ثامنا ـ الرحيم

في اليوم التالي.. ومع طلوع الفجر الصادق قام رجل منا، وأخذ يصيح فينا بأن نقوم، وهو ممتلئ بشرا وسرورا.

وقد كان هذا الرجل ألطفنا بنا، وأحننا علينا.. وكان صاحب مشاعر حساسة، وخلق رفيع..

قمنا إليه، ونحن مثله ممتلئون بشرا وسرورا، وقلنا: هات.. بشرنا.. عرفنا بربنا.

قال – وثغره يفتر عن ابتسامة عذبة -: الحمد لله.. لقد هداني الله رب العالمين اليوم إلى معارف كثيرة.. لعلها أهم المعارف المرتبطة بما نحن فيه..  لقد تذكرتها الآن، وكأنها رأي العين.. ولست أدري ما الذي كان يحجبها عني.

قلنا: فما موضوعها؟

قال: رحمة الرحيم.. ولطف اللطيف.. وكرم الكريم.. وحنان الحنان.. ومنن المنان.. إن المعارف المرتبطة بهذه الأسماء هي العيون التي تنفتح بها خزائن رحمة الله على عباده..

وقد وفقني الله في فترة من فترات حياتي أن أتعرض لمن علمني علومها، وكشف لي أسرارها.. ولكن الغفلة حجبتني عنها.. والحمد لله الذي أتاح لها أن تعود إلى وعيي من جديد ليعود معها ذلك الأنس الجميل الذي تنعمت به عندما تعرفت عليها.

سأعرفكم بنفسي أولا قبل أن أعرفكم بالمعارف التي هداني الله إليها..

أنا (جون ماسفيلد)([1]).. وقد كنت شاعرا رقيقا.. وكان قلبي كقلب كل شاعر ممتلئا بالأحاسيس المتدفقة..

ولا يجذب الشاعر الرقيق شيء مثلما تجذبه الرحمة.. ولذلك كنت أبحث عن إلهي من خلال سر الرحمة.

وبما أني في بداية حياتي كنت أدمن على قراءة الكتاب المقدس.. فقد أثر ذلك في علاقتي بالله تأثيرا خطيرا.. عشت بسببه متألما فترة طويلة من حياتي.. كنت حينها أحمل صورة مشوهة عن الله.. صورة ممتلئة بالقسوة والغلظة والجفاء..

لقد تحول الله – بسبب تلك القراءات المتتالية – في خاطري قاسيا ظالما متعديا.. لا يملي إلا الأوامر الممتلئة بالقسوة والظلم والتعدي.

قال رجل منا: كيف تقول ذلك، وقد ورد في الكتاب المقدس النص على كون الله رحيما بعباده:

لقد ورد في (مزمور: 103: 1- 19) هذه الفقرات الجميلة.. (باركي يا نفْسي الرّبَّ، ويا كُلَ أحشائي اَسمَهُ القدُّوسَ باركي يا نفْسي الرّبَّ ولا تَنسَي جميعَ حسَناتِهِ، يغفِرُ جميعَ ذنوبي ويشْفي جميعَ أمراضي. يفتَدي مِنَ الهُوَّةِ حياتي، وبالرَّحمةِ والرَّأفةِ يُكلِّلُني. يُشبِعُ بالطَّيِّباتِ جوعي، فيَتَجدَّدُ كالنَّسْرِ شبابي. الرّبُّ يُجري العَدلَ. ويَقضي لِجميعِ المظلومينَ. عَرَّفَ موسى طُرُقَهُ وبَني إِسرائيلَ أعمالَهُ. الرّبُّ رحومٌ حنونٌ، صَبورٌ وكثيرُ الرَّحمةِ. لا يُخاصِمُ على الدَّوامِ، ولا إلى الأبدِ يحقُدُ. لا يُعامِلُنا حسَبَ خطايانا ولا حسَبَ ذُنُوبِنا يُجازِينا. كاَرتِفاعِ السَّماءِ عَنِ الأرضِ ترتَفِعُ رَحمتُهُ على خائِفيهِ. كبُعدِ المشرِقِ مِنَ المغربِ يُبعِدُ عنَّا معاصيَنا. كرحمَةِ الأبِ على بَنيهِ يرحَمُ الرّبُّ أتقياءَهُ، لأنَّهُ عالِمٌ بِجبلتِنا ويذكُرُ أننا تُرابٌ. الإنسانُ كالعُشْبِ أيّامُهُ، وكزهرِ الحقلِ يُزهِرُ. تعبُرُ رِيحٌ فلا يكونُ، ولا يُعرَفُ مَوضِعُهُ مِنْ بَعدُ. أمَّا رَحمةُ الرّبِّ فمِنَ الأزَلِ وإلى الأبدِ على خائِفيهِ. عَدلُهُ لِبَني البنينَ، للذينَ يُراعونَ عَهدَهُ ويذكُرونَ فيَعمَلونَ بأوامِرِهِ. عرشُ الرّبِّ ثابِتٌ في السَّماءِ، وملكوتُهُ يسُودُ على الجميعِ)

قال: نعم.. لقد كنت أقرأ هذه النصوص فأمتلئ فرحا.. ولكن فرحي سرعان ما يمتلئ بالكآبة عندما أقرأ النصوص الأخرى التي ترتد على تلك النصوص، فتنسخ معانيها الجميلة.

سأقرأ عليك منها لتكتشف الحقيقة بنفسك..

لقد ورد في (أشعياء66 / 16):  (لأن الرب بالنار يعاقب وبسيفه على كل بشر ويكثر قتلى الرب)

لقد كنت أقرأ هذه النصوص المقدسة.. فأكاد أفر من الله هربا منه.. وهربا من قسوته:

لقد جاء في وفي (ارميا: 48/10): (ملعون من يعمل عمل الرب برخاء وملعون من يمنع سيفه عن الدم)

وقد وجدت فوق ذلك أن الكتاب المقدس هو الكتاب الوحيد فى العالم الذى يأمر بقتل الأطفال.. حتى كتب النازية لم تأمر بقتل الأطفال الرضع أو شق بطون الأمهات وإخراج ما فيها من أجنة وقتلهم.. بل حتى الأطفال والشيوخ والنساء والحمير والغنم والبقر لم يسلموا من القتل والذبح على ضوء تعاليم إله الكتاب المقدس:

 لقد ورد في (حزقيال:9 /6): (الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك. ولا تقربوا من إنسان عليه السمة وابتدئوا من مقدسي. فابتدأوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت)

وفي (يشوع: 6 /21): (وحرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف)

وفي (صموئيل 1:15 /2): (هكذا يقول رب الجنود. إني قد افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر)

وفي (صموئيل 1:15 /3): (فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة. طفلا ورضيعا. بقرا وغنما. جملا وحمارا)

وفي (صموئيل 1:15 /8): (وأمسك اجاج ملك عماليق حيّا وحرّم جميع الشعب بحد السيف.وعفا شاول والشعب عن اجاج وعن خيار الغنم والبقر والثنيان والخراف وعن كل الجيد ولم يرضوا ان يحرّموها. وكل الأملاك المحتقرة والمهزولة حرّموها وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني جعلت شاول ملكا لأنه رجع من ورائي ولم يقم كلامي. فاغتاظ صموئيل وصرخ إلى الرب الليل كله)

انظروا.. فمن فرط قسوة الرب ندم وغضب على شاول لأنه عفى عن الملك (أجاج) وبعض الحيوانات؟

وفي (هوشع:13 /16):(تجازى السامرة لأنها قد تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون. تحطم أطفالهم والحوامل تشقّ)

وفي (مزمور:137 /8): (يا بنت بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا.. طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة)

وفي (إرميا45 /4): (هكذا تقول له. هكذا قال الرب. هانذا اهدم ما بنيته واقتلع ما غرسته وكل هذه الأرض)

وفي (عاموس:2 /3): (واقطع القاضي من وسطها واقتل جميع رؤسائها معه قال الرب)

وفي (إرميا 16 /3): (لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين في هذا الموضع وعن امهاتهم اللواتي ولدنهم وعن آبائهم الذين ولدوهم في هذه الارض ميتات امراض يموتون.لا يندبون ولا يدفنون بل يكونون دمنة على وجه الارض وبالسيف والجوع يفنون وتكون جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الارض)

بل حتى النصوص التي نفخر بها، ونتصور من خلالها رحمة الله المطلقة بعباده كما في (رومية:8 /32): (الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضا معه كل شيء) كنت أراها نصوصا ممتلئة بالقسوة، فكيف يقسو والد على والده بتلك القسوة التي حصلت للمسيح بالصلب([2]).

قلنا: كلنا يعرف ما في الكتاب المقدس من أمثال هذه النصوص.. ولكنا اجتمعنا بك لتحدثنا عن ربنا الحقيقي.. ربنا الذي لم تشوه صفاته أقلام الكتبة الكذبة.

قال: أجل.. سأحدثكم عن ذلك.. فلأجله جمعتكم..

ففي يوم من أيام الله لا أزال أذكره جيدا التقيت رجلا لم ألتق مثله في حياتي.. تعلمت على يده من أسرار رحمة الله ما نسخ عني تلك الأباطيل التي ملأني بها الكتاب المقدس..

قلنا: أين التقيت به؟

قال: في السجن..

قلنا: عجبا.. أمثلك دخل السجن؟

قال: لم أدخله مسجونا.. بل دخلته شاعرا.

قلنا: أراك تزيد الإغراب إغرابا.. فأوضح.

قال: لقد ذكرت لكم أني شاعر.. وشاعر يحن إلى تصوير الألم أكثر من حنينه إلى تصوير الأمل.. ولذلك جعلت قبلتي لليتامى والمساكين والمستضعفين والمحرومين..

في تلك الأيام التي التقيت فيها من تعلمت على يده أسرار الرحمة الإلهية.. بدا لي أن أزور السجن..

وهناك استقبلني من كان يعرفني من مسؤوليه.. وقدموا لي كل قرابين الاحترام.. وقد سألتهم أن يضعوني بين يدي السجناء.. لأحدثهم، ويحدثوني.. وقد استغربوا ذلك مني كما استغربتم أنتم ذلك مني.

لكن أحدهم قال لي: لاشك أنك سمعت بالسجين العجيب الذي دخل سجننا هذه الأيام.

قلت: لا.. لم أسمع.. ولكن ما قصته؟

قال: لقد زارنا في هذه الأيام سجين عجيب لم نر مثله في حياتنا..

قال آخر: أجل.. إنه سجين أسرنا بكلماته.. لقد صرنا نرى أنفسنا سجناء بالنسبة للجنة الفسيحة التي يعيش فيها.

قال آخر: أجل.. منذ سمعت كلماته، وأنا لا أحن لشيء حنيني للعمل في هذا السجن.. ولست أخاف من شيء خوفي من خروجه منه.

قلت: لقد شوقتموني.. فمن هذا السجين العجيب؟

قال مسؤول السجن: إنه رجل تجرع كل الآلام.. لقد ذاق وأهل بيته من الألم ما لم يذق مثله أحد.. ومع ذلك تراه كالبحر المحيط لا يتحرك، ولا يتزعزع.

قال آخر: بل إن الإعدام ينتظره.. فلم يبق بينه وبين الموت إلا أيام معدودة.. ومن حسن حظك أننا لم نعدمه قبل حضورك.

قلت: فهل يعلم بأنه سيعدم قريبا؟

قال المسؤول: أجل.. وقد تعجبت من موقفه عندما أعلمته بالخبر.. لقد ظللت وقتا طويلا أتردد في إخباره، وفي الأسلوب الذي أخبره به.. ولكني ما إن دخلت عليه، وهو يحدث رفاقه في السجن، وأخبرته حتى نظر إلي بابتسامته المعهودة، وشكرني كما كان يشكرني كل حين.. ثم راح يواصل حديثه.. وكأني لم آت له بما تتزعزع له قلوب الرجال.

قلت: لقد رغبتموني في الجلوس إليه.. فما اسمه؟

قال المسؤول: لقد اختار أصحابه أن يطلقوا عليه لقب (الكاظم)([3])

قال آخر: ليس هناك لقب يصدق عليه كما يصدق عليه هذا اللقب.. لكأنه بحر محيط لا يكدر، ولا يتغير.

نهضت من الكرسي الذي كنت أجلس عليه.. وقلت: لا.. لا يمكنني الصبر أكثر من هذا.. مر يا صديقي.. يا صاحب السجن بإيداعي معه هذه الأيام.. أريد أن أسجن معه إلى أن يأتيه أجله.

ابتسم مسؤول السجن، وقال: لقد أصابك ما أصابنا.. إن كل من تراهم من رفاقنا يحلمون بما تحلم به.. كلهم يستعمل كل الأساليب والوسائل ليتصنت على تلك الكلمات العذبة التي يتفوه بها ذلك الفم الطاهر.

قلت: هيا.. أسرع.. مر بي إلى السجن.. أريد أن لا يشعر إلا بأني سجين كسائر السجناء.. فأنا أخشى إن عرف حقيقتي أن يتغير عن الصفة التي حدثتموني عنها.

ابتسم المسؤول، وقال: لا تزال لا تعرفه.. والله لو حضر ملك هذه البلاد بنفسه لما اهتز له عرق، ولا تحرك له جفن.. إنه كالجبل الصامد.. يفعل ما يراه صوابا.. لا يهمه من يكون معه.. ولا يهمه من يكون ضده.

قال آخر: وهذا الذي جعله يتردد على السجون كل حين..

قال آخر: لقد حاول كل الطغاة إغراءه.. لكنهم كانوا كمن يحاول أن يحرك الجبل عن مكانه.

قلت: هيا.. أنا ذاهب إليه.. أمرتم أو لم تأمروا.

ضحك صديقي صاحب السجن، وقال: مهلا.. هل تريد أن تدخل السجن بثيابك.. لأهل السجن ثيابهم.. ولا يمكنك أن تكون سجينا من دونها.

قلت: هلم لي بها.

***

دخلت إلى السجن.. فرأيته كالشمس أو قريبا من الشمس.. وكان المحيطون به منشغلون تماما بالنظر إليه، وبسماع كلماته..

عندما دخلت نظر إلي، والابتسامة على شفتيه، وقال: مرحبا بشاعر المستضعفين.. هلم لأدلك على رب المستضعفين..

تعجبت من معرفته بي.. لكني حاولت أن أظهر أمامه بوصف المستكبر المتعجرف، فقلت: ومن أنت حتى تعرفني بربي؟.. لقد قرأت الكتاب المقدس.. واكتفيت بما عرفني به أنبياء الله وقديسوه.

قال: في أي سفر؟.. أفي سفر (حزقيال:9 /6) الذي يقول: (الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك. ولا تقربوا من إنسان عليه السمة وابتدئوا من مقدسي. فابتدأوا بالرجال الشيوخ الذين أمام البيت)؟

أم في سفر (يشوع: 6 /21) الذي يقول: (وحرّموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف)؟

أم في سفر (صموئيل 1:15 /3) الذي يقول: (فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له ولا تعف عنهم بل اقتل رجلا وامرأة. طفلا ورضيعا. بقرا وغنما. جملا وحمارا)؟

في أي هذه الأسفار؟

لم أجد ما أجيبه به، فقال: ليس هذا وحده ما في الكتاب المقدس.. فهو وإن حوى الضلال، فقد حوى الهدى..

ففيه أن الرب:( حنونٌ رحومٌ. بطيءٌ عنِ الغضَبِ، كثيرُ الرَّحمةِ) ((يوئيل 2: 7)

لست أدري كيف تخليت عن كبريائي، وقلت: فكيف تحكم في هذا التناقض؟

قال: لاشك أن النصوص التي تشوه الرب من كتابة الكذبة.. والنصوص التي تمدحه من كتابة الكتبة.

قلت: وما أدراك.. لعل النصوص التي تشوهه هي النصوص التي تذكر الحقيقة.

قال: لا.. يستحيل ذلك.. يستحيل أن تتناقض كلمات الله مع أكوان الله.

قلت: ولكن الكل ورد في كتاب واحد.

قال: إن عناية الله بعباده تداركتهم فأرسلت من التصحيحات ما لم تفطنوا إليه.

قلت: أين هي؟

قال: في القرآن الكريم في عهد الله الأخير لعباده.. لقد تدارك الله الرحيم عباده بعدما حرفوا وغيروا وبدلوا بكتاب يصحح ما وقعوا فيه من أخطاء.

قلت: إن التسليم لكلامك يقتضي بحوثا كثيرة.. فما أدراني أن محمد نبي حتى أصدق أن له كتابا قد أوحي إليه.

قال: ومن أخبرك أن أنبياء الكتاب المقدس أنبياء حتى تسلم لهم؟

قلت: لقد آتاهم الله من المعجزات والدلائل ما يبرهن على ذلك؟

قال: وقد آتى الله محمدا من الآيات والبراهين ما آتاهم.. ولا تزال آياته تسطع كل يوم بجديد.

قلت: فأنت الآن تبشر بذلك؟

قال: أنا الآن بين أصحابي من السجناء أبشرهم بالله الرحمن الرحيم اللطيف الكريم الذي من علي وعليهم من المنن ما لا يعده العاد، ولا يحيط به المحيط.. فإذا عرفوا رحمة الله وشربتها أرواحهم أدركوا أن الله الرحيم الرحمن يستحيل أن يترك عباده هملا دون أن ينقذهم برسول يخلصهم من أهوائهم ونفوسهم وشياطينهم ليزج بهم في بحار رحمة الله.

قلت: فأنت تتخذ إذن من الدعوة لربك الرحيم وسيلة للدعوة لدينك ونبيك؟

قال: إن كان ديني هو الدين الحق.. وإن كان نبيي هو النبي الصادق الذي دلت على نبوته كل الدلائل.. فما الحرج في أن أدعو إليه، وأستعمل كل الأساليب المشروعة لذلك..

هل ترى أن الطبيب الذي وفقه الله، فهداه لأنواع من الدواء عجز عنها غيره من الأطباء مخطئا إن عرف الناس بجدوى الأدوية التي وفقه الله لاكتشافها؟

قلت: بل هو مخطئ إن قصر في ذلك.

قال: فذلك الطبيب هو أنا.. لقد سرت في الأرض.. وبحثت في الأديان والمذاهب.. ولم أترك أحدا إلا سألته.. ولكني لم أجد دينا انسجم مع الكون.. ولم أجد معارف ترتبط بمصدر هذا الكون تنسجم مع قوانين الكون وسننه مثلما وجدت في الإسلام، وعند نبي الإسلام.

قلت: والمسيحية؟.. لعلك لم تطلع على تلك الرحمة العظيمة التي يذكرها الكتاب المقدس عن إله المسيحيين..

لعلك لم تقرأ ما ورد في رسالة يوحنا، فقد قال: (أيها الاحباء لنحب بعضنا بعضاً، لأن المحبة من الله وكل من يحب الله فقد ولد من الله)(يوحنا1/4:7)

وقد كتب يوحنا هذه العبارة التي لا يوجد مثلها في أي كتاب من الكتب المقدسة: (لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به) (يوحنا 3: 16)

ابتسم، وقال([4]): لقد أصابني في فترة من حياتي بعض الانبهار من هذه العبارات الجميلة.. لكني عندما حاولت أن أعيش معانيها لم أجد فيها من المعاني الروحانية اللذيذة ما يمكن أن أعيشه.. بل عندما طبقت تلك العبارة على موازين الكون لم أجد لها أي وزن.

قلت: لكني وجدتها تزن كل شيء.

قال: لا بأس.. لنترك الجدل.. ولنترك الأنا.. ولنبحث فيما يقول العقل.. العقل الذي وضع برنامجه ربنا ورب الخلائق جميعا..

لاحظ بعين العقل والمنطق والروح تلك العبارة الأخيرة التي بهرتك كما بهرت الملايين من غير أن يعرفوا معناها.

ألا ترى أنها تحمل تصويرا مشوها عن الله يصرف القلوب عنه.. بل قد يملؤها ببغضه!؟

قلت:  ما تقول؟.. إنها تدل على رحمة الله التي لا حدود لها.

قال: سنطبق مقاييس عقولنا على هذا.. أجبني.. أرأيت لو أنك.. وأنت صاحب الدار.. دعوت ضيوفا إلى بيتك لتطعمهم من طعامك، وتسقيهم من شرابك.. ثم بدر من أحد ضيوفك ما أساء إليك.. فنظرت إليهم نظرة غضب تريد أن تبطش بهم.. ثم سرعان ما تحولت إلى حليم رحيم.. ولكنك لم تعف عنهم.. وإنما ذهبت إلى ولدك الوحيد لتضعه على الصليب، وتقتله شر قتلة أمام أعين ضيوفك، فإذا سألوك عن سر ما تفعله، قلت لهم: لأجل أن أكفر عن خطاياكم.

