ثالثا ـ القدوس

في اليوم التالي.. وفي وقت متأخر من الليل.. قام رجل منا فرحا مسرورا، وأسرع يوقظ الجمع، وهو يقول لهم: أيها الجمع.. هلموا.. لقد تذكرت الآن أشياء حصلت لي في حياتي.. لاشك أن لها دورا كبيرا فيما نبحث عنه.. لا شك أن لها دورا كبيرا في التعريف بالإله الذي انشغلنا جميعا بالبحث عنه.
استبشر الجمع، وراحوا يلتفون به، وهم يقولون: هيا.. أخبرنا.. ما أشد شوقنا للتعرف على إلهنا.. فلن يخلصنا من هذه الحال غيره.
قال: سأعرفكم أولا بنفسي.. أنا (فريدريك ماكس مولر)([1]).. وقد كنت باحثا في كثير من مراكز البحوث.. وأجريت في حياتي بحوثا كثيرة إلى درجة أني أنسى عناوينها.. بل أنسى النتائج التي توصلت إليها من خلالها.. وأحيانا أطالع بعضها، فأتوهم أن غيري هو الذي قام بها مع أني لم أقم بها إلا أنا..
لعل ذلك كان بسبب الآلية التي كنت أجري فيها بحوثي.. فقد كنت أقدم على البحوث كما تقدم آلة الحرث على الحرث.. وآلة الزرع على الزرع.. وآلة الحصاد على الحصاد..
لقد كنت أزرع فرضيات بحثي بعد أن أهيئ لها الأرضية المناسبة.. ثم أتركها لأحصدها بعد ذلك بكل آلية بعيدا عن كل المشاعر..
أذكر أني أجريت مرة بحثا عن اليتامى.. وأذكر أني زرت خلالها كثيرا من الأسر التي تضم يتامى.. وأذكر مع ذلك كله أن عيني لم تتكرم علي بدمعة واحدة مع كثرة المآسي التي رأيتها..
لكن بحثا مهما كنت قد بذلت فيه كامل وسعي في بعض تلك الأيام.. أذكر انه كان قد أثر في بعض التأثير.. كانت له علاقة بما نحن فيه..
لقد أنستنيه الأيام.. لكني اليوم تذكرته.. تذكرته بكل تفاصيله.. وسأقص عليكم قصته.
ساد الجمع الحاضر صمت عميق سرعان ما قطعه (فريدريك) بقوله: في تلك الأيام كلفت أن أجري بحثا حول (قداسة الإله في الأديان والمذاهب).. وقد طلب مني أن تكون دراسة مقارنة مستوعبة.. فلا يهم المركز التحليلات بقدر ما تهمه المعلومات.
لقد وفر لي مركز البحث لتيسير إجراء البحث كل الوسائل، وأمدني بما أحتاجه من المال للتنقل إلى أي بقعة أشاء من بقاع العالم.. وقد أتاح لي ذلك فرصة للتعرف على التصورات المختلفة التي تحملها البشرية عن الله([2]).
لقد زرت لأجل إجراء ذلك البحث اليونان والهند والصين.. وبلاد كثيرة..
قال رجل منا: فبم بدأت رحلتك؟
قال: باليونان([3]).. فقد كانت أقرب البلاد إلينا.. وكانت أكثر البلاد امتلاء بالتصورات المختلفة عن الله.
لقد حفلت اليونان في عهودها القديمة بجميع أنواع العقائد البدائية قبل أرباب (الأوليمب) الذين خلدوا في أشعار هومير وهزيود.. لقد عبدوا الأسلاف والطواطم ومظاهر الطبيعة وأعضاء التناسل ومزجوا العبادات جميعا بطلاسم السحر والشعوذة.. واستمدوا من جزيرة (كريت) عبادة النيازك وحجارة الرواسب التي شاعت بيت أهل الجزيرة من أقدم عصورها البركانية.. فرمزوا بها إلي أرباب البراكين والعوالم السلفية.. واتخذها بعضهم (طوطم) ينتسبون إليها انتساب الأبناء إلي الآباء.
ولما شاعت بين الإغريق عبادة (أرباب الأوليمب) كان من الواضح أنها أرباب مستعارة من الأمم التي سبقتهم إلي الحضارة وتنظيم العبادات.. فالإله (زيوس) أكبر أرباب الأوليمب هو الإله (ديوس) المعروف في الديانة الهندية الآرية القديمة.. واسمه متداول في العبادات الأوربية جميعا مع قليل من التصحيف بين اللغات واللهجات.. ومن تصحيفاته أسماء الله والإلهية عند الفرنسيين والطليان والإنجليز المعصرين.
والربة (أرتيميس) – ومثلها الربة أفروديت أو فينوس- هي الربة عشتار اليمانية البابلية.. ومنها كلمة (ستار) التي تدل علي النجم في بعض اللغات الأوربية الحديثة.
والربة (ديمتر) هي أزيس المصرية كما قال هيرودوت، وهي واحدة من أرباب كثيرة تشابهت عبادتها في بلاد الإغريق وعبادتها بين قدماء المصريين.
وأضيف إلي هذه الأرباب (أدونيس) عن (أدوناي) العبرية بمعني السيد أو الإله، وأضافوا إليها في مصر بعد الإسكندر المقدوني عبادة إله سموه سرابيس وهو اسم مركب من اسمي أوزيريس وأبيس المعبودين المصريين، وكان لهما معبد تدفن فيه العجول التي تعبد اسم أبيس بعد موتها وذهابها إلي مغرب أوزيريس.
كما أضيفت إليها عبادة (ديونسيس) في أطوارها المتتابعة التي تلبست أخيرا بعبادة (مترا) في الديانة الأورفية السرية.
وقد ترقي اليونان في تصور صفات الأرباب خلال العصور التاريخية.. فعبدوا قبل المسيح ببضع مئات من السنين آلهة هي علي أسوأ مثال من العيوب الإنسانية.. وعبدوها بعد ذلك وهي تترقي إلي الكمال وتقترب إلي فكرة (التنزيه) التي سبقهم إليها المصريون والهنود والفرس والعبرانيون.
فكان أرباب الأوليمب في مبدأ أمرهم يقترفون أقبح الآثام ويستلمون لأغلظ الشهوات.. وقد قتل زيوس أباه (كرونوس) وضاجع ابنته، وهجر سماءه ليطارد عرائس العيون والبحار، ويغازل بنات الرعاة في الخلوات، وغار من ذرية الإنسان، فأضمر له الشر والهلاك، وضن عليه بسر (النار) فعاقب المارد برومثيوس لأنه قبس له النار من السماء.
ولم يتصوروه خالقا للدنيا أو خالقا للأرباب التي تساكنه في جبل الأوليمب وتركب معه متن السحاب، فهو علي الأكثر والد لبعضها، ومنافس لأنداده منها، وتعوزه أحيانا رحمة الآباء ونبل العداوة بين الأنداد.
ولم يزل (زيوس)إلي عصر (هومير) خاضعا للقدر مقيدا بأوامره، عاجزا عن الفكاك من قضائه.
لقد صوره لنا الشاعر المتدين علي مثال أقرب إلي خلائق الرحمة والإنصاف، ومثال الكمال، ولكنه نسب الخلق إلي أرباب أقدم منه ومن سائر المعبودات الأولمبية.. وهي (جيا) ربة الأرض و(كاوس) رب الفضاء و(أيروس) رب التناسل والمحبة الزوجية، وجعل أيروس يجمع بين الأرض وزوجها الفضاء فتلد منه الكائنات السماوية والأرضية وآخرها أرباب الأوليمب، وعلي رأسهم (زيوس) الملقب بأبي الأرباب.
وكان (أكسينوفون) المولود بآسيا الصغري قبل الميلاد بنحو ستة قرون أول من نقل إلى الإغريق فكرة الإله الواحد المنزه عن الاشتباه، فكان ينعي علي قومه أنهم يعبدون أربابا علي مثال أبناء الفناء، ويقول: إن الحصان لو عبد إلها لتمثله في صورة الحصان..وأن الأثيوبي لو تمثل إلها لقال إنه أسود الإهاب.. وأن الإله الحق أرفع من هذه التشبيهات والتجسيمات، ولا يكون علي شيء من هذه الصفات البشرية.. بل هو الواحد الأحد المنزه عن الصور والأشكال، وأنه فكر محض ينظر كله ويسمع كله ويفكر كله ويعمل كله في تقويم الأمور وتصريف أحكام القضاء.
وكان أثر الديانات الأسيوية والمصرية أظهر من كل ما تقدم في الديانة الأورفية السرية، لأنها كانت ملتقي عبادة إيزيس وعبادة مترا وعبادة المجوس والبراهمة.
فعرفوا الروح وعرفوا تناسخ الأرواح، وعرفوا أدوار التطهير والتكفير، ومزجوا بها عبادة (ديونيس) الذي كان في عصورهم الغابرة إله الخمر والقصف والترف.. فجعلوا خمره رمزا إلي النشوة الإلهية: نشة الحياة والشباب الخالد المتجدد علي مدي الأيام.
قال رجل منا: حدثتنا عن اليونان.. فحدثنا عن الهند.. فهي من أقدم البلاد.. ولاشك أن نصيبا من الحقيقة عندها..
قال (فريدريك): لقد زرت الهند، وبحثت في معابدها ومخطوطاتها، والتقيت برجال دينها.. وقد وجدت أن الديانات الهندية القديمة تعود إلى أزمنة أقدم من العصر الذي دونت فيه أسفارها المعروفة بالكتب الفيدية.. وقد اختلف المؤرخون في العصر الذي تم فيه هذا التدوين.. فبعضهم يرده إلي ألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد.. وبعضهم يرده إلي ستة آلاف سنة قبل الميلاد.. ولكنهم جميعا مع ذلك لا يختلفون في سبق الديانة الهندية لهذا العصر بزمن طويل.
وقد وجدت أن المؤرخين ـ ولست أدري مدى صحة ما ذهبوا إليه ـ يتفقون على أن الديانة الهندية القديمة مزيج من شعائر الهنود الأصلاء، وشعائر القبائل الآرية التي أغارت علي الهند قبل الميلاد بعدة قرون.. وقد كانت تلك القبائل تقيم علي البقاع الوسطي بين الهند ووادي النهرين.. فاتجهت طائفة منها غربا إلي أوربة، واتجهت طائفة منها شرقا إلي الأقاليم الهندية من شمالها إلي جنوبها علي السواحل الغربية، قبل أن تتوغل منها إلى جميع أنحاء البلاد.
ويرى بعض المؤرخين أن من مصادر الديانات الهندية القديمة ما نقل إليها من الديانات البابلية والمصرية، ويعللون ذلك جغرافيا بتوسط الموقع الذي قام فيه الآريون الأولون، وأنهم لم تكن لهم في موقعهم ذاك حضارة سابقة لحضارة مصر وبابل وأشور.
لا يهمنا في هذا المقام كل هذا.. إنما الذي يهمنا هو تصور هذه الديانات لله..
لقد رأيت من خلال البحث المستوعب المستقصي أن (الله) في الديانات الهندية القديمة لم يكن واحدا.. بل كان أنواعا شتي من الآلهة.. منها آلهة تمثل قوى الطبيعة وتنسب إليها.. فيذكرون المطر، ويشتقون منه اسم (الممطر).. ويعتبرونه الإله الذي يتوجهون إليه في طلب الغيث.. ومن هنا كان (أندر) هو إله السحاب، لأنه مشتق من كلمة (أندر) بمعني المطر، أو بمعني السحاب.
ويذكرون إلى جانب (أندر) إله النار.. وإله النور.. وإله الريح.. وإله البحار.. ويجمعونها جميعا في ديانة شمسية تلتقي بأنواع شتي من الديانات..
وأقدم الأسماء عندهم كان اسم (ديفا) Deva.. وهو يعني (المعطي).. لقد بقيت آثار من هذا الاسم في اللغات اليونانية واللاتينية وبعض اللغات الأوربية الحديثة.. فكلمة (ديو) الفرنسية Dieu وكلمة ديتي Deity الإنجليزية، وكلمة (زيوس) اليونانية القديمة مأخوذة من أصلها الهندي المتقدم.
بالإضافة إلى هذا، فقد رأيت البرهمية القديمة تشتمل علي عبادة الأسلاف.. كما تشتمل علي عبادة المظاهر الطبيعية.. ولذلك فإن تقديس الملك عندهم تقليد موروث من تقديس جد القبيلة.. وقد تحول إلي تقديس الرئيس الأكبر في الدولة بعد أن تحولت القبيلة إلي الأمة.
وقد ذكر العلامة (اليوت سميث) كما قال في كتابه (المبادئ) The Beginning أن مواسم تقديس الملك التي لا تزال مرعية في جوار الهند كانت تحاكي مراسم قصة الخليقة كما تخيلها المصريون.. فلم يكن حق الملك مستمدا من الجلوس علي العرش أو من البناء بالملكة التي تنقل إليه حقوقه الملكية، ولكنه يتولى هذا الحق بعد تقديسه في حفل يمثل قصة الخليقة([4])، وكأنهم يعنون بهذا أن الملك يستمد من ذلك التقديس قدرته علي الخلق ومنح الحياة، وهي قدرة لا غني عنها لاضطلاعه بالفرائض الملكية.
وقد وجدت أن عبادة (الطوطم) تعززت في الهند بعقيدتهم في وحدة الوجود وتناسخ الأرواح كما تعززت بعقيدة الحلول.. فلذلك عبدوا الحيوان علي اعتباره جدا حقيقيا أو رمزيا للأسرة ثم للقبيلة.. ثم تطوروا أكثر([5])، فآمنوا بأن الله يتجلى في كل موجود، أو يخص بعض الأحياء بالحلول فيه.. وآمنوا مع ذلك كله بتناسخ الأرواح.
لقد رأيت الطوطمية عاشت عندهم في أرقي العصور كما عاشت في عصور الهمجية لهذا الامتزاج بين الاعتقاد الحديث والاعتقاد القديم.. لكنهم خلصوا في الأخير إلى الإيمان بالإله الواحد، وإن اختلفوا في المنهج الذي سلكوه في التعرف عليه.. فلم يكن إيمانهم به علي الأساس الذي قام عليه إيمان الشعوب الأخرى بالتوحيد.
لقد بدأوا ـ أولا ـ بإبطال جميع المظاهر، فنسبوا إليها التعدد والاختلاف لأنها تتكرر وتزول وتستر من ورائها الحقيقة الأبدية التي لا تتكرر ولا تزول، وتلك هي حقيقة القضاء والقدر التي تقدر للآلهة وتقضي عليهم كما تقدر لسائر الموجودات وتقضي عليها في أجلها المحدود.
وهنا ذهب حكماؤها إلي مذهبين غير متفقين..
أما الفريق الأول منهما.. فتمثل تلك الحقيقة إلها واحدا قريبا من الإله الواحد في أكثر ديانات التوحيد، قال ماكس موللر الثقة الحجة في اللغات الآرية: (أيا كان العصر الذي تم فيه جمع الأناشيد المسطورة في الرجفيدا فقبل ذلك العصر كان بين الهنود مؤمنون بالله الأحد الذي لا هو بذكر ولا بأنثي ولا تحده أحوال التشخيص وقيود الطبيعة الإنسانية، وارتفع شعراء الفيدا في الواقع إلي أوج في إدراكهم لكنه الربوبية لم يترق إليه مرة أخري غير أناس من فلاسفة الإسكندرية المسيحيين، ولكنه فوق هذا لا يزال أرفع وأعلي مما يطيف بأذهان قوم يدعون أنفسهم بالمسيحيين)
وتبدو مداناة هؤلاء البراهمة لمذاهب الموحد المؤمن (بالذات الإلهية) من إيمانهم بالخلاص علي يد الله، وبقاء فريق منهم بعد ذلك بمئات السنين ينقسمون في شرح سبيل الخلاص علي نهجهم الذي لا نستغربه من قوم يعظمون الحيوان ذلك التعظيم.. فمنهم من يسمي سبيل الخلاص بالسبيل القردية.. ومنهم من يسميها بالسبيل القطية.. ويقصدون بهذه التسمية أن الله يخلص الإنسان إذا تشبث به كما يتشبث ولد القرد الصغير بأمه وهي تصعد به إلي رؤس الأشجار، أو أن الله علي اعتقاد الآخرين يخلص الإنسان وهو مغمض العينين مستسلم للقضاء، كما يستسلم ولد القطة لأمه وهي تحمله مغمضا من مكان إلي مكان.
فالله الذي يخلص عباده هذا الخلاص أو ذاك هو (ذات) علي كلتا الحالتين يتشبث بها العبد أو يستسلم لقضائها فتسهر عليه وإن غفل عنها.
ويتسمي هذا الإله بثلاثة أسماء علي حسب فعله في الوجود، فهو (برهما) حين يكون الموجود الخالق، وهو (فشنو) حين يكون الواقي المحافظ، وهو (سيفا) حين يكون المهلك الهادم.
وأما الفريق الثاني فالحقيقة الأبدية عنده معني ليس له قوام من (الذات) الواعية، وإنما هو قانون يقضي بتلازم الآثار والمؤثرات، ويقابل الاعتقاد بالقضاء والقدر عند المؤمنين بالأديان الكتابية.
إلا أنه قضاء يسري علي الآلهة كما يسري علي البشر، ويتغلغل في في طبائع الخالقين كما يتغلغل في طبائع المخلوقات، وحكمه الذي لا مرد له هو حكم التغير الدائم والفناء، وحكم الإعادة والإبداء.
ولم أر من خلال بحثي أن أحدا من الأقدمين بلغ في تعظيم الأكوان المادية مبلغ البراهمة، سواء في تقدير السعة أو تقدير القدم أو تقدير البقاء.. فقد جعل البراهمة للكون أربعة أعمار تساوي اثنتي عشر ألف سنة إلهية وأربعة ملايين وثلاثمائة وعشرين ألف سنة شمسية.. وبعض المتأخرين يضاعفها ألف ضعف ويقولون أنها جميعا دورة واحدة من دورات الوجود.. وأن هذه الدورة هي يوم يقظة يقابله ليل هجوع، ينقضي بين كل دورة فنيت وكل دورة آخذة في الابتداء.
والقانون الأبدي karma يقلب الأدوار فيبدئها ويحفظها ويفنيها، ثم يختم هذا النهار بليل من الليالي الهجوع، ثم يعود فيطلع النهار كرة أخري أخري دواليك إلي غير انتهاء، لأنه لا انتهاء للزمان.
ويتضاءل الإنسان الفاني كلما تعاظم هذا الفناء الخالد أو هذا الخلود الذي يتجدد بالفناء، فليس للإنسان حساب كبير في هذه الحسبة الأبدية.. لأنه (رقم) ضئيل يغرق في طوفان الأرقام التي لا يحيط بها العد والإحصاء.
وعلي هذه القاعدة قامت البوذية التي بشر بها البوذا جوتاما قبل الميلاد المسيحي بحوال خمسة قرون.. فقيل (جوتاما) بمئات السنين كان نساك الهند يتغنون بمضامين النشيد المرهوب الذي تحدث عما كان قبل أن كان أو يكون:
(حينذاك لم يكن ما وجد أو ما لم يوجد، ولم يكن ما تثبته وما لا تنفيه.
لا أجواء ولا سماء وراء الأجواء.
وماذا عساها تنطوي عليه؟ أين كانت وأين قرارها؟ أهي هاوية الماء التي ليس لها من قرار؟
لم يكن موت: فلم يكن خلود.
لم يكن ما يموت فلم يكن ما ليس يموت.
ولم يكن ثمة نهار ولا ليل. ولم يكن إلا (الأحد) يتنفس حيث لا أنفاس. ولا شيء سواه.
وكان البدء في ظلام: عليكم بلا ضياء.
ومن البذرة في تلك القشرة (الأحد) بحرار الحياة.
وانتصر الحب حين نبتت البذرة من لباب العقل السرمدي، وناجي الشعراء قلوبهم فتبينوا بالحكمة ما هو مما ليس هو.. فقد نفذ شعاع القلب خلال ما هنالك، فماذا نظروا فوق الأحد وماذا نظروا دونه؟ كل ما هنالك حمله لبذور.. قوي: قوة من أدني ومشيئة من أعلي. ولا أحد يدري. ولا من يعلم من أين جاء ما جاء. فإنما جاءت الأرباب بعد ذلك.. فمن إذن يعلم ما جري؟ أهو الذي حدثت منه الخليقة؟ لعل الذي يعرفه (أحد) واحد في أعلي عليين.ولعله لا يدري كذلك..)
وقبل (جوتاما) آمن البراهميون بالدورة في وجود الكون والدورة في وجود الإنسان.. فالكون يتجدد حلقة بعد حلقة.. والإنسان يتنقل في جسد بعد جسد.. وسلسلة الأكوان ليس لها انتهاء.. وسلسلة الحياة الإنسانية قد تنتهي إلي السكينة أو الفناء.
لقد قامت البوذية علي أساس البرهمية في كل عقيدة من عقائد الأصول.. وإنما تميزت عنها بتبسيط العقائد لطبقات من الشعب غير طبقات الكهان، فأخرجتها من حجابها المكنون في المحاريب إلي المدرسة والبيت وصفوة المريدين.
ولا تعتبر البوذية إضافة في صميم العقائد الدينية، بل هي إضافة في آداب السلوك وفلسفة الحياة.. وهي إضافة في عرض الآراء علي غير المستأثرين بها قديما من سدنه الهيكل والمحراب.
وبهذه الآداب ينجو الإنسان من رباط ذلك الدولاب الدائر بالولادة والموت والتجدد في حياة بعد حياة وجثمان وراء جثمان، فيدخل في (النرفانا) ولا يولد بعد ذلك ولا يموت.
وحكمه في هذا المصير حكم الأرباب والملائكة وحكم السماوات والأرضين.. فكلها خاضع لقانون القضاء والقدر الذي لا فكاك منه لموجود، وكلها عرضة للتفكير والتطهير والتحول والتغيير، ثم للذهاب في غمرة الفناء الأخير.
وقد وجدت أن موضع التناقض في هذه الفلسفة([6]) أنها تنكر (الشخصية الإنسانية) ولا تعترف بالذات أو بالروح وهي مع هذا تؤمن بتناسخ الأرواح وثبوت شيء في الإنسان يبقي علي التنقل بين الأجساد والدورات.. وهي تؤمن بالكل أو (المطلق) الصمدي الوجود، ثم تنفي عنه الذات كما تنفيها عن الإنسان.. مع أن الكل بغير ذات لا يكون كلا بمعني من معاني الكلمة.
قال رجل من القوم: لم نكد نفهم من هذه الديانات شيئا.. فحدثنا عن غيرها.
قال: بعد الهند قصدت الصين.. وقد كنت آمل من خلال ضخامتها وكثرة شعوبها وترامي أطرافها أن أجد فيها جميع أنواع التصورات عن الإله..
لكني لم أجدهم ـ عبر تاريخهم الطويل ـ يحبون الخوض في مباحث ما وراء الطبيعة.. ولهذا فإن التدين بينهم يكاد يكون ضربا من أصول المعاملة وأدب البيت والحضارة.
أما العبادات.. فأشيعها بينهم عبادة الأسلاف والأبطال.. وأرواح أسلافهم مقدمة بالرعاية علي جملة الأرواح التي يعبدونها، ويمثلون بها عنصر الطبيعة أو مطالب المعيشة.. ولهذا، فإنه لا يقدر الصيني قربانا هو أغلي قيمة، وأحب إلي نفسه من قربانه إلي روح سلفه المعبود.. وهو يحتوي الأغذية والأشربة والأكسية والطيوب، ومنهم من يحرق ورق النقد هبة للروح التي يعتقدون أنها تحتاج إلي كل شيء كانت تحتاج إليه، وهي في عالم الأجساد.
والخير والشر عندهم هو ما يرضي الأسلاف أو يسخطهم من أعمال أبنائهم.. فما أرضي السلف فهو خير وما أسخطهم فهو شر.. وقد يختارون فردا من أفراد الأسرة ينوب عن جده المعبود فيطعمونه ويكسونه ويزدلفون إليه ويحسبون أن روح الجد هي التي تتقبل هذه القرابين في شخص ذلك الحفيد.
وتتمشي عبادة العناصر الطبيعية جنبا إلي جنب مع عبادة الأسلاف والأبطال.. فالسماء والشمس والقمر والكواكب آلهة معبودة أكبرها إله السماء (شانج تي).. ويليه إله الشمس.. فبقية الأجرام السماوية.. فالعناصر الأرضية.
وهم يتقربون إلي (شانج تي) بالذبائح، ويبلغون صلواتهم بإشعال النار علي قمم الجبال، فيعلم الإله – مما أودعه الكاهن دواخينها- فحوي الرسالة التي يرفعها إليه عباده، ولا يحسنون الترجمة عنها كما يحسنها الكهان.
وإله السماء عندهم هو (الإله) الذي يصرف الأكوان، ويدبر الأمور، ويرسم لكل إنسان مجري حياته الذي لا محيد عنه.. وإنما يداول تركيب الوجود من عنصرين هما (ين) عنصر السكون و(يانج) عنصر الحركة.. وقد يفسر عنصر السكون بالراحة والنعيم وعنصر الحركة بالشقاء والعذاب.. فهما بهذه المثابة يقابلان عنصري الخير والشر وإلهي النور والظلام في الأديان الثنائية.
وقد امتزجت عبادة الأسلاف بعبادة العناصر الطبيعية في القرن العاشر حين تسمي عاهل الصين باسم (ابن السماء).. ويقال إنه استعار الفكرة من كاهن ياباني أراد أن يزدلف إليه فعلمه مراسم تأليه الميكاد في بلاده.. فنقلها العاهل إلي بلاد الصين.
وقد أراد الفيلسوف (شوهستي) في القرن الثاني عشر أن ينشيئ بوذية صينية توفق مذهب بوذا في أمور وتخالفه في أمور، فدعا إلي دين لا إله فيه ولا خلود للروح، ووضع (لي) موضع (كارما) الهندية أو القانون أو القضاء والقدر.
وسمي دولاب الزمن (تايشي) لأنه هو المحرك لجميع الكائنات، وجعل القانون والدولاب والمادة أو (ووشي) قوام العالم ظاهرة وخافية.. وإنما ينشأ الوعي أو الإدراك في الإنسان من قدح القانون للمادة كما ينقدح الحجر من الزناد، فيخرج الشرر ثم ينطفئ فيموت.. وتزول الأرواح كما تزول الأجساد متي (نضجت) كما تنضج الثمرة في أجلها المعلوم.. وقد يبطئ النضج فيطول بقاء الروح فهي إذن طيف أو شبح، كأنها الثرة في حالة العفن والإهمال.
ولما مات كنفشيوس (478 ق. م) أقاموا له الهياكل وعبدوه علي سنتهم في عبادة أرواح الأسلاف الصالحين، وأوشكوا أن يتخذوا عبادته عبادة رسمية علي عهد أسرة هان في القرن الثاني قبل الميلاد، وأوجبوا تقديم القرابين والضحايا لذكراه في المدارس ومعاهد التعليم، وكانت هياكله في الواقع بمثابة مدارس يؤمها الناس لسماع الدروس كما يؤمونها لأداء الصلاة.. ولم تزل عبادته قائمة إلي العصور المتأخرة بل إلي القرن العشرين.. فخصوه في سنة 1906 بمراسم قربانية كمراسم الإله الأكبر (شانج تي) إله السماء لأنه في عرفهم (ند السماء) ومن لم يؤمن اليوم بربوبيته من الصينيين المتعلمين فله في نفسه توقير يقرب من التأليه، وقد جعلوا يوم ميلاده – وهو السابع والعشرون من شهر أغسطس- عيدا قوميا يحجون فيه إلي مسقط رأسه، وينوب عن الدولة موظف كبير في محفل الصلاة أمام محرابه.
ويظهر أن بيئة الصين لم تواجه أبناءها بالعقد النفسية، ولكنها واجهتهم بتقلبات العناصر الطبيعية التي تعودت الشعوب قديما أن تروضها بالسحر والكهانة، فجار نصيب الإيمان بالسحر علي نصيب الإيمان بالدين، وذاع عن أهل الصين – من ثم- أنهم أقدر أمة علي تسخير الطبيعة بالطلاسم والأرصاد.
وموقف اليابان من الرسالة الدينية كموقف الصين علي الإجمال.. فقد تشابهت عقائدهم في أصولها وعبدوا الأرواح والأسلاف والعناصر الطبيعية.. وإذا كان لأهل اليابان سمة خصوصية في العبادات فهي أنهم اختاروا ربة أنثي لعبادة السلف الأعلي حين وحدوا الأسلاف في أكبرها وأعلاها.. وتلك الربة هي (اميتراسوا-أموكامي) التي لا تزال معبودة إلي اليوم.
ويؤخذ من الأساطير اليابانية أنها كانت ربة الغزاة الذين أغاروا فيما قبل التاريخ علي جزيرة كيوشو، وأخضعوا أهلها وطردوهم منهزمين إلي الجبال، وكأن أهل كيوشو الأولون يعبدون إله الريح والمطر (سوسا- نو- وو) فهبط هذا الإله بهزيمتهم إلي المرتبة التالية لمرتبة الربة السلفية.. ثم انعقدت الوئام بين الفريقين بعد تناسي الإحن والترات وامتزاج القبائل الغازية والممغزوة، فأصبح الإلهان أخوين وأصبحت (أميتراسو) هي كبري الأخوين.
ولا يعتقد اليابانيون أن هذه الربة خلقت الكون أو خلقت الإنسان، لأنهم يعتقدون أن عهدها قد سبقته عهود مديدة تنازع فيها الأمر عشرات الألوف من الأرباب.. وهذه أرباب عندهم هي بمثابة الأرواح والملائكة والجنة والشياطين من عناصر الخير والشر عند الأمم الكتابية.. ويسمون الواحد منها (كامي).. وهي كلمة تطلق علي كل رائع خارق للعادة بالغ في القوة أو الجمال.. ثم استسلمت هذه الأرباب بعد كفاح طويل وصار الأمر إلي الربة الكبري برضوان من خالق السماوات والأرضين.
أما الخلق فهو منسوب عندهم إلي إله السماء (أزاناجي- نوميكوتو) وزوجته وأخته إلهة الأرض (أزانامي-نوميكوتو).. فولدا جزر اليابان وألقحاها ببذور الآلهة، وجاء أبناء اليابان الآدميون من سلالة الآلهة.. فكلهم في النسب الأعلي – وليس الميكاد وحده- إلهيون.
وفي إحدي الروايات الأسطورية أن ربة الأرض احترقت وهي تضع إله النار فجرد رب السماء سيفه وضرب به إله النار، فانبعثت من وميض سيفه ومن ضرباته رهط من أرباب الزوابع والبروق والرعود.. ولم ترجع الأرض إلى خصبها إلا بعد شفاء ربتها وخروجها من هاوية الظلام لتلد الماء والطمي وعناصر الزرع والحياة.
وينسبون الخلق في رواية أخري إلي (أزاناجي) وحده وهو يبحث عن رفيقة صباه.. فمن عينه اليسري خلقت الشمس ومن عينه اليمني خلق القمر، ومن عطسته خلق (سوسا- نو- وو) رب الرياح والأمطار.. ولكنه أعجب من بين أبنائه بالشمس دون شقيقيها فخلع عليها عقدا يتلألأ بالجواهر وبوأها أرفع عرش في السماء.
فالديانة اليابانية الأصلية شمسية سلفية جمعت معني التوحيد أولا في إله السماء حيث تصوره أبا للخليقة بمفرده أو مشاركة زوجه، ثم جمعتها في الربة الواحدة علي اعتبارها ربة مختارة بين أرباب.
قال رجل منا: الصين لا تختلف عن الهند في هذا.. فحدثنا عن غيرها.. إلى أين قصدت بعد الصين واليابان؟
قال: لقد قصدت بلاد فارس.. أو على الأصح المخطوطات والآثار التي تحدثت عن الديانة الفارسية القديمة.. وقد وجدت أن وشائج القربى بينها وبين الديانات الهندية والطورانية والبابلية واليونانية كانت متصلة.
فالفرس الأقدمون من السلالة الهندية الجرمانية، وموقع بلادهم قريب من دولة بابل، قريب من أقاليم الطورانيين، قريب من مسالك الحضارة بين المشرق والمغرب، وقد تلقت حضارة فارس وحضارة مصر في السلم والحرب غير مرة، وانقضي زمن طويل علي الدنيا المتحضرة وهي تقرن بين المجوسية وبين الحكمة أو اللم بأسرار الطبيعة والسيطرة عليها بالسحر والمعرفة الإلهية.. وكان لليهود وأبناء فلسطين وأمم العرب علاقات قديمة بالدولة الفارسية تارة وبالدولة البابلية تارة أخري.. فاتصل من ثم تاريخ المجوس بتاريخ اليهود والمسيحيين والمسلمين.
فالأقدمون من الفرس يلتقون مع الهند في عبادة (مترا) إله النور، وتسمية الإله بالـ (أسورا)، أو الـ (أهورا) وإن اختلفوا في إطلاقه علي عناصر الخير والشر.. فجعله الفرس من أرباب الخير والصلاح، وجعله الهند من أرباب الشر والفساد.
والبابليون عرفوا عبادة (مترا) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ورفعوه إلي المنزلة العلية بين الآلهة التي تحارب قوي الظلام.
واستعار الفرس من البابلين كما أعاروهم، فأخذوا منهم سنة التسبيع في عدد الآلهة، وجعلوا (أورمزد) علي رأس سبعة من أرباب الحكمة والحق وقوى الطبيعة وأنواع المرافق والصناعات.
ولم تخل الديانة المجوسية من عقائد الطورانيين، لأن (زرادشت) عاش بينهم زمنا، وبشرهم بدينه، فاضطر إلى مجاراتهم في عبادتهم ليجاروه في عبادته، وأدخل أربابا لهم في عداد الملائكة المقربين([7]).
وخلاصة ما جاء به (زرادشت) من جديد في الديانة أنه أنكر الوثنية، وجعل الخير المحض من صفات الله، ونزل بإله الشر إلي ما دون منزلة المساواه بينه وبين الإله الأعلي، وبشر بالثواب وأنذر بالعقاب، وقال بأن خلق الروح سابق لخلق الجسد، وحاول جهده أن يقصر الربانية علي إله واحد موصوف بأرفع ما يفهمه أبناء زمانه من صفات التنزيه.
وليست المجوسية كلها من تعليم زرادشت أو تعليم كاهن واحد من كهان الأمة الفارسية.. فقد سبقه الفرس إلي عقائدهم في أصل الوجود وتنازع النور والظلام، ولكنه تولى هذه العقائد بالتطهير وحملها علي محمل جديد من التفسير والتعبير.
فالمجوس كانوا يعتقدون أن هرمز وأهرمن مولودان لإله قديم يسمي زروان ويكني به عن الزمان.. وأنه اعتلج في جوفه وليدان، فنذر السيادة علي الأرض والسماء لأسبقهما إلي الظهور، فاحتال أهرمن بخبثه وكيده حتي شق له مخرجا إلي الوجود قبل (هرمز) الطيب الكريم، فحقت لأهرمن سيادة الأرض والسماء، وعز علي أبيها أن ينقض نذره، فأصلحه بموعد ضربه لهذه السيادة ينتهي بعد تسعة آلاف سنة.. ويعود الحكم بعده لإله الخير خلدا بغير انتهاء، ويؤذن له يومئذ في القضاء علي إله الشر وتبديد غياهب الظلام.
وزعموا أن مملكة النور ومملكة الظلام كانتا قبل الخليقة منفصلتين، وأن هرمز طفق في مملكته يخلق عناصر الخير والرحمة و(اهرمان) غافل عنه في قراره السحيق، فلما نظر ذات يوم ليستطلع خبر أخيه راعه اللمعان من جانب مملكة أخيه، فأشفق علي نفسه من العاقبة، وعلم أن النور يوشك أن ينتشر ويستفيض، فلا يترك له ملاذا يعتصم به ويضمن فيه البقاء.. فثار وثارت معه خلائق الظلام وهي شياطين الشر والفساد، فأحبطت سعي هرمز، وملأت الكون بالخبائث والأرزاء.. وران هذا البلاء علي الكون حتي كانت معركة (زرادشت)، فكان البشير بانتهاء زمان وابتداء زمان، ولكنه لم يختم صراع العدوين اللدودين، بل آذن بتحول النصر من صف إلي صف، وتراجع الشر والظلام عن مملكة الخير والنور، وسيدوم هذا الصراع اثني عشر ألف سنة، وينجم علي رأس كل ألف منها بشير من بيت زرادشت، فيعزز جحافل هرمز، ويوقع الفشل في جحافل أهرمن، وتنقضي المدة فينكص أهرمز علي عقبيه مخلدا في أسفل سافلين لا فكاك له أبد الآبدين من هاوية الظلمات وسجن المذلة والهوان.
لقد رأيت من خلال تسمية الإلهين دلالة واضحة علي انتقال الفكرة الإلهية طبقة فطبقة من صورة التجسيم إلى صورة التنزيه.. فإن هرمز مأخوذ من (أهورا) بمعني السيد، و(مازداو) بمعني الحكيم، وأهرمن مأخوذة من (انجرو) بمعني السيئ وماينوش بمعني الفكر والروح، والمعنيان من عالم الفكر المجرد أو القريب من التجريد.. ثم أصبحت كلمة أورمزد مرادفة لروح القدس، وكلمة أهريمان مرادفة لروح الشر أو روح الأذى والفساد، وقيل في مجمل الأساطير المجوسية أن أهريمان إنما هو فكرة سيئة خطرت علي بال زروان فكان منها إله الظلام.
وفي (الزندفستا) يذكر زرادشت أنه سأل هرمز: (يا هرمز الرحيم! صانع العالم المشهود.. يا أيها القدس الأقدس: أي شيء هو أقوى القوي جميعا في الملوك والملكوت).. فقال هرمز: (إنه هو اسمي الذي يتجلي في أرواح عليين.. فهو أقوى في عالم الملكوت).. فسأله زرادشت أن يعلمه هذا الاسم فقال له: إنه هو (السر المسئول) وأما الأسماء الأخرى فالاسم الأول هو (واهب الأنعام)، والاسم الثاني هو المكين، والاسم الثالث هو الكامل، والاسم الرابع هو القدس، والاسم الخامس هو الشريف، والاسم السادس هو الحكمة، والاسم السابع هو الحكيم، والاسم الثامن هو الخبرة، والاسم التاسع هو الخبير، والاسم العاشر هو الغني، والاسم الحادي عشر هو المغني، والاسم الثاني عشر هو السيد، والاسم الثالث عشر هو المنعم، والاسم الرابع عشر هو الطيب، والاسم الخامس عشر هو القهار، والاسم السادس عشر هو محق الحق، والاسم السابع عشر هو البصر، والاسم الثامن عشر هو الشافي، والاسم التاسع عشر هو الخلاق، والاسم العشرون هو (مزدا) أو العليم بكل شيء.
وقد حرم زرادشت عبادة الأصنام والأوثان وقدس الناس علي أنها هي أصفي وأطهر العناصر المخلوقة، لا علي أنها هي الخلاق المعبود.. وذكر أن الخلائق العلوية كلها كانت أرواحا صافية لا تشاب بالتجسيد، فخيرها الله بين أن يقصيها من منال (هرمن) أو يلبسها الجسد لتقدر علي حربه والصمود في ميدانه، لأن عناصر الفساد لا تحارب بغير أجساد.. فأبت أن تعتصم بمعزل عن الصراع القائم بين هرمز وأخيه، واختارت التجسد لتؤدي فريضة الجهاد في ذلك الصراع.
ويذكر زرادشت أن (هرمز) أو أورمزد أو (أهورا مازدا) مستو علي عرش النور محفوفا بستة من الملائكة الأبرار، وتدل أسماؤهم علي أنهم صفات إلهية كالحق والخلود والملك والنظام والصلاح والسلامة، ثم استعيرت لها سمات (الذوات) بعد تداول الأسماء أو تداول الأنباء عما تفعله وما تؤمر به وما تتلقاه من وحي الله.
وتفيض أقوال (زرادشت) كلها باليقين من رسالته واصطفاء الله إياه للتبشير بالدين الصحيح والقضاء علي عبادة الأوثان.. ومن أمثلة هذا اليقين قوله: (أنا وحدي صفيك الأمين، وكل من عداي فهو عدو لي مبين).. وأن الله أودع الطبائع عوامل الخير جميعا، فإن هي حادت عن سواء السبيل كان إرسال الرسل للتذكير والتحذير آخر حجة لله علي الناس.. وأن زرادشت هو هذه الحجة التي أبرزها الله إلي حيز الوجود لتهدي من ضل وتذكر من غفل وتسنصلح من فيه بقية للصلاح، وكلما انقضي ألف عام برز إلي حيز الوجود خليفة له من سلالته، ولكن الأرواح التي تحف بالعرش هي التي تحمل بذرته إلي رحم عذراء تلهمها تلك الأرواح أن تتطهر في تلك الساعة بالماء المقدس في عين صافية مدخرة في ناحية من الأرض ليومها الموعود.
ويناجي زرادشت هرمز ويسمع جوابه ويسأله سؤال المتعلم المسترشد لمرشده وهاديه، فيناديه: رب! هب لي عونك كما يعين الصديق أخلص صديق.. ويسأله رب! ألا تنبني عن جزاء الأخيار؟ أيجزون يا رب بالحسنة قبل يوم المعاد؟ أو يسأله: من أقر الأرض فاستقرت ورفع السماء فلا تسقط؟ ومن خلق الماء والزرع؟ ومن ألجم للرياح سحب الفضاء وهي أسرع الأشياء؟
ورواية الخليقة في مذهب زرادشت أن هرمز خلق الدنيا في ستة أدوار.. فبدأ بخلق السماء، ثم خلق الماء، ثم خلق الأرض، ثم خلق النبات، ثم خلق الحيوان، ثم خلق الإنسان.
وأصل الإنسان رجل يسمي (كيومرت) قتل في فتنة الخير والشر، فنبت من دمه ذكر يسمي ميشة وأنثي تسمي ميشانة، فتزوجا وتناسلا، وساغ من أجل ذلك عند المجوس زواج الأخوين.
ويفرق المجوس بين الخلائق جريا علي مذهبهم في اشتراك الخلق بين خالق الطيبات وخالق الخبائث، أو بين إله النور وإله الظلام.. فالأحياء النافعة من خلق أهرمن كالثور والكلب والطير البريء،.. والأحياء الضارة من خلق أهرمن كالحية وما شابهها من الحشرات والهوام.
والناس محاسبون علي ما يعملون.. فكل ما صنعوه من خير أو شر فهو مكتوب في سجل محفوظ.. وتوزن أعمالهم بعد موتهم فمن رجحت عنده أعمال الخير صعد إلي السماء ومن رجعت عنده أعمال الشر هبط إلي الهاوية ومن تعادلت عنده الكفتان ذهب إلي مكان لا عذاب فيه ولا نعيم، إلي أن تقوم القيامة ويتطهر العالم كله بالنار المقدسة فيرتفعون جميعا إلي حضرة هرمز في نعيم مقيم.
وتوزن الأعمال عند قنطرة تسمي قنطرة (شنفاد) تتوافي إليها أرواح الأبرار والأشرار علي السواء بعد خروجها من أجسادها.. فيلقاها هناك (رشنوه) ملك العدل و(ميترا) رب النور وينصبان لها الميزان ويسألانها عما لديها من الأعذار والشفاعات، ثم يفتحان لها باب النعيم أو باب الجحيم.
قال رجل منا: دعنا من كل هذه الديانات القديمة.. فالبحث فيها ألصق بالتاريخ مما نحن فيه.. نحن نبحث عن ربنا.. فحدثنا عما عرفته من خلال بحثك عنه.
قال آخر: حدثنا عن اليهود.. فلا زال لليهود وجود.. ولا زالت لهم معابدهم وطقوسهم.
تنفس (فريدريك) الصعداء، وقال: من الصعب التحدث عن الإله عند اليهود بصفة علمية..
قلنا: لم؟
قال: لقد كان لكل عصر إلهه.. ولكل جماعة يهودية إلهها.. ومن الصعب أن يحصر هذا حاصر..
لكني مع ذلك سأذكر لكم بعض ما قال رجل خبير في اليهودية استفدت منه كثيرا.. إنه رجل من المسلمين التقيت به كان اسمه (عبد الوهاب المسيري)([8])
وقد حدثني هذا الرجل الخبير([9]) أن الأصل في (الإله) الذي يؤمن به اليهود هو أنه إله واحد لا جسد له ولا شبيه.. لا تدركه الأبصار.. وتعتمد عليه المخلوقات كافة.. ولا يعتمد هو على أيٍّ منها، إذ هو يتجاوزها جميعاً ويسمو عليها.
وأن كل مظاهر الطبيعة والتاريخ ليست إلا تعبيراً عن قدرته.. فهو روح الكون غير المنظورة، السارية فيه، والتي تُمده بالحياة؛ وتسمو عليه وتلازمه في آن واحد.
وأخبرني أن التوحيد في اليهودية وصل إلى ذروته على يد بعض الأنبياء الذين خلَّصوا التصور اليهودي للإله من الشوائب الوثنية التي علقت به، فصار أكثر إنسانية وشمولاً وسمواً، وأقل عزلة وقومية وتعالياً.
وأخبرني أن هذا التيار التوحيدي استمر في مختلف فترات تاريخ اليهودية.. وتدل على بعض آثاره من الصلوات اليهودية دعاء الشماع، أي شهادة التوحيد اليهودية وقصائد مثل (آني مأمِّين) (إني مؤمن) و(يجدال) (تنزَّه الرب) التي تؤكد فكرة التوحيد.
وأخبرني أن التصور اليهودي للإله قد تراكم عليه في فترات التاريخ الطويلة ما انحرف به انحرافات كثيرة خطيرة.. حتى غدا التوحيد مجرد طبقة واحدة ضمن طبقات مختلفة.. فالعهد القديم، كما هو من خلال مصادره المتعددة، يطرح رؤى متناقضة للإله تتضمن درجات مختلفة من الحلول بعضها أبعد ما يكون عن التوحيد.
وتتبدَّى الحلولية في الإشارات العديدة إلى الإله، التي تصفه ككائن يتصف بصفات البشر، فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء، يحب ويبغض، متقلب الأطوار، يُلحق العذاب بكل من ارتكب ذنباً سواء ارتكبه عن قصد أو ارتكبه عن غير قصد، ويأخذ الأبناء والأحفاد بذنوب الآباء، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32/10 ـ 14)، وينسى ويتذكر (خروج 2/23 ـ 24)، وهو ليس عالماً بكل شيء، ولذا فهو يطلب من أعضاء جماعة يسرائيل أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12/13 ـ 14)..
وهو إله متجرِّد، ولكنه في الوقت نفسه يأخذ أشكالاً حسية محددة، فهو يطلب إلى اليهود (جماعة يسرائيل) أن يصنعوا له مكاناً مقدَّساً ليسكن في وسطهم (خروج 25/8)، كما يسير أمام جماعة يسرائيل على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم (خروج 13/21/22).
وهو إله الحروب (خروج 15/3 ـ 4) يعلِّم يدي داود القتال (صمويل ثاني 22/30 ـ 35)، يأمر اليهود بقتل الذكور، بل الأطفال والنساء (عدد 31/1 ـ 12)، وهو إله قوي الذراع يأمر شعبه بألا يرحم أحداً (تثنية 7/16 ـ 18)، وهو يعرف أن الأرض لا تُنال إلا بحد السيف. ولذا، فهو يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد، (أما سكان الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكوراً كانوا أم إناثاً أم أطفالاً) (تثنية 20/10 ـ 18) وذلك لأسباب سكانية عملية مفهومة.
والمقاييس الأخلاقية لهذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولذا فهي تتغيَّر بتغير الاعتبارات العملية، فهو يأمر اليهود (جماعة يسرائيل) بالسرقة، ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها ومن نزيلة بيتها (أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين) (خروج 3/22)
وهكذا، فإننا نجد منذ البداية، أن فكرة الإله الواحد المتسامي تتعايش مع أفكار أخرى متناقضة معها، مثل تشبيه الإله بالبشر، ومثل فكرة الشعب المختار، فهي أفكار تتناقض مع فكرة الوحدانية التي تطرح فكرة الإله باعتباره إله كل البشر الذي يسمو على العالمين.
وفي إطار هذه الرؤية للإله ليس من الغريب أن يسقط أعضاء جماعة يسرائيل في عبادة العجل الذهبي (ويتزعمها هارون أخو موسى)([10])، وأن يقبل العهد القديم عناصر وثنية مثل الترافيم والإيفود (الأصنام)، وكلها تعبير عن رؤية حلولية مشركة لا تختلف كثيراً عما جاء في العهد القديم.. ولهذا ليس من الغريب أن نجد شعائر تدل على الثنوية في العبادة اليسرائيلية.
ورغم أن الإله، حسب بعض نصوص العهد القديم، يفصح عن نفسه في الطبيعة والتاريخ ويتجاوزهما، فهو مصدر النظام في الطبيعة، وهو أيضاً الذي يجعل التاريخ في نظام الطبيعة وتناسقها، إلا أننا نجده يتحول من كونه حقيقة مطلقة تعلو على المادة (الكونية الطبيعية أو التاريخية) يصبح امتداداً لما هو نسبي، وامتداداً للشعب اليهودي على وجه الخصوص.. فيصبح الخالق امتداداً لوعي الأمة بنفسها، فيظل إلهاً قومياً خاصاً مقصوراً على الشعب اليهودي وحده، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها (خروج 6/7) حتى تصبح وحدانية الإله من وحدانية الشعب.
ولذا، نجد أن الشعب ككل، وليس الإنسان ذو الضمير الفردي، يشهد على وحدانية الإله في صلاة الشماع، ويظهر الاتجاه نفسه في أفكار دينية مثل الاختيار والوعد الإلهي وأرض الميعاد التي تصبح مقدَّسة ومختارة تماماً مثل الشعب (وتلاحُم الإله بالأرض والشعب هو الثالوث الحلولي).
ولهذا، ظلت اليهودية دين الشعب اليهودي (جماعة يسرائيل) وحده، ونجد أن الغرض الإلهي يتركز في هذا الشعب دون سواه، فقد اختير من بين جميع الشعوب ليكون المستودع الخاص لعطف يهوه.. كما أن مجرى الطبيعة أو تاريخ البشر يدور بإرادة الإله حول حياة ومصير اليهود.. ويتضح هذا في مفهوم التاريخ اليهودي المقدَّس الذي لا يمكن فهم تاريخ الكون بدونه، كما يتبدَّى في رؤية آخر الأيام حيث ترتبط صورة الآخرة والنشور في كتب الرؤى (أبوكاليبس)، وفي بعض أجزاء العهد القديم، بسيادة اليهود على العالمين، ثم يتعمق الاتجاه الحلولي مع ظهور اليهودية التلمودية الحاخامية.. ويزداد الحلول الإلهي، فنجد أن القداسة تتعمق في الحاخامات من خلال مفهوم الشريعة الشفوية، حيث يتساوى الوحي الإلهي بالاجتهاد البشري، ويصبح الحاخامات ذوي إرادة مستقلة يقارعون الإله الحجة بالحجة، وتُجمَع آراؤهم في التلمود الذي يصبح أكثر قداسة من التوراة (التي يفترض أنها معادلة للإله وتحوي سر الكون).
وقد بلغ الحلول الإلهي درجة أن المشناه (التي تضم تفسير الحاخامات) شُبِّهت باللوجوس في اللاهوت المسيحي، أي أنها كلمة الإله المقدَّسة، كانت موجودة في عقله منذ الأزل.. وتُستخدَم كلمة «ابن الله» للإشارة إلى الشعب اليهودي، أي أنه هو أيضاً اللوجوس.
ويخلع التلمود على الإله صفات بشرية بشكل عام، ويهودية بشكل خاص، وبشكل أكثر تطرفاً من التوراة.
وقد جاء في التلمود أنه بعد وصول الماشيَّح، سيجلس الإله على عرشه يقهقه فرحاً لعلو شأن شعبه، وهزيمة الشعوب الأخرى التي تحاول دون جدوى أن يكون لها نصيب في عملية الخلاص، أي أن الشعب اليهودي والتاريخ اليهودي يزدادان قداسة ومركزية في الدراما الكونية.. ويقضي الإله وقته وهو يلعب مع حوت، ويبكي من أجل هدم الهيكل، ويندم على فعلته، وهو يلبس العمائم، ويجلس على عرشه، ويدرس التوراة ثلاث مرات يومياً.. وتنسب إلى الإله صفات الحقد والتنافس، وهو يستشير الحاخامات في كثير من الأمور.
ويصل الحلول إلى منتهاه، وإلى درجة وحدة الوجود في تراث القبَّالاه، فهو تراث يكاد يكون خالياً تماماً من أي توحيد أو تجاوز أو علو للإله، وبحيث لا يصبح هناك فارق بين الجوهر الإلهي والجوهر اليهودي، ويصبح الفارق الأساسي هو بين الجوهر اليهودي المقدَّس وجوهر بقية البشر، ويصبح الفرق بين اليهود والأغيار فرقاً ميتافيزيقياً، فاليهود قد خُلقوا من مادة مقدَّسة (حل فيها الإله بروحه) مختلفة عن تلك المادة (الوضيعة العادية) التي خُلقت منها بقية البشر. ويكتسب الإله صفات بشرية، ولذا فهو يغازل الشعب اليهودي (بنت صهيون) ويدخل معه (أو معها) في علاقة عاطفية قوية ذات إيحاءات جنسية، وهي فكرة أصبحت أساسية في التراث القبَّالي.
وتتضح النزعة نفسها في قصة الخلق في التراث القبَّالي، فالإله لا يخلق العالم من العدم، وإنما صدرت عنه التجليات النورانية العشرة (سفيروت) التي تأخذ صورة آدم الأول أو القديم (آدم قدمون) أي أن صورة الإله هي صورة الإنسان، وتستقل التجليات العشرة تماماً عن الخالق حتى أنه يتحدث مع الشخيناه (التجلي العاشر).. كما أن التجلي المذكر للإله يطارد التجلي المؤنث، وتصبح تلاوة الشماع، حسب الفكر القبَّالي، هي المحاولة التي يبذلها اليهود ليتوحد التجلي الذكوري بالتجلي الأنثوي، ويجتمعان معاً بالمعنى الجنسي.
وفي داخل التراث القبَّالي، يصبح التجلي العاشر (شخيناه) الذات الإلهية والتعبير الأنثوي عن الإله، وهو نفسه جماعة يسرائيل، أي أن الزواج بين الخالق والشعب يصبح هنا توحداً كاملاً.
ويقوم هذا الشعب بتوزيع رحمة الإله على العالمين، ثم تصل الحلولية إلى ذروتها والشرك إلى قمته، حين يصبح الإنسان اليهودي شريكاً للإله في عملية الخلق نفسها، ويزداد الإله اعتماداً على الإنسان.
وبعد عملية السقوط، وتَهشُّم الأوعية في القبَّالاه اللوريانية، تتفتت الذات الإلهية نفسها، وتتوزع الشرارات الإلهية، ولا يتأتى للإله أن يستعيد كماله ويحقق ذاته إلا من خلال شعبه اليهودي.. فاليهود، بآثامهم، يؤخرون عملية الخلاص التي تؤدي إلى خلاص العالم وإلى اكتمال الإله، وهم، بأفعالهم الخيرة، يعجلون بها.. ولذا، فالأغيار والإله يعتمدون على أفعال اليهود الذين يشغلون مكانة مركزية في العملية التاريخية والكونية للخلاص.
ويظهر هذا النزوع الحلولي المتطرف في أحد التعليقات القبَّالية في أحد كتب المدراش على إحدى فقرات سفر أشعياء (43/12)، حيث جاء فيها:( أنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله)، وهي فقرة تؤكد وحدانية الإله وتساميه. وهي وإن كانت تتحدث عن علاقة خاصة، فإنها مع هذا أبعد ما تكون عن الحلولية أو الشرك. ولكن كاتب المدراش الحاخامي يفرض الطبقة الحلولية على الطبقة التوحيدية فرضاً فيفسرها بقوله: (حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فكأنني لست الإله)، وكأن كينونة الإله من كينونة الشعب وليس العكس.
بل إن كمال الإله يتوقف على الشعب، إذ قال أحد الحاخامات: (حينما ينفذ اليهود إرادة الإله، فإنهم يضيفون إلى الإله في الأعالي. وحينما يعصي اليهود إرادة الإله، فهم كما لو أنهم يضعفون قوة الإله العظمى في الأعالي)
ورغم أن كاتب المدراش يستخدم دائماً عبارة (كما لو أن) لتأكيد بعدها المجازي، فإن تكرارها وارتباطها بالمفاهيم الأخرى ينقلها من عالم المجاز إلى عالم العقائد الحرفية المباشرة التي لا تحتاج أي تفسير.
وعلى أية حال، فإن التيار التوحيدي ظل لمدة طويلة أساسياً في النسق الديني اليهودي، بل كان يكتسب أحياناً قوة كما حدث من خلال التفاعل مع الفكر الديني الإسلامي، كما هو الحال مع كلٍّ من سعيد بن يوسف الفيومي وموسى بن ميمون.. وكثيراً ما حاول الحاخامات الوقوف ضد الاتجاه الحلولي الشعبي (الفلكلوري)، فحاولوا أن يفسروا الطبائع البشرية للإله بأنها مجرد محاولة لتبسيط الأمور حتى يفهمها العامة. بل يُلاحَظ أن عبارة (كما لو أن) كانت تضاف حتى في التفسيرات القبَّالية الحلولية الأولى لتأكيد الطابع المجازي للخطاب، ولكن هذا التحفظ تآكل بالتدريج وتغلغلت القبَّالاه ذات الأصول الشعبية في صفوف العامة ثم في صفوف المؤسسة الحاخامية نفسها وسيطر فكر حلولي حرفي متطرف. ومع تغلغل القبَّالاه ذات الأصول الشعبية والغنوصية والتي اكتسبت أبعاداً مسيحية، حدثت عملية تنصير لليهودية، حيث فقدت اليهودية هويتها واكتسبت هوية شبه مسيحية جديدة تستند إلى تشويه العقائد المسيحية.
ومع بدايات العصر الحديث، كانت الحسيدية أوسع المذاهب انتشاراً، وهي شكل من أشكال الحلولية المتطرفة بكل ما تحمل من شرك وثنوية. ويتضح هذا في الدور الذي يلعبه التساديك فإرادته معادلة لإرادة الإله، فهو الوسيط بين اليهود والخالق، وهو محل القداسة، وهو الإنسان التقي صاحب القدرة الذي يمكنه النطق باسم الإله والتحكم فيه والتأثير في قراراته.
وقد تبنَّى الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر رؤية حلولية للإله، فتحدث عن الحوار الدائر بين الشعب والإله باعتبار أنهما طرفان متساويان، وهذا تَصوُّر ممكن داخل إطار حلولي قومي. كما نجد فرقاً يهودية حديثة مثل اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية تبنيان تصوراتهما الدينية على أساس فكرة الشعب المقدَّس، مع إسقاط فكرة الإله تماماً (حلولية موت الإله)، أو وضعها في مرتبة ثانوية (حلولية شحوب الإله).
ويصل الأمر إلى حد أن حاخاماً إصلاحياً مثل إيوجين بوروفيتز يتحدث عن حرب عام 1967 باعتبار أنها لم تكن تهدد دولة إسرائيل فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه باعتبار أن الإله والشعب والأرض يُكوِّنان جوهراً واحداً، فمن أصاب جزءاً من هذا الجوهر بسوء (أرض دولة إسرائيل على سبيل المثال)، فقد أصاب الذات الإلهية نفسها.
بل إن بعض المفكرين الدينيين اليهود يتحدثون عن (لاهوت موت الإله)، وهي محاولة الوصول إلى نسق ديني خال تماماً من أي جوهر إلهي مفارق، فهي حلولية بدون إله. وقد تفرَّع من هذا (لاهوت الإبادة) أو (لاهوت ما بعد أوشفيتس) الذي يذهب دعاته إلى أن الإله شرير لأنه هجر الشعب اليهودي.. كما يذهبون إلى أن المطلق أو الركيزة النهائية هو الشعب اليهودي (دون الإله) وأن القيمة الأخلاقية المطلقة هي البقاء، وأن الآلية الأساسية لإنجاز ذلك هي الدولة الصهيونية، فكأن الدولة الصهيونية هي الإله أو اللوجوس في الحلولية الصهيونية بدون إله.
قال رجل منا: فحدثنا عن تنزيه الإله في نظر المسيحيين.
قال: لست أدري ما أقول لكم.. ولا بما أجيبكم.. لقد احترت فيما أكتبه عن تنزيه المسيحيين لله..
لقد وجدت الكتاب المقدس بعهديه متضاربا في ذلك غاية التضارب..
فبينما أقرأ النصوص التي يسمى فيها الرب باسم القدوس، كما في (اللاوين 11: 44-45): ( أَنَا الرَّبّ إِلَهُكُمْ، فَكَرِّسُوا أَنْفُسَكُمْ وَتَقَدَّسُوا، لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ، وَلاَ تُنَجِّسُوا أَنْفُسَكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الدَّبِيبِ المُتَحَرِّكِ عَلَى الأَرْضِ. لأَنِّي أَنَا الرَّبّ الذِي أَخْرَجَكُمْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ لأَكُونَ لَكُمْ إِلَهاً. فَكُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ)
بينما أقرأ هذا النص وغيره.. والتي تمتلئ بتنزيه الله وتقديسه، بل تسميه قدوسا.. في نفس الوقت أقرأ الكثير من النصوص التي تصف الله بما لا يمكن أن يوصف به إله.. ولذلك لم يصعب عليهم أن يرسموه في الكنائس والمعابد بصورة رجل عجوز ذي لحية طويلة بيضاء يظهر عليه الشيب والعجز والتعب..
لقد كان لهذه الصورة سندها من الكتاب المقدس..
ففي الكتاب المقدس النصوص التي تصف الله بالعجز.. ففي (تكوين32 /24-28) نبأ مصارعة يعقوب لله: (فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر.. وقال: اطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا اطلقك إن لم تباركني)
وفي سفر القضاة لم يستطع الرب أن يطرد سكان الوادي، لأن مركباتهم حديدية.. ففي (القضاة 1 /19): (وكان الرب مع يهوذا فملك الجبل ولكن لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يسكر.. ففي (المزمور 78 /65): (فاستيقظ الرب كنائم كجبار معّيط من الخمر)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينام.. ففي (مزمور35 /22): (قد رأيت يا رب لا تسكت يا سيد لا تبتعد عني استيقظ وانتبه الى حكمي يا الهي وسيدي الى دعواي)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يمشي على عكاز، ففي (مزمور23 /4): (أيضا إذا سرت في وادي ظل الموت لا اخاف شرا لانك انت معي. عصاك وعكازك هما يعزيانني)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب جاهل.. ففي (رسالة بولس إلى أهل كرونثوس الأولى 1 /25): (لأن جهالة الله احكم من الناس. وضعف الله أقوى من الناس)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب عنده خزانة، وفيها آلات الرجز.. ففي (إرميا50 /25(: (فتح الرب خزانته واخرج آلات رجزه لان للسيد رب الجنود عملا في ارض الكلدانيين)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يسيئ.. ففي (1ملوك17 /20): (وصرخ الى الرب وقال ايها الرب الهي أيضا الى الارملة التي انا نازل عندها قد اسأت بإماتتك ابنها)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينقض العهد.. ففي (زكريا11 /10): (فاخذت عصاي نعمة وقصفتها لانقض عهدي الذي قطعته مع كل الاسباط فنقض في ذلك اليوم وهكذا علم اذل الغنم المنتظرون لي انها كلمة الرب)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يصيح كالوالدة وينخر ويخرب.. ففي(إشعياء 42 /13-16): (الرب كالجبار يخرج.كرجل حروب ينهض غيرته.يهتف ويصرخ ويقوى على اعدائه قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت.كالوالدة اصيح.انفخ وانخر معا اخرب الجبال والآكام واجفف كل عشبها واجعل الانهار يبسا وانشف الآجام واسير العمي في طريق لم يعرفوها.في مسالك لم يدروها امشيهم.اجعل الظلمة امامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الامور افعلها ولا اتركهم)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب ينسى.. ففي (مزمور 13 /1): (الى متى يا رب تنساني كل النسيان.الى متى تحجب وجهك عني)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب عمود سحاب نهارا وعمود نار ليلا.. ففي (خروج:13 /21): ( وكان الرب يسير امامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق وليلا في عمود نار ليضيء لهم.لكي يمشوا نهارا وليلا)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يصفر للذباب ويعمل حلاقاً ويصفق.. ففي (إشعياء 7 /18-20): (ويكون في ذلك اليوم ان الرب يصفر للذباب الذي في اقصى ترع مصر وللنحل الذي في ارض اشور فتأتي وتحل جميعها في الاودية الخربة وفي شقوق الصخور وفي كل غاب الشوك وفي كل المراعي. في ذلك اليوم يحلق السيد بموسى مستأجرة في عبر النهر بملك اشور الراس وشعر الرجلين وتنزع اللحية ايضا)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يأمر الناس بسب الأنبياء.. ففي (صموئيل الثاني 16 /10-11): (فقال الملك ما لي ولكم يا بني صروية. دعوه يسب لأن الرب قال له سبّ داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لابيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من احشائي يطلب نفسي فكم بالحري الآن بنياميني.دعوه يسب لان الرب قال له)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يحتاج علامة ليتذكر بها.. ففي (تكوين 9 /15-16): (اني اذكر ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حيّة في كل جسد. فلا تكون ايضا المياه طوفانا لتهلك كل ذي جسد فمتى كانت القوس في السحاب ابصرها لأذكر ميثاقا ابديا بين الله وبين كل نفس حيّة في كل جسد على الارض)
وفيه النصوص التي تدل على أن الرب يولول ويبكي ويصرخ ويصوِت.. ففي (ميخا1 /8): (من اجل ذلك انوح وأولول. امشي حافيا وعريانا. اصنع نحيبا كبنات آوى ونوحا كرعال النعام)
***
قلت: حدثتنا عن أكثر الأديان شهرة.. ولم تحدثنا عن الإسلام.. فهل بحثت في قداسة إله المسلمين؟
قال: أجل.. لقد استغرق مني ذلك كل وقتي.. بل لأجله رحلت إلى بلاد إسلامية متعددة..
قلت: فما وجدت؟
قال: إن شئتم الصراحة.. لم أجد دينا من الأديان يحمل تعظيما لله وتقديسا له مثل دين المسلمين.
قلت: فحدثنا عما وجدت.
قال: لقد رأيت المسلمين يقدسون الله تقديسا عظيما.. بل إن الأمر يصل بهم إلى تقديس كل ما يضاف إلى الله.. فيتحرزون أشد الاحتراز من كل كلمة يطلقونها على الله.
قال بعض من كان معنا: فحدثنا عن أقوال المسلمين في هذا، فإنا نرى لهم حكمة كبيرة، ومعارف عظيمة.
قال: قبل أن أحدثكم عن ذلك أحدثكم حديث ذلك، فلا يؤخذ العلم إلا من مصادره.
قلنا: فحدثنا.
قال: لقد كان من أوائل المدن التي زرتها من بلاد المسلمين بلدة يقال لها (قم)، وبما أنها كانت حافلة بالعلم والعلماء، والمقدسين والمطهرين، فقد كان الكل يطلق عليها (قم المقدسة)
وقد تشرفت بالجلوس إلى كثير من حلقات العلم فيها.. وهي حلقات تقام في كل مكان.. في المدارس والمساجد.. بل وفي الأسواق وأمام البيوت.. وسأذكر لكم الآن بعض ما بقي عالقا من تلك المجالس المباركة التي شرفني الله بالجلوس فيها.
وقبل أن أذكر لكم ذلك أذكر لكم النتيجة العامة التي وصلت إليها.. فالكلام لا يحسن ولا يستجاد فهمه إلا إذا انطلق من الإجمال إلى التفصيل..
قلنا: ذلك أدعى لسرورنا.. فما هي النتيجة التي وصلت إليها؟
قال: لقد رأيت كل مجالس العلم في تلك المدينة الطيبة تركز أحاديثها في هذا الباب على ناحيتين من نواحي التقديس.. وهما سهلا التصور بحسب القسمة العقلية.
قلنا: ما هما؟
قال: الذات والأفعال.. فلا يقدس الله إلا إذا قدست ذاته.. وقدست مثل ذلك أفعاله.
1 ـ قداسة الذات الإلهية
قلنا: فحدثنا عن تقديس ذات الله.
قال: على تلة مرتفعة في تلك المدينة الجامعة بين العلم والإيمان والأدب رأيت منصة عالية جلس عليها رجل يلبس عمة الأزهر، وقد التفت الناس حوله.. وقد تعجبت عندما علمت أن ذلك الرجل مصري، وأنه شيخ من شيوخ الأزهر.. وأن اسمه (محمود شلتوت)([11])، وقد قلت لمن أخبرني عن هذا الرجل: أعقمت أرحام نسائكم أن تلد العلماء حتى أتيتم بهذا المصري.. ورفعتموه إلى هذا المنصب الرفيع.
ابتسم الرجل، وقال: لكأنك لا تعرفنا.. أو لكأنك لا تعرف الإسلام.
قلت: وعلاقة هذا بكم؟.. وما علاقته بالإسلام؟
قال: أما علاقته بنا.. فنحن قوم لم نشرف إلا بالإسلام.. وقد كان لنا في عهد نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ممثل له عنا.. وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( سلمان منا آل البيت)([12])
وأما علاقة ذلك بالإسلام.. فالإسلام لا ينظر إلى ما ينظر إليه الناس من تصنيفات وضعتها لهم أهواؤهم وشياطينهم.. إن ربنا يقول لنا:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} (الحجرات)
وإن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يقول لنا::(ليس لأحد على أحد فضل إلا بالدين أو عمل صالح)([13])، ويقول: (أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13)([14])
قال لي ذلك، ثم انصرف مسرعا ليسمع من ذلك الجالس على تلك المنصة العالية.
أحسست بشيء يدعوني إلى أن أحث خطاي إليه..
وعندما وصلت، كان أول ما سمعته منه قوله: أيها الباحثون عن الله.. لا يمكنكم أن تعرفوا الله إلا إذا نزهتم بصائركم من أدناس التشبيه.. فما عرف الله من شبهه.. وما عرف الله من قاسه على خلقه.. أو قاس خلقه عليه.. وما عرف الله من وضع الله في قوالب صورها له عقله أو صورها له هواه.. فالله أعظم من أن يحاط به.
قال بعض الحاضرين: فكيف نصل إلى هذه المرتبة؟
قال شلتوت: اقرأوا القرآن.. وستجدونه مملوءا بتنزيه الله وتعظيمه.. فلا يتحقق التعظيم إلا إذا تحقق التنزيه.
قال الرجل: نجد الله في القرآن الكريم يسمي نفسه (قدوسا)([15]).. قال تعالى:{ هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (الحشر:23)، وقال: { يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ }(الجمعة:1)
وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: ( سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ)([16])
فما المراد بهذا الاسم؟
قال شلتوت: إن هذا الاسم يشير إلى طائفة كثيرة من المعاني كلها تبشر بتنزيه الله عن كل ما لا يليق به:
فهي تنزهه عن الشريك.. فالقدوس واحد، قال تعالى:{ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.. } (البقرة: 255)، وقال:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } (الإخلاص)
وهي تنزهه عن الشبيه.. فالقدوس لا يشبهه شيء، قال تعالى:{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ } (الاخلاص:4)، وقال تعالى:) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الشورى: من الآية11)
وهي تنزهه أن يكون له زوجة أو ولد، قال تعالى إخبارا عن مقالة الجن:{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا } (الجن: 3)، وقال:{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} (البقرة)
وهي تنزهه عن الموت والنوم، قال تعالى:{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ.. (58)} (الفرقان)
وهي تنزهه عن الظلم، قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} (النساء)
وهي تنزهه عن الكذب.. فقوله الصدق وخبره الحق، قال تعالى:{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } (النساء: 87)
وهي تنزهه عن الضلال والنسيان، قال تعالى مخبرا عن نبيه موسى u أنه قال:{ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى } (طه: 52)
وهي تنزهه عن الفناء.. فالقدوس باق، قال تعالى:{ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (القصص:88)
وهي تنزهه عن كل العوراض التي لا تتناسب مع جلال الألوهية.. كما قال تعالى:{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } (البقرة:255)
وهي تنزهه عن الفقر والبخل، قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)} (فاطر)
وهي تنزهه عن التعب والنصب.. قال تعالى:{ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } ( ق: 38)
وهي تنزهه عن الحاجة إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة، قال تعالى:{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ( النحل: 40)
وهي تنزهه عن انتهاء القدرة وحصول الفقر، قال تعالى:{ لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } ( آل عمران: 181)
وهي تنزهه عن الحاجة قال تعالى:{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } ( الأنعام: 24) { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } ( المؤمنون: 88)
وهي تنزهه عن أن يخلق الباطل، قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } ( ص: 27)، وقال تعالى حكاية عن المؤمنين:{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السموات والأرض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا } ( آل عمران: 191)
وهي تنزهه أن يخلق للعب، قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ، وَمَا خلقناهما إِلاَّ بالحق } ( الدخان: 38 39)
وهي تنزهه أن يخلق للعبث؛ قال تعالى:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فتعالى الملك الحق } ( المؤمنون: 115، 116)
وهي تنزهه أن يرضى بالكفر، قال تعالى:{ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } ( الزمر: 7)
وهي تنزهه عن إرادة الظلم، قال تعالى:{ وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ } ( غافر: 31)
وهي تنزهه عن حب الفساد، قال تعالى:{ والله لاَ يُحِبُّ الفساد } ( البقرة: 205)
وهي تنزهه عن أن يعاقب من غير سابقة جرم، قال تعالى:{ مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } ( النساء: 147)
وهي تنزهه عن أن ينتفع بطاعات المطيعين أو يتضرر بمعاصي المذنبين، قال تعالى:{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } ( الإسراء: 7)
وهي تنزهه أن يعترض أحد على أفعاله وأحكامه، قال تعالى:{ لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } ( الأنبياء: 23)، وقال تعالى:{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } ( االبروج: 16)
وهي تنزهه عن أن يخلف وعده ووعيده، قال تعالى:{ مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } ( ق: 29)
قال آخر: سمعنا ما وردنا من كلام ربنا.. فأسمعنا بعض ما يدل على هذا من كلام أئمة الهدى الذين جعلهم الله مصابيح لخلقه يهتدون بها.
قال شلتوت: كل أئمة الهدى تحدثوا عن هذا.. ودعوا الناس إليه بجميع صروف الدعوة.
روي أن رجلاً قال لعلي: هل تصف ربنا نزداد له حباً وبه معرفة؟ فغضب وخطب الناس، فقال فيما قال: (عليك يا عبدالله بما دلك عليه القرآن من صفته، وتقدمك فيه الرسول من معرفته، فائتم به، واستضيَ بنور هدايته، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، ولا في سنة الرسول وأئمة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله، ولا تقدر عظمة الله عليه قدر عقلك، فتكون من الهالكين.. واعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم، هم الذين أغناهم الله عن الاِقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا:{.. آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.. (7)} (آل عمران)، وقد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً)
وقال في خطبة أخرى:( الحمد لله المعروف من غير رؤية، والخالق من غير رَوِيَّة، الذي لم يزل قائماً دائماً إذ لا سماء ذات أبراج، ولا حجب ذات أرتاج، ولا ليل داج، ولا بحر ساج، ولا جبل ذو فجاج.. وأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك، وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك، وكأنه لم يسمع تبرأ التابعين من المتبوعين إذ يقولون:{ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} (الشعراء).. كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزؤوك تجزئة المجسمات بخواطرهم، وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم)([17])
وعن الفتح بن يزيد الجرجاني قال: ضمني وأبا الحسن الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق، فسمعته يقول: (من اتقى الله يتقى، ومن أطاع الله يطاع)، فتلطفت الوصول إليه، فوصلت، فسلمت عليه، فرد عليَّ السلام ثم قال: (يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلط الله عليه سخط المخلوق، وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه، والاَوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والاَبصار عن الاِحاطة به، جل عما وصفه الواصفون، وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه، فهو في نأيه قريب، وفي قربه بعيد، كيَّف الكيف فلا يقال: كيف؟ وأيَّن الاَين فلا يقال: أين؟ إذ هو منقطع الكيفوفية والاَينونية)
وقال الحسين: (إن الله عز وجل يقول:{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} (النجم)، فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا)
وقال: (يا محمد، إن الناس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلموا في الله، فإذا سمعتم ذلك فقولوا: لا إلَه إلا الله الواحد الذي ليس كمثله شيء)
وقال: (من نظر في الله كيف هو هلك)
وقال: (يا ابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه، وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطاه، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والاَرض، إن كنت صادقاً فهذه الشمس خلق من خلق الله، فإن قدرت تملأ عينيك منها فهو كما تقول.. فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك. هيهات، إن من يعجز عن صفات ذي الهيئة والاَدوات فهو عن صفات خالقه أعجز. وَمِن تناولِه بحدود المخلوقين أبعد)
ومن خطبة له في التوحيد قال: (ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مَثَّله، ولا إياه عني من شَبَّهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه.. كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلول.. فاعلٌ لا باضطراب آلة، مقدر لا بجول فكرة، غني لا باستفادة، لا تصحبه الاَوقات، ولا ترفده الاَدوات، سبق الاَوقات كونه، والعدم وجوده، والاِبتداء أزله.. بتشعيره المشاعر عُرِفَ أن لا مُشْعِرَ له، وبمضادته بين الاَمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنته بين الاَشياء عُرِفَ أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة والجمود بالبلل)
وقال الباقر: (تكلموا في خلق الله، ولا تتكلموا في الله، فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيراً)
وقال: (إياكم والتفكر في الله، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه)
وقال الصادق: (إن الله تبارك اسمه، وتعالى ذكره، وجل ثناؤه، سبحانه وتقدس، وتفرد وتوحد، ولم يزل ولا يزال، وهو الأَول والآخر والظاهر والباطن فلا أول لأَوليته، رفيعٌ في أعلى علوه، شامخ الاَركان، رفيع البنيان عظيم السلطان، منيف الآلاء، سني العلياء، الذي عجز الواصفون عن كنه صفته، ولا يطيقون حمل معرفة إلَهيته، ولا يحدون حدوده، لاَنه بالكيفية لايتناهى إليه)
وروي أن رجلا قام إلى الإمام الرضا، وقال له: يابن رسول الله صف لنا ربّك، فانّ من قبلنا قد اختلفوا علينا.. فقال الرضا: (إنّه من يصف ربّه بالقياس لا يزال الدهر في الالتباس، مائلا عن المنهاج، ظاعناً في الإعوجاج، ضالاًّ عن السبيل، قائلا غير الجميل، أعرّفه بما عرّف به نفسه من غير رويّة، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة، لا يدرك بالحواسّ، ولا يقاس بالناس، معروف بغير تشبيه، ومتدان في بعده لا بنظير، لا يمثّل بخليقته، ولا يجور في قضيّته.. فهو قريب غير ملتزق، وبعيد غير متقصّ، يحقّق ولا يمثّل، ويوحّد ولا يبعّض، يعرف بالآيات ويثبت بالعلامات، فلا إله غيره الكبير المتعال)
***
لست أدري كيف قطعت عن لساني لجام الصمت، ورحت أقول: إني أرى بهذه المدينة حلقا كثيرة.. فأي حلقة تراها أعرف من غيرها بربها لتنصحنا بها؟
قال شلتوت: اجلس إليها جميعا.. واستفد منها جميعا.. وأحسن الظن بها جميعا..
قلت: لا أقصد هذا.
قال: أنت تقصد أحقها بالحق، وأولاها به.
قلت: أجل.. فذلك ما أريده.. فلا أريد أن أقع في الوهم.
قال: الناس ينظرون إلى الحق من مناظر مختلفة لا متناقضة.. ففيهم العامة وفيهم الخاصة.. وفيهم أهل الكثافة وفيهم أهل اللطافة.. وفيهم المحققون وفيهم الحرفيون.. ولكل واحد من هؤلاء الحق الذي يتناسب معه.
قلت: فكيف أميز ما يتناسب معي مع ما يتناسب مع غيري؟
قال: فكيف تميز ما يصلح لمعدتك من الطعام مع ما لا يصلح؟
قلت: أي طعام أكلته أضر بي علمت أنه لا يصلح لمعدتي.
قال: وكذلك كل معرفة أوقعتك في دنس التشبيه والتمثيل فاجتنبها إلى غيرها.. فالله لا يحاط به.
***
كانت أول حلقة انضممت إليها – بعد جلوسي للشيخ محمود شلتوت- حلقة يتوسطها شيخ قد أوتي علما كثيرا، وقدرة على الجدل لا تضاهى، كان اسمه (ابن طاووس)([18]).. وقد كان تلاميذه يلتفون حوله، فيسألونه غرائب المسائل، فيبجيبهم بجنان ثابت، وعلم وافر، وحجة تأبى إلا أن تنقاد العقول لها.
سأنقل لكم بعض ما دار في تلك الحلقة:
كان أول ما بدأ به ابن طاووس درسه قوله: نتناول اليوم في هذا الدرس الحديث عن ركن مهم من أركان المعرفة بالله، لا تتم المعرفة إلا به..
إنه تنزيه الله، وإجلاله، وتسبيحه وتقديسه.. فلا يمكن أن تتم المعرفة بالله، أو تصدق إلا إذا خالطها هذا الإكسير.. إكسير التقديس والتنزيه والإجلال.
قال رجل من الحاضرين: نحن نعرف الجملة.. ولكنا نفتقر إلى التفصيل.
قال: سأذكر لكم سبعة أشياء يقدس الله عنها.. وقيسوا عليها غيرها.
قالوا: وما هي؟
قال: الشبيه.. والحاجة.. والجهل.. والعجز.. والجسمية.. والزمان.. والمكان.
قالو: فحدثناعن الأول مما يجب تنزيه الله عنه.. حدثنا عن تنزه الله عن الشبيه([19]).
قال: التشبيه أو التمثيل هو إثبات شيء من خصائص المخلوق للخالق، أو إثبات شيء من خصائص الخالق للمخلوق([20]).. وقد نطق القرآن الكريم بتنزيه الله تعالى عنه، فقال:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ( الشّورى:11)، وقال:{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ( الإخلاص: 4)، وقال:{ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ } ( النّحل: 74)، وقال:{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } ( مريم: 65)؛ أي مثلاً وشبيهًا([21]).
ومثل ذلك نطقت أسماء الله الحسنى بتنزيه الله عنه.. فقد سمّى الله نفسه المقدّسة بأسماء كثيرة تدلّ على تفرّده المطلق:
فمن أسمائه الدالة على ذلك: الواحد، والأحد([22]) ؛ أي المتفرّد بمعاني الكمال ؛ فليس له مثل في ذاته، ولا شريك في أفعاله.
ومن أسمائه الدالة على ذلك العزيز ؛ أي الَّذي لا مثل له ولا نظير ؛ فالعزيز – في بعض معانيه- هو النّادر الَّذي يصعب أو يتعذّر وجود مثله ؛ يقال: عزّ الشّيء فهو عزيز إذا قلّ فلا يكاد يوجد، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} ( فصّلت: 41) ؛ أي كتاب محالٌ مناله، ووجود مثاله.
ومن أسمائه الدالة على ذلك القهّار ؛ أي الواحد الَّذي لا نظير له ولا ندّ ؛ لأنّ القهر ملازم للوحدة، فلا يكون اثنان قهّاران متساويين في قهرهما أبدًا ؛ فالقهر المطلق لا يكون إلا مع الوحدة.. فلا يكون القهّار إلاّ واحدًا ؛ إذ لو كان معه كفؤ له ؛ فإن لم يقهره لم يكن قهّارًا على الإطلاق، وإن قهره لم يكن كفؤًا، وكان القهّار واحدًا.
ولهذا، فإن الَّذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد الَّذي لا نظير له، وهو الَّذي يستحقّ أن يعبد وحده كما كان قاهرًا وحده، قال تعالى:{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } ( ص: 65) ؛ فأبطل الشّرك، وقرّر ألوهيّته بوحدته، وقهره لكلّ شيء.
ومن أسمائه الدالة على ذلك المتكبّر ؛ أي العظيم، المتعالي عن صفات الخلق، والتاء في اسم المتكبّر تاء المتفرّد، والمتخصّص، لا تاء المتعاطي والمتكلّف([23])..
ومن أسمائه الدالة على ذلك اللّطيف ؛ فقد فسّر بالَّذي لطف عن أن يدرك بالكيفيّة، وهذا التّفسير يتضمّن التّنزيه عن وجود المثل ؛ لأنّ إدراك الكيفيّة إنّما يكون بمعرفة الذات، أو بمعرفة النّظير المماثل ؛ فإذا تعذّر إدراك الكيفيّة على الخلق جميعًا كان ذلك دليلاً على انتفاء معرفتهم بحقيقة الذات، وعلى عدم النّظير المماثل الَّذي تعتبر ذات الخالق بذاته.
بالإضافة إلى هذا فإن جميع أسماء التنزيه المطلق تدل على هذا؛ كالقدّوس، والسّلام، والسبوّح ؛ فإنها تدلّ على سلامة الربّ، وطهارته، ومباعدته عن كلّ عيب، أو نقص، وعن أن يكون له كفء في ذاته، أو صفاته، أو أفعاله.
ومثل ذلك جميع أسماء التّمجيد، الَّتي تدلّ على جميع صفات الكمال ؛ كالصّمد، والمجيد، والعظيم، والواسع، والأعلى ؛ فإنّ هذه الأسماء تنافي جميع النّقائص ؛ لأنّ ثبوت الكمال يستلزم نفي ضدّه، وما يستلزم ضدّه؛ وتنافي أيضًا وجود المثل والكفء ؛ لأنّ اتّصاف الربّ بأعلى صفات الكمال يستحيل معه وجود المثل ؛ لأنهما إن تماثلا ارتفع الكمال عنهما معًا، وإن لم يتماثلا فالكمال الأعلى لأحدهما وحده.
قال بعض الحاضرين: عرفنا الدليل، ولكنا لم نعرف المدلول.. فما المراد بتنزيه الله عن الشيه؟
قال ابن طاووس: المراد به أمران:
أما الأول.. فهو تمثيل المخلوق بالخالق.. وهو إما أن يكون كليا بوصف المخلوق بجميع صفات الخالق.. واعتباره بذلك ربا كما فعل المشركون.. وقد يكون جزئيًّا؛ وذلك بوصف المخلوق ببعض خصائص الخالق؛ كوصفه بالقدرة التامّة، والعلم المحيط، والإرادة النّافذة، والغنى المطلق..
وأما الثاني.. فالزعم أنّ الله على صورة الإنسان – مثلا – أو الزعم بأن في الله بعض صفات الإنسان.
قام بعض الحاضرين، وقال: كيف تقول هذا.. والقرآن دل على وقوع التسوية بين ذات الله تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة، ولم يلزم منها أن يكون القائل مشبهاً..
فقد قال تعالى عن نفسه:{ وَهُوَ السميع البصير }، وقال في حق الإنسان:{ فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً } (الإنسان: 2).. وقال في حقه:{ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا } ( هود: 37)، وقال في حق المخلوقين:{ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع } ( المائدة: 83)
وقد سمى نفسه عزيزاً فقال:{ العزيز الجبار } ( الحشر: 23)، ثم ذكر هذا الاسم في حق المخلوقين بقوله:{ يأَيُّهَا العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا } ( يوسف: 78)، وقال:{ ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر } ( يوسف: 88)
وسمى نفسه بالملك، وسمى بعض عبيده أيضاً بالملك فقال:{ وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ } ( يوسف: 50)
وسمى نفسه بالعظيم ثم أوقع هذا الاسم على المخلوق فقال:{ رَبُّ العرش العظيم } ( التوبة: 129)
وسمى نفسه بالجبار المتكبر وأوقع هذا الاسم على المخلوق فقال:{ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} ( غافر: 35)
ابتسم ابن طاووس، وقال: ألست ابن خزيمة([24])؟
قال ابن خزيمة: بلى.. كيف عرفتني؟
قال ابن طاووس: لا تنشغل بذلك.. وأخبرني.. ألست أنت الذي تقول في الكتاب الذي سميته (التوحيد): (نحن نثبت لله وجهاً ونقول: إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء، ونقول إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك والفناء، ونفى عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء، ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً، لكان قد شبّه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب.. ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له: وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء، فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه)
قال ابن خزيمة: بلى.. قد ذكرت هذا الكلام.. وما أوردته من النصوص دليل عليه.. فهل لك اعتراض على ما أقول؟
قال ابن طاووس: اسمح لي أن أذكر لك بأن السر في مذهبك هذا هو أنك لم تعرف جيدا حقيقة المثلين.. ولو أنك عرفتها لما وقعت فيما وقعت فيه.
قال ابن خزيمة: يشرفني أن تعلمني علمها..
قال ابن طاووس: المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته.. ولتفهم هذا تحتاج أن تعرف بأن المعتبر في كل شيء، إما تمام ماهيته، وإما جزء من أجزاء ماهيته، وإما أمر خارج عن ماهيته، ولكنه من لوازم تلك الماهية، وإما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية.
وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به.. وذلك معلوم بالبديهة، فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة، ثم صارت في غاية السواد والحلاوة.. فالذات باقية والصفات مختلفة، والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة.. وهكذا نرى الشعر قد كان في غاية السواد، ثم صار في غاية البياض.. فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل، فظهر بهذا أن الذوات مغايرة للصفات.
قال ابن خزيمة: أنا أسلم لك بكل ما ذكرته من هذا.
قال ابن طاووس: ما دمت قد سلمت بهذا، فاعلم أن اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات أبدا، لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكناً ثم يصير متحركاً، ثم يسكن بعد ذلك، فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد، والصفات متعاقبة متزايلة.. فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات.
قال ابن خزيمة: أنا أسلم لك بهذا أيضا.
قال ابن طاووس: إذا سلمت بهذا فاعلم أن الأجسام التي تألف منها وجه الكلب والقرد مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس.. وإنما حصل الاختلاف بسبب الأعراض القائمة، وهي الألوان والأشكال والخشونة والملاسة وحصول الشعور فيه وعدم حصوله.
فالاختلاف إنما وقع بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض، فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة.. إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات، فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار، وقد صدقوا، فإنه حصلت تلك المخالفة بسبب الشكل واللون وسائر الصفات، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية.
قال ابن خزيمة: أنت ترد بهذا على ما ذكرت من الوجوه.
قال ابن طاووس: أجل.. فالكلام الذي أوردته إنما تخاطب به العوام.. وهم لا يعرفون أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها.
قال ابن خزيمة: لا بأس.. فلنفرض أني سلمت لك بهذا.. إن هذا يوقعك في القول بأن الأجسام كلها متماثلة.. فإن كنت تقول بذلك، فما دليلك عليه؟
قال ابن طاووس: ها هنا مقامان..
أما المقام الأول، فأن نعتبر هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة.. فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود.. وإن كانت ممنوعة، فنقول فلم لا يجوز أن يقال إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي.. ويكون ذلك الجسم مخالفاً لماهية سائر الأجسام، فكان هو قديماً أزلياً واجب الوجود وسائر الأجسام محدثة مخلوقة.. ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه؟
قال ابن خزيمة: فإن قالوا: هذا باطل لأن القرآن دلّ على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة؟
قال ابن طاووس: يقال لهم حينذاك: إن هذا من باب الحماقة المفرطة، لأن صحة القرآن وصحة نبوّة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل.
قال ابن خزيمة: لا بأس.. فما المقام الثاني؟
قال ابن طاووس: المقام الثاني هو أن علماء الأصول أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات والحقيقة([25]).. وإذا ثبت هذا ظهر أنه لو كان إله العالم جسماً لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل.
أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح على سائر الأجسام، فيلزم كونه محدثاً مخلوقاً قابلاً للعدم والفناء قابلاً للتفرق والتمزق.
وأما النقل فقوله تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء }
قال بعض الحاضرين: لدي إشكال في الآية أود أن تجيب عنه.
قال ابن طاووس: أنت ترى أن مقصود الآية هو نفي المثل عن الله تعالى بينما ظاهرها لا يوحي بذلك.. إذ أنه يوجب إثبات المثل لله تعالى؟
قال الرجل: أجل.. لقد نطقت بما كنت أريد أن أنطق به.. ألا ترى ذلك صحيحا؟
قال ابن طاووس: لقد أجاب العلماء على ذلك، فذكروا بأن العرب الذين نزل بلسانهم القرآن الكريم يقولون مثل هذا في حديثهم.. فهم يقولون مثلا: مثلك لا يبخل، أي أنت لا تبخل فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عنه.. ويقول الرجل منهم: هذا الكلام لا يقال لمثلي.. وهو يريد يذلك (لا يقال لي).. وقد قال الشاعر في هذا: (ومثلي كمثل جذوع النخيل)
وهم في ذلك ينحون منحى المبالغة.. فإنه إذا كان ذلك الحكم منتفياً عمن كان مشابهاً بسبب كونه مشابهاً له، فلأن يكون منتفياً عنه كان ذلك أولى.
قام بعض الحاضرين، وقال: فهل تروي لنا شيئا مما ذكره أئمة الهدى من سلف هذه الأمة وصالحيها في تنزه الله عن الشبيه لتؤيد به ما تقول؟
قال ابن طاووس: أجل.. أروي في ذلك الكثير..
فقد سأل بعضهم الصادق فقال له: أخبرني أي الأعمال أفضل؟ قال: توحيدك لربّك.. قال: فما أعظم الذنوب؟ قال: تشبيهك لخالقك.
وحدث يونس بن ظبيان قال: دخلت على الصادق فقلت: يا ابن رسول الله! إنّي دخلت على بعضهم فسمعتهم يقولون: إنّ لله وجهاً كالوجوه، وبعضهم يقول: له يدان! واحتجّوا لذلك بقول الله تبارك وتعالى:{ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} (ص)، وبعضهم يقول: هو كالشاب من أبناء ثلاثين سنة.. فما عندك في هذا يابن رسول الله؟ قال: ـ وكان متّكئاً فاستوى جالساً ـ وقال: اللهمّ عفوك عفوك.. ثمّ قال: يايونس من زعم أنّ لله وجهاً كالوجوه فقد أشرك، ومن زعم أنّ لله جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر بالله فلا تقبلوا شهادته ولا تأكلوا ذبيحته، تعالى الله عمّا يصفه المشبهون بصفة المخلوقين.. فقوله:{.. خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..(75)} (ص) فاليد القدرة، كقوله {.. وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ.. (26) } (الأنفال)، فمن زعم أنّ الله في شيء، أو على شيء، أو تحوّل من شيء إلى شيء، أو يخلو منه شيء، أو يشغل به شيء، فقد وصفه بصفة المخلوقين، والله خالق كلّ شيء، لا يقاس بالقياس ولا يشبه بالناس، لا يخلو منه مكان، ولا يشغل به مكان، قريب في بعده، بعيد في قربه، ذلك الله ربّنا لا إله غيره، فمن أراد الله بهذه الصفة فهو من الموحّدين، ومن أحبّه بغير هذه الصفة فالله منه بريء، ونحن منه براء)
وروي أنه قال لهشام: (إنّ الله تعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، وكلّ ما وقع في الوهم فهو بخلافه)
وعنه أنه قال: (إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بزمان ولا مكان ولا حركة ولا إنتقال ولا سكون ; بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والإنتقال، تعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً)
وقال الباقر لجابر: ياجابر.. ما أعظم فرية أهل الشام على الله عزّوجلّ، يزعمون أنّ الله تبارك وتعالى حيث صعد إلى السماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدّس، ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على حجر فأمر الله تبارك وتعالى أن نتّخذه مصلّى.
ثم قال له: (ياجابر! إنّ الله تبارك وتعالى لا نظير له ولا شبيه، تعالى عن صفة الواصفين، وجلّ عن أوهام المتوهّمين، واحتجب عن أعين الناظرين، لا يزول مع الزائلين، ولا يأفل مع الآفلين، ليس كمثله شيء، وهو السميع العليم)
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الثاني.
قال: الثاني مما ينزه الله عنه هو الحاجة.. فالله تعالى منزّه عن كل الحاجات التي تفتقر إليها الحوادث..
فهو منزه عن الأكل والشّرب، والسِّنة والنّوم، والصّاحبة والولد، والشّريك، والظّهير، ونظائرها من لوازم الحدوث والاحتياج، قال تعالى:{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يَطْعَمُ } ( الأنعام: 14)، وقال:{ اللَّهُ الصَّمَدُ } ( الإخلاص: 2) ، وقال:{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } ( البقرة: 255)، وقال:{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا } ( الجنّ: 3)، وقال:{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } ( الإسراء: 111)، وقال:{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } ( سبأ: 22)
وقد نطقت جميع أسماء الله الحسنى بالدلالة على هذا.. فمن أسماء الله تعالى: الأوّل، والآخر، والحيّ، والقيوّم، والواجد، والغني، والملك، والقهّار.. وغيرها.. وكل هذه الأسماء تبطل الاحتياج من أصله ؛ لأنّها تدلّ على وحدانيّة الربّ، وأزليّته، وأبديّته، وكمال حياته، وقيامه بنفسه ؛ فلا يفتقر لغيره، لا في وجوده، ولا في بقائه، ولا في صفاته، وأفعاله، وتدلّ على إقامته لغيره، وعلى عموم قهره، وكمال غناه وملكه، فلا يحتاج ما يحتاجه المخلوق الفقير المحدث من الأكل والشّرب، والسِّنة، والنّوم، والصّاحبة، والولد، والشّركاء والأعوان.
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الثالث.
قال: الثالث مما ينزه الله عنه هو الجهل.. فالله تعالى وسِع كلّ شيء علمًا، وأحصى كلّ شيء عددًا، فما من شيء قلّ أو جلّ إلاّ أحاط به علمه، وجرى به قلمه، فلا يعزب عن ربّك من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السّماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، قال تعالى:{ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } ( إبراهيم: 38)، وقال:{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ( هود: 123) ؛ والغافل الَّذي لا يفطن للأمور ؛ إهمالاً منه، مأخوذ من الأرض الغفل، وهي الَّتي لا عَلَم بها، ولا أثر عمارة، وقال:{لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ( طه: 52) ؛ أي لا يغيب عنه شيء، ولا يغيب عن شيء، أو لا يفوت علمه شيء، ولا ينسى شيء.
وقد نطقت أسماء حسنى كثيرة بالدلالة على كمال علم الله، وكمال إحاطته بكلّ شيء ؛ أزلاً وأبدًا، غيبًا وشهادة، وعلى تقديسه عن الجهل بجميع صوره ومظاهره ؛ لأنّ إثبات الشّيء نفي لضدّه ولما يستلزم ضدّه عقلاً وسمعًا.
فمن ذلك الأسماء الدالة على شمول العلم، وانتفاء جميع صور الجهل ؛ كالعليم، والخبير، والمحيط، والواسع ؛ أي الَّذي وسع علمه كلّ شيء، وأحاط بما في العالم العلويّ والسّفليّ، فلا يغيب عن علمه شيء.
ومن أسمائه ما يدلّ على كمال أسباب العلم ؛ كالسّميع والبصير، والقريب، والرّقيب، والشّهيد، والمهيمن ؛ وهو بمعنى الشّهيد ؛ أي الحاضر مع عباده، يسمع أقوالهم، ويبصر أفعالهم، فلا يغيب عنه من أمرهم شيء يقولونه، أو يفعلونه، قال تعالى:{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْءَانٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } ( يونس: 61)
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الرابع.
قال: الرابع مما ينزه الله عنه هو العجز.. فالله تعالى على كلّ شيء قدير، كما أنّه بكلّ شيء عليم ؛ فلا يسبقه شيء، ولا يعجزه ما يريد، قال تعالى:{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } ( الواقعة: 60) ؛ أي وما نحن بعاجزين.
وقال:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } ( فاطر: 44)؛ فنزّه تعالى نفسه عن العجز، وذيّل الآية بما يتضمّن علّة التّنزيه عنه من أسمائه، وهما العليم والقدير ؛ لأنّ العجز سببه إمّا الجهل بأسباب الإيجاد، أو قصور الإرادة عن فعل المراد.
وقال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } (ق: 38)
وقال:{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ( الأحقاف: 33)
وقد نطقت بالدلالة على تنزيه الله عن العجز وأسبابه أسماء كثيرة..
منها ما يدلّ على انتفائه ؛ لشمول علمه، وكمال أسبابه، وآثاره ؛ كالخبير، والسّميع، والحسيب.
ومنها ما يدلّ على انتفائه ؛ لكمال قوّته، وشمول قدرته ؛ كالقويّ، والعليّ، والوكيل.
ومن هذا الصنف ما يدلّ على انتفاء العجز وكمال القدرة بدلالة المطابقة ؛ كالقادر، والقدير، والمقتدر، والمقيت – أي المقتدر بحسب بعض معانيه- وكالقويّ، والمتين، أي تامّ القدرة ؛ فلا يشقّ عليه فعل، ولا يلحقه عجز، أو فتور، أو وهن.
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الخامس.
قال: الخامس مما ينزه الله عنه هو الجسمية..
نهض بعض تلاميذه، وقال: كيف تقول ذلك يا شيخنا، وقد رأيت في بعض بلاد المسلمين من يعتبر الجسمية من لوازم الذات.. فلا يتصور ذاتا من غير جسم.. حتى أن بعضهم يذكر جواز لمس اللّه، ومصافحته ومعانقته.. بل إن بعضهم قال: (معبودي جسم، وله جوارح وأعضاء، من يد ورجل، ورأس، ولسان، وعينين، وأذنين، ومع ذلك فهو جسم لا كالاجسام.. وليس كمثله شيء)
ابتسم ابن طاووس، وقال: أولئك قوم يدعون بالمجسمة.. وهم قوم دعاهم إلى ذلك أمران:
أما أحدهما، فهو أنسهم المفرط بعالم المادة والمحسوسات.. وهو أنس مصحوب بالسذاجة والجهل الذي لا يسمح لهم بتقبل شي غير المادة.. وهو أنس يؤدي الى مقايسة اللّه عز وجل بالإنسان وصفاته.
وأما ثانيهما، فما ورد في النصوص المقدسة من التعابير الكنائية والمجازية حيث لم يستطيعوا أن يرتقوا ليفهموها على ضوء لغة العرب وأساليبها في البيان.
قال التلميذ: دعنا منهم.. وحدثنا عن الأدلة التي تلزمنا بتنزيه الله عن الجسمية.
قال ابن طاووس: سأذكر لك أربعة براهين على هذا.. قد تكون كافية لإقناعك.
قال الرجل: فهات أولها.
قال ابن طاووس: الأول هو أن الجسم يقتضي التركيب ذلك أنه مكون من أبعاد ثلاثة، من العرض والطول والعمق، والمركب مفتقر في وجوده الى وجود أبعاضه، وما كان مفتقرا في وجوده فليس واجب الوجود.
قال الرجل: إن ما قام عليه هذا البرهان يحتاج إلى المزيد من التوضيح والاستدلال.. فكيف يتنافى التركيب مع وجوب الوجود؟
قال ابن طاووس: للتركيب ثلاثة أنواع كلها منتفية عن الله تعالى.. أولها: التركب من الأجزاء الخارجية.. والثاني: التركب من الأجزاء العقلية.. والثالث: التركب من الوجود والماهية.
قال الرجل: فما برهان استحالة تركب واجب الوجود من الأجزاء الخارجية؟
قال ابن طاووس: لذلك براهين كثيرة:
منها أن لوجود الجزء تقدما بالطبع على وجود الكل بالبداهة، فيكون مفتقرا إليه، وهو ينافي كونه واجب الوجود.
ومنها أن الكل المركب من جزئين خارجيين ذو جانبين، وجانبه هذا غير جانبه ذاك، فهو بجانبه هذا غائب ومنعدم عن جانبه الآخر، وبجانبه الآخر منعدم وغائب عن هذا الجانب.. وواجب الوجود شديد الوجود في الغاية لا طريق للنقص والقصور إليه.
ومنها أن وجود الكل في الخارج هو بعينه وجود الأجزاء، فلوفرض للواجب أجزاء خارجية:
فإما أن يكون وجود كل واحد من الأجزاء بنفسه بالفعل، فيكون وجود الكل ووحدته اعتباريا، فليس الكل واجب الوجود.
وإما أن يكون وجود الكل بالفعل، فيكون وجود كل واحد منها بنفسه بالقوة، وهو ينافي وجوب الوجود، فليست الأجزاء واجبة الوجود، فيلزم تركب الواجب من الأجزاء غير واجبة الوجود.
قال الرجل: وعيت هذا، فما برهان استحالة تركب واجب الوجود من الوجود والماهية؟
قال ابن طاووس: واجب الوجود جلت عظمته ليس له ماهية غير وجوده..
قال الرجل: إن ما تقوله خطير..
قال ابن طاووس: اصبر علي حتى أوضح لك مرادي.. إن مرادي من قولي ذلك هو أن كل موجود ممكن الوجود يتركب من الماهية والوجود، وبعبارة أخرى: كل ممكن زوج تركيبي من الوجود والماهية.. وأما واجب الوجود فماهيته عين وجوده، وبعبارة أخرى: ماهيته إنيته، وليس له ماهية سوى وجوده.
قال الرجل: فما برهان هذا؟
قال ابن طاووس: لهذا براهين كثيرة..
منها أن الماهية لا تقتضي الوجود بذاتها.. بل وجودها في الخارج يفتقر إلى علة توجدها.. ومن البديهي أن وجود العلة غير وجود المعلول، ويتقدم عليه.. ومن هذا يعلم أن واجب الوجود وجود محض، وليس له ماهية غيره، وإن كان له ماهية كان اتصافها بالوجود مفتقرا إلى علة، وكان وجود العلة غير وجوده لا محالة، فكان ممكن الوجود، وهذا خلف.
ومنها أنه لو كان لواجب الوجود ماهية غير وجوده لحكم العقل عند تصورها بكونها في نفسها ممكنى الوجود.. لأن تلك الماهية لا تخلو من أنها: إما ممتنعة الوجود، أو واجبة الوجود، أو ممكنة الوجود.. فإن كانت ممتنعة الوجود لكان منافيا لكونها واجب الوجود لا محالة.
وان كانت واجبة الوجود يلزمها:
أولا: أن تكون ماهيته مقتضية لوجودها، فيكون وجوده معلولا، فلا يكون وجوده بنفسه واجبا، بل ممكنا.
وثانيا: أن الماهية لأجل كليتها في اللحاظ لا تأبى عن حدوث مصاديق أخرى لها وان كانت بالفعل ذات مصاديق عديدة، والحدوث ينافي وجوب الوجود.
وان كانت ماهيته ممكن الوجود في نفسها، فلا يكون بحسب ماهيته واجب الوجود، وهذا خلف.
فيثبت بعد هذه المقدمات: أن واجب الوجود لا ماهية له، وبعبارة أخرى: ماهيته عين وجوده، ولا يقبل التحليل إلى ماهية ووجود أصلا.
وينتج ذلك أن واجب الوجود – الذي منه وجود جميع الموجودات – هو منبع الوجود والوجود البحت، وصرف الوجود والوجود المطلق.
ونعني بالوجود المطلق: هو الوجود بشرط لا، أي لا حد له، لا المطلق لا بشرط، بمعنى عدم تقيده بحد، فإنه لا ينافي اي حد من الحدود.
والوجود المطلق لا بشرط هو الوجود الصادر منه جلت عظمته، فبأي ماهية تعلق يكون محدودا بحدها، وليست الماهيات إلا حدود الوجود.
ومنها أنه لو كان لواجب الوجود ماهية لا يخلو أن تكون إما عرضا أو جوهرا، فإن الجوهر هو ماهية إذا وجد وجد في نفسه، والعرض ماهية إذا وجد وجد في غيره.
والجوهر جنس عال يفتقر تحققه في الخارج إلى تعينه في ضمن نوع من أنواعه، ويفتقر إلى فصل هو المعين لذلك النوع.
فلو كان لواجب الوجود ماهية لافتقرت إلى جزئين: ما به الاشتراك، وما به الامتياز، والافتقار ينافي وجوب الوجود.
مضافا إلى أن الجوهر ممكن الوجود، ولذلك يوجد في ضمن الوجودات الممكنة.
التفت ابن طاووس للرجل، وقال: لقد ذكر سلفنا الصالح من العلماء والأولياء هذا المعنى، فقد قال علي وهو يذكر الله:( ومن حده فقد عده).. وقال السجاد: (إن اللّه لا يوصف بمحدودية، عظم ربنا عن الصفة، فكيف يوصف بمحدودية؟)
قال الرجل: عرفت البرهان الأول.. فهات البرهان الثاني.
قال ابن طاووس: البرهان الثاني هو تناهي الجسم وكونه محفوفا بالإعدام من الجوانب الستة.. والواجب يمتنع تطرق العدم إليه بوجه من الوجوه.
قال الرجل: فما البرهان على ذلك؟
قال ابن طاووس: إن البراهين على هذا كثيرة:
منها: أنه لو كان الجسم غير متناهي الأبعاد، نفرض فيه نقطة خرج منها خطان حصل منهما زاوية، وامتد الخطان بامتداد الجسم، فلو كان الجسم غير متناه امتد الخطان إلى غير النهاية، ولما كان مقدار الانفراج بين خطي الزاوية بنسبة مقدار امتداد الخطين، استلزم كون الخطين غيرمتناهيين، فيكون الانفراج بينهما أيضا غير متناه، وذلك يناقض كونه محصورا بين الخطين.
ومنها: أنه إذا فرض خط ممتد إلى غير النهاية، ونفرض هناك كرة في جانب الخط غير المتناهي تدور حول محور الخط المتصل بين قطبيها اللذين أحدهما فوق الخط غير المتناهي والآخر تحته وقبل شروعها في الدوران نفرض خطا خارجا من الكرة عمودا على خط المحور موازايا للخط غير المتناهي، يمتد معه إلى غير نهاية، فإذا دارت الكرة إلى جهة الخط غير المتناهي يتقاطع الخط الخارج من الكرة مع الخط غير المتناهي نقطة فنقطة.
فأول نقطة تقاطع الخطين هي نقطة من الخطين لا نقطة للخطين في امتدادهما بعد تلك النقطة، وإلا لكان التقاطع فيها قبل التقاطع في تلك النقطة.
فثبت أن أول نقطة التقاطع آخر نقطة من الخطين، فالخطان متناهيان لا محالة، وقد فرض كونهما غير متناهيين، وهذا خلف.
ومنها: برهان التطبيق، وهو أنه لو فرضنا ستة خطوط خرجت من نقطة من داخل الجسم إلى الجهات الست ممتدة بامتداد الجسم، ثم قطعنامن كل خط قطعة من جانب تلك النقطة.
فلو فرضنا تطبيق محل القطع من الخط على النقطة المبتدئ منها أصل الخط قبل القطع، فإما أن يمتد إلى غير النهاية، فيكون الزائد مثل الناقص، وهو ممتنع، أو يقصر عنه بمقدار تلك القطعة، فيكون متناهيا، وكذا أصل الخط لزيادته عليه بمقدار تلك القطعة فقط لا اكثر، فثبت تناهي أبعاد كل جسم.
ويمكن تقرير البرهان بدون فرض التطبيق بأنه: إن كان باقي الخط بعد قطع قطعة مساويا لأصل الخط قبل القطع لزم مساواة الجزء للكل، وهو محال، وإن كان أقل منه لزم كونه متناهيا، وكذلك أصل الخط، لكونه أزيد منه بمقدار تلك القطعة فقط.
قال الرجل: عرفت البرهان الثاني.. فهات البرهان الثالث.
قال ابن طاووس: البرهان الثالث هو أن كل جسم حادث.. ولذلك يستحيل أن يكون واجب الوجود جسما.
قال الرجل: فما الدليل على ذلك؟
قال ابن طاووس: لذلك أدلة كثيرة..
منها أن الجسم لا ينفك عن الحركة أو السكون بالبداهة، فإن الجسم إما ساكن في مكان، أو متحرك من مكان إلى مكان آخر لا محالة.
ومعنى الحركة: هو الكون في الآن الاول في مكان، وفي الآن الثاني في مكان آخر.. ومعنى السكون هو الكون في الآن الآول في مكان والكون في الآن الثاني في ذلك المكان بعينه.
فكل جسم قد تشكل من كونين: الكون في الآن الأول في مكان، والكون في الآن الثاني في ذلك المكان أو مكان آخر.
وهذا يؤدي إلى أن الكون في الآن الأول في مكان، والكون في الآن الثاني في ذلك المكان أو مكان آخر، وجودان متمايزان، يمكن أن يوجد أحدهما ولا يوجد الآخر.
وذلك لأن لكل جسم له وجود خاص، وتشخص يتمايز به عن الأجسام الأخرى ويغايرها، وذلك التشخص هو الكون في زمان خاص في مكان خاص([26]).
ولما كان منبع التشخص هو الوجود وكان تشخصه بذاته، كانت اللوازم والمشخصات كلها منبعثة من نفس وجود الجسم، فيكون تبدل الكون في زمان خاص في مكان خاص مستلزما لتبدل وجود ذلك الجسم.
وبما أن الكون هو الوجود، فتبدله هو تبدل الوجود، فالجسم لايزال يتبدل وجوده، وله في كل آن وجود غير وجوده في الآن السابق عليه، وغير وجوده في الآن اللاحق عليه.
فالحركة والتبدل إنما هو في وجوده لا في أمر خارج عن وجوده يكون له وجود آخر، فالحركة في ذاته وجوهره، فثبت أن كل جسم له حركة جوهرية.
وهذا كله يؤدي إلى أن حقيقة الحركة هي الوجود والعدم.. آنا فنا.
فكل جسم يوجد وينعدم آنا فآنا، وكل وجود له في آن مسبوق بعدمه وملحوق بعدمه.
نعم، لو لوحظ ماهية الجسم، فليست الحركة والسكون داخلة في ماهيته، بل هما خارجتان عن ماهية الجسم عارضتان عليها، وأما وجودالجسم وكونه ليس مغايرا لوجوده وكونه في الآن الأول، بداهة أنه ليس له وجودان في آن واحد، أحدهما وجوده، والثاني وجوده في ذلك الآن، بل ليس له إلا وجود واحد، فتبدله في الآن الثاني هو انعدام وجوده في الآن الأول ووجود وجود آخر له.. وهكذا في الآنات المتوالية إلى آخرها، وإن كان لوجوداته في الآنات المتوالية صورة متصلة ويقال له جسم واحدباعتبارها، كما أن الصورة الاتصالية للحركة تقتضي إطلاق حركة واحدة عليها من أولها الى آخرها.
وهذا كله يؤدي إلى أن الجسم لا يزال حادثا يتجدد حدوثه في كل آن، والحادث في كل آن غير الحادث في الآن المتقدم عليه.
وبهذا كله يثبت استحالة كون الجسم واجب الوجود، فواجب الوجود تعالى ليس بجسم بالضرورة، لأنه يمتنع عليه العدم، ومنه وجود جميع الموجودات، وهو مكون جميع الكائنات.
قال الرجل: عرفت البرهان الثالث.. فهات البرهان الرابع.
قال ابن طاووس: البرهان الرابع هو ما ورد في النصوص المقدسة الكثيرة من نفي كل مستلزمات الجسمية عن الله.. والتي سنعرف بعضها عند الحديث عن تنزيه الله عن المحل الزماني والمكاني.
قال الرجل: فما تقول فيمن وقع في التجسيم.. هل تكفره.. أم تراك تكتفي بتبديعه؟
قال ابن طاووس: لا هذا، ولا ذاك.
قال الرجل: كيف ذلك، وأحسنهم حالا من يقول بتبديعك، وتبديع من يقول بقولك؟
قال ابن طاووس: أنا لا أجرؤ على تكفير مسلم أو تبديعه لرأي رآه، أو اعتقاد اعتقده أداه إليه اجتهاده.. هكذا علمنا نبينا.. وهكذا علمنا ورثته من بعده.
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن السادس.. حدثنا عن تنزه الله عن الزمان..
قال: يكفيكم في تنزيه الله عن الزمان معرفتكم باسمين عظيمين من أسماء الله الحسنى.. هما (الأوَّلُ) و(الآخِرُ)
قالوا: فما الذي يدل عليه هذان الاسمان؟
قال: كل حادث مخلوق مرتبط بالزمن.. والله وحده هو الذي لا يجري عليه الزمان.. فهو أقدس من أن يؤثر فيه الزمان، أو يتأثر بالزمان، لأنه هو خالق الزمان([27]):
فهو الموجود قبل كل موجود، لأنه هو الخالق لكل موجود، قال تعالى:{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} (الأنعام)، وقال:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} (الزّمر)
وهو الباقي بعد كل موجود.. فالذّوات كلّها فانية وزائلة إلاّ ذاته المقدّسة، فإنها منزّهة عن هلاك المحدثات وزوالها، قال تعالى:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } ( القصص: 88)، وقال:{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27)} (الرّحمن)، وقال:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } ( الفرقان: 58)
وهذا ما تنطق به أسماء الله الحسنى.. كالحيّ، والقيّوم، والآخر، والباقي، والوارث وغيرها..
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن السابع.. حدثنا عن تنزه الله عن المكان..
قال: يكفيكم في تنزيه الله عن المكان معرفتكم باسمين عظيمين من أسماء الله الحسنى.. هما (الظَّاهِرُ) و(البَاطِنُ)
قالوا: فما الذي يدل عليه هذان الاسمان؟
قال([28]): أعظم المخلوقات جلالة ومهابة المكان والزمان.. أما المكان فهو الفضاء الذي لا نهاية له، والخلاء الذي لا غاية له، وأما الزمان فهو الامتداد المتوهم الخارج من قعر ظلمات عالم الأزل إلى ظلمات عالم الأبد، كأنه نهر خرج من قعر جبل الأزل وامتد حتى دخل في قعر جبل الأبد فلا يعرف لانفجاره مبدأ، ولا لاستقراره منزل.
فالأول والآخر صفة الزمان.. والظاهر والباطن صفة المكان.. والحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً.. ووسع الزمان أولاً وآخراً.. وإذا كان مدبر المكان والزمان هو الحق تعالى كان منزهاً عن المكان والزمان.
قالوا: زدنا إيضاحا.
قال: اقرأوا هذه الآيات بعين البصيرة لتعلموا أن الله خالق المكان أعظم من أن ينسب إلى مكان.
قال ذلك، ثم راح يرتل بخشوع هذه الآيات..:{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (الحديد:4).. { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } (المجادلة:7).. { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } (التوبة:40).. { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } (طه:46).. { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } (النحل:128).. { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (الأنفال:46).. { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } (البقرة:249).. { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} (البقرة)
قال بعض الحاضرين: فما البرهان العقلي على تنزيه الله عن المكان؟
قال ابن طاووس([29]): لقد ثبت في العلوم العقلية بأدلة كثيرة – لس هذا موضع ذكرها – أن المكان إما السطح الباطن من الجسم الحاوي، وإما البعد المجرد والفضاء الممتد، وليس يعقل في المكان قسم ثالث.
بناء على هذا، فقد ثبت أن أجسام العالم متناهية، فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء، ولا مكان ولا جهة، فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم.
وإن كان المكان هو الثاني، فإن طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية، فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز.. وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون.. وكل ما كان كذلك كان محدثاً بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول.. وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين.. فيلزم كون الإله محدثاً، وهو محال.
فثبت بهذا أن القول بأنه تعالى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات.
قال بعض الحاضرين: فما تقول في قوله تعالى:{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (طه)؟
قال ابن طاووس: أقول فيها ما قالت العرب، فالقرآن نزل:{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} (الشعراء)
قال الرجل: فما قالت العرب؟
قال ابن طاووس: لقد قال شاعرهم:
اذا ما بنو مروان ثلت عروشهم |
وأودت كما أودت إياد وحمير. |
يريد: إذ ما بنو مروان هلك ملكهم وبادوا.
وقال آخر:
أظننت عرشك |
لا يزول ولا يغير |
يعني: أظننت ملكك لا يزول ولا يغير.
فعرش اللّه تعالى هو ملكه.. واستواؤه على العرش هو استيلائه على الملك.. والعرب تصف الاستيلاء بالاستواء، كما قال شاعرهم:
قد استوى بشر على العراق |
من غير سيف ودم مهراق |
يريد به: قد استولى على العراق.
لقد قال شيخنا الطبرسي في تفسيره لذلك:( يعني استقر ملكه واستقام، وإنما أخرج هذا على المتعارف من كلام العرب، كقولهم: استوى الملك على عرشه: اذا انتظمت أمور مملكته، وإذا اختل أمر ملكه قالوا: ثل عرشه، ولعل ذلك الملك لا يكون له سرير، ولا يجلس على سرير أبدا)([30])
قال الرجل: فلم لا تقول بظاهر النص كما يقول به بعض أهل هذه الحلقات التي تحيط بنا؟
قال ابن طاووس: لأن ذلك يؤدي إلى محالات كثيرة.. أشار إليها العقل والنقل..
قال الرجل: أنا لا أريد إلا النقل.. فالعقل معقول دون معرفة حقيقة ربه.
قال ابن طاووس: لقد قال تعالى:{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية } ( الحاقة: 17) فلو كان إله العالم في العرش، لكان حامل العرش حاملاً للإله، فوجب أن يكون الإله محمولاً حاملاً، ومحفوظاً حافظاً، وذلك لا يقوله عاقل.
وقال تعالى:{ والله الغنى } (محمد: 38) فحكم بكونه غنياً على الإطلاق، وذلك يوجب كونه تعالى غنياً عن المكان والجهة.
وعندما طلب فرعون حقيقة الإله من موسى u لم يزد موسى u على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات، فإنه لما قال:{ وَمَا رَبُّ العالمين } ( الشعراء: 23) ففي المرة الأولى قال:{ رَبِّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } (الدخان: 7)، وفي الثانية قال { رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين } ( الشعراء: 26)، وفي المرة الثالثة:{ قَالَ رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } (الشعراء: 28) وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية.. وأما فرعون فإنه قال:{ ياهامان ابن لِى صَرْحاً لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب أسباب السموات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى } (غافر: 36، 37)، فطلب الإله في السماء، فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية، وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى، وسائر جميع الأنبياء، وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة.
قال آخر: فما تقول في النصوص التي توهم المكان؟
قال ابن طاووس: أفهمها على ضوء النصوص التي لا توهم المكان.. فالمحكم يحمل على المتشابه.
قال الرجل: ألست تفر بذلك إلى التأويل؟
قال ابن طاووس: ما دامت العرب وجميع الأجناس تقصد في كلامها الظاهر والمؤول.. فلا حرج في أن ينزل القرآن بجميع ذلك.. ففيه الظاهر المحكم، وفيه المؤول المتشابه الذي اختص الراسخون في العلم بعلمه.
قال الرجل: ولكنهم يذكرون أن التأويل تعطيل.
ابتسم ابن طاووس، وقال: فقد رموا أنفسهم بالتعطيل إذن؟
قال الرجل: كيف تقول ذلك؟
قال ابن طاووس: فما يقولون في قوله تعالى:{ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} (المجادلة)
قال الرجل: يقولون: هو معهم بعلمه.
قال ابن طاووس: أرأيت إن قلت لك: كنت مع فلان البارحة.. فما تفهم منها؟
قال الرجل: أفهم منها أنك كنت عنده.
قال ابن طاووس: بذاتي أم بعلمي؟
قال الرجل: بذاتك.. هذا هو ظاهر اللفظ.
قال ابن طاووس: فهم قد تركوا ظاهر اللفظ إذن..
قال الرجل: ذلك صحيح.
قال ابن طاووس: وهذا هو التأويل.. ويستحيل عليهم أن لا يقعوا فيه..
قال الرجل: ولكنهم غلبوا بذلك نصوصا أخرى.
قال ابن طاووس: هم بين أمرين.. بين أن يغلبوا التنزيه الذي دلت عليه النصوص، ودل عليه معها العقل.. وبين أن يغلبوا نصوصا موهمة يوجهونها كما يشاءون، ويؤولون غيرها كما يشاءون.
قال الرجل: ولكنهم يروون عن بعض السلف أقوالا تؤيد أقوالهم.
قال ابن طاووس: أعظم السلف وأشرفهم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وكلهم يقول بما أقول..
قال الرجل: فهل تروي لنا من ذلك شيئا؟
قال ابن طاووس: لقد حدث إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا: يابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: ( إنّ الله تبارك وتعالى ينزل كلّ ليلة إلى السماء الدنيا)، فقال: لعن الله المحرّفين للكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذلك، إنّما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله تبارك وتعالى يُنزل ملكاً إلى السماء الدنيا كلّ ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أوّل الليل فيأمره فينادي: هل من سائل فاُعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ ياطالب الخير أقبل، ياطالب الشرّ أقصر ; فلا يزال ينادي بهذا إلى أن يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محلّه من ملكوت السماء) حدّثني بذلك أبي، عن جدّي، عن آبائه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([31])
وحدث ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين عن الله جلّ جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك.. قلت: فلِمَ أسرى نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء؟ قال: ليريه ملكوت السماء وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.. قلت: فقول الله عزّوجلّ:{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} (النجم)، قال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دنا من حجب النور، فرأى ملكوت السماوات، ثمّ تدلّى صلى الله عليه وآله وسلم فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتّى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى.
وحدث يونس بن عبدالرحمن قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر: لأي علّة عرج الله بنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، ومنها إلى سدرة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وخاطبه وناجاه هناك والله لا يوصف بمكان؟ فقال: (إنّ الله لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، لكنّه عزّوجلّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقوله المشبهون، سبحان الله وتعالى عمّا يصفون)
***
كان إلى جنب حلقة (ابن طاووس) حلقة لفتت انتباهي، فقد كان الأصوات ترتفع فيها بقوة، وكأنها تريد أن تزاحم بها صوت (ابن طاووس) وتلاميذه.
لست أدري كيف تخلصت من ذلك اللجام الذي كان يلجم لساني الحديث، فقلت لابن طاووس: من هؤلاء؟.. ومن هو زعيم حلقتهم؟.. ولم يرفعون أصواتهم هكذا؟
ابتسم ابن طاووس، وقال: هؤلاء إخوان لنا فيهم العلماء.. وفيهم طلبة العلم.. وقد اعتزلوا حلقتنا لخلافهم معنا في بعض ما ذهبنا إليه من العلم..
قلت: فما هي الآراء التي خالفوكم فيها؟.. وما أدلتهم على ذلك؟
قال: لا يحسن أن يحدث عن المرء إلا لسانه.. فاذهب إليهم واسألهم.
قلت: ألا تعتبرني معتزليا([32]) بذلك؟
قال: لا.. كلنا مسلمون.. نحن وهم.. نحن اختلفنا في بعض المسائل.. ولنا من الأدلة ما نرى أنه قطعي.. ونحن نستند إليه.. ولهم كذلك من الأدلة ما يرون قطعية.. ومن الحرج العظيم أن نلزمهم بما نراه من آراء.
قلت: ألست تبدعهم؟
قال: أنا مبلغ عن الله.. وداعية إلى الله.. لا قاض.. ولا ديان.. الله تعالى هو القاضي، وهو الديان الذي يحكم بيننا كما يحكم بين الخلائق جميعا فيما اختلفوا فيه.
قال ذلك، ثم أشار إلي أن أجلس إلى حلقتهم..
وقد فعلت.. ولكني لا أريد أن أبث إليكم الآن ما سمعته فيها لأني لا أرى أنها تنسجم مع عقولكم([33])..
قلنا: لقد عرفنا المدى الذي وصل إليه المسلمون في تقديسهم لذات ربهم.. فحدثنا عن موقفهم من تقديس أفعاله.
قال: في سوق من أسواق قم.. رأيت رجلا يلتف الناس حوله، وقد سمعتهم يطلقون عليه لقب (مؤمن الطاق)([34])، فهرعت معهم إليه، لأسمع ما يقول.
وقد كان من حسن حظي أن سائلا سأل مؤمن الطاق عن الموضوع الذي كنت أبحث عنه، فقد قال له: يا مولانا.. نرى بعض الناس يصفون ربنا بأوصاف لا يرضونها لأنفسهم.. فما تقول في ذلك؟
قال: وما يقولون؟
قال الرجل: إنهم يصفونه بالماكر، والمستهزئ، والكائد.. ويعتبرون ذلك من أسماء الله الحسنى.. ويستدلون لذلك من القرآن الكريم بقوله تعالى:{ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ( آل عمران: 54)، وقوله:{ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } ( البقرة: 14 – 15)، وقوله:{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا } ( الطّارق: 15، 16)
ابتسم مؤمن الطاق، وقال: من حدثكم عن سبع([35]) ينسبها لربه، فقد كذب.. فربنا أجل وأكرم من أن يتصف بها.
قالوا: فما هي؟
قال: المكر، والظلم، والبخل، والخلف، والإهمال، والعبث، والضرر.
قال الرجل: كيف تنفي المكر عن الله، والآية صريحة في ذكره.. فالله تعالى يقول:{ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} (آل عمران)، ويقول:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} (الأنفال)
قال: المكر في اللغة وفي عرف الناس يراد به أمران:
أما أحدهما، وهو المشهور المتعارف عليه بينهم، وهو ما ينفيه كل عاقل عن الله، فهو (التَّبْييت بشيءٍ خفِيً يضرّ الخَصْم).. فالذي يمكر ويبيت شيئاً خفيّاً بالنسبة لعدوه ضعيف لا يملك القدرة على المواجهة، فلذلك يلجأ إلى أن يبيت من ورائه.. ولو كانت عنده قدرة على المواجهة فلن يمكر؛ لذلك لا يمارس المكر إلا الضعيف..
لأن الضعيف إن أصاب فرصة استغلها حيث يظن أنه قد لا تتاح له فرصة ثانية؛ لذلك يندفع إلى قتل خصمه. أمَّا القوي فهو يثق في نفسه وقدراته، ولذلك يعطي خصمه فرصة ثانية وثالثة، ثم يعاقب خصمه على قدر ما أساء إليه.
هذا هو المعنى الأول، وهو مستحيل على الله تعالى بدلائل النصوص المقدسة الكثيرة التي تنزهه عن الضعف والعجز.
وأما المعنى الثاني، وهو صرف الغير عمّا يقصد خيراً كان أم شرّاً.. فلا حرج في نسبة ذلك لله.. وهذا ما أرادته الآيات الكريمة..
فالله تعالى في قوله:{ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) } (آل عمران) يخبرنا أن أعداء المسيح u الذين وضعوا الخطط الشيطانية للوقوف بوجه الدعوة التي جاء بها قد صرفوا عن غايتهم، وأن الله – لكي يحفظ حياة نبيّه ويصون الدعوة – مكَرَ أيضاً فأحبط كلّ ما مكَروه.
ومثل ذلك قوله تعالى:{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) } (الأنفال)، فهذه الآية تصور تلك الجهود التي بذلها المشركون للصد عن دين الله، وهم غافلون على ما يدبر لهم مما لا يعلمونه، ولا يستطيعون أن يعلموه.
لقد قال سيد قطب يصور سر هذا التعبير وما يفرزه من مشاعر، فقال: ( الصورة التي يرسمها قوله تعالى:{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) } (الأنفال) صورة عميقة التأثير.. ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون.. والله من ورائهم، محيط، يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون!
إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة.. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة.. قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط؟
والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير؛ فيهز بها القلوب، ويحرك بها أعماق الشعور)([36])
سكت مؤمن الطاق قليلا، ثم قال: لقد ورد الدلالة على هذا المعنى في القرآن باسم آخر هو (الاستدراج)
قالوا: ما الاستدراج؟
قال: لاشك أنكم تعلمون أن من أراد شيئاً فأعطاه الله مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيهاً عند الله تعالى سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة، بل قد يكون ذلك إكراماً للعبد، وقد يكون استدراجاً له، كما قال تعالى:{ سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الأعراف: 182)
فمعنى الاستدراج أن يعطي الله عبده كل ما يريده في الدنيا بناء على رغبة العبد في ذلك، ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده، فيزداد بذلك كل يوم بعداً من الله.
وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الاستدراج بالمكر، قال تعالى:{ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } ( الأعراف: 99)
وعبر عنه بالخداع، فقال:{ يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } (النساء: 142)، وقال:{ يخادعون الله والذين ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} ( البقرة: 9)
وعبر عنه بالإملاء، فقال:{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرًا لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} ( آل عمران: 178)
فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات([37]).
قام بعض الحاضرين، وقال: إنك أردت أن تزيل شبهة، فأوقعتنا في أخرى.
قال مؤمن الطاق: وما هي؟
قال: كيف يملي الله لهؤلاء، ويمكن لهم؟.. ألا ترى أنه تعالى يعينهم بذلك على الشر والضلالة؟
قال مؤمن الطاق: إن ذلك يستدعي فهم سر الابتلاء والتكليف.. فالله تعالى شاء بحكمته أن يمتحن عباده ليميز الطيب منهم عن الخبيب، وأن يقيم الحجة عليهم بذلك.. وذلك يقتضي لا محالة إمهالهم وأعطاء الفرص المختلفة لهم.. فلا يمكن أن يتحقق الامتحان من غير هذا.
قال الرجل: ولكن كيف يكون هذا، ونحن نرى من الكفار من يعيش مرغدا ويموت مترفا لا يصيبه جرائر ذنوبه ولا تهلكه كثرة معاصيه.. فهل لهذا المتمرد من الوجاهة ما جعله بمنأى من عدالة الجزاء الإلهي؟.. وما السر في هذا التمييز الذي تحيرت له الألباب، بل صار فتنة تصد القلوب عن دين الله([38])؟
قال مؤمن الطاق: إن الجواب عن هذا الاعتراض هو أن عدالة الله المطلقة، ورحمته التامة الشاملة، والتي سبقت غضبه تتيح لهذا المتمرد من الفرص، وتبلغه من الحجج ما يكفي لعودته، فإن استمر على بغيه أخذ أخذ عزيز مقتدر بمجرد تسليم روحه.
ولذلك علل الله تعالى عدم تعجيله بالعقوبة بمغفرته ورحمته، فقال تعالى:{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} (الكهف:58)
وأخبر تعالى أن كل القرى التي نزل عليها العذاب لم ينزل عليها إلا بعد الإمهال الكافي لإقامة الحجة، قال تعالى:{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} (الرعد:32)، وقال تعالى:{ وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} (الحج:48)
ويضرب تعالى الأمثلة على ذلك بالأمم التي أصابها العذاب، ولم يصبها إلا بعد فترة طويلة من الإمهال وإقامة الحجة، قال تعالى مسلياً نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في تكذيب من خالفه من قومه:{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} (الحج:44)
وقد ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه:{ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النازعـات: من الآية24) وبين إهلاكه أربعون سنة)
بل قد أخبر القرآن الكريم أن الله تعالى أمهل قوم نوح u كل تلك الآماد الطويلة، وبعد تلك الفرص الكثيرة، قال تعالى:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (العنكبوت:14)
فالإمهال إذن رحمة من الله، أو هو فرصة ممنوحة من الله للظالمين، قد يستغلونها بالرجوع إلى الله، وقد ينتكسون بأن يضاعف لهم العذاب، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:( إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ثم قرأ قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود:102))([39])
والأمر الثاني أن امتحان الخلق يقتضي ستر أكثر ما يتعرض له الخلق من الجزاء، لأن تعجيل الجزاء قد يجعل الخلق جميعا في صف واحد، صف الخير أو صف الشر بحسب الجزاء، كما قال تعالى:{ وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف:33) أي لولا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال لجعلنا للذين كفروا ذلك الترف الموصوف في الآية.
ولهذا ورد في النصوص الكثيرة الإخبار بأن ما أعطي الكفار من النعيم لا يدل على مرضاة الله، بل قد يدل على سخطه،، قال تعالى مصححا فهوم الكفار الخاطئة:{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون:55 ـ 56)، وقال تعالى:{ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران:178)
ولهذا ورد بعد هذه الآية الإخبار بأن هذا الابتلاء هو الذي يميز الخبيث من الطيب، ويميز بين الراغب في الله، والراغب في المتاع الأدنى، قال تعالى:{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:179)
ففي الآية الكريمة إشارة إلى أن تعجيل الجزاء قد يؤثر في الابتلاء، ولذلك قال تعالى:{.. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ.. (179)} (آل عمران)
ولهذا يرد في القرآن الكريم الإخبار بأن الجزاء الحقيقي هو الجزاء المعد في الآخرة، قال تعالى مخبرا عن جزاء المؤمنين:{ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } (الزخرف: من الآية35) وقد ورد هذا المعنى عقب ذكر زخارف الحياة الدنيا التي يتهافت عليها الغافلون.
وفي نفس الوقت ينهى تعالى المؤمنين من الإعجاب بما أوتي الكفار من النعيم، قال تعالى:{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } (التوبة:55)
فما أمهل به هؤلاء الغافلون ليس دليلا على أي تفضيل لهم، يقول صلى الله عليه وآله وسلم:( لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء أبدا)([40])
فهذا الإمهال ـ إذن ـ كما ينطوي على معاني الرحمة والعدل، وينطوي على معاني الانتقام ممن لم يعرف للنعمة حقها ولا للإمهال حقه، ينطوي كذلك على سر الامتحان الذي يقتضي ستر الجزاء حتى لا يكون الناس أمة واحدة في الخير أو في الشر.
قالوا: وعينا هذا، فحدثنا عن الثاني.. حدثنا عن تنزه الله عن الظلم.
قال: لقد ورد في النصوص الكثيرة الإخبار عن تقديس الله تعالى عن الظلم، قال تعالى:{ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ( (آل عمران:182)، وقال تعالى:{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ } (غافر: من الآية31)، وقال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ( (فصلت:46)
وقد ورد في النصوص ما يبين تنزه الله عن جميع صور الظّلم ومظاهره المختلفة ؛ كإضاعة ثواب المحسن، أو نقصه، أو مساواته بالمسيء، أو مواخذة العبد قبل قيام الحجّة عليه، أو بما لم يعمله، أو بجرم غيره، أو بزيادة على ذنبه، قال تعالى:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ( البقرة: 143)، وقال:{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } ( طه: 112) ؛ والهضم الانتقاص من الحسنات.
ومن مظاهر تنزيه الله عن الظلم تنزيهه عن التّكليف بما لا يطاق، وعن المعاجلة بعقوبة العصاة، قال تعالى:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } ( البقرة: 286)، وقال:{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } ( النّحل: 61)، وهذا من كمال عدله، ومن كمال رفقه ولطفه أيضًا ؛ فإنّ الله لطيف، رفيق يحبّ الرّفق ؛ فلا يكلّف عباده ما لا يطيقون، أو يأخذهم بالتكاليف الشاقّة دفعةً واحدة، أو يعاجلهم بالعقوبة قبل وجود شرطها، وانتفاء مانعها ؛ ولهذا يمهلهم، ويستأني بهم، ولا يهلك على الله إلاّ هالك.
وممّا يتضمّن التّنزيه عن المعاجلة بالعقوبة مع ما ذكر من الأسماء اسم الحليم، والصّبور، والعفوّ، والغفور ؛ فإنّ الذّنوب تقتضي ترتّب آثارها من العقوبات العاجلة، ولكن حلم الله على عباده، وصبره عليهم، ومحبّته للعفو عنهم، تقتضي إمهال العصاة، وعدم معاجلتهم بالعقوبة ؛ ليتمكّنوا من الإتيان بأسباب المغفرة، فيتجاوز عن خطيئاتهم ؛ ولهذا يعافيهم، ويرزقهم، رغم جرائرهم وجرائمهم.
قال رجل من الحاضرين: فما سر تنزه الله عن الظلم؟
قال مؤمن الطاق: لأن الظالم لم يظلم إلا لكونه محفوفا بأنواع من النقص كثيرة.. فهو محفوف بالفقر.. والبخل.. والجهل.. والجور.. والضعف.
أما الله تعالى فقد تنزه عن كل ذلك([41]):
فلله تعالى كمال الغنى.. فمن أسماء الله الحسنى (الغنيّ، والواسع، والواجد).. ولذلك هو لا يحتاج لأحد من خلقه حتَّى يضيع حقّه، أو ينقصه شيئًا منه، قال تعالى:{ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ }( آل عمران: 108)، ثم قال بعدها:{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ( آل عمران: 109) وهو يشير بذلك إلى أنه منزه الظّلم ؛ لكمال غناه عن خلقه؛ إذ كلّ ما في السموات والأرض ملكه وفي قبضته.
وقال تعالى في آية أخرى مشيرا إلى هذا المعنى:{ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ } ( النِّساء: 147)؛ أي لا منفعة له في عذابكم إن شكرتكم وآمنتم ؛ فإنّ ذلك لا يزيد في ملكه، كما إن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه.
ولله تعالى كمال الكرم ؛ فهو الكريم، الجواد، الوهاب، المجيد، الشّكور، فلا يضيع عنده سعي العاملين لوجهه، بل يضاعفه بكرمه وجوده أضعافًا مضاعفة، قال تعالى:{ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} ( النِّساء: 147) ؛ أي يشكر عباده على طاعته ؛ فيتقبّل العمل القليل، ويعطي عليه الثّواب الجزيل، ويعطي بالعمل في أيّام معدودة نعمًا غير محدودة.
ولله تعالى كمال العلم؛ فاسم العليم، والخبير، والسّميع، والبصير، والحفيظ، والحسيب، ونظائرها تدلّ على كمال إحاطته تعالى بأعمال العباد علمًا وكتابةً ؛ لمجازاتهم بالعدل ؛ فكلّ عامل مرتهن بعمله ؛ إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ، قال تعالى:{ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } ( الكهف: 49)، وقال:{ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } ( البقرة: 215) ؛ أي مهما صار منكم من فعل معروف فإنّ الله يعلمه، وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، فإنّه لا يظلم أحدًا مثقال ذرّة.
ولله تعالى كمال العدل ؛ فالله هو العدل، المقسط، المؤمن([42]) لكمال عدله.. وهو الفتّاح ؛ أي القاضي بالحقّ ؛ فلا يجور أبدًا، ولا يضيع مثقال ذرّة من خير أو شرّ، قال تعالى:{ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ( غافر: 20)
انظروا إلى الإشارة التي تحملها فاصلة النص.. فاسم السّميع والبصير يدل بالنّص والفحوى على مناط تفرّد الربّ بالحكم بين عباده ؛ وهو كماله ونقص ما يدعى من دونه ؛ فالله هو الكامل في سمعه وبصره؛ ولهذا كان هو الحكم وحده قدرًا وشرعًا، وجزاءً.
ولله تعالى جميع الكمالات التي يفتقر إليها الظالم.. فهو العليّ، والكبير، والجميل، والحميد، ولهذا يضع الأشياء في مواضعها ؛ ولا يتصوّر أن يقع منه ظلم أَلْبَتَّة، قال تعالى:{ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } ( غافر: 12)
وهو الواسع الذي يوسع على عباده في أحكامه الدينية ؛ فلا يكلّفهم ما لا يطيقون، ويوسّع عليهم في أحكامه القدريّة ؛ فلا يعاجلهم بالعقوبة، ويوسّع عليهم في أحكامه الجزائيّ؛ فلا يؤاخذهم بكلّ معصية، بل يتجاوز، ويعفو، ويغفر ؛ لأنّه العفوّ، والغفور، والغفّار، ولا بُدّ أن تتحقّق متعلّقات هذه الأسماء، وتظهر آثارها.. وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ)([43])
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الثالث.. حدثنا عن تنزه الله عن البخل.
قال: البخل ينافي كمال غنى الربّ وكرمه؛ ولهذا حين قال شاس بن قيس اليهودي: (إِنَّ ربّك بخيل لا ينفق) أنزل الله تعالى قوله:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } ( المائدة: 64) ؛ فطردهم الله من رحمته بمقالتهم المنكرة، وعاقبهم قبل ذلك بأن جعل هذا الوصف لازمًا لهم في الدّنيا ؛ فغلّت أيديهم، وكانوا أبخل النّاس وأجبنهم.
ولهذا أنكر الله مقالة اليهود، وعظّم فريتهم، وأوعدهم عليها بأعظم العقوبات ؛ فحين قال فنحاص بن عازوراء: (إِنَّ الله فقير ونحن أغنياء يقترض منّا)، أنزل الله تعالى قوله:{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } ( البقرة: 181) ؛ فأوعدهم على هذه المقالة المنكرة، وعلى رضاهم بأفعال أسلافهم الشّنيعة ؛ وهي قتل الأنبياء تمرّدًا وعنادًا لا جهلاً وضلالاً، أوعدهم على ذلك بأعظم العقوبات ؛ وهي النيران المحرقة، الَّتي تطّلع على الأفئدة ؛ جزاءً وفاقًا، وما ربّك بظلاّم للعبيد.
وأسماء الله الحسنى تبطل ظنون السوء الَّتي ظنّتها يهود بربّ العالمين ؛ فإنّ من أسمائه الغنيّ، والجواد، والوهّاب، والكريم، والواجد، والمجيد، والواسع، وهي كلّها تدل على كمال غنى الربّ وجوده، قال تعالى:{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا } ( النِّساء: 131) ؛ أي أنّ له الغنى التامّ من كلّ الوجوه ؛ لكماله، ومن سعة غناه أنّ خزائن السموات والأرض بيديه، وأنّ جوده على خلقه متواصل في جميع اللحظات.
وجود الله تعالى على خلقه نوعان:
أما أولهما، فهو الجود المطلق عن أي قيد؛ ولا يخلو عنه مخلوق من المخلوقات ؛ فإن الله وسع غناه كلّ فقر، وعمّ جوده جميع الكائنات، قال تعالى:{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } ( النّحل: 53)
وأما الثّاني، فهو الجود المقيّد بسؤال السّائلين ؛ فمن سأل الله بصدق، وطهارة ممّا يمنع القبول أعطاه سؤاله، وأناله مطلوبه، دون أن ينقص ذلك ممّا عنده شيئًا ؛ لكمال غناه، وسعة خزائنه.
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( قال اللَّهِ تَعَالَى: يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ، وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)([44])
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الرابع.. حدثنا عن تنزه الله عن الخلف.
قال: إخلاف الوعد والوعيد يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عنه، فقال:{ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ( يونس: 55)، وقال:{ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } ( إبراهيم: 47)
قال رجل من الحاضرين: فما سر تنزه الله عن الخلف؟
قال مؤمن الطاق: لقد تنزه الله عن ذلك لما في الخلف من العبث المنافي لحكمة الإله الحقّ؛ فإنّ أصل الحقّ المطابقة والموافقة.. وبما أن أفعال الربّ مطابقة للحكمة، وأقواله مطابقة لما عليه الشّيء في نفسه ؛ لهذا كله كانت أفعاله تعالى وأقواله كلّها حقًّا، ووعده ووعيده كلّه حقًّا وصدقًا، قال تعالى:{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً } ( النِّساء: 122)
فصدق الله يقتضي تحقّق وعده ووعيده، وعدم الخلف فيهما ؛ لأنّه الإله الحقّ ؛ فلا يكون كلامه إلاّ حقًّا ؛ أي مطابقًا لما عليه الشّيء في نفسه ؛ ولهذا سمّى نفسه بالمؤمن ؛ فإنّه في يدل في بعض معانيه على المصدّق ؛ أي المصدّق لرسله بما يظهره لهم من آياته، ومصدّق المؤمنين ما وعدهم من الثّواب، ومصدّق الكافرين ما أوعدهم من العقاب.
ويدل على استحالة إخلافه تعالى لوعده ووعيده، أو تبديله لكلماته كثير من أسماء الله الحسنى:
منها (العليم، والخبير، والشّهيد، والمهيمن، والرّقيب، والسّميع، والبصير)؛ فإنّ هذه الأسماء تدلّ على علم الله تعالى التامّ المحيط بما دقّ أو جلّ من أعمال العباد { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } ( النّجم: 31)
ومنها (القدير، والعزيز، والقهّار، والمقيت، والمتين)؛ فإنها تدلّ على تفرّد الربّ بالقدرة التامّة ؛ فلا شيء يمنعه من إنفاذ وعده ووعيده في المحلّ الَّذي تقتضيه حكمته.
ومنها (الرّحيم، والرؤوف، والغنيّ، والبرّ، والشّكور)؛ فإنّ هذه الأسماء ونظائرها تقتضي إيصال الثّواب الموعود لأهله وعدم إخلافه.
ومنها (الحكيم، والحكم، والعدل، والمقسط، والفتّاح)؛ فإنّ عدل الله وحكمته يتضمّنان وضع الأشياء في مواضعها ؛ فلا يعاقب من لا يستحقّ العقاب، ولا يخلف من يستحقّ الثّواب.
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن الخامس.. حدثنا عن تنزه الله عن الإهمال.
قال: إهمال الله لعباده يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عنه، فقال:{ أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } (القيامة: 36)، وقال:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} (المؤمنون)؛ أي تنزّه وتقدّس عن هذا الظنّ السيء؛ لأنّه عبث وسفه ينافي حكمته.
ومثله في الدلالة قوله تعالى في تينك الآيتين الكريمتين:{.. رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} (المؤمنون)، فإنّ كونه ربًّا للعرش فما دونه يدلّ على تنزيهه عن إهمال العباد، وتركهم سدى، بلا أمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب ؛ فإنّ اسم ( الربّ) إمّا أن يدلّ على صفة معنى، ويفسّر بمعنى: المالك، والسيّد، وإمّا أن يدلّ على صفة فعل، ويفسّر بمعنى: المربّي.
فإن فسّر بالمعنى الأوّل، فمن آثار الملك والسؤدد أنّ الربّ يأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويتصرّف في مماليكه بأنواع التصرّفات.
وإن فسّر بالمعنى الثّاني فالمربّي هو المصلح، والمدبّر، والجابر، والقائم ؛ وهذا يتضمّن التربية العامّة والخاصّة.
قالوا: وما الفرق بينهما؟
قال مؤمن الطاق: تربية الله لخلقه نوعان: عامّة، وخاصّة..
أما العامّة، فهي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، الَّتي فيها بقاؤهم في الدّنيا..
وأما الخاصّة، فتربيته لأوليائه ؛ فيربّيهم بالإيمان، ويوفّقهم له، ويكمّلهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه.
فحقيقة الرّبوبيّة تتضمّن التّنزيه عن إهمال العباد مطلقًا ؛ أي في جميع شؤون معاشهم ومعادهم.
قال بعض الحاضرين: لقد اعتدنا منك أن تذكر لنا الأسماء الحسنى الدالة على نوع التنزيه.. فما الأسماء الحسنى التي ترى أن لها علاقة بتنزيه الله عن الإهمال.
قال مؤمن الطاق: كل أسماء الله الحسنى تدل على ذلك.. وبوسعك أن تقرأها جميعا على هذا الأساس لترى مدى ارتباطها به.
قال الرجل: فهلا وضحت لنا بضرب بعض الأمثلة التقريبية.
قال مؤمن الطاق: سأضرب لك أمثلة تقريبية ببعض الأسماء التي لها صلة مباشرة بهذا المعنى:
فمن ذلك اسمه تعالى (الحسيب) ؛ فإنّه يفسّر بالكافي ؛ وهو بالمعنى العام الَّذي يكفي العباد جميع ما يهمّهم من أمر دينهم ودنياهم، فيوصل إليهم المنافع، ويدفع عنهم المضار.. وبالمعنى الأخصّ هو الَّذي يكفي من توكّل عليه كفاية خاصّة يصلح بها دينه ودنياه.
ومن ذلك اسمه تعالى (اللّطيف)، فقد فسّر بـ (من اجتمع له الرّفق في الفعل، والعلم بدقائق المصالح، وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه)، يقول الزجّاج في ذلك: (اللّطيف يفيد أنّه المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم أسباب معيشتهم من حيث لا يحتسبون)
ويختصّ أولياء الله بلطف خاص يتضمّن أعلى درجات الإحسان والإصلاح ؛ وهو أن ييسّرهم لليسرى، ويجنّبهم العسرى، وقد يكون ذلك بشيء من الابتلاءات والمحن.
ومن ذلك اسمه تعالى (الجبّار) ؛ فقد فسّر بمعنى المصلح ؛ بناءً على أنّه مشتقّ من جبر لا من أجبر؛ يقال: جبر العظم إذا صلح كسره، وجبر الله مصيبته ؛ إذا أصلح حاله، وعوّضه عمّا فاته، يقول الرّازيّ في ذلك: (الجبر أن تغني الرّجل من فقر، أو تصلح عظمه من كسر)
وعلى هذا فالجبّار الَّذي يصلح أحوال عباده ؛ فيجبر الكسير والمصاب، ويغني الفقير، ويعزّ الذّليل، وييسّر على المعسر، ويجبر قلوب الخاضعين لجلاله جبرًا خاصًّا بما يفيض عليها من معارف الإيمان وأحواله.
وهذا المعنى مستقرّ في قلوب عامّة المؤمنين ؛ ولهذا يسأل كلّ واحد منهم ربّه الجبر كلّ صلاة، وهو إنّما يريد هذا الجبر الَّذي حقيقته إصلاح العبد، ودفع المكاره عنه.
ومن ذلك اسمه تعالى (الحفيظ)؛ فإنّه يفسّر بمعنى الحافظ لعباده ممّا يكرهون. وحفظه لخلقه نوعان ؛ عامّ وخاصّ؛ فالعامّ حفظه لجميع المخلوقات بهدايتها لمصالحها، كما قال تعالى: { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } ( طه: 50)
والحفظ الخاصّ حفظ أوليائه في مصالح دنياهم وفي دينهم ؛ فيحفظهم حال حياتهم من الشّبهات والشّهوات، ويحفظ عليهم دينهم عند الوفاة، فيتوفّاهم على الإيمان. وهذا الحفظ متفاوت بين المؤمنين بحسب ما عند كلّ واحد منهم من محافظة على أمر الله ونهيه.
ومن ذلك اسمه تعالى (الرزّاق)؛ أي كثير الرّزق ؛ فهو الَّذي يوصل لجميع خلقه كلّ ما يحتاجونه في معاشهم وقيامهم، ويوصل لأوليائه رزقًا خاصًّا يتضمّن رزق القلوب بالإيمان، والأبدان بالمال الحلال.
فهذه الأسماء الحسنى جميعا وغيرها تدل على عناية الملك الحقّ بعباده، وتربيتهم تربيةً عامّة وخاصّة، يستحيل معها إهمالهم لا في أمور معادهم، ولا في أمور معاشهم.
وهذه المعارف تثمر في القلوب الحيّة محبّة الله، والتّأله له خوفًا وطمعًا ؛ وهي أعظم مقامات الإيمان، وأصوله الكبرى الَّتي يقوم عليها بناؤه.
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن السادس.. حدثنا عن تنزه الله عن العبث.
قال: العبث يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عنه، فقال:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} (الحج)، وقال:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} (الحج)
انظروا كيف سمى الله تعالى نفسه حقا.. ولهذا، فإنه تعالى لا ينسب إليه إلاّ الحقّ؛ فقوله حقّ، وفعله حقّ، ودينه حقّ، ولقاؤه حقّ، ووعده ووعيده حقّ ؛ فكل شيء منه تعالى مطابق للحكمة البالغة المنافية للسّفه، والعبث، والخلف.
يقول بعض العلماء في ذلك، وهو الرّاغب الأصفهاني: (أصل الحقّ المطابقة والموافقة، كمطابقة رِجْل الباب في حَقِّه ؛ لدورانه على استقامة، والحقّ يقال على أوجه:
الأوّل: يقال لموجِد الشّيء بسبب ما تقتضيه الحكمة؛ ولهذا قيل في الله تعالى هو الحقّ، قال تعالى:{ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ } ( الأنعام: 62).
الثّاني: يقال للمُوجَد بحسب مقتضى الحكمة ؛ ولهذا يقال: خلق الله كله حقّ، قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } ( الأنعام: 73)
الثّالث: في الاعتقاد للشّيء المطابق لما عليه ذلك الشّيء في نفسه ؛ كقولنا: اعتقاد فلان في الجنّة والنّار حقّ، قال تعالى:{ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ } ( البقرة: 213)
الرّابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت الَّذي يجب ؛ كقولنا: فعلك حقّ، وقولك حقّ، قال تعالى:{ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } ( يونس: 33) ؛ أي تحقّق قدره السّابق فيهم ؛ بمعنى وقع ووجب ؛ ولهذا يستعمل في الواجب، والثّابت، واللازم)([45])
وبناء على هذا، فإن الحقّ ـ تبارك وتعالى ـ منزّه عن العبث تنزيهًا مطلقًا ؛ لمنافاته حكمته البالغة، وحمده، وكماله..
وقد تكرر في القرآن الكريم ذكر هذا المعنى لتستقيم النفوس على معرفة ربها، ولا تظن به السوء.. قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}(ص)؛ وذلك لأنّ هذا الظنّ ينافي أسماء الربّ تعالى؛ فالحكيم الحقّ منزّه عن أن يخلق شيئًا عبثًا أو سفهًا؛ لأنّ أفعاله حقّ ؛ أي مطابقة للحكمة، ومفعولاته حقّ ؛ أي متحقّقة وكائنة بعلم الله وحكمته ؛ ولهذا كانت مشتملةً على الحكمة، وآيلة لها.
وقال تعالى في آية أخرى:{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } ( الأنعام: 73)؛ فالحق سابق لخلقها، ومقارن له، وغاية له ؛ ولهذا أتى بالباء الدالّة على هذا المعنى دون اللام المفيدة للغاية ليس غير ؛ والحقّ السّابق للخلق صدورها عن علم الله وحكمته ؛ ولهذا كانت كلّها حقًّا، أي متقنة، مطابقة للحكمة، لا نقص فيها ولا خلل.
ومثل ذلك قوله تعالى:{ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } ( النّمل: 88)، وقوله:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ( السّجدة: 7)، وقوله:{ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } ( الملك: 3)، فهذا الإحكام والإتقان هو الحقّ المقارن للمخلوقات ؛ ولهذا كانت أدلّة وبراهين على أصول الإيمان ؛ لتقود النّاس للحقّ الغائي؛ وهو معرفة الربّ وعبادته، وإنجاز وعد الله لمن أطاعه، وإنفاذ وعيده فيمن عصاه.
قال بعض الحاضرين: فما الأسماء المشيرة إلى هذه المعاني التي ذكرتها؟
قال مؤمن الطاق: كل أسماء الله تشير إلى ذلك.. كاسم الحميد، والرّشيد، والجميل.. فهذه الأسماء الثلاثة تدلّ على كمال ذات الربّ وصفاته ؛ وأنّ له من الأفعال أجملها، وأرشدها، وأحمدها، وهذا يحيل أن يكون في شيء من أفعال الله ـ تعالى ـ عبث أو سفه.
وكاسم الحقّ والحكيم ففيهما دلالة واضحة على نفي العبث في الخلق، واستحالته.
قالوا: وعينا هذا.. فحدثنا عن السابع.. حدثنا عن تنزه الله عن الضرر.
قال: الإضرار بالخلق يتنافى مع كمال الله وعظمته وجلاله..
قاطعه رجل من الحاضرين، وقال: كيف تقول هذا، ونحن نجد من أسماء الله الحسنى اسم (الضار)؟
قال مؤمن الطاق: الضار النافع.. لا الضار وحده.
قال الرجل: وما الفرق بينهما؟
قال مؤمن الطاق: ما الفرق بين الجراح الجارح.. والجارح وحده؟
قال الرجل: الفرق عظيم.. فالجراح لا يجرح إلا لينفع.. بينما الجارح وحده قد يجرح للضرر المجرد.
قال مؤمن الطاق: فهكذا هذا الاسم.. فهو اسم مقترن مقترن بالنافع لا يجوز فصله عنه.. فقد ذكر العلماء أن الأسماء المقترنة أو المزدوجة لا يجوز أن تطلق على الربّ مفردةً ؛ لأنّها تجري مجرى الاسم الواحد الَّذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض ؛ فالمانع يجب أن يقرن بالمعطي، وهكذا الضارّ بالنّافع، والمذلّ بالمعزّ، والمحيي بالمميت ؛ وذلك لأنّ هذه الأسماء لا تدلّ على الحسن والعلوّ المطلق إلاّ إذا قرن كلّ اسم بمقابله ؛ وحينئذٍ تفيد الثّناء على الربّ بمعاني الرّبوبيّة، وكمال التصرّف في الخلق ؛ عطاءً ومنعًا، ونفعًا وضرًّا، وإحياءً وإماتةً.
قال الرجل: هلا زدتنا توضيحا؟
قال مؤمن الطاق([46]): من أسماء الله تعالى ما يسمى به مطلقاً من غير قيد، وهي الأسماء المشتقة الدالة على معاني الجلال والكمال والجمال والكمال مثل: الرزاق، الخالق، الباريء، المصور، العزيز، الحكيم، الرحمن، الرحيم، السميع، البصير، القوي.. فهذه كلها أسماء تطلق على الله تعالى من غير قيد أو شرط.
أما النوع الثاني من الأسماء، فمايطلق على الله تعالى مقيدا، ومن القيود ما يسميه العلماء قيد المقابلة والجزاء، ومن ذلك قوله تعالى:{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (الأنفال: 30)، فمكر الله تعالى بهم لما مكروا.. فلا يجوز أن يؤخذ منها أسماء مطلقة، فنقول: إن من أسماء الله تعالى الماكر أو المكَّار.. هذا ليس من أسماء الله تعالى ولا يجوز أن نسمي الله تعالى بشيء من ذلك.
و كذلك الأسماء التي قد يتوهم فيها أو منها العجز أو النقص أو العيب فالله تعالى منزه عنها.. انظر في قول الله تعالى:{ وَإِن يُّرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ }(الأنفال:71)، فلم يقل الله تعالى:(وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فخانهم الله)، لم يقل هذا، لأن الخيانة خدعة في مقام الائتمان، والخيانة من صفات المنافقين والله تعالى يتنزه أن يصف نفسه بصفة من صفات المنافقين، ولا يسمي نفسه أبداً باسم من أسماء المنافقين.
قال رجل من الحاضرين: لا بأس.. ولكن ما تقول في اسم (المنتقم).. فنحن نجده في تعداد أسماء الله الحسنى؟
قال مؤمن الطاق: لا.. لم يصح اعتبار هذا اسما.. فلا تسم الله بما لم يسم به نفسه.
قال الرجل: وما تقول في الرواية الواردة به؟
قال مؤمن الطاق: لا شك أنكم تعلمون أنّ الرواية التي ورد فيها ذكر أسماء الله الحسنى من إدراج بعض الرواة، وليست من كلام النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.. لقد قال الصنعاني في ذلك: (اتّفق الحفّاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة)، وقال ابن تَيْمِيَّة: (اسم المنتقم ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النَّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم)
قال الرجل: ولكن الله تعالى قال:{ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا } ( الرّوم: 47)، وقال:{ فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } ( الزّخرف: 55)
قال مؤمن الطاق: الانتقام هنا بمعنى العقاب.. وقد قيده الله بهؤلاء المجرمين.. فلا يصح اعتباره اسما لأجل هذا.
قال رجل من الحاضرين: فما تقول في خلق الله للشر؟
قال مؤمن الطاق: المؤمن يتأدب مع الله تعالى، فلا ينسب إليه الشر بحال من الأحوال.. فليس من الله إلا الخير، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:( لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِى يديك، والشر ليس إليك)([47])
فهذا النفى يقتضى امتناع إضافة الشر إليه تعالى.. فلا يضاف إلى ذاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته تعالى منزهة عن كل شر، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك أبدا، وهو المحمود على ذلك كله فيستحيل إضافة الشر إليه ([48]).
ولهذا ينزه الله تعالى في الأسلوب القرآني من نسبة الشر إليه، فالطريقة المعهودة في القرآن الكريم هي نسبة أفعال الإحسان والرحمة والجود إلى الله تعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه، ولا يبني الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم:
ومنها قوله تعالى:{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (الفاتحة:7)، فإنه تعالى ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضب حذف الفاعل، وبنى الفعل للمفعول، فقال:{ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (، وقال في الإحسان:{ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (
ومنها قول إبراهيم الخليل u:{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء:78 ـ80)، فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى، ولما جاء إلى ذكر المرض نسبه إلى نفسه، ولم يقل:( أمرضني) وقال:{ فَهُوَ يَشْفِينِ (
ومنه قول الخضر u في السفينة:{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} (الكهف:79)، فأضاف العيب إلى نفسه، وقال في الغلامين:{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّك} (الكهف: من الآية82) فأضاف الإرادة إلى الله.
ولهذا ليس من أسماء الله الحسنى أي اسم يتضمن الشر، وإنما يذكر الشر فى مفعولاته كقوله تعالى:{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الحجر:49)، وقال بعدها:{ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (الحجر:50)، ومثل ذلك قوله تعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (المائدة:98)
ولذلك نفى المحققون من العلماء – كما ذكرنا – صحة تسمية الله تعالى باسم ( المنتقم)، فهو ليس من أسماء الله الحسنى الثابتة عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما جاء في القرآن مقيدا، كقوله تعالى:{ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (السجدة: من الآية22)، وقوله:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (آل عمران: من الآية4)
أما الحديث الذي في عدد الأسماء اللحسنى الذى يذكر فيه المنتقم – إن صح- فقد ذكر في سياقه البر التواب المنتقم العفو الرؤوف، زيادة على أن الصحيح أنه ليس من كلام النبى صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الرجل: لا بأس.. سلمت لك بهذا.. ولكن مع ذلك بما أن الضرر والشر موجودان.. فلا بد لهما من موجد.. وبما أن الله موجد كل شيء.. فالله هو موجدهما([49]).
قال مؤمن الطاق: إن الشر المحض يستحيل وجوده في هذا الكون.. لأن كل ما نتوهمه أو نراه شرا قد يكون خيرا متلبسا بصورة شر، أو شرا انحرف عن مساره مع بقاء أصل الخيرية فيه.
ولهذا خلق الله تعالى ما نراه من الدواب الشريرة، أوالأفعال التي هي شر لما يترتب على خلقها من الخير المحبوب، فلم يخلق لمجرد الشر الذي لا يستلزم خيرا بوجه ما.
فالخير هو المقصود من الخلق، والشر إنما قصد قصد الوسائل والمبادئ لا قصد الغايات والنهايات، فإذا حصلت الغاية المقصودة بخلقه بطل وزال، كما تبطل الوسائل عند الانتهاء إلى غاياتها كما هو معلوم بالحس والعقل.
قال الرجل: فما تقول في تعذيب الله للمجرمين والظالمين.. أليس في ذلك ضرر بهم؟
قال مؤمن الطاق: لا.. يستحيل على الله أن يريد الضرر بعباده..
قال الرجل: ولكن النصوص كلها تخبر بذلك.
قال مؤمن الطاق: صدق ربنا ونبينا..
قال الرجل: فكيف توفق بين ما ذكرت وما ذكرت النصوص المقدسة؟
قال مؤمن الطاق: لقد ذكرت النصوص المقدسة السر من وراء ذلك العذاب الذي يصيب المجرمين.. لقد ورد فيها ما يدل على تأثير البلاء في تطهير الفطرة وتقويمها، كما قال تعالى:{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (السجدة:21)، فأخبر تعالى أنه يعذبهم رحمة بهم ليردهم العذاب إليه كما يعذب الأب الشفيق ولده إذا فر منه إلى عدوه ليرجع إلى بره وكرامته.
وبين الله تعالى سنته في ذلك بقوله تعالى:{ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (النساء:147)
وهذه الآية ـ التي جمعت قانون الله في الثواب والعقاب ـ دليل على أن الحكمة تقتضي كون العذاب مصلحة مؤقتة تقتضيها الرحمة المقترنة بالحكمة.
لقد قال سيد قطب معلقا على هذا مبينا جمال هذه السنة مقارنة بما تحفل به الديانات الأخرى من وثنية:( وأخيرا تجيء تلك اللمسة العجيبة، الموحية المؤثرة العميقة.. أخيرا بعد ذكر العقاب المفزع، والأجر العظيم.. لتشعر قلوب البشر أن الله في غنى عن عذاب العباد.. فما به – سبحانه – من نقمة ذاتية عليهم يصب عليهم من أجلها العذاب. وما به – سبحانه – من حاجة لإظهار سلطانه وقوته عن هذا الطريق. وما به – سبحانه – من رغبة ذاتية في عذاب الناس كما تحفل أساطير الوثنية كلها بمثل هذه التصورات.. وإنما هو صلاح العباد بالإيمان والشكر لله.. مع تحبيبهم في الإيمان والشكر لله.. وهو الذي يشكر صالح العمل ويعلم خبايا النفوس) ([50])
ومن النصوص الدالة على هذا المعنى كذلك قوله تعالى:{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (التوبة: من الآية120)، فقد أخبر تعالى أن يكتب لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً.
ومنها قوله تعالى:{ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } (آل عمران:141)، فأخبر تعالى أن ألم القتل والجراح في سبيله تمحيص وتطهير وتصفية للمؤمنين.
وينص على هذا المعنى قوله تعالى:{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} (الشورى)، وفي هذا تبشير وتحذير، تبشير بالتطهير من الذنوب بالمصائب، وتحذير بالمصائب من المعاصي، فالعدل يقتضي الجزاء، والرحمة تقتضي التطهير.
قال الرجل: فلماذا لا يغفر الله للعاصين مباشرة، ويدخلون الجنة من غير مقاساة للعذاب، فتغلب الرحمة الغضب؟
قال مؤمن الطاق: إن العدل الإلهي يقتضي المجازاة، كما أن الرحمة الإلهية تقتضي الإحسان، فكان الجمع بينهما، هو إصلاح هذه النفوس لتصلح بعدها للرحمة الإلهية.
***
التفت إلينا صاحبنا (فريدريك ماكس مولر)، وقال: هذا حديثي في تلك البلدة المعطرة بعطر الإيمان.. ومع أولئك العلماء والصالحين.. لقد عشت في صحبتهم أياما جميلة.. لكن كلاليب الدنيا سرعان ما جذبتني، فنسيت تلك الأيام.. ونسيت معها تلك المعاني..
لقد بعتها جميعا بثمن بخس حقير..
ولكن الله الرحمن الرحيم تداركني بلطفه، فأعاد إلى ذاكرتي
الساعة تلك الأيام الجميلة التي نعمت فيها بتلك الصحبة الشريفة..
([1]) أشير به إلى (فريدريك ماكس مولر) (1823 – 1900م)، وهو عالم ألماني اهتم بصفة خاصة باللغة السنسكريتية الهندية القديمة.. أسهم في الدراسة المقارنة في مجالات اللغة والدين وعلم الأساطير على الرغم من أن علماء العصر الحديث قد نبذوا الكثير من نظرياته.
كان أهم أعماله أول إصدار باللغة الإنجليزية من ريك ـ فيدا، وهو أقدم كتاب هندوسي مقدس.. نشر في ستة مجلدات بين عامي 1849م و 1873م، كما حرر كتب الشرق المقدسة، الذي يضم في 51 مجلداً ترجمات دارسين مختلفين لنصوص كل الديانات الآسيوية الرئيسية فيما عدا النصرانية واليهودية.. ونشر أول هذه الكتب في عام 1875م. (الموسوعة العربية العالمية)
([2]) من المصادر المهمة التي رجعت إليها لذكر التفاصيل المرتبطة بالتصورات المختلفة للأديان والمذاهب عن (الله) كتاب (الله) للعقاد، فهو من أحسن ما ألف من الكتب في هذا الباب.
([3]) نذكر هنا ما ذكره العقاد من التصورات الدينية والتي كانت منتشرة بين العامة، ولها كانت تقام المعابد.. أما التصورات الفلسفية، فلها محلها الخاص.. وهي على العموم أفضل بكثير من الاعتقادات العامة.
([4]) يذكر العقاد أن قصة الخليقة في الهند تشبه قصة الخليقة المصرية في أكثر من صيغة واحدة من صيغها العديدة: فالحياة خرجت من بيضة (ذهبية) كانت تطفو علي الماء في العماء ، والإله الأكبر كان ذكرا وأنثي فهو الأب والأم للأحياء كما جاء عن (رع) في بعض الأساطير المصرية، وبناء العالم من صنع بناء ماهر في أساطير مصر والهند علي السواء ، وتتفق مصر وبابل والهند علي الإله الأكبر قد خلق الأرض بكلمة ساحرة.. فأمرها بأن توجد فبرزت علي الفور إلي حيز الوجود. (الله، للعقاد)
([5]) هذا ما عبر به العقاد.. ويعبر به علماء مقارنة الأديان عادة عند بحثهم في تاريخ الأديان.. ونحن نرى أن الأمر ليس خاضعا للتطور المتوهم.. وإنما هو خاضع لتأثير رسل الله والدعاة إليه، كما قال تعالى:﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر:24)
([6]) انتقد العقاد الدراسات الأوروربية التي استلهم منها، قال: (علينا أن نحترس من مغالاة الشراح الأوربيين بهذه الفلسفة البوذية. لأنهم يتعصبون لكل منسوب إلي الآرية علي اعتبارها عنصر الأوربيين الأقدمين والمعاصرين، فقد رفعوها فوق قدرها بلا مراء ، وزعمواأنها (جرأة العقل الكبري) في مواجهة المشكلة الكونية ، وأنها الخطوة المقتحمة التي لم يذهب وراءها ذو عقيدة في مطاوح التأمل والإقدام)
وقد رد على هذا بقوله: (لكنها لا تحسب من الجرأة العقلية بوصف من الأوصاف ، فما هي إلا جرأة حسية في أقصي ما تطوحت إليه من الفروض والأظانين ، وما البوذية كلها إلا تململا من وطأة الحس والجسد، ولا سعادتها القسوي إلا ضيقا بالحس وهربا منه إلي الفناء أو (اللاوعي) علي أحسن تقدير.. والمحسوس عندها شامل للمعقول ، والكائن بحق الحس عندها شامل للكائن بحق العقل وحق الوعي وحق الذات.. والآلهة عندما تأتي في المرتبة التالية بعد مرتبة الأكوان وما ارتفعت الأكوان عندها إلي هذة المرتبة إلا بأنها هي المحسوس ، وهي أول ما يفاجئنا قبل أن نفكر وقبل أن نتأمل وقبل أن ندين باعتقاد)
([7]) هذا ما ذكره العقاد في كتابه (الله) بناء على دراسات الغربيين.. ونحن نرى أن في هذا تجديفا خطيرا.. فالأدلة الكثيرة تشير إلى أن زراشت كان موحدا.. وقد رجحنا كونه كذلك بناء على ما ورد من النصوص عن السلف الصالح..
وقد قال ابن حزم بهذا، فقد جاء في الفصل: (أما زرادشت فقد قال كثير من المسلمين بنبوته) (الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/90)
ثم عقب على ذلك بقوله: (ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله a لمن صحت عنه معجزة، قال تعالى:﴿ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ((فاطر:24)، وقال:﴿ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ((النساء:164)
ثم بين أن الذي ينسب إليه المجوس من الأكذوبات باطل مفترى منهم، واستدل على ذلك بالتحريفات الواقعة في الديانات المختلفة،، ثم بين قاعدة جليلة في ذلك فقال:( وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها، وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف مضمون فيهما، وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كان طول مدة دولتهم عند المؤبذ، وعند ثلاثة وعشرين هربذا، لكل هربذ سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم، ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم، ثم دخل فيه الخرم بإحراق الإسكندر لكتابهم أيام غلبته لدارا بن دارا، وهم مقرون بلا خلاف منهم أنه ذهب منه مقدار الثلث ذكر ذلك بشير الناسك وغيره من علمائهم)
ونفس ما دفع به ابن حزم عن زرادشت ما نسبه إليه المجوس ذكره غيره من العلماء، قال الباقلاني: (وكذلك الجواب عن المطالبة بصحة أعلام زرادشت إما أن نقول إنها في الأصل مأخوذة عن آحاد، لأن العلم بصدقهم غير واقع لنا، أو نقول إنه نبي صادق ظهرت على يده الأعلام، ودعا إلى نبوة نوح وإبراهيم، وإنما كذبت المجوس عليه في إضافة ما أضافته إليه من القول بالتثنية وقدم النور والظلام وحدوث الشيطان من فكرة وشكة شكها بعض أشخاص النور، وهو بمنزلة كذب النصارى على المسيح u من دعائه إلى اعتقاد التثليث والاتحاد والاختلاط، وأن مريم ولدت مسيحا بلاهوته دون ناسوته وغير ذلك) (تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل:203)
وقد ذكر ابن حزم أن هذا القول ليس بدعة للمتأخرين، بل أن من السلف من قال بذلك، قال:( وممن قال أن المجوس أهل كتاب علي بن أبي طالب وحذيفة هما، وسعيد بن المسيب وقتادة وأبو ثور وجمهور أصحاب أهل الظاهر، وقد بينا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى الإيصال في كتاب الجهاد منه وفي كتاب الذبائح منه وفي كتاب النكاح منه) (الفصل في الملل والأهواء والنحل:1/90)، ثم قال:( ويكفي من ذلك صحة أخذ رسول الله a الجزية منهم، وقد حرم الله عز وجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير كتابي)
([8]) عبد الوهاب المسيري (1938-2008) مؤلف موسوعة اليهود و اليهودية والصهيونية، وهي أحد أهم الأعمال الموسوعية العربية في القرن العشرين.. استطاع من خلالها إعطاء نظرة جديدة موسوعية موضوعية علمية للظاهرة اليهودية بشكل خاص، و تجربة الحداثة الغربية بشكل عام، مستخدماً ما طوره أثناء حياته الأكاديمية من تطوير مفهوم النماذج التفسيرية.
([9]) انظر مادة (إله) من موسوعة اليهودية، للمسيري.
([10]) حسبما ينص الكتاب المقدس.. أما القرآن الكريم فهو يبرئ هارون u ، وينسب العبادة للسامري.
([11])أشير به إلى (محمود شلتوت) (1893 – 1963)، وهو شيخ الجامع الأزهر من (1958 – 1963م)،
وقد سعى جاهداً مخلصا للتقريب بين المذاهب الإسلامية.. ولأجل ذلك اخترناه في هذا المحل.
([12]) رواه البيهقي في الدلائل وغيره.
([13]) رواه أحمد والبيهقي.
([14]) رواه البيهقي.
([15]) (القدوس) مشتق في اللغة من (التقديس)، ويعني في اللغة التطهير، ومنه سميت الجنة حظيرة القدس كما ورد في الحديث أن رسول الله a قال عن رب العزة: ( من ترك الخمر وهو يقدر عليه لأسقينه منه في حظيرة القدس، ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه لأكسونه إياه في حظيرة القدس)( رواه البزار)، ومن ذاك تسمية جبريل – عليه السلام – روح القدس قال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾(النحل:102)
والقداسة تعني الطهر والبركة، وقدس الرجل ربه أي عظمه وكبره، وطهر نفسه بتوحيده وعبادته، ومحبته وطاعته , ومن ذلك قول الملائكة: ﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾(البقرة:30)، فالقدوس يعني المطهر المنزه عن كل نقص المتصف بكل أنواع الكمال (انظر: لسان العرب 6/168، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص94، والمقصد الأسنى ص65، وغيرها)
([16]) رواه مسلم.
([17])انظر: نهج البلاغة ج 1 ص 164.
([18]) أشير به إلى ابن طاووس ( ت 673 هـ)، وهو جمال الدين أبو الفضائل أحمد بن موسى الحسني، الحلّي، كان من أكابر فقهاء الاِمامية ومجتهديهم، عالماً بالحديث ورجاله، متكلّماً، أديباً، شاعراً مجيداً، مصنّفاً. وهو أوّل من قسّم ـ من علماء الاِمامية ـ الحديث إلى الاَقسام الاَربعة المشهورة: صحيح وموثّق وحسن وضعيف.
([19]) استفدنا الكثير من المعلومات الواردة في هذا الفصل من كتاب (دلالة الأسماء الحسنى على التّنزيه)، إعداد: د / عيسى بن عبد الله السّعدي، كليّة التربية بالطائف / قسم الدراسات الإسلاميّة.
([20]) للأسف نجد الكثير من المصنفات ترمي الكثير من العلماء والصالحين بالتشبيه مع انعدام البينة.. بينما تدافع على من شاءت الدفاع عنه، وترمي نفس المراجع التي استفادت منها تلك المعلومات بأنها مراجع غير موثوقة..
وكمثال على ذلك الدفاع عن مقاتل بن سليمان مع أنه رمي بالتشبيه في تلك المراجع التي رمي فيها غيره.. فقد قال ابن تيمية مدافعا عنه:(أمّا مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله ، والأشعريّ ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة ، وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان ؛ فلعلّهم زادوا في النّقل عنه ، أو نقلوا عنه ، أو نقلوا عن غير ثقة ، وإلاّ فما أظنّه يصل إلى هذا الحدّ!)
ونحن نقول تعليقا على هذا: لم لا ينتهج هذا المنهج مع سائر العلماء والفرق؟.. ولم لا تكون البينة الصحيحة هي الدليل لا مجرد النقل؟.. ولم لا يترك المجال للآخرين ليدافعوا عن أئمتهم وعلمائهم ما دام الأمر بهذه الصفة؟.. ولم لا يقال بأن للتأثير السياسي والمذهبي دوره في بيان مقولات الفرق والمذاهب، وخاصة منها من لم يترك أثرا من كتاب أو أتباع؟
([21]) روي ذلك عن ابن عبّاس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن جريج ، وغيرهم.
([22]) اسم الواحد مقارب لاسم الأحد ، وقد فرّق ابن الأثير بينهما من وجهين:
الأول: أنّ الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد ؛ فهو يقع على المذكّر والمؤنّث ؛ يقال: ما جاءني أحد ؛ أي ذكر ولا أنثى، وأمّا الواحد فإنّه وضع لمفتتح العدد ، تقول: جاءني واحد من النّاس ، ولا تقول فيه: جاءني أحد من النّاس.
الثاني: أنّ الواحد يفيد الانفراد بالذات؛ لأنّه بني على انقطاع النّظير والمثل ، والأحد يفيد الانفراد بالمعاني ؛ لأنّه بني على الانفراد والوحدة عن الأصحاب..
([23]) ويحتمل أن يفسّر بما يعمّ النّقائص والعيوب؛ أي المتعالي عن مماثلة الخلق في ذواتهم وصفاتهم ، وعن جميع النّقائص والعيوب؛ فيكون من أسماء التّمجيد المستوعبة لجميع معاني التّقديس ، ويدخل بالتالي ضمن أسماء التّنزيه المطلق ؛ كالصّمد ، والمجيد ، والعليّ.
([24]) أشير به إلى أبي بكر بن خزيمة (223 – 311هـ) السُلمي، النيسابوري الشافعي، صاحب التصانيف، أحد أبرز علماء الحديث.من مؤلفاته: التوحيد وإثبات صفة الرب؛ ولا يخفى سر اختيارنا له هنا.
([25]) والعلم الحديث أثبت ذلك الآن.. فمع تعدد أفراد العالم المادي في هذه النشأة إلا أنه مركب جميعا من مركبات واحدة محصورة.
([26]) وهذا بعينه ما تنص عليه النظرية النسبية من اعتبار الزمان بعدا رابعا متمما لسائر الأبعاد.
([27]) ذكر الفخر الرازي البرهان على هذا في تفسير معنى (الأول)، فقال: (وأما التقدم الزماني فباطل ، لأن الزمان أيضاً ممكن ومحدث ، أما أولاً فلما بينا أن واجب الوجود لا يكون أكثر من واحد ، وأما ثانياً فلأن أمارة الإمكان والحدوث فيه أظهر كما في غيره لأن جميع أجزائه متعاقبة ، وكل ما وجد بعد العدم وعدم بعد الوجود فلا شك أنه ممكن المحدث ، وإذا كان جميع أجزاء الزمان ممكناً ومحدثاً والكل متقوم بالأجزاء فالمفتقر إلى الممكن المحدث أولى بالإمكان والحدوث ، فإذن الزمان بمجموعه وبأجزائه ممكن ومحدث ، فتقدم موجده عليه لا يكون بالزمان ، لأن المتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان ، وإلا فيلزم في ذلك الزمان أن يكون داخلاً في مجموع الأزمنة لأنه زمان ، وأن يكون خارجاً عنها لأنه ظرفها ، والظرف مغاير للمظروف لا محال ، لكن كون الشيء الواحد داخلاً في شيء وخارجاً عنه محال ، وأما ثالثاً فلأن الزمان ماهيته تقتضي السيلان والتجدد ، وذلك يقتضي المسبوقية بالغير والأزل ينافي المسبوقية بالغير ، فالجمع بينهما محال ، فثبت أن تقدم الصانع على كل ما عداه ليس بالزمان ألبتة)
والعلم الحديث يؤكد هذا، فهو يذهب إلى أن الزمان كالمكان كلاهما حادث.
([28]) هذا الكلام المهم للفخر الرازي في التفسير الكبير.
([29]) هذه البراهين ذكرها الرازي في تفسيره.
([30]) مجمع البيان.
([31]) انظر: بحار الأنوار: (ج3 ص314 ب14 ح7)
([32]) لا نريد بالمعتزلي هنا الفرقة المعروفة.. إنما ذكرنا هذا هنا من باب السخرية من القضايا التي فرقت الأمة مع كونها لا تستحق كل ذلك العناء.
([33]) أشير هنا إلى مدرسة أهل الحديث والتي قعد قواعدها ابن تيمية وغيره، قد كنت ذكرت تفاصيل آرائها في الطبعة السابقة، لكني عدلت عن ذكرها هنا، لأنا شرطنا في هذه السلسلة الجديدة ألا نذكر إلا ما يتوافق فيه المنقول مع المعقول، وآراء أهل الحديث في هذه المسألة تصطدم مع كليهما.
([34]) أشير به إلى أبي جعفر الاَحول، الصيرفي، الكوفي، وهو حمد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي بالولاء (ت 160 هـ)، المتكلّم المناظر الفقيه الملقب بمؤَمن الطاق، أو (صاحب الطاق) ، وإنّما سمّي بالطاق لاَنّه كان صيرفياً في (طاق المحامل) من أسواق الكوفة.
وكان رأساً في العلم والعمل، ثقة، كبير الشأن.. صحب الاِمام جعفر الصادق، وأخذ عنه العلوم والمعارف، وروى عنه، كما عدّ من أصحاب الاِمام موسى الكاظم.
وكان من أحذق أصحاب الصادق، ومن أحبّ الناس إليه، وقد صحّ عنه أنّه كان يقول: (أربعة أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً: بُريد بن معاوية البجلي، وزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبو جعفر الاَحول)
كان أبو جعفر كثير العلم، متفوّقاً في معارفه، قوياً في حجته، تعددت فيه نواحي العبقرية والنبوغ، فهو عالم بالفقه والكلام والحديث، ذكره ابن النديم، فقال: (كان حسن الاعتقاد والهدي، حاذقاً في صناعة الكلام، سريع الخاطر والجواب)
وكان يتمتع بشخصية فذة، ذا فهم ثاقب وفطنة وذكاء، وكان معروفاً بعلم الكلام وقوة الحجّة، وكثرة المناظرة وخاصة في مسألة الاِمامة، حيث كان محبّاً لاَهل البيت منقطعاً إليهم، مجاهراً ـ برغم قسوة الظروف وجور الحكام ـ في القول بفضلهم، وكان يتفوّق دائماً في مناظراته لما عُرف به من سرعة الجواب، وقوة العارضة، وقد ذكر له ابن النديم والخطيب البغدادي وغيرهما عدة مناظرات، فمن أرادها فليرجع إلى كتبهم.
وننبه إلى أن بعض خصومه نسبوا إليه جملة من الاَقوال والآراء التي لا تليق بعقيدته وشأنه كزعمهم بأنّه كان من المشبهة، وانّه كان يقول: إنّ اللّه تعالى إنّما يعلم الاَشياء إذا قدرها، والتقدير عند الارادة، وللاِرادة فعل، إلى غير ذلك من المزاعم التي هو منها بريء، والتي لم تثبت.. وإنما ذكرناه هنا لأجل بيان فضله وتنزيهه مما نسب إليه.
([35]) السبع هنا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وهو ما جرينا عليه في (رسائل السلام) من دلالة السبع على المثال لا على الحصر، بخلاف الأربع التي اعتبرناها دالة على الحصر.
([36]) في ظلال القرآن.
([37]) انظر: التفسير الكبير للرازي.
([38]) انظر الجواب المفصل على هذا الإشكال في رسالة (أسرار الأقدار)
([39]) رواه البخاري ومسلم.
([40]) رواه الترمذي وغيره.
([41]) استفدنا الكثير من المعلومات الواردة هنا من كتاب (دلالة الأسماء الحسنى على التّنزيه)، إعداد: د / عيسى بن عبد الله السّعدي، كليّة التربية بالطائف / قسم الدراسات الإسلاميّة.
([42]) وهو في أحد التّفسيرين بمعنى الَّذي أمن عذابه من لا يستحقّه.
([43])رواه مسلم.
([44]) رواه مسلم.
([45]) مفردات القرآن.
([46]) انظر: شرح مقدمة القيروانى للشيخ أحمد النقيب.
([47]) رواه أحمد ومسلم.
([48]) انظر: طريق الهجرتين:166.
([49]) ذكرنا الردود على هذا النوع من الإشكالات بتفصيل في (أسرار الأقدار)
([50]) في ظلال القرآن: 2/786.