الهداية

الهداية
بعد أن حدثني الشيخ الصالح عن نبأ هذه الرحلة، وما حصل له فيها استغرق في صمت عميق، قطعته عليه بقولي: فكيف انتهى أمركم بعد أن دلكم الله على سبيل النجاة، وبعد أن شرفكم قبل ذلك، فعرفكم به، ورفعكم إلى تلك المقامات السنية.. مقامات الأولياء والصديقين.
قال: لقد ذهبنا إلى أولئك القوم الكرام، فوجدنا معادنهم أصفى المعادن وأكرمها.. فما إن لاح لهم من نور الله ما لاح حتى استحالوا أنوارا صرفة.. فكان منهم العارفون والعابدون والزاهدون.. وقد أبى رفاقي جميعا أن ينصرفوا عنهم أو يرضوا بحياة بديلة عن حياتهم.. إلا أنا..
قلت: كيف ذلك؟
قال: بعد أن مكثنا في صحبتهم أياما سمع قومنا بنبئنا، فأرسلوا لنا طائرة خصوصية لتنقذنا، وتعيدنا إلى بلادنا.. لكن رفاقي جميعا أبوا أن يعودوا.. لقد التصقوا بالمكان الذي عرفوا فيه ربهم، فأبوا أن ينصرفوا عنه، أو يرضوا بمكان آخر بدله.
قلت: ولكنك ذكرت لي أنه كان مكانا وعرا شاقا.
قال: وقد ذكرت لك أنهم عرفوا الله فيه..
قلت: فما في ذلك؟
قال: كل أرض عرفت الله فيها، فهي عرفات أنسك، ومعراج روحك، وكعبة قلبك.. ولا يشقى من عرف ربه، ولا يحزن من أنس بمولاه.
قلت: ولكن الله يعرف في كل مكان.
قال: الله لا يحجبه المكان ولا الزمان.. ولا يحويه المكان ولا الزمان.. ولكن النفس قد تختلف لديها المحال.. والعاقل هو الذي يختار من الأرض ما يأنس فيه بربه، ويتفرغ فيه لمولاه.. لقد ذكر الله ذلك، فقال:P إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)O (النساء)
ثم قال بعدها:P وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)O (النساء)
فهذه الهجرة إلى الله.. وهذا هو الفرار إلى الله.
ألسنا نفر من أرض إلى أرض طلبا للرزق.. أو طلبا للجاه.. أو طلبا للعافية؟
قلت: بلى.. ولا حرج علينا في ذلك.
قال: ليس الحرج في ذلك.. ولكن الحرج أن نرحل لأجل كل شيء، ثم لا نكلف أرجلنا خطوة واحدة من أجل البحث عن ربنا أو الاتصال به.
قلت: ذلك لأن ربنا معنا في كل المحال.. ألم يقل الله تعالى:P مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)O (الحديد)؟
قال: ذلك صحيح.. ولكن الشأن ليس في أن يكون ربنا معنا، وإنما الشأن في أن نكون نحن مع ربنا.. فربنا تستوي لديه المحال، ولكنا نحن الذين تحجبنا الغفلة، ويحتوينا الهوى، فيمنعنا من السير إلى ربنا.. لقد قال أولياء الله في ذلك:( الحق ليس بمحجوب، وإنما المحجوب أنت عن النظر، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر:P وَهُوَ الْقَاهرُ فَوْقَ عِبَادِهِ.. O (الأنعام:18)
قلت: صدق أولياء الله في ذلك.. ولكنهم هم أنفسهم يذكرون أن السير إلى الله سير القلوب لا سير الأقدام.. لقد قال ابن عطاء الله في ذلك:( لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين، إذ لا مسافة بينك وبينه حتى تطويها رحلتك ولا قطعة بينك وبينه حتى تمحوها وصلتك)
قال: صدق ابن عطاء الله في ذلك.. ولكن النفس الراكنة إلى الهوى المتثاقلة إلى الأرض تحتاج إلى طي مسافات الأجسام لتصل إلى الذي لا تحجبه المسافات، ولا تحول دونه الحوائل.
لقد ذم الله المتثاقلين إلى الأرض القاعدين عن البحث عن مولاهم، أو عن السلوك إليه، وذكر لهم نموذجا عن ذلك، فقال:P وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)O (الأعراف)
قلت: سلمت لك بهذا، وقد ذكرني حديثك هذا بأبيات جميلة من الشعر كنت أسمعها وأنا صبي تنشد في حلقات الذكر، فتهزني هزا.. كان الحادي يترنم بقوله:
أخاطر في محبتكم بروحي |
وأركب بحركم أما
وأما | |
وأسلك كل فج في هواكم |
وأشرب كأسكم لو كان سماً | |
ولا أصغى إلى من قد نهاني |
ولي أذن عن العذال صما | |
أخاطر بالخواطر في هواكم |
وأترك في رضاكم أبا وأما |
سقطت دموع حارة من عيني الشيخ الصالح عند سماعة الأبيات، فمسحها بيده برفق، ثم قال: لقد آثر رفاقي جميعا أن يعيشوا مع أولئك الصالحين ليقضوا ما بقي لهم من عمر مع مولاهم إلا أنا، فقد تثاقلت إلى الدنيا، وركنت إلى الهوى.
قلت: فماذا فعلت؟
قال: لقد امتطيت الطائرة إلى حيث كان أخي في الفاتيكان..
قلت: ألم تسلم بعد كل هذا؟
قال: بلى.. لقد من الله علي فنطقت بما عجزت طول عمري أن أنطق به.. لقد أسمعت تلك الجبال جميعا أكبر شهادة في هذا الوجود (شهادة أن لا إله إلا الله.. وأن محمدا رسول الله)
لقد صحت بها.. فشعرت عند صياحي بها من السرور والسعادة ما لم يستطع جسمي تحمله.
وعندما زرت أخي في مكتبه، كان أول ما نطقت به بين يديه هو تلك الشهادة..
وقد عجبت عجبا شديدا إذ رأيت أخي ثابتا لم يتحرك، ولم يصبه ما كنت أتوقعه منه، بل اكتفى بقوله: لقد كنت أعلم أنك ستنطق بها.. ولم يكن لك إلا أن تنطق.. فيستحيل على من تعرض لتلك الشمس العظيمة أن يعرض عنها.
قلت: فهلم ننطق بها جميعا.
قال: وددت لو أني فعلت ذلك.. ولكن أنت تراني الآن كما ترى نفسك على أعتاب ذلك الكرسي الذي ظللنا طول عمرنا نحلم بأن نجلس عليه.
قلت: أنت الذي تحلم به، أما أنا فقد نطقت بها أخيرا.. ويستحيل أن أكون بابا بعدها.
ابتسم، وقال: لكأني بك نسيت من أنا.. ونسيت من أنت.. أنا وأنت شيء واحد..
نعم.. لقد تحديتني، فصحت بتلك الشهادة بين الجبال والآكام والصخور.. ولكنك لا تستطيع أن تنطق بها في غير تلك المحال..
صحت: بل سأنطق بها.. سأصرخ بها ليسمعها العالم أجمع.
ضحك بصوت عال، وقال: فجرب إذن.. اخرج إلى الخارج.. أو اكتف بأن تصيح بها هنا في مكتبي.
أردت أن أصيح، فإذا بي أشعر بتلك الخرسانة المسلحة تقف بيني وبين الصراخ.
قلت: ما الذي فعلت بي حتى منعتني من النطق بما اقتنع به كل كياني؟
قال: أنا لم أفعل لك شيئا.. ولكن صراخك في هذا المحل يحتاج إلى موافقتي.. وبما أني لم أوافق، فإنه يستحيل أن تنطق بكلمة واحدة.
قلت: فهيا نصيح بها جميعا.
قال: أتريدنا أن نضحي بذلك المنصب الرفيع؟
قلت: إن الله الكريم المنان سيمن علينا بالمناصب التي لا يمكن لأي كرسي في الدنيا أن يعوضها.
قال: لقد نبت حب ذلك المنصب في قلبي.. ولا يمكنني أن أعيش لحظة واحدة بعد أن يزول حبه من قلبي.
قلت: فماذا أفعل أنا؟
قال: كن مسلما كما تشاء.. قم الليل.. وصم النهار.. واذكر ربك آناء الليل وأطراف النهار.. ولكن شيئا واحدا لن أسمح لك به ما حييت..
قلت: الصراخ في الملأ بتلك الشهادة العظيمة؟
قال: أجل.. يمكنك أن تذهب إلى الجبال، وتصيح بها بين الصخور.. بل يمكنك أن تسمعها لنبات الأرض، ولنجوم السماء.. ولكني لن أسمح لك أبدا أن تحدث بها، أو تصيح بها بين الناس.
***
شعرت أني في محاولة إقناعي لأخي كمن يحاول أن يحول من الحجارة ذهبا، فلذلك ركنت إلى الصمت.. وفي ذلك المساء سرت إلى ضاحية المدينة حيث تتربع بعض الجبال العالية.. وهناك رفعت صوتي كما لم أرفعه من قبل ناطقا بتلك الشهادة العظيمة.
وقد ظللت على هذا فترة من عمري.. ثم إني جعلت في بيتي خلوة منفردة عن الناس كنت أردد فيها ما تعلمته من أذكار.. وكنت أناجي فيها الله بما كان يلهمني الله من مناجاته.
وقد وجدت في ذلك من السعادة والأنس ما لا يمكن لأحد في الدنيا أن يجده.