خامسا ـ البديع

في اليوم التالي.. دعانا رجل منا، كنت أراه كثير الاهتمام بالطبيعة ومظاهرها وجمالها.. وقد جعله ذلك ينفرد عنا في أكثر الأحيان يتأمل الأشجار والصخور والجبال.. بل كنت أراه أحيانا يرفع الصخرة الضخمة ليتأمل ما تحتها من أنواع الأحياء.. وقد كان يصرف في ذلك أكثر جهده وأكثر أوقاته.

أما في الليل، فكنت أراه يدمن السهر مع النجوم والكواكب يتأمل حركاتها وأنوارها بروحانية عجيبة إلى أن يزروه النوم، وهو على تلك الحال.

لقد أعانه هذا الشده بالطبيعة، وهذا التفاني في جمالها على تلك الآلام التي كانت ترسلها لنا الأيام كل حين.. ولذلك لم يتجرع منها ما تجرعنا منه.. بل ظل محافظا على هدوئه إلى آخر اللحظات.

في ذلك اليوم دعانا.. فأسرعنا إليه، ونحن متعجبون من هذه الدعوة العجيبة من ذلك الرجل الذي كان أبعدنا عن الاهتمام بنا أو بما نحن فيه.

بمجرد اجتماعنا، خاطبنا بقوله: قبل أن أذكر لكم ما قد يعيننا على البحث عن ربنا أقدم لكم نفسي أولا.. أنا (بينيديتو كروتشي)([1]).. لا شك أنكم لا تعرفونني.. ولذلك سأعرفكم بنفسي.. أنا ذلك الرجل الذي كتب في (علم الجمال)([2])، وكان أستاذا كبيرا من أساتذته.. ولم يكن يهمه في الحياة إلا النظر إلى الجمال وتذوقه.. ولكني – للأسف – انشغلت بالجمال عن الجميل، وبالصنعة عن الصانع، وبمظاهر الإبداع عن المبدع العظيم الذي أبدعها.

لا تتوقف حكايتي عند هذا الحد.. وإلا لما دعوتكم.. ولما اعتبرت ما سأحدثكم به ركنا من أركان المعرفة بالله.. لا يمكن للباحث عن الله أن لا يمر عليه.

لقد كتب الله لي أن أمر على من علمني علوم هذا الركن.. فتعرفت من خلاله على المبدع الحقيقي.. ولكني للأسف انشغلت عنه بأهواء كثيرة، ودنس كثير إلى أن وقعت معكم الآن في هذا الموقف لأتذكر ما كنت عنه غافلا.. ويعود لذاكرتي ما كانت محجوبة عنه.

في بداية حياتي.. وفي فترة زهوي العلمي لم أكن أعير كبير اهتمام للجمال ومظاهر الجمال التي امتلأت بها أكوان الله.

نعم كنت أصادم الفطرة بذلك.. ولكني مع ذلك كنت مقتنعا أن تلك المصادمة هي الحقيقة التي يدل عليها ذلك النزر من العلم الذي ملأني به أساتذتي..

لقد كانت المادة – بفعل تعليماتهم – في نظري، وفي نظر العلماء([3]) في ذلك الحين ليس لها أي حظ ذاتي من الجمال، فليس للمادة إلا خواص كمية كالوزن والحجم والشكل والعدد.. وحيث إن الجمال ليس من جملة هذه الخواص، فقد كنا جميعا أنا وأساتذتي نميل إلى اعتباره خاصة من خواص المراقب، لا صفة من صفات الأشياء الطبيعية.

أذكر أنه في عام 1630 كتب ديكارت يقول: (لا يدل الجميل ولا البهيج على أكثر من موقفنا في الحكم على الشيء المتكلم عنه)

وقد وافقه سبينوزا على ذلك، فقال: (الجمال ليس صفة في الشيء المدروس بقدر ما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان نفسه الذي يدرس ذاك الشيء)

وقد أحدث هذان المفكران وآخرون غيرهما تيارا قوياً دام زماناً طويلاً.. فبعد ذلك بقرنين من الزمان أبان تشارلز داروين عن موقفه من الجمال، فكتب يقول: (من الجلي أن الإحساس بالجمال يتوقف على طبيعة العقل بصرف النظر عن أي صفة حقيقية في الشيء محل الإعجاب)

وهكذا فرويد.. فقد كان يشعر أنه مضطر إلى حصر الجمال في دائرة الغريزة.. ولهذا قال: (من دواعي الأسف أن التحليل النفسي ليس عنده ما يقوله عن الجمال، وكل ما يبدو مؤكداً أنه مستمد من مجال الشعور الجنسي)

لقد جعلتنا هذه النظرة نخرج الجمال عن العلم.. فالجمال، رغم احتمال كونه متعة شخصية، لا يمكن أن يكون موضع جدل علمي إذ أنه لا يعيننا بتاتا في اكتشاف حقائق الطبيعة.

ولذلك كنا نعتقد أن الفنون الجميلة، بقدر ما تنشد الجمال، لا يمكن أن يكون بينها وبين العلوم أي شيء مشترك.. بل إنا كنا نصور العلوم على أنها باردة المشاعر، ولكنها واقعية، ونصور الفنون على أنها دافئة المشاعر، ولكنها هوائية المضمون، بحيث يتوقع من علم الحشرات أن يسكت عن جمال الفراشة سكوت الشعر عن خمائرها الهضمية.

***

بعد ذلك.. وبعد تبخر ذلك الزهو الذي أفرزه الانبهار بالعلم، قدر الله لي أن ألتقي رجلا كان شديد الشوق للبحث عن الحقيقة.. كان اسمه (جيمس واتسن).. وقد تعرفت عليه في البدء من خلال قراءة كتابه المشهور (اللولب المزدوج)، فقد ذكر فيه كيف أن الجمال هو الذي هداه إلى اكتشاف التركيب الجزيئي لـ DNA.. وقد تعجبت من ذلك عجبا شديدا.

وعندما التقيت به سألته عن ذلك، فقال لي: لقد كان ذلك بالنسبة لي بديهية.. فالجمال في الكون هو الأصل.. وقد استثمرت هذا الأصل في اكتشاف أهم النظريات العلمية..

قال لي ذلك، ثم صمت صمتا عميقا ممتلئا حزنا، فسألته عن سر كآبته، فقال: نعم لقد اكتشفت التركيب الجزيئي لـ DNA لكني لم أكتشف بعد من ركب ذلك التركيب العجيب.. لقد انبهرت بالجمال وانشغلت عن الجميل.. لقد غفلت في ثنايا أبحاثي عن ربي البديع الذي صمم كل ذلك الجمال..

قال ذلك، ثم راح يخاطب نفسه بقوله: لقد حصل مني ذلك.. ولكني لست الوحيد فيه.. لقد انشغل الكل.. – كل من أعرفهم – ببحوثهم ومعاملهم وثناء الناس عليهم عن ذلك العظيم الذي هو وراء كل جمال ونظام وبناء..

قال ذلك، ثم التفت إلي، وقال: لقد رأيت الكثير من الباحثين من أصحابي وغيرهم يمتطون مطية الجمال ليتوسلوا بها إلى اكتشاف الحقائق العلمية.. ولم أر واحدا منهم ركب مطية الجمال ليتعرف على الجميل الذي أبدع هذا الكون..

لقد لاحظ (فيرنر هايزنبيرغ) فيما يتعلق بميكانيكا الكم ـ وهو المجال الذي قام فيه ببحوث رائدة ـ أنه ثبت في الحال أن (النظرية مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي) 

وعلماء الفيزياء عموما يرون أن نظرية النسبية العامة هي أجمل النظريات الفيزيائية الموجودة على الإطلاق.. وقد أشاد إيرون شرودنغر بها بقوله: (إن نظرية إينشتاين المذهلة في الجاذبية لا يتأتى اكتشافها إلا لعبقري رزق إحساساً عميقاً ببساطة الأفكار وجمالها)

كما أشار أينشتاين نفسه إلى جمال هذه النظرية في خاتمة مقالته الأولى عن الجاذبية حيث قال: (لا يكاد أحد يفهم هذه النظرية تمام الفهم يفلت من سحرها)

وقد رأيت أن الجمال ـ فوق هذا ـ كان معيارا أساسيا في الفيزياء لدرجة أنه يقدم حتى على التجربة نفسها..

لقد أعلن الفيزيائي بول ديراك أن (وجود الجمال في معادلات العالم أهم من جعل هذه المعادلات تنطبق على التجربة)

 ونستطيع أن نفهم ذلك إذا تصورنا العالم النظري أمام كمية ضخمة من البيانات التجريبية المذهلة، فأي النتائج هي الأهم؟ وكيف ينبغي أن تفسر جميعها؟ ما هو النمط الملاحظ؟ والجمال في هذا المقام دليل جدير بالثقة.. يقول الفيزيائي جورج تومسون: (إن المرء يستطيع دائماً أن يقدم نظرية، أو عدداً كبيراً من النظريات، لتفسير حقائق معروفة، بل للتنبؤ بحقائق جديدة أحياناً.. والجمال هو الفيصل.. فالنظريات بعضها صعب المأخذ ومحدود النطاق وتعسفي، وقلما تدوم هذه طويلاً)

وفوق هذا.. فإن أبرز علماء الفيزياء في القرن العشرين يتفقون على أن الجمال هو المقياس الأساسي للحقيقة العلمية، فالفيزيائي رتشارد فينمان يرى (أن المرء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها)

ويعلن هايزنبيرغ أن (الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء هو أهم مصدر من مصادر الإستنارة والوضوح)

لقد رأيت ـ بعد بحث طويل ـ أن الجمال في الفيزياء هو السمة الغالبة.. فالتجربة تخطئ في الغالب، والجمال قلما يخطئ.. فإذا اتفق أن وجدت نظرية أنيقة للغاية لا تنسجم مع مجموعة من الحقائق فهي لا محالة واجدة لها تطبيقاً في مجال آخر، فخلال العشرينات من هذا القرن، مثلاً، أصبح الرياضي والفيزيائي هرمان فيل (Herman Weyl) مقتنعاً بأن نظريته في القياس لا تنطبق على الجاذبية، ولكنه ـ نظراً لكمالها الفني ـ لم يرد التخلي عنها كلياً، وقد تبين بعد ذلك بوقت طويل أن نظرية فيل تلقي ضوءاً على ديناميكاً الكم الكهربائية، فجاء ذلك مصداقاً لحسه الجمالي.

قال لي صاحبي (جيمس واتسن) ذلك، ثم انتفض بشدة، وقال: لكن مع ذلك لا مكان لليأس.. إن الجمال الذي اكتشفنا به كل هذه النظريات العلمية هو نفسه الذي سيجعلنا نصل إلى ربنا.. فلا يمكن أبدا أن يترك مبدع هذا الكون عباده هملا من دون أن يرسل لهم من يعرفهم به.. إن هذا يتناقض مع أولى أولويات الجمال.

لاشك أن المبدع الحكيم الذي أبدع هذا الكون أحكم من أن يترك عباده هملا وهو قادر على أن ينقذهم ويعلمهم..

ثم التفت إلي، وقال: إن مجرد تحريكه لمشاعرنا بأن تبحث عنه دليل على عنايته بنا.. بل دليل على أنه جعل في هذه الأرض من يعرفنا به..

قال ذلك، ثم قام، وقال: أنا راحل الآن إن شئت أن ترحل معي.. فهلم نحزم أمتعتنا.. وإن شئت أن تبقى حبيسا لمعاملك وعلومك.. فأتركك على خير..

قال ذلك، ثم سار من دون أن ينتظر ردي.. فأسرعت إليه ممهلا له، فقال: هيا أجبني.. إن كنت تريد أن ترحل معي فهلم.. وإلا فدعني.. فالعمر أضيق من أن نضيعه.

قلت: أمهلني يوما واحدا لأحزم أمتعتي..

قال: لك ذلك على أن لا تتجاوز يوما واحدا.. فإني أخشى على نفسي أن يختطفني الموت قبل أن أتشرف بالتعرف على المبدع العظيم الذي أبدع جميع هذا الكون.

***

في اليوم التالي، سرت مع صديقي جيمس.. وظللنا نسير مدة طويلة..

لم نترك كنيسة ولا معبدا ولا رجل دين ولا رجل فلسفة إلا لجأنا إليه نسأله عن ربنا.. وقد عرفنا من اختلاف الفرق.. ومن أنواع الخرافة ما كاد يملؤنا باليأس..

لقد كنا نسمع أحاديث كثيرة عن إله هذا الكون أو آلهة هذا الكون.. ولكنها جميعا كانت تتناقض مع كثير مما عرفنا به العلم عن ربنا.. وقد كان صاحبي – كما ذكرت لكم – حازما جادا.. فلم يكن يرضى أن تمس العلوم التي تعلمها.. لقد قال لي في ذلك: إن العلوم التي دلتني على أن لي ربا يستحيل أن تتناقض مع الرب الذي أبدعها..

ثم أضاف: إن الجمال الذي علمتني إياه العلوم دلني على أن الأصل في الكون السلام لا الصراع.. فيستحيل على رب هذا الوجود أن يصارع مخلوقاته.

بعد أن كدنا نيأس التقينا به..

لقد كان في غاية النورانية والسلام والصفاء واللطف..

كان وكأنه زهرة من أزهار الحقول الجميلة التي لا تذبل..

بل كان عطرا صافيا لم يدنس بكثافة الأزهار، ولم يعره ما يعروها من الضعف.

قلنا: من؟

قال: ولي من أولياء الله.. كان اسمه (محمد الجواد)([4]).. كان شابا لما يتجاوز الخامسة والعشرين.. ولكنه كان في حكمة الشيوخ.. وفي روحانية القديسين.. وفي ذكاء العباقرة.

عندما التقينا به كان منشغلا بالعمل في حقل من الحقول.. قرب جامعة من كبرى الجامعات الأمريكية.. وكان العطش قد استبد بنا.. فطلبنا منه كأس ماء ليسقينا..

فأقبل إلينا بكل وجهه.. وسقانا من ابتسامته ولطفه قبل أن يسقينا من مائه.. ثم قال لنا بعد أن ارتوينا: انظروا إلى الجمال العظيم الذي تختزنه هذه القطيرات العذبة من الماء..

نظر إليه صاحبي، وهو يتعجب أن يتحدث مثله بمثل هذا.

أضاف الجواد: انظروا.. إن الماء ليس مجرد سائل كسائر السوائل.. إنه سر الحياة.. إنه الركيزة الكبرى في حياة الكائنات الحية، وعليه تتوقف جميع العمليات الحيوية فيها([5]).

إن ذلك يعود إلى الخواص الفريدة للماء، والتي تجعله بحق سائل الحياة..

أراد صاحبي جيمس أن يختبره، فقال: وما هي هذه الخصائص؟

قال الجواد: له خصائص كثيرة.. منها أنه يذيب العديد من المواد أكثر من أي سائل آخر، ويرجع هذا إلى مقدرة الماء العالية في فصل الجزيئات المتأينة وغير المتأينة بعيداً عن بعضها البعض.

وله حرارة نوعية عالية مقارنة بالكثير من السوائل، فله حرارة تبخر، وحرارة كامنة عاليتان بصورة غير عادية، وتساعد هاتان الخاصيتان على بقاء الماء بصورته السائلة في درجات حرارة مختلفة، بل تجعله صالحاً لحياة الكائنات الحية في درجات حرارة عالية أومنخفضة نسبياً.

ومع أن معظم المواد تكون عند أعلى كثافة لها في درجة التجمد، ولكن الماء يشذ عنها، حيث له أعلى كثافة عند درجة 4 س، وهذه الخاصية مهمة للأحياء المائية البحرية، حيث يطفو الجليد على سطح الماء، وبذلك يعمل عازلاً لما تحته، ويمنع الماء السفلي من التجمد، وهذا يحمي الكائنات البحرية من الهلاك والتجمد.

وهو شفاف قابل لنفاذية الموجات الضوئية المرئية، وبذلك يصل الضوء إلى أعماق كبيرة في البحار، وإلى داخل أوراق النباتات الأرضية، فتتم عملية البناء الضوئي فيها.

وله شد سطحي أعلى من كل السوائل المعروفة، عدا الزئبق وهذه الخاصية تجعله يرتفع في أجزاء النبات إلى مسافات عالية تصل إلى أكثر من 60 مترا.

وله قدرة تلاصق كبيرة مع كل من جزيئات النشا والسليلوز والبروتين، بحيث إذا تلا مس الماء مع أي منهم تلاصقا بشدة مع بعضهما البعض، مما يؤدي إلى بلل تلك المواد، وهذه الخاصية مهمة للكائنات الحية، ولإتمام العملية الحيوية بها، وصعود الماء في النبات.

وبالإضافة إلى هذا كله، فقد أثبتت جميع التجارب العلمية أن للماء دوراً حيوياً كبيراً في حياة الكائنات الحية، ففقدان الجسم بالجوع 50 بالمائة من الدهون والبروتينات غير مهلك، ولكن فقدان الجسم نسبة 20 بالمائة فقط من مائة قاتل.

ازداد عجب صاحبي جيمس من معرفته بكل هذا.. ولكنه لم يكتف به، بل راح يسأله.. ولست أدري هل سأله مختبرا.. أم أنه شعر أن لديه ما كان يبحث عنه.. قال له: فما سر هذا النشاط الحيوي للماء؟

قال الجواد: إن هذا يرجع إلى أمور كثيرة:

 منها أن الماء ينظم بدقة العمليات الحيوية في الكائنات الحية، فجميع الأنشطة الحياتية وتفاعلاتها المتعددة من التغذية إلي الإخراج ومن النمو إلي التكاثر لا تتم في غيبة الماء بدءا من التمثيل الغذائي‏،‏ وتبادل المحاليل بين الخلايا وبعضها البعض‏،‏ وبينها وبين المسافات الفاصلة بينها‏،‏ وذلك بواسطة الخاصية الشعرية للمحاليل المائية التي تعمل من خلال جدر الخلايا‏،‏ وانتهاء ببناء الخلايا والأنسجة الجديدة مما يعين علي النمو والتكاثر‏،‏ وقبل ذلك وبعده التخلص من سموم الجسم وفضلاته عن طريق مختلف صور الإفرازات والإخراجات‏.‏

هذا بالإضافة إلي ما يقوم به الماء من أدوار أساسية في عمليات بلع الطعام‏،‏ وهضمه‏،‏ وتمثيله‏،‏ ونقله‏،‏ وتوزيعه‏،‏ ونقل كل من الفيتامينات‏،‏ والهرمونات‏،‏ وعناصر المناعة‏،‏ ونقل الأوكسجين إلي جميع أجزاء الجسم‏،‏ وإخراج السموم والنفايات إلي خارج الجسم‏،‏ وحفظ حرارة الجسم ورطوبته وما يقدم لذلك أو يترتب عليه من العمليات الحيوية.

ومنها أنه منظم لدرجة حرارة الجسم‏،‏ بما له من سعة حرارية كبيرة‏،‏ ومنظم لضغط الدم‏،‏ ولدرجات الحموضة‏،‏ فإن في نقصه تعطش الخلايا ويضطرب عملها‏،‏ وتتيبس الأنسجة‏،‏ وتتلاصق المفاصل‏،‏ ويتجلط الدم ويتخثر‏،‏ ويوشك الكائن الحي علي الهلاك ولذلك فإن أعراض نقص الماء بالجسم الحي خطيرة للغاية‏،‏ فإذا فقد الإنسان علي سبيل المثال‏1بالمائة‏ من ماء جسده أحس بالظمأ‏،‏ وإذا ارتفعت نسبة فقد الماء إلي‏5بالمائة‏ جف حلقه ولسانه‏،‏ وصعب نطقه‏،‏ وتغضن جلده‏،‏ وأصيب بانهيار تام‏،‏ فإذا زادت النسبة المفقودة علي‏10بالمائة‏ أشرف الإنسان علي الهلاك بالموت‏.‏

وفي المقابل فإن الزيادة في نسبة الماء بجسم الكائن الحي علي القدر المناسب له قد تقتله‏،‏ فالزيادة في نسبة الماء بجسم الإنسان قد تسبب الغثيان‏،‏ والضعف العام وتنتهي بالغيبوبة التي تفضي إلي الموت‏.‏

ومنها أن عمل العضيات الحيوية المهمة بالخلية مثل الميتوكوندريا (مواضع تكوين البروتين بالخلية) والبلاستيدات الخضراء (عضيات تكوين الغذاء في النبات من الضوء) يتوقف عملها جميعاً على امتلائها وانتفاخها بالضغط المائي.

ومنها أن الماء ينقل المركبات العضوية وغيرها بالجسم، نظراً لانخافض لزوجته ومقدرته على الحركة وإذابة كثير من المركبات العضوية وغير العضوية.

ومنها أن الماء يؤدي وظيفة إخراج نواتج الهدم في الأجزاء المتخصصة لذلك في الكائنات الحية.

ومنها أن الماء ضروري لعمليات التحلل المائي والأكسدة والاختزال في الأجسام الحية.

ومنها أن الماء ينظم درجة حرارة الكائنات الحية، وذلك لارتفاع حرارته النوعية ولتوصيله الجيد للحرارة.

ولهذا كله وغيره، فإن الماء يشكل العنصر الأساسي في بناء أجساد جميع الكائنات الحية‏،‏ فقد ثبت بالتحليل أن نسبة الماء في جسم الإنسان تتراوح بين حوالي‏71بالمائة‏ في الإنسان البالغ‏،‏ و‏93بالمائة‏ في الجنين ذي الأشهر المحدودة‏،‏ بينما يكون الماء أكثر من‏80بالمائة‏ من تركيب دم الإنسان‏،‏ وأكثر من‏90بالمائة‏ من أجساد العديد من النباتات والحيوانات‏.‏

ونتيجة لذلك، فلا يمكن للحياة أن تقوم بغير الماء أبدا‏،‏ فمن الكائنات الحية ما يمكنه الاستغناء كلية عن أوكسجين الهواء‏،‏ ولكن لا يوجد كائن حي واحد يمكنه الاستغناء عن الماء كلية..

تعجب صاحبي كما تعجبت من المعارف العلمية التي يعرفها هذا الرجل، مع كونه في الظاهر ليس سوى فلاح بسيط..

قال له جيمس: كيف كان لك هذا الاهتمام بهذه المعارف مع كونك لست سوى فلاح بسيط ليس يملك من همة سوى البحث عن الأغذية التي تمن بها الأرض علينا؟

ابتسم الجواد، وقال: الأرض أضعف من أن تمن على أحد من الناس.

قال جيمس: ألست تضع البذور في الأرض لتجود لك بعدها بما تشتهي من أصناف الطعام؟

قال الجواد: لقد ذكرت لك أن الأرض أفقر من أن تجود بشيء.

قال جيمس: فمن يجود إذن؟

قال الجواد: الخالق البارئ المصور البديع هو الذي يجود.. أما الأرض.. فليست سوى فقير من الفقراء يمد يده لرب هذا الكون ليمده بعطائه.

اهتز صاحبنا لكلام الجواد، وأخذ يرقص، وهو يردد: لاشك أنك من كنت أبحث عنه.. لاشك أنك أنت الدليل على الله.. لاشك أنك الذي امتلأت به أحلامي في اليقظة والمنام.

تعجبت كثيرا من موقف صاحبي.. ومما زاد في عجبي أن الجواد لم يتعجب.. بل قال له بكل بساطة: نعم أنا ذلك الرجل.. فاصحبني لتتعرف على ربك.. فلا يتعرف على ربه من لم يصحبنا.

قلت: من أنت بالله عليك..

قال: لقد جعل الله بفضله وكرمه لكل شيء واسطة من وسائط جوده.. وقد جعلني بفضله كما جعل الكثير وسائط لتعريف العباد به..

قلت: ولكني لست أراك سوى فلاح.

قال: أنا أشتغل بالأرض من باب العبودية لا من باب طلب الرزق.. فالله ربي هو الرزاق ذو القوة المتين..

قلت: كيف تشتغل بالأرض من باب العبودية لا من باب الرزق؟

قال: لقد قال لنا ربنا:{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)} (الواقعة)

وهكذا قال لنا بالنسبة للماء، والنار.. وكل شيء، قال تعالى:{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } (الواقعة)

ولهذا، فإنا بتقليب الأرض وحرثها وحصادها نشعر أننا نمارس عبودية التقليب والحرث والحصاد.. أما الرزق، فإنا من كل قلوبنا نوقن أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

قلت: فأي عبودية تمارسها في تقليبك لأرضك  وحرثك وحصادك لها؟

قال: ألا تعرف جدول مندلييف؟

قلت: الجدول الدوري للعناصر؟

قال: أجل..

قلت: أعرفه.. ما به؟

قال: ما ذكر فيه؟

قلت: لقد ذكر فيه العناصر التي يتكون منها الكون على حسب ما وصل إليه الإنسان.

قال: هناك جدول آخر.. شغلت كل حياتي في البحث عنه.

قلت: ما هو؟

قال: الجدول الأسمائي..

قلت: ما تريد بذلك؟

قال: أرأيت لو أنك رأيت قصرا قد زين بجميع أنواع الزينة.. ووفرت فيه جميع أنواع الخدمات.. ثم رزقك الله مالا، فحدثتك نفسك بأن تتخذ مثله، فبمن يبدأ بحثك؟

قلت: لاشك أني أهتم كثيرا بالمصممين والحرفيين الذي تولوا بناء ذلك القصر.. فلا يمكن أن يبنى القصر من غير بنائين.

قال: بنائين فقط؟

قلت: لا.. أنا أحتاج إلى بنائين ومهندسين وكهربائيين.. وغيرهم كثير.

قال: أرأيت إن اجتمعوا في واحد.. وكان له فوق ذلك من الخبرة ما لا يضارعه فيه أحد؟

قلت: حينذاك سأطمئن على قصري اطمئنانا كليا.. بل أضمن أن يبنى بغاية التناسق والتكامل والجمال.

قال: لم؟

قلت: لأن الواحد الذي تجتمع لديه كل الخبرات تكون له كل القدرة على التنسيق بينها.

قال: فقد عرفت مرادي إذن من الجدول الأسمائي؟

قلت: لا.. فهمت المثال.. لكني لم أدرك تطبيقه على ما نحن فيه.

قال: فلنعتبر هذا الكون قصرا عظيما..

قلت: هو كذلك.. فعلماء الفلك يصفون الكون بالبناء.. وما الأفلاك إلا لبنات فيه([6]).

قال: فهو يحتاج إذن إلى جميع أنواع الخبرات؟

قلت: أجل.. بل لا يمكن حصر الخبرات التي يحتاجها.

قال: فأنا يهمني البحث في هذا..

قلت: لم؟.. أتريد أن تبني كونا جديدا؟

قال: لا.. أنا أريد أن أعبر من الكون إلى المكون.. أنا لا أريد أن أكون كحمار الرحا.

قلت: وما به حمار الرحا؟

قال: هو يرحل من كون إلى كون.. فيعيش في الأوحال ويموت بين الأوحال.

قلت: وما تريد أنت؟

قال: أنا أفهم من كون الله أنه رموز ورسائل تحتها معان عميقة أرسلها الله إلينا لنتعرف عليه من خلالها.

***

كان الجواد يحادثنا بمثل هذه المعاني، وكان صاحبي جيمس مشدوها، وكأنه كان يحلق في فضاء لم تستطع مداركي حينذاك أن تستوعبه.

عندما وصل بنا الحديث إلى هذا الموضع، صاح جيمس: نعم.. كل ما ذكرته صحيح.. هذا ما كنت دائما أقوله لنفسي.. أنا وجميع الباحثين نفني أعمارنا ونحن نرى كل هذه الروعة والجمال، ثم لا نحدث أنفسنا بالبحث عن صاحبها، أو البحث عن التعرف عليه، والاتصال به.

قال الجواد: إلا العلماء العارفون.. فإنهم يعبرون من الكون إلى المكون..

لقد سمعت رجلا منهم يقال له (عبد السلام بن مشيش) يخاطب تلميذا له اسمه (أبو الحسن الشاذلي) يوصبه:( حدد بصر الإيمان تجد الله تعالى في كل شيء، وعند كل شئ، وقبل كل شئ، وبعد كل شئ، وفوق كل شئ، وتحت كل شيء، قريباً من كل شئ، ومحيطاً بكل شئ، بقرب هو وصفه، وبحيطة هي نعته، وعد عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب في المسافات، وعن الدور بالمخلوقات، وامحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو.. كان الله ولا شئ معه، وهو الآن على ما عليه كان)

وكان منهم رجل آوته الجبال والغابات أياما طويلة من عمره.. كان اسمه الإمام بديع الزمان النورسي.. وكان له رسائل اسمها (رسائل النور).. وقد جعلها مفاتيح لقراءة حروف الكون.

لقد سمعته مرة ذكر أنه يمكن مشاهدة آثار تجلي عشرين اسماً من الأسماء على ظاهر كل ذي حياة فحسب.

ولتقريب هذه الحقيقة الدقيقة والعظيمة الواسعة، استشهد بمثال ذكر فيه أنه لو أراد فنان بارع في التصوير والنحت، رسم صورة زهرة فائقة الجمال، أو نحت تمثال بديع، فإنه يبدأ أول ما يبدأ بتعيين بعض خطوط الشكل العام لهما، وهذا التعيين يتم بتنظيم، ويعمله بتقدير يستند فيه إلى علم الهندسة، فيعيّن الحدود وفقه بعلمٍ وبحكمة، لذا تحكُم معاني العلم والحكمة وراءَ التنظيم والتحديد.

ثم إن تلك الاعضاء التي عُيّنت وفق العلم والحكمة أخذت صيغة الصنعة المتقنة والعناية الدقيقة، لذا تحكمُ معاني الصنع والعناية وراء العلم والحكمة.

وقابلية الحسن والزينة في الظهور يدل على أن الذي يحرك الصنعة والعناية هو إرادة التجميل والتحسين وقصد التزيين، فهما إذن يحكمان من وراء الصنعة والعناية.

وعندما يبدأ الفنان بإضفاء حالة التبسم لتمثاله، وشرع بمنح أوضاع حياتية لصورة الزهرة، يكون قد بدأ بفعلَي التزيين والتنوير، ويحركهما معنيا اللطف والكرم.

وهكذا.. يحرك معاني الكرم واللطف، وما وراءهما معاني التودد والتعرف، أي تعريف نفسه بمهارته وفنه، وتحبيبها الى الآخرين.

وهذا التعريف والتحبيب آتيان من الميل إلى الرحمة وإرادة النعمة.

ومعاني الترحم والتحنن هذه، لا يسوقهما الى الظهور لدى ذلك المستغنى عن الناس، غير ما في ذاته من جمال معنوي وكمال معنوي يريدان الظهور، فأجمل ما في ذلك الجمال، وهو المحبة، وألذ ما فيه وهو الرحمة، كل منها يريد إراءة نفسه بمرآة الصنعة، ويريد رؤية نفسه بعيون المشتاقين.

فالجمال والكمال محبوب لذاته، ( يحب نفسه أكثر من أي شئ آخر، حيث أنه حُسن وعشق في الوقت نفسه، فاتحاد الحسن والعشق آتٍ من هذه النقطة.. ولما كان الجمال يحب نفسه، فلابد أنه يريد رؤية نفسه في المرايا، فالنعم الموضوعة على التمثال، والثمرات اللطيفة المعلقة على الصورة، تحمل لمعةً براقة من ذلك الجمال المعنوي – كل حسب قابليته – فتُظهر تلك اللمعات الساطعة نفسها الى صاحب الجمال، والى الآخرين معاً)([7])

التفت الجواد إلي، ثم التفت إلى جيمس، وقال: على منوال هذا المثال الذي أورده بديع الزمان تتم قراءة العارف للكون، وللأسماء الحسنى التي تتجلى في مرآته، قال النورسي:( وعلى غرار هذا المثال الذي ينظم الصانع الحكيم ـ ولله المثل الاعلى ـ الجنة والدنيا والسموات والارض والنباتات والحيوانات والجن والانس والملك والروحانيات، أي بتعبير موجز ينظم سبحانه جميع الأشياء كليّها وجزئيها.. ينظمها جميعاً بتجليات أسمائه الحسنى ويعطي لكل منها مقداراً معيناً حتى يجعله يستقرىء اسم:المقدر، المنظم، المصور)([8]

ففي النظر إلى زهرة واحدة جميلة صحائف كثيرة جداً من صحائف التعرف على الله:

فصحيفة هيئة الشئ التي تبين شكله العام ومقداره، تلهج باسماء: يا مصور يا مقدر يا منظم.

وصحيفة صور الاعضاء المتباينة المنكشفة ضمن تلك الهيئة البسيطة للزهرة، أسماء كثيرة أمثال: العليم، الحكيم.

وصحيفة إضفاء الحسن والزينة على الأعضاء المتباينة بأنماط متنوعة من الحسن والزينة تكتب في تلك الصحيفة أسماء كثيرة من امثال: الصانع، البارئ.

وصحيفة الزينة والحسن البديع الموهوبان لتلك الزهرة تقرأ اسماء كثيرة امثال: يا لطيف. يا كريم.

وصحيفة تعليق ثمرات لذيذة على تلك الزهرة يجعلان تلك الصحيفة، تستقرئ اسماء كثيرةً أمثال: يا ودود يا رحيم يا منعم.

وصحيفة الإنعام والإحسان تقرأ أسماء أمثال: يا رحمن يا حنان.

وصحيفة ظهور لمعات الحسن والجمال الواضحة في تلك النعم تكتب وتقرأ اسماء: يا جميل ذا الكمال يا كامل ذا الجمال.

فهذه زهرة واحدة تلهج بجميع هذه المعارف التي تحتوي من الأعماق ما لا حدود له، فإلى أي حد من السمو والكلية تستقرىء جميع الازهار، وجميع ذوي الحياة والموجودات الاسماء الحسنى الإلهية.

***

ازداد استغراق صاحبي جيمس في المعاني الجميلة التي طرحها الجواد.. لكنه فجأة عاد إليه عزمه الذي كنت أعرفه به، ثم التفت إلي، وقال:  لقد وجدت طلبتي.. فإن شئت أن تبقى معي، فمرحبا.. وإن شئت أن تسير إلى ما كنت فيه.. فسر.

قلت: ماذا تريد أن تفعل بنفسك؟.. هل تريد أن تجلس تلميذا عند هذا الفلاح، وأنت الذي تتنافس الجامعات ودور العلم على سماع صوتك.

قال: لقد وجدت عند هذا الفلاح ما لم أجده في الدنيا جميعا.. ولذلك، فقد اتخذت قراري، فإن شئت أن تصحبني، فابق معي.. وإن شئت أن تسير، فسر.

قلت: لا بأس.. سأصحبك لأنظر ماذا تفعل.. وماذا يريد صاحبنا هذا أن يفعل بك.

ابتسم الجواد، وقال: تسرني صحبتكما.. فهلما معي لنبحث عن ربنا.. ونبحث عن  جدول الأسماء المعرفة لربنا.

***

عندما وصل صاحبنا (بينيديتو كروتشي) من حديثه إلى هذا الموضع سألناه: ماذا فعلت مع صاحبك والجواد؟.. وكيف وجدتماه بعد صحبتكما له؟

قال: لقد وجدناه رجلا ممتلئا بالإيمان من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه.. لكأنه حشي بالإيمان حشوا..

وقد رأيناه – بالإضافة إلى ذلك – عالما فحلا قد امتلك كل ما يمتلكه العلماء من أدوات ووسائل ومعارف.. بل فوق ذلك كان يخوض في كل العلوم، يمخر عبابها، ويركب صعبها ووعرها بهمة لا تلين، وبقلب لا يضعف.

وقد عرفنا – من خلال صحبتنا له-  أن داعيه إلى العلم هو إيمانه العميق.. فالإيمان هو لباب العلم وخلاصته..

وقد قضينا – من خلال معرفتنا به – على تلك الخرافة التي تزعم التناقض بين العلم والإيمان..

قلنا: هذا ما عرفتم عنه.. فما استفدتم منه؟

قال: أما أنا فقد استفدت سبعة من أسماء الله الحسنى زادتني معرفة بالله، وزادتني تعظيما له..

قلنا: وصاحبك؟

قال: لقد فني صاحبي في الجواد.. وقد نال بفنائه ما لا يمكن لشخصي الضعيف أن يدركه.

قلنا: فلم قعدت دونه عن الوصول إلى ذلك؟

قال: لقد جذبتني الدنيا بكلاليبها الحريرية، وتثاقلت إلى الأرض، ونسيت كثيرا.. ولولا أن قيض الله لنا هذا المقام لأتذكر تلك الأيام الجميلة لنسيتها ونسيت بها أعظم معنى عرفته في حياتي.

قلنا: فما الأسماء التي فقهتها من خلال صحبتك له؟

قال: هي الخالق، والخلاق، والبارئ، والمصور، والفاطر، والحافظ، والمغني.

قلنا: فهل كنتم وحدكم في تعلم هذه الأسماء من الجواد؟

قال: لقد نسيت أن أذكر لكم أن ذلك الفلاح البسيط كان قد اجتمع له – بفضل الله – خيرة العلماء ممن كان يدرس بتلك الجامعة أو ممن كان يمر بها.. كلهم انجذبوا لما انجذبنا له.. وكلهم تتلمذ على يديه.. وما سأذكره لكم من حديثه كان خطابا لنا جميعا.. لي، ولصديقي جيمس، ولأولئك العلماء ذوي المشارب المتعددة الذين كانوا بين الفينة والأخرى يزرونه في بستانه.. ولا ينقلبون إلا بإيمان عميق بعيد عن كل خرافة أو جدل.

1 ـ الخالق

قلنا: فحدثنا عن الاسم الأول.. حدثنا عن اسم (الخالق)

قال: لقد كان أول الأسماء التي حرص الجواد على تعليمنا إياها.. وقد وضعها في أول جدوله الأسمائي هو اسم (الخالق)..

وقد سألناه عن سر وضع هذا الاسم في مقدمة الأسماء، فقال: لذلك سببان، أما أحدهما، فينبع من أسرار كتابنا المقدس.. وأما الثاني، فينبع من أسرار نفوسنا المدنسة المملوءة بالدخن.

أما السر الأول، فيشير إليه قوله تعالى في أول آيات نزلت من القرآن الكريم.. هي قوله تعالى:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} (العلق)، ففي هذه الآية الكريمة ذكر للخلق.. وتعريف بأن الله هو الخالق.. وهو أول ما عرف به الله بذلك في القرآن.

وأما الثاني، وهو النابع من أسرار نفوسنا، فهو أن البصائر – قبل أن تكتحل بنور الإيمان – تتصور أن هذا الكون بما فيه من مادة وحياة كون نشأ هكذا من غير منشئ.. وهي عندما تهرع لننهل من حياض الإيمان قد تكتفي بإيمان تقليدي غير مؤسس على أسس علمية واقعية.. وإيمان بهذا الشكل هش ضعيف لا يستطيع أن يؤدي دوره الفاعل في الحياة..

قلنا: فما المنهج الذي نخرج به من هذا الإيمان التقليدي لنتعرف على ربنا الخالق؟

قال: لاشك أنكم تعلمون أن التصورات الجاهلية التي قد يتسرب أثرها إلى النفوس، فيفسد علاقتها بربها ومعرفتها به هو تصورها أن هذا الكون بما فيه من مادة وحياة كون نشأة صدفة أو لسبب من الأسباب غير سبب الخالق العظيم الذي خلقه.

المادة:

قلنا: ما تقوله صحيح.. فحدثنا كيف نزيل وهم الصدفة أو غيرها من الأسباب عن المادة.. لننسبها إلى ربها الذي أبدعها؟

قرأ الجواد من القرآن هذه الآية:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} (فصلت)، ثم قال: لقد شاء الله بفضله وكرمه أن يعطينا في هذا الزمان من الأدلة ما يقف أمامه الملاحدة حائرين.. فقوانين الحرارة.. وقوانين الإلكترون.. والطاقة الشمسية يقف كل واحد منها دليلاً واضحا على خالقية الله للأشياء.. عدا عن الأدلة الفطرية والعقلية والقطعية التي ذكرها الربانيون في كل عصر.

قال رجل منا: فكيف تدل قوانين الحرارة على خالقية الله للأشياء؟

قال الجواد([9]): لقد عبر (إدوار لوزكيل) عن هذا القانون، وكيف أنه يثبت أن لهذا الكون بداية، فقال: (قد يعتقد بعضهم أن هذا الكون هو خالق نفسه، وعلى حين يرى البعض الآخر أن الاعتقاد بأزلية هذا الكون ليس أصعب من الاعتقاد بوجود إله أزلي، ولكن القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية يثبت خطأ هذا الرأي – أي أزلية الكون – فالعلوم تثبت بكل وضوح أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليا.. فهناك انتقال حراري مستمر من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة.. ولا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية، ومعنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة جميع الأجسام، وينضب منها معين الطاقة.. ويومئذ لن تكون هناك عمليات كيماوية أو طبيعية، ولن يكون هنالك أثر للحياة نفسها في هذا الكون.. لذلك فإننا نستنج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً، وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد، وتوقف كل نشاط في الوجود.. وهكذا توصلت العلوم دون قصد إلى أن لهذا الكون بداية.. وهي بذلك تثبت وجود الله وما كان له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه، ولا بد له من مبديء أو من محرك أول، أو من خالق هو الإله)

وقد استدل (فرانك الان) عالم الطبيعة البيولوجية على عدم أزلية الكون كذلك بنفس القانون، فقال: (كثيراً ما يقال إن هذا الكون المادي لا يحتاج إلى خالق، ولكننا إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود فكيف وجوده ونشأته؟

هنالك أربعة احتمالات للإجابة على هذا السؤال: فإما أن يكون هذا الكون مجرد وهم وخيال وهو ما يتعارض مع القضية التي سلمنا بها حول وجوده.. وإما أن يكون هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم.. وإما أن يكون أبديا ليس لنشأته بداية.. وإما أن يكون له خالق.

أما الاحتمال الأول فلا يقيم أمامنا مشكلة الإحساس والشعور، فهو يعني أن إحساسنا بهذا الكون وإدراكنا لما يحدث فيه لا يعدو أن يكون وهما من الأوهام ليس له ظل من الحقيقة.. فالرأي الذي يدعي أن هذا الكون ليس له وجود فعلي وأنه مجرد صورة في أذهاننا وأننا نعيش في عالم من الأوهام لا يحتاج إلى مناقشة أو جدال.

أما الرأي الثاني القائل بأن هذا العالم بما فيه من مادة وطاقة قد نشأ هكذا وحده من العدم فهو لا يقل عن سابقه سخفا وحماقة ولا يستحق هو أيضا أن يكون موضعاً للنظر أو المناقشة.

والرأي الثالث الذي يذهب إلى أن هذا الكون أزلي ليس لنشأته بداية إنما يشترك مع الرأي الذي ينادي بوجود خالق لهذا الكون، وذلك في عنصر واحد هو الأزلية، وإذا فنحن إما أن ننسب صفة الأزلية إلى عالم ميت، وإما أن ننسبها إلى إله حي يخلق.. وليس هناك صعوبة فكرية في الأخذ بأحد الاحتمالين أكثر مما في الآخر، ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجا، وأنها سائرة حتما إلى يوم تصير فيه الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق، ويومئذ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة ولا مناص عند حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقة عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت.. أما الشمس المستعرة والنجوم المتوهجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلها دليل واضح على أن أصل الكون أو أساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة فهو إذن حدث من الأحداث، ومعنى ذلك أنه لا بد لأصل الكون من خالق أزلي ليس له بداية عليم محيط بكل شيء قوي ليس لقدرته حدود، ولا بد أن يكون هذا الكون من صنع يديه، فالقانون إذن يثبت أن الكون ما دام فيه حرارة فلا يمكن أن يكون أزليا لأن الحرارة لا يمكن أن تنبعث تلقائيا في الكون بعد برودته ولو كان أزليا لكان بارداَ)

قلنا: وعينا هذا.. فكيف تدل قوانين الحركة الإلكترونية على خالقية الله للأشياء؟

قال: إن كل ذرة من ذرات الوجود تدل على هذا.. فذرات الكون كلها مؤلفة من نواة، وإلكترونات تشكل الكواكب السيارة لها.. وهي تدور حولها بسرعة هائلة بحركة دائرية إهليلجية.. وبسبب هذه السرعة الهائلة في حركة الإلكترون يبقى الإلكترون متحركا هذه الحركة.. إذ لولا هذا الدوران لجذبت كتلة النواة كتلة الإلكترون، وفي هذه الحالة يصبح جرم كالكرة الأرضية في حجم بيضة الدجاجة.. فالفراغ كبير جدا في عالم الذرة.. فكتل الجزيئات لا تأخذ إلا حيزاً صغيراً جداً من فراغ الذرة الواسع، وذلك أن البعد بين النواة والإلكترونات الدائرة حولها كالبعد بين الشمس وكواكبها السيارة نسبياً.

قال ذلك، ثم التفت إلينا، وقال: إن الشيء الدائر لا بد أن تكون له نقطة بداية زمانية ومكانية بدأ منها دورته.. ولما كانت الإلكترونات والأجرام كلها في حركة دائرية، ولما كانت هذه الحركة غير مستأنفة – كما يبدو – فإذن لا بد أن تكون هناك بداية زمانية ومكانية لحركة الإلكترون.. وهذه البداية في الحقيقة هي بداية وجود الذرات نفسها، وبهذا نصل إلى أن لهذا الكون بداية ونشأة وخالقا من العدم.. إذ العدم لا ينتج عنه وجود([10]).

قلنا: وعينا هذا.. فحدثنا عن دلالة الطاقة الشمسية([11]) على خالقية الله للأشياء.

قال: إن أي عاقل يرى الشمس وما ترسله من ضياء ودفء لابد أن يتساءل: من أين تأتي الشمس بطاقتها؟ وكيف تحافظ على حرارتها؟

إن هذين السؤالين مهمان جدا باعتبار صلتهما بمصير الأرض، ومصير الإنسان.. وقد أجيب عنهما أكثر من جواب.. ولكنها لم تكن مقنعة حتى كان الجواب الأخير، وهو أن ذرات هذه الشموس تتحطم في قلبها المرتفع الحرارة جدا.. وبواسطة هذا التحطم الهائل الواسع المستمر تتولد هذه الطاقة الحرارية التي لا مثيل لها..

وكما هو معلوم فإن الذرة عندما تتحطم تفقد جزءا من كتلتها، حيث يتحول هذا الجزء إلى طاقة.. وإذن، فإن كل يوم يمر على أي شمس معناه فقدان جزء بسيط من كتلتها.

إن الشمس مثلا تفقد كل يوم كذا كيلو غرام، ومثلها بقية النجوم.. فلو كانت هذه الشموس قديمة أزلية، فهل يمكن أن تكون في وضعها الحالي.. أو أنها تكون قد استنفدت وانتهى أمرها؟

قال رجل منا: ولكن الشمس قد تعوض ما فقدته من مصادر أخرى؟

قال: إن كلامنا ليس عن جزء من الكون يفقد ويعوض.. فقد يوجد مثل هذا التوازن أحيانا.. ولكن كلامنا في الكون كله إذ ما دام الفضاء عظيما فحتما سيضيع قسم كبير من هذه الطاقة ولا يتحول إلى مادة.. وما دام هناك شعاع واحد يمكن أن نتصوره لا يصطدم بمادة حتى يعيد تشكله المادي بشكل ما من جديد فإن تصور أزلية الكون الحالي مستحيلة، إذ شعاع واحد على مدى الأزل كاف لاستنفاد طاقة الوجود كله.

قال آخر: فما تقول فيمن يرى أن الكون كله كان في الأصل طاقة تحولت إلى مادة.. وهو الآن مادة يتحول إلى طاقة.. ومن ثم سيكون مادة وهكذا؟

ابتسم الجواد، وقال: إن المغالطات واضحة في هذا الزعم.. ذلك أن الطاقة كطاقة إنما تظهر إذا وجدت مادة ما تقوم بها.. فالطاقة تحتاج إلى ذات، وبدون ذات تكون أشبه بمعدوم، أو بتعبير العلماء القدامى: (الطاقة عرض تحتاج إلى جوهر لتظهر فيه)، فإشعاع الشمس عندما يصادف الأرض مثلا تأخذ ذرات الأرض حرارته، وبهذا تصبح ذرات الأرض مشحونة بالطاقة الحرارية، ولكن إذا لم يصادف هذا الشعاع مادة، فهل سيتحول نفسه إلى ذرة مادية على الأقل لم يقل بهذا أحد حتى الآن.. وبهذا يتضح بما لا شك فيه أن هذا الكون ليس قديما، وأن له بداية، وأنه لا يتصور وجوده لولا أن له خالقا هذا الخالق هو ابتدأ خلقه ووجوده بعد إذ لم يكن.

الحياة:

قلنا: حدثتنا عن المادة.. فحدثنا عن الحياة.

قال: لا شك أنكم تعلمون أن البروتينات التي هي من المركبات الأساسية في جميع الخلايا الحية تتكون من خمسة عناصر.

قال رجل منا، وقد كان لا يزال متأثرا بنظرية التطور، وكان اسمه (هَكْسِلِي)([12]): أجل.. وهي الكربون والهيدروجين والنيتروجين والأوكسجين والكبريت.

قال الجواد: وكم يبلغ عدد الذرات في الجزيء البروتيني الواحد؟

قال هَكْسِلِي: 40000 ذرة..

قال الجواد: وكم عدد العناصر الكيماوية التي بلغ إليها علمنا في الطبيعة؟

قال هَكْسِلِي: 92 عنصرا.

قال الجواد: وهل هي موزعة توزيعا منتظما بحيث ييسر على الجزيء البروتيني التشكل؟

قال هَكْسِلِي: لا.. هي موزعة توزيعا عشوائيا..

قال الجواد: فما هي الاحتمالات العلمية لاجتماع عناصر البروتين الخمسة؟

قال هَكْسِلِي: الإجابة عن هذا السؤال سهلة.. حيث يمكن معرفتها عن طريق معرفة كمية المادة التي ينبغي أن تخلط خلطا مستمرا لكي تؤلف هذا الجزيء.. ثم لمعرفة طول الفترة الزمنية اللازمة لكي يحدث هذا الاجتماع بين ذرات الجزيء الواحد.

وقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز يوجين جاي بحساب هذه العوامل جميعا، فوجد أن الفرصة لا تتهيأ عن طريق المصادفة لتكوين جزيء بروتيني واحد إلا بنسبة 1 إلى 10 أي بنسبة واحد إلى الرقم 10 مضروبا في نفسه 160 مرة وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات، وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة بحيث ينتج جزيء واحد أكبر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات.

لقد ليكونت دي نوي يوضح هذا: (يجب أن تتصور حجما أكبر من الكون الأنشتايني بسكستيليون سكستيليون مرة.. ويتطلب تكوين هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لا تحصى من السنوات قدرها العالم السويسري بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين 10 أس 243.

وقد حسب العالم الإنكليزي ج. ب ليتز الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزيئات البسيطة من البروتينات فوجد أن عددها يبلغ الملايين 10 أس 48، وعلى ذلك فإنه من المحال عقلا أن تتآلف كل هذه المصادفات لكي تبني جزيئا بروتينا واحدا)

قال الجواد: ألا ترى أن المادة والزمن اللذين يتطلبهما تشكيل جزيء البروتين لا يكفيهما عمر الكون ولا ما فيه من مادة؟

سكت هَكْسِلِي، فقال الجواد: إن النظرية التي تريد أن تسلب الخالق خالقيته للحياة([13]) لم تتجاوز حد كونها سَفْسَطَة لا تمت إلى العلم بأية صلة.

قال هَكْسِلِي: كيف تقول ذلك.. وقد قال بها فحول من علماء الحياة؟

قال الجواد: هم علماء حياة.. ولكنهم في هذه المسألة لم يخضعوا لما تمليه عليهم الحياة.. ولما يمليه عليهم العلم.. ولما تمليه عليهم قبل ذلك العقول.

قال هَكْسِلِي: إن هذا الكلام يستدعي أدلة كثيرة تنتصر له.

قال الجواد: ألا يكفي ما سبق أن ذكرته لنا من التصميم الخارق الموجود في الكائنات الحية؟.. ألا ترى أنه أكثر تعقيداً منه في الكائنات غير الحية؟

إن الذّرات في الكائنات المختلفة موجودة وفق موازين حساسة للغاية، ونستطيع أن نميز هذه الموازين بإجراء الأبحاث المختلفة عليها، إلاّ أنّ هذه الذّرات نفسها موجودة في العالم الحي وفق ترتيب آخر أكثر تعقيداً، فهي تعد مواد أساسية لتركيب البروتينات والأنزيمات والخلايا، وتعمل في وسط له آليات ومعايير حساسة إلى درجة مدهشة.

التفت الجواد إلى هَكْسِلِي، وقال: إنّ هذا التصميم الخارق للكائنات الحية هو المعول الأكبر الذي تهدم به النظرية.. ذلك أنها لا تستند الى أي دليل علمي.. بل لم تتجاوز كونها جدلاً منطقياً.

ثم التفت إلينا، وقال: سأكتفي الآن بذكر ثلاثة عوامل رئيسة أدت إلى انتهاء هذه النظرية التي تريد أن تزاحم الخالق خالقيته للأشياء..

قلنا: فما أولها؟

قال: أولها أنّ هذه النظرية فشلت تماماً في إيجاد تفسير علمي عن كيفية ظهور الحياة لأول مرة.. فهي تدّعي أنّ الحياة والكائنات الحية بأكملها نشأت من خلية وحيدة قبل أكثر من 3 ملايير سنة..

التفت إلى صاحبنا الدارويني، وقال: أليس كذلك؟

قال هَكْسِلِي: بلى.. وعلى وجه الدقة: أكثر من 3،8 مليار سنة.

قال الجواد: بورك فيك.. فكيف يمكن لخلية حية واحدة أن تتحول إلى الملايين من أنواع الكائنات الحية المختلفة من حيث الشكل والتركيب؟.. وإذا كان هذا التحول قد حدث فعلاً، فلماذا لم توجد أية متحجرات تثبت ذلك؟

سكت هَكْسِلِي، فقال الجواد: كيف ظهرت تلك الخلية الأم إلى الوجود؟

قال هَكْسِلِي: يذكر أصحابنا أن هذه الخلية ظهرت إلى الوجود نتيجة المصادفة وحدها، وتحت ظل ظروف الطبيعة دون أن يكون هنالك أي تأثير خارجي أو غير طبيعي.

قال الجواد: أي أن أصحابك يرفضون فكرة الخلق رفضاً قاطعاً..

قال هَكْسِلِي: هم يذكرون أنّ مواداً غير حية حدثت لها بعض المصادفات أدت بالنتيجة إلى ظهور خلية حية.

قال الجواد: إن هذا الادعاء يتنافى تماماً مع كافة القواعد العلمية المعروفة.. وسأذكر لك قصة الادعاءات لتعرف من خلالها أنها تتنافى مع كافة القواعد العلمية.

أصخنا أسماعنا له، فراح يقول: إن (تشارلز داروين) الذي اختار أو اختير له أن يكون زعيما لهذه النظرية لم يتحدث أبداً عن أصل الحياة في كتابه..

وسبب ذلك يتمثّل في طبيعة المفاهيم العلمية التي كانت سائدة في عصره، والتي لم تتجاوز فرضية تكون الأحياء من مواد بسيطة جداً.. فقد كان العلم آنذاك ما يزال تحت تأثير نظرية (التولد التلقائي) التي كانت تفرض سيطرتها منذ القرون الوسطى، ومفادها أنّ موادَّ غير حية قد تجمعت بالمصادفة، وأنتجت مواد حية.

نعم هم معذورون في ذلك.. فقد كانوا يستسلمون للأوهام التي يستسلم لها عامة الناس.. إذ أنهم يرون تكاثر الحشرات في فضلات الطّعام، وتكاثر الفئران في صوامع الحبوب.. فتوهموا أنها تولدت ذاتيا.

وكانت هناك ظاهرة أخرى وهي تكاثر الدود في اللحم، فقد ساقت النّاس إلى هذا الاعتقاد الغريب، واتخذت دليلاً له، ولكن تم إثبات شيء آخر فيما بعد؛ وهو أن الدود يتم جلبه بواسطة الذباب الحامل ليرقاته، والذي يحط على اللحم.

وفي الفترة التي ألف خلالها داروين كتابه (أصل الأنواع) كانت الفكرة السائدة عن البكتيريا أنها تنشأ من مواد غير حية، ولكن أثبتت التطورات العلمية بعد خمس سنوات فقط من تأليف الكتاب عدم صحة ما جاء فيه، وذلك عن طريق الأبحاث التي أجراها عالم الأحياء الفرنسي لويس باستور، الذي قال: (لقد أصبح الادعاء القائل بأن المواد غير الحية تستطيع أن تنشئ الحياة في مهب الريح)

بعد هذا ظل المدافعون عن نظرية التطور يكافحون لمدة طويلة ضد الأدلة العلمية التي توصل إليها باستور، ولكن العلم بتطوره عبر الزمن أثبت التعقيد الذي يتصف به تركيب الخلية، وبالتالي استحالة ظهور مثل هذا التركيب المعقد من تلقاء نفسه.

لكنهم مع ذلك لم ييأسوا، فقد حاول عالم الأحياء الروسي (ألكسندر أوبارين) – وهو أول من تناول موضوع أصل الحياة في القرن العشرين، وأجرى أبحاثاً عديدة في ثلاثينيّات القرن العشرين – إثبات أن المواد غير الحية تستطيع إيجاد مواد حية عن طريق المصادفة، ولكن أبحاثه باءت بالفشل الذريع واضطر الى أن يعترف بمرارة قائلاً: (إنّ أصل الخلية يُعَدُّ نقطة سوداء تبتلع نظرية التطور برمتها)

ولم ييأس باقي العلماء من دعاة التطور، واستمروا في الطريق نفسه الذي سلكه أوبارين وأجروا أبحاثهم للتوصل إلى أصل الحياة.. وأشهر بحث أجري من قبل الكيميائي الأمريكي ستانلي ميللر سنة 1953 حيث افترض وجود مواد ذات غازات معينة في الغلاف الجوي في الماضي البعيد، ووضع هذه الغازات مجتمعة في مكان واحد وجهزها بالطاقة، واستطاع أن يحصل على بعض الاحماض الأمينية التي تدخل في تركيب البروتينات.

وعُدَّت هذه التجربة في تلك السّنوات خطوة مهمة إلى الأمام، ولكن سرعان ما ثبت فشلها؛ لأن المواد المستخدمة في التجربة لم تكن تمثل حقيقة المواد التي كانت موجودة في الماضي السحيق، وهذا الفشل ثبت بالتأكيد في السنوات اللاحقة.

وبعد فترة صمت طويلة اضطر ميللر نفسه أن يعترف بأن المواد التي استخدمها في إجراء التجربة لم تكن تمثل حقيقة المواد التي كانت توجد في الغلاف الجوي في سالف الزمان.

وهكذا باءت بالفشل كل التجارب التي أجراها الداروينيون طوال القرن العشرين..

لقد كتب (جيفري بادا) – الاختصاصي في الكيمياء الجيولوجية في المعهد العالي في سان ديغو سيكربس – يذكر هذا الفشل في مقال نشره سنة 1998 على صفحات مجلة (الأرض) ذات التوجه الدارويني، قال فيه: ( نحن نودع القرن العشرين ومازلنا كما كنا في بدايته نواجه معضلة لم نجد لها إجابة؛ وهي: كيف بدأتالحياة؟)

قال رجل منا: فما السبب الذي تراه في انهيار هذه النظرية بهذه السرعة والبساطة؟

قال الجواد: السبب الرئيسي لذلك هو أن أصل الحياة معقد للغاية، حتى للكائنات الحية البسيطة.. بشكل لا يصدقه عقل.. فخلية الكائن الحي أعقد بكثير من جميع منتجات التكنولوجيا التي صنعها الإنسان في وقتنا الحاضر، ولا يمكن إنتاج خلية واحدة بتجميع مواد غير حية في أكبر المعامل المتطورة في العالم.

إن الشروط اللازمة لتكوين خلية حية كثيرة جداً، لدرجة أنه لا يمكن شرحها بالاستناد على المصادفات إطلاقاً.

بالإضافة إلى أن الـ DNA الذي يحفظ المعلومات الجينية في نواة الخلية يعد بنكاً هائلا للمعلومات لا يمكن تصور ما فيه، فهذه المعلومات تمثل في تصورنا مكتبة تشتمل على تسع مئة مجلد، وكل مجلد عدد صفحاته خمس مئة صفحة.

وهناك أيضاً ازدواجية أخرى غريبة في هذه النقطة وهي أن الشريط الثاني لDNA لا يمكن تكونه إلا ببعض البروتينيات (الأنزيمات) الخاصة، ولكن إنتاج هذه الأنزيمات يتم حسب المعلومات الموجودة في DNA فقط لارتباطهما الوثيق ببعضهما، فلا بد من وجودهما معاً في الوقت نفسه لكي تتم الازدواجية، فهو يؤدي إلى الوقوع في مأزق الفكرة التي تقول: (إن الحياة قد وجدت من ذاتها)

بالإضافة إلى هذا كله، فإن البروتينات والحموض النووية DNA وRNA التي تمتلك مكونات غاية في التعقيد يتم تكوينهما في الوقت نفسه والمكان نفسه، واحتمال تكوينهما مصادفة مرفوضة تماماً، فلا يمكن إنتاج أحدهما دون أن يكون الآخر موجوداً، وكذلك يكون الإنسان مضطراً إلى الوصول الى نتيجة وهي استحالة ظهور الحياة بطرق كيميائية.

التفت الجواد إلى صاحبنا الدارويني، وقال: إذا كان ظهور الحياة بطريق المصادفة مستحيلاً، فيجب أن نعترف بخلق الحياة بشكل خارق للطبيعة.

ثم ابتسم، وقال: ولكن هذه الحقيقة – للأسف([14]) – تبطل نظرية التطور التي بنت كل مقوماتها التنظيرية على أساس إنكار الخلق.

ظهر البشر على أصحابي جميعا، لكن صاحبنا الدارويني قال: لا بأس.. فحدثنا عن العامل الثاني.

قال الجواد: العامل الثاني الذي نسف هذه النظرية هو عدم وجود أي دليل علمي يدعم فكرة وجود (آليات خاصة للتطور) كوسيلة للتكيف بين الأحياء.

قلنا: كيف ذلك؟

قال الجواد: بعد بحث طويل في الأسفار التي ألفها زعماء هذه النظرية وذيولها لم أر واحدا منهم استطاع أن يثبت في أي مكان في دنيا العلم دعاواهم الكثيرة..

قلنا: كلامك هذا يحتاج إلى توضيح.. فكيف تكون كل تلك الأسفار مبنية على الوهم؟

التفت الجواد إلى صاحبنا الدارويني، وقال: ألم يدع داروين أنّ التطور حدث نتيجة (الانتخاب الطبيعي)؟

قال هَكْسِلِي: بلى.. وقد أعطى أهمية استثنائية لهذا، حتى إنّه سمى كتابه الذي خصصه لهذا الغرض (أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي)

قال الجواد: إنّ مفهوم الانتخاب الطبيعي يستند إلى مبدأ بقاء الكائنات الحية التي تظهر قوة وملاءمة تجاه الظروف الطبيعية، فلو هُدِّد قطيع من الغزلان – مثلا – من قبل الحيوانات المفترسة فإن الغزلان الأسرع في العدو تستطيع البقاء على قيد الحياة، وهكذا يبقى القطيع متألفاً من غزلان أقوياء سريعين في العدو.. ولكن هذه الآلية لا تكفي أن تطور الغزلان من شكل إلى آخر، كأن تحولها إلى خيول مثلاً..

لهذا السّبب لا يمكن تبني (الانتخاب الطبيعي) كوسيلة للتطور، وحتى داروين نفسه كان يعلم ذلك، وقد قال في (أصل الأنواع):( طالما لم تظهر تغييرات إيجابية فإن الانتخاب الطبيعي لا يفي بالغرض المطلوب)

التفت الجواد إلى صاحبنا الدارويني، وقال: أتدري من أوقع داروين في هذا الفخ؟

قال هَكْسِلِي: أجل.. لقد كان داروين متأثرا بمن سبقوه، وخصوصا (لامارك) عالم الأحياء الفرنسي الذي عاش ومات قبل داروين بسنوات.. وقد كان يدعي أن الأحياء تكتسب تغييرات معينة تورثها إلى الأجيال اللاحقة، وكلما تراكمت هذه التغييرات جيلاً بعد جيل أدّت إلى ظهور أنواع جديدة.. وهكذا، فقد كان يرى أنّ الزّرافات نشأت من الغزلان نتيجة محاولاتها للتغذي على أوراق الأشجار العالية عبر أحقاب طويلة.

قال الجواد: لقد أعطى داروين أمثلة مشابهة لهذا في كتابه (أصل الأنواع) فقد ادّعى أن الحيتان أصلها قادم من الدببة التي كانت تتغذى على الكائنات المائية وكانت مضطرة إلى النزول إلى الماء بين الحين والآخر.

قال هَكْسِلِي: ذلك صحيح.

قال الجواد: لكن قوانين الوراثة التي اكتشفها مندل بعد ذلك، والتطور الذي طرأ على علم الجينات في القرن العشرين أدّى إلى نهاية الأسطورة القائلة بانتقال الصفات المكتسبة من جيل إلى آخر..

قال ذلك، ثم التفت إلى هَكْسِلِي، وقال: أليس كذلك؟

سكت هَكْسِلِي، فقال الجواد: لكن الدّاروينين لم يستسلموا لما أثبتته الاكتشافات العلمية.. ولذلك قاموا بتجميع جهودهم أمام المعضلات الفكرية التي واجهوها خصوصاً في ثلاثينيات القرن العشرين.. وقد ساقوا لذلك نظرية جديدة أسموها (نظرية التكوّن الحديث) أو (الداروينية الحديثة)

وحسب هذه النظرية هناك عامل آخر له تأثير تطوري إلى جانب الانتخاب الطبيعي، وهذا العامل يتلخص في حصول طفرات وراثية أو جينية تكفي سبباً لحدوث تلك التغييرات الإيجابية المطلوبة، وهذه الطفرات تحدث إمّا بسبب التعرض للإشعاعات أو نتيجة خطأ في الاستنساخ الوراثي للجينات.

قال هَكْسِلِي: إن هذه النظرية لا تزال تدافع عن نظرية التطور.. وهي ترى أن الأعضاء والتراكيب الجسمية الموجودة لدى الأحياء والمعقدة التركيب كالعين والأذن أو الكبد والجناح وغيرها لم تظهر أو تتشكل إلا بتأثير حدوث طفرات وراثية أو حدوث تغييرات في تركيب الجينات.

قال الجواد: ولكن هذا الادعاء يواجه مطبّاً علمياً حقيقياً؛ وهو أن الطفرات الوراثية دائماً تشكل عامل ضرر على الأحياء، ولم تكن ذات فائدة في يوم من الأيام.

وسبب ذلك بسيط وواضح جداً..

كلكم تعلمون أن جزيئة الـ DNA معقدة التركيب للغاية، وأي تغيير جزيئي عشوائي مهما كان طفيفاً لابد أن يكون له أثر سلبي..

لقد عبر عن هذه الحقيقة العلمية (ب.ج. رانكاناثان) الأمريكي المحتص في علم الجينات، فقال: (إنّ الطفرات الوراثية تتسم بالصغر والعشوائية والضرر، ولا تحدث إلا نادراً، وتكون غير ذات تأثير في أحسن الأحوال.. إنّ هذه الخصائص العامة الثلاث توضح أنّ الطفرات لا يمكن أن تلعب دوراً في إحداث التطور، خصوصاً أنّ أيّ تغيير عشوائي في الجسم المعقد لابدّ له أن يكون إمّا ضاراً أو غير مؤثر، فمثلاً أيّ تغيير عشوائي في ساعة اليد لا يؤدي إلى تطويرها، فالاحتمال الأكبر أن يؤدي إلى إلحاق الضرر بها أو أن يصبح غير مؤثّر بالمرة)

وهذا ما حصل فعلاً؛ لأنّه لم يثبت إلى اليوم وجود طفرة وراثية تؤدّي إلى تحسين البنية الجينية للكائن الحي.. بل إن الشواهد العلمية أثبتت ضرر جميع الطفرات الحاصلة.

التفت إلينا، وقال: وهكذا يتضح أنّ هذه الطفرات التي جعلت سبباً لتطور الأحياء من قبل الداروينية الحديثة تمثل وسيلة تخريبية التأثير على الأحياء، بل تتركهم معاقين في أغلب الأحيان.. وأفضل مثال للطفرة الوراثية الحاصلة لجسم الإنسان هو الإصابة بمرض السرطان.. فلا يمكن والحال هذه أن تصبح الطفرات الوراثية ذات التأثير الضار آلية معتمدة علميا لتفسير عملية التّطور.

ظهر البشر على أصحابي جميعا، لكن صاحبنا الدارويني قال: لا بأس.. فحدثنا عن العامل الثالث.

قال الجواد: العامل الثالث الذي نسف هذه النظرية هو أنّ سّجلات حفريات المتحجرات تبين لنا وجود مختلف الأحياء دفعة واحدة عكس ما تدعيه نظرية التطور.

قلنا: وضح لنا هذا.

قال الجواد:  إن هذه النظرية تدّعي أنّ الكائنات الحيّة مختلفة الأنواع نشأت بعضها من بعضها الآخر، فنوع معين من الكائن الحي من الممكن أن يتحول إلى نوع آخر بمرور الزمن، وبهذه الوسيلة ظهرت الأنواع المختلفة من الأحياء.

وحسب النظرية، فإنّ هذا التحول النوعي استغرق مئات الملايين من السنين.

واستناداً الى هذا الادعاء يجب وجود حلقات وسطى (انتقالية) طوال فترة حصول التحول النوعي في الأحياء.

قلنا: وعينا هذا.. فهل أثبتت الحفريات هذه الحلقات؟

قال الجواد: لا.. لقد أجريت حفريات وتنقيبات كثيرة جداً منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، ولكن لم يعثر على أي أثر لهذه (الأشكال الانتقالية)

بل قد أثبتت المتحجرات التي تم الحصول عليها نتيجة الحفريات عكس ما كان يتوقعه الداروينيون.

قلنا: ماذا أثبتت؟

قال الجواد: لقد أثبتت أن جميع الأحياء بمختلف أنواعها قد ظهرت إلى الوجود فجأة، وعلى أكمل صورة.

التفت إلى صاحبنا الداوريني، وقال: لقد اعترف بهذه الحقيقة أحد غلاة الداروينيّة وهو (ديريك وايكر) الاختصاصي البريطاني في علم المتحجرات قائلاً: (إنّ مشكلتنا الحقيقية هي حصولنا على كائنات حية كاملة، سواء أكانت على مستوى الأنواع أم الأصناف عند تفحصنا للمتحجرات المكتشفة، وهذه الحالة واجهتنا دوماً دون العثور على أيّ أثر لتلك المخلوقات المتطورة تدريجياً)، أي أن المتحجرات تثبت لنا ظهور الأحياء كافة فجأة دون أي وجود للأشكال الانتقالية نظرياً، وهذا طبعاً عكس ما ذهب إليه داروين، وهذا تعبير عن كون هذه الكائنات الحية مخلوقة؛ لأن التفسير الوحيد لظهور كائن حي فجأة دون أن يكون له جد معين هو أن يكون مخلوقاً.

وهذه الحقيقة قبلها عالم أحياء مشهور مثل (دوغلاس فوتويما)، قال معبرا عنها:( إنّ الخلق والتطور مفهومان أو تفسيران سائدان في دنيا العلم لتفسير وجود الأحياء، فالأحياء إمّا وجدت فجأة على وجه البسيطة على أكمل صورة أو لم تكن كذلك، أي أنها ظهرت نتيجة تطورها عن أنواع أو أجداد سبقتها في الوجود، وإن كانت قد ظهرت فجأة وبصورة كاملة الشكل والتكوين فلابد من قوة لاحد لها وعقل محيط بكل شيء توليا إيجاد مثل هذه الكائنات الحية)

التفت إلينا الجواد، وقال: ها هي المتحجرات تنظق بلسان حالها لتخبرنا عن ربها الذي خلقها.. فهلا تؤمنون.

فاضت الدموع من عيني صاحبنا الدارويني، ثم جثا على قدميه أمام الجواد، وقال: بورك فيك.. لقد أنقذني الله بسببك من تلك الأوهام التي كانت تملأ عقلي بالوساوس والخرافات والدجل.. فأذن لي أن أصحبك كما صاحبك هؤلاء العلماء.

***

قلنا: ما دام صاحبكم هذا داروينيا، فكيف ظهر له أن يجلس مع الجواد؟

قال بينيديتو كروتشي: لقد كان له صديق منا.. وقد حدثه عن الجواد.. فجاء وليس في نيته إلا أن يخرب ما يريد أن يبنيه الجواد، لكن الله شاء له برحمته وكرمه أن يكون الجواد سببا في بناء ما تخرب منه.

2 ـ الخلاق

قلنا: عرفنا الاسم الأول.. فحدثنا عن الاسم الثاني.

قال: الاسم الثاني هو الخلاق..

قلنا: ما الفرق بينه وبين اسم الخالق؟

قال: الخالق يدل على أصل الخلق، أما الخلاق، فيدل على المبالغة في الخلق، وهي تتحقق بالتنوع والدوام.

التنوع:

قلنا: فحدثنا عن التنوع.

قال: لقد سار بنا الجواد في الحقول، وأرانا من أنواع الفواكه والخضر ما جعلنا نشعر بأن كل نوع منها حرف من الحروف يتشكل منه اسم الخلاق العظيم..

أنتم تعلمون أن الخضر والفواكه تتميز بالتنوع المذهل، على الرغم من كونها تزرع في التربة نفسها، وتسقى من ماء واحد..

أرانا الجواد الكثير من أنواع الخضر والفواكه، ثم قال: ألا تتعجبون من هذا التمايز بين هذه المخلوقات مع كونها تؤدي وظيفة واحدة؟

إنّ هذه الفواكه والخَضْراوات تمتص الماء والمواد المعدنية نفسها، وتزرع في التربة نفسها، ومع ذلك فهي تحافظ على صفاتها التي وجدت بها أوّل مرة على وجه البسيطة..

إن هذه النباتات لم تكتسب هذه الصفات بمحض إرادتها، وإنّما منحت هذه الصفات من قبل الله تعالى الذي خلقها بقدرته وعلمه..

لقد أشار الله تعالى إلى هذا التنوع فيها مع كونها تسقى من ماء واحد، وتتغذى تغذية واحدة، فقال:{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} (الرعد)

ثم قال لنا: لنفكر قليلاً فيما نتناوله من مأكولات أو في البيئة التي نعيش فيها، ولنأخذ شجرة العنب مثالاً على ذلك.. فهذه الشجرة عبارة عن ساق تبدو يابسة وخشنة، ولها جذر يبدو وكأنه يابس أيضاً، ولكنّ هذه الشجرة تدر على الإنسان كميات كبيرة من ثمر العنب الغضّ الطازج المليء بالعصارة اللذيذة والنكهة المميزة.

ومثل ذلك البطيخ الذي يزرع في تربة يابسة، ولكنّه يدرّ ثمراً مليئاً بالماء في موسم الصّيف بالذات كي يلبي احتياجات الإنسان من السوائل، وشبيهه الشمام الذي ينشر رائحة جذابة تحرك حواس التذوق لدى الإنسان، وتظل هذه الرائحة لمدّة طويلة دون تغير.

ثم قال لنا: إنّ الإنسان يعمل جاهداً لكي يصنع روائح في المعامل تستخدم في شتى المجالات، ولكنّ هذه الروائح الصناعية تحتاج إلى بحوث وإجراءات تقنية عديدة حتى تتمكن من البقاء زمناً أطول.. أما الروائح الطبيعية الموجودة في الفواكه، فلا تحتاج إلى جهود وأبحاث، وإنما تنتج بصورة طبيعية، ويبقى تأثيرها لفترة طويلة.. بالإضافة إلى أن مكوّناتها تتلاءم مع الموسم الذي تكثر فيه.

قال لنا ذلك، ثم قرأ من القرآن الكريم هذه الآية المعجزة:{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) } (النحل)

ثم قال: لا يقتصر التنوع على عالم النبات فقط.. بل إن العاقل يرى التنوع في كل أجناس الكائنات:

فعالم الحيوان مثلا – كما يذكر الباحثون([15]) – أشبه بالمدن الهائلة والشعوب المتعددة الأعراف والأعراق واللغات والعادات والأجناس التي لا حصر لها ويعجز العقل عن تصور أعدادها الهائلة والضخمة وأنسب وصف لهذه الكائنات ذوات الأعداد الهائلة هو مصطلح (الأمم) كما وصفها القرآن الكريم.

فعدد الطيور الجاثمة وحدها أكثر من 5000 نوع، وكل نوع من هذه الطيور هو أيضا أنواع عدة، فمثلا طيور الفران الأمريكية الإستوائية حوالي 221 نوعا صغيرة الحجم نوعا ما، وذوات عادات متنوعة جدا.

وهناك 223 نوعا من الطيور النملية والدج النملي والبيتا النملية مرتبطة ارتباط وثيقا بطيور الفران الأمريكية الجنوبية والوسطى.

أما طيور كوتنجا المزركشة فتضم تقريبا 90 نوعا تقريبا من الطيور المزركشة والمبهرجة جدا.

أما طيور الجنة ـ وسميت بذلك لأن لديها ريشا فاتنا جدا حتى اعتقدوا أنه آت من الجنة ـ فتبلغ أنواعه 42تقريبا.

أما طيور النمانم ـ وهي طيور صغيرة عاملة ـ فتضم أكثر من 60  نوعا، وهي طيور مدهشة جدا لما تصدره من أصوات البقبقة المرتفعة إلى درجة لاتصدق وتنتشر بكثرة في أمريكا.

كما تبلغ أنواع صياد الذباب أكثر من 1200  نوع.

وتضم آكلات الحشرات أكثر من 370 نوعا.

وهناك أكثر من 300  نوع من الطيور المخوضة والنوارس وطيور الأوك.

وتضم طيور زمّار الرمل أكثر من 60 نوعا.

وتبلغ أنواع طيور النورس أكثر من 90  نوعا.

أما أنواع الحمام واليمام فهنالك حوالي 290 نوعا منها موزعة في أرجاء العالم، ويبلغ أنواع الببغاوات أكثر من 500  نوعا.

وتبلغ أنواع البوم أكثر من 123 نوعا.

وتبلغ أنواع طيور الضوع والسبد نحو 90  نوعا.

وتبلغ طيور الرفراف حوالي 87  نوعا تتواجد في أنحاء العالم.

كما يبلغ طير نقّار الخشب أكثر من 200   نوعا في جميع أنحاء العالم.

وفي عالم القرود تبلغ قرود العالم القديم أكثر من 60  نوعا.

وبالنظر إلى الزواحف نجدها أعدادا هائلة جدا وأنواعا لا حصر لها، فالحيات العمياء تبلغ أنواعها 150 نوعا، وهي تعيش وتحيا تحت الأرض.

كما تشتمل مجموعة السلحفيات على السلاحف والحمسات ـ وهي سلحفة المياه العذبة ـ وتضم حوالي 100نوع، وتبلغ أنواع السحالي العملاقة أكثر من 700 نوع في مناطق العالم الجديد.

وتبلغ أنواع الحرباء حوالي 85 نوعا كما تبلغ السحالي السامة حوالي 3000 نوعا من السحالي ونوعان فقط منها  يفرزان السم وهي السحالي المخرزة والهيلية.

والأفاعي أيضا أنواع شتى، منها السام، ومنها غير السام، وهي متعددة الأشكال والألوان، فنوع منها فقط، وهي أفاعي الكوبرا  والممبا  تبلغ أكثر من 200 نوع تقريبا.

كما تشتمل الحيات الخبيثة على حوالي 100 نوع، وتقول بعض المصادر العلمية أن عدد  أنواع الثعابين الحالية أكثر من 2700 نوع ثلثها فقط سام.

أما الخنافس فتضم أكثر من 300 ألف نوع.

وأما الثدييات عموما فتضم أكثر من 4200 نوع.

وتبلغ الخفافيش حوالي 900 نوع أو أكثر.

وتضم فصيلة الكنغر والولبات حوالي 55 نوعا متفاوتا في الحجم.

كما تضم مجموعة السنوريات حوالي 36 نوعا تعيش تقريبا في كافة أنحاء العالم عدا أستراليا والقطب الجنوبي، ويبلغ نوع سنور الزباد والرّباح والنمس حوالي 80 نوعا.

وهكذا يعتقد العلماء بإمكانية وجود أكثر من عشرة ملايين نوع أو جنس من الحيوانات في العالم، ومع ذلك، فقد تكون هناك أنواع أخرى أكثر بكثير بانتظار اكتشافها.

الدوام:

قلنا: حدثتنا عن التنوع.. فحدثنا عن الدوام.

قال: إن الخالق العظيم دائم الخلق([16]).. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } (ابراهيم:19)، وقال:{  إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ }  (فاطر:16)، وقال:{  إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً } (النساء:133)

وعندما تعجب زكريا u من أن يكون له ولد بعد أن كبرت سنه، وكانت امرأته عاقرا رده الله إلى مشيئته، قال تعالى:{ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } (آل عمران:40)

وعندما تعجبت مريم ـ عليها السلام ـ ردها الله إلى المشيئة، قال تعالى:{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (آل عمران:47)

أتدرون سر ذلك؟

قلنا: ما سره؟

قال: سره بسيط، فالمبدع العظيم لا يحتاج لما نحتاج إليه نحن من الجهد والعناء، فهو سبحانه بمجرد توجه مشيئته لخلق شيء يكون.. ولهذا فإن كل ما نراه من أشياء ناتج عن خضوعها لأمر الله الواحد { كُنْ  }، قال تعالى:{  بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (البقرة:117)، وقال:{  إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النحل:40)، وقال:{  إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يّـس:82)، وقال:{ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (غافر:68)

 3 ـ البارئ

قلنا: عرفنا الاسم الثاني.. فحدثنا عن الاسم الثالث.

قال: الاسم الثالث هو البارئ..

قلنا: فما معنى هذا الاسم؟.. ومادلالته التي تفرقه عن سائر الأسماء؟

قال: هذا الاسم يدل على معان متعددة فسرها لنا الجواد:

منها دلالته على أن الله تعالى خال من أي نقص وعيب وتهمة ومذمة، وقد سبق لأخينا (فريدريك ماكس مولر) أن فسر لنا ذلك عند تعريفنا باسم الله (القدوس)

ومنها دلالته على أن أفعال الله خالية من كل عيب، بل كلها في منتهى الكمال.. لقد ذكر لنا الجواد عند بيانه لهذا المعنى مقولة مهمة للغزالي لا أزال أذكرها جيدا.. قال فيها: (لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم، وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم، وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها، ثم زاد مثل عدد جميعهم علماً وحكمة وعقلاً، ثم كشف لهم عن عواقب الأمور وأطلعهم على أسرار الملكوت وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر، ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم، لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزاد فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة، ولا أن ينقص منها جناح بعوضة، ولا أن يرفع منها ذرة ولا أن يخفض منها ذرة، ولا أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به، ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم الله به عليه، بل كل ما خلقه الله تعالى من السموات والأرض – إن رجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر – ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور، وكل ما قسم الله تعالى بين عباده من رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية، فكله عدل محض لا جور فيه، وحق صرف لا ظلم فيه، بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي، وكما ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، وليس في الإمكان أصلاً أحسن منه ولا أتم ولا أكمل، ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخلاً يناقض الجود وظلماً يناقض العدل، ولو لم يكن قادراً لكان عجزاً يناقض الإلهية، بل كل فقر وضر في الدنيا فهو نقصان من الدنيا وزيادة في الآخرة، وكل نقص في الآخرة بالإضافة إلى شخص فهو نعيم بالإضافة إلى غيره، إذ لولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا المرض لما تنعم الأصحاء بالصحة،.. وما لم يخلق الناقص لا يعرف الكامل، ولولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنس، فإن الكمال والنقص يظهر بالإضافة، فمقتضى الجود والحكمة خلق الكامل والناقص جميعاً)([17])

ولا أزال أذكر معها كذلك مقصورة رددها أمامنا شاب من طلبة العلم من طرابلس الشام جاء زائرا للجواد كان اسمه (رشيد رضا)، ومما قال فيها([18]):

تبارك البارئ مبدع الورى

  بالحق والحكمة عن ظهر غنى

أحكم ربي ما براه فانبرى

  مستحصف المرير مشدود العرى

أنشأ في الدخان كل صورة

  فسمك السماء والأرض دحا

(وكان عرشه على الماء) الذي

  أنشأ منه كل حي وبرا

وخلق الأشياء أزواجا ومن

  ذرية الزوجين يذرو ما يشا

ثمت (أعطى كل شيء خلقه)

  بقدر استعداده (ثم هدى)

فكل شيء عنده بقدر

  لا أنف مبتدأ ولا سدى

فابعث رسول الطرف منك رائدا

  يجوب أجواز البحار والفلا

واسر به للأفق في مراصد

  معراجها يدني إليك ما نأى

وسرح الفكر ربيئا ثانيا

  لمسرح الأرواح يسعى والنهى

حتى إذا جاسا خلال الدار من

  حس إلى نفس وروح وحجا

سائلهما هل ثم من تفاوت

  أو خلل في البدء كان أو عرا

إني وتلك مظهر للحق في

  صفاته وما تسمى من سما

(فليس في الإمكان) أن يجري بها

  أبدع مما كان) قبل وجرى

(ثم ارجع) الطرف إليها (ينقلب

  إليك) خاسئا حسيرا قد عشا

يتل عليك الآي (صنع الله) من

  أتقن كل) ما رأيت وترى

ثمت يتل (قد خلت من قبلكم)

  من سنن الحكيم في هذا الورى

وأنهن سنن ثابتة

  مثل نظام الشمس فاتل (والضحى)

قام بهن أمر كل عالم

  في أرضنا وفي السماوات العلى

ما ثم تبديل ولا تحويل عن

  شيء ولا قوم فهم فيها سوى

ناهيك بالإنسان في اجتماعه

  طردا وعكسا وأماما وورا

يجري على حكم تنازع البقا

  في أرجح الأمرين نشأ وارتقا

كراسب الإبليز والإبريز إذ

  يذهب طافي زبد الماء جفا

وسنة النتاج بالزواج بل

  كل تولد تراه في الورى

ومن المعاني التي ذكرها لنا الجواد لهذا الاسم (الإيجاد بعد التقدير على الهيئة المخصوصة)، وقد قرأ لنا كثيرا من النصوص المقدسة الدالة على هذا المعنى..

ومن ذلك ما ورد في القرآن عند ذكر نعم الحواس، ففيه:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ( (الأنعام:46)

ومن ذلك ما ورد عند ذكر نعمة الليل والنهار:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ(71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ(72) } (القصص)

أو لو شاء فجعل الماء غورا:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ( (الملك:30) 

أو لو شاء جعل الرياح ساكنة:{ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ( (الشورى:33)

وقد صادف عند ذكره لهذا حضور بعض العلماء، وكان مما قاله تعليقا على ما قرأ الجواد من الآيات: لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي عليه بمقدار بضع أقدام لامتص ثاني أكسيد الكربون والأكسجين ولما أمكن وجود الحياة.

ولو كان الهواء أقل ارتفاعا مما هو عليه فإن بعض الشهب التي تحترق بالملايين كل يوم في الهواء الخارجي كانت تضرب في جميع أجزاء الكرة الأرضية وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق.

ولو أن شمسنا أعطت نصف إشعاعها الحالي لكنا تجمدنا ولو أنها زادت بمقدار النصف لكنا رمادا منذ زمن بعيد.

ولو كان قمرنا يبعد عنا 20000 ميلا بدلا من بعده الحالي ولم لا وقمر المريخ يبعد عنه 60000 ميل لكان المد يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأرضي تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح الجبال نفسها.

ولو كان ليلنا أطول مما هو عليه الآن عشر مرات لأحرقت شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار وفي الليل يتجمد كل ما نبت على الأرض.

ولو كان الأوكسجين بنسبة 50 بالمئة أو أكثر من الهواء بدلا من 21 بالمئة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال لدرجة أن أول شرارة في البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة كلها ولو كانت نسبة الأوكسجين 10 بالمئة لتعذر أن يكون التمدن الإنساني على ما هو عليه اليوم.

ولولا المطر لكانت الأرض صحراء لا تقوم حياة عليها فلولا الرياح والبحار والمحيطات لما كانت حياة ولولا أن الماء يتبخر بشكل يخالف تبخر الملح لما كانت حياة ولولا أن البخار أخف من الهواء لما كانت الحياة.

ولو كانت مياه المحيطات حلوة لتعفنت وتعذرت بعد ذلك الحياة على الأرض حيث إن الملح هو الذي يمنع حصول التعفن والفساد ولولا أن الكلور يتحد مع الصوديوم لما كان ملح وبالتالي ما كانت حياة.

ولو كانت الأرض كعطارد لا يدير إلا وجها واحدا منه نحو الشمس ولا يدول حول محوره إلا مرة واحدة في خلال الدورة الكاملة للشمس أو بتعبير آخر لو كان قسم من الأرض ليلا دائما والآخر نهارا دائما لما عاش أحد حيث الليل قائم أو النهار دائم ولا كانت حياة.

ولو لم تكن قوانين الجاذبية موجودة فمن أين تلتقي الذرات وجزيئات الذرات ومن أين تكون الشمس شمسا والأرض أرضا ولو كانت فمن أين تبقى في مكانها الحالي ولو بقيت فكيف تكون الحياة وكيف يسير الإنسان.

وبوجود قانون الجاذبية لو كانت الأرض صغيرة كالقمر أو حتى لو كان قطرها ربع قطرها الحالي لعجزت عن احتفاظها بالغلافين الجوي والمائي اللذين يحيطان بها ولصارت الحرارة بالغة حد الموت.

ولو كانت الإلكترونات ملتصقة بالبروتونات داخل الذرة والذرات ملتصقة ببعضها بحيث تنعدم الفراغات لكانت الكرة الأرضية بحجم البيضة فأين يمكن أن يكون الإنسان وغيره وعندما تكون المسألة كذلك يتغير كل ما نشاهده الآن على فرض وجود جرم بحجم الأرض بدون فراغات بين جزيئات ذراته.

ولو كانت العناصر لا تتحد مع بعضها لما أمكن وجود تراب ولا ماء ولا شجر ولا حيوان ولا نبات إن مواقع الإلكترونات في غلاف الذرة أي في المدار الخارجي تنتظم في ترتيب معين فهي لا تزيد عن ثمانية إلكترونات إلا في المدار الأول فإنه لا يتسع لأكثر من إلكترونين فإذا بلغ عدد الإلكترونات في المدار الأخير الثمانية يفتتح مدار آخر فمثلا إذا كان للعنصر أحد عشر إلكترونا اتخذ اثنان المدار الأول والمدار الثاني يتسع لثمانية فقط فيتخذ الإلكترون المتبقي مدارا ثالثا وهكذا بحيث لا تزيد إلكترونات المدار الخارجي عن ثمانية علما بأن بعض المدارات الداخلية تتسع لأكثر من ثمانية إلكترونات واتحاد العناصر ببعضها يتماشى على أساس هذا الترتيب ذلك أن اتحاد العناصر يتم بواسطة الاتحاد بين إلكتروناتها فإذا كان عدد إلكترونات المدار الخارجي للعنصر أقل من ثمانية فإنه يستطيع أن يتحد مع عنصر آخر فالذي في مداره الخارجي سبعة يتحد مع الخارجي إلكترونان أما الذي في مداره الخارجي ثمانية فهو خامل ولا يستقبل إلكترونا واحدا.

ولولا قوانين الحرارة لما بردت الأرض ولما كانت صالحة للحياة.

ولولا الجبال لتناثرت الأرض ولما كان لها مثل هذه القشرة الصالحة للحياة.

ولولا أن في الأرض أرزاقها لما استمرت الحياة.

وهكذا..

4 ـ المصور

قلنا: عرفنا الاسم الثالث.. فحدثنا عن الاسم الرابع.

قال: الاسم الرابع هو المصور..

قلنا: فما يعني هذا الاسم؟

قال: كما أن الإبداع لا يكون إلا بإحداث ما لم يكن.. فإن من الإبداع – كذلك – لا يكمل إلا بتصوير ما أبدع علي هيئة خاصة تميزه عما سواه..

لقد ذكر لنا الجواد أن النصوص المقدسة عبرت عن هذا المعنى باسم من أسماء الله الحسنى هو (المصور).. وقد أخبرنا كذلك أنه ورد فيها الدلالة على أن الله هو مبدع جميع ما نراه من صور الكائنات وهيئاتها.

ففي القرآن يمن الله على عباده بأنه عدل صورهم في نفس الوقت الذي كان قادرا على تشويهها، قال تعالى:{ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } (الانفطار:7 ـ 8)

وقال عن مشيئته المرتبطة بتصوير الجنين:{ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (آل عمران:6)

وقال يمن على عباده بقوة أجسامهم وسلامتها:{ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } (الانسان:28)، وقد ورد عن ابن عباس في تفسيرها:( لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها)

ويذكر القرآن تنوع الكائنات في طريقة مشيها، ويستدل بذلك على طلاقة مشيئته، قال تعالى:{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (النور:45)

وينبه القرآن إلى النظر في أطوار الخلق التي يمر بها الإنسان ليعاين طلاق المشيئة الإلهية في التصوير، قال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ( (الروم:54)

ويذكر القرآن الصور المختلفة والطاقات المختلفة الموهوبة للملائكة ـ عليهم السلام ـ وينبه بذلك إلى طلاقة مشيئته، قال تعالى:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (فاطر:1)

سكت (بينيديتو كروتشي) قليلا، ثم قال: لا أزال أذكر ذلك اليوم جيدا.. لقد كان الثلج يتساقظ بغزارة.. وقد كسا بلونه الأبيض الجميل جميعا ما نراه فأحاله إلى منظر ممتلئ جمالا.. قال لنا الجواد حينها: انظروا إلى المصور العظيم كيف كسا الكون بهذه الحلة الجديدة الجميلة..

أذكر جيدا أني قلت حينها: إن الأمر لا يقتصر على ظاهر ما نراه.. فكل بلورة من بلورات هذا الثلج تأخذ شكلا خاصا.. ويعتقد الباحثون أنّ متراً مكعباً من الثلج يحتوي على 350 مليون بلورة، وهذه البلورات جميعها تتّخذ شكل مضلّع سداسي، بيد أنّ هذه المضلّعات السّداسية تختلف فيما بينها من ناحية الشكل الذي تتّخذه..

إنّ هذه البلورات الثلجية التي تتجمع لتأخذ أشكالاً عديدة مثل الصّحون الصغيرة والكبيرة، أو الشكل النجمي أو حتى الشكل الدقيق جداً الذي يشبه رأس إبرة تحقق هذا الاختلاف في التشكل بوسيلة مثيرة للحيرة في العقول..

وقد جلب هذا التركيب البلوري لحبات الثلج انتباه الباحثين منذ سنوات عديدة.. فقد أجريت الأبحاث ومازالت مستمرة منذ سنة 1945 لاكتشاف العوامل التي تشكل هذه البلورات بهذه الأشكال المختلفة.. فحبّة الثلج تتألف من أكثر من مئتي بلورة ثلجية، والبلورات الثلجية هي عبارة عن مجموعة من جزيئات من الماء مرتبة ومنظمة بتناسق باهر فيما بينها.. وتوصف هذه البلورات الثلجية بأنها بناء معماري بارع جداً.

وفي يوم آخر، وأمام فراشة جميلة، قال لنا الجواد: انظروا إلى هذه اللوحة الرائعة.. إنها من تصوير المصمم البديع.. انظروا، فلن تجدوا أبداً أي خلل في ترتيب ألوانها وتنسيقها مهما كان صغيراً جداً.. انظروا إلى ألوانها المثيرة الجذابة إنها تبعث الحيرة والإعجاب في نفوسنا.

ثم قال: إنّ هذه الفراشات ليست مثيرة بألوان أجنحتها فحسب، بل لها خصائص أخرى عجيبة وغريبة ولافتة للانتباه، فأجسامها ذات تصميم خارق من كافة الوجوه.. فهي تقتات على ما تمتصه من رحيق الأزهار، وكثيراً ما تقتات على الرحيق الموجود في أعماق الأزهار بواسطة أعضاء طويلة في أجسامها تدعى ببروبوسيس، وهو عضو شبيه باللسان يستخدم لامتصاص الرحيق في الأزهار أو لشرب الماء، وعندما لا تكون الفراشات في حاجة إلى استعمال هذا اللسان تطويه إلى الداخل، وعند إطلاق هذا اللسان بطوله يصبح طول الفراشة ثلاثة أضعاف طولها الأصلي.

وفي يوم آخر، وأمام طائر الغرنوق قال لنا الجواد: إن ريش هذا الطائر يتكون من نصل وعلى جانبه 650 ريشة ناعمة، وفي كل ريشة توجد 600 رويشة متقابلة، وفي كل رويشة يوجد 390 خطافاً تربط الرويشات بعضها ببعضها الآخر، وهي تبدو مثل سحّاب الملابس في ارتباطها بعضها ببعض.. وهذه الرويشات ترتبط بقوة ومتانة إلى درجة أنّ الدّخان المنفوث لا يستطيع النفاد من خلالها.. وإذا حدث وأن انفصلت الرويشات بعضها عن بعض، فإنّ الطّير ينقض عليها بمنقاره بسرعة ويعيدها إلى وضعها الطبيعي.

إنّ هذه الطريقة في تركيب ريش الطير مهمة جداً في عملية الطيران، فالذي يكسب الطير المقدرة على الطيران هو عدم نفاد الهواء من خلال الريش..

ومن المزايا الأخرى لريش الطيور، والتي تخطف النظر أيضاً، تلوّنه بألوان مختلفة.. ومصدر هذه الألوان هو بعض الصبغات الجلدية التي تتكون في جسم الطير في مراحل تكوّن الريش، إضافة إلى تأثر الجسم بألوان الوسط الذي يعيش فيه الطير.

إنّ ريش الطير يتألف من مادة الكاراتين، وهذه المادة معرضة للتلف تحت ظروف البيئة المختلفة، لذا فإن الريش يتم تجديده بين كل مدة وأخرى؛ إلا أنّه بعد كل مدة تجديد يكتسب الطير الألوان الزاهية في ريشه مرة أخرى لأنّ الريش يستمر في النّمو حسب نوع الطير ولون ريشه والنقوش الموجودة عليه حتى يكتمل هذا النمو.. وإن هذا التلون في الريش والتصميم المدهش في تركيبه دليلان بارزان على بديع صنع الله وجميل خلقه وسعة علمه جل جلاله.

وفي يوم آخر، وأمام مرآة صادفتنا وقف الجواد طويلا، ثم قال لنا: انظروا إلى وجوهنا على هذه المرآة.. ألا ترون التناظر الرائع بين العناصر المكونة للوجه؟

إن هذا التناظر الجميل سمة من سمات الجمال التي يمتلئ بها الكون..

إن الكائنات الحية جميعا تمتلك تركيباً منتناظراً.. انظر إلى الأحياء البحرية تجدون التناظر الرائع نفسه، فالأسماك مثلاً والسرطانات البحرية وبراغيث البحر والقشريات البحرية وغيرها.. كلها تملك هذا التركيب المتناظر الجميل.

 إن دعاة نظرية التطور الذين يتبنون فكرة المصادفة في وجود الكائنات يعجزون عن إيجاد تفسير منطقي أمام هذا الترتيب والتناظر المنظم والتنوع المدهش للألوان، بل هم يظلون عاجزين أمام هذه الظواهر الخارقة في إرجاع سبب وجودها إلى فكرة المصادفة السّمجة.. وحتماً سيمكثون في عجزهم هذا مهما كانت ادعاءاتهم التي يحاولون بها تفسير هذا التنوع المدهش في الألوان والنقوش، وهذا التناظر والترتيب الخارقين.

وهذه الحقيقة سيتوصل إليها كل ذي عقل مدرك.. حتى تشارلز داروين مؤسس نظرية التطور اضطر إلى الاعتراف بالعجز التام أمام هذه الحقيقة، فقد قال: (لا أعتقد أن الانتخاب الطبيعي كان الوسط الذي حدث داخله ظهور حوادث طبيعية مثل البريق اللوني أو حضانة ذكور الأسماك للبيض أو ظهور إناث الفراشات ذات اللمعان الأخاذ)

إن أي إنسان عاقل مدرك لا يستطيع أن يدعي أن المصادفة كانت سبباً في ظهور هذه المظاهر الجميلة الزاهية في الطبيعة، مثل الفراشات الملونة الجذابة والأزهار كالبنفسج والورود المختلفة وثمار الفراولة وحبّات الكرز وطيور الببغاء وطيور الطاووس وحتى النّمور. فهذه الكائنات قد منحت هذه الصفات الجميلة من قبل الله الخالق الفاطر القادر على كل شيء.

5 ـ المغني

قلنا: عرفنا الاسم الرابع.. فحدثنا عن الاسم الخامس.

قال: الاسم الخامس هو المغني..

قلنا: ما يعني هذا الاسم؟

قال: هو يعني أن الله خالق هذا الكون ومبدعه قد وفر لكل كائن جميع ما يحتاجه، فأغناه به عن سواه.

قلنا: فحدثنا كيف تعرفتم على هذا الاسم؟

قال: كنا ذات يوم مع الجواد في مأدبة غداء.. وقد زارنا حينها، ولأول مرة عالم من علماء البيئة الحيوية، كان اسمه (إلتون)([19])قدم به أحد رفاقنا بعد أن ملأه شوقا لأحاديث الجواد.

في مأدبة الغداء.. التفت الجواد إلى رفاقي، وقال: ألا تقرؤون في هذه الوجبة التي من الله بها علينا شيئا؟

قلنا: وما تقرأ أنت؟

قال الجواد: أنا أقرأ هذه اللحظة في سطور هذه الوجبة اسم (المغني).. إنه اسم مكتوب في كل لقمة نأكلها، أو شربة نشربها.

قلنا: كيف ذلك؟

قال الجواد: بما أن البروفيسور الكبير (إلتون) قد شرفنا بزيارته اليوم، فسنحاول من خلال المعارف التي علمه الله إياها أن نتعلم كيف نقرأ هذا الاسم في سطور هذه النعم التي أفاضها الله علينا، فقد قال تعالى:{ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} (فاطر)

قال ذلك، ثم التفت إلى إلتون، وقال: أخبرني – سيادة البروفيسور- عن هذا الطعام الذي نأكله.. هل هو نافلة نستطيع أن نستغني عنها.. أم أنه شيء أساسي ضروري لا يمكن الاستغناء عنه بحال من الأحوال؟

قال إلتون: لاشك أن الطعام ضروري.. ولا أحسب أن هذا يحتاج إلى أي خبرة أو أدلة لإثباته.

قال الجواد: الخبرة ليست في إثبات هذا.. ولكن في إثبات وجه الضرورة فيه.

قال إلتون: صدقت.. فهذه الأشياء يعرفها المختصون.

قال الجواد: فاذكر لنا وجه الضرورة لهذا الطعام.

قال إلتون: إن جسم الإنسان يحتاج لنموه وحركته، ولكي يكتسب وقاية من الأمراض إلى توفير كميات مستمرة من المواد الغذائية لتدخل إلى كل خلية في الجسد.

قال الجواد: فما هذه المواد؟

قال إلتون: هي كثيرة أهمها الزلاليات (البروتينات)، والأملاح، والمواد النشوية، والدهنية، والفيتامينات والماء.. كما أن كل خلية بحاجة إلى إخراج دائم لبقايا التفاعلات الكيماوية وفضلاتها وإلا أهلكتها تلك البقايا والفضلات.

قال الجواد: فهل العملية التي تتم بها توفير هذه الآليات يسيرة سهلة، أم معقدة صعبة؟

قال إلتون: بل هي معقدة صعبة.. إن إمداد الكائنات الحية بهذه المواد يستدعي أمرين.. لا يمكن أن تتم التغذية من دونهما..

قال الجواد: فما هما؟

قال إلتون: أولهما المواد الضرورية التي يحتاج إليها الجسم، وبالكمية المناسبة.. والثاني الأجهزة التي لها القدرة على استعمال هذه المواد وتمثيلها في الجسم..

المواد:

قال الجواد: فحدثنا عن الحاجة الأولى.

قال إلتون: إن جسمنا – لكي يستطيع أن يحافظ على سلامته وقوته- يحتاج – كما ذكرنا – إلى المواد الصالحة لغذاء الخلايا.. وهي تتمثل في الأحماض الأمينية.. والمواد السكرية.. والمواد الدهنية.. والفيتامينات.. والأملاح.. والماء.

قال الجواد: فأين نجد هذه المواد الضرورية لحياتنا؟

قال إلتون: إن معظمها – ما عدا الماء- يوجد في صورة مركبة معقدة في مختلف النباتات أو لحوم الحيوانات، التي تغذت على هذه النباتات، أو ألبانها..

قال الجواد: فالمصدر الأصلي ـ الخام ـ لما ذكرت من مواد غذائية هو هذه النباتات التي تكسو الأرض؟

قال إلتون: أجل.. فالنباتات هي المواد الخام التي يتشكل منها الغذاء.

قال الجواد: فمن أين للنبات كميات الغذاء الهائلة اللازمة لتغذية كل كائن حي؟

قال إلتون: أولا.. هناك البذور.. أو (الأصول النباتية).. ونحصل عليها من نباتات سابقة.. والنباتات السابقة من بذور وأصول سابقة.. وهكذا.. حتى نصل إلى الأصل الأول لهذه النباتات المتنوعة.

ثم هناك التربة الصالحة للزراعة بكميات هائلة تكفي لحاجة كل الكائنات الحية.

ثم هناك الماء، وهو موفر بكميات تكفي حاجة كل الكائنات الحية، وهو ميسر أيضا، فيمكن أخذه من الأنهار الجارية، أو العيون، أو الآبار، أو المياه الجوفية المخزونة قريباً من سطح الأرض.. وأصل هذا الماء تلك الأمطار التي تنزل من السحب على الأرض باستمرار بمعدل (16 مليون طن في كل ثانية).. وهي تساعد الحياة كثيرا باعتبارها تنزل سيولاً هائلة في شكل نطف صغيرة، لا تضر زرعاً، ولا إنساناً ولا حيواناً.

ثم هناك الهواء.. فبغير الهواء لا تنبت نبتة على وجه الأرض.. والهواء الصالح لتكوين الغذاء هو (ثاني أكسيد الكربون) الذي نخرجه من أجسامنا ومن أجسام كل الحيوانات، وبهذا يكون الإنسان والحيوانات مصدراً لمادة من المواد الخام اللازمة لصناعة الطعام.

ومن دقائق الخلق والتقدير أن (ثاني أكسيد الكربون) لو بقي في الجو لخنق كل كائن حي، ولكن النباتات تأخذه باستمرار، وتخرج لنا (أكسجين) عوضاً عن الذي استهلكناه في أجسامنا.

ثم هناك ضوء الشمس، الذي يأخذه النبات من الشمس بواسطة المادة الخضراء الموجودة في خلايا النباتات، والذي يصل إلى وجه الأرض بالقدر الكافي، المناسب للحياة، فلو بعدت عنا الشمس نصف المسافة لتجمد كل نبات وكل حي، ولو قربت نصف المسافة بيننا وبينها لاحترق كل كائن حي.

ثم هناك ما يسمى (المصانع الخضراء) في النبات.. وهي مصانع عجيبة تدخل إليها هذه المواد الخام من أملاح وماء وهواء وضوء شمس.. فتصنع منها جميعا سكراً يتحول إلى مختلف المواد الغذائية من نشويات ودهون وبروتينات وفيتامينات.. وذلك بواسطة إنزيمات مركبة خاصة، وتفاعلات كيماوية دقيقة مرتبة.

وهذه المصانع الخضراء عبارة عن نقط خضراء صغيرة تسبح في بعض خلايا النبات، وخاصة خلايا الأوراق.. وينتج النبات من هذه المصانع الخضراء كميات وفيرة هائلة تكفي لتصنيع المواد الخام السابقة إلى أغذية مناسبة صالحة كافية لغذاء كل الكائنات الحية.

ومن بديع صنع هذه المصانع أنها تقوم بعملها في عمليات كيماوية طويلة متلاحقة، وفي سلسلة متتابعة في الخطوات حتى يكون الناتج هي تلك الثمار اللذيذة الشهية التي ليست إلا مخازن، خزن فيها الغذاء وأحكم حفظه فيها.

قال الجواد: فكيف يتسنى للنبات الحصول على ما ذكرته من مواد خام ليسلمها بعد ذلك إلى هذه المصانع؟

قال إلتون: إن ذلك – أيضا- يتم عبر عملية معقدة من الصعب أن نفصل الحديث عنها في هذا المجلس.

قال الجواد: فهلا اختصرتها لنا.

قال إلتون: أما الماء.. فقد عرفنا أنه يصل إلى التربة التي تتشربه..

وأما الأملاح، فهي تذوب في التربة مكونة محلولاً مائياً.. وتقوم الماصات الجذرية الموجودة في البذور النباتية، بامتصاص الماء والأملاح الذائبة فيه بقوة (الضغط الأسموزي).. ثم تقوم هذه الماصات الجذرية بتوصيل الماء والأملاح الذائبة إلى أنابيب خاصة موجودة في الجذور قد أعدت لاستقبال الماء والأملاح، ورفعه إلى شتى أجزاء النبات، حيث يصل في فروع صغيرة إلى المصانع الخضراء الصغيرة.

أما الهواء، فيدخل إلى المصانع النباتية بواسطة ثغور صغيرة قد أعدت بإحكام، وتنتشر في الطبقة السطحية للأوراق، وقد خلق الخالق سبحانه خليتين حارستين أو أكثر تقوم هذه الخلايا بدور البواب الذي يفتح ويقفل بنظام، وبحسب الحاجة.

وأما الضوء، فيصل رأساً إلى المصانع الخضراء المنتشرة في أجزاء النبات فوق سطح الأرض.. وقد كان تصميم وضع النبات متناسباً مع هذا الطلب منذ أن خرج ذلك الجزء النباتي من البذرة المنبتة الذي شق الأرض وترابها إلى أعلى، لا إلى أسفل كما يفعل الجزء الثاني الذي سيكون الجذر، ويحمل معه أصول الأجزاء النباتية العليا من ساق، وأغصان، وأوراق، وأزهار، وثمار.. ولا يخطئ حامل الأوراق هذا في اتجاهه، كما لا يخطئ الجزء الذي سيكون الجذر حتى لو وضعت البذرة مقلوبة، فإن حامل المصانع الخضراء يعرف طريقه دائماً إلى أعلى، حيث يوجد ضوء الشمس.

الأجهزة

قال الجواد: لقد عرفنا كيف وفر الله الحاجة الأولى.. وهي تحضير المواد التي يحتاج إليها الجسم لتوفير غذائه.. فهل يكفي ذلك لحصول الغنى؟

قال إلتون: لا.. الموجود في النباتات مواد خام، لا تصلح رأساً لتغذية خلايا الجسم مباشرة..

قال الجواد: فقد انبعثت حاجة جديدة إذن؟

قال إلتون: أجل.. إنها الحاجة إلى أجهزة خاصة، ومواد خاصة تقوم بإعداد هذه المواد الخام، وتحويلها إلى مواد صالحة مناسبة لغذاء الخلايا.. ثم توصيلها لمحالها من الجسم إذ لا معنى لتوفير المواد المطلوبة دون توصيلها إلى المكان المطلوب.

قال الجواد: فكيف وفرت هذه الحاجات؟

قال إلتون: لقد أعدت في جسم الإنسان وجميع الحيوانات أجهزة كاملة دقيقة لا عمل لها إلا تغطية ما تتطلبه هذه الحاجات..

قال الجواد: فهلا ذكرت لنا بعضها.

قال إلتون: أولها (الجهاز الهضمي).. والذي يبدأ بالفم، وفيه يقطع الطعام (الخام) إلى قطع صغيرة بواسطة الأسنان التي تحركها عضلات المضغ، ثم يطحن لكي يسهل هضمه، كما أن هضماً جزئياً يبدأ بواسطة اللعاب الذي تفرزه غدد خاصة موجودة في الفم، والذي يساعد بلزوجته على انزلاق اللقمة في المريء إلى المعدة، ويقوم اللسان بعملية تقليب الطعام في الفم ليتم خلطه باللعاب، ثم قذف اللقمة إلى البلعوم.

ثم ترمي اللقمة إلى الحنجرة حيث يفتح لها لسان المزمار باب المريء، ويسد عليها باب القضية الهوائية، وتنزلق اللقمة إلى المعدة بواسطة حركات دودية في المريء كما يساعدها على الانزلاق ما يفرزه المريء من إفرازات مخاطية.

وفي المعدة تستمر عملية الهضم، حيث يتحول الطعام إلى سائل يسمى (سائل الكيموس) الذي تفتح له فتحة البواب في المعدة، ويتجه إلى الاثنى عشر حيث تستمر عملية الهضم التي هي تحويل المادة الخام من الطعام إلى مادة مناسبة صالحة لتغذية خلايا الجسم، ثم منها إلى الأمعاء الدقيقة، حيث تستكمل عمليات الهضم النهائية فتصبح المواد الزلالية أحماضاً أمينية، والمواد النشوية سكراً، والمواد الدهنية أحماضاً دهنية وجلسرين..

قال الجواد: فقد تحولت المواد الخام إلى المواد في هذا الجهاز.. فهل يكفي ذلك؟

قال إلتون: لا.. لا يكفي ذلك فإن الطعام بهذه الصورة يحتاج إلى أعضاء أخرى تقوم بتوزيعه إلى الجسم بحسب حاجاته.

قال الجواد: فما هذه الأعضاء؟

قال إلتون: هي تجتمع في جهاز يسمى (الجهاز الدوري).. وهو يقوم بدوريات هائلة، مستمرة في الدماء، تقوم بالدوران على كل جزء، وكل نقطة في الجسم، فتأخذ من كل نقطة ومن كل جهاز ما هو مكلف بإعداده.. وتقوم هذه الدوريات بإيصاله إلى المكان الخاص الذي أعدله في الجسم.. ولذلك فهذه الدوريات تمر على الأمعاء الدقيقة، كما تمر على المعدة والمريء والفم، ولكنها لا تأخذ الطعام إلا من الأمعاء الدقيقة حيث تمت عمليات الهضم.

ولهذا الجهاز الدوري محطة ضخ مركزية، هي القلب الذي يقوم بإرسال هذه الدماء المتدفقة باستمرار.. ويمكنك أن تضع يدك الآن على قلبك لتحس عمله الجاد في إرسال هذه الدماء الدائرة إلى استقبالها مرة ثانية، وذلك في أضخم شكة مواصلات على الأرض.

قال الجواد: فهل يكفي ذلك؟

قال إلتون: لا.. الجسم ما زال يحتاج إلى جهاز آخر اسمه (الجهاز اللمفاوي)

قال الجواد: فما هو؟.. وما دوره؟

قال إلتون: الجهاز اللِّمفاوي([20]) هو شبكة من الأوعية الدقيقة التي تشبه الأوعية الدموية.. وهو يقوم بإعادة السوائل من أنسجة الجسم إلى مجرى الدم.. وهذه العملية ضرورية، لأن ضغط السوائل في الجسم يجعل الماء والبروتينات وغيرها من المواد تتسرب باستمرار خارج الأوعية الدموية الدقيقة المسماة بالشعيرات.. ويقوم هذا السائل الراشح والمسمى السائل الخلالي بغمر وتغذية أنسجة الجسم.. وإذا لم يجد السائل الخلالي الزائد طريقه إلى الدم، فإن الأنسجة تنتفخ وتتورم؛ ولذا فإن معظم السائل الزائد يرشح إلى داخل الشعيرات الدموية التي يكون ضغط السائل فيها منخفضًا، ويعود الباقي عن طريق الجهاز اللمفاوي، ويسمى اللِّمف..

بالإضافة إلى هذا.. فإن هذا الجهاز يعد أحد أجهزة دفاع الجسم ضد العدوى، حيث يقوم برشح الجسيمات الصغيرة والبكتيريا التي تدخل الجسم بوساطة كتل صغيرة من الأنسجة توجد على طول الأوعية اللمفاوية، وتشبه حبة الفاصوليا في الشكل، وتسمى العقد اللِّمفاوية.

قال الجواد: فهل يكفي ذلك؟

قال إلتون: لا.. الجسم ما زال يحتاج إلى جهاز آخر اسمه (الجهاز الإخراجي)

قال الجواد: فما هو؟.. وما دوره؟

قال إلتون: إن عملية التصنيع السابقة التي تتم في الجسم أو في داخل الخلايا يتخلف عنها فضلات وبقايا.. وما لم تطرح هذه الفضلات والبقايا يتعرض الإنسان للهلاك.. فلذلك وفر للإنسان جهاز يقوم بعملية إخراج لهذه المواد المتبقية التي لا فائدة من بقائها.

وتبدأ عملية الإخراج عن طريق المعي الغليظ الذي يحمل بقايا الطعام الذي لم يذب في الإنزيمات الهاضمة ويخرجه غائطاً من فتحة الشرج، وتقوم الرئتان بإخراج ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء المتولد في عمليات التصنيع والبناء داخل الخلايا.. وأما الغدد العرقية الموجودة على الجلد فمنها يخرج (الملح والبولينا والماء) كما أن هناك كليتين وما يتصل بهما من حالب ومثانة ومجرى بول وعن طريقها ترشح (البولينا وحامض البوليك والماء) من الدماء وتخرج إلى الخارج بواسطة مجرى البول.

قال الجواد: فهل يكفي ذلك؟

قال إلتون: لا.. الجسم ما زال يحتاج إلى جهاز آخر اسمه (الجهاز العصبي)

قال الجواد: فما هو؟.. وما دوره؟

قال إلتون: هذا الجهاز يقوم بالإشراف على سير وتنظيم كل عملية من العمليات السابقة، وكل عملية أخرى من عمليات الجسم.

***

بقي الجواد يسأل إلتون، وإلتون يجيبه إلى أن أصبحنا نرى في تلك اللقمة من الفضل ما لا يمكن إحصاؤه ولا حصره، فالتفتنا إلى الجواد، وقلنا: لقد عرفنا صنعة البديع التي تدل على كونه قد أغنى كل شيء بكل ما يحتاجه.. فأسمعنا من كلماته التي تعرف بها إلينا.. والتي تدل على هذا المعنى.

قال الجواد: لقد انطلقت في حديثي مع أخي من توجيه رباني نص عليه قوله تعالى:{ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)} (عبس)

ثم ذكرنا ربنا ببعض ما أفاض علينا من فضله في صناعة الطعام مما سمعنا بعض تفاصيله من أخينا إلتون، فقال:{ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} (عبس)

وفي آية أخرى ذكر بعض أسباب ذلك الإغناء، فقال:{ وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأنعام)

وفي آية أخرى ذكر ما قدر الله في الأرض من أقوات، فقال:{  قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) } (فصلت)

وأخبرنا أنه هو الذي وفر لكل ما في الكون ما يحتاجه، فقال:{ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)} (لنجم)

وقد ذكر المفسرون أن الإغناء هو ما آتاه الله لعباده من الأجهزة، وما وفره لهم من أنواع القوت واللباس وغيرها.. والإقناء هو كل ما زاد على ذلك.

وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم الكثير من الحاجات التي وفر الله لعباده، والتي لا يستقيم لهم العيش من دونها، فقال:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)} (الفرقان)، وقال:{ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)} (النبأ)

وأخبرنا صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض حديث الله تعالى لنا، فقال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)([21])

***

وهكذا ظل الجواد يحدثنا عما ورد في القرآن وحديث محمد مما زادنا إيمانا بأن ربنا هو المغني الذي أعطى كل شيء ما يحتاجه ليكمل وجوده ويستمر.. بل زاد على ذلك، فأعطاه من الكمالات ما هو غني عنه، وما لا يفتقر إليه في استمرار وجوده.

6 ـ الحافظ

قلنا: عرفنا الاسم الخامس.. فحدثنا عن الاسم السادس.

قال: الاسم السادس هو الحافظ..

قلنا: فحدثنا عنه.

قال: في يوم من أيام صحبتنا للجواد خرج بي مع أصحابي إلى هضبة عالية كانت في ضواحي المدينة.. وقد تعجبنا إذ رأينا فيها مرصدا فلكيا مجهزا بكل التجهيزات الحديثة والدقيقة، فسألنا عن صاحبه، فأخبرنا أنه صاحبه، فزادنا عجبنا منه ومن اهتماماته العلمية التي لم نجد نظيرا لها في أصحابنا المختصين أنفسهم.

وقد زاد عجبنا عندما قارنا بين حياته البسيطة في مسكنه البسيط مع تلك التجهيزات ذات التكلفة العالية..

قال له بعض أصحابنا – وكان اسمه (جاليليو)([22]) – مازحا: لو أنك بدل هذا التلسكوب اشتريت قصرا لكنت أهنأ عيشا.

ابتسم الجواد، وقال: إن القصر الذي أسكنه حينذاك سيكون سجنا وقفصا يحول بيني وبين رؤية عوالم الله التي أعبده من خلال تأملها.. وفوق ذلك سيضع على عيني حجبا تحول بيني وبين قراءة رسائل الله التي يرسلها إلي كل حين عبر هذا الكون العظيم.. وفوق ذلك كله سيمنعني من التعرف على الله من خلال أسمائه الحسنى المكتوبة في سطور الكائنات.

ثم نظر إلى جاليليو، وقال له مازحا: هل ترى العصفور المسجون في قفص الذهب راضيا عن سكناه؟

قال جاليليو: لا.. وكيف يرضى المسجون؟

قال الجواد: ولكنه مسجون في قفص من ذهب.

قال جاليليو: السجن سجن سواء كان ذهبا أو فضة.

قال الجواد: فقد فهمت سر اهتمامي بهذا بدل اهتمامي بالقصور.

قال جاليليو: ولكننا متحررون..

قال الجواد: اسمح لي أن أقول لك بأن أكثر من تراهم متحررين هم في الحقيقة مسجونون في سجن كبير اسمه الأرض.. لقد ذكر الله ذلك، فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} (التوبة)

وذكر المؤمنين، واهتمامهم بأكوان الله، فقال:{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} (آل عمران)

 قال له جاليليو مازحا: لا بأس.. فلنسلم أنك تقرأ في هذه الأكوان رسائل الله وأسماء الله.. فهلا قرأت لنا بعض ما لا نراه من رسائل ربك التي يرسلها عبر ما نراه من هذه الكواكب.

سار بنا الجواد قليلا أما تلسكوبه الضخم، ثم أرانا كوكبا من الكواكب البعيدة، وقال([23]): أترون ذلك الكوكب البعيد؟

قال له جاليليو: أجل.. إنه (بلوتو)، وهو  كوكب بارد جداً.. فدرجة حرارته نحو (-238) درجة مئوية، وله جو لطيف يكون في حالته الغازية فقط عندما يكون أقرب إلى الشمس في مداره الشبه اهليلجي، أما في الأوقات الأخرى فيصبح جوه كتلة من الجليد.

قال الجواد: فـ (بلوتو) إذن كرة مغلفة بالجليد.. وهي لا تصلح للحياة([24]).

قال جاليليو: أجل..

أرانا الجواد كوكبا آخر، وقال: هل ترون ذلك الكوكب؟

قال جاليليو: أجل إنه (نبتون)، وهو أيضاً كوكب بارد جداً ودرجة حرارته حوالي (-218) درجة مئوية، وجوه يحتوي على غاز الهيدروجين والهليوم والميتان.. وهو سام للحياة وتهب فيه الرياح بسرعة 2000 كيلومتر في الساعة عاصفةً عبر سطح الكوكب.

قال الجواد: فهو مثل أخيه إذن لا يصلح للحياة.

قال جاليليو:  أجل..

أرانا الجواد كوكبا آخر، وقال: هل ترون ذلك الكوكب؟

قال جاليليو: أجل إنه (أورانوس) وهو كوكب غازي فيه صخور غازية فيه صخور وجليد على سطحه ودرجة حرارته (-214) درجة مئوية وجوه يحتوي على الهيدروجين والهليوم والمتيان وبالتالي فهو غير ملائم لحياة الجنس البشري.

قال الجواد: فهو مثل أخويه إذن لا يصلح للحياة.

قال جاليليو:  أجل..

أرانا الجواد كوكبا آخر، وقال: هل ترون ذلك الكوكب؟

قال جاليليو: أجل إنه (زحل).. وهو ثاني أكبر الكواكب في المجموعة الشمسية، ويتميز بخاصية في امتلاكه جملة من الحلقات المحيطة به، وهي مكونة من الغازات والصخور والجليد، وتعتبر واحدة من أجمل الأشياء حول زحل، وهي مكونة كلياً من غازين (75% هيدروجين و25% هيليوم)،

قال الجواد: فهو مثل إخوانه إذن لا يصلح للحياة.

قال جاليليو:  أجل.. فمن أراد أن يهبط على زحل فالأفضل له أن يصمم سفينته الفضائية بشكل تشبه فيه قارب منفوخاً واسعاً، ولا ينبغي أن ينسى أن درجة الحرارة الوسطية تصل إلى (-178)درجة مئوية.

أرانا الجواد كوكبا آخر، وقال: هل ترون ذلك الكوكب؟

قال جاليليو: أجل إنه (المشتري)، وهو أضخم كواكب النظام الشمسي، واتساعه يعادل 238 مرة اتساع الأرض.. وهو مثل زحل.. أي أنه كوكب غازي..، وطالما أنه من الصعب أن نميز بين الجو والسطح على مثل هذا الكوكب فمن الصعب أن نقول ما هي درجة حرارة السطح، لكنها في أعالي الجو تصل في الغلاف الجوي حوالي (–143 درجة مئوية)

قال الجواد: فهو مثل إخوانه إذن لا يصلح للحياة.

قال جاليليو:  أجل.. وهو بالإضافة إلى برودته الشديدة يلاحظ في جوه ما يدعى (النقطة الحمراء العظمى)، وقد لوحظت قبل ثلاثمائة سنة، ويعرفها الفلكيون الآن بأنها عبارة عن نظام عاصفة ضخمة هائجة في جو المشتري لعدة قرون، وهي من الاتساع بحيث تستطيع ابتلاع كوكبين بحجم الأرض.

أرانا الجواد كوكبا آخر، وقال: هل ترون ذلك الكوكب؟

قال جاليليو: أجل إنه (المريخ).. ومعظمه غاز كربون.. وسطحه في كل الأماكن يطفح بالبثور، وهي عباة عن ثقوب لفوهات بركانية، أو نتيجة لصدمات النيازك والرياح القوية العاتية التي تهب عبر السطح حاملة معها عواصف رملية والتي تدوم أياماً وأسابيع متواصلة، وتتغير درجة الحرارة كثيراً وقد تصل إلى مستويات منخفضة في حدود (–53 درجة مئوية)

قال الجواد: فهو مثل إخوانه إذن لا يصلح للحياة.

قال جاليليو:  أجل.. فجو المريخ ليس مكاناً ملائماً للحياة بالرغم من أنه ساد الاعتقاد لفترة ما بأن المريخ ربما كان يحتوي على شكل من الحياة، لكن كل الأدلة بينت أنه عالم لا حياة فيه.

أرانا الجواد كوكبا آخر، وقال: هل ترون ذلك الكوكب؟

قال جاليليو: أجل إنه (عطارد)، وهو عالم صخري صغير مدمر بالحرارة والإشعاع من الشمس، ودورانه حدث له إبطاء بسبب قربه من الشمس بحيث يصنع ذلك الكوكب ثلاثة دورات كاملة محورية حول نفسه في الوقت الذي يأخذه ذاته ليدور مرتين حول الشمس.. وبتعبير آخر فإن سنتين من عطارد تساوي ثلاثة من أيامه.. وبسبب تلك الدورة اليومية المطولة يكون أحد وجهي عطارد حاراً تماماً بينما الطرف الآخر يكون بارداً تماماً، والفرق بين درجتي حرارة وجهي النهار والليل لعطارد يزيد على ألف درجة مئوية.

قال الجواد: فهو مثل إخوانه إذن لا يصلح للحياة.

قال جاليليو:  أجل… فمثل تلك البيئة لا تسمح بالحياة فيها..

أرانا الجواد كوكبا آخر، وقال: هل ترون ذلك الكوكب؟

قال جاليليو: أجل إنه (الزهرة)، وهي مغطاة بسحب ساطعة.. ودرجة حرارتها عند السطح هي (450 درجة مئوية)، هي كافية لانصهار الرصاص.. وجوها يحتوي على طبقات غازية من حامض الكبريت، وسمكها يبلغ عدة كيلومترات.. ولذلك فإنها عندما تمطر لا تمطر ماء بل تمطر حمضاً.

قال الجواد: فلا يمكن لأي إنسان إذن أو لأي كائن حي آخر أن يعيش في جوها ولو لثانية واحدة.

قال جاليليو: أجل.. إلا إذا أراد أن ينتحر.

قال الجواد: فلننزل بعد هذه الجولة إلى هذه الأرض التي فرشها الله لنا.. ألا ترون أنها تختلف كثيراً عن الكواكب الأخرى..

قال جاليليو: أجل.. فكل ما فيها ينبض حياةً.. جوها.. وتضاريسها.. وسطحها..ودرجات حرارتها الملائمة.. وحقلها المغناطيسي.. ومصادر عناصرها.. وهي بالإضافة إلى ذلك موضوعة على بعد مناسب من الشمس.

قلنا لصاحبنا: ذكرت الجملة.. فهات التفصيل.

قال جاليليو: إن درجة الحرارة، والجو هي أول العوامل الأساسية للحياة على الأرض.. خاصة لمثل تلك الكائنات الحية المعقدة كالجنس البشري.

وقد أتى هذان العاملان المختلفان كلياً إلى الوجود نتيجة انقلاب الشروط لتصبح مثالية لهما..

وأحد تلك العوامل هي المسافة بين الأرض والشمس، فالأرض لا يمكن أن تكون مقراً للحياة إذا كانت أقرب إلى الشمس مثل الزهرة، أو كانت بعيدة مثل بعد المشتري.. والجزيئات ذات الأساس الكربوني يمكن أن تبقى حية بين حدين هما (-20) و(120)، والأرض هي الكوكب الوحيد الذي له درجة حرارة وسطية بين هذين الحدين.

وعندما يفكر شخص في الكون ككل مستعرضاً ضيق مجال درجات الحرارة فتلك مهمة صعبة جداً لأن الحرارة في الكون تتراوح بين بلايين الدرجات في أسخن النجوم إلى درجة الصفر المطلق أي لـ (-273س)

وفي مثل ذلك المجال الواسع لدرجات الحرارة يكون الفاصل الحراري الذي يسمح للحياة بأن توجد هو ضئيل جداً بالفعل، لكن كوكب الأرض له هذا الفاصل.

لقد أثار الجيولوجي الأمريكي (فرانك بريس) ومثله (ريموند سيفر) الانتباه لمتوسط درجات الحرارة السائدة على الأرض.. وقد لاحظا – كما نعلم – أن الحياة ممكنة ضمن فاصل حراري ضيق، وذلك الفاصل هو من واحد إلى اثنين بالمئة من المجال بين درجة حرارة الصفر المطلق ودرجة حرارة سطح الشمس..

والاحتفاظ بهذا المجال الحراري مرتبط بكمية الحرارة التي تشعها الشمس، وكذلك بالمسافة بين الأرض والشمس.

ووفق الحسابات فإن نقصان 10% من طاقة الإشعاع الشمسي سيؤدي إلى تغطية سطح الأرض بطبقات من الجليد سمكها عدة أمتار، وإذا زادت تلك النسبة عن ذلك بقليل، فكل الكائنات الحية سوف تتجمد وتموت.

قال الجواد: فدرجة حرارة الأرض هي وحدها التي جعلت منها كوكبا حيا.

قال جاليليو: لا.. لا يكفي أن تكون درجات الحرارة المتوسطة مثالية، بل يجب أن تكون الحرارة المتوفرة أيضاً موزعة بالتساوي تقريباً على سطح الكوكب..

قال الجواد: فما الذي أمن هذا التوزيع المتساوي؟

قال جاليليو: من ذلك أن محور دوران الأرض يميل بزاوية 23و27 على مستوى دائرة البروج، وهذا الميل يمنع الإفراط الحراري للجو في المناطق بين القطبين وخط الاستواء وهو يسبب لها اعتدلاً حرارياً أكثر.. وإذا لم يكن ذلك الميل موجوداً فالتدرج الحراري بين القطبين وخط الاستواء سيكون أكثر ارتفاعاً مما هو عليه، والمناطق المعتدلة سوف لن تكون معتدلة بعد أو ملائمة للعيش فيها.

ومن ذلك سرعة دوران الأرض حول محورها.. فهي تساعد أيضاً في حفظ التوازن الحراري في حالة توازن، وتقوم الأرض بدورة واحد كل 24 ساعة، والنتيجة هي فترات متناوبة قصيرة تقريباً من الليل والنهار، وبسبب قصرهما يكون التدرج الحراري بين الطرفين المضيء والمظلم للكوكب معتدلاً تماماً، وأهمية ذلك يمكن رؤيتها في المثال المتطرف لعطارد، حيث أن يومه أطول من سنته فيكون الفرق بين درجات حرارة النهار والليل فيه حوالي ألف درجة مئوية.

ومن ذلك أن جغرافية الأرض تساعد – أيضاً – في توزيع الحرارة وتساويها على سطح الأرض، بحيث يكون الفرق بين درجتي حرارة  المناطق القطبية والاستوائية للأرض حوالي مئة درجة مئوية فقط، وإذا كان مثل ذلك التدرج الحراري موجوداً على مساحات مستوية كلياً لا تضاريس فيها فستكون النتيجة رياحاً سرعتها عالية جداً ربما بلغت ألف كيلومتر في الساعة وجارفة معها كل شيء في مسارها، ولكن بدلاً عن ذلك فالأرض مملوءة بالعوائق الجيولوجيه التي توقف الحركات الهائلة للهواء التي يسببها التدرج الحراري.. وتلك العوائق هي السلاسل الجبلية والممتدة من المحيط الهادي في الشرق إلى المحيط الأطلسي في الغرب.. وفي البحر تنتقل الزيادة في الحرارة في المناطق الاستوائية شمالاً وجنوباً، والفضل في ذلك لقابلية الماء المثلى في نقل الحرارة وتبديدها.

قال الجواد: فهل لكتلة الأرض وحجمها دور في جعلها متناسبة مع الحياة؟

قال جاليليو: أجل.. فحجم الأرض ليس أقل أهمية للحياة من بعدها عن الشمس وسرعة دورانها وتضاريسها الجغرافية.. فبالنظر إلى الكواكب الأخرى نرى أن هناك تفاوتاً كبيراً في أحجامها، فعطارد حجمه صغير وأصغر بعشر مرات من حجم الأرض بينما المشتري أكبر منها بحوالي 318 مرة.

لقد علق الجولوجيان الأمريكيان (فرانك بريس) و(ريموند سيفر) على مدى ملاءمة الأرض من هذه الناحية، فقالا: (إن حجم الأرض هو تماماً ما ينبغي أن يكون عليه، فهي ليست صغيرة جدا فتخسر جوها لكون جاذبيتها الثقالية عندئذ صغيرة فلا تستطيع منع هروب الغازات منها إلى الفضاء، وهي ليست كبيرة بالقدر الذي يجعل جاذبيتها الثقالية تزداد كثيراً فتحتفظ بجو غزي أكبر بما فيها غازات ضارة)

قال الجواد: فهل لأعماق الأرض التي لا نراها دور في جعلها متناسبة مع الحياة؟

 قال جاليليو: أجل.. فأعماق الأرض مصممة بطريقة تخصصية مضبوطة، وذلك من ناحية لبها وحقلها المغناطيسي القوي والذي له دور حيوي هام في حفظ الحياة، ووفق ما كتبه العالمان (بريس وسيفر) فإن (أعماق الأرض هي محرك عملاق متوازن حرارياً بلطف.. وقوده النشاط الإشعاعي.. وعندما تباطأت حركتها صار نشاطها الجيولوجي يتقدم بخطوات بطيئة موزونة.. ولنفرض أنه ربما لم ينصهر الحديد ويغوص ليشكل لباً سائلاً، والحقل المغناطيسي ربما لم يتطور إطلاقاً.. فإذا كان هناك زيادة من الوقود (أي النشاط الإشعاعي) وكان المحرك يدور أسرع فإن غازات البراكين والغبار بما حجبت الشمس وعندئذ سيكون الجو كثيفاً، والسطح سيكون مدمراً بالزلازل اليومية والإنفجارات البركانية)

قال الجواد: فللحقل المعناطيسي دور في جعل الأرض متناسبة مع الحياة؟

قال جاليليو: أجل.. فالحقل المغناطيسي الذي تحدث عنه الجيولوجيون له أهمية كبيرة في الحياة، وينشأ في جوف الأرض، وهو يحتوي على عناصر ثقيلة مثل الحديد والنيكل، وهما معدنان قادران على حمل شحنات مغناطيسية، والجوف الداخلي صلب، أما اللب الخارجي الذي يعلوه فهو سائل، وتتحرك هاتان الطبقتان من اللب حول بعضهما البعض، وتلك الحركة هو التي تولد الحقل المغناطيسي الأرضي، ويمتد هذا الحقل بعيداً خلف السطح، وهذا الحقل يحمي الأرض من تأثيرات الإشعاع الضار الوارد من الفضاء الخارجي، أما الإشعاعات الوردة من النجوم عدا الإشعاع الشمس فهو لا تستطيع السفر عبر ذلك الدرع، فحزام (فان آلن) الذي تمتد خطوطه المغناطيسية عشرة آلاف ميل من الأرض تحمي الكرة الأرضية من هذه الطاقة المميتة.

وقد حسبت طاقة السحب البلازمية التي يأسرها حزام (فان آلن) فوجد أنها تبلغ في بعض الأحيان مستويات عالية ربما وصلت لأكثر من مئة بليون مرة من طاقة القنبلة التي ألقيت فوق (هيروشيما)

وما هو معلوم فإن الأشعة الكونية ضارة على جميع المستويات، والحقل المغناطيس هي تقريباً بحدود بليون أمبير، وهذا أكثر مما ولده الجنس البشري عبر التاريخ كله.

قال الجواد: فلنفرض أن ذلك الدرع لم يكن موجودا؟

قال جاليليو: إذا لم يكن ذلك الدرع الحامي موجوداً فمن المفروض أن الأرض دُمرت بالإشعاعات الضارة والمؤذية من وقت لآخر.. وبالتالي لم يكن للحياة أن تظهر على الأرض إطلاقاً، ولكن كما أشار (بريس وسيفر) فإن لب الأرض مصمم تماماً كي يحفظ سلامه الأرض.

ابتسم الجواد، وقال: أليس من وفر هذا الدرع الذي يحمي الأرض هو الحافظ؟

قال جاليليو: أجل.. بل هو أعظم حافظ.

قال الجواد: أتدري من هو؟

قال جاليليو: من هو؟

قال الجواد: إنه الله.. وقد كنت تقرأ لنا حروف هذا الاسم من خلال أكوانه..

قال جاليليو: لم أفهم ما الذي تقصده.

قال الجواد: إن الله الذي أرانا هذه الكواكب جميعا، وعلمنا ما تحمله من سموم الموت هو الذي حفظ لنا الحياة على هذه الأرض.. ولذلك، فإننا عندما نبصرها نقرأ من خلالها اسم الله (الحافظ) الذي لولاه لأكلتنا أشعة السماء، وابتلعتنا أعاصير الأرض.

لقد ذكر لنا ربنا في كلماته المقدسة أنه على كل شيء حفيظ.. فقال:{ فَإِنْ تَوَلوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)} (هود).. وقال:{ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)} (سبأ).. وقال:{ وَالذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)} (الشورى).. وقال:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (الحجر).. وقال:{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)(الأنبياء).. وقال:{ قَالَ هَل آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)} (يوسف).. وقال:{ وَلَقَدْ جَعَلنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)} (الحجر)

7 ـ الفاطر

قلنا: عرفنا الاسم السادس.. فحدثنا عن الاسم السابع.

قال: الاسم السابع هو الفاطر..

قلنا: فحدثنا عنه.

قال: في يوم من أيام صحبتنا للجواد خرج بي مع أصحابي إلى حديقة للحيوان.. وهناك أرانا الجمل، وذكر لنا أن القرآن حظ على النظر إليه وإلى كيفية خلقه، ففيه:{ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} (الغاشية)

ومن خلال المعارف التي بثها إلينا عن الجمل عرفنا باسم الله الفاطر..

قلنا: وما علاقة الجمل بالفاطر؟

قال: لقد ذكر لنا الجواد أن الفاطر اسم يدل على الذي وفر لكل صنعة من الإتقان والكمال ما يحميها من الانفطار والانشقاق والنقص.. وقد ذكر القرآن الكريم هذا المعنى.. فقال يحث على النظر إلى السماء:{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} (الملك)

وفي هذه الإشارة إلى أن من النواحي المراعاة في إبداع الله تعالى هذه الناحية المهمة، والتي تحفظ للكائن وجوده في إطار الأجل الذي حدد له.

قلنا: ما دام الجمل آية من آيات الله الدالة على كونه فاطرا.. فحدثنا عنه.

قال: إن ما كشفه العلم حديثاً عن بعض الحقائق المذهلة في خلق الإبل يفسر لنا بعض السر في اختيار الله للإبل لتكون محل نظرنا([25]).

فأول ما يلفت الأنظار في الإبل خصائصها البينات والشكل الخارجي الذي لا يخلو تكوينه من لطائف تأخذ بالألباب، فالعينان محاطتان بطبقتين من الأهداب الطوال تقيانهما القذى والرمال.

أما الأذنان فصغيرتان قليلتا البروز، فضلاً عن أن الشعر يكتنفها من كل جانب، ليقيها الرمال التي تذروها الرياح، ولهما القدرة عن الانثناء خلفاً والالتصاق بالرأس إذا ما هبت العواصف الرملية.

أما المنخران، فيتخذان شكل شقين ضيقين محاطين بالشعر وحافتهما لحمية، فيستطيع الجمل أن يغلقهما دون ما قد تحمله الرياح إلى رئتيه من دقائق الرمال.

أما ذيله، فيحمل على جانبيه شعراً يحمى الأجزاء الخلفية من حبات الرمل التي تثيرها الرياح السافيات كأنها وابل من طبقات الرصاص.

أما قوائم الجمل، فهي طويلة لترفع جسمه عن كثير مما يثور تحته من غبار، كما أنها تساعده على اتساع الخطو وخفة الحركة.

وتتحصن أقدام الجمل بخف يغلفه جلد قوي غليظ يضم وسادة عريضة لينة تتسع عندما يدوس الجمل بها فوق الأرض، ومن ثم يستطيع السير فوق أكثر الرمل نعومة، وهو ما يصعب على أية دابة سواه، وهذاما يجعله جديراً بلقب (سفينة الصحراء)

لهذه الخصائص وغيرها ما زالت الإبل في كثير من المناطق القاحلة الوسيلة المثلى لارتياد الصحارى، وقد تقطع قافلة الإبل بما عليها من زاد ومتاع نحوا من خمسين أو ستين كيلومترا في اليوم الواحد، ولم تستطع السيارات بعد منافسة الجمل في ارتياد المناطق الصحراوية الوعرة غير المعبدة.

ومن الإبل أيضاً ما هو أصلح للركوب وسرعة الانتقال، مثل الرواحل المضمرة الأجسام التي تقطع في اليوم الواحد مسيرة مائة وخمسين كيلومترا.

ومما يناسب ارتفاع قوائم الجمل طول عنقه، حتى يتناول طعامه من نبات الأرض، كما أنه يستطيع قضم أوراق الأشجار المرتفعة حين يصادفها، هذا فضلاً عن أن هذا العنق الطويل يزيد الرأس ارتفاعاً عن الأقذاء، ويساعد الجمل على النهوض بالأثقال.

وحين يبرك الجمل للراحة أو يناخ ليعد للرحيل يعتمد جسمه الثقيل على وسائد من جلد قوي سميك على مفاصل أرجله، ويرتكز بمعظم ثقله على كلكله، حتى أنه لو جثم به فوق حيوان أو إنسان طحنه طحناً.

وهذه الوسائد إحدى معجزات الخالق التي أنعم بها على هذا الحيوان العجيب، حيث أنها تهيئه لأن يبرك فوق الرمل الخشنة الشديدة الحرارة التي كثيراً ما لا يجد الجمل سواها مفترشاً له، فلا يبالي بها ولا يصيبه منها أذى.

والجمل الوليد يخرج من بطن أمه مزودا بهذه الوسائد المتغلظة، فهي شيء ثابت موروث وليست من قبيل ما يظهر بأقدام الناس من الحفاء أو لبس الأحذية الضيقة.

قلنا للجواد: فقد أعد الله تعالى الإبل إعدادا من أجل مهام السفر الصعبة!؟

قال الجواد: ليس ذلك فقط.. أو بالأحرى ذلك ما يمكن أن يعرف بالنظر البسيط القاصر.

قلنا: فهل هناك نظر آخر أعمق وأطول؟

قال الجواد: أجل.. هناك أشياء تحتاج إلى نظر أعمق، أو بأجهزة تعين البصر القاصر.

قلنا: فحدثنا عن بعض ما دل عليه النظر الأعمق.

قال الجواد: منها أن الجمل يحافظ على مياهه بقدر الإمكان، لأنه في صحراء قليلة المياه، فلذلك لا تراه يتنفس من فمه، ولا يلهث أبداً مهما اشتد الحر أو استبد به العطش، وهو بذلك يتجنب تبخر الماء من هذا السبيل.

وهو لا يفرز إلا مقدار ضئيلاً من العرق عند الضرورة القصوى بفضل قدرة جسمه على التكيف مع المعيشة في ظروف الصحراء التي تتغير فيها درجة الحارة بين الليل والنهار، ويستطيع جهاز ضبط الحرارة في جسم الجمل أن يجعل مدى تفاوت الحرارة نحو سبع درجات كاملة دون ضرر، أي بين 34م و41 م، ولا يضطر الجمل إلى العرق إلا إذا تجاوزت حرارة جسمه 41م ويكون هذا في فترة قصيرة من النهار، أما في المساء فإن الجمل يتخلص من الحرارة التي اختزنها عن طريق الإشعاع إلى هواء الليل البارد دون أن يفقد قطرة ماء، وهذه الآلية وحدها توفر للجمل خمسة ألتار كاملة من الماء.

ولا يفوتنا أن نقارن بين هذه الخاصة التي يمتاز بها الجمل وبين نظيرتها عند جسم الإنسان الذي ثبت درجة حرارة جسمه  العادية عند حوالي 37 م، وإذا انخفضت أو ارتفعت يكون هذا نذير مرض ينبغي أن يتدارك بالعلاج السريع، وربما توفي الإنسان إذا وصلت حرارة جسمه إلى القيمتين اللتين تتراوح بينهما درجة حرارة جسم الجمل ( 34م و41 م)

و هناك أمر آخر يستحق الذكر، وهو أن الجسم يكتسب الحرارة من الوسط المحيط به بقدر الفرق بين درجة حرارته ودرجة ذلك الوسط، ولو لم يكن جهاز ضبط حرارة جسم الجمل ذكياً ومرنا بقدرة الخالق اللطيف لكان الفرق بين درجة حرارة الجمل ودرجة حرارة هجير الظهيرة فرقاً كبيراً يجعل الجمل إلى 41م في نهار الصحراء الحارق يصبح هذا الفرق ضئيلاً وتقل تبعاً لذلك كمية  الحرارة التي يمتصها الجسم، وهذا يعني ان الجمل الظمآن يكون أقدر على تحمل القيظ من الجمل الريان، فسبحان الله العليم بخلقه.

ويضيف علماء الأحياء ووظائف الأعضاء سببا جديداً يفسر قدرة الإبل على تحمل الجوع والعطش عن طريق إنتاج الماء الذي يحتاجه من الشحوم الموجودة في سنامه بطريقة كيماوية يعجز الإنسان عن مضاهاتها.

فمن المعروف أن الشحم والمواد الكربوهيدراتية لا ينتج عن احتراقها في الجسم سوى الماء وغاز ثاني أسيد الكربون الذي يتخلص منه الجسم في عملية التنفس، بالإضافة إلى تولد كمية كبيرة من الطاقة اللازمة لواصلة النشاط الحيوي.

ومعظم الدهن الذي يختزنه الجمل في سنامه يلجأ إليه الجمل حين يشح الغذاء أو ينعدم، فيحرقه شيئاً فشياً ويذوى معه السنام يوماً بعد يوم حتى يميل على جنبه، ثم يصبح كيساً متهدلاً خاوياً من الجلد إذا طال الجوع والعطش بالجمل المسافر المنهك.

و من حكمة خلق الله في الإبل أن جعل احتياطي الدهون في الإبل كبيراً للغاية يفوق أي حيوان آخر ويكفي دليل على ذلك أن نقارن بين الجمل والخروف المشهور بإليته الضخمة المملوءة بالشحم، فعلى حين نجد الخروف يختزن زهاء 11كجم من الدهن في إليته، نجد أن الجمل يختزن ما يفوق ذلك المقدار بأكثر من عشرة أضعاف ( أي نحو 120 كجم)، وهي كمية كبيرة بلا شك يستفيد منها الجمل بتمثيلها وتحويلها إلى ماء وطاقة وثاني أكسيد الكربون.

ولهذا يستطيع الجمل أن يقضي حوالي شهر ونصف بدون ماء يشربه، ولكن آثار العطش الشديد تصيبه بالهزال وتفقده الكثير من وزنه، وبالرغم من هذا فإنه يمضي في حياته صلدا لا تخور قواه إلى أن يجد الماء العذب أو المالح فيعب ( تعزى قدرة الجمل الخارقة على تجرع محاليل الأملاح المركزة إلى استعداد خاص في كليته لإخراج تلك الأملاح في بول شديد التركيز بعد أن تستعيد معظم ما فيه من ماء لترده إلى الدم)فيعب منه عبا حتى يطفئ ظمأه.

و ثمة ميزة أخرى للإبل تهيئه لهذه المهام الصعبة، فإن الجمل الظمآن يستطيع أن يطفئ ظمأه من أي نوع وجد من الماء، حتى وإن كان ماء البحر أو ماء في مستنقع شديد الملوحة أو المرارة، وذلك بفضل استعداد خاص في كليتيه لإخراج تلك الأملاح في بول شديد التركيز بعد أن تستعيدا معظم ما فيه من ماء لترده على الدم.

والأعجب من هذا كله أن الجمل إذا وضع في ظروف بالغة القسوة من هجير الصحراء اللافح فإنه سوف يستهلك ماء كثيراً في صورة عرق وبول وبخار ماء، مع هواء الزفير حتى يفقد نحو ربع وزنه دون ضجر أو شكوى، والعجيب في هذا أن معظم هذا الماء الذي فقده استمده من أنسجة جسمه، ولم يستنفذ من ماء دمه إلا الجزء الأقل، وبذلك يستمر الدم سائلاً جارياً موزعاً للحرارة ومبددا لها من سطح جسمه.

قلنا: فكل هذا من الخصائص التي وفرت لهذا الحيوان ليكون مركبا صالحا في الصحراء القاحلة.

قال الجواد: هذا بعض ما تمكن العلم من معرفته.. وهناك الكثير مما لا يزال في طي الغيب.. وكلها برهان على أن الله هو الفاطر الذي وفر لهذا الخلق ما يحتاج إليه في تلك البيئة الصعبة التي وجد فيها.. ولولاه لما تمكن الإنسان في القديم من اختراق الصحراء.

***

التفت إلينا صاحبنا (بينيديتو كروتشي)، وقال: هذا حديثي وحديث أصحابي مع ذلك الولي الصالح.. لقد عشت في رحاب كلماته أياما جميلة.. ولكن  كلاليب الدنيا سرعان ما جذبتني، فنسيت تلك الأيام.. ونسيت معها تلك المعاني..

لقد بعتها جميعا بثمن بخس حقير..

لقد كان ثمن بيعي لها هو مجادلات عقيمة، ومناصب رفيعة، وألقاب هي كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاء لم يجده شيئا.


([1])  أشير به إلى بينيديتو كروتشي، Croce, Benedetto (1866-1952م)، وهو فيلسوف إيطالي يُعدّ من أكثر فلاسفة إيطاليا تميزًا في القرن العشرين.. وكان يؤمن بوجود نوعين من المعرفة: المعرفة التي تأتي عن طريق الفهم، والمعرفة التي تأتي عن طريق الخيال.. والخيال عنده يوجِّه الفن.. وكان يؤمن بأن الفن لا يحاول تصنيف الأشياء، كما يفعل العلم، لكنه يُحسّ بها ويمثلها فقط.

من أهم كتبه: علم الجمال (1902م)؛ الفلسفة العملية (1908م)؛ المنطق (1909م)؛ التاريخ بوصفه قصة الحرية (1938م)

ولد في بيسكا سيرولي بالقرب من بيسكارا، وعين في منصب سيناتور عام 1910م، وساعد في إصلاح المدارس الإيطالية في العشرينيات، وكان من المناوئين لحكومة بنيتو موسوليني الفاشية، وزعيمًا للدوائر الليبرالية الفكرية في إيطاليا. (الموسوعة العربية العالمية)

([2])  علم لجمال: هو فرع من فروع الفلسفة الحديثة، وهو يدرس طبيعة الشعور بالجمال والعناصر المكونة له والكامنة في العمل الفني.. ويدرس الفنون بوجه عام، كما يقارن بين فنون الثقافات المختلفة، وثقافات الحقَب المختلفة في التاريخ، وذلك لتنظيم معرفتنا المنهجية لها. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([3])  بعض ما نذكره هنا مقتبس من كتاب (العلم في منظوره الجديد) الذي سبق الإشارة إليه.

([4]) أشير به إلى الإمام الجليل (محمد بن علي الرضا) (195ـ220هـ) المعروف بالجواد، وهو تاسع أئمّة أهل البيت – على مذهب الاثنا عشرية- ويقال له ابن الرضا.

قال عنه الذهبي: كان من سَروات آل بيت النبي r ، وكان أحد الموصوفين بالسخاء، ولذلك لقب بالجواد..

قال المفيد: كان المأمون قد شغف بأبي جعفر لما رأى من فضله على صغر سنّه، وبلوغه في الحكمة والعلم والاَدب وكمال العقل مالم يساوه فيه أحد من مشائخ أهل الزمان.

و للاِمام – بالاِضافة إلى ما روي عنه من فقه وحديث – مواعظ وحكم وآداب وبعض الاَدعية ذكرها الاَعلام في كتبهم، منها: قوله:(الموَمن يحتاج إلى ثلاث خصال: توفيق من اللّه وواعظ من نفسه وقبول ممن ينصحه)، وقال: (من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن اللّه فقد عبد اللّه، وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس)، وقال: (من استفاد أخاً في اللّه فقداستفاد بيتاً في الجنة) (انظر: موسوعة أصحاب الفقهاء)

([5]) ذكرنا الكثير مما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من الحديث عن الماء في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة، وإنما ذكرنا هذا هنا ليكون تمهيدا للحديث عن اسم (البديع)

([6]) ذكرنا التفاصيل العلمية الكثيرة الدالة على هذا في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([7]) الكلمة الثانية والثلاثون.

([8]) الكلمة الثانية والثلاثون.

([9]) انظر: الله جل جلاله، لسعيد حوى.. وقد سبق ذكر بعض هذه الأدلة في الفصل الأول.

([10]) انظر تفاصيل أكثر عن هذا الدليل في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([11]) ذكرناها هنا باعتبارها نموذجا نراه، ويمكن تطبيقه على سائر مصادر الطاقة في الكون.

([12]) سبق التعريف به في الفصل الأول من هذه الرسالة.

([13]) وهي نظرية التّطور أو الداروينية.. وقد ذكرنا الرد المفصل عليها في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.. وسنذكر بعض الردود عليها مختصرة هنا، وهي مقتبسة بتصرف من كتابات هارون يحي.

([14]) طبعا هذا من باب السخرية، ويجوز مثله في المناظرات.

([15]) انظر: من آيات الله في الحيوانات، الأستاذ محمد محمد معافى علي، موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

([16])من الأخطاء التي وقعت فيها بعض الطوائف زعمهم بأن من مقتضيات كون الله خالقا أن يخلق في الأزل، وهو قول مناف لمشيئة الله المطلقة، فمشيئة الله لا يقال لها: افعلي أو لا تفعلي.

وقد غاب عن هؤلاء أن ( السيف يسمى قاطعا وهو في الغمد، ويسمى قاطعا حالة حز الرقبة، فهو في الغمد قاطع بالقوة وعند الحز قاطع بالفعل، والماء في الكوز مرو، ولكن بالقوة وفي المعدة مرو بالفعل، ومعنى كون الماء في الكوز مرويا أنه بالصفة التي بها يحصل الإرواء عند مصادفة المعدة، وهي صفة المائية، والسيف في الغمد قاطع أي هو بالصفة التي بها يحصل القطع إذا لاقى المحل، وهي الحدة إذ لا يحتاج إلى أن يستجد وصفا آخر في نفسه) (المقصد الأسنى: 36)

وكذلك، ولله المثل الأعلى، صفة الخالق لله تعالى، فهو خالق في الأزل بالمعنى الذي به يقال الماء الذي في الكوز مرو، وفي السيف أنه قاطع.

ومن الخطأ الكبير أن يقال له ـ تعالى وتقدس ـ:( ما دمت خالقا، فلا بد أن تخلق)

([17]) إحياء علوم الدين، بتصرف.. وقد أنكر بعض المتكلمين على الغزالي هذا المقولة، وذلك لعدم فهمهم لمراده منها، وقد ذكر ابن تيمية سر ذلك الإنكار، وبين المعنى الصحيح لها، فقال: ( وما يحكي عن الغزالي أنه قال ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنه لو كان كذلك ولم يخلقه لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة ، وقد أنكر عليه طائفة هذا الكلام ، وتفصيله أن الممكن يراد به المقدور، ولا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة ، ويقدر على غير ما فعله ، كما بين ذلك في غير موضع من القرآن ، وقد يراد به أنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه فهذا ليس قدحا في القدرة ، بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله ، لكن قال ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله ، وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان ، وهو سبحانه الأكرم فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا)

وقد ألفت في الجواب على هذه المقولة أو الرد عليها رسائل كثيرة من البقاعي والسيوطي وغيرهما.. وسنعرض للمسألة بتفاصيلها في رسالة (أسرار الحياة) من هذه السلسلة.

([18]) ذكر هذا النظم رشيد رضا في تفسير المنار، وذكر أنه ألفه في عهد طلب العلم بطرابلس الشام.

([19])  أشير به إلى (تشارلز سذرلاند إلتون) (1900-1991م)، وهو عالم أحياء إنجليزي وُلد في مانشستر، وتخرج في جامعة أكسفورد عام 1922م وعمل فيها إلى أن تقاعد في عام 1967م.. اشتُهر بكونه رائد علم البيئة، وهو العلم الذي يُعنى بعلاقة الأحياء ببيئتها وعلاقة بعضها ببعض.. فقد أدرك أن الحيوانات والنباتات لها متطلباتها الغذائية الخاصة، مما دعاه إلى تطوير مفهوم البيئة الملائمة التي تنص على أن كل نوع من أنواع الكائنات الحية له وظيفة خاصة ومكان خاص داخل بيئته.. فأشار إلى الحاجة إلى الكثير من النباتات الخضراء لتأمين غذاء القليل من آكلات الأعشاب، والتي تقوم بدورها بتأمين غذاء عدد أقل من آكلات اللحوم.. وقد أطلق إلتون على هذا الترتيب اسم الهرم الغذائي (انظر: الموسوعة العربية العالمية).. ولا يخفى سر اختياره هنا.

([20]) يعتبر بعض العلماء الجهاز اللِّمفاوي جزءًا من الجهاز الدوري، لأن اللِّمف يأتي من الدم ، ويعود إليه.

([21]) رواه مسلم.

([22])أشير به إلى جاليليو (1564 ـ 1642م)، وهو عالم فلكي وفيزيائي إيطالي. كان يدعى مؤسس العلوم التجريبية المعاصرة. استخدم ولأول مرة التلسكوب الانكساري بشكل فعّال لكشف حقائق جديدة ومهمة عن علم الفلك. اكتشف أيضًا قانون الأجسام المتساقطة وقانون البندول. كما طور التلسكوب الانكساري وحسّنه. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([23]) استفدنا المعلومات الواردة هنا من كتاب (خلق الكون) لهارون يحيى.

([24]) الحياة بالمعنى المتعارف عليه عندنا، وإلا فإن كل شيء حي كما ورد في النصوص المقدسة انظر: (أكوان الله)

([25]) انظر: كتاب رحيق العلم والإيمان، الدكتور أحمد فؤاد باشا.. وقد ذكرنا هذا مع تفاصيل أخرى ترتبط به في رسالة (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *