رابعا ـ الحميد

في اليوم التالي استيقظنا على أصوات صياح شديد ممتلئ بالسرور والنشوة، وهو يقول: هلموا يا من انقطعت بكم السبل، وتهتم في البحث عن الحقيقة.. فأرسطو يريد أن يحدثكم عن الحقيقة.. أرسطو يريد أن يحدثكم عن ربكم، فقوموا إليه، فعساكم تخرجون بحديثه من الهوة السحيقة التي أوقعتكم فيها أهواؤكم.

أسرعت كما أسرع الجمع إلى مصدر الصوت، فوجدنا رجلا منا، كنت أراه كثير الهيام بالجدل العقلي، فقد كان لا يفتر عن الحديث مع كل من رآه.. وكان مغرما بالتقسيمات والتصنيفات حتى كان كما يقال: يقسم الشعرة بجدله، ويقطع الحديد بتحليلاته..

وقد كنت أحسبه لذلك أبعد الناس عن ربه، وعن البحث عنه، فقد كان كثير الاشتغال بالتصنيف.. بتصنيف كل ما يراه وتحديده، والبحث عن ماهيته حتى أنه في تلك الفترة القصيرة التي مكثنا فيها في ذلك المحل رأيته قد جمع أصنافا كثيرة من الحجارة والتربة والقواقع.. بل وأوراق الأشجار.. ثم رأيته يصنفها تصنيفات بديعة مشتغلا بها عن كل شيء.

هذا ما عرفته عنه.. ولهذا كان عجبي شديدا عندما سمعته يصيح بصياحه ذلك..

قال له رجل منا، بعد أن اجتمع كل الجمع إليه: أين هو أرسطو؟.. ومتى قدم إلينا؟.. وكيف قدم؟

ابتسم صاحبنا، وقال: هو أمامكم.. أنا هو أرسطو([1])..

قال الرجل: لقد احتلت علينا.. لقد تصورنا أن أرسطو بذكائه وعقله وحكمته قد قدم إلينا من زمنه الغابر ليعرفنا بالحقيقة التي تهنا في البحث عنها.. فلا يصلح في هذا المحل أحد مثل أرسطو.

ابتسم أرسطو، وقال: فأنا أرسطو.. إن لم أكنه بلحمه وشحمه وعظمه.. فأنا هو بعلمه وعقله وحكمته.. لقد سماني والدي أفلاطون يوم ولدت أرسطو.. كما سماه جده سقراط أفلاطون..

نحن عائلة لا تهمها إلا الفلسفة.. لقد كنا نرى أن العقل هو الأداة الوحيدة التي يتميز بها الإنسان عن غيره من الأشياء، فلذلك نذرنا نفوسنا له.. فكانت مجالسنا كلها مجالس بحث ونظر وتحقيق وتدقيق.. ولم نكن نتمتع بشيء كما نتمتع برؤية الحقائق أو البحث عنها.

وقد كان من الحقائق التي شغلتنا فترة من حياتنا الحقائق المرتبطة بالألوهية..

وقد بدأت فيها كما بدأ أرسطو.. لقد توصلت بعقلي إلى نفس ما وصل إليه سميي أرسطو.. فقد كنت أعتقد أن الله واجب الوجود كائن أزلي، مطلق الكمال، لا أول له ولا آخر، ولا عمل له ولا إرادة.. منذ كان العمل طلبا لشيء، والله غني عن كل طلب، وبما أن الإرادة اختيار بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح الأفضل من كل كمال، فلا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير صالح، ولا بين فاضل ومفضول.

وكنت أعتقد أنه ليس مما يناسب الإله أن يبتدئ العمل في زمان؛ لأنه أبدي سرمدي لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر، ولا جديد ولا قديم، وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج من نطاقها عناية تعنيه.

ولهذا كنت أعتقد أن الإله الكامل المطلق الكمال: لا يعنيه أن يخلق العالم، أو يخلق مادته الأولى، وهي الهيولي ولكن لهذه الهيولي قابلية للوجود، يخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود، ثم يدفعها من النقص إلى الكمال المستطاع في حدودها، فتتحرك وتعمل بما فيها من الشوق والقابلية ولا يقال عنها: إنها من خلقة الله إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار.

ولهذا، فقد كنت أعتقد أن الله يعقل ذاته ولا يعقل ما دونها، ويتنزه عن الإرادة لأن الإرادة طلب في رأيه، والله كمال لا يطلب شيئا غير ذاته، ويجل عن علم الكليات والجزئيات، لأنه يحسبها من علم العقول البشرية، ولا يعني بالخلق رحمة ولا قسوة..  لأن الخلق أحرى أن يطلب الكمال بالسعي إليه.

قلنا: فهذه هي العقيدة التي تريد أن تلقننا إياها؟

قال: لا.. لا.. لقد ذكرت لكم أن هذه هي بداية حياتي.. أو هي بداية مراحل تفكيري.

قلنا: ولكن هذه هي نهاية أفكار أرسطو.. ألم تكتف بما انتهى إليه؟

قال: لقد كنت مكتفيا.. بل كنت مغرورا في اكتفائي إلى أن التقيت برجل حطم ما بنيته أو ما بناه لي أرسطو.. لقد كان رجلا عظيما.. ولكن صحبتي له للأسف كانت كالبرق الذي يضيء، ثم سرعان ما يختفي.

وما ندمت عليه هو أنني بغروري وأحلامي انصرفت عنه، واتبعت تلك التقسيمات والتصنيفات التي لم تغن عني شيئا.

قلنا: إن ما تقوله خطير.. لكأنك تتهم أرسطو نفسه بالعجز.

قال: أجل.. أنا أتهمه كما أتهم عقلي.. فالرب العظيم أعظم من أن نتصرف في كمالاته بعقولنا.. لقد رحت كما راح سميي أرسطو نفرض على الإله قيودا كثيرة.. لقد رحنا نحد من صلاحياته في هذا الوجود.

قلنا: ولكنك ذكرت أنك كنت تعتقد في إلهك الكمال المطلق.

ضحك بصوت عال، وقال: أجل.. ولكنه كان أقرب إلى العدم المطلق منه إلى الكمال المطلق.

قلنا: فمن علمك الكمال المطلق لإلهك؟

قال: هذا ما أريد أن أحدثكم عنه.. وهذا ما تأسفت على عدم صحبته.. لقد كان رجلا من المسلمين.. كان اسمه (محمد الباقر) ([2])

لقد اجتمعت به مع جمع من أصدقائي الفلاسفة.. ورحنا نناقشه في إلهه بما معنا من الفلسفة.. وقد غلبنا جميعا لأنه كان يملك مع العقل الذي يملكه الفلاسفة عقلا آخر لم نكن نملكه.. كان يملك وحي ربه.. وربه أعرف بذاته وبكمالاته من عقولنا.

ولذلك بزنا جميعا..

ولولا غرورنا لتركنا ذلك العقال الذي عقلتنا به عقولنا وسرنا خلفه إلى ربنا.

قلنا: فكيف التقيت به؟

قال: في يوم من الأيام اجتمعت مع أصدقائي من (جمعية محبي الحكمة)([3]) في حديقة خارج أسوار أثينا بالقرب من أيكة مخصصة لعبادة الإله (أبولو ليكيوس).. وقد كنا نتحدث حينها عما كنت أحدثكم عنه عن الإله صاحب الكمال المطلق.. والذي هو أقرب إلى العدم المطلق..

وكان معنا حينها بعض رجال الدين المسيحيين ممن جمعتهم بأصحابنا من الفلاسفة عقد مودة وصداقة، وكانوا جميعهم ينتمون إلى مدرسة دومينيكانيه بنابولي.. وكان أهمهم بالنسبة لنا (القديس توما الأكويني).. ذلك الذي تنسب إليه (الفلسفة المدرسة) أو (فلسفة المدرسيين).. تلك الفلسفة التي حاولت المزج بين فكر أرسطو، والفكر اللاهوتي..

بعد أن أنهينا حديثنا، فوجئنا برجل غريب يدخل علينا.. كان كالشمس أو قريبا من الشمس، فلذلك انبهرنا بالنظر إليه عما كنا فيه.. قال لنا: مرحبا بفلاسفة زمانهم.. أنا (محمد الباقر) رجل من (آل محمد) نبي المسلمين، وقد جئتكم لأبشركم بالإله الذي بشر به جدي محمد.

قال أحدنا، وكان عنيفا شديدا: لم نسمع بفيلسوف اسمه (محمد).. في أي بلدة من بلاد اليونان كان يقيم؟

ابتسم محمد الباقر، وقال: وهل الفلسفة حكر على بلاد اليونان؟

قال صاحبنا: لا.. هي ليست حكرا.. ولكن لعلك لا تعرف أن الشعوب تختلف في اهتماماتها.. نحن اليونانيين اهتممنا بالعقل.. وغيرنا من الشعوب اهتمت بالزراعة أو برعي الأغنام أو بالصيد.. أو بغيرها من شؤون الحياة.

وقد كان لاهتمامنا بالعقل أثره في رقي عقولنا.. ولذلك نحن نربأ أن نسمع أحاديث الرعاة والفلاحين البسطاء الذين هم كالقدمين بالنسبة للرأس.

قال الباقر: الحكمة أشرف من أن تقيد بشعب.. وفضل الله أوسع من أن يضيق بخلقه.

قلنا: إن كنت تريد أن تحدثنا بالعقل.. فعندنا من العقل ما وصل إلى غايته.

قال الباقر: هناك العقل المجرد.. وهناك العقل المسدد.

قلنا: فأنت ترى أن عقولنا مجردة؟

قال الباقر: تلك نعمة من الله عليكم تحتاجون إلى شكرها.. وإلى تسديدها.

قلنا: فبم نسددها؟

قال الباقر: الله الجواد الكريم الهادي البديع يستحيل أن يترك عباده هملا.. لقد أرسل إليهم الرسل.. وأنزل عليهم الكتب.. وتجلى لهم فيها.. فمن لم يمزج عقله المجرد بتسديد الله سقط في أوحال عقله.

قلنا: ولكنا لا يمكننا أن نرفض عقولنا المجردة لأي عقل آخر.

قال الباقر: يستحيل أن يتعارض العقل المسدد مع العقل المجرد..

قلنا: لا بأس.. سنقبل بك أن تجلس معنا في هذا المجلس بشرط أن تحدثنا بما يقوله العقل المسدد، وما يقوله العقل المجرد.. لنرى مدى التوافق بينهما.

قال الباقر: وأنا أقبل ما تعرضونه علي.. فاختاروا ما تريدون أن تتحدثوا فيه.

قلنا: لقد حددت أنت موضوع الحديث عندما أردت أن تبشرنا بإله محمد.

أراد الباقر أن يتحدث، فقاطعه توما، وقال: أنا أعرف محمدا ودين محمد.. وقد سمعتهم يتحدثون في بلاد الإسلام بأن لله أسماء حسنى.. فما تقول في ذلك؟

قلت: وما يقول العقل أيضا.. فنحن لا يهمنا إلا ما يقوله العقل؟

قال الباقر، وهو يتوجه بالحديث إلينا، وإلى توما: سأحدثكم بما يقوله قرآننا، وما يقوله نبينا، وما يقوله الكتاب المقدس، وما يقوله العقل المجرد.

قلنا: نحن لا نقبل أن تلقننا.. فسنناقشك في كل كلمة تقولها نرى أن عقولنا لا تستسيغها.

قال الباقر: لكم ذلك.. ولكن لا تخرجوا بنا إلى الجدل.. فلن يتعلم صاحب جدل.

قلنا: لك ذلك.. سنسلم لك بكل ما تقنعنا به.. ولن نجادلك في شيء.

قال الباقر: لقد ذكر صاحبكم أنه سمع في بلاد المسلمين من يتحدث عن أسماء الله الحسنى.

قلنا: فما أسماء الله الحسنى؟

قال: هي الأسماء التي تعرف الله بها إلى عباده.. فالله تعالى ذكر لنا في كتبه المقدسة ما يدلنا عليه، ويعرفنا به.

قلنا: فالكتب المقدسة إذن هي مظان أسماء الله الحسنى؟

قال: بعض أسماء الله الحسنى.. فالله لا يحاط به.

قلنا: كيف ذلك؟

قال: بما أن أسماء الله تدل على كمالات الله، وبما أن كمالات الله لا نهاية لها، فأسماؤها الحسنى كذلك لا نهاية لها.. وما ورد في كلمات الله المقدسة التي أوحاها إلى أنبيائه هي بعض ما يمكن للإنسان أن يتعرف عليه من هذه الأسماء بحسب طاقته المحدودة.

لقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا، فقد كان يقول في دعائه: (أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ؛ أن تجعل القرآن ربيع قلبي..)([4])

قلنا: فتستحيل معرفة كمالات إلهك إذن؟

قال: أجل.. فالله لا يحاط بمعرفته.. 

قال رجل منا: ومن لم يحط بمعرفته تستحيل معرفته..

قال آخر: فأنت تدلنا على مستحيل إذن.

قال: لا.. للمعرفة مراتب مختلفة([5]).. فلو أن قائلا قال: (لا أعرف الله) كان صادقا، ولو قال: (أعرف الله) كان صادقا أيضا.

قال الرجل: أليس النفي والإثبات لا يصدقان معا، بل يتقاسمان الصدق والكذب، فإن صدق النفي كذب الإثبات، وبالعكس؟

قال الباقر: ذلك إذا اتحد وجه الكلام.. أما إذا اختلف فإنه يتصور الصدق في القسمين.. وذلك كما لو قال قال قائلكم لأخيه: (هل تعرف سقراط؟)، فإن قال: (وهل سقراط ممن يجهل شأنه.. أو هل في العالم من لا يعرفه..) كان صادقا بقوله هذا.. ولو قال: (ومن أنا حتى أعرف سقراط.. هيهات لا يعرف سقراط سوى سقراط أو من هو مثله أو فوقه، ومن أين لي أن أدعي معرفته أو أطمع فيها) كان صادقا أيضا.

وهكذا، فلو عرضنا خطا منظوما على عاقل، وقلنا: هل تعرف كاتبه، فإن قال: (لا)، صدق ولو قال: (نعم كاتبه هو الإنسان الحي القادر السميع البصير سليم اليد العالم بصناعة الكتابة.. فإذا عرفت كل هذا منه فكيف لا أعرفه)، فهذا أيضا صدق.. ولكن الأحق والأصدق قوله:(لا أعرفه)، فإنه بالحقيقة ما عرفه، وإنما عرف احتياج الخط المنظوم إلى كاتب حي عالم قادر سميع بصير سليم اليد عالم بصناعة الكتابة ولم يعرف الكاتب نفسه، فكذلك الخلق كلهم لم يعرفوا إلا احتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع مدبر حي عالم قادر.

قال الرجل: دعنا من هذا.. وحدثنا عن السبل التي يمكن لعقولنا أن تتعرف بها على الله.. وما علاقة ذلك الأسماء الحسنى؟

قال: لمعرفة الله سبيلان.. أما أحدهما فقاصر، وأما الآخر فمسدود.

قال الرجل: فما السبيل القاصر؟

قال: السبيل القاصر هو ذكر الأسماء والصفات، وذلك عن طريق التشبيه بما عرفناه من أنفسنا.. فإنا لما عرفنا أنفسنا قادرين عالمين أحياء متكلمين، ثم سمعنا ذلك في أوصاف الله عز وجل أو عرفناه بالدليل فهمناه فهما قاصرا.. فحياتنا وقدرتنا وعلمنا أبعد من حياة الله عز وجل وقدرته وعلمه، بل لا مناسبة بين البعيدين..

وفائدة تعريف الله عز وجل بهذه الأوصاف إيهام وتشبيه ومشاركة في الاسم، لكن يقطع التشبيه بأن يقال:{.. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ..(11)} (الشورى)، فهو حي لا كالأحياء، وقادر لا كالقادرين.

وكأنا إذا عرفنا أن الله تعالى حي قادر عالم فلم نعرف إلا أنفسنا ولم نعرفه إلا بأنفسنا إذ الأصم لا يتصور أن يفهم معنى قولنا:(إن الله سميع)، ولا الأكمه يفهم معنى قولنا:(إنه بصير)، ولذلك إذا قال القائل: (كيف يكون الله عز وجل عالما بالأشياء؟) فنقول:(كما تعلم أنت الأشياء)، فإذا قال:( فكيف يكون قادرا؟)، فنقول: (كما تقدر أنت)، فلا يمكنه أن يفهم شيئا إلا إذا كان فيه ما يناسبه، فيعلم – أولا – ما هو متصف به ثم يعلم غيره بالمقايسة إليه.

فإن كان لله عز وجل وصف وخاصية ليس فينا ما يناسبه ويشاركه في الاسم لم يتصور فهمه أبدا، فما عرف أحد إلا نفسه، ثم قايس بين صفات الله تعالى وصفات نفسه، وتتعالى صفاته عن أن تشبه صفاتنا، فتكون هذه معرفة قاصرة يغلب عليها الإيهام والتشبيه، فينبغي أن تقترن بها المعرفة بنفي المشابهة، وينفي أصل المناسبة مع المشاركة في الاسم.

قلنا: عرفنا السبيل الأول.. فما السبيل الثاني.. ذلك الذي نعته بالسبيل المسدود؟

قال: هو أن ينتظر العبد أن تحصل له الصفات الربوبية كلها حتى يصير ربا.. وهذا السبيل مسدود ممتنع إذ يستحيل أن تحصل تلك الحقيقة لغير الله تعالى.. وهذا هو سبيل المعرفة المحققة لا غير.. وهو مسدود قطعا إلا على الله تعالى.

ولهذا، فإنه يستحيل أن يعرف الله تعالى بالحقيقة غير الله.. بل على هذا المنوال يمكن أن يقال بأنه يستحيل أن يعرف النبي غير النبي.. وأما من لا نبوة له فلا يعرف من النبوة إلا اسمها، وأنها خاصية موجودة لإنسان بها يفارق من ليس نبيا، ولكن لا يعرف ماهية تلك الخاصية إلا بالتشبيه بصفات نفسه.. بل يمكن أن يقال على هذا المنوال: لا يعرف أحد حقيقة الموت، وحقيقة الجنة والنار إلا بعد الموت، ودخول الجنة أو النار، لأن الجنة عبارة عن أسباب ملذة، ولو فرضنا شخصا لم يدرك قط لذة لم يمكننا أصلا أن نفهمه الجنة تفهيما يرغبه في طلبها، والنار عبارة عن أسباب مؤلمة، ولو فرضنا شخصا لم يقاس قط ألما لم يمكننا قط أن نفهمه النار فإذا قاساه فهمناه إياه بالتشبيه بأشد ما قاساه، وهو ألم النار، وكذلك إذا أدرك شيئا من اللذات فغايتنا أن نفهمه الجنة بالتشبيه بأعظم ما ناله من اللذات.. فإن كان في الجنة لذة مخالفة لهذه اللذات فلا سبيل إلى تفهيمه أصلا إلا بالتشبيه بهذه اللذات، بل العبارة الصحيحة عنها أنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

قال رجل منا: فما النهاية التي تنتهي إليها معرفة العارفين بالله؟

قال: نهاية معرفة العارفين بالله عجزهم عن المعرفة، ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه، وأنه لا يمكنهم البتة معرفته، وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفات الربوبية إلا الله.. فإذا انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيا فقد عرفوه.. أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته، وهو الذي أشار إليه قائلهم: (العجز عن درك الإدراك إدراك)، بل هو الذي عناه سيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال:(لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، ولم يرد به أنه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه، بل معناه:( إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك، وإنما أنت المحيط بها وحدك)

ولهذا، فإنه لا يحظى مخلوق بملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة.. وأما اتساع المعرفة فإنها تكون في معرفة أسمائه وصفاته.

قال رجل منا: فكيف تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة الله إذن ما دام الأمر كما ذكرت؟

قال: لقد ذكرت لكم أن السبيل لذلك هو معرفة أسماء الله الحسنى.. فهي الباب الوحيد المفتوح لمعرفة الله.. وفي هذه الأسماء تتفاوت مراتب الخلق.. فليس من يعلم أنه تعالى عالم قادر على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساد واطلع على بدائع المملكة وغرائب الصنعة ممعنا في التفصيل، ومستقصيا دقائق الحكمة، ومستوفيا لطائف التدبير، ومتصفا بجميع الصفات الملكية المقربة من الله عز وجل.

قلنا: وعينا هذا.. فهلا انتقلت من الجملة إلى التفصيل..

قال: سلوني ما بدا لكم.. وستجدون من أسماء الله ما يدلكم على كمالات الله، وأنه أهل لكل حمد وثناء ومجد.

1 ـ الحق

قام أولنا، وكان اسمه (بروتاجوراس)([6])، وكان من السفسطائيين، وقد جرته سفسطته إلى الإلحاد.. فكان لا يؤمن بالله، وكان يعتبر أن كل ما يقال عنه مجرد أوهام شخصية لا علاقة لها بالواقع.. بل كان يرى فوق ذلك أن الحقيقة المطلقة غير موجودة، لأن الحقائق تتعدد بتعدد الأشخاص واختلاف أحوالهم.

قام، وقال: إن مبدأ كل كمال هو الحقانية.. والتي تعني وجوب الوجود وثبوته وعدم علاقته بأي تبعية؟

نظر إليه الباقر، وكأنه قرأ أفكاره التي كان يدافع عنها كل حين، وقال: أنت بقولك هذا تذكر اسما من أسماء الله الحسنى ورد ذكره في كتبه المقدسة.. دلت عليه كل الدلائل.

قال: فما هو؟

قال الباقر: هو اسم الحق([7]).. فالله هو الحق المبين..

لقد ذكر ربنا هذا الاسم فقال:{ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ) (الأنعام:62)، وقال:{ فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَل بِالقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلماً } (طه:114)، وقال:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (الحج:6)

قال بروتاجوراس: فما يعني هذا الاسم؟

قال الباقر: بما أنا اتفقنا على أن نقرب معاني أسماء الله بما نعيشه في حياتنا ([8])، فأجبني.. إذا كان معك جهاز كهربائي، وكنت بحاجة إلى طاقة كهربائية، ثم توجهت إلى مأخذ كهربائي ووضعت فيه الشريط، ولم تر الآلة تتحرك، فماذا تستنتج من هذا؟

قال: أستنتج أن المأخذ ليس فيه كهرباء.

قال الباقر: ولو توجهت إلى مأخذ آخر ووضعت فيه الشريط فاشتغلت الآلة، فماذا تستنتج؟

قال:  أستنتج أن المأخذ فيه كهرباء.

قال الباقر: فأول المأخذين باطل.. وأما الثاني فحق؟

قال: يمكنك أن تقول ذلك.

قال الباقر: فهذا أول ما يدل عليه اسم الحق.. فالله هو الحق الوحيد، وإذا توجهت إلى غيره فلن تجد شيئاً، بل لن تجد إلا سراباً في سراب.. لن تجد إلا وعودا كاذبة، وأقوالا فارغة، وكلمات طنانة، لكنها هراء في هراء.. أما إذا توجهت إلى الله، فستجد كل شيء..

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ والذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} (النور)

قال ذلك، ثم التفت إلى الجمع المحيط به، وقال: إن أخطر ما في الحياة أن نتجه إلى جهة لا تملك شيئاً، وأخطر ما فيها أن تعتقد اعتقاداً غير صحيح ليس له مرتكز واقعي.. وأخطر كلام نقوله أن ننطق بشيء لا يرتبط بالواقع.

ولهذا، فإننا إذا كنا مع الحق، فإننا سنشعر بسعادة كبيرة لا نهاية لها.. قد تسألون لماذا؟

والجواب هو أننا في ذلك الحين نكون مع الثابت ومع الموجود، ولا يخيب من كان مع الثابت، ولا يضل من كان مع الموجود..

هذا إذا كنا مع موجود ممكن، فكيف إذا كنا مع موجود واجب..

قال: ما تعني؟

قال الباقر: أنتم تعلمون أن الحق مقابل للباطل([9]).. وبما أن الأشياء تستبان بأضدادها، وكل ما يخبر عنه فإما باطل مطلقا، وإما حق مطلقا، وإما حق من وجه باطل من وجه.. فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقا.. والواجب بذاته هو الحق مطلقا.. والممكن بذاته الواجب بغيره هو حق من وجه باطل من وجه، فهو من حيث ذاته لا وجود له فهو باطل، وهو من جهة غيره مستفيد للوجود فهو من هذا الوجه الذي يلي مفيد الوجود موجود فهو من ذلك الوجه حق ومن جهة نفسه باطل.

وانطلاقا من هذا، فإن أحق الموجودات بأن يكون حقا هو الله.. وأحق المعارف بأن تكون حقا هي معرفة الله.. وأحق الكلمات بأن تكون حقا هي الكلمات المعبرة عن معرفة الله.. ذلك لأن الحق يطلق على الوجود في الأعيان، وعلى الوجود في الأذهان وهو المعرفة، وعلى الوجود الذي في اللسان وهو النطق.

فأحق الأشياء بأن يكون حقا هو الذي يكون وجوده ثابتا لذاته أزلا وأبدا، ومعرفته حقا أزلا وأبدا، والشهادة له حقا أزلا وأبدا.. وكل ذلك لذات الموجود الحقيقي.

والله تعالى هو الحقيق بكل ذلك:

فالله تعالى واجب الوجود لذاته من غير حاجة لأي علة أو سبب، وكل ما عداه دائم الافتقار إليه في وجوده، ولهذا فهو هالك من حيث ذاته، كما قال تعالى:{.. كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.. (88) } (القصص)، وهو كذلك أزلا وأبدا، ليس ذلك في حال دون حال، لأن كل شيء سواه أزلا وأبدا من حيث ذاته لا يستحق الوجود، ومن جهته يستحق، فهو باطل بذاته حق بغيره.

والمعرفة بالله حق في نفسها، لأنها مطابقة للمعلوم أزلا وأبدا، ومطابقتها لذاتها لا لغيرها، بخلاف العلم بوجود غيره، فإنه لا يكون إلا ما دام ذلك الغير موجودا، فإذا عدم عاد ذلك الاعتقاد باطلا، وذلك الاعتقاد أيضا لا يكون حقا لذات المعتقد لأنه ليس موجودا لذاته، بل هو موجود لغيره.

والشهادة لله بالوحدانية وغيرها هي أحق الأقوال لأن الناطق بها صادق أبدا وأزلا، لذاته لا لغيره..

2 ـ الحي

قام الثاني، وكان اسمه (طاليس)، وقد كان شديد الولع بجده الفيلسوف الكبير (طاليس) ([10]).. وكان في كل أحاديثه معنا يردد ما كان يردد جده من أن أنّ الماء هو أصل الأشياء ومبدؤها، منه بدأت وإليه تنحل، وأنه هو الجوهر الأساس الذي تولدت عنه كل الموجودات، وأنّه قابل لكل صورة، ومنه أبدعت الجواهر كلها من السماء والأرض وما بينهما، وأنه هو علّة كل مبدع([11])، وأنه حين جمد الماء تكونت الأرض، وحين انحل تكون الهواء، ومن صفوة الهواء تكونت النّار، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء، ومن الاشتغال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب.

قام في ذلك المجلس، وقال: لاشك أن من أسماء إلهك الماء.. فالماء هو أصل الموجودات.. وهو حياة الحياة..

ابتسم الباقر، وقال: الماء صنعة الله.. والحياة هبة الله.. ويستحيل أن يفتقر واهب الحياة للحياة.. فلا يهب الحياة إلا الحي الذي لا يموت..

قال طاليس: فمن أسماء إلهك إذن (الحي)

قال الباقر: أجل.. لقد ذكر الله هذا الاسم في كلماته المقدسة، فقال:{ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم } ( البقرة: 255) وقال:{ وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىّ القيوم } ( طه: 111) وقال:{ هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } ( غافر: 65)

وذكره في كلماته السابقة إلى أنبيائه، ففي (يوشع 3: 9-10): (وَقَالَ يَشُوعُ لأَبْنَاءِ إِسْرَائِيلَ: تَعَالَوْا إِلَى هُنَا وَاسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبّ إِلَهِكُمْ. بِهَذَا تَعْرِفُونَ عَنْ يَقِينٍ أَنَّ اللهَ الحَيَّ مَوْجُودٌ بَيْنَكُمْ، وَأَنَّهُ يَطْرُدُ مِنْ أَمَامِكُمُ الكَنْعَانِيِّينَ وَالحِثِّيِّينَ وَالحِوِّيِّينَ وَالفِرِزِّيِّينَ وَالجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَاليَبُوسِيِّينَ)

قال طاليس: نحن نعرف الحي منا.. ولكنا لا نعرف كيف يكون ربك حيا؟

قال الباقر: فمن الحي منا؟

قال طاليس: لقد ذكر أصحابنا أنه المدرك الفعال.. فمن لا فعل له أصلا ولا إدراك فهو ميت..

قال الباقر: فما أقل درجات الحياة؟

قال طاليس: أن يشعر المدرك بنفسه.. فما لا يشعر بنفسه فهو الجماد والميت.

قال الباقر: وما أكمل درجات الحياة؟

قال طاليس: أكمل درجات الحياة تكون لمن دخلت جميع المدركات تحت إدراكه، وجميع الموجودات تحت فعله حتى لا يشذ عن علمه مدرك، ولا عن فعله مفعول.

قال الباقر:  أذلك هو الحي الكامل المطلق؟

قال طاليس: أجل..

قال الباقر: فذلك هو الله عز وجل.. فهو الحي المطلق، وكل حي سواه فحياته بقدر إدراكه وفعله، وكل ذلك محصور في قلة.

سكت طاليس قليلا، ثم قال: ولكن مع ذلك يمكنك أن تقول بأننا أيضا نتمتع بحياة مطلقة كحياة إلهك.. فنحن نعيش حياة ملء السمع والبصر، فيمكن لعقولنا أن تتجول في الأكوان مهما دقت أو ترفعت، ويمكن لأقدامنا أن تسير حيث تشاء.. ولعلك قد سمعت برحلتنا إلى القمر..

ابتسم الباقر، وقال: ولكن حياتنا مع ذلك متوقفة على زمن محدود، وعلى أجهزة محدودة، فعمر الإنسان بعمر شرايينه، وعمره متعلق بقلبه وشرايينه ودسامات قلبه، ومتعلق بجهازه العصبي، ومتعلق بعمل الدماغ، ومتعلق بالكليتين، فلو أن البول احتبس في الكليتين ست ساعات تتوقف الكليتان، وإذا توقفت الكليتان ينتهي الإنسان فلا يعيش الإنسان ثلاث ساعات من دون كبد، إذا تشمع تشمعاً كاملاً خلال ثلاث ساعات يموت.. وهكذا، فقد جعل الله للموت أسبابا لا يمكن عدها([12]).. أما الله تعالى فهو الحي الذي لا يموت، لأنه حي بذاته، فلا يستمد حياته من أي جهة من الجهات.

3 ـ القيوم

قام الثالث، وكان اسمه (أنكسماندريس)، وكان فخورا بجده (أنكسماندريس)([13])، وكان شديد الاختلاف مع صديقنا (طاليس) بالرغم من أنهما أبناء بلدة واحدة، ومن مدرسة فلسفية واحده..

فقد كان (أنكسماندريس) – خلافا لطاليس- يرى أنّ الماء ليس هو أصل الكون، وذلك لاستحالة اليابس بالحرارة إلى المائع، فالجامد سابق على الماء، والماء بذلك ليس أصلا للكون.. بالإضافة إلى أن الماء معين ومحدود، ويستحيل أن يكون المبدأ الأول معيناً محدودا ً، وإلاّ لما تولّدت منه الأشياء المتميزة المحدودة.

وكان يرى أنّ الأشياء كانت في البدء شيئاً واحداً وجدت فيه جميع المعاني متعادلة متكافئة، وبفعل التطور والحركة حدثت انفصالات واجتماعات بين بعضها والبعض الآخر بنسب معينة وبمقادير متفاوتة فتكونت عنها الأشياء الطبيعية..

ولذلك، فقد كان يرى أن المادة اللامتناهية ثابتة غير حادثة، وأنها أبدية، وأن الحركة الدائمة هي التي تعمل على تغيير الأشياء التي من صفاتها التحول والتغير.. والتغيير يحصل بشكل آلي مجرد وبمحض الصدفة، فليس هناك علّة فاعلة، وليس هناك غاية من وراء الفعل([14]).

قام في ذلك المجلس، وقال: لا يكفي أن يكون الكامل حقا وحيا.. بل لابد أن تكون له القوامة الكاملة على الأشياء، وإلا كان كماله قاصرا؟

قال الباقر: أنت بكلامك هذا تذكر اسما من أسماء الله الحسنى، هو اسم (القيوم)، وقد ورد ذكره في كلمات الله المقدسة التي أوحاها لأنبيائه..

ففي القرآن الكريم..{ وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلحَيِّ القَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلماً (111) وَمَنْ يَعْمَل مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلماً وَلا هَضْماً (112)} (طه)

قال أنكسماندريس: فما يعني هذا الاسم؟

قال الباقر: قال الباقر: إن هذا الاسم يدل على أن الله قائم بذاته، ومقوم لكل ما عداه.

قال أنكسماندريس: إن كونه قائما بذاته يستدعي أن لا يكون عَرَضاً في موضوع، ولا صورة في مادة، ولا حالاّ في محل أصلاً.. لأن الحال مفتقر إلى المحل والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوماً بذاته؟

قال الباقر: صدقت.. والله كما وصفت لا يفتقر لمحل.

قال أنكسماندريس: والقائم بذاته يستدعي أن تكون ماهيته غير مركبة من الأجزاء.. وذلك لأن كل مركب مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه، وجزؤه غيره، وكل مركب فهو متقوّم بغيره، والمتقوم بغيره لا يكون متقوماً بذاته، فلا يكون قيوماً.

قال الباقر: صدقت.. والله كما وصفت.

قال أنكسماندريس: والقائم بذاته يمتنع كونه متحيزاً، لأن كل متحيز فهو منقسم، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيزاً امتنع كونه في الجهة، لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسيّة، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة، امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون.

قال الباقر: صدقت.. والله كما وصفت.

قال أنكسماندريس: والقيوم لكل ما سواه يستدعي أن يكون كل ما سواه مُحْدَثاً، لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير، لأن تحصيل الحاصل محال فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثاً.

قال الباقر: صدقت.. والحقيقة كما وصفت.

4 ـ العليم

قام رابعنا، وكان اسمه (فيثاغورث)، وكان دائم الذكر لسميه الفليسوف الرياضي (فيثاغورث بن منسارخس)([15])، وكان يرى – كما يرى سميه – أن أصل الكون هو العدد، لأنّه أشبه بعالم الأعداد منه بعالم الماء أو النّار أو الهواء، فالعدد أوّل مبدع أبدعه الباري تعالى، وأوّل العدد الواحد، وأن مبادئ الأعداد هي عناصر الموجودات، لأنّ الموجودات أعداد، والعالم على هذا مر كّب من عدد ونغم، والموجودات ليست إلا محاكية لنماذجها الأولى اللازمة لها وهي الأعداد، وما يتصور من مفارقة بينها فإنما هي في الذهن فقط لا في الحقيقة والواقع، ولا يمكن للأشياء أن يتمايز بعضها عن بعض إلا بالعدد..فمثلاً الأطول يتميز عن الأقصر والأكبر عن الأصغر بزيادة وحدات وعدد فقط، لا بزيادة شيء خارج عن العدد، وكذا الّنغم الذي تتكون منه الفواصل الموسيقية، لا يتميز عن غيره إلا بتناسب بين وحداته المختلفة تجعل من مجموعها صوتاً ونغما يألفه السمع([16]).

قام في ذلك المجلس، وقال: إن كون إلهك حيا قيوما يستدعي كونه عليما.. فلا يمكن أن تتحقق الحياة والقيومية بصورتها الكاملة لغير العالم.

قال: صدقت.. ولذلك، فإن من أسماء الله الحسنى (العليم)([17]).. قال تعالى في القرآن الكريم يذكر هذا الاسم: { إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ }(لقمان:34)، وقال: { قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ }(النمل:65)

قال فيثاغورث: دعنا من النصوص المقدسة.. وحدثنا بما تقوله عقولنا المقدسة.. فما برهان علم الله من العقل؟

قال الباقر: ألا ترى إلى هذا الكون الرحب الممتلئ بمظاهر التناسق والحكمة والإبداع في كل صغيرة منه وكبيرة.. ألا يدل ذلك على أن اللّه هو الصانع لهذا الكون؟

قال فيثاغورث: أنا أسلم بوجود الله.. ولكني لا أسلم بعلمه.

قال الباقر: سأذكر لك ثلاثة أدلة على هذا.

قال فيثاغورث: فهات أولها.

قال الباقر([18]): أولها هو برهان الخلق والنظم.. فالنظام المذهل الموجود في هذا الكون، والقوانين الدقيقة التي تسير جميع ذرات الوجود، ابتداء من الذرة وانتهاء بالمنظومات والكواكب السيارة، وابتداء من الموجودات المجهرية وانتهاء بالانسان الذي هو أرقى نموذج في الخلق، ومن الأعشاب الأحادية الخلية التي تعيش في أعماق المحيطات، وحتى الأشجار العظيمة التي يبلغ طولها خمسين مترا.. وهكذا النظم المعقدة العجيبة التي تسيطر على روح الانسان وقلبه، والتنوع المذهل الملحوظ في الكائنات الحية من النباتات والحيوانات، والتي تبلغ أنواعها مئات الآلاف، فهذه جميعا تدل على علم اللّه اللامحدود.. فهل يمكن أن يصنع أحد شيئا ويجهل أسراره؟

فخالق العين، ونظام الدماغ المعقد، والمدارات الإلكترونية العجيبة التي تدور حول نواة الذرة هو عالم بها حتما.. وعليه فكما يدلنا برهان النظم على وجود اللّه، فإنه يثبت عدم محدودية علمه أيضا.

وبما أن الخلق مستمر ودائم فإن الموجودات في جميع أحوالها تفتقر إلى علم الله في كل لحظة من لحظاتها كما تفتقر إلى وجوده.

قال فيثاغورث: سلمت لك بهذا، فهات الثاني.

قال الباقر: الثاني هو برهان الإمكان والوجوب.. فقد ثبت بكل أدلة العقول أن واجب الوجود هو اللّه وحده، وما سواه ممكن الوجود.. وثبت أيضا بأن الممكنات محتاجة وتابعة له في الوجود والبقاء معا، أو بتعبير آخر الجميع حاضر بين يديه، وهذا الحضورالدائم دليل على علمه بجميع الأمور، لأن العلم بحقيقة المعلوم ليست إلاحضور ذات المعلوم عند العالم.

قال فيثاغورث: سلمت لك بهذا.. فهات الثالث.

قال الباقر: الثالث هو برهان اللاتناهي.. فبغض النظر عن مسألة العلة والمعلول، فإن للّه سبحانه وتعالى وجود غير متناهي من جميع الجوانب، لذا لا يخلو منه مكان أو زمان (مع أنه لايحده مكان أو زمان)، لأننا لو افترضنا خلو مكان أو زمان من وجوده تعالى فقد حددناه.. لذا فعدم تناهيه يدل على حضوره وإحاطته بجميع الوجود، أو بتعبير آخر كل شي ماثل بين يديه.. فهل يمكن أن يكون العلم غير هذا الحضور؟

ذلك أن موانع العلم إما أن تكون حجبا مادية، وإما بعد المسافة، ونحن نعلم انتفاء هذه الأمور عن ذات الباري سبحانه وتعالى.

قال فيثاغورث: وعيت هذا.. ولكن ألا ترى أن لنا من العلم ما يمكن أن نعتبر به أنفسنا علماء.. أفلسنا مثل الله في ذلك؟

قال الباقر: نعم أنتم علماء.. ولكن شتان ما بين علم الله وعلمكم.. بل وعلم الخلائق جميعا.. إن علمي وعلمكم وعلم الخلائق جميعا مقيد محدود.. أما علم الله، فليس له قيود تحده، فعلمه فوق كل ذي علم كما قال تعالى: { نَرْفَعُ دَرَجَات مَنْ نَشَاء وَفَوْقَ كُل ذِي عِلمٍ عَلِيمٌ }(يوسف:76)، وروي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قصة موسى والخضر – عليهما السلام – قال: (قَالَ موسى: هَل أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تعلمني مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا، قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ معي صَبْرًا، يَا مُوسَى إني عَلَى عِلمٍ مِنْ عِلمِ اللهِ عَلمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلمٍ عَلمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ قال: ستجدني إِنْ شَاءَ الله صَابِرًا، وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ البَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا فَعُرِفَ الخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ في البَحْرِ، فَقَالَ الخَضِرُ: يَا مُوسَى مَا نَقَصَ علمي وَعِلمُكَ مِنْ عِلمِ اللهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا العُصْفُورِ في البَحْرِ)([19])

فهذه النصوص المقدسة تدل على أن الله عليمُ بما كان وما هو كائن وما سيكونُ، لم يَزَل عالِما، ولا يَزال عالما بما كان وما يكون، ولا يخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء، أَحاط عِلمُه بجميع الأَشياء ظاهرها وباطِنِها، دقِيقها وجليلها.. فهو يعلم الأشياء قبل كونها.. بل كل أمور الغيب قدرها الله في الأزل، ومفتاحها عنده وحده ولم يزل.

أما علمنا.. فهو محدود جدا.. وحق له أن لا يكون إلا كذلك.. فنحن لا نملك من القدرات والأدوات إلا ما يجعل علمنا بهذه الصفة:

فقدرتنا الحسية محدودة جدا.. فنحن نستطيع إدراك قسم صغير من موجودات عالمنا الحسي فقط، كما أن قدرتنا على التحليل العقلي أيضا ليست قادرة إلا على إدراك قسم صغير من المسائل العقلية.

وعمرنا بالنسبة إلى عمر عالم الوجود كساعة واحدة.. بل كدقائق معدودة لا أكثر.

والكرة الأرضية التي نعيش عليها صغيرة ومحدودة جدا بالمقارنة مع كواكب المجرات التي لا تعد ولاتحصى.. فالعلماء يقدرون عدد النجوم الموجودة في مجرتنا فقط بمئة ألف مليون، وقد بلغ عدد المجرات التي اكتشفها البشر بهذه الأجهزة الحقيرة لحد الآن ألف مليون مجرة.. ولهذا قال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) } (لقمان)

قال فيثاغورث: لقد ذكرت أن الله يعلم كل شيء، وذلك يستدعي أن يعلم ذاته.. ويعلم غيره.. ويعلم الكليات.. ويعلم الجزئيات([20]).

قال الباقر: أجل.. وقد دلت على ذلك النصوص المقدسة.. فالله تعالى يقول عن ذاته:{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. (19) } (محمد)، ويخبرنا عن أسمائه الحسنى، فيقول:{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} (الحشر)

ويخبرنا عن علمه بغيره بكلياته وجزئياته، فيقول:{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)} (يونس)، ويقول:{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } (الأنعام)

قال فيثاغورث: فأخبرني بما يدل عليه العقل.. فقد ذهب أصحاب العقول من أصحابنا من الفلاسفة إلى خلاف ما تقول.

قال الباقر: فما قالوا؟

قال فيثاغورث: لقد استدلوا على نفي علم الله بذاته بأن العلم، لما كان إضافة قائمة بين طرفين، عالم ومعلوم، كان ذلك يستدعي ضرورة المغايرة بين هذين الطرفين، فإنه حينئذ، إذا قيل بأن الله يعلم ذاته، فمعنى ذلك أن علمه مغاير لذاته، مع أن الواجب واحد من جميع الجهات.

أو بعبارة أخرى: كيف يمكن أن يحيط اللّه علما بذاته المقدسة، في حين أن العالم والمعلوم يجب أن يكونا شيئين؟ فهل يوجد تفاوت بين علم اللّه وذاته المقدسة؟

أو بعبارة أخرى: هل يمكن ان يكون اللّه عالما ومعلوما في نفس الوقت؟

ابتسم الباقر، وقال: كيف يكون هؤلاء أصحاب عقول، وهم يستشكلون هذا؟

قال فيثاغورث: فما تجيبهم؟

قال الباقر: إن الإشكال الذي طرحوه باستلزام القول، بأنه سبحانه يعلم ذاته، مغايرة علمه لذاته، إنما يتم فيما إذا أريد من المغايرة بين العالم والمعلوم، المغايرة الحقيقية، دون ما إذا أريد منها المغايرة الاعتبارية.. وفي هذه الحالة يكفي في المغايرة بين العالم والمعلوم، المغايرة الاعتبارية، وهي حاصلة في الذات العالمة.. إذ أن فيها لحاظين، لحاظ كونها عالمة، ولحاظ كونها معلومة، وهي بأحد اللحاظين، مغايرة لها باللحاظ الآخر.

أو بتعبير آخر: إن هذا السؤال لا ينحصر في علم اللّه بذاته المقدسة، فهو يجري حتى على علمنا بوجودنا، فنحن نعلم يقينا بوجودنا وندرك بأننا موجودون، فهل يجب أن يكون العالم والمعلوم هنا شيئين أيضا؟ في حين أننا لسنا بأكثر من شيء واحد، خصوصا وأن علمنا بأنفسنا من النوع الحضوري أيضا.

قال فيثاغورث:سلمت لك بهذا.. فما تجيبهم في اعتراضهم على شمول علم الله؟

قال الباقر: ذلك بسيط تدل عليه العقول.. وسأجيبك عنه من وجهين:

أما أولهما، فهو أن ما عدا اللّه ممكن، فهو مفتقر في وجوده إليه سبحانه، وإذا كان الأمر كذلك، وكان اللّه علة لكل ممكن موجود، كان لا بد وأن يعلمه، لعدم الانفكاك بين معلوليتها له، ومعلوميتها كذلك.. ولا فرق في هذه الممكنات، بين أن تكون كلية أو جزئية، خارجية أو ذهنية، قبل وجودها وبعده.

وأما الثاني، فهو أن اللّه سبحانه حي، لأنه لو لم يكن كذلك، مع اتصاف كثير من الموجودات الممكنة بالحياة، لكان معنى ذلك، أنه أقل كمالاً من الممكنات، وهذا خلف فرض كونه واجباً، وأكمل من كل موجود، كما أن كل حي محتاج في حياته حدوثاً وبقاءً إليه، فكيف يهب الحياة لو كان فاقداً لها.. وإذا ثبت أنه حي، فإن من خصائص الحي، أن يعلم ذاته، كما يعلم غيره.

قال فيثاغورث: فما تقول في استدلال الفلاسفة على أن الله لا يعلم الجزئيات بأن الجزئيات لا تستقر على حالة واحدة، بل هي دائمة التغير والتبدل.. فإذا جعلناها متعلقة لعلم اللّه سبحانه، لكان لازم ذلك تغير علمه وتبدله، بتغيرها وتبدلها، إذ تغير المعلوم، يستدعي تغير العلم، ويترتب على هذا، أن الذات الإلهية عُرضة للتغير المستمر بتغير صفة العلم فيها، وهو خلف فرض وجوبها، لأن الواجب ثابت لا يتغير.

قال الباقر: الجواب على ذلك بسيط، فما فرضه هؤلاء من تغير الذات بتغير المعلوم غير صحيح في حد ذاته، بل الصحيح هو أن العلم يبقى على حاله لا يتغير أبداً، وذلك لأن العلم لما كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، كان المتغير هو تلك الإضافة بين العلم والمعلوم بعد تغيره.

فلو قلنا مثلاً: زيد يعلم مرض عمرو، ومرض عمرو جزئي، وهو متعلق لعلم زيد، فلو فرضنا أن مرض عمرو قد ارتفع، فغاية ما هناك أن إضافة علم زيد إلى مرض عمرو الجزئي قد انتفت، وذلك لانتفاء ما كان يضاف إليه، لا لانتفاء العلم أو تبدل فيه، بل علم زيد باق على حاله كما هو واضح.

وما قلناه في العلم، يجري عيناً في غير العلم من الصفات الحقيقية ذات الإضافة، كالقدرة.. فلو قلنا مثلاً: زيد يقدر على عمرو.. ففي حالة انتفاء عمرو، لا تتبدل القدرة عند زيد ولا تتغير، بل هي باقية على حالها.. وإنما الذي انتفى وارتفع هو الإضافة الحاصلة بين قدرة زيد وبين متعلقها وهو عمرو لانتفائه.. وإذا كان المتغير هو الإضافة فقط بين الصفة الحقيقية وبين متعلقها، يرتفع الإشكال إذ أن تغير الإضافات جائز، لأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج([21]).

أو بتعبير آخر أبسط([22]): إن هذا الإشكال يصح فيما إذا كان علم اللّه بالاشياء الخارجية كعلمنا حاصل عن طريق انعكاس صور الأشياء.. لأن تغير هذه الموجودات يؤدي إلى تغير هذه المفاهيم والصور، لكن بما أن علم اللّه علم حضوري وجميع الأشياء ماثلة بين يديه، فإن هذا الإشكال لا معنى له، لأن التغير يحصل في موجودات هذا الكون فقط، لا في ذاته المقدسة، فوجوده ثابت ومحيط بها جميعا، والمتغير هو الموجودات المحاطه، كما هو الحال فيما لو تحرك شخص معين أمامنا فإن صورته سوف تقع على شبكية العين، وستتغير هذه الصورة بتغير حاله، فتتغير المفاهيم الذهنية الموجودة عنه في أذهاننا تبعا للتغييرات، وكل هذا لسبب كون علمنا هنا انعكاسا للأشياء الخارجية فينا، فلو كان علمنا بالأشياء الخارجية علما ناجما من الإحاطة بجميعها لما حصل أي نوع من التغير، بل لكان التغير فيها فقط.

قال فيثاغورث: فكيف يحصل العلم للّه بالجزئيات مع أن الجزئيات متعددة ومتكثرة، وذاته المقدسة واحدة لا تعرف التعدد؟

قال الباقر: إن هذا الخطأ ناتج عن مقايسة علم اللّه بعلمنا الذي نحصل عليه عن طريق انتقال المفاهيم والصور الذهنية في حين أن علمه تعالى بالموجودات ليس علما حصوليا، بل هو حضوري، أي أن جميع الموجودات ماثلة بذاتها بين يديه عز وجل، وهو يحيط بها علما دون الحاجة إلى مفاهيم أو صور ذهنية معينة.

قال فيثاغورث: وعيت هذا.. وأحسنت في الإجابة عنه.. فكيف تجيب من نفى علم الله بالأشياء قبل وجودها؟

قال الباقر: فما استدلوا به على هذه الدعوى؟

قال فيثاغورث: لقد ذكروا أن الله لو علم بالأشياء قبل وجودها، أي أنه لو تعلق علمه بها كذلك، لوجب وجودها.. لأن علمه علة وجود الأشياء.. ولما كان كل شيء عداه ممكناً، فيلزم على هذا انقلاب الممكن إلى واجب.. وإلا لزم من عدم وجودها انقلاب علمه إلى جهل.. وهو نقص ينزّه عنه الكامل المطلق.

قال الباقر: ما اعتبروه لازما غير لازم.. ذلك أننا وإن التزمنا بأن الأشياء تصبح واجبة لتعلق علمه بها قبل وجودها، إلا أنها بهذا لا تخرج عن الإمكان الذاتي.. لأن معنى وجوبها حينئذ، هو وجوبها بالغير، أي وجوبها بوجود علتها، وهو علمه سبحانه – وكل ممكن بعد وجود علته، يصبح واجباً بتلك العلة.. لا أنها تصبح – كما توهم هؤلاء – واجبة بالذات.

قال فيثاغورث: فكيف يمكن تصور علم اللّه بالحوادث المستقبلية التي ليس لها وجود خارجي في الوقت الحاضر حتى تقع في دائرة علم اللّه؟ فهل توجد لدى اللّه مفاهيم وصور ذهنية عنها؟ مع تقدسه سبحانه عن أن يكون له ذهن، أو أن يكون علمه حصوليا؟

قال الباقر: على الرغم من أن هذا الإشكال قد طرح حول العلم بالحوادث المستقبلية إلا انه يرد بنفسه حول الحوادث الماضية المعدومة أيضا، لأن الحوادث الماضية لا وجود لها الآن، فصورة (فرعون) مثلا لا وجود لها حاليا، وقد تلاشت، كما أن تاريخها قد فات أيضا، فنحن نستطيع الوقوف على الماضي بمجرد أن نستحضر في أذهاننا صوره فحسب، لأن علمنا علم حصولي يتحقق بواسطة المفاهيم والصور الذهنية فقط، وبما أن علم اللّه علم حضوري فهو لايعرف أي لون من الوساطة والمفاهيم ،فكيف يمكن تصور علمه بالحوادث الماضية؟

قال فيثاغورث: أجل.. وقد أضفت إلى إشكالي الذي طرحته إشكالا، فكيف تجيب عنه.

قال الباقر: سأجيبك عن هذا من وجهين.

قال فيثاغورث: فهات الوجه الأول.

قال الباقر: الوجه الأول هو أن اللّه محيط علما دائما بذاته المقدسة التي هي علة جميع الكائنات، وهذا العلم الإجمالي بجميع حوادث وموجودات الوجود أزلي وأبدي (اي قبل الإيجاد وبعده)

وبتعبير آخر لو علمنا علل الأشياء لاستطعنا ان نعلم نتائجها ومعلولاتها أيضا، لأن كل علة تستبطن جميع كمالات معلولها وأكثر.

أو بتعبير آخر أبسط من هذا: إن الحوادث الماضية لم تنمح تماما، فإن آثارها موجودة في طيات الحوادث الآنية، وكذلك بالنسبة إلى الحوادث المستقبلية فهي غير منفصلة عن الحوادث الآنية، ولها علاقة معها، وعليه فـ (الماضي) و(الحاضر) و(المستقبل) يشكلون معا سلسلة شبيهة بالعلة والمعلول، بحيث لو اطلعنا على كل واحدة منها بدقة لشاهدنا فيه الحلقات القبلية والبعدية لهذه السلسلة.

فمثلا لو أحطت علما وبدقة بمناخ جميع الكرة الأرضية، وبكل مميزاته وجزئياته وعلله ومعلولاته وحركة الكرة الأرضية ومسألة الفعل ورد الفعل لاستطعت أن تحيط علما بوضعية المناخ قبل أو بعد ملايين السنين بصورة دقيقة لأن شواهد الماضي والمستقبل موجودة فعلا، لا الشواهد الإجمالية، بل تفصيلات الشواهد المنعكسة في جزئيات الحاضر.

فالحاضر يعكس الماضي، والمستقبل يعكس الحاضر، والإحاطة العلمية الكاملة بجزئيات الحاضر معناها الإحاطة الكاملة بحوادث الماضي والمستقبل.. لذا فعندنا تكون حوادث الحاضر ماثلة بين يدي اللّه تعالى بجميع خصوصياتها، فإنها بمعنى مثول الماضي والمستقبل أيضا بين يديه عز وجل.. فالحاضر مرآة للماضي والمستقبل، ويمكن مشاهدة جميع الحوادث الماضية والمستقبلية في مرآة الحاضر([23]).

قال فيثاغورث: سلمت لك بهذا الوجه.. فهات الوجه الثاني.

قال الباقر: تصور أن شخصا محبوسا في غرفة صغيرة لا يوجد فيها سوى ثقب صغير يطل على الخارج، فعندما تمر قافلة من الإبل من أمام هذا الثقب فإن هذا السجين سوف يشاهد رأس البعير أولا، ثم رقبته، ثم سنامه، ثم أرجله، ثم ذنبه، وهكذا الحال بالنسبة لسائر الإبل الأخرى، فصغر الثقب هو السبب في إيجاد حالات من الماضي والحاضر والمستقبل لدى الناظر السجين، لكن المسألة تختلف تماما بالنسبة للواقف على سطح الغرفة، وهو ينظر الى الصحراء نظرة شاملة، فهو يشاهد جميع إبل القافلة في وقت واحد.

ومن هنا يتضح أن إيجاد مفاهيم الماضي والحال والمستقبل ناجمة عن محدودية نظرة الإنسان، فما هو ماض بالنسبة لنا كان مستقبلا لأقوام قد سبقونا، وماهو مستقبل بالنسبة لنا هو الآن ماض بالنسبة لأقوام ستاتي فيما بعد.

اما الذات التي لا يحدها مكان وقد أحاطت بالأزل والأبد، فإن الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبه لها لا معنى له، فجميع حوادث الدهرماثلة بين يديها، ولكن كل واحدة في موقعها الخاص، وهي محيطة علما بجميع الحوادث وموجودات العالم، سواء بالماضي، أو بالحاضر، أو بالمستقبل بصورة متساوية.

نعم إن تصور هذا بالنسبة لنا نحن المحبوسين في سجن والزمان والمكان أمر صعب ومعقد،  ولكنه في نفس الوقت قابل للتدقيق والمطالعة والتأمل.

5 ـ السميع

قام خامسنا، وكان اسمه (وِلْيَم أوف أكام)، وكان – كسميه الفيلسوف الإنجليزي([24]) – شديد الاهتمام بالحواس عظيم التعلق بها.. بل كان يرى أنها الأساس الذي تقوم عليه المعرفة..

قام، وقال: فما الاسم الخامس للإله الذي بشر به نبيكم؟

قال الباقر: (السَّمِيعُ)([25]).. فالله لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفي.. فيسمع السر والنجوى، بل ما هو أدق من ذلك وأخفى، ويدرك دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.. يسمع حمد الحامدين فيجازيهم، ودعاء الداعين فيستجيب لهم.. قال تعالى: { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى الله وَالله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ }(المجادلة:1)، وقال: { لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا }(آل عمران:181)، وقال: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ }(الزخرف:80)،

قال وِلْيَم: ولكن السمع يحتاج إلى آلة، وقد ذكرت لنا أن ربك منزه عن التركيب والجسمية؟

قال الباقر: ذلك سمعنا.. أما الله، فهو الغني الحميد يسمع بغير أصمخة وآذان كما يفعل بغير جارحة، ويتكلم بغير لسان.. وسمعه منزه عن أن يتطرق إليه الحدثان.

قال وليم: كيف ذلك؟

قال الباقر: قبل أن أجيبك أخبرني: كيف هو عقلك الذي تفكر به؟.. وكيف هي روحك التي تحيا بها؟

قال وليم: أنا لم أر روحي ولا عقلي.. فكيف أحكم على ما لم أر؟

قال الباقر: وكذلك الله.. فهو أقدس من أن يحتاج إلى آلة، وأعظم من أن يفتقر إلى جهاز.

6 ـ البصير

قام سادسنا، وكان اسمه (زينون الرُّواقي)([26])..

قام، وقال: من الإدراك الذي تفتقر إليه الحياة الكاملة ما يرتبط بالبصر.. فهل يبصر الإله الذي بشر به نبيكم؟

قال: أجل.. فمن أسماء ربنا (البَصَيرُ)([27]).. فالله تعالى يبصر جميع الموجودات في عالم الغيب والشهادة، ويرى الأشياء كلها مهما خفيت أو ظهرت، ومهما دقت أو عظمت.. وهو مطلع على خلقه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر، فالسر عنده علانية والغيب عنده شهادة، يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى نياط عروقها ومجاري القوت في أعضائها.

قال تعالى حاكيا عن موسى – عليه السلام -: { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى }(طه:25- 35)

وقال حاكيا عن مؤمن آل فرعون: { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }(غافر:41- 44)

وقال حاكيا عن داود u:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)} (سبأ: 10-11)

وقال آمرا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:{ فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُل إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّل عَلَى العَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} (الشعراء)

قال زينون: عرفنا الدليل النقلي.. ولكنا لا نسلم به.. نحن لا نسلم إلا لما تدل عليه عقولنا.

قال الباقر: لاشك أنك تسلم لي كما يسلم رفاقك جميعا بأن الخالق أكمل من المخلوق.

قال زينون: أسلم لك بذلك.. وقد سبق أن حدثتنا عن ذلك.

قال الباقر: ومعلوم بالبديهة أن البصير أكمل ممن لا يبصر، والسميع أكمل ممن لا يسمع.. ولهذا يستحيل أن يثبت وصف الكمال للمخلوق ولا نثبته للخالق.

قال زينون: فما تقول لمن ينازعك في أن السمع والبصر كمال؟

قال الباقر: هذا مدرك ببديهة العقل، فإن العلم كمال والسمع والبصر كمال ثان للعلم، فمن علم شيئاً ولم يره ثم رآه استفاد مزيد كشف وكمال، فكيف يقال إن ذلك حاصل للمخلوق وليس بحاصل للخالق، أو يقال إن ذلك ليس بكمال، فإن لم يكن كمالاً فهو نقص أو لا هو نقص ولا هو كمال، وجميع هذه الأقسام محال، فظهر أن الحق ما ذكرته لكم.

قال زينون: ما ذكرته في السمع والبصر يلزمكم في الإدراك الحاصل بالشم والذوق واللمس لأن فقدها نقصان ووجودها كمال في الإدراك، فليس كمال علم من علم الرائحة ككمال علم من أدرك بالشم، وكذلك بالذوق فأين العلم بالطعوم من إدراكها بالذوق؟

قال الباقر: لقد صرح المحققون([28]) من هذه الأمة بإثبات جميع أنواع الإدراكات لله دون الأسباب التي هي مقترنة بها في العادة من المماسة والملاقاة، فإن ذلك محال على الله تعالى.. ولكن بما أنه لم يرد الشرع إلا بلفظ العلم والسمع والبصر فإننا – أدبا مع الله- لا نطلق ذلك عليه.

قال زينون: لكن هذا يلزمكم ويلزم محققيكم بإثبات التلذذ والتألم، فالخدر الذي لا يتألم بالضرب ناقص، وفساد الشهوة نقصان، فينبغي أن نثبت – على منوال ما ذكرتموه- في حق الله الشهوة التي نثبتها لأنفسنا.

قال الباقر: شتان بين هذا وذاك.. فالإدراك التي دلت عليها النصوص، وأثبتها العقل إدراكات كمال، أما ما ذكرته فإدراكات نقص، والله منزه عن النقص..

قال زينون: أنت تحتاج للبرهنة على أنها نقص؟

قال الباقر: من السهل إثبات ذلك.. فما ذكرته من الإدراكات محوج إلى أمور توجب الحدوث، فالألم نقصان، ثم هو محوج إلى سبب هو الضرب، والضرب مماسة تجري بين الأجسام..

واللذة ترجع إلى زوال الألم – إذا حققت – أو ترجع إلى درك ما هو محتاج إليه ومشتاق إليه، والشوق والحاجة نقصان، فالموقوف على النقصان ناقص.

ثم إن معنى الشهوة طلب الشيء الملائم، ولا طلب إلا عند فقد المطلوب، ولا لذة إلا عند نيل ما ليس بموجود، وكل ما هو ممكن وجوده لله فهو موجود فليس يفوته شيء حتى يكون بطلبه مشتهياً وبنيله ملتذاً.

ولهذا، فإن جميع هذه الأمور لا تتصور في حقه تعالى..

قال زينون: فكيف نعتبر ذلك كمالا في أنفسنا؟

قال الباقر: هو كمال اعتباري لا كمال حقيقي.. ففقد التألم والإحساس بالضرب نقصان في حق الخدر، ولذلك كان إدراكه عند السليم كمال.. وسقوط الشهوة من معدته نقصان، وثبوتها كمال أريد به أنه كمال بالإضافة إلى ضده الذي هو مهلك في حقه، فصار كمالاً بالإضافة إلى الهلاك لأن النقصان خير من الهلاك فهو إذاً ليس كمالاً في ذاته بخلاف العلم وهذه الادراكات.

قال زينون: ولكن البصر نقصان بهذا الاعتبار أيضا، فهو يحتاج إلى آلة؟

قال الباقر: ذلك بصرنا.. أما الله فإبصاره منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان.. ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان.. فإن ذلك من التغير والتأثر المقتضي للحدثان.

قام توما، وقال: لقد كنت أقول ما تقول لولا أن بعضهم اعترض عليهم بقوله: إن كان سمع الله وبصره حادثين كانا محلاً للحوادث، وهو محال.. وإن كانا قديمين فكيف يسمع صوتاً معدوماً، وكيف يرى العالم في الأزل والعالم معدوم والمعدوم لا يرى؟

قال الباقر: من السهل الإجابة عن هذا.. فهو إما أن يصدر ممن يسلم بأن الله يعلم الحادثات، وإما أن صدر من منكر لكونه عالماً بالحادثات المعينة الداخلة في الماضي والحال والمستقبل.

قال توما: فكيف تجيب الأول منهما؟

قال الباقر: أقول له: إن الله يعلم أن العالم كان موجوداً قبل هذا، فكيف علم في الأزل أنه يكون موجوداً وهو بعد لم يكن موجوداً؟ فإن جاز إثبات صفة تكون عند وجود العالم علما بأنه كائن، وفعله بأنه سيكون وبعده بأنه كان، وقبله بأنه سيكون، وهو لا يتغير عبر عنه بالعلم بالعالم والعلمية، جاز ذلك في السمع والسمعية والبصر والبصرية.

قال توما: فكيف تجيب الثاني؟

قال الباقر: ننتقل به إلى الكلام في العلم لنثبت له جواز تعلق علم القديم بالحادثات.. فإذا ثبت له ذلك في العلم قسنا عليه السمع والبصر.

7 ـ المريد

قام سابعنا، وكان اسمه (أفلوطين).. وكان من المتحمسين لآراء سميه أفلوطين([29])، وكان يرى – كما يرى سميه – أن الوجود يتكون من أربعة جواهر أولية مرتبة ً ترتيبا تنازلياً تبدأ من  الواحد.. ثم العقل.. ثم النفس.. ثم المادة.

قام في ذلك المجلس، وقال: فكيف فسر نبيكم وجود الكثرة في الكون مع أن الله واحد.. ولا يصدر من الواحد إلا واحد؟

قال الباقر: ذلك يسير.. فلله الإرادة المطلقة.. وهو يخصص بها الممكنات ببعض ما يجوز عليها.. وما نراه في الكون هو تخصيصات إلهية..

لقد ذكر الله ذلك، فقال: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} (المائدة)

وقال:{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)} (الرعد)

قال أفلوطين: لكن صاحبي أفلوطين يقول خلاف هذا.

قال الباقر: فما يقول؟

قال أفلوطين: لقد ذكر أن الوجود يتكون من أربعة جواهر أولية مرتبة ً ترتيبا تنازلياً تبدأ من  الواحد.. ثم العقل.. ثم النفس.. ثم المادة.

أما المرتبة الأولى، فتتشكل من الواحد أو الوجود الأول.. وهو لا يشبه شيئاً من الموجودات، يتعذر وصفه بصفات إيجابية، ولكن يمكن وصفه بصفات سلبية، كأن يقال:إنه ليس حركة، وليس في مكان أو زمان وليس صفة، وليس ذاتاً، وغير ذلك من صفات السلوب.. وهو واحد من جميع الوجوه، واحد في التصور الذهني، وواحد في الواقع، لا توجد فيه كثرة بأي اعتبار، والتركيب لا يتطرق إليه بأي وجه من الوجوه، لذا فهو بسيط كل البساطة وهو واحد في الذات وحدة مطلقة.ولكونه واحد فلا يقال عنه: عقل ولا معقول، لأننا إذ وصفناه عقلاً يجب أن نتصور في دائرته ومرتبته معقولاً معه.كما لا يوصف بأنه جوهر ولا بأنه عرض لأنهما من الأمور النسبية.

وقد دعاه نفي الكثرة عن الأول إلى أن يتلزم القول بأن صدور العالم عنه يكون بالطبع، لا بالإرادة، لأن إضافة الإرادة له في نشأة العالم تستلزم مراداً، وهذا يقتضي تكثراً في التصور على الأقل والفرض أنه واحد من كل وجه.

ولهذا، فإن الله – كما يقول صاحبي- ليس خالقاً ولا صانعاً، لكن الموجودات تفيض عنه دون أن يعلمها أو يعنى بها، والعالم المادي صادر عن النفس الكلية وهي علة نظامه وحركاته.

أما المرتبة الثانية، وهي العقل، فهو يرى فيه أنه صدر مباشرة عن الأول، وهو في المرتبة الثانية بعده، ووحدة الأول من كل وجه تتكثّر في العقل الآن بالاعتبار، لأنّ مقتضى كونه عقلاً يستلزم معقولا أي يستلزم موضوعاً للتعقل، فهنا اثنينية في التصور حدثت بعد وحدة مطلقة كانت للأول.. وقد صدر العقل عن الأول لا في وقت وزمن، وصدوره عنه مباشرة لا يقلّل من جوهره ولا يسبّب له ضعفا ً ولا نقصاً، وصدوره عن الأول بالطبع لا بالإرادة والاختيار.. ولما يوجد بينه وبين الواحد من شبه فإنّ قوته تفيض شيئاً غيره، وهو النفس الكلية.

أما المرتبة الثالثة، وهي النفس الكلية، فهو يرى أنها آخر الموجودات في عالم المجردات، وبها تتحقق الصلة والرابطة بين العالم المحسوس والعالم غير المحسوس أو العالم الإلهي، وهي مشغولة بتأمل الأول، وبتدبير الثاني كامتداد لتأملها الأول.. وتفيض هذه النفس فتصدر عنها نفوس الكواكب ونفوس البشر ونفوس الأجسام.

وهي في جملتها لها قوة التدبير والإيجاد فيما تحتها نيابة عن العقل فوقها، فالعقل موكل عن الأول بدوره في الإيجاد لما تحته والتأثير فيه، ولأنها نائبة فقط في إيجاد هذا العالم المحسوس وتدبيره فرض أفلوطين على هذا العالم الشكر للعقل دونها على نعمة الوجود.

أما المرتبة الرابعة، وهي المادة، فهو يرى أنها أصل هذا العالم المشاهد، وهو ما تحت النفس الكلية، ووجوده كشعاع لها فقط، إذ المادة التي هي أصله تحد من الحقيقة فيه، لأنها نقص، بينما العالم المجرد أو العالم المعنوي كله حقائق محضة فهذا العالم ليست له حقيقة ذاتية، وبالتالي ليس له كمال ذاتي، وما فيه من حقيقة أو كمال صورة لعالم المجردات أو شعاع لضوئه.

وهو يرى أنّ وحدة الوجود بين أجزاء العالم ومراتبه المختلفة تتم بالتعقل الذي يرد الكثرة إلى الوحدة، والمتعدد إلى الواحد، وما دامت وحدة العالم تتم بالتأمل والفكر فإن الوجود الحقيقي للأشياء لا يكون شيئاً سوى هذا التأمل.

وعلى هذا فإنه يقرر بأن الموجود الأدنى (الطبيعة) إنما يحصل على صورة الأعلى (النفس) بتأمله له فيتحد به، وهكذا يكون ما بين النفس والعقل ثم ما بين العقل والواحد المطلق الذي لا توجد فيه كثرة ما([30]).

ابتسم الباقر، وقال: فما الذي حمل صاحبك على القول بهذا؟

قال أفلوطين: ما دل عليه العقل من أن الواحد لا يصدر منه إلا واحد.

قال الباقر: فما دليله عليها؟

قال أفلوطين: الأدلة على ذلك كثيرة.. منها أنه لو كان الواحد الحقيقي مصدرا لأمرين كـ: (الف) و(ب) مثلا، كان مصدرا لـ:(الف) وما ليس ( الف)، لأن ( ب) ليس ( الف)، فيلزم اجتماع النقيضين.

ومنها: أن البسيط إذا كانت ذاته بحسب الحقيقة البسيطة علة لشيء، كانت ذاته محض علة ذلك الشيء، بحيث لا يمكن للعقل تحليلها إلى ذات وعلة، لتكون عليتها لا بنفسها من حيث هي، بل بصفة زائدة، أو شرط، أو غاية، أو وقت، أو غير ذلك، فلا يكون مبدأ بسيطا بل مركبا، فاذا كان كذلك، وصدر عنه أكثر من واحد ـ ولا شك أن معنى مصدر ذا غير معنى مصدر ذا ـ فتقوم ذاته من معنيين مختلفين، وهو خلاف المفروض.

ومنها: أنه لو صدر عن الواحد الحقيقي البسيط اثنان فإما أن يصدرا بجهة واحدة أو بجهتين، ولا سبيل إلى الأول  لاستلزامه صيرورة الاثنين واحدا، وهما اثنان، هذا خلف، ولاسبيل إلى الثاني، لاستلزامه كون العلة مركبة غير بسيطة، وهذا خلف.

ومنها أنه إذا كانت الخصوصية البسيطة مقتضية لوجود ( ب) ومقتضية لوجود( ج)، فاذا صدر عنه ( ج) لم لم يصر ( ب)؟ واذا صدر عنه ( ب) لم لم يصر ( ج)؟ فالخصوصية البسيطة لا تفي لوجود أي منهما، فلابد من جهة زائدة عنه صدور ( ب) صار بسببها ( ب)، ومن جهة زائدة أخرى عنه صدور ( ج) صار بسببها ( ج)، وهذا خلف.

قال الباقر: إن كل ما ذكرته من أدلة على أن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد صحيح.. ولكن الشأن ليس فيما يقوله العقل، وإنما الشأن في تطبيق ما يقول العقل على ما نحن فيه.

قال أفلوطين: أترى أن صاحبي أخطأ في تطبيق ما يقول العقل على هذا؟

قال الباقر: أجل..

قال أفلوطين: كيف ذلك؟

قال الباقر: إن النتيجة التي تنص عليها قاعدة (الواحد لا يصدر منه إلا الواحد) هي عدم صدور أزيد من الواحد من جهة واحدة، لا عدم صدوره من فاعل واحد، ولو مع تعدد الجهة.

أو بعباره أخرى.. إن نتيجة ما ذكرت من البراهين هي أن العلة الواحدة لا يكون لها إلا معلول واحد، والفاعل المختار إنما يصير علة تامة لفعل إذا تعلقت به مشيته، وحصلت جميع شرائط وجود ذلك الفعل ومعداته.

ولهذا فلا استحالة في صدور أفعال كثيرة من فاعل واحد بسيط لأجل جهة خاصة لكل واحد منها، كما نراه ونشاهده من أنفسنا، فإن النفس الناطقة لنا بوحدتها مصدر أعمالنا كلها في جميع شؤون الحياة، وكل ما يصدر من جوارحنا يصدر من نفس واحدة، فإنها العلة المحركة لحركات الأعضاء جميعها.

ومن المعلوم أنه ليس مصدر تلك الأفعال إلا وجود النفس، فإن الذي يصدر عنه الوجود هو الوجود دون الماهية، وهو واحد بسيط وإن كانت ماهيتها مركبة من الجنس والفصل، إلا أن وجودهما واحد وإلا لم يحصل التصادق بينهما.

بالإضافة إلى هذا، فإن قاعدة: (الواحد لا يصدر منه الا الواحد) كما تستلزم عدم صدور أزيد من واحد من الواحد، كذلك تستلزم عدم صدور أزيد من اثنين من الاثنين، وعدم صدور أزيد من ثلاث من الثلاث، وهكذا.

فلو قلنا بأن صدور الأفعال المتعددة من فرد الإنسان لأجل تركب ماهيته من أجناس وفصول عديدة بعيدة وقريبة، كان لازمه كون الأفعال الصادرة منه بعدد أجزاء ماهيته من الاجناس والفصول، لا أزيد من ذلك.

ومن المعلوم كون عدد أجزاء ماهية الإنسان لا تزيد على عدد الأصابع، فكيف يصدر منه أفعال كثيرة لا تحصى كثرة؟

قال أفلوطين: فما منشأ تعدد أفعال النفس مع وحدتها؟

قال الباقر: ليس منشأ التعدد إلا تعدد الإرادة المتعلقة بها.. ومنشأ تعدد الإرادات تعدد الدواعي والفوائد الملحوظة لكل واحد من الأفعال.. فالإنسان الواحد بوحدته عالم بجميع الفوائد الملحوظة فيها، وعلمه بكل واحد من فوائد تلك الأفعال هو الجهة الفارقة له في كونه فاعلا له، ولكن الموجد لجميع تلك الأفعال هو هذا الفرد من الإنسان لا تلك الفوائد الملحوظة.

8 ـ القادر

قام ثامننا، وكان اسمه (أنكسيمانس)، وكان كسميه  (أنكسيمانس)([31]) من الموحدين([32])، وكان شديد التعظيم للهواء، وكان يرى أنه أصل الكون، وأنه المبدأ الأول للوجود، ومنه تكون جميع ما تكون في العالم من الأجرام العلوية والسفلية.

وكان يرى أن جميع الأشياء تتولد عن طريق التخلل والتكاثف، فإذا تخلخل الهواء صار ناراً، ومن النّار تولدت كل الأشياء النّارية كالكواكب والنجوم مثلاً، وإذا تكاثف الهواء نشأت عنه الرياح والعواصف والسحب ثم الأمطار، ثم تتكاثف الأمطار فينتج عنها الأتربة والرمال والصخور.

 وكان يقول: ما كوّن من صفو الهواء المحض لطيف روحاني، لا يدثر ولا يدخل عليه الفساد، ولا يقبل الدنس والخبث، وما كوّن من كدر الهواء كثيف جسماني يدثر، ويدخله الفساد، ويقبل الدنس والخبث، فما فوق الهواء من العوالم فهو من صفوه، وما دون الهواء من العوالم فهو من كدره([33]).

قام في ذلك المجلس، وقال: من الكمالات التي لا مناص منها للكامل أن يكون قادرا لا يعجزه شيء.

قال الباقر: صدقت.. ولذلك فإن الله هو القادر.. وهو القَدِيرُ.. وهو المقتدر([34]).. قال تعالى يعرفنا بنفسه: { قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }(آل عمران:26)، وقال:{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ }(يس:81)، وقال: { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }(المعارج:40/41)، وقال: { وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ }(المؤمنون:95)

قال أنكسيمانس: نحن لا تهمنا الدعاوى التي تطلقها النصوص التي تزعم لها القداسة.. بل نريد الأدلة العقلية.. فأنت تعلم أننا أصحاب عقول.. ولا يمكن أن نترك عقولنا لنستسلم لأي مقدس.

قال الباقر: إن كل ذرة من ذرات الوجود تدل على هذا..

قال أنكسيمانس: خاطبنا بما ألفناه من أساليب المناطقة.. فلا نريد الأدلة الخطابية.

قال الباقر([35]): ألا ترى بحسك أن العالم فعل محكم مرتب متقن منظوم مشتمل على أنواع من العجائب والآيات.

قال أنكسيمانس: بلى.. فما علاقة ذلك بقدرة الله؟

قال الباقر: ألم يدلك المنطق العقلي على أن كل فعل محكم إنما يصدر من فاعل قادر؟

قال أنكسيمانس: بلى..

قال الباقر: والعالم فعل محكم.. وهو يدل بذلك على أنه صادر من فاعل قادر.

قال أنكسيمانس: فما تقول إن نازعتك في المقدمة الأولى، فطالبتك بالدليل المثبت بأن العالم فعل محكم.

قال الباقر: الدليل على كونه محكماً ترتبه ونظامه وتناسبه، فمن نظر في أعضاء نفسه الظاهرة والباطنة ظهر له من عجائب الإتقان ما يطول حصره، فهذا أصل تدرك معرفته بالحس والمشاهدة فلا يسع جحده([36]).

قال أنكسيمانس: فما تقول إن نازعتك في المقدمة الثانية، فطالبتك بالدليل المثبت على أن كل فعل مرتب محكم يطلب فاعلا قادرا؟

قال الباقر: هذا مدركه ضرورة العقل؛ فالعقل يصدق به بغير دليل.. ولا يقدر العاقل على جحده..

قال أنكسيمانس: فإن عاندتك في هذا.. وطالبتك بالدليل عليه.

قال الباقر: إن الفعل الصادر من الذات لا يخلو إما أن يصدر عنه لذاته أو لزائد عليه، وباطل أن يقال صدر عنه لذاته، إذ لو كان كذلك لكان قديماً مع الذات فدل على أنه صدر لزائد على ذاته، والصفة الزائدة التي بها تهيأ للفعل الموجود نسميها قدرةً([37])، إذ القدرة في وضع اللسان عبارة عن الصفة التي يتهيأ الفعل للفاعل وبها يقع الفعل.

قال الباقر([38]): لاشك أنك تعلم أن الوجود لا يتعدى إحدى حالتين: إمامستقل بالذات، ويدعى (واجب الوجود)، أو محتاج إلى غيره، ويدعى (ممكن الوجود)

ولاشك أنك تعلم كذلك أن (واجب الوجود) يستحيل أن يكون أكثر من واحد.. وأن ما عداه لابد أن يكون (ممكن الوجود).. وبهذا فإن جميع الممكنات محتاجة إليه تعالى، لا فى بداية إيجادها فحسب، بل في بقائها واستمرارها..

والقول بهذا كله يستدعي الإيمان بقدرة اللّه تعالى على كل شيء.

قال أنكسيمانس: لا بأس.. فما متعلقات هذه القدرة؟

قال الباقر: قدرة الله متعلقة بجميع المقدورات.

قال أنكسيمانس: أنا كذلك قدرتي متعلقة بجميع المقدورات التي أطيقها.

قال الباقر: مقدورات الله هي الممكنات كلها.. وبما أن الممكنات لا نهاية لها فكذلك لا نهاية للمقدورات.

قال أنكسيمانس: فما تعني بقولك (لا نهاية للممكنات)

قال الباقر: إن خلق الحوادث بعد الحوادث لا ينتهي إلى حد يستحيل في العقل حدوث حادث بعده، فالإمكان مستمر أبداً والقدرة واسعة لجميع ذلك.

قال أنكسيمانس: فما البرهان على ذلك؟

قال الباقر: البرهان على عموم تعلق القدرة هو أنه قد ظهر أن صانع كل العالم واحد، فإما أن يكون له بإزاء كل مقدور قدرة، والمقدورات لا نهاية لها فتثبت قدرة متعددة لا نهاية لها وهو محال لأن ذلك يؤدي إلى دورات لا نهاية لها، وإما أن تكون القدرة واحدة فيكون تعلقها مع اتحادها بما يتعلق به من الجواهر والأعراض مع اختلافها لأمر تشترك فيه ولا يشترك في أمر سوى الامكان، فيلزم منه أن كل ممكن فهو مقدور لا محالة وواقع بالقدرة.

وبالجملة، إذا صدرت منه الجواهر والأعراض استحال أن لا يصدر منه أمثالها، فإن القدرة على الشيء قدرة على مثله إذ لم يمتنع التعدد في المقدور لنسبته إلى الحركات كلها والألوان كلها على وتيرة واحدة فتصلح لخلو حركة بعد حركة على الدوام، وكذا لون بعد لون وجوهر بعد جوهر وهكذا.. وهو الذي عنيناه بقولنا إن قدرته تعالى متعلقة بكل ممكن فإن الإمكان لا ينحصر في عدد. ومناسبة ذات القدرة لا تختص بعدد دون عدد ولا يمكن أن يشار إلى حركة فيقال إنها خارجة عن إمكان تعلق القدرة بها، مع أنها تعلقت بمثلها إذ بالضرورة تعلم أن ما وجب للشيء وجب لمثله.

سكت أنكسيمانس قليلا، ثم قال، وهو يبتسم: فما تقول لمن توجه إليك بهذا السؤال المعجز.. فقال: (هل يستطيع ربك خلق صخرة يعجز عن حملها؟)([39])

ابتسم الباقر، وقال: هذا ليس سؤالا معجزا، بل هو سؤال سفسطائي عبثي.

قال أنكسيمانس: ألعجزك عن الإجابة عنه اعتبرته سؤالا سفسطائيا؟

قال الباقر: أفيكم رياضي.. فإني أريد أن أسأل سؤالا له علاقة بالرياضيات.

قال أنكسيمانس: كلنا رياضيون.. فيستحيل أن نكون فلاسفة، ثم لا تكون لدينا عقول رياضيين.

قال الباقر: فأجبني إذن.. ما الاحتمالات في ترتيب الأرقام 1، 2، 3؟

قال أنكسيمانس: إنها ستة احتمالات.

قال الباقر: فلو سألنا شخصا هذا السؤال، فأعطانا أربعة احتمالات، ولم يستطع أن يعطينا الاحتمالين الخامس والسادس، فهل يقال في حقه أنه عاجز عن الجواب؟

قال أنكسيمانس: نعم، يقال ذلك، لأنه بقي احتمالين، ولم يعرفهما.

قال الباقر: فلو ذكرنا هذا السؤال لعبقري زمانه، وقلنا له: اذكر لنا احتمالات الأرقام السابقة، فأعطانا الاحتمالات الستة كلها، فقلنا له: لن يثبت لنا كونك عالما بحق حتى تعطينا احتمالا سابعا لترتيب هذه الأرقام الثلاثة؟ فماذا تتوقع أن يقول لك هذا العبقري؟

قال أنكسيمانس: سوف يقول بكل بساطة: يا جاهل، يستحيل وجود احتمال سابع، لأن القسمة العقلية لا توجب إلا هذه الاحتمالات الستة، ويستحيل عقلا وجود احتمال سابع.

قال الباقر: فهل نستطيع أن نصف هذا العبقري بأنه عاجز أو أن معرفته بالرياضيات ناقصة لأنه لم يستطيع أن يعطينا الاحتمال السابع؟

قال أنكسيمانس: لا..

قال الباقر: لم؟

قال أنكسيمانس: لأنه ببساطة لا يوجد احتمال سابع.. بل هو مستحيل.

قال الباقر: فالقدرة لا تتعلق إذن بمستحيل؟

قال أنكسيمانس: أجل..

قال الباقر: والعاجز عن فعل المستحيل هل يسمى عاجزا؟

قال أنكسيمانس: لا.. لا يسمى عاجزا.

قال الباقر: فقد أجبت نفسك إذن..

قال أنكسيمانس: لم أفهم.

قال الباقر: إن القدرة لا تتعلق إلا بالممكنات.. وبما أن عجز الله مستحيل، فيستحيل أن تتعلق قدرة الله بما يعجزه.

قال أنكسيمانس: إن ذلك في حق البشر فقط، أما في حق الله، فلا بد أن تتعلق القدرة بالواجبات.. بل بالمستحيلات.

قال الباقر: من أين لك هذا؟

قال أنكسيمانس: هذا من مقتضى كماله.

قال الباقر: بل من مقتضى كمال الله أن لا تتعلق قدرته بالواجبات.. لأن وجود الله تعالى واجب، فلو تعلقت القدرة بإفناء نفسه لكان هذا دليلا على أن وجوده ممكن وليس بواجب، ولكان هذا دليلا على أنه ليس الإله الخالق، لأن الخالق للموجودات من العدم يستحيل عقلا أن يكون له بداية، لأنه لو كان له بداية لكان مخلوقا، والمخلوق يستحيل عقلا أن يخلق شيئا من العدم، فإذا كان الله تعالى هو خالق الموجودات من العدم، دل ذلك على أنه ليس له بداية، وهذا معنى واجب الوجود.

قال أنكسيمانس: لم أفهم.

قال الباقر: سأضرب لك مثالا يقرب لك هذا.. أرأيت لو أن شخصا استخرج بيد نفسه قلبه من صدره، وقطعه عن وريده بالسكين، واستمر ذلك يومين، ولم يمت، وشخصا آخر استخرج قلبه بيد نفسه من صدره فمات.. أيهما الكامل، وأيهما الناقص؟

قال أنكسيمانس: الأول هو الكامل بلا شك، لأنه بالرغم من تقطيع قلبه بقي حيا، بينما الآخر عندما قطع قلبه مات.

قال الباقر: ولو أن شخصا من الناس ذكر لك أن الكامل هو الثاني، لأنه استطاع أن يميت نفسه.

قال أنكسيمانس: لا شك أن قائل هذا مجنون.. فالبشر كلهم ناقصون لأنهم يموتون، فيستطيع الواحد أن يقتل نفسه، ويستطيع الآخرون أن يقتلوه.

قال الباقر: فهكذا الأمر مع سؤالك.. فالكامل هو الذي لا تتعلق قدرته بإفناء نفسه، لأنه لو تعلقت قدرته بإفناء نفسه دل ذلك على أنه ممكن الوجود، وعلى أنه ناقص الوجود، بينما لو لم تتعلق قدرته ولا قدرة غيره بإفنائه، دل ذلك على كماله في ذاته.

قال أنكسيمانس: لم أفهم.

قال الباقر: لا بأس.. سأذكر لك جوابا آخر، فأقول ببساطة: (إن الله قادر على خلق صخرة بالغا ما بلغت وقادر على حملها، وذلك لأن خلق الصخرة بالغا ما بلغت من الممكنات، والقدرة على حملها، أيضا من الممكنات)

قال أنكسيمانس: لا.. ليس هذا هو سؤالي.. إن سؤالي هو: هل أن في قدرة ربك أن يخلق صخرة عظيمة جدا يعجز عن حملها.

ابتسم الباقر، وقال: مهما تصورت صخرة عظيمة فإن الله تعالى قادرا على خلقها بالغا ما بلغت، وهو قادر كذلك على حملها.

قال أنكسيمانس: لا أريد هذا.. بل أريد أن يخلق الله تعالى صخرة أعظم من ذلك مما لا يستطيع حملها.

قال الباقر: إن الصيغة الحقيقية لسؤالك هي: هل الله قادر على أن يصيب نفسه بالعجز عن الممكنات؟

قال أنكسيمانس: فلنفرض أن هذا هو سؤالي، فبم تجيب عنه؟

قال الباقر: إن صفة القدرة صفة واجبة لله تعالى.. وقدرة الله تعالى لا تتعلق بإضعاف أو إفناء صفة من صفاته، وليس ذلك نقصا فيه، بل هو كمال فيه، فكما أن الذي تعلقت قدرته بإفناء نفسه هو العاجز، والذي لم تتعلق قدرته بإفناء نفسه هو الكامل، فكذلك الذي تتعلق قدرته بإفناء أو إضعاف صفة من صفاته هو العاجز، والذي لا تتعلق قدرته بإفناء أو إضعاف صفة من صفاته فهو الكامل.

9 ـ المتكلم

قام تاسعنا، وكان اسمه (نعوم تشومسكي)([40]).. وكان رجلا مهتما باللغات.. ومهتما بعلاقتها بالتواصل مع الآخرين.. وكان إلى جانب ذلك ذا إنسانية عميقة، فهو يتألم للمستضعفين، ويمتلئ غيظا على المستبدين.. وقد ألقى الخطب الطوال على المنابر المختلفة التي يبرز فيها ألمه وغيظه.. وقد أثمرت خطبه ثمارا كثيرة يانعة.

قام في ذلك المجلس، وقال: لا يكفي الكامل أن يكون قادرا.. بل لابد أن يكون بالإضافة إلى ذلك متكلما، فالكلام هو الذي يعرفنا بحقيقته المتسترة وراء أفعاله.. وكلامه هو الذي يعبر لنا عن رضاه وسخطه، وعن حبه وبغضه، وعن تقريبه وإبعاده.. وكلامه هو الذي يعبر لنا بعد ذلك كله عن مراده من مخلوقاته، وعن الوظائف التي يطلبها منهم.

قال الباقر: صدقت.. فالإله الذي اجتمعت لديه جميع الكمالات يستحيل عليه أن لا يكون متكلما.. لقد ذكر الله ذلك.. ففي قصة محاجة إبراهيم u لقومه، قال تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} (الأنبياء)

انظروا كيف أقام إبراهيم u الحجة على قومه بعجز آلهتهم عن الكلام، وهو يدل على أن الكلام من مستلزمات الألوهية.

وهكذا.. فالقرآن الكريم مليء بالحديث عن تكليم الله لعباده سواء كانوا بشرا أو غيرهم([41]).. قال تعالى يذكر حديثه للكون في بداية خلقه:{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} (فصلت)

وقال يذكر حديثه مع ملائكته ومع إبليس:{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} (ص)

وهكذا.. فالقرآن الكريم مليء بذكر كلمات الله لعباده.. بل هو نفسه من كلمات الله المقدسة التي أوحاها لعباده، كما قال تعالى:{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)} (التوبة)، وقال:{ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)} (الفتح)

بل إن جميع وحي الله لأنبيائه من كلمات الله المقدسة لعباده، قال تعالى عن الكتب التي أنزلت على بني إسرائيل:{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} (البقرة)

قال نعوم: أنت تكلفني بإيرادك لهذه النصوص شططا.. فأنت تبرهن لي على أن الله متكلم من خلال كلامه لرسله.. وأنا لو كنت أؤمن برسله لم أورد عليك هذه المسألة.. فمعنى الرسول هو المبلغ لرسالة المرسل، فإن لم يكن للكلام متصور في حق من ادعى أنه مرسل كيف يتصور الرسول؟

ولهذا.. دعنا مما يقوله ما تدعي له القداسة، وحدثنا عما يقوله العقل.. فما براهين كلام الله لعباده من العقل؟

قال الباقر: أجبني.. هل الكلام للحي كمال أو هو نقص، أو هو لا هو نقص ولا هو كمال؟

قال نعوم: لاشك أنه باطل أن يقال هو نقص، أو هو لا نقص ولا كمال..

قال الباقر: فثبت بالضرورة أنه كمال، فكل كمال وجد للمخلوق هو واجب الوجود للخالق بطريق الأولى.

قال نعوم: إن إثباتك لكلام الله يورد عليك شبها كثيرة لا تجد منها فكاكا..

قال الباقر: يسعدني أن تورد لي منها ما تشاء.. وستجد إن شاء الله جوابك عندي([42]).

قال نعوم: إن الكلام الذي أثبته لإلهك إما أن يراد به الأصوات والحروف.. أو يراد به القدرة على ايجاد الأصوات والحروف في نفس القادر.. أو يراد به معنى ثالث سواهما.

فإن أريد به الأصوات والحروف، فهي حوادث ومن الحوادث ما هي كمالات في حقنا، ولكن لا يتصور قيامها في ذات الله، وإن قام بغيره لم يكن هو متكلماً به بل كان المتكلم به المحل الذي قام به.

وإن أريد به القدرة على خلق الأصوات فهو كمال، ولكن المتكلم ليس متكلماً باعتبار قدرته على خلق الأصوات فقط، بل باعتبار خلقه للكلام في نفسه، والله قادر على خلق الأصوات فله كمال القدرة، ولكن لا يكون متكلماً به إلا إذا خلق الصوت في نفسه، وهو محال إذ يصير به محلاً للحوادث فاستحال أن يكون متكلماً.

وإن أريد بالكلام أمر ثالث فليس بمفهوم وإثبات ما لا يفهم محال.

قال الباقر: ما ذكرته من التقسيم صحيح، والسؤال في جميع أقسامه معترف به إلا في إنكار القسم الثالث.

قال نعوم: فهل تستطيع أن تثبته؟

قال الباقر: إننا معترفون باستحالة قيام الأصوات بذاته، وباستحالة كونه متكلماً بهذا الاعتبار، ولكنا نذكر أن الإنسان يسمى متكلماً باعتبارين:

أما أولهما، فهو كلامه بالصوت والحرف.. وأما الثاني، فبكلام يمكن أن نعبر عنه بالكلام النفسي، وهو ليس بصوت ولا حرف، وقد أشار إلى هذا النوع من الكلام الشاعر، فقال:

لا يعجبنك من أثير خطه
 
حتى يكون مع الكلام أصيلا
  
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
 
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
  

وهذا النوع من الكلام كمال.. وهو في حق الله تعالى غير محال.. ولا هو دال على الحدوث.

قال نعوم: إن كلام النفس بالتأويل الذي ذكرت معترف به، ولكنه ليس خارجاً عن العلوم الإدراكات.. بل ليس جنساً برأسه البتة، فكلام النفس وحديث النفس هو العلم بنظم الألفاظ والعبارات وتأليف المعاني المعلومة على وجه مخصوص.

قال الباقر: سأوضح لك ذلك بما يزيل عنه الالتباس.. واسمح لي أن أستفيد مما أورده العلم الحديث في هذا المجال، وأستعمل قياس الغائب على الشاهد([43])، فهو أيسر في التوضيح.

لاشك أنكم تعلمون أن الحواس الخمس مجرد نوافذ يتعلق بكل واحد منها إدراك معين لصفة أو عدد من الصفات التي تكون عليها الأجسام.. ولاشك أنكم تعلمون كذلك أن مركز الإدراك ليس في هذه النوافذ والآلات التي يجري الحس من طريقها، وإنما في فصوص معينة من قشرة المخ المركوز في جوف رأس الإنسان.. فهذا المخ تنفذ إليه معطيات الحواس عن طريق شبكة الأعصاب المنتشرة فروعها في جسم الإنسان؛ فيحصل فيه الإدراك، وهذه الشبكة نفسها تحمل أوامر المخ إلى سائر أعضاء الجسم، كما نعرف من معطيات علم الطب الحديث التي صارت جزءا من الثقافة العامة لعصرنا..

فالأذن نافذة إدراك الأصوات، والعين نافذة إدراك الألوان، والأنف نافذة إدراك الروائح، واللسان نافذة إدراك الطعوم، والجلد نافذة إدراك الخشونة والملاسة، وكذلك الحرارة والبرودة، وحملوا عليه أيضا إدراك الرطوبة واليبوسة مع أن هذا لا يتم مع مجرد المباشرة؛ بل مع المدافعة أو الاعتماد، وبمثل هذا ندرك الضرب المؤلم؛ لكننا ندرك أن جسما أثقل من جسم آخر متى حملناهما بمقدار الجهد العضلي في الحمل.. وندرك مرض أعضاء أجسامنا الجوانية حينما نحس الألم فيها.. وهذه معارف حسية ضرورية أيضا تتولى شبكة الأعصاب نقلها إلى مركز إدراكها بالمخ بلا واسطة النوافذ الخمس.

وللكلام أو للتكليم – أي طريقة إخراج المعلومة المرادة وفق النظام اللغوي المتواضع عليه – مركزان في قشرة المخ: أحدهما معني بنظام اللغة، والثاني يقود عملية النطق وإنتاج الأصوات المسموعة..

فالمسألة في حقيقتها ليست أكثر من معارف تجمع بقدر ما يتاح للإنسان من معطيات حواسه ونتاج استدلاله، وتحفظ في مستودعها من المخ، ثم تُخرج أو تُظهر أو تُعلَن بقدر ما تتعلق به الإرادة من ذلك المستودع في خطاب الإنسان، أو كتابته التي هي رموز تحكي مفردات الخطاب وتنقله للغائب، أو في إشاراته الحسية المتفق عليها، وربما عن طريق التخاطر لمن كان من أهل هذه الهبة.

وقد تكون المعارف الخارجة خبرا عن معلوم أو طلبا لحاجة معلومة، وقد تكون صحيحة في أصلها أو باطلة، وقد تكون صحيحة ويريد الإنسان تزييفها والإخبار عنها بغير ما هي عليه في نفس الأمر، وهذه الإرادة تابعة للعلم بما فيه مصلحة أو مضرة.

واللغة في حقيقتها ليست شيئا أكثر من نظام لنقل هذه المعارف أو الرغبات التابعة لها عن طريق رموز صوتية، يتم تعيين إشارة كل رمز منها إلى مرموزه بالتواضع بين أهل اللغة الواحدة على مستوى بناء الكلمة، وعلى مستوى بناء التركيب الذي يتاح للمتكلم في نظمه أكبر مساحة من الحرية في الاختيار، ويكون فيه أكبر التفاوت بين أبناء اللغة الواحدة في بلاغة الخطاب، على ما نجده في لغتنا العربية.

وليس في إمكان الإنسان أن يدرك معنى لفظ يشير إلى موجود دون أن يكون عالما به، ودون أن تكون لذلك المرموز صورة مُخَزَّنةٌ في مُخِّهِ، أو مَعرِفةٌ لما ينفصل به وجود ذلك الشيء عن وجود ما سواه إذا لم يسبق له إدراكه حسيا، أو لم يكن مما يدرك بالحواس أصلا.. هذا وإلا فالكلمة مجرد صوت أجوف لا يدل على معنى، ولا يشير إلى ما يزيد عن كونه صوتا مبهما كسائر الأصوات التي تعج بها الأجواء حولنا مما ليس بلغة خطاب.

وباعتبار تلك المعارف وذلك التواضع في الخطاب اختلفت في اللغة العربية دلالات الألفاظ، واختلفت دلالة الكلمة الواحدة بين تركيب وآخر، وبين الاستعمال الحقيقي والاستعمال المجازي.. وكل ذلك في السمع الحاصل من طريق الأذن مجرد وجود أصوات متصلة على هيئات مختلفة، لا تختلف في تنغيمها كثيرا عن تنغيم أصوات العصافير.

فمُخُّ الإنسان هُنا متميِّزٌ بتحصيل العلوم الاستدلالية المؤسسة على علوم الضرورة، ومتميز أيضا بإخراج ما يريد نقله أو إظهاره من المعارف في صورة رمزية، أو نسق لغوي. ولذلك فإن الإنسان حينما يرى شيئا أو آلة جديدة لأول مرة، قد يصف شكلها كما يظهر لحاسته؛ لكنه لا يسميها ابتداء ولا يضع لها اسما؛ حتى يُعلَمَ به أو يتواضع مع غيره على اسم لما عرفاه، وكذلك قالت الملائكةُ حينما أُمِرت بذكر أسماء الخلائق: {.. سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} (البقرة).. وذلك لأن علم الملائكة المُحدَث محصور له غاية ينتهي إليها؛ فأنَّى لهم أن يعرفوا أسماءً لموجودات لم يعرفوها من قبل؟

ومن ثمَّ قال المناطقة في حَدِّ الإنسان: حيوان ناطق.. والناطقية – هنا – هي العقل وعمل المخ من الإنسان، وكان شيوخنا في الفلسفة يحكون لنا عن سقراط أنه كان يقول للرجل العملاق: يا هذا، كلمني حتى أراك.. أي حتى أراك إنسانا حقيقيا؛ فربما لا يكون له من الإنسانية إلا الصورة، وكونه عملاقا زيادة في الصورة لا في حقيقة الإنسانية.. وقد كان حكماء العرب يقولون فيمن لم يكمل عقله من العماليق: أجسام البغال وأحلام العصافير.

وبهذا، فإن المسألة في حقيقتها ليست أكثر من تحصيل المعارف وإخراجها.. ولا أعني بذلك أنه لا تمييز بين حقيقة السمع والبصر والذوق والشم واللمس من جهة، وبين العلم الحاصل للإنسان من جهة أخرى، ولا بين ذلك كله وبين الكلام من جهة ثالثة.. فإنه من المكابرة أن يقول قائل: إن معنى (سمع) هو معنى (علم) بلا فاصل.. أو إن معنى (أبصر) هو معنى (علم) بلا فاصل.. أو أن معنى (الكلام) هو معنى (العلم) بلا فاصل.

وإن المتاح لنا من خلال ما ذكرته بصورة مختصرة، هو القول بأن السمع في الإنسان هو العلم الحاصل من طريق الأُذُن بالأصوات وصفاتها المختلفة من الشدة والرخاوة والجهر والهمس؛ لأن الإنسان بطبيعته المجردة لا يدرك الصوت إلا من طريق هذه الحاسة.. وكذلك القول في البصر بأنه هو العلم الحاصل من طريق العين بالموجودات الملونة وإدراك طولها وعرضها وكونها ساكنة في مكان أو متحركة عنه؛ لأن الإنسان بطبيعته المجردة لا يدرك الملون إلا من طريق هذه الحاسة.. وكذلك القول في سائر الحواس..

وقد قيدت هذا بأن يكون الإدراك بمجرد ما خلقه الله تعالى للإنسان في جسمه من الحواس؛ لأن نتاج حضارتنا الحديثة قَدَّم لنا ما يغير في معطيات الحواس ما يشبه ما كنا ندرسه في الأدب تحت عنوان (تراسل معطيات الحواس)؛ فصار بإمكان الإنسان المعاصر أن يرى الصوت، وأن يميز بعينه بين بصمة صوتية وأخرى، وأن يميز بين الصور الطيفية للأصوات المختلفة في إطار (اللغة المرئية)، وصار بإمكانه أن يميز بين الأجسام في الظلام تمييز الوطاويط التي لا تدرك الألوان، وأن يدرك حرارتها وملاستها دون أن يمسها، وأن يدرك الطعوم وأن يعرف درجة حموضتها وغير ذلك دون أن يضعها على لسانه، وكل ذلك بطريق الحس والعلم الضروري..

ما بقي لنا في معنى السمع سوى أن نقول: إنه إدراك الصوت.. وفي معنى البصر: هو التمييز بين الأجسام في أماكن وجودها بغير مباشرة.. وفي الذوق: هو إدراك الطعوم… وهكذا.

والعلم عام يصدق على ما هو ضروري وما هو استدلالي، والكلام من ذلك كله هو المعارف التي يريد الإنسان نقلها وإخراجها أو إعلانها وإظهارها من خزانتها المسماة بالذاكرة في مخه؛ وفق النظام المتواضع عليه في لغته التي قد تكون العربية، أو الفارسية، أو غير ذلك من لغات بني آدم.. واللغة هنا مجرد نظام، والأصوات رموز تشير إلى المعارف المراد نقلها، والكتابة رسوم مرئية ترمز إلى الأصوات حروفا في بعض اللغات، وكلمات في بعضها، وجملا في بعضها، وكل ذلك في إطار النظام اللغوي المتواضع عليه.

ويمكننا أن نقول: إن رسوم الكتابة ترمز إلى الأصوات رمز الأصوات إلى المعاني، وكما أن الذي لا يعرف مرموزات رسوم الكتابة من الحروف أو الكلمات والجمل لا يستطيع أن يقرأ وإن رأى الرسوم، فكذلك حال من لا يعرف المعاني لا يتكلم وإن ظهرت منه أصوات، ولا يعقل لغات الناس وإن سمع أصواتهم؛ حتى يُحَصِّلَ العلم بما حوله، ويعرِفَ نظامَ اللغة في نقل المعاني أو الصور العقلية لما علم، وإن لم يكن له علم بذلك؛ فهو فيما يصدر عنه من الأصوات وطير الببغاء الذي يقلد بعض أصوات الإنسان سواء.

والنقل هنا لا يعني تحريك المعارف من مخ المتكلم إلى مخ السامع؛ بل هو أشبه بنقل صورة جملة مُخَزَّنة في ذاكرة حاسوب إلى آخر، كما أن تخزين الصور العقلية أو الذهنية للمعلومات شبيه بتخزين المعلومات في ذاكرة الحاسوب في صورة رقمية..

والكلام في حقيقته ليس شيئا سوى هذه المعارف التي يراد نقلها في صورة رمزية قد تكون صوتية لغوية، وقد تكون بالإشارة، وقد تكون بغير ذلك.

لقد أشار الشاعر إلى هذا المعنى، فقال:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
 
جعل اللسان على الفؤاد دليلا
  

بل أشار إليه قبله قوله تعالى: { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}(المجادلة)، وقوله:{ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)} (يوسف)

قام توما، وقال: اسمح لي أن أورد عليك بعض الشبهات في هذا.. وهي تنطلق مما ورد في كتبنا المقدسة، كتبنا وكتبكم.

قال الباقر: سل ما بدا لك، فالله الذي حرك قلبي للسير إليكم لن يعجز لساني عن إجابتكم.

قال توما: لقد ذكر قرآنكم كما ذكر كتابنا المقدس أن الله كلم موسى.. فهل سمع موسى صوتاً وحرفاً؟ فإن قلتم ذلك فإذا لم يسمع كلام الله، فإن كلام الله ليس بحرف ولا صوت.. وإن لم يسمع حرفاً ولا صوتاً، فكيف يسمع ما ليس بحرف ولا صوت؟

قال الباقر: إن السؤال عن (كيف سمعت؟) هو كالسؤال عن (كيف أدركت بحاسة الذوق حلاوة السكر؟)

ولا سبيل إلى الجواب عن هذا السؤال إلا بوجهين:

أولهما، وأعلمهما أن نسلم سكراً إلى هذا السائل حتى يذوقه ويدرك طعمه وحلاوته، فنقول له حينئذ: أدركت أنا كما أدركته أنت الآن حلاوة السكر.. وهذا هو الجواب الشافي، والتعريف التام.. وهو لا يمكن إلا لمن كلمه الله كما كلم موسى u.

وأما الثاني، وهو أن يتعذر ذلك إما لفقد السكر، أو لعدم الذوق في السائل للسكر، فنقول له: أدركت طعمه كما أدركت أنت حلاوة العسل، فيكون هذا جواباً صواباً من وجه وخطأ من وجه.

أما وجه كونه صواباً فإنه تعريف بشيء يشبه المسؤول عنه من وجه، وإن كان لا يشبهه من كل الوجوه وهو أصل الحلاوة، فإن طعم العسل يخالف طعم السكر وإن قاربه من بعض الوجوه وهو أصل الحلاوة، وهذا غاية الممكن.. فإن لم يكن السائل قد ذاق حلاوة شيء أصلاً تعذر جوابه وتفهيم ما سأل عنه.

وهكذا جواب من قال (كيف سمع كلام الله تعالى؟)، فلا يمكن شفاؤه في السؤال إلا بأن نسمعه كلام الله تعالى القديم وهو متعذر، فإن ذلك من خصائص الكليم u، فنحن لا نقدر على إسماعه أو تشبيه ذلك بشيء من مسموعاته وليس في مسموعاته ما يشبه كلام الله تعالى، فإن كل مسموعاته التي ألفها أصوات والأصوات لا تشبه ما ليس بأصوات فيتعذر تفهيمه، بل الأصم لو سأل وقال:(كيف تسمعون أنتم الأصوات)، وهو ما سمع قط صوتاً لم نقدر على جوابه، فإنا إن قلنا كما تدرك أنت المبصرات فهو إدراك في الاذن كإدراك البصر في العين كان هذا خطأ، فإن إدراك الأصوات لا يشبه إبصار الألوان، فدل أن هذا السؤال محال.

 بل لو قال القائل كيف يرى رب الأرباب في الآخرة([44])، كان جوابه محالاً لا محالة لأنه يسأل عن كيفية ما لا كيفية له، إذ معنى قول القائل كيف هو أي مثل أي شيء هو مما عرفناه، فإن كان ما يسأل عنه غير مماثل لشيء مما عرفه، كان الجواب محالاً ولم يدل ذلك على عدم ذات الله تعالى، فكذلك تعذر هذا لا يدل على عدم كلام الله تعالى، بل ينبغي أن يعتقد أن كلامه سبحانه ليس كمثله شيء، كما أن ذاته ليس كمثلها شيء، وكما ترى ذاته رؤية تخالف رؤية الأجسام والأعراض ولا تشبهها فيسمع كلامه سماعاً يخالف الحروف والأصوات ولا يشبهها.

قال توما: فما تقول في الكلام الذي في المصاحف.. هل هو كلام الله أم لا، فإن كان هو كلام الله كان حالاً في المصاحف، فكيف حمل القديم في الحادث؟.. وإن قلت لا، فكيف كان احترام المصحف مجمعا عليه.

قال الباقر: إن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب مقروء بالألسنة، أما الورق والحبر والكتابة والحروف والأصوات فكلها حادثة، لأنها أجسام وأعراض في أجسام فكل ذلك حادث.. وإن قلنا إنه مكتوب في المصحف، لم يلزم أن تكون ذات كلام الله في المصحف، كما أنا إذا قلنا النار مكتوبة في الكتاب لم يلزم منه أن تكون ذات النار حالة فيه، إذ لو حلت فيه لاحترق المصحف، ومن تكلم بالنار فلو كانت ذات النار بلسانه لاحترق لسانه، فالنار جسم حار وعليه دلالة هي الأصوات المقطعة تقطيعاً يحصل منه النون والألف والراء، فالحار المحرق ذات المدلول عليه لا نفس الدلالة، فكذلك كلام الله القائم بذات الله هو المدلول لا ذات الدليل، والحروف أدلة، وللأدلة حرمة إذ جعل الشرع لها حرمة، فلذلك وجب احترام المصحف.

قال توما: فما تقول في القرآن.. هل هو كلام الله أم لا؟ فإن قلتم لا فقد خرقتم كل ما ذكرتموه، وإن قلتم نعم فما هو سوى الحروف والأصوات، ومعلوم أن قراءة القارئ هي الحروف والأصوات.

قال الباقر: نحن نستعمل للدلالة على هذا ثلاثة ألفاظ: قراءة، ومقروء، وقرآن.

أما المقروء فهو كلام الله تعالى.

وأما القراءة: فهي في اللسان عبارة عن فعل القارئ الذي كان ابتدأه بعد أن كان تاركاً له، ولا معنى للحادث إلا أنه ابتدأ بعد أن لم يكن.

وأما القرآن، فقد يطلق ويراد به المقروء، فإن أريد به ذلك فهو غير مخلوق.. وهو الذي أراده الله تعالى عندما وصف القرآن بأنه كلام الله تعالى.. وإن أريد به القراءة التي هي فعل القارئ ففعل القارئ لا يسبق وجود القارئ، وما لا يسبق وجود الحادث فهو حادث.. والقرآن بهذا الوصف مخلوق([45]).

10 ـ النور

قام عاشرنا، وكان اسمه (شنْكَراجاريا)([46]).. وكان رجلا جوالة من بلاد الهند، وكان يجمع إلى اهتمامه بالفلسفة الزهد والانصراف عن كل متع الحياة الدنيا.. قام وقال: الكامل الذي نال كل كمال لابد أن يكون له من الأنوار ما لا تزاحمه أي ظلمة.. 

قال الباقر: إن أردت بالنور ما نراه من أنواع الأشعة، فهي أجسام كسائر الأجسام، ويعتريها من النقص ما يعتري سائر الأجسام، والله منزه عن الجسمية والحد.. وإن أردت بالنور خلاصة النور المنزه عن الجسمية وتوابع الجسمية، فالله هو النور الوحيد، وكل ما عداه ظلمة، لولا ما يفيض الله عليهم من أنواره..

لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} (النور)

قال شنْكَراجاريا: أنت بين فلاسفة، ولست بين عوام.. والفلاسفة لا تقنعهم الدعاوى العارية من البراهين.

قال الباقر([47]): إن إثبات أن الله هو النور الحق، وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقة له يستدعي – أولا- معرفة معنى النور بالوضع الأول عند العوام.. ثم بالوضع الثاني عند الخواص.. ثم بالوضع الثالث عند خواص الخواص.. ثم نعرف درجات الأنوار المذكورة المنسوبة إلى خواص الخواص وحقائقها لينكشف لنا عند ظهور درجاتها أن الله تعالى هو النور الأعلى الأقصى، وعند انكشاف حقائقها أنه النور الحق الحقيقي وحده لا شريك له فيه.

قال شنْكَراجاريا: فلنبدأ بالوضع الأول، وهو النور عند العامي البسيط.

قال الباقر: النور – في مرتبته الأولى- يشير إلى الظهور.. والظهور أمر إضافي: إذ يظهر الشيء لا محالة لإنسان ويبطن عن غيره، فيكون ظاهرا بالإضافة وباطنا بالإضافة.. وإضافة ظهوره إلى الإدراكات لا محالة.. وأقوى الإدراكات وأجلاها عند العوام الحواس، ومنها حاسة البصر.

والأشياء بالإضافة إلى الحس البصري ثلاثة أقسام: منها ما لا يبصر بنفسه كالأجسام المظلمة.. ومنها ما يبصر بنفسه ولا يبصر به غيره كالأجسام المضيئة كالكواكب وجمرة النار إذا لم تكن مشتعلة.. ومنها ما يبصر بنفسه ويبصر به أيضا غيره كالشمس والقمر والسراج والنيران المشتعلة.. والنور اسم لهذا القسم الثالث.

وعلى هذا، فالنور عبارة عما يبصر بنفسه ويبصر به غيره.

ولما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك، وكان الإدراك موقوفا على وجود النور وعلى وجود العين الباصرة أيضا: إذ النور هو الظاهر المظهر؛ وليس شيء من الأنوار ظاهراً في حق العميان ولا مظهرا.. فقد تساوى الروح الباصرة والنور الظاهر في كونه ركنا لا بد منه للإدراك، ثم ترجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك.. وأما النور فليس بمدرك ولا به الإدراك، بل عنده الإدراك.. ولهذا كان اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر.

قال شنْكَراجاريا: صحيح ما ذكرته.. ولكن ما العيوب التي في هذا النوع من النور، والتي تحجبه عن الكمال؟

قال الباقر: لاشك أنك تعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان: فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه، ولا يبصر ما بعد منه، ولا يبصر ما هو وراء حجاب.. ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها؛ ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها. ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له. ويغلط كثيرا في إبصاره: فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا.. فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة([48]).

قال شنْكَراجاريا: عرفت المرتبة الأولى للنور.. فما المرتبة التثانية والتي ذكرت أنها مرتبة الخواص؟

قال الباقر:  لاشك أنك تعلم أن في الإنسان عينا يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنساني، وهي  المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون.. والتي نسميها عادة (عقلا)

قال شنْكَراجاريا: أجل.. ونحن الفلاسفة أعرف الناس بها، وأكثر الناس استعمالا لها.

قال الباقر: ولهذا، فأنتم أدرى الناس بأن العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة.

قال شنْكَراجاريا: أجل.. فالعقل منزه عن النقائص التي تقع فيها الحواس.. فالعين لا تبصر نفسها، بينما العقل يدرك غيره ويدرك صفات نفسه، إذ يدرك نفسه عالما وقادرا، ويدرك علم نفسه ويدرك علمه بعلم نفسه وعلمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية.

والعين لا تبصر ما بعد منها ولا ما قرب منها قربا مفرطا بينما العقل يستوي عنده القريب والبعيد.. فهو يعرج في تطريفه إلى أعلى السموات رقيا، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هربا.. بل إذا حقت الحقائق يكشف أنه منزه عن أن تحوم بجنبات قدسه معاني القرب والبعد الذي يفرض بين الأجسام.

والعين لا تدرك ما وراء الحجب، بينما يتصرف العقل فيما وراء حجب السموات، وفي الملأ الأعلى كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة التي هي بدنه الخاص.. بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل.

والعين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها؛ بل قوالبها وصورها دون حقائقها بينما العقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها من خلق، وكيف خلق، ولم خلق، ومن كم معنى جمع وركب، وعلى أي مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلى خالقها وما نسبتها إلى سائر مخلوقاته.. وهكذا.

والعين تبصر بعض الموجودات، وتقصر عن جميع المعقولات وعن كثير من المحسوسات، إذ لا تدرك الأصوات والروائح والطعوم والحرارة والبرودة وغيرها، ولا تدرك الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد.. بينما يطوف العقل في جميع الموجودات؛ إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها وما لم نعدها، وهو الأكثر: فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما يقينا صادقا.. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة، والمعاني الخفية عنده جلية.. فمن أين للعين الظاهرة مساماته ومجاراته في استحقاق اسم النور كلا إنها نور بالإضافة إلى غيرها لكنها ظلمة بالإضافة إليه.. بل هي جاسوس من جواسيسه وكله بأخس خزائنه وهي خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ.

والعين لا تبصر ما لا نهاية له، فإنها تبصر صفات الأجسام والأجسام لاتتصور إلا متناهية.. بينما العقل يدرك المعلومات، والمعلومات لايتصور أن تكون متناهيه.. فإنه – مثلا- يدرك الأعداد ولا نهاية لها؛ بل يدرك تضعيفات الإثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية، ويدرك أنواعا من النسب بين الأعداد لا يتصور التناهي عليها: بل يدرك علمه بالشىء وعلمه بعلمه بالشيء، وعلمه بعلمه بعلمه. فقوته في هذا الواحد لا تقف عند نهاية.

وفي الأخير، فإن العين تخطئ كثيرا.. فتبصر الكبير صغيرا، فترى الشمس في مقدار مجن والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق.. بينما العقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة؛ والعين ترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديها ساكنا، وترى الصبي ساكنا في مقداره، والعقل يدرك أن الصبي متحرك في النشوء والتزايد على الدوام، والظل متحرك دائما، والكواكب تتحرك في كل لحظ أميالا كثيرة.

قال الباقر: فقد عرفت بهذا أن العين أولى باسم النور من النور المعروف، ثم عرفت أن العقل أولى باسم النور من العين.

قال شنْكَراجاريا: أجل.. فما المرتبة الثالثة.. والتي ذكرت أنها مرتبة خواص الخواص؟

قال الباقر: لاشك أنك تعلم – وأنت الفيلسوف الخبير- أن العقول وإن كانت مبصرة، فليست المبصرات كلها عندها على وتيرة واحدة.

قال شنْكَراجاريا: صدقت في هذا.. فبعض المعارف أوضح من بعض..

فبعضها يكون عندها كأنه حاضر كالعلوم الضرورية مثل علمه بأن الشيء الواحد لا يكون قديما حادثا ولا يكون موجودا معدوما، والقول الواحد لا يكون صدقا وكذبا، وأن الحكم إذا ثبت للشيء جوازه ثبت لمثله، وأن الأخص إذا كان موجودا كان الأعم واجب الوجود، وأما عكسه فلا يلزم في العقل.

ومنها ما لا يقارن العقل في كل حال إذا عرض عليه، بل يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستوري زناده، وينبه عليه بالتنبيه.

قال الباقر: فما الذي ينبه العقل إلى هذه الخفيات؟

قال شنْكَراجاريا: الحكمة.. فعند إشراق نور الحكمة يصير العقل مبصرا بالفعل بعد أن كان مبصرا بالقوة.

قال الباقر: فهل الحكم في مرتبة واحدة؟

قال شنْكَراجاريا: لا.. الحكم تختلف إلى درجات كبيرة لا نهاية لها.

قال الباقر: فما الذي يميز درجاتها؟

قال شنْكَراجاريا: الحكماء.. فالحكماء متميزون.

قال الباقر: فمن أحكم الحكماء؟

قال شنْكَراجاريا: الله.

قال الباقر: فأعظم الحكم إذن هي كلام الله تعالى.

قال شنْكَراجاريا: أجل.. ذلك صحيح.

قال الباقر: ولذلك، فإن خواص الخواص ينظرون إلى كلمات الله المقدسة إلى عباده على أنها عند عين العقل كنور الشمس عند العين الظاهرة إذ بها يتم الإبصار.. ولهذا سمى الله تعالى القرآن نورا، فقال:{ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) } (التغابن)، وقال:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)} (النساء)

قال شنْكَراجاريا: لقد صدق قرآنكم في هذا.

قال الباقر: فقد عرفت إذن أن العين عينان: ظاهرة وباطنة.. فالعين الظاهرة من عالم الحس والشهادة، والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت، ولكل عين من العينين شمس ونور عنده تصير كاملة الإبصار، إحداهما ظاهرة والأخرى باطنة؛ والظاهرة من عالم الشهادة وهي الشمس المحسوسة، والباطنة من عالم الملكوت وهو كلمات الله المقدسة المنزلة على أنبيائه.

قال شنْكَراجاريا: أجل.. لقد شرحت لي كل هذا.. ولكن مطلوبي هو البرهان على أن الله هو النور الحقيقي.

قال الباقر: لقد عرفت إذن أن الأنوار لها درجات مختلفة بعضها فوق بعض.

قال شنْكَراجاريا: أجل.. وقد عرفنا بعضها من خلال حوارنا هذا..

قال الباقر: فهل ترى أن هذه الأنوار تتسلسل إلى غير نهاية؟

قال شنْكَراجاريا: التسلسل ممتنع عقلا.. بل لابد أن تتنتهي الأنوار إلى مصدرها الأول..

قال الباقر: فما يرى العقل من صفة هذا المصدر؟

قال شنْكَراجاريا: لابد أن يكون هذا المصدر الذي تستفيد منه جميع الأنوار أن يكون نورا لذاته وبذاته، ليس يأتيه نور من غيره، ومنه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها..

قال الباقر: فهل اسم (النور) أحق وأولى بالمستنير المستعير نوره من غيره، أو بالنير في ذاته المنير لكل ما سواه؟

قال شنْكَراجاريا: بل النير في ذاته المنير لكل ما سواه هو أحق باسم النور من غيره.

قال الباقر: فذلك هو الله.. وهو ما أشار إليه قوله تعالى:{ اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} (النور)

بل إن العقل في تحقيقه يرى أن اسم النور على غير النور الأول مجاز محض.. إذ كل ما سواه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له، بل نورانيته مستعارة من غيره، ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها، بل بغيرها.. ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض..

فالنور الحق هو الذي بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولا والإدامة ثانيا، فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث يسميه به ويتفضل عليه بتسميته تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالا ثم سماه مالكا، وإذا انكشف للعبد الحقيقة علم أنه وماله لمالكه على التفرد لا شريك له فيه أصلا.

***

ما وصل الباقر من حديثه إلى هذا الموضع حتى جاءني رجل مشؤوم يناديني من دون أصحابي.. فأسرعت إليه، فراح يبشرني ببعض المناصب التي أثقلتني إلى الأرض، ولولا أن الله أعاد لذاكرتي تلك الأحاديث الجميلة في هذا الموضع ما كنت أراني أذكرها أبدا.

قلنا: فما فعل أصحابك الفلاسفة؟

قال أرسطو: لقد ذهبت مرة إلى الموضع الذي تعودنا أن نلتقي فيه، لكني لم أجدهم، وقد سألت عنهم، فقال لي من سألته: لقد مر عليهم رجل محمدي يقال له الباقر، وقد سلب عقولهم بحديثه، فتركوا تلك المناصب الرفيعة التي بوأهم إياها قومنا، وراحوا يتتلمذون عليه.


([1]) أشير به إلى (أَرسْطو) (384 – 322ق.م)  كان من أعظم فلاسفة عصره وأكثرهم علما ومعرفة ويقدر ما اصدر من كتابات بـ 400 مؤلف ما بين كتاب وفصول صغيرة.. وتنقسم مؤلفاته إلى ثلاث مجموعات: 1- المؤلفات الشعبية، وقد كانت لعامة الجمهور خارج مدرسته..  2- المذكرات، وهي تصنيفات من مواد البحوث والسجلات التاريخية أعدَّها بمساعدة تلاميذه؛ لتكون مصدرًا للمعلومات التي يحتاجها العلماء الدارسون..  3- المقالات.. وهي تمثل تقريبًا كلَّ مؤلفات أرسطو التي سَلمت من الضياع وبقيت حتى الآن.. وقد كانت المقالات مؤلفةً للطلاب داخل المدرسة فقط.

([2]) أشير به إلى (محمّد الباقر) ( 57 ـ 114هـ)، وهو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب خامس أئمة أهل البيت بجسب مذهب الإمامية.

قال النووي: سمّي بالباقر، لاَنّه بقر العلم، أي شقّه، فعرف أصله وخفاياه.

وقد عاش الباقر في مطلع صباه، المحنة الكبرى التي مرّت على أهل البيت في كربلاء، وشاهد بعدها المصائب التي حلّت بأهل البيت، ومحبيهم من الحكام الطغاة فاتجه في ذلك الجو المشحون بالظلم إلى الدفاع عن مبادىَ الاِسلام، ونشر تعاليمه، فالتفّ حول الاِمام الآلاف من العلماء، وطلاب العلم لدراسة الفقه، والحديث، والتفسير، والفلسفة، والكلام، وغير ذلك من العلوم حتى أُطلق على تلك الحلقات التي كانت تجتمع في مسجد المدينة اسم الجامعة.

قال الشيخ محمد أبو زهرة: وما زار أحد المدينة إلاّ عرّج على بيت محمد الباقر يأخذ عنه، وكان ممّن يزوره من يتشيّعون لآل البيت في السر، ومن نبتت في نفوسهم نابتة الانحراف، إذا فرخت في خلايا الكتمان الذي ادرعوا به، آراء خارجة عن الدين، فكان يصدّهم، ويردّهم منبوذين، مذمومين. وكان يقصده أئمة الفقه كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة وأبي حنيفة شيخ فقهاء العراق. وكان يرشد من يجيء إليه وقد أحصى الشيخ الطوسي في رجاله ستاً وستين وأربعمائة ممّن روى عن الباقر.

حدّث عنه: أبان بن تغلب الكوفي، وأبو حمزة الثمالي، والحكم بن عُتيبة، وربيعة الرأي، والاَعمش، وزرارة بن أعين، وعبد اللّه بن عطاء، وعبد الرحمن الاَعرج، والاَوزاعي، ومؤَمن الطاق، وخلق كثير.

قال فيه حقه عبد اللّه بن عطاء: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر الباقر، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه متعلّم. ويعني الحكم بن عتيبة.

وعن سلمة بن كهيل: في قوله تعالى:﴿ لآياتٍ للمُتَوَسِّمِين ﴾ (الحجر:75)، قال: كان أبو جعفر منهم.

وقال ابن سعد: (كان عالماً عابداً ثقة، وروى عنه الاَئمة أبو حنيفة وغيره)

وقال ابن كثير: (كان ذاكراً خاشعاً صابراً، وكان من سلالة النبوة، رفيع النسب، عالي الحسب، وكان عارفاً بالخطرات، كثير البكاء والعبرات، معرضاً عند الجدال والخصومات)

وقال الذهبي: (وكان أحد من جمع العلم والفقه والشرف والديانة والثقة والسوَدد، وكان يصلح للخلافة)

وقال كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي: (هو باقر العلم وجامعه، وشاهر علمه ورافعه، متفوق درّه وراضعه، ومنمق دُرّه وواضعه، صفا قلبه، وزكا عمله، وطهرت نفسه، وشرفت أخلاقه، وعمرت بطاعة اللّه أوقاته، ورسخت في مقام التقوى قدمه، فالمناقب تسبق إليه، والصفات تشرف به)

وممّا أثر عنه من الحكم والمواعظ قوله: (عالم ينتفع بعلمه أفضل من ألف عابد)

وقال: (إنّ اللّه خبأ ثلاثة أشياء في ثلاثة أشياء: خبأ رضاه في طاعته، فلا تحقرنّ من الطاعة شيئاً، فلعل رضاه فيه، وخبأ سخطه في معصيته، فلا تحقرنّ من المعصية شيئاً، فلعل سخطه فيه، وخبأ أولياءه في خلقه، فلا تحقرنّ أحداً فلعلّه ذلك الولي)

وقال: (إنّ أسرع الخير ثواباً البرّ، وأسرع الشر عقوبة البغي، وكفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه، وأن يأمر الناس بما لا يستطيع أن يفعله، وينهى الناس بما لا يستطيع أن يتحول عنه، وأن يوَذي جليسه بما لا يعنيه)

قال ابن كثير: هذه كلمات جوامع موانع، لا ينبغي لعاقل أن يغفلها. (انظر: موسوعة أصحاب الفقهاء)

([3]) أقصد بها الفلسفة.. فكلمة (فلسفة) مشتقة من اللغة اليونانية القديمة، وقَدْ تُترجمُ بـ (حبّ الحكمة).. والفلاسفة في العادة يكونون متشوّقين لمعرفة العالم، والإنسان، والوجود، والقيم..

([4]) رواه أحمد وابن حبان.

([5]) انظر: المقصد الأسنى للغزالي.

([6])هو من أشهر الفلاسفة السوفسطائيين، وتعد آراؤه مصدراً لمذهب هؤلاء الفلاسفة، ولد في مدينة أبديرا حوالي عام 480 ق.م.. وقد طاف في أنحاء اليونان، ثمّ استقر به المقام في أثينا، و ضع ً كتابا بعنوان (الحقيقة) شكك فيه في وجود الآلهة، اعتبر الإنسان مقياس الأشياء جميعاً، ولكون أفراد الناس كثيرين فإنّ إحساسات الناس متعددة ومتناقضة أحيانا ً، والحواس هي وسيلة الإدراك الوحيدة ومالا يدرك بها فليس موجوداً.جاء في أول كتابه: (لا أستطيع أن أعلم إن كانت الآلهة موجودة أم غير موجودة، فإنّ أموراً كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم، أخصها غموض المسألة وقصر الحياة)، وقد اتُهم بسبب ذلك بالإلحاد، وحكم عليه بالإعدام، وأحرقت كتبه علناً، ففر هارباً، ومات ً غرقا أثناء فراره سنة 410 ق.م(انظر الفلسفة اليونانية د.بيصار ص 72)

([7]) الحق في اللغة اسم للموصوف بالحقية وإظهار الحقيقة، وهو يأتي على عدة معان ، منها المطابقة والموافقة ، ومنها الثبات دون الزوال ، ومنها المتوحد عمن سواه خلاف الشرك والظلم.. والله سبحانه وتعالى في حق ذاته باق لا يزول.. وسنته ثابتة جارية لا تحول.. ودينه ثابت في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وكل صفاته حق فهي كاملة جامعة للصدق، فيها الكمال والجمال والجلال.

([8]) استفدنا التقريبات والتوضيحات المذكورة هنا من شرح العلامة محمد راتب النابلسي لشرح أسماء الله الحسنى من خلال دروسه الصوتية المنتشرة بكثرة على النت.

([9]) انظر: المقصد الأسنى.

([10]) (طاليس) (550 -624ق.م) وهو من أَوّل وأشهر فلاسفة اليونان، وهو أحد الحكماء السبعة، درس العلوم دراسة عميقة، عمل مهندساً بحرياَ، واستطاع أن يضع تقويماً بحرياً للملاحين يحتوي على إرشادات وقواعد فلكية كانت لها آثارها القيمة في تاريخ الملاحة البحري. (انظر الفلسفة اليونانية:بيصار ص 55 ، الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون:د.عزت قرني ص.24)

([11]) هو يريد بهذا أن الماء هو مبدأ التركيبات الجسمانية، لا المبدأ الأول في الموجودات العلوية.. لكنه لما أعتقد أنّ العنصر الأول هو قابل كل صورة ، أي منبع الصور كلها ، فأثبت في العالم الجسماني له مثالا يوازيه في قبول الصور كلها، ولم يجد عنصراً على هذا النهج، مثل الماء فجعله المبدع الأول في المركبات، وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية.( الملل والنحل 3/121)

([12]) انظر درس النابلسي في شرح اسم الحي في موقعه على الانترنت.

([13]) هو (أنكسماندريس) (547 -611 ق.م) فيلسوف مالطي، وهو ثاني فلاسفة المدرسة (اليونية).

([14]) انظر: الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون ص.26.

([15]) هو (فيثاغورث بن منسارخس) ولد سنة572 ق.م في جزيرة ساموس من بلاد اليونان، سافر فيما بعد إلى مصر ثم استقر في جنوب إيطاليا وهناك أسس مدرسته.( الفلسفة اليونانية:د.بيصار، ص60)

([16]) الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون ص.32.

([17])  وقد نص على هذا الاسم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ (البقرة:137)

وقد ورد ا مقرونا في الكتاب والسنة بأسماء أخرى كثيرة تحمل في اقترانها معان كبيرة، فاقترن بالسميع والحكيم والعزيز والحليم والخلاق والقدير والفتاح والخبير..

وفي الحديث أن من دعاء رسول الله r قوله: ( أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ) (رواه أبو داود)

وهو في اللغة من أَبنية المبالغة، عَلِيمٌ على وزن فعِيل، فعله عَلِم يعلم علما، ورجل عالم وعَلِيمٌ، والعِلمُ نقيضُ الجهل.

ويجوز أن يقال للإِنسان الذي عَلمه الله عِلما من العُلوم عَلِيم، كما قال يوسف – عليه السلام – للملك: ﴿ اجْعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظ عَلِيمٌ ﴾(يوسف:55)، وهو – عليه السلام – عليم على اعتبار محدودية علمه ومناسبته لقدره فهو ذو علم وموصوف بالعلم كما قال – عز وجل -: ﴿ وَإِنَّهُ لَذو عِلمٍ لِمَا عَلمْنَاهُ ﴾(يوسف:68)

([18]) انظر: نفحات القرآن للشيرازي.

([19])  رواه البخاري.

([20])  وقع الخلاف بين الفلاسفة خصوصا، ومن تبعهم من أصحاب الأديان والمذاهب حول علم اللّه سبحانه، من ثلاث جهات.

الأولى: في أنه هل يعلم ذاته، كما يعلم غيره.. أو أن علمه يختص بالتعلق بغيره؟

الثانية: في انه سبحانه هل يعلم بعلم شامل للكليّات والجزئيات معاً، أو انه يختص بالكليات فقط؟

الثالثة: في انه سبحانه، يعلم بالشيء قبل وجوده أو لا؟ (انظر: تهافت الفلاسفة للغزالي، المسألة 11 – 12 وشرح التجريد للعلامة الحلي 221 وما بعدها)

وسنناقش باختصار هذه المسائل هنا، ونرد على الشبه المرتبطة بها، باعتبارها من المسائل التي لا تزال تجد من يدافع عنها.

([21])  راجع في هذا الدليل وجوابه شرح التجريد للعلامة الحلي 222، فما بعدها.

([22]) انظر: نفحات القرآن، للشيرازي.

([23]) طبعا هذا من باب التقريب وتيسير الفهم، أما الحقيقة فأعظم من أن نعرفها، أو نستطيع التعبير عنها.

([24]) هو (وِلْيَم أوف أكام) (1284 – 1347م)، وهو فيلسوف وعالمُ لاهوت إنجليزي.. كان أكثر المفكرين المدرسيين تأثيرًا في القرن الرابع عشر الميلادي. وأدَّت مواقفه تجاه المعرفة والمنطق والاستقصاء العلمي دورًا رئيسيًا في  الانتقال من فكر القرون الوسطى إلى الفكر الحديث.

([25])  وقد ورد في قوله تعالى: ﴿ ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الشورى:11)، وقوله – عز وجل -: ﴿ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾(النساء:58)، وقد ورد الاسم مقترنا باسم الله العليم في أكثر من ثلاثين موضعا، ومقترنا باسم الله البصير في أكثر من عشرة مواضع، ومقترنا باسم الله القريب في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾(سبأ:50)

وهو في اللغة على وزن فَعِيل من أبْنِيةِ المُبالغة، ويعني في حقنا ما وَقر في الأُذن من شيء تسمعه، وهو بالنسبة لله تعالى يعبر به عن القوة التي بها يدرك الأصوات كما في قوله: ﴿ خَتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾(البقرة:7)

ويطلق كذلك على الفهم كما قال تعالى: ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ﴾(البقرة:93)، أي فهمنا قولك ولم نأتمر بأمرك.

ويطلق كذلك على السمع الذي يتعلق بمشيئته سبحانه، والذي فيه إجابة الدعاء أو إسماع من يشاء، وفي الحديث قال r: ( وَإِذَا قَالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ) (رواه مسلم)، وقال r: ( اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ، وَمِنْ نَفسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ عِلمٍ لاَ يَنْفَعُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ) (رواه الترمذي)

([26])  أشير به إلى زينون الرُّواقي (335 ؟ – 265 ؟ ق.م)، وهو مؤسِّس الفلسفة الرواقية في أثينا. ولد زينون في مدينة سيشيوم بجزيرة قبرص. ويُذكر أنه كان في الأصل تاجراً، لكن تجارته تدهورت كما أنه فقد كل ممتلكاته ورحل إلى أثينا في عام 314 ق.م. ومكث زينون هناك حيث درس الفلسفة وكان يلتقي بتلامذته في رواق، وهو الاسم الذي اشتُق منه اسم المذهب الرواقي.

وقد أدرك زينون أن من الحماقة أن يحاول المرء أن يشكِّل ظروفه طبقاً لرغباته، فالكون لايسير سيرة آلة عمياء. ولكنه إبداع إلهي يهدي الأشياء ويوجِّهها ويتحكم فيها لتصل في النهاية إلى كل ما هو طيب وحسن. ولابد للعقلاء من الناس أن يوائموا رغباتهم مع طبيعة الأحداث. وسوف يجد هؤلاء سعادتهم في التحرر من الرغبة والتحرر من الخوف من الشرور والآثام وفي إدراك أنهم يعيشون في تناغم وانسجام مع الغرض الإلهي الذي يواجه الأشياء. وقد انتشرت الفلسفة الرواقية في روما وازدهرت هناك طوال عدد من القرون بعد الميلاد. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([27])  وقد ورد النص عليه في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾(الإسراء:1)، وقوله: ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾(الحج:75)، وقوله: ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ﴾(الفرقان:20)

ومعناه واضح، فالله تعالى يسمع كل شيء، ولا يعزب عن سمعه شيء في الأرض ولا في السماء.

وقد يطلق البصر والرؤية ويراد بها القبول، كما قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾(آل عمران:77)

([28]) انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي.

([29])هو أفلوطين (205 – 270م) كان مؤسس المدرسة اليونانية الفلسفية التي تُعرف باسم الأفلاطونية المحدثة.. عرف بغزارة العلم، كان يجتمع إليه في مجلسه العلماء والكبراء وتتلمذ له كبار الساسة.. وقد أطلق العرب على مذهبه مذهب الإسكندرانيين، وأطلق عليه الشهرستاني (الشيخ اليوناني)

بدأ أفلوطين كتابة مؤلفاته وهو في سن الخمسين تقريباً، وكان يعهد إلى تلميذه (فورفوريوس) مراجعة ما يكتب. وقد ترك مجموعة من الرسائل الفلسفية، لكنها لم تقدم عرضاً منظماً ومرتبا لفلسفته، بل كانت مجرد شروح لنصوص أفلاطونية أو أرسطية أو رواقية، أو أجوبة لأسئلة وردت على واحد منها. جمع فورفوريوس رسائل أستاذه أفلوطين بعد وفاته في ستة أقسام، وفي كل قسم منها تسع رسائل وقدم لها بترجمة له، ولهذا عرفت بالتاسوعيات.(انظر: الفلسفة اليونانية:بيصار ص.154 -153)

([30])انظر الفلسفة اليونانية:د.محمد بيصار، وغيره.

([31])هو أنكسيمانس أو أنكزمينس 588-528) ق.م.

([32])حيث أنه كان يقول بأن الباري تعالى أزلي لا أول له ولا آخر، هو مبدأ الأشياء، ولا بدء له، هو المدرك من خلقه، أ نّه هو فقط، وأنه لا هوية تشبهه، وكل هوية فمبدعة منه، هو الواحد ليس كواحد الأعداد، لأنّ واحد الأعداد يتكثر وهو لا يتكثر، وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع، فقد كانت صورته في علمه الأول.

([33])الملل والنحل3/125-126.

([34]) الأسماء الدالة على قدرة الله كثيرة منها:

القادر: كما قال تعالى:﴿ قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ ( الأنعام: 65)، وقال في أول سورة القيامة:﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بلى قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ ﴾ ( القيامة: 3 ، 4)، وقال في آخر السورة:﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى ﴾ ( القيامة: 40)

القدير: قال تعالى:﴿ تَبَارَكَ الذى بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ﴾ ( الملك: 1) وهذا اللفظ يفيد المبالغة في وصفه بكونه قادراً.

المقتدر: قال تعالى:﴿ وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا ﴾ ( الكهف: 45) وقال:﴿ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ﴾ ( القمر: 55)

([35]) انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي.

([36]) انظر الأدلة المفصلة على هذا في فصل (البديع) من هذه الرسالة.

([37]) طبعا هذا على مذهب جمهور المتكلمين، والخلاف في المسألة مشهور، وهو خلاف لفظي، ولذلك يرى القارئ أنا في هذه الرسالة وغيرها نذكر كلا القولين.

([38]) انظر هذه الأدلة في نفحات القرآن للشيرازي.

([39]) هذه شبهة كثيرا ما يطرحها الملاحدة، والإجابات عن ذلك كثيرة وخلاصتها ترجع لما ذكرناه هنا، وهي منقولة بتصرف من محال مختلفة.

([40]) أشير به إلى نعوم تشومسكي Naom Chomsky  (1928 -) عالم لغويات أمريكي يهودي من أصل يديشي، ويُعَدُّ من أهم المفكرين اللغويين والسياسيين النشيطين في العالم في النصف الأخير من القرن العشرين، ويضعه البعض في مصاف كبار المفكرين مثل جان بياجيه وكلود ليفي شتراوس (وربما ماركس وفرويد) بالنظر إلى ما أحدثه من ثورة في علم اللغويات والعلوم الإنسانية ككل، فهو جزء مما يُسمَّى (الانقلاب البنيوي التوليدي)، وما يُسمَّى أيضاً (الثورة الإدراكية أو المعرفية) الذي تصدى للاتجاه التجريبي الوضعي. وتشير بعض الدراسات إلى (الثورة التشومسكية) في ميدان علم اللغة والإنسانيات. (انظر: الموسوعة اليهودية)

بالإضافة إلى عمله في اللغويات، فشومسكي معروف على نطاق واسع كناشط سياسي، ولنقده للسياسة الخارجية للولايات المتحدة والحكومات الأخرى. ويصف شومسكي نفسه بأنه اشتراكي تحرري، وكمتعاطف مع التضامنية اللاسلطوية (وهو عضو في نقابة عمال العالم الصناعيين) وكثيراً ما يُعتبر منظراً رئيسياً للجناح اليساري في السياسة الأمريكية.

وحسب فهرس مراجع الفنون والإنسانيات، بين 1980 و 1992 ذكر اسم شومسكي كمرجع أكثر من أي شخص آخر حي، وكثامن شخص على الإطلاق.

([41])ذكر الفخر الرازي الوجوه التي جاء بها تكليم الله لعباده في القرآن الكريم، فذكر:

اللفظ الأول: الكلام ، وفيه وجوه: الأول: لفظ الكلام ، قال تعالى:﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ﴾ ( التوبة: 6) الثاني: صيغة الماضي من هذا اللفظ ، قال تعالى:﴿ وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً ﴾( النساء: 164) وقال:﴿ وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ ( الأعراف: 143) الثالث: صيغة المستقبل ، قال تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً ﴾ ( الشورى: 51).

اللفظ الثاني: القول ، وفيه وجوه: الأول: صيغة الماضي ، قال تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة ﴾ ( البقرة: 30) ونظائره كثيرة في القرآن ، الثاني: صيغة المستقبل ، قال تعالى:﴿ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ ﴾ ( البقرة: 68) الثالث: القيل والقول ، قال تعالى:﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً ﴾ ( النساء: 122) وقال تعالى:﴿ مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ ﴾ ( ق: 29)

اللفظ الثالث: الأمر ، قال تعالى:﴿ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴾ ( الروم: 4) وقال:﴿ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر ﴾ ( الأعراف: 54) وقال حكاية عن موسى عليه السلام:﴿ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ ( البقرة: 67).

اللفظ الرابع: الوعد ، قال تعالى:﴿ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرءان ﴾ ( التوبة: 111) وقال تعالى:﴿ وَعْدَ الله حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ ( يونس: 4).

اللفظ الخامس: الوحي ، قال تعالى:﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً ﴾ ( الشورى: 51) وقال:﴿ فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى ﴾ ( النجم: 10).

اللفظ السادس: كونه تعالى شاكراً لعباده ، قال تعالى:﴿ فأولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ ( لإسرء: 19)، وقال:﴿ وَكَانَ الله شاكرا عَلِيماً ﴾ ( النساء: 147) (انظر: التفسير الكبير)

([42]) انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي.

([43])  استفدنا في هذا المطلب من كتاب (مسألة الكلام الالهي بين الشيعة الاثنا عشرية وأهل السنة دراسة نقدية في ضوء معطيات العلم الحديث)، للدكتور مصعب الإدريسي.

([44]) اختلفت المدارس الإسلامية في هذا، ونرى أنه خلاف لفظي لا يمكن بسطه هنا.

([45]) نرى أن هذا من أحسن الأجوبة في مسألة (خلق القرآن)، وهي من مسائل الفضول التي فرقت الأمة، ولا علاقة لأي جواب فيها بالسنة والبدعة، بل أحسن جواب فيها هو السكوت عن الكلام فيها..

أما ما يذكره بعضهم عن أحمد من قوله: (من زعم أن القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أن القرآن كلام الله ووقف ولم يقل ليس بمخلوق فهو أخبث من قول الأول، ومن زعم أن ألفاظنا به وتلاوتنا له مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي، ومن لم يكفر هؤلاء القوم كلهم فهو مثلهم)

وما رووا عنه من قوله: (الجهمية افترقت ثلاث فرق فقالت طائفة منهم: القرآن كلام الله مخلوق وقالت طائفة: القرآن كلام الله وسكتت وهي الواقفة الملعونة!! وقال بعضهم: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، فكل هؤلاء جهمية كفار! يستاتبون فإن تابوا وإلا قتلوا)!! و (.. أن من هذه مقالته إن لم يتب لم يناكح ولا يجوز قضاؤه ولا تؤكل ذبيحته)!!

أو ما رواه المروذي عنه من قوله: قلت لأبي عبد الله – يعني أحمد بن حنبل- إن الكرابيسي -أحد علماء الشافعية- يقول: من لم يقل لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر، فقال أحمد: بل هو الكافر)

أو ما روي من استحلال دم من يقول بخلق القرآن، وأنه لا يُسمع مِمَّن لم يكفرهم ولا يسلم عليه ولو كان من الأقارب ولا تشهد لهم جنائز ولا يعادون في مرضهم!!

وغير ذلك، فنرى أنه من غلو الأتباع، فالإمام أحمد كان أعظم شأنا في أن يقع في مثل هذا..

وإن صح عنه النقل بذلك، فهو من الأخطاء الشنيعة.. فالإسلام أوسع من أن يحصر في مثل هذه المسائل الفضولية.

وننبه إلى أن ما أوردنا هنا من جواب الغزالي هو الضرورة التي دعت إليها هذه الرسائل.

([46]) أشير به إلى (شنْكَراجاريا) (700- 750م)، وهو فيلسوف هندوسي، من أبرز أعماله تعليقاته على الفيدا في الكتابات المقدسة الهندوسية.. ولد في كيرالا جنوب الهند.. مارس إنكار الذات وتعلم مبكرًا في حياته التوقف عن المتع الدنيوية ومباهجها وقد كرس نفسه للدراسة والمناقشات الفلسفية والتعليم الديني.. وقد ذاعت شهرة هذا المعلم الجوال في كل أنحاء الهند.. أسس خلال تجواله أربعة أديرة في بادريناث بالهملايا، وشرنجيري في مايسور ودواركا في غربي الهند، وبيوري في شرق الهند.

([47]) البرهان على هذا ملخص بتصرف كبير من رسالة (مشكاة الأنوار) للغزالي، وقد حاولنا أن نبعد عن البرهان ما رأينا أنه من آثار الفلسفة الإشراقية.

([48]) ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في فصل (العقل) من رسالة (سلام للعالمين) من هذه السلسلة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *