليكون الصلاح هو السلوك العام الذي يحكم المجتمع المسلم.
وقريب من هذا ما روي من الأعمال التي لا تنقطع بعد موت صاحبها، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)([64])
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( سبع يجري أجرهن للعبد بعد موته وهو في قبره: من علم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته)([65])
وهذه الأحاديث وغيرها كانت سببا في ازدهار الحضارة الإسلامية..
فالحضارة الإسلامية لم يقمها الساسة([66])، وإنما أقامها أفراد المجتمع الذين امتلأوا بمثل هذه القيم.. فراحوا يقفون أموالهم كلها في سبيل الله مما نشط العلوم والصحة والنظام.. وقضى على الفقر والتخلف والمرض والجهل.
ومن الموازين التي ورد ذكرها في النصوص، والتي تبين عظم العدل الإلهي (وزن العامل).. فالموازين الإلهية لا تكتفي بوزن الأعمال، فقد تصدر مظاهر الخير من قلب مليء بالأمراض، أو قد تصدر بعض الذنوب من القلوب الطيبة، فلذلك يوزن الإنسان نفسه بمقاييس العدالة المطلقة.
ولذلك ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند اللّه جناح بعوضة)([67])، ثم قرأ قوله تعالى:{ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: من الآية105)
وبخلاف هذا السمين الهزيل قال صلى الله عليه وآله وسلم في عبد الله بن مسعود عندما تعجب الصحابة y من دقة ساقيه:( أتعجبون من دقة ساقيه والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد)([68])
ويفهم بسر هذا الميزان ما ورد من النصوص في الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ففي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الافق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قيل: من هم؟ قال هم الذين: لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)([69])
فهؤلاء الذين نالوا هذا الشرف لم ينالوه إلا بتوكلهم على الله، وثقتهم في الله، ولذلك جوزوا بأن لا يحاسبوا، كما جوزي الصابرون بأن ينالوا من الأجور ما لا يمكن حسابه، قال تعالى:{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10)
فالصابرون الذي ثبتوا في وجه البلاء وكل ما يصرفهم عن الله ـ والذين جعلهم الله حجة على غيرهم ـ ينالون من الأجور ما لا يمكن تصوره.
وقد روي في الأحاديث التي تذكر موازين الآخرة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( تنصب الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينتشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صباً بغير حساب)([70])
ومن الموازين العادلة التي تنصب في ذلك اليوم الميزان المختص بالأجور، ولعله آخر الموازين، أو هو نتيجة سائر الموازين، وانطلاقا من نتيجته تكون النجاة أو الهلاك.
وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ:{ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} (المؤمنون)([71])
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الثالثة.
قال: من سمات الجزاء الإلهي أنه لا يتم إلا بعد محاكمة عادلة تتسم بكل ما تتسم به المحاكمة العادلة من أوصاف.. بل لا يمكن لأي محكمة أن تتسم بما تتسم به محكمة العدل الإلهي.
فمع أن الله تعالى يعلم ما فعله عباده من خير أو شر، إلا أنه تعالى ـ عدلا منه ـ لا يحاسبهم بمجرد علمه، بل يحاسبهم كما يحاسب الند نده.. وذلك من عدل الله ورحمته بعباده.
فأول ما تستند إليه هذه المحاكمة العادلة هي الكتب التي كتبها الملائكة ـ عليهم السلام ـ بتوكيل من الله تعالى..
فالله تعالى بحكمته وعدله جعل مع كل إنسان شهودا على أعماله، وجعل لهم سجلات خاصة تتناسب مع طبيعتهم يسجلون فيها حركات الإنسان، وأعماله، ولهذا سماهم الله تعالى (كراماً كاتبين)، فقال تعالى:{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ( (الانفطار:10 ـ12)
وقد سمى الله تعالى هؤلاء الملكة الكتبة شهودا، فقال:{ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) (قّ:21)
وأخبر عن كلام الملاك الذي يقدم شهادته يوم القيامة بقوله:) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) (قّ:23)، قال مجاهد: هذا كلام الملك السائق يقول: هذا ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته.
وأخبر أن هؤلاء الكتبة يسجلون كل أعمال الإنسان، فقال تعالى:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18)
وقد ورد ما يدل على أن هذين الملكين يقفان في جانبي الإنسان، ليكون لهما من القرب ما يسجلان به كل شيء كما قفعله تماما رعاية للعدل، قال تعالى:{ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) (قّ:17)
وتستند هذه المحاكمة العادلة أيضا على أنواع الشهود.. وقد ورد في النصوص الجمع بين الكتب المحصية للأعمال والشهود، أو التهم والدلائل، حتى لا يؤاخذ العبد إلا بعد إقامة الحجة الكاملة عليه، قال تعالى: { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الزمر:69)
فالآية الكريمة ذكرت ثلاثة أركان للعدالة، وهي الكتاب الحاوي للتهم، والشهود المثبتة لها، ثم القضاء بينهم بالحق حتى لا يؤاخذ العبد إلا بمقدار جريمته.
والقرآن الكريم يخبرنا عن أنواع الشهود حتى نأخذ حذرنا:
وأولهم الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد، كما قال تعالى:{ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) (قّ:21)، وقال تعالى:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18)، وقال تعالى:{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} (الانفطار)
ومن الشهود الأنبياء، كما قال تعالى حاكياً عن عيسى ـ عليه السلام ـ:{) وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(المائدة: من الآية117)
وقال في حق محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته في هذه الآية: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143)، وقال:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) (النساء:41)
ويدخل في هذا الباب قوله تعالى عن الأرض:{ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) (الزلزلة:4)، أي: تحدث بما عمل العاملون على ظهرها.
وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية:{ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } (الزلزلة:4)، ثم قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عَمِل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها)([72])
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( تحفظوا من الأرض، فإنها أمكم، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرًا أو شرًا، إلا وهي مُخبرة)([73])
بعد كل هذا، فإن الله تعالى ـ بعدله ـ يتيح كل الفرص للإنسان للدفاع عن نفسه، حتى أن له الحق في الطعن في الشهود أنفسهم، حتى لو كانوا ذوي مكانة عالية، ففي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلَّغت؟ فيقول نعم، فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته، قال فذلك قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: من الآية143) قال: والوسط العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم)([74])
وفي حديث آخر تصوير مفصل لمحاورات ذلك المشهد، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( يجيء النبي يوم القيامة، ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعي قومه فيقال: هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون: لا فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول نعم: فيقال من يشهد لك، فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته: فيقال لهم هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون نعم. فيقال وما علمكم؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: من الآية143)، قال عدلاً { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة: من الآية143))([75])
لكن بعض المتهمين من أهل جهنم يستغل هذه الفرصة المتاحة له ـ والتي لم يكن يظفر بمثلها في محاكم الدنيا ـ فلا يكتفي برفض كل الشهود، مع كونهم صفوة الله من عباده، بل يحتال بالكذب الذي كان يحتال به في الدنيا، بل يحتال بالقسم بالله الذي كان لا يعترف به، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الأنعام:23)، وقد قال ابن عباس في تفسيرها:( إنهم لما رأووا يوم القيامة أن اللّه لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركاً، جحد المشركون فقالوا:{ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين})([76])
وحينما يبلغ إنكارهم للشهود منتهاه، ويجادلون في الطعن فيهم كما كانوا يجادلون في الدنيا يأتيهم الله تعالى بما لا يطيقون دفعه، فيقيم عليهم الحجة من أنفسهم، قال تعالى:{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يّـس:65)
فهذه الآية تشير إلى أن هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم اللّه على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت.
وقد صور لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض مشاهد ذلك، وهي تدل على قمة العدالة التي تتيح للمجرم أن يناقش القاضي الأكبر ملك يوم الدين ويجادله وهو يعلم أنه لا يعزب عنه من مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فعن أنَس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:( أتدرون مم أضحك؟) قلنا:( اللّه ورسوله أعلم)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:( من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليَّ إلا شاهداً من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)([77])
فقول المتهم في الآخرة:( رب ألم تجرني من الظلم) يدل على الضمانات الكثيرة التي أخذها العباد لإقامة العدالة المطلقة في ذلك اليوم، وقوله:( فعنكن كنت أناضل) دليل على مدى الحرية التي أتيحت له للدفاع عن نفسه.
وقد ورد في بعض الأحاديث إشارة إلى هذا الصنف الذي تستنطق جوارحه، وهم المنافقون الذين حاولوا أن يحتالوا على قلب الحقائق في الدنيا، وخداع الخلق بها، فلذلك تبقى هذه الأحبولة في أيديهم يوم القيامة، ويتصورون أنهم سيخادعون الله كما خادعوا الخلق،، قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث القيامة الطويل:( ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصلّيت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع ـ قال ـ فيقال له ألا نبعث عليك شاهدنا؟ ـ قال: فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه، فيختم على فيه، ويقال: لفخذه انطقي ـ قال ـ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، وذلك المنافق، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك الذي يسخط اللّه تعالى عليه)([78])
وحينذاك يندم الجاحد على جحوده، ويود لو أنه اعترف في البدء لعل ذلك أن يخفف عنه، وهذا هو وجه الجمع بين قوله تعالى:{ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء:42) والتي تفيد بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئاً، وبين ما رأيناه من صنوف الإنكار.
وكما أن المحاكمة العادلة تقتضي توفر المحامين الذين يدافعون عن المتهم، فإن الله تعالى بعدله نصب المحامين الكثيرين من عباده، والذين سماهم الشفعاء.
ولكن هؤلاء الشفعاء لا يشفعون إلا فيمن رضي الله أن يشفع فيه، فهناك من الجرائم ما لا يمكل معه هؤلاء الشفعاء شيئا، قال تعالى:{ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (طه:109)، وقال:{ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)(سبأ: من الآية23)، وقال:{ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف:86)
قلت: وعيت هذا.. فحدثني عن الرابعة.
قال: السمة الرابعة للجزاء الإلهي هي أنه جزاء متوافق تماما مع نوع العمل، كما قال تعالى:{ جَزَاءً وِفَاقاً } (النبأ:26)، أي: هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وَفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا ([79]).
بل إن النصوص الكثيرة تدل على أن الجزاء المعد في الآخرة هو الصورة المجسدة للكسب، كما قال تعالى:{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (الأنعام:31)
وقد ورد في الآثار عن أبي مرزوق في تفسير هذه الآية قال:( يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من قبره كأقبح صورة رأيتها أنتنه ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أو ما تعرفني؟ فيقول: لا واللّه، إلاّ أنَّ اللّه قبح وجهك وأنتن ريحك، فيقول: أنا عملك الخبيث، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه، فطالما ركبتني في الدنيا، هلم أركبك)([80])
وإلى ذلك أيضا يشير قوله تعالى:{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (آل عمران:161)
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لرجل استعمله على الصدقة، فجاء فقال:( هذا لكم وهذا أهدي لي)، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فقال:( ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، وإن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر؟؟، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت؟ ثلاثاً([81]).
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة محتقرين ممتلئين ذلة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الانيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال)([82])
ولذلك وردت آيات القرآن الكريم تربط بين أصناف الجزاء والأعمال المتعلقة بها، سواء كان ذلك الجزاء في الدنيا أو الآخرة:
أما في الدنيا، فقد ورد في النصوص الكثيرة بيان بعض جزاء الله لعباده على أعمالهم ليكون ذلك إشارة إلى ما ينتظرهم في الآخرة من الجزاء الخالص.
أما أجزية المؤمنين، فقد ورد في القصص القرآني ما يشير إلى ما تعرض له عباد الله الصالحين من فضل الله في الدنيا جزاء وفاقا على أعمالهم الصالحة:
فقال تعالى عن يوسف u:{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:56)، فقد ذكرت الآية الكريمة أن سبب استحقاقه للتمكين هو الإحسان الذي لا يضيع جزاؤه عند الله تعالى.
وقال تعالى عن نوح u:{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} (الاسراء:3) فقد عقب الجزاء بكونه عبدا شكورا.
وقال تعالى عن آل لوط u:{ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} (القمر:34) ثم قال بعدها:{ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} (القمر:35)
وقال تعالى عن الصابرين من بني إسرائيل:{ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (لأعراف:137)، فهذا الجزاء الكريم ثمرة من ثمار صبرهم.
وبمثل ذلك، وعلى ضده جاء الإخبار عن الكفار من السابقين من قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ولوط ومدين وغيرهم الذين أهلكوا بذنوبهم في الوقت الذي نجى الله فيه الأنبياء ومن اتبعهم بإيمانهم وتقواهم، كما قال تعالى مبينا تلك السنة:{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (لأعراف:165) فالجزاء الذي تعرضوا له هو نتيجة طبيعية لفسقهم.
أو هو نتيجة حتمية لظلمهم، كما قال تعالى:{ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت:40)، وقال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (العنكبوت:14)
أو هو نتيجة حتمية لبغيهم، كما قال تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (الأنعام:146)
أو هو نتيجة حتمية لكفرهم، كما قال تعالى:{ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (سـبأ:17)، وقال تعالى:{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (لأنفال:52)، وقال تعالى:{)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (غافر:22)
أو هو نتيجة حتمية لتكذيبهم، كما قال تعالى:{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (آل عمران:11)، وقال تعالى:{ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (النحل:113)، وقال تعالى:{ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء:189)
أو هو بعبارة جامعة نتيجة حتمية لذنوبهم، كما قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} (غافر:21)، وقال تعالى:{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} (لأنفال:54)
وأول ذنوبهم وأخطرها هو معصية الرسل الذين كلفوا بتبليغهم رسالات الله، وقال تعالى:{ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} (الحاقة:10)، وقال تعالى:{ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء:139)
قلت: ولكن ألا ترى أن من الكفار من يعيش مرغدا ويموت مترفا لا يصيبه جرائر ذنوبه ولا تهلكه كثرة معاصيه.. فهل لهذا المتمرد من الوجاهة ما جعله بمنأى من عدالة الجزاء الإلهي؟ وما السر في هذا التمييز الذي تحيرت له الألباب، بل صار فتنة تصد القلوب عن دين الله؟
قال: إن عدالة الله المطلقة، ورحمته التامة الشاملة، والتي سبقت غضبه تتيح لهذا المتمرد من الفرص، وتبلغه من الحجج ما يكفي لعودته، فإن استمر على بغيه أخذ أخذ عزيز مقتدر بمجرد تسليم روحه.
ولذلك علل الله تعالى عدم تعجيله بالعقوبة بمغفرته ورحمته، فقال تعالى:{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} (الكهف:58)
وأخبر تعالى أن كل القرى التي نزل عليها العذاب لم ينزل عليها إلا بعد الإمهال الكافي لإقامة الحجة، قال تعالى:{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} (الرعد:32)، وقال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} (الحج:48)
ويضرب تعالى الأمثلة على ذلك بالأمم التي أصابها العذاب، ولم يصبها إلا بعد فترة طويلة من الإمهال وإقامة الحجة، قال تعالى مسلياً نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في تكذيب من خالفه من قومه:{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} (الحج:44)
بل قد أخبر القرآن الكريم أن الله تعالى أمهل قوم نوح u كل تلك الآماد الطويلة، وبعد تلك الفرص الكثيرة، قال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (العنكبوت:14)
فالإمهال إذن رحمة من الله، أو هو فرصة ممنوحة من الله للظالمين، قد يستغلونها بالرجوع إلى الله، وقد ينتكسون بأن يضاعف لهم العذاب، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ثم قرأ قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود:102))([83])
والأمر الثاني أن امتحان الخلق يقتضي ستر أكثر ما يتعرض له الخلق من الجزاء، لأن تعجيل الجزاء قد يجعل الخلق جميعا في صف واحد، صف الخير أو صف الشر بحسب الجزاء، كما قال تعالى:{ وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف:33) أي لولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال لجعلنا للذين كفروا ذلك الترف الموصوف في الآية.
ولهذا ورد في النصوص الكثيرة الإخبار بأن ما أعطي الكفار من النعيم لا يدل على مرضاة الله، بل قد يدل على سخطه،، قال تعالى مصححا فهوم الكفار الخاطئة:{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون:55 ـ 56)، وقال تعالى:{ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران:178)
ولهذا ورد بعد هذه الآية الإخبار بأن هذا الابتلاء هو الذي يميز الخبيث من الطيب، ويميز بين الراغب في الله، والراغب في المتاع الأدنى، قال تعالى:{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:179)
ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن تعجيل الجزاء قد يؤثر في الابتلاء، ولذلك قال تعالى:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ (
ولهذا يرد في القرآن الكريم الإخبار بأن الجزاء الحقيقي هو الجزاء المعد في الآخرة، قال تعالى مخبرا عن جزاء المؤمنين:{ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } (الزخرف: من الآية35) وقد ورد هذا المعنى عقب ذكر زخارف الحياة الدنيا التي يتهافت عليها الغافلون.
وفي نفس الوقت ينهى تعالى المؤمنين من الإعجاب بما أوتي الكفار من النعيم، قال تعالى:{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } (التوبة:55)
فهذا الإمهال ـ إذن ـ كما ينطوي على معاني الرحمة والعدل، وينطوي على معاني الانتقام ممن لم يعرف للنعمة حقها ولا للإمهال حقه، ينطوي كذلك على سر الامتحان الذي يقتضي ستر الجزاء حتى لا يكون الناس أمة واحدة في الخير أو في الشر.
قلت: وعيت هذا.. فكيف يكون الجزاء وفاقا في الآخرة؟
قال: لقد ربط الله تعالى بين الجزاء المعد للكفار والعصاة، وبين أعمالهم، كما ربط بين الجزاء المعد للمؤمنين، وبين أنواع أعمالهم، فكلا من السعادة والشقاوة في الآخرة منوط بالأعمال:
أما ارتباط الجزاء المعد للمؤمنين بالعمل، فتنص عليه الآيات الكثيرة في معرض التهنئة للمؤمنين على أعمالهم، قال تعالى:{ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور:19) وقال تعالى:{ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (الحاقة:24) وقال تعالى:{ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (المرسلات:43)
ويذكر القرآن الكريم فرح المؤمنين بما قدموه من أعمال بعد أن رأوا أنواع الجزاء المعدة لهم، قال تعالى:{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (لأعراف:43)
وعدل الله المرتبط برحمته، لا ينقص لهم أي جزاء يجازيهم به، ولو أضيف من ذلك الجزاء لأبنائهم، قال تعالى:{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } (الطور:21)
ويربط الله تعالى بين صبرهم على تحقيق حكمة الله من خلقهم وبين جزائهم، فيقول تعالى:{ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (المؤمنون:111) ويقول تعالى:{ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} (الانسان:12)
ولا يتعارض هذا مع ما ورد من النصوص من أن دخول الجنة هو بمحض الرحمة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( لن يدخل أحداً منكم عملُه الجنةَ)، قالوا:( ولا أنت يا رسول اللّه؟)، قال:( ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه تعالى برحمة منه وفضل)([84])
بل كما أخبر تعالى عن مقالة المؤمنين بعد دخولهم الجنة من أنهم يقولون:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (فاطر:34 ـ 35)
فإن أقل نعمة من نعم الله تعالى على عباده لا تكفئها جميع طاعات العبد، بل إن الطاعة نفسها نعيم من نعم الله، فكيف يكون النعيم جزاء على النعيم، وقد ورد في الحديث عن جابر قال: خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: خرج من عندي خليلي جبريل آنفا فقال: يا محمد! والذي بعثك بالحق إن لله عبدا من عباده عبد الله تعالى خمسمائة سنة على رأس جبل في البحر عرضه وطوله ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا والبحر المحيط به بأربعة آلاف فرسخ من كل ناحية، وأخرج الله له عينا عذبة بعرض الاصبع تبيض بماء عذب فتستنقع في أسفل الجبل، وشجرة رمان تخرج في كل ليلة رمانة فتغذيه يومه، فإذا أمسى نزل فأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام لصلاته فسأل ربه عند وقت الاجل أن يقبضه ساجدا وأن لا يجعل للارض ولا لشئ يفسده سبيلا حتى يبعثه وهو ساجد، ففعل، فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا، فنجد له في العلم أنه يبعث يوم القيامة
فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول له الرب تبارك وتعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول: يا رب! بل بعملي، فيقول الله: حاسبوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه، فيقول: ادخلوا عبدي النار، فيجر إلى النار فينادي: رب! برحمتك أدخلني الجنة، فيقول: ردوه، فيوقف بين يديه فيقول: يا عبدي! من خلقك ولم تكن شيئا؟ فيقول: أنت يا رب! فيقول: من قواك لعبادة خمسمائة سنة؟ فيقول: أنت يا رب! فيقول: من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح وأخرج لك كل ليلة رمانة وإنما تخرج في السنة مرة؟ وسألتني أن أقبضك ساجدا ففعلت ذلك بك؟ فيقول: أنت يا رب! فقال الله: فذلك برحمتي، وبرحمتي أدخلك الجنة، قال جبريل: إنما الاشياء برحمة الله يا محمد([85]).
وهذه النظرة النافية للغرور هي التي تقي المؤمن من انحراف بعض الناس والطوائف الذين جرهم فهمهم الخاطئ لمعنى العدل الإلهي إلى أن يطلبوا الجزاء من الله، كما يطلبه الأجير من المستأجر، متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم.
وكأنهم يتصورون أن الجنة عوض حقيقي عن العبادة، أو كأن العبادة عوض حقيقي ينتفع به الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا، فالله تعالى غني عن العالمين إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤا فلها، لهم ماكسبوا وعليهم ما اكتسبوا، من عمل سالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.
وقد ورد في الحديث القدسي الجليل قول الله تعالى لعباده:( ياعبادى أني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ياعبادى أنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفرالذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم يا عبادى كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم ياعبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ياعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ياعبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا ياعبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم مانقص ذلك من ملكي شيئا ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم إجتمعوا في صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك في ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)([86])
فهذا الحديث الجامع لحقيقة علاقة الله بعباده هو الأساس الذي يفهم به المؤمن المراد من العدل الإلهي المزين بالرحمة الإلهية.
ولكن العدل الإلهي مع ذلك يقتضي اختلاف أصناف العاملين، ولو دخلوا جميعا برحمة الله إلى الجنة، فلا يستوي الطائع والمقصر، ولا القريب مع البعيد.
ولذلك صنف المؤمنون في القرآن الكريم بتصنيفات مختلفة كلها ثبت لها دخول الجنة، قال تعالى:{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ((فاطر: 32)
ثم قال تعقيبا على هذا التصنيف:{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (فاطر:33)
لكن درجات النعيم تختلف بحسب الأعمال، وذلك من مقتضيات العدل الإلهي، حتى لا ينال كل امرئ إلا ما كسبت يداه.
ولعله لأجل هذا خوطب المؤمنون في الجنة وهنئوا بأن أعمالهم هي التي أهلتهم لذلك، فقد ورد ذلك عند ذكر المقربين الطيبين، كما قال تعالى:{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل:32)
وفي سورة الرحمن بعد ذكر نعيم المقربين قال تعالى:{ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} (الرحمن) بينما لم يذكر ذلك عند نعيم غيرهم.
وفي سورة الواقعة بعد ذكر نعيم المقربين قال تعالى:{ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} (الواقعة)، وعندما ذكر نعيم غيرهم من أهل اليمين لم يذكر ذلك.
وبذلك، فإن الأعمال لم تؤهلهم لدخول الجنة، وإنما أهلتهم لدرجات الجنة، كما قال عبد الله بن مسعود:( تجوزون الصراط بعفو الله، وتدخلون الجنة برحمة الله، وتقتسمون المنازل بأعمالكم)([87])
وقد نص القرآن الكريم في مواضع كثيرة على استحقاق المؤمنين للدرجات بحسب أعمالهم، فقال تعالى:{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:132)
بل أخبر أن درجات الجنة أكثر بكثير من درجات التفاضل في الدنيا، قال تعالى:{ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الاسراء:21)
وأخبر أن الدرجات العليا من استحقاق من تحققوا بحقيقة الإيمان، فقال تعالى:{ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (لأنفال:4)
وهذا القانون الذي يتقاسم المؤمنون على أساسه نعيم الجنة ودرجاتها هو نفس القانون الذي يتقاسم به أهل جهنم دركات النار، والذي عبر عنه قوله تعالى:{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الاحقاف:19)
فلا يتساوى أهل جهنم في العذاب كما لا يتساوى المؤمنون في النعيم، بل لكل حسب عمله وجهده ووسعه، قال تعالى:{ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (الاسراء:21)
هذا عن نعيم أهل الجنة.. وعلاقة عملهم بها..
أما ارتباط الجزاء المعد لأهل جهنم من الكفار والعصاة بالعمل، فتنص عليه الآيات القرآنية الكثيرة في مواضع مختلفة:
منها أن يعرض ذلك على صيغة الوعيد الإلهي الذي لا يتخلف، قال تعالى:{ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يونس:8)
أو أن يعرض على صيغة التبكيت والسخرية، كقوله تعالى:{ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة:82)، أو قوله تعالى:{ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الحجر:84)، أو قوله تعالى:{ وقال تعالى:{ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المطففين:36)
أو على صورة إجابة أهل النار أنفسهم، كما في هذا المشهد القرآني، قال تعالى:{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ( (المدثر:42 ـ 47)
وهذا يدل على قناعة أهل النار باستحقاقهم لها على مقتضى العدل الإلهي، فعدل الله تعالى الذي يقيم عليها أصناف الحجج، ويدع لهم فرص الدفاع عن أنفسهم بما شاءوا من الأساليب يضطرهم في الأخير إلى التسليم، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف:49)
فهذه الآية الكريمة تدل على ان الكفار يرون أعمالهم، وهي توزن، فيتعجبون من إحصاء الله لكل شيء مع إقرارهم بما عملوه.
ومن عدالة الله في أهل جهنم أن جعل لكل ذنب جزاءه الخاص وعقوبته التي تتناسب معه، فلا يعاقب العبد إلا بما عمل، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي:( ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)([88])
ولذلك جعل الله تعالى جهنم دركات مختلفة بعضها فوق بعض، كما قال تعالى:{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (الاحقاف:19)
وقال في الفرق بين الطرق المختلفة لتعاملهم:{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ} (آل عمران: من الآية75)
بل ورد في السنة ما يدل على أن أهل جهنم مقسمون بحسب نفسياتهم وأسباب إعراضهم عن الله، وذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( المرء مع من أحب)([89])، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:( خمس صلوات من حافظ عليهن كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له نور يوم القيامة ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف)([90])
***
التفت إلينا صاحبنا الهزاز، وقال: هذا حديثي مع ذلك الرجل الفاضل.. لقد عشت في رحاب كلماته أياما جميلة.. ولكني.. سرعان ما تثاقلت إلى الأرض بعد أن عرضت علي بعض المناصب الرفيعة.. فصرت بدل أن يهتز قلبي لله محبة وشوقا وأنسا أحرك أعضائي وأرقص بها في حركات هي أقرب إلى البهلوانية منها إلى الإيمان.
لكن الله الرحمن الرحيم تداركني بلطفه، فأعاد إلى ذاكرتي الساعة
تلك الأيام الجميلة التي نعمت فيها بتلك الصحبة الشريفة..
([1]) الهزازون أو (Shakers) أعضاء طائفة مسيحية في الولايات المتحدة تسمى (الجمعية المتحدة للمعتقدين في العودة الثانية للمسيح)، ويسمَّوْن الهزازين نظرا لأنهم كانوا في بداية تاريخهم يهتزون انفعالا خلال طقوسهم الدينية.. أسست آن لي جماعة الهزازين في عام 1772م تقريبًا في مدينة مانشستر بإنجلترا.
وتشمل مبادئهم الأساسية النقاء العذري، والحب، والسلام، والعدل.. ولهذا اخترنا الحديث عنهم هنا.
وهم يعبرون عن هذه المبادئ من خلال ممارستهم حياة العزوبة، والأخوة العالمية الشاملة، والامتناع عن العنف، واقتسام الممتلكات والبضائع.
وفي عام 1774م، هاجرت آن لي وثمانية من تابعيها من إنجلترا، وفي عام 1776م استقروا في ووترفليت بنيويورك. وجذبت نشاطات لي التنصيرية العديد من الأتباع.. وبدأوا في تكوين مجتمعات أخرى للهزازين على نمط تعاليم لي بعد موتها في عام 1784م. وقد تأسست جماعة الأم الكبرى للهزازين المسماة لبنان الجديدة في نيويورك عام 1787م.
وفي حوالي عام 1850م تقريبًا، وعندما كان الهزازون في قمة شعبيتهم، عاش حوالي 6000 من الأعضاء في مجتمعات تمتد من مين إلى كنتاكي. وتعكس عنايتهم بقراهم تأكيدهم على الدقة في العمل والنظام، أما الاختراعات مثل المناشير الدائرية ومشابك الغسيل فتعكس خيال الهزازين وبراعتهم.
ونظرًا لأنهم لا يعتقدون في الزواج وإنجاب الأطفال، فقد اعتمد الهزازون على تبني الأطفال للمحافظة على عدد جماعتهم. وبدأ عدد الهزازين في التناقص بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية في عام 1865م. وتعيش القلة الباقية منهم ولا يتجاوز عددهم نحو 6 أشخاص في ساباثدي ليك في ولاية مين، وكانتربري في ولاية هامبشاير. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)
([2]) طبعا تختلف الفرق المسيحية في الموقف من هذا.. ولكن قصدنا هو اتفاقها في الموقف من الفداء.
([3]) هي قطر عربي إفريقي، يتكون من عدة جزر تقع في المحيط الهندي محصورة ما بين أراضي قارة إفريقيا غربًا، وجزيرة مدغشقر شرقًا، أي أنها تقع عند المدخل الشمالي لمضيق موزمبيق.
وهي تتكون من أربع جزر بركانية كبيرة ورئيسية.. وهي في مقدمة جهات إفريقيا المدارية التي دخلها الإسلام.. ولهذا، فإن معظم سكان هذه الجزر من المسلمين.
وقد اخترناها هنا تنبيها على أهميتها من جهة، ولكون حاكمها الحالي حاكم مسلم ملتزم داعية عادل، لكنه لا يجد أعوانا على الهمة العظيمة التي يحملها.
([4]) أشير به إلى الإمام (علي الهادي) (212ـ 254هـ)، وهو الإمام العاشر من الأئمة الاثني عشر – حسب مذهب الإمامية – وهو ابن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين الشهيد بن علي أمير المؤَمنين.
كان المثل الكامل للورع والاِيمان والتقوى، معظماً عند العامة والخاصة، ذا هيبة ووقار.
قال ابن شهر آشوب: كان أطيب الناس بهجة، وأصدقهم لهجة، وأملحهم من قريب، وأكملهم من بعيد، إذا صمت عَلَتْه هيبة الوقار، وإذا تكلّم سماه البهاء، وهو من بيت الرسالة والاِمامة، ومقرّ الوصيّة والخلافة.
قال اليافعي: كان متعبّداً فقيهاً، إماماً، استفتاه المتوكل.
وقال ابن حجر: كان علي الهادي وارث أبيه علماً وسخاءً.
توفي في زمن المعتز العباسي في الثالث من رجب، وقيل: لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين، ودفن في داره بسامراء.. وذكر بعضهم أنه مات مسموماً. (انظر: حياة الاِمام علي الهادي، وموسوعة أصحاب الفقهاء)
([5]) رواه مسلم وغيره.
([6]) رواه البخاري ومسلم.
([7]) رواه مسلم.
([8]) رواه البخاري ومسلم.
([9]) رواه مسلم وغيره.
([10]) رواه ابن ماجه وغيره بسند فيه لين.
([11]) تحدثنا بتفصيل عن هذه المسألة في رسالة (أسرار الأقدار)، وبعض ما نذكره هنا ملخص منها بحسب ما يقتضيه المقام.
([12]) رواه مسلم.
([13]) ذكرنا الجواب المفصل على هذا في رسالة (أسرار الأقدار)، وما نذكره هنا هو ملخص مختصر منه.
([14]) رواه الخطيب.
([15]) رواه البخاري ومسلم.
([16])الدثور بالثاء المثلثة: الأموال، واحدها: دثر.
([17]) رواه مسلم.
([18]) رواه أحمد وهناد وابن ماجة والبيهقي والطبراني في الكبير.
([19]) رواه البخاري ومسلم.
([20]) رواه أبو داود وغيره.
([21]) رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه.
([22]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
([23]) سنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (أسرار الإنسان) من هذه السلسلة.
([24]) انظر في هذه الروايات: الدر المنثور:1/120.
([25]) للأسف، فإن المؤرخين المسلمين ـ ابتداء من الطبري وغيره ـ تأثروا بالتاريخ الإسرائيلي، فراحوا ينقلونه حرفيا معتبرين أنه حقائق ثابتة، وقد نقله عنهم كثير من كتاب قصص الأنبياء.
والناظر في هذا التاريخ يكاد يحصر الخير والنبوة في محل معين من العالم.. وأن ما عداه كأنه لا علاقة له بالله، ولا بالتكاليف.. وقد ورد في الحديث عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا). قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمّ غَفِير) قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: (آدم) قلت: يا رسول الله، نبي مرسل؟ قال: (نعم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، ثم سَوَّاه قِبَلا) رواه ابن مردويه وغيره.
([26]) يسيء كثير من المبشرين فهم مثل هذه النصوص، فيتصورون بذلك أن القرآن الكريم الذي نص على تحريف كتبهم هو الذي دعاهم إلى الرجوع إليها، وأنهم بذلك على الحق، وقد رددنا على هذه الشبهات بتفصيل في رسالتي (أنبياء يبشرون بمحمد)، و(الكلمات المقدسة)
([27]) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.
([28]) رواه ابن حبان في تاريخه عن أبي هريرة.
([29]) رواه البيهقي في الشعب.
([30]) انظر تفاصيل ذلك في رسالة (أهل الله) من هذه المجموعة.
([31]) رواه أحمد ومسلم والترمذي.
([32]) رواه أحمد.
([33]) رواه أحمد والترمذي والحاكم.
([34]) الإحياء:6/382.
([35])الإحياء:6/382.
([36]) انظر الإجابة المفصلة على هذه الشبهة في رسالة (أسرار الأقدار)
([37]) رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح.
([38]) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم.
([39]) القرطبي:16/167.
([40]) رواه البخاري ومسلم.
([41]) رواه مسلم.
([42]) رواه الطبراني في الكبير.
([43])رغس: أي أكثر له منهما ويبارك له فيهما، والرغس: السعة في النعمة والبركة والنما ( النهاية:2 / 283).
([44]) رواه البخاري ومسلم.
([45]) وقد ورد في طرق أخرى ما يؤكد هذا، فقد روى أحمد والحكيم والطبراني في الكبير عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده يرفعه قال: كان عبد من عباد الله آتاه الله مالا وولدا، فذهب من عمره عمر وبقي عمر، فقال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: إني والله ما أنا بتارك عند أحد مالا كان مني إليه إلا أخذته أو تفعلون بي ما أقول لكم، فأخذ منهم ميثاقا قال: أما الاول فانظروا إذا أنا مت فأحرقوني بالنار، ثم اسحقوني، ثم انظروا يوما ذا ريح فأذروني لعلي أضل الله، فدعي واجتمع، فقيل: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشية عذابك، قال: استقل ذاهبا فتيب عليه.
([46]) ذكرنا المسألة بتفاصيلها والأقوال الواردة فيها في رسالة (أسرار الأقدار)، وقد اكتفينا هنا بذكر ما ترجح لدينا من الأقوال مما نرى انسجامه مع العدالة الإلهية.
([47]) وقد تكلم العلماء بالإنكار على هذه الأحاديث واعتبارها من الضعف بحيث لا تنهض للاستدلال بها، وقد رد ابن كثير على ذلك بقوله:( إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها) (تفسير ابن كثير: 5/58)
([48]) رواه النسائي والحاكم وابن مردويه.
([49]) رواه البخاري.
([50]) الحديث طويل رواه البخاري ومسلم وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والنسائي والدارقطنى في الرؤية والبيهقي في الأسماء والصفات.
([51]) الحديث طويل، وهو مروي في أكثر أصول السنة، وموضع الشاهد منه قوله r:( إنه يبدأ فيقول: أنا نبي ولا نبي بعدي ثم يثني فيقول: أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا وإنه أعور وإن ربكم عز و جل ليس بأعور وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب وإن من فتنته أن معه جنة ونارا فناره جنة وجنته نار فمن ابتلي بناره فليستعن بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا وسلاما كما كانت النار على إبراهيم)، وبهذا اللفظ راه أبو داود وابن ماجه.
([52]) كما قال تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ (البقرة:54)
([53]) أحكام أهل الذمة:2/1152.
([54]) أحكام أهل الذمة:2/1155.
([55]) أحكام أهل الذمة:2/1156.
([56]) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن.
([57]) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة واللالكائي.
([58]) رواه الطبراني.
([59]) رواه ابن أبي الدنيا والبزار وأبو يعلى والطبراني والبيهقي بسند جيد.
([60]) رواه أبو داود والترمذي وصحح وابن حبان واللالكائي.
([61]) رواه أحمد ومسلم.
([62]) رواه مسلم وغيره.
([63]) رواه البخاري ومسلم.
([64]) رواه ابن ماجه.
([65]) رواه أبو نعيم.
([66]) بل شوهوها، انظر في هذا رسالة (ثمار من شجرة النبوة)
([67]) رواه ابن عدي والبيهقي.
([68]) رواه ابن جرير.
([69]) رواه البخاري ومسلم.
([70]) رواه أبو نعيم.
([71]) رواه ابن المبارك.
([72]) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
([73]) رواه الطبراني من حديث ابن لَهِيعة.
([74]) رواه البخاري والترمذي والنسائي.
([75]) رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
([76]) رواه عبد الرزاق.
([77]) رواه ابن أبي حاتم ورواه مسلم والنسائي بنحوه.
([78]) رواه مسلم وأبو داود.
([79]) قاله مجاهد، وقتادة، وغير واحد، ابن كثير:8/307.
([80]) رواه ابن أبي حاتم.
([81]) رواه الطبراني في الكبير وغيره.
([82]) رواه أحمد والترمذي.
([83]) رواه البخاري ومسلم.
([84]) رواه أحمد ومسلم وغيرهما.
([85]) رواه الحكيم الترمذي، والحاكم، وابن حبان.
([86]) رواه مسلم.
([87]) رواه هناد بن السري وعبد بن حميد في الزهد.
([88]) رواه مسلم.
([89]) رواه البخاري ومسلم.
([90]) رواه محمد بن نصر.