فإذا سألوك: لم؟.. ألا يمكن أن تكفر عن خطايانا بغير هذا الأسلوب؟

قلت لهم: لقد وضعت قانونا، بأني لا أكفر الخطايا إلا بالدم..

فإذا سألوك: ألا يمكن أن تتنازل عن قانونك هذه المرة؟

قلت:  لا..

فإذا سألوك: لم؟

قلت:  لأني عادل.

فإذا سألوك: فلم عاقبت من لم يستحق العقوبة إذن؟

قلت:  لأني رحيم.

التفت إلي، وقال: ألا ترى هذا نوعا من الجنون!؟

هل الذي يحب العالم لا يحب ابنه الوحيد.. ثم كيف يحب الله العالم، ولا يحب ابنه؟.. ثم.. هل الذي يحب العالم يقتل ابنه الوحيد!؟

ثم.. كيف نثق بإله لم يشفق على ابنه من أجل غفران خطيئة مذنب آخر؟ كما يقول بولس في (رومية 8: 32): (الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين)

لقد نسب بولس إلى الله عدم الشفقة.. أي القسوة.

ألا توجد طريقة أخرى عند إله المحبة بدلاً من قتل ابنه المزعوم لإنقاذ غيره!؟

وهل اقتضت رحمته ألا يُعالج هذه الجريمة إلا بجريمة أبشع منها؟

وهل صحيح ما يقوله بولس الذي حجر على الله المغفرة في رسالته إلى العبرانيين ( 9: 22)، فقال: (وكل شئ تقريبا يتطهر حسب الناموس بالدم وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة).. أهذا إله يمكن أن يكون محبوبا.. الإله العاشق للدماء.. الذي لا يكفر الخطايا إلا بعد أن يسفك الدماء؟

ثم كيف يتطهر العباد الذين لم يجاهدوا أنفسهم في ذات الله.. أبالانتحار.. حتى يقدموا قرابين لله الذي يحب الدماء.. أم بالإيمان والذكر والعبادة والتوجه!؟

لم أجد ما أقول، فقال: لا بأس.. ففي الكتاب المقدس ما يفند كل هذه الأباطيل التي نسبت لربنا ورب المسيحيين ورب الخلائق جميعا.. لقد جاء فيه ما يبين أن الله الرحيم الرحمن أكرم من أن يحتاج إلى الذبيحة حتى يطهر عباده.. اسمع ما ورد في (هوشع: 6: 6-7): (إني أطلب رحمة لا ذبيحة، ومعرفتي أكثر من المحرقات. ولكنكم مثل آدم، نقضتم عهدي)

وفيه (هوشع 14: 1-3): (ارجع تائبا يا إسرائيل إلى الرب إلهك، لأنك قد تعثرت بخطيئتك. احملوا معكم كلام ابتهال وارجعوا إلى الرب قائلين له: انزع إثمنا، وتقبلنا بفائق رحمتك، فنزجي إليك حمد شفاهنا كالقرابين. إن أشور لن تخلصنا، ولن نعتمد على خيول مصر لإنقاذنا، ولن نقول للأوثان صنعة أيدينا: (أنتم آلهتنا) لأن فيك وحدك يجد اليتيم رحمة)

وفي (ميخا 6: 6-8): (يارب: بماذا أتقدم عندما أمثل أمام الرب وأسجد في حضرة الله العلي؟ هل أتقدم منه بمحرقات وبعجول حولية؟ هل يسر الرب بألوف أنهار زيت؟ هل أقرب بكري فداء إثمي وثمرة جسدي تكفيرا عن خطيئة نفسي؟ لقد أوضح لك الرب أيها الإنسان ما هو صالح. وماذا يبتغي منك سوى أن تتوخى العدل، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعا مع إلهك)

وفي (مزمور 40: 6): (لم ترد أو تطلب ذبائح ومحرقات عن الخطيئة، لكنك وهبتني أذنين صاغيتين مطيعتين)

وفي (مزمور 51: 16 – 17): (فإنك لا تسر بذبيحة، وإلا كنت أقدمها. بمحرقة لا ترضى. إن الذبائح التي يطلبها الله هي روح منكسرة. فلا تحتقرن القلب المنكسر والمنسحق ياالله)

وفي (مزمور 69: 30 –31): (أسبح اسم الله بنشيد وأعظمه بحمد. فيطيب ذلك لدى الرب أكثر من محرقة: ثور أو عجل) 

وفي سفر (إرمياء: 7: 22): (هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: ضموا محارقكم إلى ذبائحكم وكلوا لحما، لأني لم أكلم آبائكم ولا أوصيتكم يوم أخرجتهم من أرض مصر بشأن محرقة وذبيحة، بل إنما أوصيتهم بهذا الأمر قائلا:  إطيعوا  صوتي فأكون لكم إلها وأنتم تكونون لي شعبا، وسيروا في الطريق الذي أوصيتكم به ليحسن إليكم)

نظر إلي، وقال: هذه الحقائق التي ذكرها الأنبياء تنقض تلك الدعاوى التي ادعاها بولس.. فالله أرحم من أن يحتاج إلى ذبيحة.

قلت: لا بأس.. فلنفرض أني سلمت لك بهذا.. لكن ألم تر في سائر الأديان ما تجد فيه ضالتك؟

قال: بلى.. لقد وجدت..

قلت: فلم لم تلتزم بها.. وذهبت إلى هذا الذي يدعونه محمدا.

قال: لقد وجدت فيها الحق مختلطا بالباطل.. والخير معجونا مع الشر.. والأهواء متلبسة بالحكمة..

وقد قلت لنفسي عندما وجدت كل هذا: يستحيل على من ملأ هذا الكون بمظاهر رحمته التي لا حدود لها أن يدع الأمر هكذا.. لابد أن يرسل إلينا من يميز الحق من الباطل، والطيب من الخبيث..

قلت: وقد وجدت ذلك في الإسلام؟

قال: أجل.. لقد وجدت القرآن الكريم.. كلام الله العظيم.. لا يفتأ كل حين من التذكير برحمة الله..

لقد كانت أول آية صادفتني هي:{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) } (الفاتحة).. ثم وجدت هذه الآية الكريمة تردد في بداية كل سورة.. وكأنها تقول لنا: إن صاحب هذا الكلام هو إله رحيم رحمن..

ثم قرأت القرآن تحت ظلال هذا الاسم.. فوجدت أن القرآن كله كتاب رحمة..

اسمع لهذه السورة التي سميت في القرآن بسورة الرحمن.. اسمع..

راح يقرأ: { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)} (الرحمن)

هذا بعض ما في هذه السورة من تعداد مظاهر رحمة الله بعباده.. إنك إن تأملتها وتأملت المعاني العظيمة الواردة فيها والواردة في القرآن جميعا تجدها جميعا تصب في ناحيتين: كلاهما لا غنى عنهما للإنسان.. بل لا غنى عنهما للكون جميعا..

إنهما: العناية بما يجتاجه الكائن في جانبه التكويني.. والهداية التي يحتاجها الكائن ليبصر الحياة بالصورة الحقيقية التي صورها الله..

لقد ذكر القرآن كلا الأمرين في الحوار الذي جرى بين موسى وفرعون، فقال:{ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)} (طه)

إن قوله:{ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ }  يدل على العناية.

وقوله:{ ثُمَّ هَدَى }  يدل على الهداية.

قلت: فهل ستحدثني عنهما؟

قال: أجل.. سأحدثك، وأحدث أصحابي عنهما من خلال قراءة اسمين من أسماء الله الحسنى دلت عليهما أكوان الله، وكلمات الله.

قلت: فما هما؟

قال: الرب.. والهادي.

1 ـ الرب

قلت: فحدثني عن الرب.

قال: لقد امتلأ كتابنا المقدس بذكر ما أفاض الله على عباده من نعم عنايته بهم..

ومن ذلك منته عليهم بالتكريم، وما يتطلبه التكريم من أنواع التسخير، قال تعالى:{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) } (الإسراء)

ومن ذلك ما هيأه لهم من أنواع الألطاف المرتبطة بالبيئة التي وجدوا فيها، فهي مهيأة لهم أرضا وسماء، قال تعالى:{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} (النحل)

ومن ذلك ما أخرج لهم من الأرض، وما أنزل لهم من السماء، وما سخر لهم من البحار والأنهار.. قال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)} (إبراهيم)

ومن ذلك ما سخر لهم من أسباب الحياة، وأسباب حفظ الحياة، قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} (الأنبياء)

ومن ذلك ما هيأه لهم من وجود الجنسين جميعا، وما يثمر ذلك من بقاء النسل وحفظه، قال تعالى:{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)} (النحل)

ومن ذلك هذا المعرض من النعيم الذي من الله به على عباده، فقال:{ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)} (النبأ)

***

بعد أن قرأ علي الكاظم هذه النصوص المقدسة وغيرها سألته: ما السر في ترديد كتابكم المقدس لهذه المعاني مع أنها ملاحظة بالعين.. معروفة بالبديهة.. فكلنا رأى الجبال والأنهار والبحار.. وكلنا تنعم بشرب الماء، واستنشاق الهواء، وأكل الطعام؟

قال: إن القرآن ينقلنا بما يذكره من نعم الله من تناولها من يد نفوسنا أو يد أهوائنا أو يد الطبيعة العمياء لتنتاولها من يد الله مبدعها وصانعها والمان بها على عباده.

وبذلك يضعنا القرآن بين يدي الحقيقة.. فلا يتحرر الإنسان ولا يتنعم بغير الحقيقة..

ولهذا، فإن هناك فرقا كبيرا بين نظرة المؤمن للأشياء ونظرة الغافل الجاحد لها.. فالمؤمن نسب النعم لأصحابها، وتنعم بتلك النسبة.. أما الجاحد فهو في تخرصاته وكبريائه وتيهه عن الحق لا يستشعر شيئا من اللذة التي يستشعرها المؤمن وهو يتناول الأشياء من يد الله، قال تعالى:{  أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } (يونس:66)

وقال عن الذين اتخذوا من دونه أولياء:{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } (الرعد:16)

وهؤلاء خبطوا وخلطوا، فـ:{ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } (الأنعام:136)

ونتيجة خلطهم وخبطهم أنهم يعبدون السراب، ويدعون من لا يملك شيئا، قال تعالى:{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } (سـبأ:22)

بل لو كان بيد هؤلاء أي ملك، فإن ملكهم سيبقى قاصرا عليهم، قال تعالى:{  أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً } (النساء:53)، وقال تعالى:{ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً } (الاسراء:100)

وهؤلاء الجاحدون ـ الذين غفلوا عن ملكية الله للأشياء في الدنيا ـ سيدركونها يوم القيامة، ولذلك يجيئ التعبير القرآني مخبرا عن ملكية الله للأشياء في الآخرة، وهو لا يعني عدم ملكيته لها في الدنيا، وإنما هو إخبار عن تعرف الجاحدين والغافلين حينها على هذه الملكية، كما قال تعالى:{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } (الفاتحة:4)

وهؤلاء الجاحدون ـ كما يخبر القرآن الكريم ـ يقرون بهذه الملكية:{ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } (غافر:16)

بالإضافة إلى هذا، فهناك من المعاني الذوقية ما لا يجده المؤمن إلا بهذه المعاني التي ذكرها القرآن الكريم.

قلت: مثل ماذا؟

قال: سأضرب لك مثالا يقرب لك هذا.. أرأيت لو أن شخصا محبوبا لك تقدم لك بهدية.. مهما كانت قيمتها.. هل يقتصر نظرك للهدية على ما تحويه من منفعة، فتقيمها على أساس ذلك.. أم أنك تنظر إليها نظرة خاصة؟

قلت: بل أنظر إليها نظرة خاصة.. ففي الهدية دلالة على العلاقة الحميمة التي تربطني بالمهدي.. ولذلك لا أنظر إليها بالمقاييس المادية.. بل أنظر إليها بمقاييس لا يمكن التعبير عنها.. 

قال: فهكذا المؤمن في تناوله لنعم الله.. وهذا ما دلنا عليه القرآن الكريم وربانا عليه.. فالمؤمن ينظر إلى النعم ويتناولها كهدايا من ربه.. ولذلك يجد لها من المتعة والنعمة ما لا يجد لها غيره.

2 ـ الهادي

بعد أن جعلني الكاظم أشعر بالنعم الكثيرة التي أنستنيها الغفلة، سألته: لقد حدثتني عن المنعم.. فحدثني عن الهادي.

التفسير:

قال([5]): لقد دلني عقلي أن كل نعمة تحتاج إلى منعم.. فوصف دواء لمريض نعمة وراءها طبيب.. وتأمين طعام لجائع نعمة وراءها مطعم.. ورعاية الطفل حتى يكبر ويستغني نعمة وراءها أب وأم.. ووجود بيت فيه كل وسائل الراحة نعمة وراءها ناس عملوا.. وهكذا نجد أن المعطيات المصطنعة للإنسان كلها وراءها مباشرة من أعطى واعتنى.

أترى هذه المعطيات الكثيرة التي ليست من صنع الإنسان للإنسان ليس وراءها منعم أنعم بها؟

قلت: بلى.. وأنا وأنت جميعا ننسب ذلك لله..

قال: فالكون إذن يدل على أن الله رحيم رحمن..

قلت: ذلك صحيح..

قال: فالعقل إذن يدل على هذا؟

قلت: ذلك صحيح.

قال: والكتاب المقدس الذي يتضمن تعليمات الله لعباده لابد أن يحوي هذا، ويدل عليه، ولا يتناقض معه.. فإن تناقض معه دل ذلك على أن صاحب الكلمات ليس هو صاحب الأكوان.

قلت: إن هذا يفتقر إلى دليل.

قال: سأضرب لك مثالا يقرب لك المسألة، ويكون في نفس الوقت دليلا عليها.

أرأيت لو أن جيشا من الجيوش كان يتولاه قائد حكيم ممتلئ بالرحمة والرأفة واللطف.. كما يمتلئ في نفس الوقت بكل ما تتطلبه القيادة من طاقات وخصال..

وقد عرف جيشه منه هذا مدة طويلة.. ولذلك كان يتلقى أوامره بنفس منشرح، وطواعية تامة..

ولكن الجيش فجأة يفاجأ برسائل تأتيه يزعم أصحابها أنه من ذلك القائد الرحيم يطلب منهم فيها قتل المستضعفين المظلومين.. واستئصالهم وإبادتهم.. فما ترى موقف الجيش من ذلك؟.. هل تراه يشك في أولئك الرسل، وفي الرسالة التي يحملونها؟

قلت: أجل.. لابد أن يتسرب إليهم من ذلك.. وهذا يدعوهم إلى الاتصال بالقائد للتأكد من مدى صحة الأوامر التي أرسل بها.

قال: فهذا الجيش حكم على الأوامر التي أتته من طرف الرسل انطلاقا من معرفته الشخصية بالقائد؟

قلت: ذلك صحيح.

قال: فطبق هذا على المعنى الذي طرحته لك.. فالله الذي عود عباده على رأفته ورحمته ولطفه وكرمه يستحيل أن يصدر منه من الأوامر ما يتناقض مع هذا..

قلت: أسلم لك أن في بعض الكتاب المقدس ما يتناقض مع ما يدل عليه الكون من رحمة الله.. ولكن هل ترى في القرآن ما يتوافق مع الكون في هذه الناحية؟

قال: في الفترة التي قطعت فيها قيود التقليد، ورحت أسس عقيدتي على ما يقتضيه العقل.. بحثت في جميع ما يسميه الناس كتبا مقدسة.. فلم أجد كتابا ممتلئا بمعاني الرحمة واللطف والكرم مثل القرآن الكريم.. إنه كالمرآة التي تتجلى على صفحتها الكائنات بأجمل صورها وأوضحها وأدقها..

لكأن الكون جميعا اختصر في حروف القرآن وكلماته..

في تلك الأيام.. التقيت رجلا ممتلئا بأنوار الحكمة.. كان اسمه (بديع الزمان).. وكان رجلا ينتهج منهج القرآن الكريم في ضرب الأمثال.. وقد حدثني حينها عن أسرار التوافق بين القرآن والكون، فذكر لي([6]) – على سبيل التمثيل- أن حاكما عظيما ذا تقوى وصلاح وذا مهارة وإبداع أراد أن يكتب القرآن الحكيم كتابة تليق بقدسية معانيه الجليلة، وتناسب إعجازه البديع، فأراد أن يُلبِس القرآن الكريم ما يناسب إعجازه السامي من ثوب قشيب خارق مثله.

فطفق بكتابة القرآن، وهو مصور مبدع، كتابة عجيبة جداً مستعملاً جميع أنواع الجواهر النفيسة ليشير بها إلى تنوع حقائقه العظيمة، فكتب بعض حروفه المجسمة بالألماس والزمرد، وقسماً منها باللؤلؤ والمرجان، وطائفة منها بالجوهر والعقيق، ونوعاً منها بالذهب والفضة.. حتى أضفى جمالاً رائعاً وحسناً جالباً يعجب بها كل من يراها سواء أعلم القراءة أم جهلها.. فالجميع يقفون أمام هذه الكتابة البديعة مبهوتين يغمرهم التبجيل والإعجاب، ولا سيما أهل الحقيقة لما يعلمون أن هذا الجمال الباهر يشف عما تحته من جمال المعاني، وهو في منتهى السطوع واللمعان وغاية اللذة والذوق.

ثم إن هذا الحاكم العظيم عرض هذا القرآن البديع الكتابة، الرائع الجمال، على فيلسوف أجنبي، وعلى عالم مسلم.. وأمر كل واحد منهما بتأليف كتاب حول حكمة هذا القرآن.. ملمحاً الى اختبارهما ليكافئهما.

وقد استجاب كلا الرجلين لهذا الطلب:

أما الفيلسوف – وقد كان بالإضافة إلى خبرته بالفلسفة مهندسا بارعا، ومصورا فنانا، وكيميائيا حاذقا، وصائغا ماهرا – فقد كتب كتابه وفق ما يتقنه من مهارات، وما يجيده من فنون.. ولهذا اقتصر كتابه على البحث عن نقوش الحروف وجمالها، وعلاقة بعضها ببعض، وأوضاع كل منها، وخواص جواهرها وميزاتها وصفاتها فحسب.. ولم يتعرض في كتابه إلى معاني ذلك القرآن العظيم قط، إذ أنه جاهل باللغة العربية جهلاً مطبقاً، بل لم يدرك أن ذلك القرآن البديع هو كتاب عظيم تنم حروفه عن معان جليلة، وإنما حصر نظره في روعة حروفه وجمالها الخارق..

أما العالم المسلم، فما إن نظر الى تلك الكتابة البديعة حتى علم أنه: كتاب مبين وقرآن حكيم.. فلم يصرف اهتمامه الى زينته الظاهرة، ولا شغل نفسه بزخارف حروفه البديعة، وانما توجه كليا ًـ وهو التواق للحق ـ الى ما هو أسمى وأثمن وألطف وأشرف وأنفع وأشمل مما انشغل به الفيلسوف الاجنبي بملايين الأضعاف، فبحث عما تحت تلك النقوش الجميلة من حقائق سامية جليلة وأسرار نيرة بديعة فكتب كتابه تفسيراً قيماً لهذا القرآن الحكيم، فأجاد وأتقن.

بعد أن أنهيا كتابيهما.. قدّم كلٌ منهما ما كتبه الى الحاكم العظيم..

فتناول الحاكم أولاً مؤلَّف الفيلسوف ونظر اليه ملياً.. فرأى أن ذلك المعجب بنفسه والمقدس للطبيعة، لم يكتب حكمةً حقيقية قط، مع أنه بذل كل ما في طوقه، إذ لم يفهم معاني ذلك الكتاب، بل ربما زاغ واختلط عليه الأمر، وأظهر عدم توقير وإجلال لذلك القرآن، حيث أنه لم يكترث بمعانيه السامية، وظن أنه مجرد نقوش جميلة وحروف بديعة، فبخس حق القرآن وازدراه من حيث المعنى.. لذا رد الحاكم الحكيم مؤلَّف ذلك الفيلسوف وضربه على وجهه وطرده من ديوانه.

ثم أخذ مؤلَّف العالم المسلم المحقق المدقق، فرأى أنه تفسير قيم جداً، بالغ النفع.. فبارك عمله، وقدر جهده، وهنّأه عليه وقال: (هذه هي الحكمة حقاً، وانما يطلق اسم العالم والحكيم حقاً على صاحب هذا المؤلَّف، وليس الآخر إلاّْ فنان صنَّاع قد أفرط وتجاوز حدّه)

قلت: ما يقصد صاحبك بهذا المثال؟

قال: لقد ذكر لي أن ذلك القرآن الجميل الزاهي، هو هذا الكون البديع.. وذلك الحاكم المهيب هو سلطان الأزل والأبد سبحانه وتعالى.

أما أول الرجلين- أي ذلك الأجنبي – فيمثل وعلم الفلسفة والحكمة وسائر ما نعرفه من علوم مادية..

وأما الثاني.. فهو القرآن الكريم وتلاميذه..

قلت: لا أزال لا أفهم قصدك من إيراد هذا المثال.

قال: لطالما أقول لنفسي: إن صاحب هذا الكون البديع يستحيل أن يتركنا هملا لا يعرفنا بنفسه.. بل يستحيل أن يترك هذا الكون من غير تفسير.. ولذلك رحت أبحث عن تفسير يفسر هذا الكون.. ولم أجد في جميع ما يطلق عليه الناس كتبا مقدسة ما يفي بهذا بهذا الغرض سوى القرآن الكريم.

لقد قال لي بديع الزمان حينها: (نعم، ان القرآن الكريم المقروء هو أعظم تفسير وأسماه، وأبلغ ترجمان وأعلاه لهذا الكون البديع، الذي هو قرآن آخر عظيم منظور.. إن ذلك الفرقان الحكيم هو الذي يرشد الجن والإنس الى الآيات الكونية التي سطَّرها قلمُ القدرة الإلهية على صحائف الكون الواسع ودبجها على أوراق الأزمنة والعصور.. وهو الذي ينظر الى الموجودات – التي كل منها حرف ذو مغزى – بالمعنى الحرفي، أي ينظر اليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل. فيقول: ما أحسنَ خلقه! ما أجملَ خلقه! ما أعظم دلالته على جمال المبدع الجليل.. وهكذا يكشف أمام الأنظار الجمالَ الحقيقي للكائنات.

أما ما يسمونه بعلم الحكمة وهي الفلسفة، فقد غرقت في تزيينات حروف الموجودات، وظلّت مبهوتة أمام علاقات بعضها ببعض، حتى ضلت عن الحقيقة.. فبينما كان عليها أن تنظر الى كتاب الكون نظرتها الى الحروف – الدالة على كاتبها – فقد نظرت اليها بالمعنى الاسمي، أي أن الموجودات قائمة بذاتها، وبدأت تتحدث عنها على هذه الصورة فتقول: ما أجمل هذا! بدلاً من:ما أجمل خلق هذا، سالبة بهذا القول الجمال الحقيقي للشئ.. فأهانت باسنادها الجمال الى الشئ نفسه جميع الموجودات حتى جعلت الكائنات شاكية عليها يوم القيامة..)

ثم قال لي: (نعم! إن الفلسفة الملحدة إنما هي سفسطة لا حقيقة لها وتحقير للكون وإهانة له)

الشكر:

سكت قليلا، ثم قال: ألا ترى من واجب العقول أن تنسجم كلمات الله المقدسة مع النعم التي أنعم بها؟

قلت: كيف تعتبر ذلك واجبا؟

قال: ألست ترى الذي يحسن إليك أقل إحسان يسوؤه أن تجحده، وتكفر نعمه عليك؟

قلت: ذلك صحيح.. ولكننا نفعل ذلك بسبب قصورنا البشري.. أما الله، فهو أعلى وأجل.

قال: صحيح.. ما قلته عن تنزيه الله صحيح.. فالله الكريم الجواد لا يضره سخط الساخطين كما لا ينفعه شكر الشاكرين.. ولكن ألا ترى أن تعريف الله لعباده بأنه هو مصدر ما هم فيه من النعم ليشكروه فضل منه عليهم؟

قلت: لم أفهم هذا.

قال: أرأيت لو أثقلتك الديون.. وتربص أصحابها بك الشر بسببها.. ثم فجأة يأتيك ظرف يحوي من المال ما يسد ديونك.. ثم تأتيك بعدها الظروف من أصناف الأموال لتسد جميع حاجاتك.. ألست تشتاق لمعرفة هذا المنعم الذي من عليك بجميع هذه المنن؟

قلت: بلى.. ذلك صحيح.

قال: فهكذا الفطر السليمة.. فإنها إن تأملت النعم المفاضة عليها جعلتها تبحث عن صاحبها لتشكره([7])..

قلت: ما قصدك من كل هذه المقدمات؟

قال: أقصد منها أن كلمات الله المقدسة لابد أن تحتوي على هذه المعاني.. لابد أن تذكر عناية الله بعباده.. لأن كلمات الله للإنسان كنعمه كلاهما إما يغطي حاجاته، أو يجيب عن تساؤلاته.

قلت: صدقت في كل هذا.. فهل في كتابكم المقدس ما يدل على هذا؟

قال: بل جميع كتابنا المقدس يدل على هذا.. جميع القرآن الكريم ذكر لنعم الله على عباده، ومطالبة منه لهم بشكرها..

بل إن القرآن الكريم يخبرنا أن هذا ديدن جميع أنبياء الله.. فكلهم عرف الخلق بنعم الله، وكلهم دعاهم إلى شكرها:

لقد أخبر الله عن إبراهيم u، فذكر أنه:{ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(121) } (النحل)

وذكر خطاب موسى u لقومه الجاحدين المخاصمين لربهم، الذين غمر القنوط حياتهم، فصاروا ينظرون بعين سوداوية لكل الأشياء، فلا يرضيهم شيء، ولا تسعدهم نعمة، فقال:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } (ابراهيم:6)

وأخبر عن موسى u ذكره لنعمة ربه، وعدم استسلامه لقومه بسببها، قال تعالى:{ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ(17)} (القصص)

وفي آية أخرى يأمرهم u بذكر نعم الله المعنوية عليهم، قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)} (المائدة)

ولجحود بني إسرائيل بقي الأمر بذكر نعم الله وعدم التطاول بها على عباده مستمرا بعد موسى u إلى خاتم النبيين، قال تعالى:{ سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(211)} (البقرة)

ويخبر عن سليمان u ـ وهو الذي أوتي من الملك ما لم يؤت أحد ـ فيثني عليه بوصف الشكر لابوصف الملك، قال تعالى:{  فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19)} (النمل)

وبمثل ذلك أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد أمره ربه بذكر النعم، بل بالتحدث بها، قال تعالى:{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } (الضحى:11)، فالتحدث بالنعمة التالي لذكرها منبئ عن قمة الشكر.

وهكذا أمر هذه الأمة.. قال تعالى:{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} (المائدة)

ويأمرها بذكر نعمة خذلان الأحزاب، وانتصارالمؤمنين، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً(9)} (الأحزاب)

وفي آية أخرى يأمر بذكر نعمة الحفظ من الظالمين، الذين هموا أن يبسطوا أيديهم على المؤمنين، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(11)} (المائدة) 

والقرآن الكريم يذكر وجدان المؤمن بأن كل شيء من نعم الله، قال تعالى:{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } (النحل:53)

ويعدد الله بعض نعمه على عباده، النعم الظاهرة والباطنة ليشكروه عليها، قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ } (لقمان:20)

ومن النماذج على هذه النعم، والتي قد لا يلتفت لها، نعمة الاستواء على المركوب، والقرآن الكريم يذكرها عقب الاستواء مباشرة، ليدل بذلك على وجوب مصاحبة الشكر للنعمة، قال تعالى:{ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } (الزخرف:13)

وهذه النعم المذكورة في القرآن الكريم مجرد نماذج، أو هي جوامع النعم، أما تفاصيلها، وعدها، فهو مستعص غير ممكن، قال تعالى:{ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } (ابراهيم:34)

وتأتي الفاصلة في آية أخرى لتخبر بأن الله غفور رحيم، قال تعالى:{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (النحل:18)

وكأن الأولى تشير إلى الإنسان الجاحد المقصر في ذكر النعم، والثانية تشير إلى الشاكر العاجز عن إحصائها.

السلوك:

قلت: وعيت كل ما ذكرته.. ولعلي أسلم له.. ولكني لست أدري علاقته برحمة الله.

قال: إن ما ذكرته لك مظهر عظيم من مظاهر الرحمة.. لكننا – للأسف – نجد أنفسنا تنشغل عنه بمتاع زائل قليل كما انشغل ذلك الفيلسوف بوصف الجواهر عن الاهتمام بالمعاني التي تكتبها الجواهر.

قلت: أنا لا أزال في غفلتي.. ولذلك أنا أحتاج منك أن تفسر لي علاقة ذلك بالرحمة.

قال: لقد شغلني في بداية طلبي ما شغلك.. وقد سألت عما سألتني عنه بديع الزمان.. أذكر ذلك اليوم جيدا..

لقد نظر إلي حينها، وقال مخاطبا لي كما تعود أن يخاطبني([8]): إن مَثَل بناء هذا العالم وإدخال العالم الانساني فيه، كمثل سلطان له خزائن فيها أصناف الجواهر، وله كنوز مخفية، وله مهارة في صنع الغرائب، وله معرفة بعجائب فنون لا تعد وبغرائب علوم لا تحد.. فأراد ذلك الملك أن يظهر على رؤس الأشهاد حشمةَ سلطنتِهِ، وشعشعة ثروته، وخوارقَ صنعتِه، وغرائبَ معرفته، أي أن يشهد كماله وجماله وجلاله المعنوية بالوجهين؛ بنظره، ونظر غيره.

فبنى قصراً جسيماً ذا منازل وسرادقات.. فزينها بمرصعات جواهر كنوزه، ونقشها بمزينات لطائف صنعته، ونظمها بدقائق فنون حكمته، ووسمها بمعجزات آثار علومه، وفرش فيها سفرة ضمت لذائذ نعمه.

ثم دعا رعيته للسير والتنزه، وأضافهم بضيافة لا مثل لها، كأن كل لقمة منها أنموذج لمئات من صنعته اللطيفة.. ثم عين أستاذاً لتعريف ما في ذلك القصر من رموز تلك النقوش وإشارات تلك الصّنائع، ووجوه دلالات تلك المرصعات على كمالات صاحبها، وما ينبغي أن يعامل به من أدب.

وكان مما علمه أن يقول لهم قوله: (أيها الناس! إن مليكي يتعرف إليكم بإظهار ما في هذا، فاعرفوه.. ويتودد إليكم بهذه التزيينات فتوددوا إليه بالاستحسانات.. ويتحبب إليكم بهذه الإحسانات فأحبوه.. ويرحم إليكم فاشكروه.. ويتظاهر إليكم فاشتاقوا اليه..)

وهكذا.. وعندما دخل الناس افترقوا إلى فريقين:

أما الفريق الأول، فنظر الى ما في القصر، فقالوا:  لابد أن يكون لهذا القصر شأن عظيم.. ثم نظروا الى المعلم الأستاذ فقالوا: السلام عليك! لابد لمثل هذا، من مِثلِكَ.. فَعَلّمْنَا ممّا علمك سيدُك.. فنطق فاستمعوا فاستفادوا فعملوا بمرضيات الملِك.. ثم دعاهم الملك لقصر خاص لا يوصف، فأكرمهم بما يليق بمثله لمثلهم في مثل ذلك القصر..

أما الفريق الثاني، فما التفتوا إلى شئ غير الأطعمة، فتعاموا وتصاموا، فأكلوا أكلَ البهائم، ثم شربوا من الإكسيرات التى لا تشرب، فسكروا.. ثم راحوا يشوشون على الناظرين، فأخذهم جنود الملك فطرحوهم في سجن يليق بهم.

ضرب لي بديع الزمان هذا المثال، ثم قال: إذا تفطنت لسر التمثيل فانظر إلى صورة الحقيقة..

فأما القصر فهذا العالم الذي نوّر سقفه بمصابيح متبسمة، وزيّن فرشه بأزاهير متزينة.

وأما الملك فهو سلطان الأزل والأبد الذي { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} (الإسراء)

وأما المنازل، فالعوالم المزينة.. كل بما يناسبه.. وأما الصنائع الغريبة فهي معجزات قدرته.. واما الأطعمة فهي خوارق ثمرات رحمته.. وأما المطبخ والتنور فالأرض وسطحها.. وأما الكنوز المخفية وجواهرها فالأسماء القدسية وجلواتها.

وأما الاستاذ المعلم ورفقاؤه وتلامذته، فسيدنا محمد والأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – وورثتهم من الهداة والأولياء.

وأما المسافرون المدعوون للسير والضيافة؛ فالإنسان مع حواشيه من الحيوانات.

وأما الفريقان؛ فأحدهما أهل الإيمان والقرآن الذي يفسّر لأهله معاني آيات كتاب الكائنات.. والآخر؛ أهل الكفر والطغيان التابعون للنفس والشيطان لا يعرفون من الحياة إلا الحياة الدنيوية..

نظر إلي الكاظم، ثم قال: هل ترى من الرحمة أن يترك الله عباده هملا من دون أن يدلهم على حقيقتهم ووظيفتهم والمصير الذي يصيرون إليه..؟

قلت: لكنه دلهم على ذلك في الكتاب المقدس؟

قال: ولكنهم حرفوا وانحرفوا.

قلت: هم يتحملون مسؤولية ذلك.

قال: إنما يقول هذا القساة.. أما الرحيم الرحمن فإن رحمته التي وسعت كل شيء لن تضيق بهذا البشر المحدود من خلقه.. ولذلك أرسل رسله تترى ليهدي عباده ويخاطبهم بكل أصناف الخطاب..

انظر كيف رحم الله قرية واحدة، فأرسل لها رسولين.. فلما لم يكفيا عزز بثالث.. بل عززهم برابع من الصالحين.. قال تعالى:{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) } (يس)

أترى الذي رحم هذه القرية الواحدة يترك أمما كثيرة من الناس دون أن يرسل لهم من الهداية ما يدلهم على سبيل السلوك إليه؟

التفت إلى رفاقه، ثم قال: ما بالي أذهب بعيدا.. لقد كنت تحدثني عن الكتاب المقدس..

قلت: أجل.. إنه وحي الله لأنبياء كثيرين..

قال: لمن أرسلهم الله؟

قلت: لبني إسرائيل.. كل أنبياء الكتاب المقدس من بني إسرائيل..

قال: ألا ترى أن تخصيص شعب واحد بأنبياء كثيرين، وبأسفار كثيرة.. وفي أوقات متقاربة رحمة من الله بذلك الشعب؟

قلت: بلى.. ولهذا هم يزعمون لأنفسهم أنهم شعب الله المختار.

قال: ذلك لعدم فقههم عن ربهم.. وإلا فإن الله الذي رحم ذلك الشعوب بأولئك الأنبياء يستحيل أن لا يرحم غيرهم من الشعوب..

قلت: ولكنكم معشر المسلمين تزعمون أن رسالات الله ختمت بمحمد؟

قال: ذلك لأن شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد شملت كل حاجات البشرية.. وقد ضمن لها مع ذلك الحفظ.. فلذلك أغنت عن تعدد الرسل.. لأن الهدف ليس تكثير الرسل، وإنما الهدف بلوغ الرسالة.

السعادة:

قلت: لا بأس.. فلنفرض أني سلمت لك بكل ما ذكرته.. فما الرحمة التي ينطوي عليها هذا النوع من الهداية؟

قال: إن الرحمة التي تنطوي عليها هذه الهداية لا يمكن تصورها.. إنها ولادة جديدة للإنسان.. ولادة أهم بكثير من الولادة التي خرجت به من العدم إلى الوجود..

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا، فقال في السورة التي تعدد مظاهر رحمة الله بعباده:{ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (الرحمن).. انظر كيف قدم الله نعمة تعليم القرآن على نعمة خلق الإنسان.

قلت: ما السر في ذلك؟

قال: في فترة بحثي عن الله.. وبعد أن التقيت بديع الزمان سألته هذا السؤال، فأجابني بما تعود أن يجيبني به.. لقد قال يحكي عن نفسه: في يوم من الأيام الاخيرة للخريف، صعدت إلى قمّة قلعة أنقرة، التي أصابها الكبر والبلى أكثر مني، فتمثلّت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تأريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية، ومن شيخوخة الدنيا.. فاضطرتني تلك الحالة الى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن نور، وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط.

فحينما نظرت إلى اليمين الذي هو الماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي وأجدادي والنوع الإنساني، فأوحشتني بدلاً من أن تسلّيني.

ثم نظرت الى يسار الذي هو المستقبل مفتشاً عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضا من أن يؤنسني.

ثم نظرت إلى زمني الحاضر بعد أن امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التأريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.

فلما يئست من هذه الجهة أيضاً، رفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري، فرأيت أن على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط، وهي تنظر اليّ، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظراً إلى جذور شجرة عمري، فرأيت أن التراب الذي هناك ما هو إلاّ رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تحت الاقدام، فأضافا الى دائي داء من دون أن يمنحاني دواءً.

ثم حوّلتُ نظري على مضض إلى ما ورائي، فرأيت أن هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في أودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من أن تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي.

ولما لم أجد في تلك الجهة خيراً ولا أملاً، ولّيت وجهي شطر الأمام ورنوت بنظري بعيداً، فرأيت أن القبر واقف لي بالمرصاد على قارعة الطريق، فاغراً فاه، يحدق بي، وخلفه الصراط الممتد إلى حيث الأبد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد. وليس لي من نقطة استناد أمام هذه المصائب المدهشة التي تأتيني من الجهات الست، ولا أملك سلاحاً يدفع عني غير جزء ضئيل من الإرادة الجزئية.. فليس لي إذن أمام كل أولئك الأعداء الذين لا حصر لهم، والأشياء المضرة غير المحصورة، سوى السلاح الإنساني الوحيد وهو الجزء الاختياري. ولكن لما كان هذا السلاح ناقصاً وقاصراً وعاجزاً، ولا قوة له على إيجاد شيء، وليس في طوقه إلاً الكسب فحسب، حيث لا يستطيع أن يمضي إلى الزمان الماضي ويذبّ عني الاحزان ويسكتها، ولا يمكنه أن ينطلق إلى المستقبل حتى يمنع عنّي الأهوال والمخاوف الواردة منه، أيقنت ألاّ جدوى منه فيما يحيط بي من آلام وآمال الماضي والمستقبل.

وفيما كنت مضطرباً وسط الجهات الست تتولى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، إذ بأنوار الإيمان المتألقة في وجه القرآن المعجز البيان، تمدني وتضيء تلك الجهات الست وتنورها بأنوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وأنواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الانوار كافية ووافية لإحاطتها.

فبدّلت تلك الانوار السلسلة الطويلة من الوحشة إلى سلوان ورجاء، وحولّت كل المخاوف الى انس القلب، وأمل الروح الواحدة تلو الاخرى.

نعم، إن الإيمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالمقبرة الكبرى، وحوّلها إلى مجلس منوّر أنوس وإلى ملتقى الأحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين…

ثم إن الإيمان قد أظهر بعلم اليقين أن المستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة، كقبر واسع كبير ما هو إلاّ مجلس ضيافة رحمانية أعدّت في قصور السعادة الخالدة.

ثم إن الإيمان قد حطّم صورة التابوت والنعش للزمن الحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، وأشهدني أن اليوم الحاضر إنما هو متجر أخروي، ودار ضيافة رائعة للرحمن.

ثم إن الإيمان قد بصّرني بعلم اليقين أن ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شجرة العمر على شكل نعش وجنازة. أنها ليست كذلك، وإنما هي انطلاق لروحي – التي هي أهل للحياة الابدية ومرشحة للسعادة الأبدية – من وكرها القديم إلى حيث آفاق النجوم للسياحة والارتياد.

ثم إن الإيمان قد بيّن بأسراره؛ أن عظامي ورميمها وتراب بداية خلقتي، ليسا عظاماً حقيرة فانية تداس تحت الأقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحمة، وستار لسرادق الجنة.

ثم إن الإيمان أراني – بفضل أسرار القرآن الكريم – أن أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم – كما ظنّ في بادىء الأمر – بل إنها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للأسماء السبحانية قد أتّمت مهامها، وأفادت معانيها، وأخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين.

ثم إن الإيمان قد أوضح لي بنور القرآن ان ذلك القبر الذي أحدق بي ناظراً ومنتظراً ليس هو بفوهة بئر، وانما هو باب لعالم النور. وأن ذلك الطريق المؤدي إلى الأبد ليس طريقاً ممتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل إنه سبيل سوي إلى عالم النور، وعالم الوجود وعالم السعادة الخالدة.. وهكذا أصبحت هذه الأحوال دواء لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة.

ثم، ان الإيمان يمنح ذلك الجزء الضئيل من – الجزء الاختياري – الذي يملك كسباً جزئياً للغاية، وثيقة يستند بها إلى قدرة مطلقة، وينتسب بها إلى رحمة واسعة، ضد تلك الكثرة الكاثرة من الأعداء والظلمات المحيطة، بل إن الإيمان نفسه يكون وثيقة بيد الجزء الاختياري. ثم إن هذا الجزء الاختياري الذي هو السلاح الإنساني، وإن كان في حد ذاته ناقصاً عاجزاً قاصراً، إلاّ أنه اذا استعمل باسم الحق سبحانه، وبذل في سبيله، ولأجله، يمكن أن ينال به – بمقتضى الإيمان – جنة أبدية بسعة خمسمائة سنة. مَثَلُ المؤمن في ذلك مثل الجندي إذا استعمل قوته الجزئية باسم الدولة فإنه يسهل له أن يؤدي اعمالاً تفوق قوته الشخصية بألوف المرات.

وكما أن الإيمان يمنح الجزء الاختياري وثيقة، فإنه يسلب زمامه من قبضة الجسم الذي لا يستطيع النفوذ في الماضي ولا في المستقبل، ويسلمه الى القلب والروح، ولعدم انحصار دائرة حياة الروح والقلب في الزمن الحاضر كما هو في الجسد، ولدخول سنوات عدة من الماضي وسنوات مثلها من المستقبل في دائرة تلك الحياة، فإن ذلك الجزء الاختياري ينطلق من الجزئية مكتسباً الكلية.. فكما أنه يدخل بقوة الإيمان في أعمق أودية الماضي مبدداً ظلمات الاحزان، كذلك يصعد محلقاً بنور الإيمان إلى أبعد شواهق المستقبل مزيلاً اهواله ومخاوفه.

***

بعد أن أجابني الكاظم على كل تساؤلاتي من غير أن يتبرم أو يضجر، سألته قائلا: اسمح لي أن أسألك سؤالا قد يكون محرجا..

قال: تفضل.. لا حرج عليك.

قلت: لقد أخبرني مسؤول السجن بأنك ستعدم بعد أيام.

ابتسم، وقال: يستحيل ذلك.. يستحيل أن يعدمني إلا الذي أوجدني.. ورحمة الرحمن الرحيم تأبى أن تقضي على من أنعمت عليه بنعمة الوجود بالإعدام.

قلت: لقد ذكر لي مسؤول السجن هذا.. وذكر لي أنه عندما أبلغك شكرته.. ثم لم تهتم بقوله.

قال: ذلك لأنه تكلم بشيء مستحيل.

قلت: هل عندك من العلاقات ما يؤمنك من حكم الإعدام؟

قال: أنا عبد الله.. من الله علي بنعمة الوجود.. ويستحيل أن يسلبها مني أحد إلا الذي أعطاني إياها.. وقد ذكرت لك أنه أرحم من أن يسلبها مني.

قلت: ولكنا نرى كل يوم القتلى.. فهل ترى أن القتلة ليسوا هم القتلة.

قال: فرق كبير بين القتل والإعدام.. القتل ينقلك من حياة إلى حياة.. أو يخرجك من رحم ضيق إلى فضاء أوسع وأفسح.. أما الإعدام والإفناء فذلك مستحيل لأن الذي تكرم بالوجود يستحيل أن يسلبه منا.

قلت: فأنت لا ترى الموت إعداما إذن.

قال: لأنه ليس إعداما.. الموت – يا أخي – هو رحلة أنتقل بها من هذه الأرض المحدودة الضيقة إلى حياة أكرم وأوسع.. فالذي رحمني في هذه الحياة لا شك أنه سيرحمني في الحياة الأخرى.

قلت: أنت واثق كثيرا في نفسك؟

قال: بل أنا واثق كثيرا في ربي.. فالله الرحمن الرحيم الذي لم يعودنا إلا الكرم يستحيل أن نرى منه إلا الكرم.

لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم:(  أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟)، قالوا:( لا يا رسول اللّه)، قال:( فواللّهِ، للُّه أرحمُ بعباده من هذه بولدها) ([9]

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا بأن هذه الرحمة التي وقفتها هذه الأم ليست سوى تجل من تجليات رحمة الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( جعل اللّه الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) ([10])

قلت: ألهذا لم تتأثر عندما ذكر لك هذا؟

قال: وكيف أتأثر، وهو يبشرني بأفضل يوم انتظرته في حياتي جميعا؟.. إن أفضل يوم ينتظره المؤمن هو لقاؤه لربه..

قلت: أنا لا أزال لا أعي ما تقول.. فهلا زدتني توضيحا.

قال: عندما يموت الإنسان الموت المتعارف عليه، والذي يحزن الناس من أجله، ويترقبون مجيئه، ويختلفون في ترقبهم، تولد حينذاك الروح في عالم أكمل من هذا العالم.

وصفات مولود الروح الذي تمخض عن فترة الحياة الدنيا، كصفات الجنين الذي تمخض عن رحم الأم، فقد يكون سليما معافى ترتسم في وجهه براءة الطفولة العذبة، وقد يكون جنينا مشوها مريضا منفرا يود من حوله لو تلقفه باطن الأرض قبل أن يتلقفه مهد أمه الذي أعد له.

ولكن الفرق بين الحالين عظيم، فجنين الدنيا لا خيار له، ولا تكليف، فليس له أي دخل في تحديد جيناته، ولا التميز بصفاته، ولكن جنين الآخرة ملوم معاتب على كل الأحوال، لأن صفة روحه التي قدم بها على الملأ الأعلى هو الذي حددها، وهو الذي اختارها، وهو الذي رغب فيها.

فلذلك كانت الدنيا محطة للآخرة، أو هي بتعبير آخر رحم الحياة الأبدية، تتحدد من خلالها معالمها وصفاتها وصورها، فصور الأرواح في الآخرة هي صور الأعمال والتوجهات والهمم في الدنيا.

وهذه الحياة الآخرة، والتي يفصل الموت  بينها وبين النشأة الأولى، ليست شيئا مخيفا أو محزنا للصالحين، فيوم الموت هو يوم عيدهم الذي يلاقون فيه ربهم الذي طال اشتياقهم له، وهو يوم خلاصهم من سجن الجسد وضيقه، وهو يوم روحهم وريحانهم.

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر ذلك: (تحفة المؤمن الموت)([11])، وقال: (الموت ريحانة المؤمن)([12])

ثم التفت إلي، وقال: لقد ذكر القرآن الكريم مواقف الخلق في لحظة الاحتظار، وهي اللحظة التي سيعيشها كل مخلوق مهما طال عمره:

فذكر المقربين فقال عنهم:{ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ(89)} (الواقعة)

وذكر أهل اليمين، فقال عنهم:{ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(91)} (الواقعة)

وذكر المكذبين الضالين، فقال عنهم:{ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ(94)} (الواقعة)

قلت: دعني من حديث القرآن.. وحدثني بما يقول العقل.. كيف يتحول الموت من شبح مزعج إلى صديق مؤنس؟.. ألا ترى هذا محالا في موازين العقول؟

قال: أرأيت لو قيل للناس.. لجميع الناس: إن هناك فترة من حياتكم بعد بلوغكم الشيخوخة، أو بعد إصابتكم بمرض خطير يشل أعضاءكم جميعا تولدون من جديد.. لا شيبا كما كنتم، بل شبابا أقوياء.. ويمتد شبابكم أمدا لا ينتهي.

قلت: أيمكن أن يكون ذلك؟

قال: لو قيل ذلك، ورآه الناس بأعينهم.

قلت: يرون الشيخ الكبير ينام أمامهم، ثم في الصباح يرونه، وقد اخضر عوده، واشتدت أوصاله، وقام قوامه.

قال: نعم.. لو رأو ذلك بأعينهم، كيف يكون حالهم؟

قلت: إنهم حينها يبدلون كل أشعارهم التي قالوها عن الشباب ليمدحوا بها الشيخوخة، وحينها لن يقول أبو العتاهية:

فياليتَ الشبابَ يعودُ يوماً                فأخبرَهُ بما فعل المشيبُ

بل سيقول:

فياليتَ الشباب يعودُ يوماً                فأخبرَهُ بأفضال المشيبُ

قال: لماذا، أليست الشيخوخة ضعفا؟

قلت: بلى، هي ضعيف، ولكنها – بما ذكرته – تصبح طريقا إلى القوة.. والخلق مجمعون على حمد الضعف المؤدي إلى القوة، وعلى ذم القوة المؤدية إلى الضعف.

قال: فكيف لو اقتنع هذا الخلق بأن الموت لا يختلف عن نوم ذلك الشيخ، وأن ذلك الشيخ سيستيقظ ليرى نفسه، وقد عاد شابا يافعا قويا.. ليس هذا فقط، وإنما يرة أمامه كل شيء كان يحلم به ولا يصل إليه.. ليس هذا فقط، وإنما يطمأن بأنه لن يدب الضعف إليه، ولن يصيبه الألم ولا الحزن ولا اليأس ولا الجوع ولا العري ولا ما كان يصيبه في الدنيا من الآفات.

قلت: حينها سيكون الموت أكبر أمنية، وأعظم طريق من طرق السعادة، وحينها لن يبعث الأعداء على أعدائهم بالقنابل، وإنما يبعثون لهم بالطعام والدواء ليستبقوا حياتهم.

قلت ذلك فرحا فقد كاد يستخفني الطرب، ولكني عدت فقلت: ولكن هل هذا ممكن؟

قال: من عرف رحمة الله التي دل عليها كل شيء لا يقتنع عقله فقط بذلك، وإنما يراه رأي العين..

قلت: فما ذكر كتابكم المقدس في هذا؟

قال: لقد أخبرنا كتابنا المقدس بكل التفاصيل الدقيقة المرتبطة بهذا حتى صرنا نرى الجنة رأي العين([13]).. ونرى معها من رحمة الله ولطفه وكرمه ما لا يمكن لجميع حبر الدنيا أن يعبر عنه.

قال ذلك، ثم التفت إلى من معه، وقال: لقد كنت قبل أن تأتي إلينا أحدث هؤلاء الأصدقاء عن بعض ما أعد الله لعباده الصالحين في جنانه من كرمه وفضله..

انظر إلى السرور يكسو وجوههم.. وإلى السكينة التي تنتشر في محياهم..

قلت: فحدثني كما حدثتهم.. فإني أشعر أن الحقيقة تتجلى في كتابكم المقدس بأنصع صورها وأجملها.

رفع رأسه إلى السماء، ثم راح يرتل في خشوع:{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)} (الرحمن)

ثم رتل بعدها:{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} (الواقعة)

ثم رتل بعدها:{ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} (الإنسان)

كان يرتل بخشوع آسر.. وكنا كمن يشاهد تلك المشاهد الجميلة التي تحكي صورها تلك الآيات المقدسة([14]).

***

بعد أن غمرنا بأنوار تلك المشاهد المقدسة.. وبعد أن لاحت أنوارها علينا، التفت إلي، وقال: هل تشعر الآن برحمة الله الرحيم الرحمن؟

قلت: إني أشعر بها الآن أكثر مما شعرت بها في حياتي جميعا.

قال: لو أني.. وجميع الخلق.. وجميع ذرات الرمال.. وجميع قطر الأمطار.. استحلن ألسنا، ورحن نحاول أن نعبر عن بحار رحمة الله، فلن نجد لها قرارا، ولن نحد لها حدا..

***

بقيت في صحبته إلى أن أمر به إلى المقصلة، وقد كنت حاضرا حفلة تتويجه بتاج الشهاده.. وقد كان منظرا لا يمكن تصوره.. لقد كنا جميعا حزانى متألمين ما عدا الكاظم فقد كان ممتلئا سعادة وسرورا.. وقد جعلنا في ذلك الموقف نوقن تمام اليقين أنه يملك من المعرفة بالله ما كنا جميعا نفتقر إليه.

***

التفت إلينا صاحبنا (جون ماسفيلد)، وقال: هذا حديثي مع ذلك الرجل الفاضل.. لقد عشت في رحاب كلماته أياما جميلة.. ولكن  كلاليب الدنيا سرعان ما جذبتني، فنسيت تلك الأيام.. ونسيت معها تلك المعاني..

لقد بعتها جميعا بثمن بخس حقير..

لقد كان ثمن بيعي لها هو قيد ذهبي قيدني به الملوك حين جعلوني شاعرا للبلاط.. فنسيت صاحبي.. ونسيت المعارف العظيمة التي علمني إياها.. ورحت أسرع إلى البلاط.. وبدل أن أكتب القصائد في مدح ربي الرحمن الرحيم رحت أكتبها في مدح من رماني بعد ذلك في الشارع بقسوة وغلظة.

ولكن الله الرحمن الرحيم تداركني بلطفه، فأعاد إلى ذاكرتي الساعة تلك الأيام الجميلة التي نعمت فيها بتلك الصحبة الشريفة..


([1])  أشير به إلى (جون ماسفيلد) (1878 ـ 1967م)، وهو شاعر وروائي وناقد وكاتب مسرحي إنجليزي.. أصبح شاعر البلاط في إنجلترا عام 1930م لمدة 37 عامًا.. وُلد في مقاطعة هيرفورد ووستر.. ويشتهر بشاعر البحر، وشاعر تراب وغثاء الأرض وشاعر الكسيح والأعرج والضرير في المطر والزمهرير.. وكثير من أعماله يدور حول الحب والمأساة بين الناس في شروبشاير، وبين المتشردين ورجال البحر.

وقد كتب أكثر من 100 كتاب، واشتهر لأول مرة بمجموعة شعره أغنيات المياه المالحة (1902م). وأكثر أعماله ذيوعًا في أشعاره القصصية الطويلة الرحمة الأبدية (1911م)؛ الأرملة في الشارع الجانبي (1912م)؛ الملوث (1913م)؛ رينارد الثعلب (1919م) (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

ولا يخفى سر اختياره في هذا المحل.

([2])  طبعا هذا على ما يعتقد المسيحيون، وسنرى الأدلة الكثيرة المثبتة لخلاف ذلك في هذه السلسلة.

([3]) أشير به إلى الإمام الجليل (موسى الكاظم بن جعفر الصادق) (128 ـ 183 هـ)، وهو سابع أئمة أهل البيت – على مذهب الاثنا عشرية-  ويعرف بألقاب متعددة منها: الكاظم ـ وهو أشهرها ـ والصابر والصالح.

كان أعبد أهل زمانه وأزهدهم وأفقههم، وكان يدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده، وقد أخذ عنه العلماء فأكثروا، ورووا عنه في فنون العلم ما ملاَ بطون الدفاتر، وألّفوا في ذلك الموَلّفات الكثيرة، المروية عنهم بالاَسانيد المتصلة، وكان يعرف بين الرواة بالعالم.

وكان جليل القدر، عظيم المنزلة، مهيب الطلعة، كثير التعبّد، عظيم الحلم، شديد التجاوز حتى لقّب بالكاظم، وقد لاقى من المحن ما تنهدّ لهولها الجبال، فلم تحرك منه طرفاً، بل كان صابراً محتسباً كحال آبائه وأجداده.. وكان أحمد بن حنبل إذا روى عنه قال: حدثني موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي ابن الحسين، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: قال رسول اللّه r ، ثم قال أحمد: (وهذا إسناد لو قرئ على المجنون لأفاق)

وقد روي عن أبي حنيفة أنّه حجّ في أيّام الصادق، فلمّا أتى المدينة دخل داره وجلس ينتظر فخرج صبي، فسأله أبو حنيفة عن مسألة، فأحسن الجواب، قال أبو حنيفة: فأعجبني ما سمعت من الصبي، فقلت له ما اسمك؟ فقال له: (أنا موسى بن جعفر..) فقلت له: ياغلام ممّن المعصية؟ فقال: (إنّ السيئات لا تخلو من إحدى ثلاث، إمّا أن تكون من اللّه وليست منه، فلا ينبغي للرب أن يعذب العبد على ما لا يرتكب، وأمّا أن تكون منه ومن العبد وليست كذلك، فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وأمّا أن تكون من العبد وهي منه، فإن عفا فبكرمه وجوده، وإن عاقب فبذنب العبد وجريرته)

وكان يسكن المدينة، فأقدمه المهدي بغداد وحبسه، فرأى في النوم الاِمام عليّا وهو يقول: يامحمد:﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إن تَوَلّيْتُمْ أن تُفْسِدُوا في الاَرضِ وتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُم ﴾ (محمّد: 22) فأطلقه وردّه إلى المدينة، فأقام بها إلى أيام هارون الرشيد.

من كلامه: (وجدت علم الناس في أربع: أوّلها: أن تعرف ربك، والثانية: أن تعرف ما صنع بك، والثالثة: أن تعرف ما أراد منك، والرابعة: أن تعرف ما يخرجك عن دينك)

وقال: (المؤمن مثل كفتي الميزان كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه)

وقال: (تفقّهوا في دين اللّه فإنّ الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقه في دينه لم يرض اللّه له عملاً)

وقد اتفقت كلمة المؤرّخين على أنّ هارون الرشيد قام باعتقال الاِمام الكاظم وإيداعه السجن لسنين طويلة، مع تأكيده على سجّانيه بالتشديد والتضييق عليه، وذكر أنّه لما طال به الحبس كتب إلى الرشيد يقول:(إنّه لم ينقضِ عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك يوم من الرخاء، حتى يفضي بنا ذلك إلى يوم يخسر فيه المبطلون)

ولم يزل ذلك الأمر بالاِمام يُنقل من سجن إلى سجن حتى انتهى به الاَمر إلى السّندي بن شاهك،وكان فاجراً فاسقاً، لا يتورّع عن ارتكاب أي شيء تملّقاً ومداهنة للسلطان، فغالى في التضييق عليه حتى جاء أمر الرشيد بدسّ السم له، فأسرع السندي إلى إنفاذ هذا الأمر العظيم، فاستشهد بعد طول سجن ومعاناة، وذلك في سنة ثلاث وثمانين ومائة. (انظر: موسوعة أصحاب الفقهاء)

([4])  بعض ما نذكره هنا من حوار ذكرنا مثله أو قريبا منه في رسالة ( ثمار من شجرة النبوة) من هذه السلسلة، فصل (روحانية)

([5]) انظر: كتاب (الله جل جلاله) لسعيد حوى.

([6])  انظر: كليات رسائل النور (لبديع الزمان النورسي)، الكلمات، الكلمة الثانية عشرة.. وقد قدم لها بديع الزمان بقوله: (هذه الكلمة تشير الى موازنة اجمالية بين حكمة القرآن الكريم المقدسة وحكمة الفلسفة، وتشير أيضاً الى خلاصة مختصرة لما تلقنه حكمة القرآن من تربية الانسان في حياتيه الشخصية والاجتماعية فضلاً عن انها تضم اشارة الى جهة ترجح القرآن الكريم وأفضليته على سائر الكلام الإلهي وسموه على الاقوال قاطبة)

([7]) هذه المسألة تسمى في (علم الكلام) بمسألة (شكر المنعم)، وقد اختلف المتكلمون فيها، فذهب المتكلمون من السنة إلى توقف وجوب شكر المنعم على السمع، بينما ذهب الإمامية والمعتزلة إلى وجوب شكر المنعم عقلا.. ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك:

1 – أن شكر المنعم واجب بالضرورة وآثار النعمة علينا ظاهرة، فيجب أن نشكر فاعلها، وإنما يحصل بمعرفته.

2 – أن معرفة الله تعالى واقعة للخوف الحاصل من الاِختلاف، ودفع الخوف واجب بالضرورة.

3- أنه يلزم المخالفين – القائلين بأن معرفة الله تعالى واجبة بالسمع لا بالعقل – ارتكاب الدور المعلوم بالضرورة بطلانه، لاَن معرفة الإيجاب تتوقف على معرفة الموجب فإن من لا نعرفه بشيء من الاِعتبارات البتة نعلم بالضرورة أنا لا نعرف أنه أوجب، فلو استفيدت معرفة الموجب من معرفة الإيجاب لزم الدور المحال!

4- أنه لو كانت المعرفة إنما تجب بالأمر لكان الأمر بها إما أن يتوجه إلى العارف بالله تعالى أو إلى غير العارف والقسمان باطلان، فتعليل الإيجاب بالأمر محال.. أما بطلان الأول فلأنه يلزم منه تحصيل الحاصل وهو محال.. وأما بطلان الثاني: فلأن غير العارف بالله تعالى يستحيل أن يعرف أن الله قد أمره وأن امتثال أمره واجب، وإذا استحال أن يعرف أن الله تعالى قد أمره وأن امتثال أمره واجب استحال أمره وإلا لزم تكليف ما لا يطاق.

ومع أن المسألة أخروية إلا أن الأحوط فيها ما ذكره الإمامية والمعتزلة.. وقد تحدثنا عن مسائل لها علاقة بهذا في رسالة (أسرار الأقدار)

([8])  انظر: المثنوي العربي النوري:380. (بتصرف)

([9])  رواه البخاري.

([10])  رواه البخاري ومسلم.

([11]) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت والطبراني والحاكم.

([12]) رواه الديلمي.

([13]) انظر فصل (السعادة) من رسالة (أسرار الحياة) من هذه السلسلة،.

([14]) سنرى التفاصيل المرتبطة بمعانيها في (فصل السعادة) من رسالة (أسرار الحياة) من هذه السلسلة.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *