ثانيا ـ الواحد

في اليوم التالي.. وبعد أن من الله علينا بفضله وكرمه، فاستمعنا إلى البراهين الكثيرة الدالة على وجود الله تعالى، قام رجل منا، وقال: نعم.. لقد أثبت لنا صاحبنا (آرثر) بما لا يدع مجالا للشك بأن رب هذا الكون موجود.. ونحن لا نشك في ذلك، ولا ننازعه فيه.. ولكن ما أدرانا أن يكون إلها واحدا أو آلهة متعددة.. إن الأديان تختلف في ذلك اختلافا بينا.. فبينما تجنح المسيحية للتثليث نرى الإسلام يدعو إلى الإله الواحد.. الإله الواحد بكل معاني الوحدة.. فأيهما نصدق، وبأيهما نهتدي؟

قال آخر: صدقت.. وقد سمعت من احتجاجات الناس في بدء حياتي على هذه المعاني ما لم يستطع عقلي فهمه، فانصرفت عن البحث عن الله انصرافا تاما.. فهذه الحقيقة الغيبية التي تنازعت فيها الأديان يستحيل على العقول أن تثبتها.

قال آخر: صدقتما.. لا يمكن أن نعرف هذه الحقيقة إلا إذا تكلم معنا إله هذا الكون أو آلهته.

بقي نفر ممن معنا يردد مثل هذا الكلام إلى أن قاطعهم أحدنا بقوله: اسكتوا.. اسكتوا جميعا.. لقد تذكرت في هذه اللحظات جانبا مهما من حياتي كنت قد انصرفت عنه انصرافا كليا إلى أن عاد هذه اللحظة حيا ممتلئا حياة.

استبشرنا جميعا بقوله هذا، واقتربنا منه، ورحنا نقول بلسان واحد: هلم.. حدثنا.. فما أشوقنا إلى التعرف على الحقيقة.. فلن ينجينا من هذه المهامه إلا الحقيقة.

اعتدل صاحبنا في جلسته، ثم قال: أعرفكم بنفسي أولا.. أنا (آريوس) ([1]).. هكذا سماني أبي.. ولست أدري لم اختار أن يسميني به مع كونه كان كاثوليكيا متعصبا.. في نفس الوقت الذي كان فيه آريوس رجلا من كبار الموحدين، وداعية من دعاة التوحيد..

لقد كان لهذا الاسم بركات كثيرة علي.. فبسببه اهتديت إلى التوحيد.. وعرفت أن الله خالق هذا الكون يستحيل أن يكون إلا واحدا.. واحدا من كل الوجوه..

وقد دعاني إلى هذا اليقين في وحدانية الله حصلت لي.. عرفت من خلالها استحالة أن يكون إله هذا الكون متعددا.

قلنا: فحدثنا عنها..

قال آريوس: لا أذكر المكان الذي التقيت فيه ذلك المبلغ الذي أقنعني بهذا بالضبط.. ولا الزمان.. فقد انشغلت بحديثه عن كل شيء..

لست أعرف شيئا من المكان والزمان، ولكن اسمه لا يزال يرن على خاطري كل حين، فيملؤني بمشاعر غريبة.. لا أستطيع مهما حاولت أن أصورها.

لقد اجتمع فيه ما كان متناقضا بالنبسبة إلي.. لقد اجتمع فيه الإيمان والعقل.. وكلاهما جبل من الجبل قلما يجتمعان لدى أحد من الناس.

كان شابا عليه سيما الإيمان.. وكان اسمه – كما علمت بعد لقائي به- (فخر الدين)([2]).. وكان يقال له (الرازي) نسبة للبلاد التي ولد فيها.

وكان أول ما بادرني به قوله: أنت هو القس آريوس داعية التوحيد؟

قلت: إن كنت تريد بآريوس ذلك الهرطقي.. فلا يشرفني أن أنتسب إليه.

قال: لم؟

قلت: لأن جميع رجال الكنيسة يخالفونه.

قال: وعقلك؟.. هل يخالفه؟.. إن لعقلك دورا مهما قد لا يحتاج معه إلى موافقة الموافقين أو مخالفة المخالفين.

قلت: وما لعقلي، وهذه الأمور؟.. إن الله هو الذي يصف نفسه، لأنه هو الله، ولو أنا حاولنا بعقولنا أن نصف الله، لكنا الذين نحدد لله كيف يكون، ويكون العقل بالتالي هو صانع الإله..

قال: ألا ترى من العجب ألا تعرف العقول باريها الذي برأها؟

قلت: ولكن العقول تختلف في هذا.. وما في عقلي يختلف عما في عقلك.

قال: العقول تختلف عندما تلجأ إلى الخديعة.. ولكنها لو بحثت عن الحقيقة بصدق.. فإنها لن تختلف أبدا فيها.

قلت: فكيف نثق في أحكام العقل إذن ما دام يخاتل ويخادع؟

قال: إذا حررناه من الخدع([3]).

قلت: فكيف نحرره؟

قال: إذا تجردنا من الأهواء، فلم نمل على عقولنا كيف تفكر، ولا فيما تفكر.

قلت: أترى لو أن البشر كلهم فعلوا ذلك يصلون إلى الحقائق؟

قال: نعم.. يصلون إليها من أقرب الطرق.

قلت: فكيف يتفقون على الوصول إليها مع كونهم مختلفي الطباع والأجناس والألوان؟

قال: أتراهم يختلفون في تذوقهم للطعوم، أو تحسسهم للأشياء، أو رؤيتهم للألوان.

قلت: لا.. ولكن تلك محسوسات.. وهذه معقولات.

قال: أتراهم يختلفون في البراهين الرياضية.. أم يتفقون عليها؟

قلت: بل يتفقون.. فالرياضيات واحدة.. ونتائجها واحدة.

قال: فتعاملوا مع حقائق الوجود بالمنطق الرياضي.

قلت: المنطق الرياضي مرتبط بالأرقام.. ونحن في عالم أكبر من أن تحصره الأرقام.

قال: هناك قوانين كثيرة في الكون تشبه في دقتها دقة الأرقام فاعتمدوا عليها.

قلت: أيمكن أن نصل بها إلى الحقائق؟

قال: يمكن أن تصلوا بها إلى أبواب الحقائق.. وتدقوا بها هذه الأبواب.

قلت: وما بعد الأبواب؟

قال: لما بعد الأبواب عقوله الخاصة.. فلا تطلبوا ما بعد الأبواب قبل أن تصلوا إلى الأبواب.

قلت: ما دمت قد ذكرت هذا.. فهلم حدثني عن حكم العقل في الخلاف الذي حصل بين آريوس وبين رجال الكنيسة.

قال: أول ما يدلك على وحدانية الله([4]) هو نظرك إلى هذا الكون نظرة العالم العاقل الخبير.. فهذا الكون يشهد بكل ذرة من ذراته.. وبكل حرف من حروفه على أن الله واحد.. واحد من كل الوجوه.

يَا عَجَباً كيف يُعْصَى الإلهُ
 
أم كيف يَجْحَدُه الجاحدُ؟!
  
وللهِ في كل تحريكةٍ
 
وتسكينةٍ أبداً شاهدُ
  
وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ
 
تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ
  

قلت: أنا مثلك أرى الكون.. وغيرنا كثير يراه.. ولكننا لا نستنتج ما تستنتج.

قال: لا بأس.. سأذكر لك عشرة براهين تجعلك ترى من الكون مرآة مجلوة لا تدل إلا على الواحد الأحد.

التكامل:

قلت: فهات أولها؟

قال: التكامل.

قلت: ما التكامل؟.. وما الذي يدل عليه؟

قال: لاشك أنك تعلم أن هذا الهواء الذي نستنشقه مركب من عدة عناصر.. منها جزءان هامان: جزء صالح لتنفس الإنسان هو (الأوكسجين) وجزء ضار به هو (الكربون).. ومن دقائق الارتباط بين وحدات هذا الوجود أن هذا الجزء الضار بالإنسان يتنفسه النبات، وهو نافع له.

ففي الوقت الذي يكون الإنسان فيه يستنشق الأوكسجين ويطرد الكربون، يكون النبات يعمل عكس هذه العملية، فيستنشق الكربون ويطرد الأوكسجين.

وتتم عملية إيجاد التوازن بين الصادر والوارد من غاز الكربون في البحر، فإنه يمتص كل زيادة موجودة في الجو إذا بلغت هذه الزيادة فوق الحد المناسب.

فانظر إلى الرابطة التعاونية التكاملية بين الإنسان والنبات والبحر في شيء هو أهم عناصر الحياة، وهو التنفس.

هذا مثال واحد عن التكامل في الكون..

وإن شئت مثالا آخر.. فانظر إلى الطعام الذي تأكله.. إنه يتركب – كما تعلم- من عدة عناصر نباتية أو حيوانية، تنقسم إلى مواد زلالية ونشوية ودهنية وغيرها.

ثم انظر إلى الريق حيث تراه يهضم بعض المواد النشوية، ويذيب المواد السكرية ونحوها مما يقبل الذوبان، ليذهب ما بقي من طعام إلى المعدة حيث يهضم عصيرها المواد الزلالية كاللحم وغيره، والصفراء المفرزة من الكبد تهضم الدهنيات وتجزئها إلى أجزاء دقيقة يمكن امتصاصها، ثم يأتي البنكرياس بعد ذلك، فيفرز أربع عصارات تتولى كل واحدة منها تتميم الهضم في عنصر من العناصر الثلاثة النشوية أو الزلالية أو الدهنية، والرابعة تحول اللبن إلى جبن، فتأمل هذا الارتباط العجيب بين عناصر الجسم البشري وعناصر النبات والحيوان، والأغذية التي يتغذى بها الإنسان.

هذا مثال ثان.. وإن شئت مثالا ثالثا فانظر إلى الأزهار التي تزين الحقول.. إنك ترى لها أوراقا جميلة جذابة ملونة بألوان مبهجة، فإذا سألت علماء النبات عن الحكمة في ذلك أجابوك بأن هذا إغواء للنحل وأشباهه من المخلوقات التي تمتص رحيق الأزهار، لتسقط على الزهرة، حتى إذا وقفت على عيدانها علقت حبوب اللقاح بأرجلها، وانتقلت بذلك من الزهرة الذكر إلى الزهرة الأنثى فيتم التلقيح.. فانظر كيف جعلت هذه الأوراق الجميلة في الزهرة حلقة اتصال بين النبات والحيوان؛ حتى يستخدم النبات الحيوان في عملية التلقيح الضرورية للإثمار والإنتاج.

إن هذا التكامل تجده في كل شيء بين الليل والنهار، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والأعضاء المذكرة والأعضاء المؤنثة، والإنسان والحيوان والنبات.

إن في هذا الكون جميعا وحدة مظهرها تكامل أجزائه.. وهي تدل على أن لها خالقا.. وأنه واحد..

قلت: فهمت ما ذكرت.. فهو من المعلوم من العلم بالضرور والبداهة.. ولكني لم أفهم سر الاستدلال بهذا؟

قال: إن التعدد مدعاة الفساد والخلاف.. ولهذا فلو استقل أحد المتعددين بالتصرف تعطلت صفات الآخرين ولو اشتركوا تعطلت بعض صفات كل منهم، وتعطيل صفات الألوهية يتنافى مع جلالها وعظمتها، فلا بد أن يكون الإله واحدا لا رب غيره.

لقد ذكر القرآن الكريم كتاب المسلمين المقدس هذا الدليل.. فقال:{ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} (النمل).. وغيرها من الآيات الكثيرة.

التناسق:

قلت: عرفت الأول.. فحدثني عن الثاني.

قال: لقد ذكره ربي، فقال:{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} (الملك)

وقد ذكره العلم فأخبر أن من مظاهره أن الإلكترون يدور على عكس عقارب الساعة، والأرض تدور على عكس عقارب الساعة، والشمس تدور على عكس عقارب الساعة، والكواكب السيارة تدور على عكس عقارب الساعة، والقمر وكل الأقمار تدور على عكس عقارب الساعة، والنجوم كلها تدور عل عكس عقارب الساعة، ومجرتنا التي تضم بين أجزائها مجموعتنا الشمسية تدور على عكس عقارب الساعة.

وأخبر أن الإلكترون يدور على مدار بيضوي إهليجي، والأرض تدور حول الشمس على مدار بيضاوي إهليجي، وكذلك الزهرة ونبتون والمشتري والكواكب السيارة.

وأخبر أن محور الأرض مائل. ومحور القمر مائل ومحور المريخ مائل، ومحور الشمس مائل..

وأخبر أن النسبة بين النواة وإلكتروناتها كالنسبة بين الشمس وكواكبها السيارة.

وأخبر أن ذرات الوجود كلها تقوم على الزوجية كهرباء سالبة وكهرباء موجبة فإذا ارتقينا إلى النبات وجدنا عنصر الزوجية، فإلى الحيوان كذلك فإلى الإنسان كذلك.. وحتى في الأحياء المخنثة توجد أعضاء ذكرية وأخرى أنثوية.. لقد ذكر القرآن ذلك، فقال تعالى:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} (يس)

وأخبر أن في الأرض نفس العناصر التي تؤلف الشمس ونفس العناصر التي تؤلف كل الكواكب.

وأخبر أن الكون بكل عناصره مؤلف من بروتونات وإلكترونات كعناصر أساسية هناك نيترونات كشحنات كهربائية معتدلة تكون في نواة معظم العناصر.

وأخبر أن المادة كلها من نور إذ أن عناصر المادة كلها تؤول إلى ذرات وكهارب وأن هذه الذرات والكهارب تنشق فتؤول إلى شعاع.

وأخبر أن أجنة الحيوان والإنسان في الشهور الأولى من الحمل متشابهة تشابها تاما، فإذا بهذا التشابه يخرج منه ذلك الخلق المختلف.

وأخبر أن في هذا الكون قوة ومنابع قدرة وتحكمه قوانين.. وكلها تصيح بأدق معاني التناسق والوحدة بين القوى والقوانين:

فمن منابع القوة والقدرة في هذا الكون: الضوء والحرارة والأشعة السينية والأشعة اللاسلكية والأشعة البنفسجية وتحت الحمراء.. وهذه القوى كلها ترجع إلى شيء واحد هو تلك القوة الكهربائية المغناطيسية، ولها جميعا سرعة واحدة، وإنما اختلافها اختلاف موجة.

ومن قوانين هذا الكون قانون الجاذبية الذي يحكم الوجود كله من أصغر ذراته إلى أكبر أجرامه، والذي نصه: (كل شيء له كتلة يجذب كل شيء آخر له كتلة، وقوة التجاذب التي بينهما تزداد ازديادا طرديا بزيادة أي الكتلتين، فالقوة تتناسب تناسبا عكسيا مع مربع البعد بينهما).. وقد عرفنا من هذا أن هناك قوتين أو نوعين من القوى؛ القوة المغناطيسية الكهربائية وقوى الجاذبية.. وكلها ترجع إلى أصل واحد.. يقول أينيشتاين: (إن روح العالم النظري لا تحتمل أن يكون في الوجود شكلان لقوى لا يلتقيان شكل للجاذبية القياسية، وشكل للمغناطيسية الكهربائية)سكت قليلا، ثم قال: سأقص عليك قصتين تدلانك على مدى التناسق الموجود في الكون لترى من خلالهما الوحدة الكونية.. ولتستدل بها على وحدة المكون.

قلت: فحدثني عن الأولى.

قال: أنت تعلم أن لاختلاف العناصر الأصلية في هذا الكون، أثر عند اختلاف عدد إلكتروناتها وبروتوناتها، والوزن الذري أثر من آثار هذا العدد، وخواص كل عنصر أثر من آثار هذا العدد.

وقد استطاع العالم الروسي مندليف أن يصنف العناصر بحسب وزنها الذري، ووضع لها جدولا على هذا الأساس، وكان ترتيب العناصر متدرجا صاعدا، ولكنه فوجئ بفراغ لم يجد ما يملؤه به.

إذ أنه وجد أن درجات السلم الدوري للعناصر تطرد بتتابع لا فراغ فيه، إلا في ثلاثة عناصر، فإما أن يكون هذا القانون الدوري غير مطرد وغير صحيح، وإما أن يكون صحيحا ومطردا، فلا بد حينئذ من وجود هذه العناصر المفقودة، في نفس تلك الدرجات الفارغة.

وبما أن مندليف كان واثقا من صحة قانونه الدوري، فإنه أخذ يؤكد أن هذه العناصر الثلاثة المفقودة لا بد من وجودها على الأرض، بل إنه استطاع على أساس وزنها الذري الذي يأتي في الدرجات الفارغة أن يحدد كل الخواص الكيميائية التي لها كأنه يراها.

وقد كتب الله لمندليف أن لا يأتي أجله قبل تأكده من صحة نظريته العلمية.. فقد اكتشف العلماء العناصر المفقودة بكل خصائصها كما حددها مندليف.

قلت: سمعت الأولى.. فحدثني عن الثانية.

قال: لاشك أنك تعلم أن أقرب الكواكب إلى الشمس هو عطارد، وهو يبعد عنها بـ 36 مليون ميل.. ثم الزهرة ومتوسط بعدها 67 مليونا.. ثم الأرض 93 مليونا.. ثم المريخ 142.. ثم المشتري 484 مليونا.. ثم زحل 887 مليونا.. ثم أورانوس 1782 مليونا.. ثم نبتون 2792 مليونا من الأميال.

القصة لا ترتبط بهذه الأعداد، وإنما ترتبط بالنسبة بينها..

إن أبعاد هذه السيارات عن الشمس جارية على نسب مقدرة ومطردة تسير وفق 9 منازل: أولها الصفر، ثم تليه ثمانية أعداد تبدأ بالعدد 3، ثم تتدرج متضاعفة هكذا 2-6-12-24-48-96-192-384 فإذا أضيف إلى كل واحد منها العدد 4 ثم ضرب حاصل الجمع بتسعة ملايين ميل، ظهر مقدار بعد السيارة التي في منزلة العدد عن الشمس؛ أي أنه بإضافة 4 إلى كل منزلة تصبح المنازل التسع هكذا: 4-7-10-16-28-52-100-196-388 فإذا أخذنا أعداد المنازل هذه، وضربنا كل عدد منه بتسعة ملايين، يظهر لنا بعد السيارة التي هي في منزلة ذلك البعد عن الشمس؛ فعطارد مثلا يبلغ متوسط بعده عن الشمس 36 مليون ميل، وبما أن منزلته في البعد هي الأولى فيكون رقمه 4، فإذا ضربنا 4×9 يكون حاصل الضرب 36 مليون ميل، وهكذا تسير النسبة في بعد كل سيار عن الشمس مع فروق مختلفة قليلة.

ولكن العلماء وجدوا أن منزلة العدد (28) ليس فيها كوكب، بل تأتي بعد العدد 16 الذي صاحبه المريخ، العدد 52 الذي صاحبه المشتري، وقد تساءل العلماء عن السر في هذا الفراغ.. فإما أن تكون النسبة التي اكتشفوها غير مطردة، وإما أن يكون هناك كوكب غير منظور في مرتبة العدد 28 على بعد 252 مليون ميل عن الشمس، أي بين المريخ والمشتري.

وأخيرا وجدوا هذا الشيء الذي لا بد من وجوده، ولكنهم لم يجدوه كوكبا كبيرا؛ بل وجدوا كويكبات صغيرة كثيرة تدور كلها في الفراغ المذكور الذي بين المريخ والمشتري، أي في نفس المنزلة التي حسبوها من قبل فارغة، فكأنه كوكب تحطم.

التفت إلي، وقال: إن هاتين قصتين متشابهتين في قضيتين مختلفتين، كل واحدة منها تتمم الأخرى لتكملا عندك الشعور بأن يدا واحدة قد خلقت قوانين هذا الوجود وعناصر وجزيئاته وكلياته.

التمانع:

قلت: عرفت الثاني.. فحدثني عن الثالث([5]).

قال: لقد ذكره ربي، فقال:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} (الأنبياء)

قلت: فكيف تقرر هذا البرهان؟

قال: القول المفضي إلى المحال لابد أن يكون محالا.. وهكذا، فإن القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال.. فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالاً.

قلت: فكيف زعمت بأن القول بوجود إلهين يفضي إلى محال؟

قال: لأنا لو فرضنا وجود إلهين فلا بد أن يكون كل واحد منهما قادراً على كل المقدورات، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادراً على تحريك شيء ما وتسكينه..

فلو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه والآخر تسكينه:

فإما أن يقع المرادان، وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين.

وإما أن لا يقع واحد منهما، وهو محال، لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر، فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك، وبالعكس.. فلو امتنعا معاً لوجدا معاً، وذلك محال.

قلت: فلنفرض أنه يقع مراد أحدهما دون الثاني؟

قال: ذلك محال أيضاً لوجهين: أولهما أنه لو كان كل واحد منهما قادراً على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر، بل لا بد وأن يستويا في القدرة.. وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني، وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح.

أما الثاني، فإنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر، فالذي وقع مراده يكون قادراً، والذي لم يقع مراده يكون عاجزاً، والعجز نقص، وهو على الله محال.

قلت: تقريرك هذا يصح في حال القول باختلافهما في الإرادة.. وذلك ليس لازما..

قال: حتى لو فرضنا ذلك.. فإننا نعتبره من نوع الممكن.. فإذا كان الفساد مبنياً على الاختلاف في الإرادة، وهذا الإختلاف ممكن.. والمبني على الممكن ممكن.. فكان الفساد ممكناً.

قلت: فكيف جزم قرآنكم إذن بوقوع الفساد؟

قال: لو فرضنا إلهين لكان كل واحد منهما قادراً على جميع المقدورات، فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد، وهو محال..

قلت: وما في ذلك؟

قال: لأن استناد الفعل إلى الفاعل لإمكانه، فإذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد، فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع، فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلاً منهما جميعاً، فيلزم استغناؤه عنهما معاً واحتياجه إليهما معاً وذلك محال.

وإن شئت تقريرا آخر لهذا أقول: إن خلقة العالم التي تحققت على طبق النظام الأتم لو كان المؤثر فيها إرادة أحدهما استلزم عجز الآخر، ولو كان إرادتهما معا استلزم عجز كليهما.

فإن علم كل واحد منهما بالنظام الأتم للعالم اقتضى إرادته لإيجاده، فكانت إرادتهما متمانعتين، فإن كل واحد منهما علة تامة لإيجاده ،ويستحيل استناد المعلول إلى علتين تامتين.

فتكون العلة التامة هي مجموع إرادتهما، دون إرادة كل واحد منهما، وعجز كل منهما أن يكون علة تامة له.

وإن كانت إرادة أحدهما قاهرة على إرادة الآخر ثبت عجز أحدهما، وهو ينافي وجوب الوجود، وبذلك تبطل خلقة عالم لا محالة.

الوحدة:

قلت: عرفت الثالث.. فحدثني عن الرابع.

قال: لقد ذكره ربي، فقال:{  مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} (المؤمنون)

ففي قوله تعالى:{.. إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ.. (91)} (المؤمنون) حجة على نفي التعدد ببيان محذوره، إذ لا يتصور تعدد الآلهة إلا ببينونتها بوجه من الوجود، بحيث لا تتحد في معنى ألوهيتها وربوبيتها.

ومعنى ربوبية الإله في شطر من الكون ونوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقل في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شي غيرنفسه حتى إلى من فوض إليه الأمر.. ومن البين أيضا أن المتباينين لا يترشح منهما إلا أمران متباينان.

ولازم ذلك أن يستقل كل من الآلهة بما يرجع اليه من نوع التدبير.. وتنقطع رابطة الاتحاد والاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم.. كالنظام الجاري في العالم الإنساني عن الانظمة الجارية في أنواع الحيوان والنبات والبر والبحر والسهل والجبل والأرض والسماء وغيرها.. وكل منها عن كل منها.. وفيه فساد السماوات والأرض وما فيهن.. ووحدة النظام الكوني والتئام أجزائه واتصال التدبير الجاري فيه يكذبه.

وهذا هو المراد بقوله:{.. إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ.. (91)} (المؤمنون) أي انفصل بعض الآلهة عن البعض الآخر بما يترشح منه من التدبير.

وفي قوله:{.. وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ..(91)} (المؤمنون) محذور آخر لازم لتعدد الآلهة، تتألف منه حجة أخرى على النفي.. وهي أن التدابير الجارية في الكون مختلفة.. منها التدابير العرضية ،كالتدبيرين الجاريين في البر والبحر، والتدبيرين الجاريين في الما والنار.. ومنها: التدابير الطولية، التي تنقسم الى تدبير عام كلي حاكم، وتدبير خاص جزئي محكوم، كتدبير العالم الأرضي وتدبير النبات الذي فيه، وكتدبير العالم السماوي وتدبير كوكب من الكواكب التي في السماء، وكتدبير العالم المادي برمته وتدبير نوع من الأنواع المادية.

فبعض التدبير ـ وهو التدبير العام الكلي ـ يعلو بعضا، أي أنه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه، لتقومه بما فوقه، كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي، أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنساني ولا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص.

ولازم ذلك أن يكون الإله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير، عاليابالنسبة إلى الإله الذي فوض إليه من التدبير ما هو دونه وأخص منه وأخس، واستعلاء الإله على الاله محال.

لقد عبر الإمام جعفر الصادق عن هذا البرهان، فقال: ( فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جاريا والليل والنهار والشمس والقمر دل صحة التدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد)

وعير عنه صدر المتالهين، فقال:( إن كونها ( أي الموجودات) مرتبطة منتظمة في رباط واحد، مؤتلفة ائتلافا طبيعيا يدل على أن مبدعها ومدبرها وممسك رباطها عن أن ينفصم واحد حقيقي، يقيمها بقوته التي تمسك السماوات والأرض أن تزولا، ولو كان فيهما صانعان لتميز صنع كل واحد منهما عن صنع غيره، فكان ينقطع الارتباط، فيختل النظام، كما في قوله تعالى:{.. إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} (المؤمنون)([6])

إلى أن قال: (كون جبلة العالم مع تفنن حركاتها وتخالف أشكالها وتغير آثارها مؤسسة على الائتلاف الطبيعي والرصف الحكمي دالة بوحدتها الطبيعية الاجتماعية على الوحدة الحقة الحقيقية)

فسبحان من جعل الموجودات العالمية على كثرتها متشاكلة من وجه ومتمايزة من وجه متفرقة من وجه.. لتكون دالة على صنع قادر حكيم ومدبر عليم.

وقد عبرت الطبيعة عن هذا خير تعبير: فإنا نرى جميع موجودات العالم مرتبطة بقوانين حاكمة على جميعها:

فحركة الأجرام السماوية التي تسير في مدارات معينة، وفواصل منظمة، بحيث لا تصطدم الواحدة بالأخرى، تدل على وحدة النظام في العالم.

وهكذا نرى الجمادات والنباتات والحيوانات والإنسان، بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر كالمعدات([7]).. فالحيوان يأكل النبات، والإنسان يأكل الجماد، ويتغذى على النباتات والحيوانات لتصبح جزءا منه.. ويموت الإنسان والحيوان ويصبحا ترابا.. وينمو النبات من التراب.. فكل منها يتحول الى الآخر بشروط خاصة.. وهذا يدل على أن خالق الجميع واحد متى ما أراد يحوله إلى الآخر.

وهكذا نرى الموازنة الموجودة بين الحيوانات والنباتات في صرف الاوكسجين والكاربون، فإن التركيب الأساسي لوجود جميع النباتات حاصل من الماء والكاربون، وتطرح الحيوانات الكاربون في الهواء، وتجذب الأوكسجين، فتحصل الموازنة بين صرف الكاربون والأوكسجين..

والأمثلة على ذلك لا تكاد تحصى.

الهداية:

قلت: عرفت الرابع.. فحدثني عن الخامس.

قال: لقد ذكره ربي، فقال:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } (آل عمران)

قلت: فكيف تقرر هذا الدليل؟

قال: إن واجب الوجود – سبحانه وتعالى- هو منبع كل فيض، فكما يفيض منه الفيض التكويني يفيض منه الفيض التشريعي.. وذلك لسوق العباد الى الكمال وهدايتهم الى معرفة ما يؤدي إلى رضاه.

وبما أن جميع الأنبياء قد أخبروا بوحدانية اللّه سبحانه وتعالى، وقدبعثوا بالرسالة من قبل الواحد الأحد، وقد أيدهم بشواهد الصدق، وقرنهم بالمعجزات، وشهدوا جميعا بوحدانيته، فلو كان هناك إله آخر لبعث من ناحيته أنبياء ورسلا أخبروا عنه، وأدوا رسالته إلى الناس.. فانتفاء نبي يخبر عنه، واتفاق جميع الأنبياء على وحدانية اللّه تعالى يدل على أنه ليس معه إله آخر، وأنه الإله الواحد الأحد الذي لا شريك له في ألوهيته.

لقد ذكر الإمام علي بن أبي طالب في وصيته لابنه الحسن هذا البرهان، فقال: (واعلم، يا بني، أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد، كما وصف نفسه، لا يضاده في ملكه أحد، ولا يزول أبدا، ولم يزل، أول قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية، عظم عن أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر)([8])

وقال المجلسي في تقرير هذا البرهان: (إن هذا برهان قاطع على وحدانيته تعالى.. فإن واجب الوجود يجب أن يكون قادرا وفياضا على الاطلاق.. فإن كان اللّه قد أرسل أربعة وعشرين ومائة ألف نبي لهداية الناس إلى معرفته ودعوتهم إلى عبادته، لبعث الإله الآخر على فرض وجوده نبيا لا محالة لإرشاد الناس إلى معرفته ودعوتهم إلى عبادته، وإلا لكان غير قادر أو غير حكيم، وكان جاهلا أو بخيلا، وواجب الوجود يجب أن يكون منزها من هذه الصفات المستلزمة للنقص، المستلزم للإمكان)

الحقيقة:

قلت: عرفت الخامس.. فحدثني عن السادس.

قال: هو برهان الحقيقة..

قلت: فوضحه لي..

قال: إن صدق إطلاق (واجب الوجود) على شيء لا يتصور إلا على وجهين..

أما أولهما، فأن تكون حقيقته هي أنه واجب الوجود.

وأما الثاني، فأن يكون من قبيل صدق المفهوم على فرد كان حقيقته غير ذلك، كصدق الضارب والأبيض على فرد الإنسان.. وقد يخلو منها.

وفي هذه الحالة، فإن صدق إطلاق (واجب الوجود) من قبيل العرض لا من قبيل الحقيقة.. وهذا يؤدي إلا أن يفتقر عروضه عليه إلى علة هي واجب الوجود بحقيقته وذاته دونه.

ولو فرض اثنان، كل واحد منهما واجب بحقيقته وذاته، لكان ما به التميز والتعدد غير واجب الوجود بحقيقته، فإان المفروض أن حقيقة واجب الوجود مشترك بينهما، فما به التميز والتعدد ممكن الوجود بحسب ذاته، فيكون خارجا عن ذات واجب الوجود، فثبت أن التعدد منشؤه إمكان الوجود.. ولا سبيل للتعدد إلى واجب الوجود.

التعين:

قلت: عرفت السادس.. فحدثني عن السابع.

قال: لقد ذكره الشيخ الرئيس في (الإشارات) و(الشفاء)

فقال في (الإشارات): ( واجب الوجود المتعين إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجود فلا واجب وجود غيره، وإن لم يكن تعينه لذلك، بل لأمر آخر، فهو معلول)

وقال في (الشفاء) في شرح هذا البرهان: (مثلا لو كان الشيء الواجب الوجود هو هذا الإنسان، فلا يخلو إما أن يكون هو هذا هذا الإنسان، للإنسانية ولأنه إنسان، أو لا يكون.

فإن كان لأنه إنسان هو هذا، فالإنسانية تقتضي أن يكون هو هذا فقط.

وإن وجدت لغيره فما اقتضت الإنسانية أن يكون هو هذا، بل إنما صار هذا لأمر غير الإنسانية.

فكذلك الحال في حقيقته واجب الوجود، فإنها إن كانت لأجل نفسها هي هذا المعين لاستحال أن تكون تلك الحقيقة لغيره، فيكون تلك الحقيقة ليست إلا هذا.

وإن كان تحقق هذا المعنى فهذا المعين لا عن ذاته، بل عن غيره، وإنما هو هو لأنه هذا المعين، فيكون وجوده الخاص له مستفادا عن غيره فلا يكون واجب الوجود، وهذا خلف.

قلت: هلا وضحت لي هذا البرهان.

قال: لو فرض كون واجب الوجود اثنين: أحدهما غير الآخر في الخارج كان لكل واحد منهما عينية غير عينية الآخر.

فإما أن تكون عينيته وكونه هذا الواجب دون الآخر بمقتضى كونه واجب الوجود، فيكون وجوب الوجود مقتضيا لكون واجب الوجود هو هذا الواجب دون الاخر، فيستحيل وجود واجب الوجود غيره، لكونه مستلزما للتناقض.

واما ان تكون عينيته وكونه هذا الواجب دون غيره ليس بمقتضى وجوب وجوده، تكون عينيته معلولة للغير، فلا يكون واجب الوجود، فيستلزم التناقض أيضا.

التركيب:

قلت: عرفت السابع.. فحدثني عن الثامن.

قال: لقد ذكره الحكيم السبزواري في (المنظومة)، فقال:

تركب أيضا عراه إن يعد
 
مما به امتياز وما به اتحد.
  

وتقريره: أنه لو كان واجب الوجود متعددا للزم أن يكون مركبا.. وهو باطل، لمنافاة التركيب مع الوجوب.

وبيان الملازمة أن اختلاف ذاك الواجب على فرض التعدد عن ذاك إما بالاختلاف النوعي بأن يكون كل واحد نوعا مغايرا مع نوع الآخر، وإمابالاختلاف الشخصي.

فعلى الأول: يلزم أن يكون كل واحد منهما مركبا من الجنس والفصل.

وعلى الثانى: يلزم أن يكون كل منهما مركبا مما يكون به مشتركا مع الآخر في تمام الذات، ومن عارض شخصي يمتاز به عن الآخر.

وعلى التقديرين: يلزم تركيب الواجب إما في أصل حقيقته -كما في الأول – أو في تشخصه، كما في الأخير.

قلت: هلا وضحت لي هذا بطريقة أخرى.

قال: لا بأس.. اسمع جيدا.. إذا كان واجب الوجود متعددا لزم تركب كل منهما، أو خروجه عن كونه واجبا، لأنه مع فرض التعدد لو كان واجبان مثلا واشتركا في وجوب الوجود لاحتاج كل منهما إلى ما به يمتاز عن الآخر، لكي تتم الاثنينية، وحينئذ لا يخلو:

إما تكون ذات كل منهما متميزة عن الآخر بتمام الذات، ويكون الاشتراك في وجوب الوجود الذي يصدق عليهما صدقا عرضيا.

أو يكون امتيازهما بأمر خارج عن الذات، ويكون وجوب الوجود ذاتيا لهما، بمعنى كونه تمام ذاتهما.

أو يكون وجوب الوجود جزءا من ذاتهما، ولا محالة يكون لكل منهما جزءا آخر قضاء لحكم الجزئية.

والكل محال:

أما الأول: فللزوم كون كل منهما في مرتبة ذاتهما غير واجب، فيكون كل منهما ممكن الوجود ومعروضا للوجوب.

وأما الثاني: فللزوم تركب كل منهما في كونه فردا من واجب الوجود، واحتياج كل واحد في تفرده إلى العوارض المشخصة.

وأما الثالث: فلصيرورة كل منهما مركبا من الجنس والفصل، وهذا ظاهر.

الفرجة:

قلت: عرفت الثامن.. فحدثني عن التاسع.

قال: لقد ذكره الإمام الصادق، فقال في حواره مع الملحد: (يلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة.. فان ادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة.. ثم يتناهى في العدد الى ما لا نهاية له في الكثرة)

قلت: فما تقرير هذا البرهان؟

قال: لو فرض اثنان كل منهما واجب الوجود، لم يكن الوجوب خارجا عن حقيقة كل منهما، فلابد من الامتياز بشي وجودي في كل منهما أو في أحدهما ولم يكن في الآخر.

ثم إن ما به امتيازه أيضا واجب الوجود لا محالة، فيشترك مع الاثنين في وجوب الوجود، فلابد من امتياز عنهما من آمر آخر يمتاز به عنهما، فهو أيضا واجب الوجود، فيشترك مع الثلاثة في وجوب الوجود، فلابد أيضا من أمر آخر يمتاز به عن الثلاثة، فهو أيضا واجب الوجود لا محالة، فيشترك مع الأربعة في وجوب الوجود، ولابد في امتيازه عن الأربعة من أمر خامس، وهكذا إلى ما لا نهاية.

قلت: الامتياز بين الشيئين قد يكون بتمام الذات، والاشتراك بأمر عام ذهني خارج عنهما لازم لهما.

قال: هذه شبهة مشهورة عجز الناس عن حلها، لكن من عرف حقيقة وجوب الوجود علم أن الذي به تصير الأشياء والماهيات ذوات حقيقة هو أولى وأحق بأن يكون ذا حقيقة، بل هو نفس الحقيقة، وهي المتحققة بذاتها المتحقق بها سائر الأشياء من ذوات الماهيات.

فلو فرض إلهان لم يكن وجوب الوجود خارجا عن حقيقة كل منهما، فلا بد حينئذ من الامتياز بشيء وجودي خارج عن حقيقة كل منهما، إذ ليس انضمام ما فرض هاهنا مميزا، حاله كحال انضمام فصل بجنس، والجنس ماهية كلية مبهمة تتحصل بالفصل، فيكون انضمام الفصل إليه انضمام أمر محصل إلى أمر مبهم ليصيرا معا موجودا واحدا، وإما هاهنا فانضمام المميز إلى حقيقة واجب الوجود انضمام محصل موجود إلى محصل موجود آخر، ولهذا يلزم أن يكون المفروض اثنين ثلاثة، والمفروض ثلاثة خمسة، وهكذا إلى لا نهاية..

الكلية:

قلت: عرفت التاسع.. فحدثني عن العاشر.

قال: لقد ذكره صاحب كليات رسائل النور.. بديع الزمان النورسي.. فقال:( إن عوالم الكائنات المختلفة وأنواعها المتنوعة وعناصرها المتباينة قد اندمجت اندماجاً كلياً وتداخل بعضُها مع البعض الآخر، بحيث:

أن مَن لم يكن مالكاً لجميع الكون لا يمكنه أن يتصرف بنوعٍ منه أو عنصر فيه تصرفاً حقيقياً، لأن تجلي نور التوحيد لاسم الله (الفرد) قد أضاء أرجاء الكون كله، فضمّ أجزاءها كافة في وحدة متحدة، وجعل كل جزء منه يعلن تلك الوحدانية.

مثلاً: كما أن كون الشمس مصباحاً واحداً لهذه الكائنات يشير إلى أن الكائنات بأجمعها ملكٌ لواحد، فإن كون الهواء هواءً واحداً يسعى لخدمة الأحياء كلها.. وكون النار ناراً واحدة توقد بها الحاجات كلها.. وكون السحاب واحداً يسقي الأرض.. وكون الأمطار واحدة تأتي لإغاثة الأحياء كافة.. وانتشار أغلب الاحياء من نباتات وحيوانات انتشاراً طليقاً في أرجاء الأرض كافة مع وحدة نوعيتها، ووحدة مسكنها.. كل ذلك إشارات قاطعة وشهادات صادقة أن: تلك الموجودات ومساكنها ومواضعها إنما هي ملكٌ لمالك واحدٍ أحد.

ففي ضوء هذا وقياساً عليه نرى: أن تداخل الأنواع المختلفة للكائنات واندماجها الشديد ببعضها قد جعل مجموعَها بمثابة (كل) واحد لا يقبل التجزئة قطعاً من حيث الإيجاد.. فالذي لا يستطيع أن يُنفِّذ حكمَه على جميع الكون لا يمكنه – من حيث الخلق والربوبية – أن يُخضِع لربوبيته أي شئ فيه، حتى لو كان ذلك الشئ ذرة أو أصغر منها.

***

التفت إلينا صاحبنا (آريوس)، وقال: هذا حديثي مع ذلك الرجل الصالح.. لقد عشت في رحاب كلماته أياما جميلة.. ولكن  كلاليب الدنيا سرعان ما جذبتني، فنسيت تلك الأيام.. ونسيت معها تلك المعاني..

لقد بعتها جميعا بثمن بخس حقير..

ولكن الله الرحمن الرحيم تداركني بلطفه، فأعاد إلى ذاكرتي الساعة تلك الأيام الجميلة التي نعمت فيها بتلك الصحبة الشريفة..


([1])أشير به إلى (آريوس) (256 – 336م)، وهو قس إغريقي من سكان الإسكندرية، بمصر، أنشأ في حوالي عام 318م مذهبًا لاهوتيًا نصرانيًا يعرف بالآريوسية، أكد فيه أن المسيح مخلوق وليس إلهًا.. وكان يؤمن بالوحدانية ويقر بنبوة المسيح u لا بألوهيته.

وفي حوالي عام 318م، استنكر الإسكندر، مطران الإسكندرية تعاليم آريوس، الذي استمر في القول بتعاليمه وجذب الكثير من الأتباع، فطرده وأتباعه من الإسكندرية، فذهب إلى فلسطين وسوريا، وتبعه أساقفة كثيرون منهم أسقف قيصرية وأساقفة بيروت وصور واللاذقية وغيرها.. ولما خشي قسطنطين استفحال أمره بعد الانتشار السريع لآرائه، دعا المجمع المسكوني للانعقاد، فانعقد في نيقية عام 325م، وحكم بالأقانيم الثلاثة، وشجب أقوال آريوس، وأمر بحرق كتاباته وتحريم اقتنائها، وحكم عليه بالهرطقة. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([2])  أشير به إلى أحد كبار المتكلمين في الإسلام فخر الدين الرَّازي، (544 – 606هـ، 1150 – 1210م)، وهو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين. ولد في الري بطبرستان، أخذ العلم عن كبار علماء عصره، ومنهم والده، حتى برع في علوم شتى واشتهر، فتوافد عليه الطلاب من كل مكان.. كان الرازي عالمًا في التفسير وعلم الكلام والفلك والفلسفة وعلم الأصول وفي غيرها.. ترك مؤلفات كثيرة أبرزها تفسيره الكبير المعروف بمفاتيح الغيب.. ولا يخفى سر اختيارنا له في هذا المقام.

([3])  انظر في هذا رواية (سلام للعالمين) من هذه السلسلة، فصل (العقل).

([4])  استفدنا بعض المعلومات الواردة هنا من كتاب (الله جل جلاله) لسعيد حوى، ومن الكتب العلمية التي سبق ذكرها.

([5]) انظر في تقرير هذا البرهان التفسير الكبير للفخر الرازي.

([6])  المبدأ والمعاد، ص 45.

([7])  معد الشيء: الذي يكون مقدمة لوجود الآخر.

([8]) انظر: نهج البلاغة: كتاب 30 ص 980.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *