أولا ـ الله

بعد صمت طويل ممتلئ بالألم، قام أحدنا، وكان – على ما يبدو – أكبرنا سنا، وقال: سأحدثكم أنا عن بعض لحظات الصدق التي عشتها عساها تكون مقدمة لبحثنا عن الله.. بل لا يمكن لمعرفتنا بالله إلا أن تؤسس عليها.

في البداية أعرفكم بأن اسمي (آرثر شوبنهاور)([1]).. كنت في يوم من الأيام تلميذا من تلاميذ أكبر الملاحدة الذين عرفهم العالم.. فلذلك لم أكن أعرف الله، ولم أكن أؤمن بوجوده.

لقد امتدت بي هذه الحال أعواما طوالا.. كنت حينها أصيح بملء في ساخرا من المتدينين، أقول لهم عابثا أو ماجنا([2]): (أنتم تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لا بد لكل مخلوق من خالق.. ولا بد لكل صنعة من صانع.. ولا بد لكل موجود من موجد.. صدقت وآمنت.. ولكن أخبروني من خلق الله.. أم أنه جاء بذاته.. فإذا كان قد جاء بذاته، وصحّ في تصوركم أن يتم هذا الأمر.. فلماذا لا يصح في تصوركم ـ أيضاً ـ أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق، وينتهي بذلك الإشكال الذي تطرحونه)

كنت أقول هذا وأنا ممتلئ زهوا وفخرا، فتصفر من حولي الوجوه، وتنطلق الألسنة تمطرني باللعنات، وتتسابق إليّ أحيانا اللكمات.. أما أصحاب القلوب التقية فيكتفون بأن يستغفروا لي ويطلبون لي الهداية.. أما المتمردون، فيجدوني فرصتهم السانحة، فيجتمعون معي ويتزلفون إلي.

لست أدري هل كان ما أتفوه به هو حقيقة ما كان يملأ وجداني، أم أن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح، وإعجابي بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التي انفردت بها كان هو الحافز والمشجع والدافع.. لست أدري.. وإلى الآن لا أزال لا أدري.

لكن الذي أدريه هو أني رفضت التسليم بوجود الله لسبب واحد هو أني استغرقت في عبادة نفسي، وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة.

كانت هذه هي الحالة النفسية وراء المشهد الجدلي الذي كان يتكرر كل يوم..

لقد غاب عني حينها المنطق الذي كنت أدعيه.. فلم أدرك ـ بسبب عبوديتي لنفسي ـ أني أتناقض مع نفسي إذ كيف أعترف بالخالق، ثم أقول: ومن خلق الخالق، فأجعل منه مخلوقاً في الوقت الذي أسميه خالقاً، وهي السفسطة بعينها..

هذه بدايتي.. وقد  احتاج الأمر مني بعدها سنين طويلة من الغرق في الكتب، والغرق في التأمل، والحوار مع النفس، وإعادة النظر وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطريق الشائكة التي أيقنت من خلالها بوجود الله.

لم يكن الأمر سهلاً.. لأني لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذاً سهلاً.. فلو أني أصغيت إلى صوت الفطرة، وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل.. ولقادتني الفطرة إلى الله.. ولكنني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء، وضعف صوت الفطرة حتى صار همساً، وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغروراً واعتداداً..

لقد كنت أردد في تلك الفترة مع سميي (آرثر شوبنهاور) دعواه بأن الدين بما يحمله من العقيدة في الله هو من صنيعة البشر ابتكروه لتفسير ما هو مجهول لديهم من ظواهر طبيعية أو نفسية أو اجتماعية.. وأن الغرض منه لا يعدو تنظيم حياة مجموعة من الناس حسب مايراه مؤسس الدين مناسبا، وليس حسب الحاجات الحقيقية للناس الذين عن جهل قرروا بالالتزام بمجموعة من القيم البالية.

وكنت أردد مع كارل ماركس بأن الدين أفيون الشعوب.. فهو يجعل الشعب كسولا وغير مؤمن بقدراته في تغيير الواقع، وأن الدين تم استغلاله من قبل الطبقة البورجوازية لسحق طبقة البسطاء.

وكنت أردد مع سيغموند فرويد دعواه بأن الإله وهم كانت البشرية بحاجة إليه في بداياتها، وان فكرة وجود الاله هي محاولة من اللاوعي للوصول إلى الكمال في شخص مثل أعلى بديل لشخصية الأب.

كانت الصيحة التي غمرت العالم حينها هي.. العلم.. وليس إلا العلم.. ولا شيء غير العلم.

كان أكثر المثقفين يصيح: (لنرفض الغيبيات، ولنكف عن إطلاق البخور، وترديد الخرافات)

وكان كثير من العامة يردد: (من يعطينا الدبابات والطائرات ويأخذ منا الأديان والعبادات)

قام رجل من الجمع، وقال: لكأنك تتحدث عن الكثير منا.. كلنا ذلك الرجل.. كلنا قد بهرنا العلم.. وكلنا قد بهرتنا منجزات هذه الحضارة حتى انصرفنا انصرافا كليا عن الله..

والشأن ليس في أن تحدثنا عن هذا.. وإنما الشأن أن تحدثنا في كيفية خروجك منه.

قال آرثر: صدقت.. فما يجديكم أن تعرفوا ذلك الماضي المر الذي عشته.. ولذلك سأمر بكم إلى المسلك الذي أخرجني الله به من تلك الدوامة العنيفة التي كنت أتقلب فيها.

في يوم من الأيام.. ولست أدري السبب.. شعرت بنور يقذف في قلبي يدعوني إلى البحث عن الله([3]).. 

وقد ارتبط ذلك بظروف كثيرة جعلتني أراجع نفسي، وأراجع كل الأفكار التي كنت أحملها..

وقد رأيت بعد بحث طويل ومراجعات كثيرة أن وجود الله قضية يقينية لا تختلف في قوتها عن كل القضايا التي نسلم لها.. بل نرمي بالجنون والسفسطة من ينكرها.

لقد رأيت العلم والعقل جميعا يتظافران على الدلالة على وجود الله.. بل على الدلالة على أن وجود الله هو أعظم حقيقة في هذا الوجود.

1 ـ العلم

قال رجل منا: أليس العلم هو الذي صرفك عن الله.. فكيف تزعم أن العلم هو الذي دلك على الله؟

قال آرثر: لقد ذكرت لكم أني في الفترة التي تخليت فيها عن زهوي وكبريائي راجعت كل ما كنت أعرفه من معلومات كانت تحجبني عن الله.. فوجدت من يدلني على العلم الصحيح البديل الذي لا يدل إلا على الله([4]).

سأضرب لكم أمثلة على التطورات الكثيرة المتلاحقة التي قضت على كل ذلك الزهو الذي كان يملأ أقطار نفسي بسبب العلم الذي نلته من أساتذتي القدماء:

المادة:

وسأبدأ لكم حديثي بالنظريات المرتبطة بالمادة..

لقد كان النظام الذي تعلمته في الفيزياء هو نظام نيوتن([5]).. وقد تعلمت من هذا النظام ثلاث حقائق: المادة، والمكان، والزمان.

أما المادة، فقد رأيتها ـ حسب نظر نيوتن ـ مكونة من جسيمات كبيرة وصلبة ومتحركة وغير قابلة للاختراق وذات أحجام وأشكال مختلفة.. أما خواص المادة فقد عدد لي نيوتن منها: التمدد، والصلابة، واللااختراقية، والقصور الذاتى..

وكنت أوقن إلى جانب هذا ـ على حسب ما تعلمت من نيوتن ـ أن طبيعة هذه الجسيمات ـ أى الذرات ـ وخواصها ثابتة إلى الأبد.. وأن الذرة هي أصغر جسيم يمكن تصوره.

أما الزمان والمكان فكلاهما ـ ـ على حسب ما تعلمت من نيوتن ـ حقيقتان مطلقتان، وأنهما سيظلان كوجودين حتى لو فنيت كل الأشياء المادية فى الكون..

أما التغيرات الحاصلة للمادة، فقد قصرها لي نيوتن على مجرد عمليات انفصال هذه الجسيمات الثابتة، وعلى عمليات اتحادها وحركاتها الجديدة.

وفسر لي كيفية طروء التغيرات بأن القوانين الطبيعية تنظم حركة المادة في إطار الزمان والمكان المطلقين.

ووصف لي الهدف المثالي لنظامه قائلاً: (إن استخلاص مبدأين عامين أو ثلاثة مبادئ عامة للحركة من الظواهر، ثم إظهار كيفية انبثاق خواص ونشاط جميع الأشياء المادية من هذه المبادئ التي يكون قد تم استجلاؤها، سيمثلان خطوة كبيرة في ميدان الفلسفة)

لقد كنت شديد الإعجاب بكل هذه الحقائق التي تعلمتها من نيوتن.. ولم أكن فريدا في ذلك.. فقد حقق نظام نيوتن نجاحاً في العديد من المجالات، ولاسيما في مجالي الفيزياء والكيمياء، وتمت له الغلبة بشرحه ظواهر الحركة والحرارة والضوء والكهرباء.

ولكن هذا الإعجاب لم يتوقف عند المعاني التي طرحها نيوتن([6]).. فقد ولدت في تلك المعارف كما ولدت في كثير من العلماء الذين تتلمذت عليهم رغبة في توسيع نطاق هذا الأسلوب في الشرح بحيث يشمل جميع حقول المعرفة بما فيها علوم الأحياء والنفس والتاريخ والإقتصاد.

وقد أسفرت إمكانية الكشف عن أسرار جزء كبير من العالم الطبيعي، بافتراض وجود المادة وحدها عن دفع بعض العلماء تدريجيا إلى اعتبار المادة جزءا من الأسلوب العلمي ذاته، على نحو جعل الباحث العلمي، بصرف النظر عن معتقداته الشخصية، يمضي في حججه العلمية على أساس افتراض كون المادة وحدها هي الحقيقة، أو أنها، على الأقل، كل ما يمكن معرفته بطريقة علمية.

وقد كتب لهذا البرنامج البقاء وحقق بالفعل آمالاً كبيرة.. وكان لدى العلماء في القرن التاسع عشر كل ما يدعوهم إلى الإعتقاد بأن القرن العشرين سيكمل بناء هذا النظام، بل كان كثير من علماء الفيزياء يعتقدون أن دورهم في تقديم هذا التفسير قد اكتمل أساساً.

قال رجل منا: فهل خيب القرن العشرون ما كان يأمله علماء القرن التاسع عشر؟

قال آرثر: أجل.. فالاكتشافات الجديدة لم تكمل فيزياء نيوتن، بل أطاحت بها:

فقد هدم أينشتاين في عام 1905 ركنين أساسيين من أركان النظام القديم.. فنظرية النسبية الخاصة قادت علم الفيزياء إلى التخلى إلى الأبد عن فكرتي المكان المطلق والزمان المطلق.. ذلك أن أينشتاين أثبت أن علاقات المكان والزمان وقوانين الحركة لا يمكن تعريفها إلا بوصفها الموقف الشخصي للمراقب ولظروفه المادية..

أما السمات الأخرى لنظرية النسبية الخاصة، كتكافؤ المادة والطاقة، فهي في الواقع نتائج مترتبة على محورية المراقب.. وبفضل النسبية الخاصة أضحى المراقب ـ فجأة ـ جزءا أساسياً من عالم الفيزياء، ولم يعد في مقدور الباحث العلمي أن يعتبر نفسه متفرجاً حيادياً كما في نظام نيوتن.

ثم حدثت ثورة متشابهة في فيزياء الجسيمات، فقد أثبت إيرنست رزرفورد عام 1911 أن الذرة تتكون من نواة متناهية الصغر يحيط بها حشد من الإلكترونيات.

لقد حاول الفيزيائيون ـ حينها ـ أن يفسروا تركيب الذرة استناداً إلى فيزياء نيوتن، غير أن كل محاولة من محاولاتهم كانت تسفر عن تناقضات تبعث على الإحباط.. وقد أدى هذا الفشل إلى التخلى كلياً عن نظام نيوتن على المستوى الذري، وإلى التعجيل بتطوير (ميكانيكا الكم)([7]) في العشرينات من هذا القرن على أيدي علماء من أمثال نيلزبور وفيرنر هابزنبرغ، وبمجيء ميكانيكا الكم تضاعفت أهمية دور المراقب في النظرية الفيزيائية..

لقد قال الفيزيائي ماكس بورن([8]) يعبر عن ذلك: (لا يمكن وصف أي ظاهرة طبيعية في مجال الذرات إلا بالرجوع إلى المراقب رجوعاً لا إلى سرعته فحسب كما في حالة النسبية، بل إلى جميع أنشطته لدى قيامه بالمراقبة وبتركيب الآلات وما إلى ذلك)

وهكذا أصبحت أصغر جسيمات المادة غير قابلة للتعريف بمعزل عن خيارات وأفعال المراقب الذى هو ضرورى لا كشاهد فحسب، بل كمشارك أساسي.

وقد وصف فيغنر وجهة نظر النظام القديم فقال: (كان جل العلماء الطبيعيين إلى عهد غير بعيد، ينكرون بشدة وجود العقل أو الروح على أن النجاح الباهر الذي حققه علم الفيزياء الميكانيكية والعيانية بصورة أعم، وكذلك علم الكيمياء، قد حجب الواقع الجلي، ذلك الذي يقول أن الأفكار والرغبات والعواطف ليست من صنع المادة، وكان مقبولاً عند العلماء الطبيعيين على نحو يشبه الإجماع إن لاشيء هناك سوى المادة)

ونتيجة لهذا، فإن نظرية النسبية وميكانيكا الكم تمثلان خروجا مشتركاً بينهما على تفسير نيوتن بإدخالهما العقل في المعادلة.

وهكذا حلت الفيزياء في القرن العشرين تدريجياً محل المذاهب المادية بتأكيدها أن الفكر يقوم بدور جوهري في الكون، وأنه لأمر مثير حقاً أن يصدر هذا التأكيد عن علم الفيزياء.. فلو قدر للمادة أن تصادف نجاحاً في أي مكان لتوقع لها المرء أن تنجح في مجال دراسة المادة ذاتها.

العقل:

بعد أن انهار كل ذلك البنيان الذي كنت أبنيه على المادة.. وبعد أن عرفت حاجة المادة إلى العقل رحت أبحث عنه ([9])..

لقد كانت نظرتي البدائية إلى العقل في غاية البساطة والتفاهة.. وكانت مرتكزة على ذلك الأساس المادي الذي كنت أفسر به الكون جميعا..

لقد كنت أرى بأن جميع الأشياء الطبيعية تنشأ في نهاية المطاف عن تفاعلات بين جسيمات تتكون منها هذه الأشياء.. فالماء سائل لأن جزيئاته تنزلق بجانب بعضها بعضا بقليل من الاحتكاك.. والمطاط متمغط لأن جزيئاته بحكم مرونتها تغير شكلها بسهولة.. وهكذا قست الأمر على العقل.

وقد أكد لي هذا النظر أساتذتي الكبار الذي تتلمذت على أيديهم..

منهم عالم الأحياء الشهير توماس هـ. هكسلي([10]).. لقد علمني هذا الأستاذ أن الأفكار التي أعبر عنها بالنطق، إنما هي عبارة عن تغيرات جزيئية.. فخير طريقة للبحث في العقل هي إظهار كيفية انبثاق العقل من المادة.

لقد كنت أحمل مع هذه التصورات مفاهيم خاطئة عن العقل الإنساني.. فقد كنت أتصور أن العقل البشري لايستطيع أن يختار بحرية، لأن المادة لا تتصرف إلا بضرورة ميكانيكية.. ولهذا فقد كنت أميل إلى تفسير تصرفات الإنسان بلغة الغريزة، و(علم وظائف الأعضاء)، والكيمياء والفيزياء، لأنه لا مجال لحرية الاختيار.. فالتغيرات المادية هي التي تسبب الأفكار، لا العكس.

ومن المستلزمات التي نتجت عن هذه التصورات.. والتي كنت أوقن بها يقينا لا شك فيه هو أن لاشيء في الإنسان يمكن أن يبقى بعد الموت.. فإذا كان التفكير والإرادة نشاطين من أنشطة الدماغ، فليس هناك سبب يجعلنا نفترض أن هذين النشاطين يمكن أن يستمرا بعد فناء الدماغ.. وإذا كان كل جزء من أجزاء الإنسان مادة فلابد من أن يكون كل جزء منه عرضه للفناء.. فلا خلود إلا للمادة.

ومع كل هذا اليقين لم يكن لدي ولا لأي أحد من أساتذتي الكبار الذين لقنوني هذه التعاليم أي تفسير لكيفية انبثاق العقل من المادة..

لقد كان أساتذتي الكبار من علماء الفسيولوجيا يتوقعون أن يأتي المستقبل بالجواب.. ولكن الأيام والمراجعات لم تثبت صدق تبؤاتهم..

لقد جاءت البحوث الجديدة الكثيرة بكشوف رائعة عن الفسيولوجيا، ولكنها لم تكن بأي حال من النوع المتوقع.

لقد بدأت المراجعات بالسير تشارلز سرنغتون الذي يعتبر مؤسس فسيولوجيا الأعصاب الحديثة.. ونتيجة بحوثه الرائدة في الجهاز العصبي والدماغ خلص شرنغتون إلى هذه النتيجة التي عبر عنها بقوله: (هكذا ظهر فرق جذري بين الحياة والعقل، فالحياة هي مسألة كيمياء وفيزياء، أما العقل فهو يستعصي على الكيمياء والفيزياء)

لقد قصد شرنغتون بالحياة الإشارة إلى التغذية الذاتية، واستقلاب الخلايا والنمو، فهو يذكر أن هذه الظواهر تتم بواسطة قوانين الفيزياء والكيمياء، ويمكن تفسيرها بلغة هذين العلمين، أما أنشطة العقل فهي تتجاوز آليات الفيزياء والكيمياء.

وعلى هذا المنهج سار السير جون اكلس، المتخصص في مبحث الأعصاب، الذي عبر عن نتيجة أبحاثه بقوله: (التجارب التي تنم عن الوعي تختلف في نوعها كل الاختلاف عما يحدث في آلية الأعصاب، ومع ذلك فإن مايحدث في آلية الأعصاب شرط ضروري للتجربة، وإن كان هذا شرطاً غير كاف)

سأورد لكم مثالا يقرب ما يريد أن يقوله اكلس وشرنغتون..

أجيبوني.. ماذا يحدث، مثلا، عندما يرى أحدنا شجرة؟

قال رجل منا: تدخل أشعة الشمس المنعكسة من الشجرة في بؤبؤ العين، وتمر من خلال العدسة التي تركز صورة مقلوبة ومصغرة للشجرة على شبكة العين، فتحدث فيها تغيرات فيزيائية وكيميائية.

قال آرثر: فهل ترون هذا هو الإبصار؟

قال الرجل: هذا ما نعرفه عن الإبصار.

قال آرثر: لا.. ليس هذا هو الإبصار.. فلو سلطنا هذه الصورة على عين فاقد الوعي، فإنها ستحدث نفس التغيرات الفيزيائية والكيمائية، ومع ذلك لايبصر شيئا.. وبالمثل، تركز آلة التصوير على صورة ما، فيتعرض الفيلم الموجود في الآلة لتغيرات فيزيائية وكيميائية، ولكن آلة التصوير لاتبصر بالمعنى الحرفي في الألوان والأشكال التي تسجلها.

قال الرجل: فكيف تفسر الإبصار؟

قال آرثر: إذا أردنا أن نفسر الإبصار فنحن بحاجة إلى أكثر من ذلك.. فالشبكية – وهي صفحة من المستقبلات شديدة التراص – تبدأ حين ينشطها الضوء المنبعث من الشجرة بإرسال نبضات الى العصب البصري الذي ينقلها بدوره إلى قشرة الدماغ البصرية..

قاطعه الرجل، وقال: إن ما تذكره أيضا يفسر بلغة الفيزياء والكيمياء..

قال آرثر: أجل.. ولكن أين مكان اللون الأخضر من كل هذا؟ فالدماغ نفسه رمادي اللون أبيضه.. فكيف يستطيع أن يتلقى لونا جديداً دون أن يفقد لونه السابق؟.. وكيف يستطيع الدماغ أن يبصر الضوء إذا كان مغلقاً ومعزولاً تماما عن أي ضوء؟

إن الأمر يكون معقولا لو أننا  حين نوجه أبصرنا نحو الشجرة، لم نحس إلا بأزيز الكهرباء في أدمغتنا.. ولكن النشاط الكهربائي والكيميائي لأدمغتنا الذي يمكننا من الإبصار بطريقة ما لا نراه، وبدلا من ذلك نرى الألوان والأشكال والحركات والضوء، وكلها بأبعادها الثلاثة.. بل من العسير أن نتخيل كيف يمكن لأي من هذه الأشياء أن تنشأ عن المواد الكيميائية والكهرباء.

لقد عرفت من خلال هذا وغيره أن عالم الإحساس لا يتوقف على عالم الفيزياء والكيمياء.. بل يتوقف على عوالم أخر أكبر من أن نحيط بها..

سأقربها لكم بمثال.. أنتم تعلمون أن وجود كتاب ما يتوقف على عناصر الورق والصمغ والحبر التي يتكون منها، ومن دونها لا يمكن أن يوجد الكتاب.. ومع ذلك، فالكتاب لا يٌفهم فهماً كافياً بمجرد إجراء تحليل كيميائي للحبر ولألياف الورق.. حتى لو عرفنا طبيعة كل جزء من جزيئات الورق والحبر معرفة كاملة، فإن ذلك لايكشف لنا شيئا عن محتوى الكتاب.. فمحتوى الكتاب يشكل نظاماً أسمى يتجاوز عالم الفيزياء والكيمياء.

على هذا النهج يؤكد العلم في آخر تطوراته أن أحاسيسنا لا تتوقف على أعضاء الجسم، فلا يمكن حصر الأحاسيس في الخواص الفيزيائية والكيميائية للمادة.

بعد أن اقتنعت بكل هذا.. وبعد أن علمت أن الإدراك الحسى ليس هو المادة، ولا هو من خواص المادة، وليس فى مقدور المادة أن تفسره، رحت أبحث عن حقيقة العقل..

لقد بدأت ذلك بالبحث عن سائر الطاقات الحسية التي يستخدمها العقل..

أنتم تعلمون أن الإدراك الذي يعني (المعرفة أو الوعى) يبدأ بالإدراك الحسى.. فالحواس الخارجية هى الأساس الأول لكل المعارف الإنسانية ومصدرها.. ومن دون المعلومات الآتية من هذه الحواس لا يكون لدى الذاكرة أى شىء تتذكره، ولا للخيال أى شيء يتصوره، ولا للعقل أى شىء يفهمه.

وإلى جانب الحواس الخارجية نجد تحت تصرفنا مجموعة كبيرة من ملكات الإحساس الداخلى.. يدل على ذلك أننا نملك القدرة على المقارنة بين الإحساس بالبياض وبحلاوة الطعم مع عظم الفارق بينهما.. فالعين تدرك البياض، ولا تدرك الحلاوة، واللسان يدرك الحلاوة، ولا يدرك البياض، فلا اللسان ولا العين يستطيعان التمييز بين البياض والحلاوة، لأن أيا منهما لا يدرك الاثنين معا، وما من حاسة خارجية تستطيع أن تؤدى هذه المهمة.. فلذلك لا بد من أن تكون فينا حاسة داخلية تستطيع أن تدرك جميع الصفات التى تدركها الحواس الخارجية، وأن تميز بينها.

ونحن كذلك نملك القدرة على أن نستدعى أمورا لم تعد حاضرة، فعملية التذكر شىء حاضر بالفعل، ولكن الشىء الذى نتذكره ليس كذلك، إذ أن إدراكنا الحسى الأصلى قد زال على نحو ما، ولكنه مع ذلك تحت تصرفنا، فالذاكرة لا تستحضر التجربة الماضية فحسب، بل تستحضرها بوصفها حدثا ماضيا، وتستطيع ترتيبها من حيث صلتها بتجارب أخرى ماضية.. بل إن المدهش هو قدرتنا على أن نجعل أنفسنا نتذكر الشىء المنسى.

بالإضافة إلى كل هذا.. فالخيال ملكة حسية داخلية أخرى نستطيع بواسطتها أن نتصور لا الأشياء المدركة بالحواس فحسب، بل الأشياء التى لا تدركها هذه الحواس كجبل من ذهب أو فيل بحجم البرغوث، فالخيال، بخلاف الذاكرة، يستخدم المعلومات الواردة من الحواس الخارجية بحرية وبطريقة إبداعية.

بالإضافة إلى كل هذا، فلدينا على قدرات عجيبة على الإحساس بالعواطف، كالحب والغضب والفرح والخوف والأمل والرغبة والحزن، تربطنا بالعالم بطريقة أخرى مختلفة كذلك.. فكل عاطفة تنشأ من فعل ملكة حسية، سواء كانت حاسة خارجية كالخيال، أو الذاكرة.

بعد أن وصلت إلى كل هذا عرفت أني لم أصل بعد إلى عقل الإنسان.. فأكثر الحيوانات تمارس معظم القدرات المذكورة حتى الآن..

لقد قلت لنفسي: (إذا كان الإنسان أكثر من مجرد حيوان، فمن المحتوم أن تكون هناك قدرة خاصة تميزه من سائر الحيوانات الأخرى)

لقد دلني على هذا نظري في مراتب الأحياء:

لقد عرفت أن النباتات تحرك نفسها، ولكنها لا تدرى إلى أين تمضى.. وأن الحيوانات تدرك إلى أين تمضى، ولكنها لا تعرف السبب..

وقد دلني هذا على أنه ـ لإكمال مراتب الأحياء ـ لا بد من وجود مخلوقات لا تعرف فقط إلى أين تمضى، ولكن لماذا تمضى أيضا..

وقد عرفت من خلال تأمل بسيط أننا نحن البشر هم الذين نشكل هذه المخلوقات، والملكة التى تمكننا من فهم علل الأشياء تسمى العقل أو الفكر، وهى تسمى كذلك سلطان العقل، لأننا بواسطتها نتعرف على علل الأشياء، وما من قوة حسية تستطيع أن تؤدى هذه الوظيفة.. فاللسان، مثلا، يدلنا على أن البحر مالح، ولكنه لا يفسر لنا علة ملوحته.

والعقل كذلك يمكننا من إدراك ماهية الأشياء.. وهو أمر لا تستطيع الحواس القيام به، ولا ملكة الخيال ذاتها، فإذا حاولنا مثلا أن نتخيل ما هو الحيوان، فالصورة التى ترتسم فى أخيلتنا الحسية تختص بحيوان بعينه له صفات محددة من حيث الحجم والشكل واللون، ومن المستحيل تكوين صورة حسية لما يشترك فيه جميع الحيوانات، ومع ذلك فليس من المستحيل على العقل أن يفهم ما هو الحيوان.

بالإضافة إلى هذا الرقي الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان.. فإن هناك شيئا آخر لا يقل عن هذا أهمية.. إنه الإرادة.. فالحيوان يتبع حكم الإحساس والعاطفة، ولكن الإنسان يتمتع بقدرة على الاختيار وفقا لما يفهمه عقله.. فالأعمال الجريئة التي يقوم بها الإنسان تبرهن على أن الإرادة تفرض نفسها حتى على الخوف من الموت، فالعواطف تثيرها الحواس، ولكن الإرادة تختار وفقا لما يراه العقل.. بل إننا كثيرا ما نقول إن فلانا من الناس قد تغلب على عاطفته، لأنه كان عنده سبب وجيه للقيام بذلك.

بعد كل هذا.. وبعد أن ألغيت من عقلي كل تلك المفاهيم التي كانت تقيده، وتحمل صورة مشوهة عنه.. يسر الله لي أن أؤكد كل هذا بدليل حسي من خلال عمليات جراحية أجراها صديقي ويلدر بنفيلد([11]) على أدمغة ما يربو على ألف مريض فى حالة الوعى.

لقد كانت ملاحظات بنفيلد حول وظيفة الدماغ تفوق فى حجيتها وكمالها جميع الأدلة السابقة غير المباشرة المستفادة من بحوث أجريت على حيوانات، ومن عمليات جراحية أجريت على أدمغة أشخاص مبنجين.

لقد اكتشف بنفيلد عام 1993 بمحض الصدفة أن تنبيه مناطق معينه فى الدماغ بالكهرباء تنبيها خفيفا يحدث استرجاعا فجائيا للذاكرة عند المريض الواعى.

لقد ساورت بنفيلد الشكوك أول الأمر، ثم أخذته الدهشة، فعندما لامس القطب الكهربائى قشرة مخ شاب تذكر هذا الشاب أنه كان جالسا يشاهد لعبة (بيسبول) فى مدينة صغيرة، ويراقب ولدا صغير يزحف تحت السياج، ليلحق بجمهور المتفرجين، وهناك مريضة أخرى سمعت آلات موسيقية تعزف لحنا من الألحان.. لقد حدثني بنفيلد عن هذا الخبر، فقال:( أعدت تنبيه الموضع نفسه ثلاثين مرة محاولا تضليلها، وأمليت كل استجابة على كاتبه الاختزال، وكلما أعدت تنبيه الموضع كانت المريضة تسمع اللحن من جديد، وكان اللحن يبدأ فى المكان نفسه، ويستمر من اللازمة إلى مقطع الأغنية، وعندما دندنت، مصاحبة الموسيقا، كان إيقاعها يسير بالسرعة المتوقعة له)

لقد كان المرضى يحسون دائما بالدهشة لتذكر الماضى بمثل هذه التفاصيل الحية، ويفترضون على الفور أن الجراح هو المسؤول عن تنبيه الذاكرة التى ما كانت تتاح لولاه، وكان كل مريض يدرك أن التفاصيل هى من واقع تجاربه الماضية، وكان من الواضح أن الأشياء التى كان قد أولاها عنايته هى وحدها التى أودعها فى محفوظات دماغه.

وكان بنفيلد من وقت لآخر يحذر المريض أنه سينبه دماغه، ولكنه لا يفعل ذلك، وفى مثل هذه الحالات لم يكن المريض يذكر أى ردود فعل إطلاقا.

ونتيجة مراقبة مئات المرضى بهذه الطريقة انتهى بنفيلد إلى أن عقل المريض الذى يراقب الموقف بمثل هذه العزلة والطريقة النقدية لا بد من أن يكون شيئا آخر يختلف كليا عن فعل الأعصاب اللاإرادي، ومع أن مضمون الوعى يتوقف إلى حد كبير على النشاط، فالإدراك نفسه لا يتوقف على ذلك.

وباستخدام هذه الأساليب المراقبة استطاع بنفيلد أن يرسم خريطة كاملة تبين مناطق الدماغ المسؤولة عن النطق والحركة وجميع الحواس الداخلية والخارجية غير أنه لم يكن فى المستطاع تحديد موقع العقل أو الإرادة فى أى جزء من الدماغ، فالدماغ هو مقر الإحساس والذاكرة والعواطف والقدرة على الحركة، ولكنه ليس مقر العقل أو الإرادة.

لقد أعلن بنفيلد عن نتائج أبحاثه قائلا: (ليس فى قشرة الدماغ أى مكان يستطيع التنبيه الكهربائى فيه أن يجعل المريض يعتقد أو يقرر شيئا، والقطب الكهربائي يستطيع أن يثير الأحاسيس والذكريات غير أنه لا يقدر أن يجعل المريض يصطنع القياس المنطقى، أو يحل مسائل فى الجبر، بل إنه لا يستطيع أن يحدث فى الذهن أبسط عناصر الفكر المنطقى، والقطب الكهربائي يستطيع أن يجعل جسم المريض يتحرك، ولكنه لا يستطيع أن يجعله يريد تحريكه، إنه لا يستطيع أن يكره الإرادة، فواضح أذا أن العقل البشرى والإرادة البشرية ليس لها أعضاء جسدية)

قال رجل منا: لقد قدم بنفيلد بهذه الكشوف البرهان الحسي على شيء كان من المستحيل أن يبرهن عليه بالحس.

قال آرثر: عندما يتخلى العلم عن كبريائه لابد أن يصل إلى هذه النتائج.. لقد كان بنفيلد كما ذكرت لكم صديقا لي.. وكان يؤمن بكل ما كنت أؤمن به من النظرية المادية.. وعندما انطلق في أبحاثه لم يكن له من غرض إلا إثباتها.. لكن الحقيقة التي أراد محوها أبت إلا أن تظهر على يده.. لقد قال معبرا عن ذلك: (طوال حياتى العلمية سعيت جاهدا كغيرى من العلماء إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل)

الإنسان:

بعد أن عاد إلي عقلي الحقيقي.. عقلي الذي حجبني عنه العلم المغرور.. رحت أراجع تلك الأفكار الكثيرة التي كنت أحملها عن الإنسان.. والتي كانت تملؤه بالتشويه..

لقد كنت ـ قبل أن اكتشف عقلي ـ أعتقد أن المادة أساسية والعقل ثانوي.. ولذلك، فقد كنت أنظر نظرة زراية للعقل البشري في مقابل إعلاء لشأن الكون المادي اللامحدود واللاشخصي.. لقد كنت أقول كل حين: (من هو الإنسان.. إنه ليس شيئا إذا قيس بالأرض أو الشمس أو المجرة.. إنه تافه من حيث الحجم.. وغير ذي شأن من حيث القوة)

وكنت أقول كل حين: إن كوبرنيكوس([12]) قد خلع الإنسان المغرور عن عرشه في مركز الكون، وأن عليه أن يدرك أنه مخلوق بالغ الصغر يسكن كوكباً تافهاً يدور حول نجم لا شأن له.

لكني بعد أن راجعت ما تعلمته من علم متخلصا من رداء الكبرياء الذي كنت أتوشح به رأيت الإنسان أعظم بكثيرة من تلك الصورة المزرية الحقيرة التي كنت أحملها عنه، ويشاركني في حملها أولئك الذين انبهروا بالعلم ولم يتثبتوا فيه.

لقد تحدث ويلر عن جملة الأكوان، ولكنه يشير إلى أن عدداً صغيراً جداً منها كان يمكن أن يصلح للحياة، وبعد أن استعرض دايسن هذا النمط العريض ينتهي إلى أن ذلك يدل على غاية مستهدفة، لا على الصدفة، قائلاً: (كلما ازددت دراسة للكون وفحصاً لتفاصيل هندسية وجدت مزيداً من الأدلة على أن الكون كان يعرف بطريقة ما أننا قادمون). فبعض الظروف الضرورية للحياة كان قد ركب تركيباً في الانفجار العظيم منذ بداية البداية.

ويؤكد ويلر أنه (لم يظهر سبب واحد يفسر لماذا يكون لبعض الثوابت والظروف الأولية ما لها من القيم سوى أنه لولا ذلك لما تيسرت المراقبة كلما نعرفها)

 وهو تبعاً لذلك، يتساءل قائلا: (أليس من الأرجح أن نقول إنه ما من كون يمكن أن يبرز إلى حيز الوجود ما لم يكن مضموناً له أن ينتج لحياة والوعي والشهود في مكان ما ولمدة قصيرة من الزمن في تاريخه المقبل؟)

ويؤكد ويلر أن (ميكانيكا الكم قادتنا إلى أن نأخذ بجدية ونفحص وجهة النظر المعاكسة تماماً، وهي أن المراقب لازم لخلق الكون لزوم الكون نفسه لخلق المراقب)

 ومع أن الإنسان ليس مادياً فى مركز الكون فهو علي ما يظهر في مركز الغاية من خلقه([13])، وكما يقول إيرون شرود نفر، فالكون من دون الإنسان يكون أشبه بمسرحية تمثل في قاعة تخلو مقاعدها من جمهور المشاهدين.

والكون الذي يستهدف ظهور الإنسان يستلزم بداهة وجود عقل يوجهه، لأن المادة لا تستطيع من تلقاء نفسها أن تهدف إلى أي شيء..

ولهذا، فإن النظرة العلمية الدقيقة تقود مرة أخرى إلى الاعتقاد بوجود عقل يوجه الكون بأكمله وجميع نواميس الطبيعة وجميع خواص المادة إلى غاية..

وهذا يناقض تماما ما كنا ندعيه في ميكانيكا نيوتن وجميع الأجزاء الأخرى من الفيزياء الكلاسيكية التي صيغت على نسقها، والتي انطلقت من الافتراض القائل بأن المرء يستطيع أن يصف العالم من غير التحدث عن الله أو عن أنفسنا، أي عن عالم ليس وراءه عقل يدبره.. ولكن النظرة العلمية الدقيقة بينت أن العكس هو الصحيح في كلتا الحالتين.. فالانفجار العظيم والمبدأ الإنساني كلاهما يشير إلى وجود عقلين في كلا طرفي الكون.

الكون:

بعد أن عرفت الإنسان وقيمته.. رحت أبحث عن تصوراتي عن الكون.. فلا شك أن الأخطاء المنهجية التي كنت أحملها أثناء بحثي فيه قد تسربت إلى نظرتي إليه..

لقد وجدت تصوري البدائي للكون هو أنه مجرد كائن مادي عملاق لا غاية له..

وقد دعاني إلى هذه النظرة ما كان يسيطر علي من منطق المادية التي تنكر الغائية.. ولذلك فإن الكون في نظرها ليس سوى مادة، وبالتالي لا يمكن أن يكون في الأشياء الطبيعية أي هدف، لأن المادة لا تستطيع أن تقصد هدفاً أو ترسم خطة، بل هي تتصرف بضرورة ميكانيكية داخلية فحسب.

ولهذا، فإن التفسيرات العلمية تفرض على الباحث أن يقتصر على الأسباب المادية والميكانيكية فحسب.. فبيكون وديكارت كلاهما يستبعد من العلوم الطبيعية أي دعوة إلى الغائية([14]).. يقول بيكون: (إن مطلب الغائية يفسد العلوم بدلا من أن يرقى بها).. ويقول ديكارت: (كل ضروب الغائية لا قيمة لها في الأشياء المادية أو الطبيعية)

وانطلاقا من هذه النظرة.. فإنه لا مكان لله في مثل هذا الكون.. 

لقد سأل نابليون الرياضي والفلكي الشهير بيير سيموت لابلاس([15]) عن مكان الله في نظامه الميكانيكي الخاص بالأجرام السماوية، فأجابه بقوله: (يا سيدي لست بحاجة إلى هذا الافتراض)

لقد كان العلماء في ذلك الحين يحتجون لهذا بأن الكون آلة تدير نفسها بنفسها، وبالتالي لا تحتاج إلى أي سبب فوق الطبيعة.. وإذا كانت المادة أزلية فلا يبدو أن هناك حاجة إلى خالق.. وهكذا اعتبر الكثيرون أن الإلحاد أدنى إلى الصدق وأكثر اتساقاً مع العلم.

وفرويد كان أحد ممثلي هذا الموقف من الدين([16])، فهو يعلن أن (أديان البشر يجب أن تصنف باعتبارها وهماً من أوهام الجماهير، فالإنسان في الأديان إنما يبحث عن مهرب من الواقع)

ويتابع فرويد حديثه قائلاً: (إن الأفكار الدينية نشأت من ضرورة حماية الإنسان لنفسه من قوة الطبيعة المتفوقة والساحقة)

والناس في رأي فرويد يميلون إلى الاعتقاد بوجود أب وراء هذا الكون لأنهم، بوصفهم أطفالاً، بحاجة ماسة إلى رعاية أب، وهكذا فإن الإنسان هو الذي يخلق الله، لا العكس.

وانطلاقا من هذا تنبأ فرويد بأن هذه الطفولية مقدور لها أن تتجاوز بالتأكيد، ويتحتم على الإنسان أن يتحلى بالشجاعة للاعتراف بأنه وحيد في هذا الكون الفسيح واللاشخصي.

لم يدل على هذه النظرة ما ذكرته لكم من تصريحات فقط.. بل كانت نظرة سائدة لها ما ينشرها ويؤكدها في أذهان الجماهير.. ففي سنة 1875 كتب جون و. دريبر ـ وهو أول رئيس للجمعية الأمريكية لعلوم الكيمياء ـ كتابه الذي يحمل عنوان (تاريخ الصراع بين الدين والعلم).. وبعد ذلك بعشرين عاماً، أي في 1895، ألف أندرو د. وايت ـ وهو أول رئيس لجامعة كورنيل ـ كتابه (تاريخ المعركة بين العلم واللاهوت في المسيحية).. ويكفي عنوانا الكتابين دليلاً على الاتجاه السائد آنذاك.

في ذلك الحين كان أكثر الناس اعتدالا من ينتسبون إلى اللاأدرية (أو الغنوصية).. بل إن لفظة (لا أدرية) كانت من ابتكار عالم الأحياء توماس هكسلي في عام 1869.

كانت هذه هي نظرتي عندما كنت مزهوا بالعلم فانيا فيه..

لكني بعد أن ارتد إلي وعيي وصحوت من سكرتي رأيت أن الأمر مختلف تماما.. وأن الكون لا يحمل تلك الصورة المشوهة التي حملها العلماء الذين سكروا بما اكتشفوه من اكتشافات عن حقيقة العلم.

لقد قال عالم الفيزياء الفلكية دنيس شياماً يعبر عن النظرة الجديدة: (لعل أهم اكتشاف علمي من اكتشافات القرن العشرين هو أن الكون بأكمله، بوصفه كلية واحدة، قابل للبحث العقلاني باستخدام أساليب علمي الفيزياء الفلك)

لقد تيسرت هذا بمجيء نظرية النسبية العامة لأينشتاين، فهي ـ خلافاً لنظرية نيوتن في الفيزياء ـ قد جمعت بين الجاذبية والمكان والزمان.. يقول ويلر: (لقد علمنا أينشتاين أن المكان عنصر مشارك في الفيزياء، لا ميدان للفيزياء فحسب).. والأمر نفسه ينطبق على الزمان.

وعملية التوحيد هذه زودت الفيزيائيين للمرة الأولى بأدوات البحث المفصل في بنية الكون بأكمله وفي أصله ومآله.. فبعد نشر النسبية العامة رأينا الفلكي ويلم دي سيتر، والرياضي ألكساندر فريدمان يستنتجان كل على حدة، أن الكون آخذ في التمدد.

ثم جاءت إشارة ثانية من مجال الفيزياء النووية.. فقد كان كيميائيو القرن التاسع عشر يعرفون أن الشمس لا يمكن أن تحرق وقوداً تقليدياً.. فالاحتراق الكيميائي العادي لم يكن يصلح تفسيراً لطاقة الشمس، إذ لو كانت كتلة الشمس كلها فحماً لأحرقت نفسها في غضون ثلاثمائة عام..

وظلت الشمس لغزاً إلى حين اكتشاف الطاقة النووية في السنوات الأولى من القرن العشرين عندما تمكن الفيزيائيان هانز بيته، وكارل فون فايتزساكر في عام 1938 من تقديم تفسير كامل لكيفية إنتاج الشمس للطاقة من خلال تحول العناصر النووية.

وأخيراً، تقدم الفيزيائي جورح غاموف في عام 1948، بعد أن جمع الأدلة المستمدة من تباعد المجرات ومن دورة حياة النجوم، برأي مفاده أن الكون نفسه نشأ من تمدد بدئي للمادة أطلق عليه اسم (الانفجار العظيم)

لقد زودنا العلم من خلال هذه الكشوف الكثيرة أن عالمنا تولد في أعقاب تمدد هائل في المادة، وفي جزء من السكستليون (أي 6 على مليون) من الثانية.. بعد البداية كانت كل المادة الموجودة في الكون معبأة في مساحة أصغر كثيراً من الحيز الذي يشغله بروتون واحد.. وكانت الكثافة في تلك المرحلة تهول الخيال.. تصوروا أن الكواكب والنجوم والمجرات بكاملها، وكل المادة والطاقة في الكون كانت جميعها محتواة في حيز لا يكاد حجمه يعادل شيئاً.. وفي لحظة الصفر من بداية الزمن كانت الكثافة غير متناهية دون حدوث أي تمدد في المكان على الإطلاق.. وكانت تلك اللحظة لحظة بداية المكان والزمان والمادة..

لا ينبغي أن تتصوروا أن الانفجار العظيم أحدث تمدداً في المادة في مكان قائم بالفعل.. فالانفجار العظيم هو نفسه تمدد المكان.. وهذا يمكن أن يفهمه العقل، ولكن لا يمكن أن يتصوره الخيال.

عندما ظهرت هذه النظريات هب الكثير ممن لا زالوا سكارى العلم المتكبر.. ليتداركوا ما لقنه لهم أساتذتهم.. فراحوا يضعون نظريات بديلة في أصل الكون لاستنقاذ أزلية المادة..

لكن كل تلك النظريات باءت بالفشل.. وثبت علميا أن المادة ليست أزلية بالرغم من كل شيء.. هكذا أعلن عالم الفيزياء الفلكية جوزف سلك حين قال: (إن بداية الزمن أمر لا مناص منه)

وهكذا أعلن الفلكي روبرت جاسترو حين قال: (سلسلة الحوادث التي أدت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة)

لقد جعلني هذا أبحث عن إله يحكم هذا الكون.. فقد كانت كل الدلائل تدل عليه.. وصار كل العلماء الذين لقحوا أنفسهم ضد فيروس الكبر يعترفون به..

يقول الفيزيائي ادموند ويتيكر: (ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي، فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم)

وينتهي الفيزيائي إدوارد ميلن بعد تفكره في الكون المتمدد، إلى هذه النتيجة: (أما العلة الأولى للكون في سباق التمدد فأمر إضافتها متروك للقارئ، ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله)

2 ـ العقل

بعد أن عجزت معارفي العلمية أن تقاوم الأدلة الكثير التي لا تدل إلا على الله.. وبعد أن شعرت بحلاوة وجود الله.. وشعرت بأن البحث عنه لا يقل عن البحث عن أي حقيقة من حقائق الوجود التي نتفانى في البحث عنها مع أنه قد لا توجد بيننا وبينها أي صلة.. تحركت في عزيمة شديدة إلى خوض غمار البحث عن الله..

لكني بعد أن علمت هذا.. وشعرت بهذا.. وعزمت على هذا.. جاءت جحافل الشياطين تريد أن تعترضني بالوساوس والشبهات..

في ذلك الحين شعرت بآلام كثيرة.. ولم تطل تلك الآلام إذ أني ومن غير أن أقصد سمعت رجلا يقول، وأنا في السوق: (في بلدة من البلاد.. يقال لها (الله أباد)([17])  يذوب الإلحاد، وتنتفي وساوس العباد)

أسرعت إلى الرجل أسأله عن هذه البلدة العجيبة التي يذوب فيها الإلحاد، فابتسم الرجل، وذكر لي أنه لم يقل شيئا، وأن ما سمعته منه قد لا يكون سوى بعض تلك الأحاديث التي نسمعها من غير أن نعرف مصدرها.

لكني صممت أن أبحث عن مدينة تحمل ذلك الاسم.. فسألت عنها.. إلى أن وجدت من يدلني عليها..

عندما دخلت إليها تعجبت من نظامها البديع وجمالها الباهر، فقلت لنفسي: أيمكن لمن يعيش في مثل هذه البلدة المتطورة أن ينشغل بالله؟

فأمسك بيميني رجل منهم، وقال: لاشك أنك تبحث عن الله..

قلت: وما أدراك؟

قال: لا يقصدنا هذه الأيام أحد إلا لأجل هذا.

ضحكت، وقلت: وهل حل (الله) ببلادكم حتى تأتي الخلائق لتزوره([18]

تغير وجهه تغيرا شديدا، وقال: الله أعظم من أن يحل ببلدة، فالله لا يحيط به المكان ولا الزمان.. وكيف يحيط به، وهو الذي خلق المكان والزمان.

قلت: فما الذي تقصد بزيارة الخلق لبلادكم بحثا عن الله؟

قال: أنت تعلم أن للإلحاد سوقا في هذا الزمان، وأنه ينتشر في بلاد الله كما ينتشر النار في الهشيم..

قلت: أعلم ذلك.

قال: لقد تعذب الخلق بهذا.. ولهذا تراهم يبحثون عن الله.. ويبحثون عن الأدلة على وجوده وكماله ليقضوا بها على تلك الوساوس التي ملأهم بها الشياطين.

قلت: أعلم كل ذلك.. ولكني أتساءل عن علاقة ذلك ببلدتكم.

قال: عندما رأى رجال من أهل الله من هذه البلاد ما حل بالخلق راحوا يبحثون في موازين العقول عن الأدلة التي تنفي كل شبهة، وتقمع كل وسواس.. ونحن نسميهم هنا (المتكلمون).. وهم حقيقة (متكلمون)، فلديهم من القدرات العقلية.. ولديهم من طرائق الإقناع الحقيقي لا الوهمي ما يملؤك بالعجب.. وهم فوق ذلك نذروا أنفسهم لله، فلا تراهم يحامون إلا عنه، ولا تراهم ينتصرون إلا له.

قلت: لقد شوقتني إليهم.. فدلني عليهم.

قال: سر فقط في هذه البلاد.. سر في شوارعها شارعا شارعا.. فلن تعدم في أي شارع من أي متكلم.

قلت: وكيف أعرفهم والخلق كثير؟

قال: يسير ذلك.. حيثما رأيت الخلق مجتمعين، فثمة متكلمون.

قال لي ذلك، ثم انصرف.. وقد رأيت كل ما ذكره لي.. فلم أسر في شارع من الشوارع، إلا ورأيت فيه من ينتصر لوجود الله، وينفي كل الشبه التي تقذفها الشياطين.

لن أحدثكم بكل ما سمعت.. سأكتفي بعشر مناظرات فقط.. لعل فيها ما يقنع أي عاقل..

وقد اخترت لكم ما يتناسب مع العقول المختلفة.. فالمتكلمون نهجوا مناهج مختلفة، لأنهم يخاطبون عقولا مختلفة.

المناظرة الأولى:

قال الجمع: فحدثنا عن المناظرة الأولى.

قال: في شارع من شوارع (الله أباد) رأيت قوما من الناس يلتفون حول رجلين([19])..

أما أحدهما، فيلبس ما يلبسه علماء الأزهر من ثياب.. وقد كانوا يطلقون عليه لقب (الباقلاني)([20]).. ويظهر من خلال حديثه أن له براعة وخبرة طويلة في المناظرة.

وأما الثاني.. فهو ـ على ما يبدو ـ يوناني الأصل، فقد كان الناس يطلقون عليه لقب (ديموقريطس)([21])، ولست أدري هل هو لقبه.. أم أنه تسمى به تأثرا بذلك العالم اليوناني الكبير الذي ينسب إليه (المذهب الذري)([22])

سأنقل لكم بعض ما وصل إلى سمعي من حديثهما:

قال الباقلاني لديموقريطس: أنت الآن تريد أن تحيي بيننا ما ذهب إليه ديموقريطس من أفكار.. ولا ألومك في ذلك.. ولكني أريد أن أسألك: هل دعاك لذلك المنهج العلمي الذي تفرضه العقول السليمة، أم أنه مجرد تعصب لرجل تزعم أنه من أجدادك؟

قال ديموقريطس: بكليهما أنا أحتج.. ولكليهما أنا أجنح.

قال الباقلاني: لا أستطيع أن أناظرك في الثاني.. فقد علمنا قرآننا أن المنهج الذي يعتمد على الآباء والأجداد منهج خاطئ، قال تعالى يعاتب من استعمله:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (البقرة:170)

قال ديموقريطس: وما يمنعك أن تناظرني، وقد ذكرت لك أني أجمع بين المنهجين.. ناظرني بالمنهج الذي تشاء منهما.

قال الباقلاني: أرى أن هذا لن يصل بنا إلى أي نتيجة.. لأني إن أقنعتك بالأول عدلت إلى الثاني، ولا طاقة لأحد في الدنيا أن يغلبك في الثاني إلا إذا كانت له طاقة إحياء الموتى.. فيحيي لك هذا الديموقريطس الذي حجب عقلك عن رؤية الحق والإذعان له.

قال ديموقريطس: لا بأس.. سأضحي بآبائي.. وأكتفي في المناظرة معك بما يراه عقلي.. عقلي المحرر من كل سلطة.

قال الباقلاني: الآن يمكن أن نتحاور.. فاعرض علي ما تراه من آراء لأناقشك فيها واحدا واحدا.

قال ديموقريطس: آرائي لا يمكن أن تفهمها إلا وهي في سلة واحدة.. فلذلك سأعرضها عليك جميعا.. ثم ناقشني بعدها كما تشاء.. أم أنك تعترض على هذا أيضا؟ 

قال الباقلاني: لا.. لك ذلك.. فلن أقاطعك حتى تنتهي من جميع حديثك.

قال ديموقريطس: مذهبي الذي أراه والذي رآه قبلي جدي المبجل ديموقريطس وأستاذه (لوقيبوس) وعنهما أخذ أخذ جميع أساتدتنا المادّيين بعدهما، حتى فريق المادّيين المعاصرين.. في تفسير الوجود هو أن الوجود واحد.. وأنه ينقسم إلى عدد غير متناهٍ من الوحدات غير المتجانسة وغير المدركة بالحسّ، والواحد منها هو الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ.

وهذه الوحدات غير المتجانسة قديمة أزلية، نظراً إلى أن الوجود لا يمكن أن يخرج من العدم الكلي المحض، وهي دائمة أبدية، إذْ لا ينتهي الوجود إلى العدم الكلي المحض (اللاوجود مطلقاً)

والنفس عند جدي مادّية أيضاً، وهي مؤلفة من أدقّ الجواهر وأسرعها حركة..

وكلّ ظواهر الوجود الكوني تتحكم بوجودها آلية الحركة الذاتية للوحدات غير المتجانسة التي يتألف منها الوجود كله.

لقد مضى جدي ديموقريطس بالمذهب الذري إلى حده الأقصى، ووضعه في صيغته النهائية، فقال: (إن كلّ شيء امتداد وحركة فقط)

ولم يستثن في ذلك أي شيء.. لا النفس الإنسانية.. ولا الآلهة التي كان يعتقد بها أجدادنا اليونانيّون.. فالآلهة مركبة من جواهر كالبشر، إلا أن تركيبهم أدقّ، فهم لذلك أحكم وأقدر، وأطول عمراً بكثير، ولكنهم لا يخلدون.

ابتسم الباقلاني، وقال: أنت عرضت علي ما يراه جدك وأساتذتك من أطروحات تفسر الوجود.. ولم تذكر لي دليلا واحدا يدل عليها.

قال ديموقريطس: هي بمنطقيتها وبساطتها تفسر الوجود بما لا تحتاج معه إلى أي برهان.. فهي نفسها برهان على نفسها.

قال الباقلاني: فأذن لي أن أناقشك فيما ذكرته.. لأبين لك أنها مجرد هرطقات لا تستند إلى أي منطق، ولا إلى أي عقل.

لقد ذكرت لي أن جدك ذهب إلى أن العدم الكلي المحض لا يمكن أن يتحول إلى الوجود بنفسه، وأن ما هو أزلي لا بد أن يكون أبدياً.. وهذا حق لا يمكنني أن أجادلك فيه.. لأن العدم الكلي المحض لا يمكن ـ عقلاً وبداهة ـ أن يتحوّل بنفسه إلى الوجود، فالعدم لا شيء، ويستحيل عقلاً أن يتحول اللاشيء إلى شيء.

وما هو أزلي – أي: واجب الوجود – لا يمكن أن تأتيه حالة يكون فيها ممكناً حتى يقبل فيها العدم.

انفرجت أسارير ديموقريطس عن ابتسامة عريضة، فقال الباقلاني: لقد صدق جدك في هذا.. ولكنه لم يأت فيه بجديد، فكل العقول توقن بهذا..

قال ديموقريطس: ولكن جدي استنتج من هذا أزلية المادة.

ابتسم الباقلاني، وقال: ما ذكرته هو قانون.. وإثبات أزلية المادة يحتاج إلى أدلة خاصة تثبتها.. ولا توجد مثل هذه الأدلة.. فالمادّة بطبيعتها المتغيّرة والمتحوّلة القابلة للتحليل والتركيب، لا تصلح أن تكون أزلية، وما ليس أزلياً فهو حادث، وما هو حادث لا بدّ له من مُحْدث.

قال ديموقريطس: فما أدلة الحدوث([23]

ابتسم الباقلاني، وقال: كما اعتمدت على جدك في آرائه.. فأنا أيضا كان لي جد.. وكان له نفس لقبي.. وقد ذكر مع جميع أساتذته أربعة دعاوى، لكل دعوى برهانها، وهي تشكل جميعا البرهان الدال على حدوث الكون([24]).

قال ديموقريطس: فما الدعوى الأولى، وما برهانها؟ 

قال الباقلاني: نحن ندعي أن العالم مكون من أجسام وأعراض.. فالأجسام هي ما قامت بنفسها.. والأعراض ما قامت بغيرها وهي الأجسام ومثالها الحركة والسكون والافتراق والاجتماع.

ولا أظن أنك تجادلني في هذا.. فالإنسان ـ مثلا ـ يبدأ نطفة، ثم يتحول علقة، فمضغة، ثم يكتمل خلقه فى رحم أمه، ثم يولد فيصير طفلا، فشابا، فكهلا، فشيخا، حتى يدركه الموت.. فكلها تغيرات مرتبطة بالزمن.. ويقاس على ذلك كل ما فى الكون من جزئيات.. فكل ما فى الكون متغير.

قال ديموقريطس: لا أجادلك في هذا.. فما الدعوى الثانية؟

قال الباقلاني: نحن ندعي أن الأعراض محدثة..

قال ديموقريطس: فما دليك على ذلك؟

قال الباقلاني: الدليل على ذلك أنها تعدم.. والقديم لا يعدم..

قال ديموقريطس: فما الدليل على عدمها؟

قال الباقلاني: الحس هو دليلي على ذلك.. فنحن نشاهد كل ما هو متحرك ينعدم، فيسكن، وهكذا في الباقي.

قال ديموقريطس: فما الدليل على عدم انعدام القديم؟

قال الباقلاني:  الدليل على أن القديم لا ينعدم هو أن القديم إما أن يكون لذاته أو لغيره.. وليس من الجائز أن يكون القديم لغيره.. لأنه لو كان كذلك فمن حق هذا الغير الذي هو علته تقدم هذا القديم فيكون حادثا.

وليس من الجائز أن يكون قدمها لذاتها، فإذا كان كذلك فإن ذاتها باقية، فيستحيل عدمها لكنها عدمت، فيلزم أنها حادثة.

قال ديموقريطس: فما الدعوى الثالثة؟

قال الباقلاني: الدعوى الثالثة، هي أن الأجسام لم تخل من الأعراض المحدثة، ولم تتقدمها في الوجود.

والدليل على ذلك أنها لو خلت من الأعراض المحدثة أو تقدمتها في الوجود لجاز أن يكون الجسم لا متحركا ولا ساكنا.. وهذا لا يمكن فإنه إن كان غير متحرك فمعناه أن يكون ساكنا.. أما أن يكون الجسم ساكنا وغير ساكن في آن واحد فهذا مستحيل.

قال ديموقريطس: فما الدعوى الرابعة؟

قال الباقلاني: الدعوى الرابعة هي أن مالم يخل من الحوادث ولم يتقدمها في الوجود فهو حادث مثله.

والدليل على ذلك هو أن الحادث هو ما له أول، وكان معدوما قبلها، فلو كانت الأجسام قديمة، وهي غير منفكة عن الأعراض لكانت الأجسام موجودة قبل وجود الأعراض، وبالتالي انفكت عن وجود الاعراض، وهذا خلف فتعين أنها حادثة.

قال ديموقريطس: فما ترد على من من يجيز حوادث لا أول لها؟

قال الباقلاني: إن إثبات حوادث لا أول لها يلزم عنه ثلاثة محالات([25])..

أما الأول، فإنه لو ثبت ذلك لكان قد انقضى ما لا نهاية له، ووقع الفراغ منه وانتهى، ولا فرق بين قولنا انقضى ولا بين قولنا انتهى، ولا بين قولنا تناهى، فيلزم أن يقال قد تناهى ما لا يتناهى، ومن المحال البين أن يتناهى ما لا يتناهى وأن ينتهي وينقضي ما لا يتناهى.

وأما الثاني، فهو أن دورات الفلك إن لم تكن متناهية، فهي إما شفع وإما وتر، وإما لا شفع ولا وتر، وإما شفع ووتر معاً..  وهذه الأقسام الأربعة كلها محال؛ والمفضي إليها لا شك أنه محال..

إذ يستحيل عدد لا هو شفع ولا هو وتر، أو لا هو شفع ووتر.. فإن الشفع هو الذي ينقسم إلى متساويين كالعشرة مثلاً، والوتر هو أحد الذي لا ينقسم إلى متساويين كالتسعة، وكل عدد مركب من آحاد إما أن ينقسم بمتساويين، أو لا ينقسم بمتساويين، وأما أن يتصف بالانقسام وعدم الانقسام، أو ينفك عنهما جميعاً فهو محال.. وباطل أن يكون شفعاً لأن الشفع إنما لا يكون وتراً لأنه يعوزه واحد، فإذا انضاف إليه واحد صار وتراً، فكيف أعوز الذي لا يتناهى واحد؟.. ومحال أن يكون وتراً، لأن الوتر يصير شفعاً بواحد، فيبقى وتراً لأنه يعوزه ذلك الواحد، فكيف أعوز الذي لا يتناهى واحد؟

وأما الثالث، فإنه  لو ثبت ذلك للزم عليه أن يكون عددان، كل واحد منهما لا يتناهى، ثم أن أحدهما أقل من الآخر، ومحال أن يكون ما لا يتناهى أقل مما لا يتناهى، لأن الأقل هو الذي يعوزه شيء لو أضيف إليه لصار متساوياً، وما لا يتناهى كيف يعوزه شيء؟

قال ديموقريطس: دعنا من هذا.. وأجبني على ما ذكره جدي من أنّ هذا الوجود نشأ صدفة.

قال الباقلاني: سأجيبك بما ذكره أحفاد جدك ممن هم أوفر علما، وأقدر على البحث في هذا باعتبار تخصصهم فيه([26]).

انتفض ديموقريطس غاضبا، وقال: أحفاد جدي!؟.. من تقصد؟.. لا.. يستحيل أن يقول أحفاد جدي هذا.. لقد قال (هكسلى) ضاربا المثل على إمكانية الصدفة: (لو جلست ستة قردة أمام آلات كاتبة، وظلت تضرب على حروفها لملايين السنين، فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير! فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات عمياء، ظلت تدور في (المادة) لبلايين السنين)

قال الباقلاني: وما أدرى (هكسلى) بمثل هذا.. إن كلامه هذا يناقض ما أثبته كل الرياضيين والعلماء الذين يحترمون أنفسهم وبحوثهم.

قال ديموقريطس: فأخبرني بما قالوا.

قال الباقلاني: لقد قال البروفيسور (ايدوين كونكلين): (إن القول بأن الحياة وجدت نتيجة (حادث اتفاقي) شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار صدفي يقع في مطبعة)

ويقول أحد العلماء الأمريكيين: (إن نظرية الصدفة ليست افتراضا وإنما هي نظرية رياضية عليا، وهى تطلق على الأمور التي لا تتوفر في بحثها معلومات قطعية، وهى تتضمن قوانين صارمة للتمييز بين الباطل والحق، وللتدقيق في إمكان وقوع حادث من نوع معين وللوصول إلى نتيجة هي معرفة مدى إمكان وقوع ذلك الحادث عن طريق الصدفة)

وقال أحد العلماء..

قال ديموقريطس: دعنا من آراء الرجال.. وأقنعني بالحقيقة التي تدل عليها العقول.

قال الباقلاني: صدقت.. فآراء الرجال لن تزيدنا إلى تيها..

ولهذا سأحاول إقناعك بعدم إمكانية الصدفة علميا بتصوير ما تحتاجه الصدفة لتحقيق أي عمل.. لو تناولت عشرة دراهم، وكتبت عليها الأعداد من1 إلى 10، ثم رميتها في جيبك وخلطتها جيدا، ثم حاولت أن تخرجها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي، بحيث تلقى كل درهم في جيبك بعد تناوله مرة أخرى.. فإمكان أن نتناول الدرهم المكتوب عليه في المحاولة الأولى ه واحد على عشرة ؛ وإمكان أن تتناول الدرهمين (2،1) بالترتيب واحد في المائة وإمكان أن تخرج الدراهم (4،3،2،1) بالترتيب هو واحد في العشرة آلاف.. حتى إن الإمكان في أن تنجح في تناول الدراهم 1إلى 10 بالترتيب واحد في عشرة بلايين من المحاولات!!

لقد ضرب هذا المثال العالم الأمريكي الشهير (كريسى موريسن)، ثم استطرد قائلا: (إن الهدف من إثارة مسألة بسيطة كهذه، ليس إلا أن نوضح كيف تتعقد (الوقائع) بنسبة كبيرة جدا في مقابل (الصدفة)

قال ديموقريطس: فكيف تطبق هذا المثال على ما نحن فيه من محاولة تفسير وجود الكون؟

قال الباقلاني: لو افترضنا أن المادة وجدت بنفسها في الكون.. وافترضنا أن تجمعها وتفاعلها كان من تلقاء نفسها ـ وليس هناك أي دليل على هذا ـ ففي هذه الحال أيضا لن نظفر بأي تفسير الكون، فإن (صدفة) أخرى تحول دون طريقنا.. فالرياضيات التي تعطينا نكتة (الصدفة) الثمينة هي نفسها التي تنفى أي إمكان رياضي في وجود الكون الحالي بفعل قانون الصدفة.

لقد استطاع العلم الكشف عن عمر الكون وضخامة حجمه، والعمر والحجم اللذان كشف عنهما العلم الحديث غير كافيين في أي حال من الأحوال لتسويغ إيجاد هذا الكون عن قانون الصدفة الرياضي.

سأضرب لك مثا يقرب لك ذلك..

أنت تعلم أن الأجسام الحية تتركب من (خلايا حية).. و(الخلية) ـ كما تعلم ـ مركب صغير جدا، ومعقد غاية التعقيد، وهى تدرس تحت علم خاص يسمى (علم الخلايا) ومن الأجزاء التي تحتوى عليها هذه الخلايا: البروتين وهو مركب كيماوي من خمسة عناصر هي الكربون والهيدروجين والنتروجين والأوكسجين والكبريت.. ويشمل الجزيء البروتيني الواحد أربعين ألفا من ذرات هذه العناصر.

وفي الكون أكثر من مائة عنصر كيماوي كلها منتشرة في أرجائه، فأية نسبة في تركيب هذه العناصر يمكن أن تكون في صالح قانون (الصدفة)؟

أيمكن أن تتركب خمسة عناصر من هذا العدد الكبير لإيجاد (الجزيء البروتيني) بصدفة واتفاق محض؟

إننا نستطيع أن نستخرج من قانون الصدفة الرياضي ذلك القدر الهائل من (المادة) الذي سنحتاجه لنحدث فيه الحركة اللازمة على الدوام؛ كما نستطيع أن نتصور شيئا عن المدة السحيقة التي سوف تستغرقها هذه العملية.

لقد حاول رياضي سويسري شهير هو الأستاذ (تشارلز يوجين جواي) أن يستخرج هذه المدة عن طريق الرياضيات، فانتهى في أبحاثه إلى أن (الإمكان المحض) في وقوع الحادث الاتفاقي الذي من شأنه أن يؤدى إلى خلق كون، إذا ما توفرت المادة هو واحد على 60/10 (أي 10×10 مائة وستين مرة)، وبعبارة أخرى:نضيف مائة وستين صفرا إلى جانب عشرة.. وهو عدد هائل وصفه في اللغة.

إن إمكان حدوث الجزيء البروتيني عن (صدفة) يتطلب مادة يزيد مقدارها بليون مرة عن المادة الموجودة الآن في سائر الكون، حتى يمكن تحريكها وضخها، وأما المدة التي يمكن ظهور نتيجة ناجحة لهذه العملية فهي أكثر من 243/10 سنة.

إن جزيء البروتين يتكون من (سلاسل) طويلة من الأحماض الأمينية، وأخطر ما في هذه العملية هو الطريقة التي تختلط بها هذه السلاسل بعضها مع بعض فإنها لو اجتمعت في صورة غير صحيحة سما قاتلا، بدل أن تصبح موجدة للحياة.

لقد توصل البروفيسور ج. ب. ليتز إلى أنه لا يمكن تجميع هذه السلاسل فيما يقرب من 48/10 صورة وطريقة.. وهو يقول: إنه من المستحيل تماما أن تجتمع هذه السلاسل بمحض الصدفة في صورة مخصوصة من هذه الصور التي لا حصر لها، حتى يوجد الجزيء البروتيني الذي يحتوى أربعين ألفا من أجزاء العناصر الخمسة التي سبق ذكرها.

ولابد أن يكون واضحا أن القول بالإمكان في قانون الصدفة الرياضي لا يعنى أنه لابد من وقوع الحادث الذي ننتظره بعد تمام العمليات السابق ذكرها، في تلك المدة السحيقة ؛ وإنما معناه أن حدوثه في تلك المدة محتمل لا بالضرورة، فمن الممكن على الجانب الآخر من المسألة ألا يحدث شيء ما بعد تسلسل العملية إلى الأبد.

وهذا الجزيء البروتيني ذو وجود (كيماوي) لا يتمتع بالحياة إلا عندما يصبح جزءا من الخلية، فهنا تبدأ الحياة، وهذا الواقع يطرح سؤالا مهما علينا هو: من أين تأتى الحرارة عندما يندمج الجزيء بالخلية؟.. ولا جواب عن هذا السؤال في أي سفر من أسفار العلم.

إن من الواضح الجلي أن التفسير الذي يزعمه هؤلاء المعارضون، متسترين وراء قانون الصدفة الرياضي لا ينطبق على الخلية نفسها وإنما على جزء صغير منها هو الجزيء البروتيني وهو ذرة لا يمكن مشاهدتها بأقوى منظار بينما نعيش، وفي جسد كل فرد منا ما يربو على أكثر من مئات البلايين من هذه الخلايا.

لقد أعد العالم الفرنسي (الكونت دى نواي) بحثا وافيا حول هذا الموضوع وخلاصة البحث:أن مقادير (الوقت، وكمية المادة ،والفضاء اللانهائي) التي يتطلبها حدوث مثل هذا الإمكان هي أكثر بكثير من المادة والفضاء الموجودين الآن، وأكثر من الوقت الذي استغرقه نمو الحياة على ظهر الأرض، وهو يرى: أن حجم هذه المقادير الذي سنحتاج إليه في عمليتنا لا يمكن تخيله أو تخطيطه في حدود العقل الذي يتمتع به الإنسان المعاصر، فلأجل وقوع حادث- علي وجه الصدفة- من النوع الذي ندعيه، سوف نحتاج كونا يسير الضوء في دائرته82/10 سنة ضوئية (أي:82 صفرا إلى جانب عشرة سنين ضوئية) وهذا الحجم أكبر بكثير جدا من حجم الضوء الموجود فعلا في كوننا الحالي ؛ فإن ضوء أبعد مجموعة للنجوم في الكون يصل إلينا في بضعة (ملايين) من السنين الضوئية فقط.. وبناءا على هذا، فإن فكرة أينشتين عن اتساع هذا الكون لا تكفى أبدا لهذه العملية المفترضة.

أما فيما يتعلق بهذه العملية المفترضة نفسها، فإننا سوف نحرك المادة المفترضة في الكون المفترض بسرعة خمسمائة (تريليون) حركة في الثانية الواحدة، لمدة243/10 بليون سنة (243 صفرا أمام عشرة بلايين)، حتى يتسنى لنا حدوث إمكان في إيجاد جزيء بروتيني يمنح الحياة.

ويقول (دى نواي) في هذا الصدد: (لابد ألا ننسى أن الأرض لم توجد إلا منذ بليونين من السنين وأن الحياة- في أي صورة من الصور- لم توجد إلا قبل بليون سنة عندما بردت الأرض)

هذا وقد حاول العلماء معرفة عمر الكون نفسه، وما ذكروه لا يكفي على أي حال من الأحوال خلق إمكان، يوجد فيه الجزيء البروتيني، بناء على قانون الصدفة الرياضي.

وأما ما يتعلق بأرضنا التي ظهرت عليها الحياة، فقد عرفنا عمرها بصورة قاطعة، فهذه الأرض كما يعتقد العلماء جزء من الشمس انفصل عنها نتيجة لصدام عنيف وقع بين الشمس وسيار عملاق آخر، ومنذ ذلك الزمان أخذ هذا الجزء يدور في الفضاء، شعلة من نار رهيبة، ولم يكن من الممكن ظهور الحياة على ظهره حينئذ لشدة الحرارة، وبعد مرور زمن طويل أخذت الأرض تبرد ثم تجمدت وتماسكت، حتى ظهر إمكان بدء الحياة على سطحها.

ونستطيع معرفة عمر الكون بشتى الطرق.. ومنها الطريقة التي توصلنا إليها بعد كشف (العناصر المشعة)، فإن الذرات الكهربية تخرج من هذه العناصر بنسبة معلومة بصفة دائمة ؛ وهذا (التحلل) يقل الذرات الكهربية في هذه العناصر، لتصبح تلقائيا عناصر غير مشعة عبر الزمان، واليورانيوم أحد هذه العناصر المشعة، وهو يتحول إلى معدن (الرصاص) بنسبة معينة نتيجة لتحلل الذرات الكهربية، وهذه النسبة في الانتشار لا تتغير تحت أي ظروف من أدنى أو أقصى درجات الحرارة أو الضغط، ولهذا سنكون على صواب لو اعتبرنا أن سرعة تحول اليورانيوم إلى (الرصاص) محددة وثابتة لا تتغير.

إن قطع اليورانيوم توجد في كثير من الهضبات والجبال منذ أن تجمد في شكله الأخير، عند تجميد الأرض.. وإلى جانب هذا اليورانيوم نجد قطعا من الرصاص، ولا نستطيع أن ندعى أن كل هذا الرصاص نتج عن تحلل اليورانيوم، والسبب في هذا أن الرصاص الذي يتكون من تحلل اليورانيوم يكون أقل وزنا من الرصاص العادي، وبناء على هذه القاعدة الثابتة يمكننا أن نجزم بما إذا كانت أية قطعة من الرصاص من اليورانيوم، أو أنها قطعة رصاص عادى ونحن هنا نستطيع أن نحتسب المدة التي استغرقتها عملية تحلل اليورانيوم بدقة، فهو يوجد في الجبل من أول يوم تجمد فيه ونستطيع بذلك معرفة مدة تجمد الجبل نفسه!

لقد أثبتت التجارب أنه قد مر ألف وأربعمائة مليون سنة على تجمد تلك الجبال التي تعتبر- علميا- أقدم جبال الأرض، وقد يظن البعض منا أن عمر الأرض يزيد ضعفا أو ضعفين عن عمر هذه الجبال ولكن التجارب العلمية تنفي بشدة هذه الظنون الشاذة، ويذهب البروفيسور (سوليفان) إلى أن (المعدل المعقول) لعمر الأرض هو ألفا مليون سنة([27]).

انظر.. فبعدما تبين لنا أن المادة العادية غير ذات الروح تحتاج إلى بلايين البلايين من السنين، حتى يتسنى مجرد إمكان الحدوث لجزيء بروتيني فيها بالصدفة، فكيف ـ إذن ـ جاءت في هذه المدة القصيرة في شكل مليون من أنواع الحيوانات، وأكثر من 200.000 نوع من النبات؟ وكيف انتشرت هذه الكمية الهائلة على سطح الأرض في كل مكان؟ ثم كيف جاء من خلال هذه الأنواع الحيانية ذلك المخلوق الأعلى الذي نسميه (الإنسان)؟

لقد قال عالم الأعضاء الأمريكي مارلين ب. كريدر ملخصا كل هذا:( إن الإمكان الرياضي في توفر العلل اللازمة للخلق- عن طريق الصدفة – في نسبها الصحيحة هو ما يقرب من (لا شيء)

وقال الأستاذ (كريسى موريسن) ـ ردا على مقولة (هيكل): (إيتونى بالهواء وبالماء وبالأجزاء الكيماوية وبالوقت وسأخلق الإنسان) ـ: (إن هيكل يتجاهل في دعواه: الجينات الوراثية ومسألة الحياة نفسها فإن أول شيء سيحتاج إليه عند خلق الإنسان، هو الذرات التي لا سبيل إلى مشاهدتها، ثم سيخلق (الجينات)، أو حملة الاستعدادات الوراثية بعد ترتيب هذه الذرات، حتى يعطيها ثوب الحياة.. ولكن إمكان الخلق في هذه المحولة بعد كل هذا لا يعدو واحدا على عدة بلايين، ولو افترضنا أن (هيكل) نجح في محاولته فإنه لن يسميها (صدفة)، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بل سوف يقررها ويعدها نتيجة لعبقريته)

وقال عالم الطبيعة الأمريكي (جورج إيرل ديفيس): (لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن الكون هو الإله.. وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الإله) ؛ ولكن إلهنا هذا سوف يكون عجيبا: إلها غيبيا وماديا في آن واحد!! إننى أفضل حاكمه ومديره ومدبره، بدلا من أن أتبنى مثل هذه الخزعبلات)

ما إن قال البلاقلاني هذا حتى رأيت (ديموقريطس) قد تغير وجهه، ثم نظر إلى ساعته وقال: ائذنوا لي.. لدي موعد.. ولا أستطيع أن أبقى هنا أكثر من هذا.. ربما نلتقي مرة أخرى.

قال ذلك، ثم انصرف مسرعا وعلى وجهه ترتسم ظلال أنوار لست أدري هل أنارت له، أم أنها وجدت من الشياطين من أطفأها.

المناظرة الثانية:

قال الجمع: حدثتنا عن المناظرة الأولى.. فحدثنا عن المناظرة الثانية.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة العجيبة رأيت قوما من الناس يلتفون حول رجلين..

أما أحدهما فكان بادي الصلاح.. وكان الناس يطلقون عليه لقب (القاسم الرسي)([28])

وأما الثاني، فكان رجلا لا يختلف كثيرا في مظهره وطريقة تفكيره عن (ديموقريطس).. وكان الناس يطلقون عليه لقب (أبيقور)([29])..ولست أدري هل كان ذلك هو لقبه الحقيقي أم أنه استعاره من أبيقور التاريخي.. ولكنه ـ مهما كان ـ يتبنى نفس الأفكار التي يتبناها أبيقور التاريخي([30]).

سأقص عليكم كيف بدأت المناظرة وإلى ما انتهت..

لقد كنت أسير في ذلك الشارع، فرأيت رجلا يسرع إلى الرسي، ليخبره أن بعض الملحدين تسلل إلى (الله أباد)، وأنه أخذ ينشر الإلحاد بين العامة والدهماء.. وأنه كان إذا قابله العلماء والفقهاء أورد عليهم من المسائل ما يعجزهم.

فأسرع القاسم، ومعه الرجل، وأسرعت خلفهما، ولم نسر إلا قليلا حتى رأينا (أبيقور)، فقال له القاسم بعد أن هش له وبش، وعامله بما طلبه الإسلام من أهله من الأدب: بلغنى أنك تعرضت لنا وسألت أهل نحلتنا عن مسائلك، تريد أن تصيد أغمارهم بحبائلك.

قال أبيقور: أما إذ عبت أولئك وعيرتهم بالجهل، فإنى سائلك وممتحنك.. فإن أنت أجبت وإلا فأنت مثلهم.

قال القاسم: قل ما بدا لك، فسأحسن الاستماع، وعليك بالنصفة، وإياك والظلم ومكابرة العيان، ودفع الضرورات والمعقولات.. أجبك عنه، وبالله استعين وعليه أتوكل وهو حسبى وكفى ونعم الوكيل.

قال أبيقور: خبرنى ما الدلالة على أن الله هو الصانع؟

قال القاسم: الدلالة على ذلك قوله فى كتابه عز وجل:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} (الحج)

ضحك أبيقور بصوت عال، وقال: أراك لا تعرف الدور.. ثم تجلس هذا المجلس.

قال القاسم: فكيف تريد أن تبرهن لي على وجود إله من خلال ما تدعي أنها كلماته.. برهن لي أولا على وجوده، ثم برهن لي على أنه متكلم، ثم برهن لي على أن ما قرأته هو كلماته.. ودون كل ذلك خرط القتاد.

قال القاسم: أنا لم أذكر تلك الآيات كبرهان إلا من خلال المعنى الذي تحمله.. فأنا أعلم أن من لم يؤمن بوجود الله يستحيل أن يؤمن بكلام الله.

قال أبيقور: أنت تعلم أني من نسل الفلاسفة.. والفلاسفة قد تواطأوا فيما بينهم على مصطلحات خاصة، وعلى أساليب منتظمة في البرهان.. فاركب مطيتها وخاطبني.. فلا يحسن أن تخاطب الأمراء بلغة السوقة والدهماء.

قال القاسم: لك ذلك.. وسأذكر لك خمسة براهين على الشرط الذي ذكرت([31]).

قال أبيقور: لا بأس بهذا.. فاذكر لي البرهان الأول.

قال الرسي: البرهان الأول هو برهان النظم والتدبير.. فالإنسان نراه بأحسن كيفية، والحيوان نراه بالمواهب الفطرية، والنباتات والأشجار والأزهار والأعشاب نراها ذات المناظر البهيّة والخصائص النفعية، وكذلك غيرها من الموجودات الأخرى التي لا تعدّ ولا تحصى فيما بين السماء إلى أطباق الثرى.

نرى أجزاءها وجزئيّاتها مخلوقة بأحسن نظم، وأتقن تدبير، وأحسن صنع، وأبدع تصوير.

ومن المعلوم بالبداهية لكلّ كبير وصغير، ولكلّ ذي عقل وإحساس أنّ الإهمال لا يأتي بالصواب، والخطأ لا يأتي بدقيق الحساب، والإتّفاق لا يأتي بهذا العجب العُجاب.

فيحكم العقل بالصراحة، ويذعن الوجدان بالبداهة أنّه لابدّ لهذا التدبير من مدبّر، ولهذا التنظيم من منظِّم، ولهذا السير الحكيم من محكِّم.

ويدرك جميع أولي الألباب أنّه لابدّ لهذا النظام الدقيق من خالق حكيم، ولابدّ لهذا التدبير العميق من مدبّر عليم خَلَقها وقدّرها وأدام بقاءها، وأحسن خلقها وتدبيرها، وهو الله تعالى شأنه وجلّت قدرته.

فوجود الخالق ممّا يدرك بالبداهة ويُحسّ بكلّ يقين.

قال أبيقور: فما البرهان الثاني؟

قال الرسي: البرهان الثاني هو برهان امتناع الصِّدفة.. فإنّا إذا لم نؤمن بوجود الخالق لهذا الكون العظيم بما فيه من الخليقة المنتظمة، فلابدّ وأن نقول بأنّ الصِّدفة هي التي أوجدتها أو أنّ الطبيعة هي التي خلقتها..

بأن تكون هذه المجموعات الكبيرة الدقيقة الضخمة، في هذا العالم الكبير وجدت بنحو الصِّدفة وتحقّقت بنحو المصادفة.

قال أبيقور: فما المانع من هذا؟

قال الرسي: من الواضح أنّه لا يقبل حتّى عقل الصبيان أن تكون هذه المخلوقات اللامتناهية وُجِدَت بنفسها بالصدفة العمياء، أو بالطبيعة الصمّاء..

بل حتّى عقل المادّيين والطبيعيّين ـ كما تلاحظه في حياتهم ـ لا يقبل الصدفة.. لذلك تراهم يبحثون عن سبب جريمة صغيرة وقعت في بلادهم، وفوجئوا بها في دولتهم، ويتفحّصون عن علّتها، ولا يقبلون الصدفة فيها.

وترى طبيبهم الملحد ـ مثلا ـ يصرف مدّة مديدة، وساعات عديدة من عمره في سبيل معرفة سبب وجود غُدّة صغيرة في جسم إنسان مريض تصدّى لمعالجته، ولا يقبل أن يؤمن بأنّها وجدت بنحو الصدفة والإتّفاق، أو أوجدتها طبيعة الآفاق..

فكيف بهذه البدائع العظيمة في هذا العالم العظيم، هل يمكن قبول أنّها وجدت بالإتّفاق والصدفة!؟

والصدفة إن أمكنتها خلق شيء فلابدّ وأن تكون موجودة هي بنفسها.. فنسأل من هو مُوجِدها؟ وإن لم تكن موجودة فيقال: إنّ المعدوم لا يمكنه إيجاد شيء.. على أنّ الصدفة العمياء شاردة غير منتظرة، لا تخضع لأي حساب وقانون، بل تخالف الحسابات العلمية، فكيف يمكنها أن توجِد هذه الخلائق الكونيّة التي تُبهر العقول وتُدهش العقلاء؟

وكيف يمكنها أن توجِد المادّة الأولى لهذا العالم كما يزعمون حتّى يكون العالم ماديّاً؟

وكيف يمكنها أن توجِد تكاملها وعلّية موجوداتها فيما بينها ـ كما يدّعون ـ حتّى يكون العالم صدفياً؟ والحال أنّ الصدفة عمياء صمّاء، وليس لها حظٌّ من العطاء.

ولنبرهن على هذا الأمر بدليل عقلي علمي وجداني، ونفرض أنّ كتاباً صغيراً مرتّباً على مئة صفحة قد فُرّقت أوراقه وخُلطت أعداده، ثمّ اُعطيت بيد شخص أعمى حتّى يُرتّبها وينظّم صفحاتها بواسطة سحب تلك الأوراق مسلسلة إحداها بعد الاُخرى..

ترى ما هي نسبة إحتمال الموفّقية بأن يكون السحب الأوّل مصيباً للورق الأوّل؟ الجواب: 1%.

ثمّ ما هي نسبة إحتمال أن يكون السحب الثاني مصيباً أيضاً للورق الثاني؟

الجواب: 100001 وذلك بعمليّة (100001 = 1001 × 1001).

ثمّ ما هي نسبة أن يكون السحب الثالث أيضاً مصيباً للورق الثالث؟

الجواب: 10000001 وذلك بعمليّة (10000001 = 1001 × 1001 × 1001).

وهكذا.. وهلمّ جرّاً إلى موفّقية تنظيم إصابة السحب المئوي للورق المئة بنتيجة عدد تفوق المليارات ويستغرق حسابها الساعات.

هذه نسبة الصدفة في كتاب صغير فكيف بنسبة موفّقية الصدفة بالنسبة إلى هذا العالم الكبير؟

وهل يقبل العقل أو يصدّق الوجدان صدفيّة هذا النظام السماوي والأرضي المنتسق بهذا التنسيق البهيج؟

وهل يمكن قبول كون أساس العالم ومادّته المتكاملة موجودة بالصدفة كما يدّعون؟ كلاّ ثمّ ألف كلاّ!!

والحساب المنطقي الواضح هو أنّه إذا لم تصدق الصدفة صَدَقَ ضدّه وهو الخَلق والتقدير لأنّهما ضدّان لا ثالث لهما، لا يجتمعان ولا يرتفعان.. ومن المسلَّم أنّ كذب أحدهما يستلزم صدق الآخر، فعدم إمكان الصدفة يستلزم صدق التقدير.

فتكون الخليقة موجودة بخلق وتقدير، وهو يدلّ على وجود المقدّر الخبير، وهو الله (جلّ جلاله)

قال أبيقور: فما البرهان الثالث؟

قال الرسي: البرهان الثالث هو برهان الاستقصاء.. فإنّ كُلاًّ منّا إذا راجع نفسه وتأمّل شخصه يشعر بوضوح، ويدرك ببداهة أنّه لم يكن موجوداً أزليّاً بل كان وجوده مسبوقاً بالعدم، وقد وُجد في زمان خاصّ في عام معيّن وشهر معيّن ويوم معيّن.

فلنتساءل ونتفحّص ونبحث هل أنّا خَلَقْنا أنفسنا؟ وهل خَلَقنا أحدٌ مثلنا من الممكنات كآبائنا أو اُمّهاتنا؟ أو هل خَلَقَنا القادر الفاطر الواجب وهو الله (جلّ جلاله)؟

أمّا جواب الأوّل: فلا شكّ أنّنا لم نخلق أنفسنا حيث إنّه لم نكن موجودين في الزمان المتقدّم علينا، فكيف أعطينا الوجود لأنفسنا، وفاقد الشيء لا يعطيه..

ولو تمكّنا من إعطاء الوجود لأنفسنا، لأبقينا لها الوجود ضدّ الموت، ولا شكّ في عدم قدرتنا على ذلك، بل عدم قدرة الأقوياء منّا ومن كان قبلنا على ذلك.

وأمّا جواب الثاني: فلا شكّ أيضاً أنّ آباءنا لم يخلقونا، بدليل أنّهم لم يعرفوا أعضاءنا وأجزاءنا ومطويات أبداننا ومضمرات أجسامنا، فكيف بخلقة حقيقتنا، ومعلوم أنّ الخالق يلزم أن يعرف ما خلقه، والصانع يعرف ما صنعه.

مع أنّ آباءنا بأنفسهم يموتون ولا يمكنهم إعطاء أو إبقاء الوجود لأنفسهم فكيف يعطونه لأبنائهم؟

لا يبقى بعد التفحّص والإستقصاء إلاّ الشقّ الثالث، وهو أنّ الله هو الذي خَلَقَنا، وهو الذي خلق كلّ شيء، وهو القادر على كلّ شيء الوجود والإفناء، والموت والبقاء، وهو الخبير بمخلوقه بكلّ محتواه، والعالم بأولاه وعُقباه.

وبهذا الإستقصاء التامّ تحكم الأفهام، بوجود الخالق العلاّم.

قال أبيقور: فما البرهان الرابع؟

قال الرسي: البرهان الرابع هو برهان الحركة.. فإنّا نرى العالم الكبير بجميع ما فيه متحرّكاً، ويراه الجميع من الإلهيّين والمادّيين في تغيّر، والكلّ يعرفه بحركة وعدم سكون، ومعلوم أنّ الحركة تحتاج إلى محرّك، وبديهي أنّ الأثر لابدّ له من مؤثّر، لأنّ الحركة قوّة والقوّة لا توجد بغير علّة.

إذن فلابدّ لهذه الحياة المتحرّكة في جميع نواحيها من أعلاها إلى أسفلها، بكواكبها وأراضيها وشمسها وقمرها، وأفلاكها ومجرّاتها.. لابدّ لها ممّن يحرّكها ويديم حركتها، وحتّى أجزاء العناصر الساذجة ثبت في علم الفيزياء أنّها تدور وتتحرّك حول مركزها بدوام.

ومن المعلوم أنّ القوّة والحركة لا توجد إلاّ بدافع ومحرِّك، وهذا أمر بديهي يدركه كلّ ذي لبّ وشعور، ويعرف أنّه لابدّ لهذه الحركات العظيمة والتحوّلات الدائمة من محرّك حكيم قدير.

فمن ترى يمكن أن يكون مصدر هذه القوّة وفاعل هذه الحركة؟

هل المخلوقات التي نراها يعرضها الضعف وتحتاج بنفسها إلى المساندة!؟

وهل يناسب أن يكون المحرّك غير الله القوي الخبير؟

ولقد سُئِلَتْ امرأة بدويّة كانت تغزل الصوف بمغزل صغير عن دليلها على وجود الله تعالى، فأمسكت عن تحريك المغزل حتّى توقّف فقالت: دليلي هو هذا التوقف..

قالوا: وكيف ذلك؟

فأجابت: إذا كان مغزل صغير لا يتحرّك إلاّ بوجود محرِّك، فهل يمكن أن يتحرّك هذا الفلك الدوّار الكبير بلا محرّك له؟

وقد جاءت الحكمة في هذا المجال: إنّ البعرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام يدلّ على المسير، فهذه السماء ذات أبراج والأرض ذات حركة وارتجاج.. ألا تدلاّن على وجود الخبير البصير!؟

قال أبيقور: فما البرهان الخامس؟

قال الرسي: البرهان الخامس  هو برهان القاهريّة.. فإنّ الطبيعة تنمو عادةً نحو البقاء لولا إرادة من يفرض عليها الفناء.

فالإنسان الذي يعيش، والأشجار التي تنمو، والأحجار التي هي مستقرّة في الأرض، لا داعي إلى أن يعرض عليها الموت أو الزوال أو الإنهدام إلاّ بعلّة فاعلة قاهرة.

فكما أنّ تبدّل اللاشيء إلى الشيء يحتاج إلى علّة، كذلك تبدّل الشيء إلى اللاشيء لا يمكن إلاّ بعلّة.

فإنّا نرى هذا العالم قد اُحكمت جميع جوانبه بحيث ينبغي أن تسير سيراً دائماً بلا زوال، لكن مع ذلك نراها في زوال دائم ونقص راغم، وزوالها دليل على وجود مزيل لها.

فترى من هو علّة الإماتة والزوال؟ ومن اللائق أن يكون هو القاهر في جميع الأحوال؟

هل الإنسان بنفسه ـ وهو الذي يرغب أن يعيش دائماً ولا يموت أبداً ـ علّة لموت نفسه؟

أم هناك شيء من الممكنات ـ التي هي مقهورة زائلة بنفسها ـ تتمكّن من القاهرية المطلقة؟

أم أنّ القاهر لجميع المخلوقات هو القادر على خلقها فيقدر على فنائها؟

أليس هذا دليلا على أنّ هناك من يُميت ويقدر على الإماتة، كما هو قادر على الإحياء؟

فنفس الموت دالّ على وجود المميت، كما كان الإحياء دالاًّ على وجود المحيى.

فمن هذا الذي يميته غير الذي يحييه؟ ومن هو قادر على الإبقاء والإفناء؟ ليس هو إلاّ الله الذي بيده الموت والحياة.. والقادر على الإبقاء والإفناء، الخالق لجميع المخلوقات جلّ شأنه وعظمت قدرته.

ما إن انتهى الرسي من قوله هذا حتى طأطأ أبيقور رأسه، وقال: بورك فيك.. لقد أجبت ببراهينك هذه على كل شبهة، وفندت ما كان يعشش في رأسي من وساوس الشياطين، واسمح لي أن أصحبك لأتعرف على هذا الإله العظيم الذي كنت محجوبا عنه.

كبر جميع الحاضرين.. وكبرت معهم من غير شعور.. ثم سرت إلى شارع آخر.. لأسمع مناظرة أخرى.

المناظرة الثالثة:

قال الجمع: فحدثنا عنها.. حدثنا عن المناظرة الثالثة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة رأيت قوما من الناس يلتفون حول رجلين.. أما الأول، فكان اسمه (الخوارزمي)([32])..

وأما الثاني، فكان اسمه (توماس هوبز)([33])

قال هوبز، وهو ينظر للخوارزمي: نعم أنا مقتنع تماما بكل ما ذكرت.. لكني أسأل (من خلق الله؟.. وأين الله؟)

ابتسم الخوارزمي، وقال: أنت تتكلم عن الله، وكأنك تتكلم عن جسم مثلك.. أو كأنك تتكلم عن جهاز أو كائن أو جبل أو كوكب.. لو كنت تتكلم عن هؤلاء كان لك الحق في أن تسأل هذا السؤال.

إن هذا السؤال ينبع من افتراض عقلاني صحيح بالنسبة لبيئتنا المحيطة بنا، وهو أنه لا يمكن أن يوجد شيء نراه في محيطنا أو في هذه الدنيا بدون أن يكون له موجد أو صانع.

ولكن السؤال نفسه ليس صحيحاً بالنسبة لله،  لأنه ليس شيئاً من الأشياء، بل هو موجد الأشياء، ولا يمكنك استخدام مسطرة عقلك لقياس أو تخيل الوجود الإلهي، فهو لا يشبهك في شيء، ولا يشبه شيئاً رأيته، ولا يمكن لعقلك القاصر تصوره.

 جرب أن تدرس الرياضيات المتقدمة التي وضعها البشر لتعلم كم هي مدهشة تلك الإمكانيات الموجودة في العقل البشري، ولتعلم أيضاً أن افتراضات هذا العقل تصل أحياناً إلى التناقض وإلى المستحيل واللانهاية، وأن لهذا العقل حدوداً لا يمكنه تجاوزها.

سأضرب لك مثلا بتخصصي.. مثلا بالرياضيات.. هناك شيء في الرياضيات اسمه العامل العقدي، وهو (جذر-1).. وهو شيء افتراضي مستحيل الحدوث منطقياً ورياضياً حسب ما يقوله عقل البشر.

لأنك إذا قمت بعملية حسابية: -1*-1=1

ولكن هل يوجد شيء في واقع الدنيا اسمه جذر -1؟

قال هوبز: لا.. لا يمكن أن يكون مثل هذا الجذر.

قال الخوارزمي: ولكنه مع ذلك موجود.. فعلم التحريك وعلوم الفيزياء والهندسة تعتمد عليه، ولا يمكن لعلماء الصواريخ والمركبات وعلماء الفيزياء الذرية أن يحلوا كثيرا من معادلات التحريك بدون افتراض وجود هذا العامل، وافتراض أننا لا نفهم كيف هو لا يخرجه عن كونه موجودا.

وكذلك الله.. فنحن نعلم أنه موجود، ونعلم بعض صفاته فقط عن طريق ما وصلنا من رسله وأنبياءه.. ولكنا لا نعلم أي شيء عنه عن طريق مسطرة وميزان العقل البشري والاكتشافات البشرية.. لا يمكننا ذلك أبدا.

تخيل لو أن الكمبيوتر الذي تعمل عليه أو أي جهاز صنعه الإنسان كان له عقل ليفكر ويقارن الإنسان مع ذاته..

ماذا سيقارن؟..  وكيف سيقارن؟

هل يمكنه أن يعلم عن الإنسان شيئاً غير المعلومات التي أدخلها إليه المبرمج؟

وإذا كانت له إرادة مستقلة كتلك التي لدى الإنسان، هل يمكنه إلا أن يتصور أنك مصنوع من معدن وبلاستيك وزجاج، وأن سعة ذاكرتك كذا وكذا؟

ربما تبدو هذه المقارنة سخيفة، ولكن هذا بالضبط ما تفعله أنت عندما تقول:( من خلق الله وأين الله؟)

قال هوبز: فلماذا لا نراه؟

ابتسم الخوارزمي، وقال: لسبب بسيط، وهو أنك لا تملك الأدوات المناسبة لذلك، سواء في جسمك وتكوينك، أو عقلك، أو ما يبتكره الإنسان من أدوات القياس الحديثة.

هل تريد أن ترى الله تعالى ببصرك القاصر المحدود الذي لا يستطيع أن يرى سوى جزء بسيط من مجال الموجات الكهربائية، وهي فقط ألوان الطيف المرئي من الضوء؟

أنت لا تستطيع رؤية الكثير الكثير من الأشعة الموجودة في هذه الدنيا فضلاً عن الأشعة الموجودة في الفضاء الخارجي، ولم يكتشف الإنسان وجود هذه المجالات الإشعاعية إلا في العصر الحديث، بأجهزة تطورت مع تقدمه العلمي، وصارت قادرة على القياس لكثير من هذه المجلات، وأثبتت محدودية قدرات جسم الإنسان.

بل إن كثيراً من الحشرات مثل النحل والفراشات تملك خاصية إبصار أفضل منك وأسرع بآلاف المرات، وتستطيع أن ترى الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية،  وأن تحدد الزهور المفيدة المحتوية على الرحيق بناء على هذه القدرات، وهذا ما اكتشفته أجهزة الإنسان وأبحاثه الحديثة.

لقد اكتشفنا ـ من خلال ما أتاحه الله لنا من أجهزة ـ أن معلوماتنا السابقة وقدراتنا قليلة جداً بالمقارنة مع ما في هذا الكون من الموجودات حتى أن بعض البشر الأكثر علماً وذكاء ـ وهو مكتشف النظرية النسبية (آينشتاين) ـ توصل بعقله وعلمه وفلسفته وتجاربه الفيزيائية أنه لا يمكن أن يوجد شيء أو شعاع أو طاقة بمقدورها أن تتجاوز سرعة الضوء – وقد توصل إلى ذلك ليس فقط فيزيائياً وتجريبياً، بل رياضياً وعقلياً – بناء على أقصى ما يستطيع هذا العقل البشري المحدود تصوره – وقال: إن سرعة الضوء تساوي رقماً معيناً وهو حوالي 300000 كيلومتر في الثانية – وهذا يعني أن هناك حدوداً لما يستطيع الإنسان أن يتخيل أو يفترض ويقيس بأجهزته ومعداته.

سكت الخوارزمي قليلا، ثم قال: لقد ذكر الله تعالى هذا الدليل بصيغة محكمة قوية مليئة بالمعاني.. لقد عبر عن ذلك بقوله:{ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (الأنعام:103)

انظروا دقة التعبير القرآني.. لقد وضحت العلوم الحديثة الآية أكثر مما وضحته العلوم القديمة.. فالأبصار تستطيع أن تجري خلف شيء معين وتلحقه وتدركه عن طريق ما يسمى المطابقة البصرية، وذلك إذا كان يقع ضمن المجال المرئي أو المجال الذي يمكن قياسه، وأما الله تعالى فلا يمكن للأبصار ولا حتى أحدث أجهزة القياس البشرية أن تدركه.

وفي قوله:{ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } إشارة إلى أن ذلك من مقتضيات لطف الله بعباده، فلذلك لا يصدمهم بأكثر من حدود طاقاتهم البصرية والعقلية وقدرتها على الاحتمال أو الاستيعاب.

وهو أيضاً الخبير بهذه الطاقات وحدود قدرتها فهو الذي صممها وصنعها وركبها في مخلوقاته.

المناظرة الرابعة:

قال الجمع: حدثتنا عن المناظرة الثالثة.. فحدثنا عن الرابعة.

قال: سرت إلى شارع آخر فوجدت شابا وقورا كان الجمع يطلق عليه اسم (الغزالي)([34]).. ولست أدري هل كان ذلك هو اسمه الذي سماه به أبوه([35])، أم أنه أطلق عليه ذلك لمشابهته أبي حامد الغزالي في استجرار الذين يحاورهم إلى الحق بأنواع الحجج والبراهين بهدوء واتزان وذكاء.

وأما الثاني، فكان شيخا يبدو عليه التأثر بقومنا، فهو يلبس لباسنا، ويرطن بعربية مختلطة بالعجمة.. وقد كان الناس يطلقون عليه اسم (مظْهر) ([36]).. ولست أدري هل كان ذلك هو اسمه الحقيقي، أم أنه لقب كالألقاب التي تعود قومنا أن يتنابزوا بها.. فإن كان لقبا، فقد صدق من لقبه به، فقد كان كل شيء فيه يدل على اهتمامه الشديد بمظهره، ومراعاته الشديدة له.

لن أطيل عليكم.. سأقص عليكم الحوار كما سمعته حرفا حرفا..

بدأ مظهر الحديث، فقال متوجها للغزالي: إذا كان الله قد خلق العالم فمن خلق الله؟

قال الغزالي: كأنك بهذا السؤال أو بهذا الاعتراض تؤكد أنه لا بد لكل شىء من خالق!!

قال مظهر: لا تلقنى فى متاهات، أجب عن سؤالى.

قال الغزالي: لا لف ولا دوران، إنك ترى أن العالم ليس له خالق، أى أن وجوده من ذاته دون حاجة إلى موجد، فلماذا تقبل القول بأن هذا العالم موجود من ذاته أزلاً وتستغرب من أهل الدين أن يقولوا: إن الله الذى خلق العالم ليس لوجوده أول؟

إنها قضية واحدة، فلماذا تصدق نفسك حين تقررها وتكذب غيرك حين يقررها، وإذا كنت ترى أن إلهاً ليس له خالق خرافة، فعالم ليس له خالق خرافة كذلك، وفق المنطق الذى تسير عليه!!

قال مظهر: إننا نعيش فى هذا العالم ونحس بوجوده، فلا نستطيع أن ننكره!

قال الغزالي: ومن طالبك بإنكار وجود العالم؟ إننا عندما نركب عربة أو باخرة أو طائرة تنطلق بنا فى طريق رهيب، فتساؤلنا ليس فى وجود العربة، وإنما هو: هل تسير وحدها أم يسيرها قائد بصير!!

ومن ثم فإننى أعود إلى سؤالك الأول لأقول لك: إنه مردود عليك، فأنا وأنت معترفان بوجود قائم، لا مجال لإنكاره، تزعم أنه لا أول له بالنسبة إلى المادة، وأرى أنه لا أول لها بالنسبة إلى خالقها.

فإذا أردت أن تسخر من وجود لا أول له، فاسخر من نفسك قبل أن تسخر من المتدينين..

قال مظهر: تعنى أن الافتراض العقلى واحد بالنسبة إلى الفريقين؟

قال الغزالي: إننى أسترسل معك لأكشف الفراغ والادعاء الذين يعتمد عليهما الإلحاد وحسب، أما الافتراض العقلى فليس سواء بين المؤمنين والكافرين..

إننى ـ أنا وأنت ـ ننظر إلى قصر قائم، فأرى بعد نظرة خبيرة أن مهندساً أقامه، وترى أنت أن خشبة وحديدة وحجرة وطلاءة قد انتظمت فى مواضعها وتهيأت لساكنيها من تلقاء أنفسها..

الفارق بين نظرتينا إلى الأمور أننى وجدت قمراً صناعياً يدور فى الفضاء، فقلت أنت: (انطلق وحده دونما إشراف أو توجيه)، وقلت أنا: بل أطلقه عقل مشرف مدبر..

إن الافتراض العقلى ليس سواء، إنه بالنسبة إلىّ الحق الذى لا محيص عنه، وبالنسبة إليك الباطل الذى لا شك فيه، وإن كل كفار عصرنا مهرة فى شتمنا نحن المؤمنين ورمينا بكل نقيصة فى الوقت الذى يصفون أنفسهم فيه بالذكاء والتقدم والعبقرية..

إننا نعيش فوق أرض مفروشة، وتحت سماء مبنية، ونملك عقلاً نستطيع به البحث والحكم، وبهذا العقل ننظر ونستنتج ونناقش ونعتقد.

إننا نلحظ إبداع الخالق فى الزروع والزهور والثمار، وكيف ينفلق الحمأ المسنون عن ألوان زاهية أو شاحبة توزعت على أوراق وأكمام حافلة بالروح والريحان، ثم كيف يحصد ذلك كله ليكون أكسية وأغذية للناس والحيوان، ثم كيف يعود الحطام والقمام مرة أخرى زرعاً جديد الجمال والمذاق تهتز به الحقول والحدائق، من صنع ذلك كله؟

قال مظهر، وكأنه سكران يهذى: الأرض صنعت ذلك!!

قال الغزالي: الأرض أمرت السماء أن تهمى، والشمس أن تشع، وورق الشجر أن يختزن الكربون ويطرد الأوكسجين والحبوب أن تمتلئ بالدهن والسكر والعطر والنشا؟

قال مظهر: أقصد الطبيعة كلها فى الأرض والسماء!

قال الغزالي: إن طبق الأرز فى غذائك أو عشائك تعاونت الأرض والسماء وما بينهما على صنع كل حبة فيه، فما دور كل عنصر فى هذا الخلق؟ ومن المسئول عن جعل التفاح حلواً والفلفل حريفاً أهو تراب الأرض أم ماء السماء؟

قال مظهر: لا أعرف.. ولا قيمة لهذه المعرفة!!

قال الغزالي: ألا تعرف أن ذلك يحتاج إلى عقل مدبر ومشيئة تصنف؟  فأين ترى العقل الذى أنشأ والإرادة التى نوعت فى أكوام السباخ أو فى حزم الأشعة؟

قال مظهر: إن العالم وجد وتطور على سنة النشوء والارتقاء، ولا نعرف الأصل ولا التفاصيل!

قال الغزالي: أشرح لكم ما تقولون! تقولون: إنه كان فى قديم الزمان وسالف العصر والأوان مجموعة من العناصر العمياء، تضطرب فى أجواز الفضاء، ثم مع طول المدة وكثرة التلاقى سنحت فرصة فريدة لن تتكرر أبد الدهر، فنشأت الخلية الحية فى شكلها البدائى، ثم شرعت تتكاثر وتنمو حتى بلغت ما نرى.. هذا هو الجهل الذى أسميتموه علماً، ولم تستحوا من مكابرة الدنيا به. 

أعمال حسابية معقدة تقولون: إنها حلت تلقائياً، وكائنات دقيقة وجليلة تزعمون أنها ظفرت بالحياة فى فرصة سنحت ولن تعود.. وذلك كله فراراً من الإيمان بالله الكبير  المتعال.

قال مظهر، وهو ساخط: أفلو كان هناك إله كما تقول كانت الدنيا تحفل بهذه المآسى والآلام، ونرى ثراء يمرح فيه الأغبياء وضيقاً يحتبس فيه الأذكياء، وأطفالاً يمرضون ويموتون، ومشوهين يحيون منغصين..

قال الغزالي: لقد صدق فيكم ظنى، إن إلحادكم يرجع إلى مشكلات نفسية واجتماعية أكثر مما يعود إلى قضايا عقلية مهمة!

ويوجد منذ عهد بعيد من يؤمنون ويكفرون وفق ما يصيبهم من عسر ويسر:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }  (الحج:11)

قال مظهر: لسنا أنانيين كما تصف، نغضب لأنفسنا أو نرضى لأنفسنا، إننا نستعرض أحوال البشر كافة ثم نصدر حكمنا الذى ترفضه..

قال الغزالي: آفتكم أنكم لا تعرفون طبيعة هذه الحياة الدنيا ووظيفة البشر فيها، إنها معبر مؤقت إلى مستقر دائم، ولكى يجوز الإنسان هذا المعبر إلى إحدى خاتمتيه لا بد أن يبتلى بما يصقل معدنه ويهذب طباعه، وهذا الابتلاء فنون شتى، وعندما ينجح المؤمنون فى التغلب على العقبات التى ملأت طريقهم وتبقى صلتهم بالله واضحة مهما ترادفت البأساء والضراء فإنهم يعودون إلى الله بعد تلك الرحلة الشاقة ليقول لهم:{ يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } (الزخرف:68)

قال مظهر: وما ضرورة هذا الابتلاء؟

قال الغزالي: إن المرء يسهر الليالى فى تحصيل العلم، ويتصبب جبينه عرقاً ليحصل على الراحة، وما يسند منصب كبير إلا لمن تمرس بالتجارب وتعرض للمتاعب، فإن كان ذلك هو القانون السائد فى الحياة القصيرة التى نحياها على ظهر الأرض فأى غرابة أن يكون ذلك هو الجهاد الصحيح للخلود المرتقب؟

قال مظهر ـ مستهزئاً ـ: أهذه فلسفتكم فى تسويغ المآسى التى تخالط حياة الخلق وتصبير الجماهير عليها؟

قال الغزالي: سأعلمك ـ بتفصيل أوضح ـ حقيقة ما تشكو من شرور، إن هذه الآلام قسمان: قسم من قدر الله فى هذه الدنيا، لا تقوم الحياة إلا به، ولا تنضج رسالة الإنسان إلا فى حره.

وهذا التفسير لطبيعة الحياة العامة ينضم إليه أن الله جل شأنه يختبر كل امرئ بما يناسب جبلته، ويوائم نفسه وبيئته، وما أبعد الفروق بين إنسان وإنسان، وقد يصرخ إنسان بما لا يكترث به آخر ولله فى خلقه شئون، والمهم أن أحداث الحياة الخاصة والعامة محكومة بإطار شامل من العدالة الإلهية التى لا ريب فيها.

تلك هى النظرة الصحيحة إلى المتاعب غير الإرادية التى يتعرض لها الخلق.

أما القسم الثانى من الشرور التى تشكو منها يا صاحبى فمحوره خطؤك أنت وأشباهك من المنحرفين.

قال مظهر مستنكراً: أنا وأشباهى لا علاقة لنا بما يسود العالم من فوضى؟ فكيف تتهمنا؟

قال الغزالي: بل أنتم مسئولون، فإن الله وضع للعالم نظاماً جيداً يكفل له سعادته، ويجعل قويه عوناً لضعيفه وغنيه براً بفقيره، وحذر من اتباع الأهواء واقتراف المظالم واعتداء الحدود.

ووعد على ذلك خير الدنيا والآخرة:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97)

فإذا جاء الناس فقطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وتعاونوا على العدوان بدل أن يتعاونوا على التقوى فكيف يشكون ربهم إذا حصدوا المر من آثامهم؟

إن أغلب ما أحدق بالعالم من شرور يرجع إلى شروده عن الصراط المستقيم، وفى هذا يقول الله جل شأنه:{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)

قال مظهر: ماذا تعنى؟

قال الغزالي: أعنى أن شرائع الله كافية لإراحة الجماهير، ولكنكم بدل أن تلوموا من عطلها تجرأتم على الله واتهمتم دينه وفعله!

ومن خسة بعض الناس أن يلعن السماء إذا فسدت الأرض، وبدلاً من أن يقوم بواجبه فى تغيير الفوضى وإقامة الحق يثرثر بكلام طويل عن الدين ورب الدين..!!

إنكم معشر الماديين مرضى تحتاج ضمائركم وأفكاركم إلى علاج بعد علاج..

قال الغزالي ذلك، ثم انصرف والغضب باد على وجهه، وقد افترق الجمع بانصرافه.. وقد تعجبت إذ رأيت دموعا كثيرة بدأت تتجمع في عين (مظهر).. وقد استوحيت من خلال تجربتي أن كثيرا من أشعة النور قد تسربت إليه من خلال حديث الغزالي معه([37]).

المناظرة الخامسة:

قال الجمع: فحدثنا عن المناظرة الخامسة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة وجدت شيخا صاحب لحية بيضاء، لكنه خضبها بما زاده وقارا.. كان الناس يطلقون عليه لقب (الزّندَاني).. وكان يحاور بهدوء رجلا من بلادنا كان اسمه (البروفسور روبرت)، وقد كان على حسب ما يبدو صاحب منصب علمي مرموق([38]).

سألقي على مسامعكم بعض ما سمعت من حديث..

قال الزنداني: هل لديك استعداد يا بروفسور لأن نتحاور حول الإيمان بالله.

قال روبرت: نعم

قال الزنداني: هل كنت قبل مائة سنة موجوداً؟

قال روبرت: لا.

فقال الزنداني: وهذه النباتات بأغصانها وجذورها وأزهارها هل كانت موجودة قبل آلاف أو مئات السنين؟

قال روبرت: لا.

قال الزنداني: وكذلك الحيوانات، ما كانت موجودة منذ الأزل.

قال روبرت: أجل.

قال الزنداني: إن علم الحفريات في الأرض قد أثبت أنه قد مرت فترة زمنية على الأرض لم يكن فيها نباتات ولا حيوانات بل ولا جبال ولا وديان ولا تربه ولا أنهار ولا بحار.

قال روبرت: نعم.

قال الزنداني: بل قد مر وقت لم يكن للكوكب الأرضي وجود، بل كان جزءاً من مادة السماء، كما قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } (الأنبياء:30)

لاحظت وجه روبرت يتغير عندما قرأ الزنداني الآية.. فقال الزنداني: إن الشمس والقمر ونجوم السماء لم يكن لها وجود، وكانت دخاناً كما يقرر ذلك علماء الفلك اليوم، وكما يقرره القرآن من قبل في قوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } (فصلت:11).

قال روبرت: ما ذكرته الآية من وجود أصل دخاني للكون صحيح.

قال الزنداني: كما يقرر علماء الكون اليوم أن مادة الكون الدخانية (السديم) لم تكن موجودة، ووجدت بالانفجار العظيم، وكان الكون قبل ذلك عدماً.

قال روبرت: ما تقوله صحيح.

قال الزنداني: إذن لابد من وجود الخالق سبحانه الذي أوجد هذه المخلوقات من عدم، وعدد الأدلة على وجود الله الخالق كعدد هذه المخلوقات التي وجدت من العدم.

قال روبرت: نعم، لابد لهذا الكون من خالق.

قال الزنداني: فمن هو؟

قال روبرت: الطبيعة!

قال الزنداني: عندي قاعدة أخرى ستبين لنا من الخالق، وستعرفنا بصفاته.

قال روبرت: وما هي؟

قال الزنداني: أنظر إلى هذا المصباح (وكان في ذلك الشارع مصباح كهربائي (نيون)).

قال روبرت: ماذا أنظر؟

قال الزنداني: هل الذي صنع هذا المصباح لديه زجاج؟

قال روبرت: نعم، وإلا فمن أين جاء هذا الزجاج؟

قال الزنداني: وهذا الصانع لديه قدرة على تشكيل الزجاج في شكل أسطواني منتظم.

قال روبرت: أجل.

قال الزنداني: وصانع المصباح لديه معدن (الألمنيوم الذي في طرفي المصباح).

قال روبرت: نعم.

قال الزنداني: وهو قادر على تشكيل الألمنيوم في شكل غطاء.

قال روبرت: نعم.

قال الزنداني: ألا ترى إلى الإحكام بين فتحة الاسطوانة الزجاجية والغطاء المعدني، ألا يدلك ذلك الإحكام على أن الصانع حكيم؟

قال روبرت: بلى.

قال الزنداني: وهذا المصباح يضئ بمرور التيار الكهربائي بين قطبيه ألا يدل ذلك على أن صانعه عالم بهذه الخاصية؟

قال روبرت: يمكنك أن تعرف ذلك بالضغط على زر المصباح الكهربائي فتحاً وإغلاقاً.

قال الزنداني: إذن تشهد الآن بأن صانع هذا المصباح يتصف بما يلي: لديه زجاج.. قادر على تشكيل الزجاج في شكل أسطواني.. لديه إحكام، لأنه أحكم فتحة الغطاء المعدني على فتحة الاسطوانة الزجاجية.. لديه علم بالكهرباء وخاصيتها عند مرورها في المصباح.

قال روبرت: نعم.

قال الزنداني: أتشهد بذلك؟

قال روبرت: أشهد.

قال الزنداني: كيف تشهد بصفات صانع لم تره!؟

أشار روبرت إلى المصباح، وقال: هذا صنعه أمامي يدلني على ذلك.

قال الزنداني: إذن، المصباح أو المصنوع هو كالمرآة يدل على بعض صفات الذي صنعه، فلا يكون شئ في المصباح أو المصنوع إلا وعند الصانع صنعة أو قدرة أو جد بها ذلك الشي الذي نراه.

قال روبرت: أجل.

قال الزنداني: هذه القاعدة الثانية، ففي المخلوقات آثار تدل على بعض صفات خالقها سبحانه، وكما عرفت بعض صفات صانع المصباح من التفكر في المصباح، فسوف تعرف بعض صفات الخالق جل وعلا بالتفكر في مخلوقاته.

قال روبرت: كيف؟

قال الزنداني: فلننظر في خلقك أنت، ولنتفكر فيك بدلاً من المصباح، وعندئذ ستعرف بعض صفات خالقك.

فقال روبرت: كيف؟

قال الزنداني: هل درجة حرارة جسم الإنسان ثابتة أم متغيرة بحسب الطقس الخارجي؟

قال روبرت: بل ثابتة عند 37ْ درجة مئوية.

قال الزنداني: إن في الجسم عوامل مثل: إفراز العرق، تقوم بتخفيض درجة حرارة الجسم إلى 37ْ درجة عندما ترتفع درجة حرارة الجو التي قد تصل إلى أكثر من خمسين درجة، وفي الجسم أيضاً عوامل أخرى، كإحراق الطعام في الجسم، تعمل على رفع درجة حرارة الجسم إلى 37ْ درجة عند انخفاض درجة حرارة الجو في الشتاء والتي قد تصل إلى درجاتٍ تحت الصفر.. فهل الذي أقام هذا الميزان المحكم الدائم في عمله في سائر أجسام البشر التي خلقت وسوف تخلق بحيث تبقى درجة الحرارة ثابتة عند 37ْ لا تزيد ولا تنقص رغم تقلبات درجات الحرارة في الجو المحيط بنا، هل هو حكيم أم لا؟

أحس روبرت أنه إن سلم باتصاف الخالق بصفة الحكمة فستسقط الطبيعة التي لا حكمة لها، فلذلك قال: لا ليس بحكيم!

قال الزنداني: لقد أعد لك الجهاز الذي يضبط درجة الحرارة في الجسم وأنت جنين في بطن أمك، في رحمٍ مكيفة عند درجة سبعة وثلاثين في وقت لم تكن بحاجة إليه وأنت جنين في بطن أمك، وإنما تحتاج إليه بعد خروجك إلى هذه الأرض التي تتغير فيها درجات الحرارة فتكون عندئذ في أمس الحاجة إلى هذا الجهاز المنظم للحرارة والمثبت لها عند درجة 37ْ وهي الدرجة المناسبة لكيمياء الحياة في جسم الإنسان. ألا ترى أن من زودك في بطن أمك بما ستحتاج إليه بعد خروجك عليم بالبيئة التي ستخرج إليها وما يلزم لها من تكوينات في خلقك!؟

أحس روبرت أنه إن سلم بأن الخالق يتصف بالعلم فستسقط الطبيعة التي لا علم لها ولا حكمة فعاد مرة ثانية إلى الإنكار والجحود. فقال روبرت: لا، ليس بعليم.

قال الزنداني: سأضرب لك مثالاً آخر.. هل ينمو جسمك باتزان أم بغير اتزان؟

قال روبرت: بل باتزان.. فلو كان بغير اتزان لرأيت عيناً أكبر من عين، ويداً أكبر من يد، ورِجلاً أكبر من رِجل.

قال الزنداني: الذي وضع الميزان في كل خلية في جسمك حكيم أم ليس بحكيم؟

قال روبرت: ليس بحكيم.

قال ذلك فراراً مرة أخرى من أن يعترف بالحكمة، فيُلزم بالاعتراف بالخالق، فقال الزنداني: يا بروفسور! أرأيت ميزان الحركة في جسمك الذي يعمل على تثبيت الجسم وموازنته بحيث لو انزلقتَ إلى الجهة اليسرى يعيدك فوراً إلى الجهة اليمنى بعمل تلقائي محكم، وهكذا لو انزلقت إلى أي جهة أخرى فيعيدك إلى الجهة المقابلة لها، هل الذي خلق لك جهاز التوازن في الحركة وأنت جنين في بطن أمك وجعله يعمل بسرعة البرق حكيم أم ليس بحكيم؟

قال روبرت: ليس بحكيم!

قال الزنداني: سبحان الله!! ألا ترى أنك تكابر بكلامك هذا..

قال روبرت: لا.. لا أكابر.. أنا أقول لك ما أعتقده.

عدد له الزنداني له بعد هذا بعض الموازين المبثوثة في الكون مثل ثبات نسبة الأكسجين في الهواء، وتوازن سير القمر مع الأرض بحيث يسرع عند الاقتراب منها، ويبطئ عند الابتعاد عنها، والتوازن بين سرعة سير النجوم والكواكب والجاذبية بينها وبين غيرها من النجوم والكواكب، ثم قال له: ألا يدل ذلك كله أنه من صنع الحكيم؟

فقال روبرت: لا.

سكت الزنداني قليلا، ثم قال: يا برفسور.. سأقص عليك شيئا رأيته بعيني امتلأت منه دهشة.. أرجو أن تفسره لي([39]).

قال روبرت: لا بأس.. سأفسره لك في حدود تخصصي.

قال الزنداني: لقد رأيت مرة زلزالا أصاب بلدنا.. وقد رأيت ظاهرة عجيبة مصاحبة للزلزال.. لقد رأيت قضيبا معدنيا يطير في السماء، ثم يسقط على مسمار فيخرقه في منتصفه، فيتزن القضيب، ثم رأيت مادة من اللحام تطير، فتقع على أحد طرفي القضيب، ثم رأيت طبقا معدنيا يطير فيقع على اللحام، ويشكل كفة ميزان، وبنفس الطريقة تكونت الكفة الثانية، وهكذا وجد لدينا ميزان!

تغيرت ملامح وجه روبرت، ثم قال: ما هذا؟ زلزال يصنع ميزاناً!؟

قال الزنداني: انتظر، هناك أعجب من هذا.. إنه يعمل بشكل آلي بحيث لو وضعت وزنا محدداً في كفة، فإنه يقوم بوضع نفس الوزن في الكفة الثانية، وإذا أنقصتها قام هو فأنقص ما يقابلها من الكفة الأخرى؛ لأنه لا يرضى الا أن يكون متزناً!

أخذ روبرت ينظر باستغراب ودهشة إلى الزنداني، وكأنه يتهمه بالجنون، فقال الزنداني متهكماً: يابرفسور جاء صدفة! ويعمل بالصدفة!

هنا فطن روبرت، فانفجر ضاحكا، فقال له الزنداني: أنت لم تقبل لي ميزاناً واحداً بالصدفة.. فكيف تزعم أن موازين السماوات والأرض كلها قد خلقت صدفة!

لم يجد روبرت ما يقول.. لكني رأيت بصيصا من النور قد بدأ يتسرب إليه لينسخ ظلمات الإلحاد التي كان غارقا فيها.

المناظرة السادسة:

قال الجمع: حدثتنا عن المناظرة الخامسة.. فحدثنا عن السادسة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة، رأيت الناس يلتفون حول رجلين..

أما أحدهما، فكان الناس يطلقون عليه لقب (وحيد الدين خان)([40])، وتبدو عليه سمات الهنود التي تجمع بين البساطة والجمال.

وأما الثاني، فرجل إنجليزي يقال له (برتراند رسل)([41]).. وهو رجل قد بلته الأيام، وحنت ظهره السنون، ولكنها مع ذلك لم تمنعه من القدوم لتلك البلاد للبحث عن الله، والمناظرة في ذلك، والتواضع أمام من يناظره.

بدأ خان الحديث، فقال متوجها لراسل: وأخيرا التقينا يا راسل.. لطالما اشتقت إلى لقائك بعد أن قرأت كتبك، وعرفت نوع توجهك الفكري.

قال راسل: وما قرأت منها؟

قال خان: كلها تقريبا..

قال راسل: فأنت تعرفني الآن جيدا؟

قال خان: ربما أعرفك.. ولكن مع ذلك ليس الخبر كالعيان.

قال راسل: لقد سئلت  ذات يوم: هل يحيا الإنسان بعد الموت؟.. فهل تدري بما أجبت؟

قال خان: أجل.. لقد نفيت حياة الإنسان بعد الموت.. واستدللت لنفيك بقولك: (عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم، وليس من خلال ضباب العاطفة نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت، فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت يبدو لي بدون أي مرتكزٍ أو أساسٍ علمي، ولا أظن أنه يتسنى لمثل هذا الاعتقاد أن ينشأ وأن ينتشر لولا الصدى الانفعالي الذي يحدثه فينا الخوف من الموت. لا شك أن الاعتقاد بأننا سنلقى في العالم الآخر أولئك الذين نكن لهم الحب، يعطينا أكبر العزاء عند موتهم، ولكني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفه وآمالنا، ولا أحسب أن من الصواب والحكمة أن نعتنق آراء لا تستند إلى أدلة بينة وعلمية)([42])

قال راسل: فما موقفي من الدين؟

قال خان: لقد عبرت عنه بقولك: (إن الدين لا يقوم إلا على عوامل الترهيب والتلويح بالعقاب، وبالتالي فإن الدين يشكل ضرباً من ضروب الشر التي تملأ هذا العالم.. وهذا هو السبب في أننا نجد أن أولئك الذين لم يبلغوا بعدُ درجة كافية من النضج الأخلاقي والعقلي هم وحدهم الذين ما زالوا يتمسكون بالمعايير الدينية التي تناهض بطبيعتها جميع المعايير الإنسانية الخيرة التي يجب أن تسود عالمنا الحديث)

قال راسل: فما موقفي من الأخلاق؟

قال خان: أنت ترى أن للإنسان إرادة حرة تدفعه إلى أن يقيم لنفسه في الحياة مثلاً عليا، يطمح بها إلى تحقيق حياة خيرة، تسير على هدى المعرفة والمحبة الإنسانية، ومن شأن حرية الاختيار هذه أن تغني الإنسان عن البحث عن نظريات أخلاقية لا طائل وراءها.

وذكرت أنه لا جدوى للنظريات الأخلاقية التجريدية لضرورات الحياة العملية، وبرهنت على ذلك بالأم التي تواجه مرض طفلها الصغير، وقلت في ذلك: إن تلك الأم لا تحتاج في سعيها وراء شفاء طفلها إلى مشرعين أخلاقيين، وإنما تحتاج إلى طبيب ماهر قادر على وصف العلاج المناسب.

قال راسل: لقد كتبت قصة أدبية ذكرت فيها أن السديم الحار دار عبثاً في الفضاء عصوراً لا تعد ولا تحصى دوراناً ذاتيا، ثمّ نشأت عن هذا الدوران هذه الكائنات المنظمة البديعة، بطريق المصادفة، وأن اصطداماً كبيراً سيحدث في هذا الكون، يعود به كل شيء إلى سديم، كما كان أولاً.. أتعرف هذه القصة؟

قال خان: أجل..

قال راسل: أتدري ما الذي أقصده منها؟

قال خان: أنت تريد أن تبين من خلالها نشوء الكون وتطوره.. ونشوء الحياة وتطورها.. وأصل الإنسان ونشأته وتطوره.. ونشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها.. وأخيراً أنت تشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء، وأنها الفناء والعدم، ولا أمل لكائن بعدها بشيء.. فالحياة من السديم، وإلى السديم تعود.

قال راسل: أراك ملما بأفكاري.. ولكني كما تعلم كنت متقلبا كل حين.. فهل تعلم النهايات الفكرية التي جئت إليك بها لعلك تستطيع أن تقنعني بما يجعلني أعدل عنها؟

قال خان: أجل.. وإلا لما قبلت أن أناقشك وأناظرك، فلا يمكن لمناظر أن يجهل من يناظره.

قال راسل: فأخبرني عنها([43]).

قال خان: من ذلك أنك ذكرت أنك بعد أن درست الفيزياء، وعلم الحياة، وعلم النفس، والمنطق الرياضي، انتهيت إلى أن (مذهب التشكيك في الوجود مستحيل نفسياً)،  ومع ذلك فإن الإنسان عاجز عن أن يحيط إلا بأقل قدر من المعرفة.

وتقول بالنسبة إلى الفلسفة: (تدعي الفلسفة منذ القدم ادعاءات كبيرة، ولكن حصيلتها أقل بكثير بالنسبة إلى العلوم الأخرى)

وتقول عن تصورنا العلمي للكون أنه (لا تدعمه حواسُّنا التجريبية، بل هو عالم مستنبط كلياً)

وبلغ بك الأمر في هذا إلى أن قلت: (إن أفكار الناس لا توجد إلا في مخيلاتهم فحسب)، أي: إن التجربة لا تستطيع أن تثبت مطابقة هذه الأفكار للواقع.

وانتهيت إلى أن التجربة قد أعطيت لها الأهمية الكبرى، ولذلك يجب أن تخضع (التجريبية) باعتبارها فلسفةً لتحديات مهمة.. وقد ذكرت سريان هذا حتى على النظريات والقوانين العلمية.

وقلت..

قاطعه راسل، وقال: أحسب أنك تعرف كل ما قلت، بل تحفظه عن ظهر قلب.. فهل تعرف ما قيل في؟

قال: من أحسن ما قيل فيك ما قاله البروفسور (ألان وود)، فقد قال: (إن برتراند رسل فيلسوف بدون فلسفة)

قال راسل: دعنا منه، فقد أعماه الحسد أن يرى محاسني.. دعنا منه.. وهيا لما اجتمعنا من أجله.. لقد سمعت مني ما قلت.. فبم ترد علي؟

قال خان: سأبدأ بموقفك من الطبيعة.. أو ركونك إلى الطبيعة.. فأنت ترى ـ انطلاقا من معارفك في البيولوجيا ـ أن الحوادث تحدث طبقا (لقانون الطبيعة).. ولهذا لا حاجة لأن نفترض لهذه الحوادث إلها مجهولا.

قال راسل: صحيح أنا أقول هذا.. ولست وحدي في ذلك.. فكل الفلاسفة الماديين يرددون هذا.

قال خان: لقد قال بعضهم يعبر عن علاقة الطبيعة بالكون: (إن الطبيعة حقيقة (من حقائق الكون) وليست تفسيرا (له).. وصدق في ذلك.. فما كشف عنه العلم من الكون هو الهيكل الظاهر منه فقط.. وكل مضمون العلم حوله هو إجابة عن السؤال: (ما هذا؟).. ولكن الدين هو الذي بين لنا الأسباب والدوافع الحقيقية التي تدور (وراء الكون)، وهو يجيب عن السؤال المهم:(ولكن لماذا؟)

ولتفهم هذا سأستعير لك مثالا بسيطا مقربا.. ألا ترى الكتكوت يعيش أيامه الأولى داخل قشرة البيضة القوية ويخرج منها بعدما تنكسر وكأنه مضغة لحم، كان الإنسان القديم يؤمن بأن الله أخرجه.. ولكننا اليوم بالمنظار نعلم أنه في اليوم الحادي والعشرين يظهر قرن صغير على منقار الكتكوت يستعمله في تكسير البيضة لينطلق خارجا منها، ثم يزول هذا القرن بعد بضعة أيام من خروجه من البيضة.

ابتهج راسل، وقال: ها هو العلم يقضي على التفسير الخرافي الذي جاء به الدين.. فالقرن هو الذي أخرج الكتكوت، لا الإله.

ابتسم خان، وقال: إن التأمل فيما كشفه العلم ـ بعيدا عن الغرور والكبرياء والزهو ـ لا يدلنا إلا على حلقات جديدة للحادث، ولا يفسر الحادث..

قال راسل: كيف ذلك؟

قال خان: إن العلم لم يكتشف بعد السبب الحقيقي.. لقد غير صيغة السؤال فقط.. فبدل أن يكون السؤال عن تكسر البيضة أصبح عن (القرن)؟

إن السبب الحقيقي سوف يتجلى لأعيننا حين نبحث عن العلة التي جاءت بهذا القرن، العلة التي كانت على معرفة كاملة بأن الكتكوت سوف يحتاج إلى هذا القرن ليخرج من البيضة، فنحن لا نستطيع أن نعتبر الوضع الأخير (وهو مشاهدتنا بالمنظار) إلا أنه (مشاهدة للواقع على نطاق أوسع) ولكنه ليس تفسيرا له.

لقد ضرب البروفيسور (سيسيل بايس هامان) وهو أستاذ أمريكي في البيولوجيا، مثالا قريبا من هذا، فقال: (كانت العملية المدهشة في صيرورة الغذاء جزءا من البدن تنسب من قبل إلى الإله، فأصبحت اليوم بالمشاهدة الجديدة تفاعلا كيماويا.. ولكن هل أبطل هذا وجود الإله؟.. فما القوة التي أخضعت العناصر الكيماوية لتصبح تفاعلا مفيدا؟.. إن الغذاء بعد دخوله فى الجسم الإنساني يمر بمراحل كثيرة خلال نظام ذاتي، ومن المستحيل أن يتحقق وجود هذا النظام المدهش باتفاق محض، فقد صار حتما علينا بعد هذه المشاهدات أن نؤمن بأن الله يعمل بقوانينه العظمى التي خلق بها الحياة!)

وعلى هذا المنوال نقول بأن الإنسان كان في القديم يعرف أن السماء تمطر، لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر، حتى نزول قطرات الماء على الأرض وكل هذه المشاهدات صور للوقائع، وليست في ذاتها تفسيرا لها.

فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟ وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة، حتى أن العلماء يستنبطون منها قوانين علمية؟ والحقيقة أن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون ليس سوى خدعة لنفسه، فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الأخيرة.

لقد قال العالم الأمريكي سيسيل في هذا: (إن الطبيعة لا تفسر شيئا (من الكون) وإنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير)

سأوضح لك هذا بمثال بسيط..

لو أنك سألت طبيبا: ما السبب وراء احمرار الدم؟.. لأجاب: لأن في الدم خلايا حمراء، حجم كل خلية منها جزء من البوصة.. فتقول له:  حسنا.. ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟.. فيجيبك: في هذه الخلايا مادة تسمى (الهميوجلوبين)، وهى مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين فى القلب.. فتقول له: هذا جميل.. ولكن من أين تأتى هذه الخلايا التي تحمل الهميوجلوبين؟.. فيجيبك: إنها تصنع في كبدك.. فتقول له: عجيب! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكبد وغيرها بعضها ببعض ارتباطا كليا، وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟.. فيجيبك:  هذا ما نسميه بـ (قانون الطبيعة).. فتقول له: ولكن ما المراد بـ (قانون الطبيعة) هذا، يا سيدي الطبيب؟.. فيجيبك:  المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية للقوى الطبيعية والكيماوية.. فتقول له: ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائما إلى نتيجة معلومة؟ وكيف تنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء، ويعيش السمك في الماء، ويوجد إنسان في الدنيا بجميع ما لديه من الإمكانات والكفاءات العجيبة المثيرة؟.. فيجيبك:  لا تسألني عن هذا، فإن علمي لا يتكلم إلا عن: (ما يحدث)، وليس له أن يجيب: (لماذا يحدث؟)

من هذه الأسئلة يتضح لك مدى صلاحية العلم الحديث لشرح العلل والأسباب وراء هذا الكون.. ولا شك أنه قد أبان لنا عن كثير من الأشياء التي لم نكن على معرفة بها، ولكن الدين جواب لسؤال آخر لا يتعلق بهذه الكشوف الحديثة العلمية، فلو أن هذه الكشوف زادت مليون ضعف عنها اليوم فسوف تبقى الإنسانية بحاجة إلى الدين، إن جميع هذه الكشوف (حلقات ثمينة من السلسلة)، ولكن ما يحل محل الدين لابد أن يشرح الكون شرحا كليا وكاملا، فما الكون على حاله هذه إلا كمثل ماكينة تدور تحت غطائها لا نعلم عنها إلا أنها (تدور)، ولكنا لو فتحنا غطاءها فسوف نشاهد كيف ترتبط هذه الماكينة بدوائر وتروس كثيرة يدور بعضها بعضا، ونشاهد حركاتها كلها.. هل معنى هذا أننا قد علمنا خالق هذه الماكينة بمجرد مشاهدتنا لما يدور داخلها؟ هل يفهم منطقيا أن مشاهدتنا هذه أثبتت أن الماكينة جاءت من تلقاء ذاتها، وتقوم بدورها ذاتيا؟ لو لم يكن هذا الاستدلال منطقيا فكيف إذن نثبت بعد مشاهدة بعض عمليات الكون أنه جاء تلقائيا ويتحرك ذاتيا؟

لقد استغل البروفيسور هريز هذا الاستدلال حين نقد فكرة داروين عن النشوء والارتقاء فقال:( إن الاستدلال بقانون الانتخاب الطبيعي يفسر عملية (بقاء الأصلح)، ولكنه لا يستطيع أن يفسر حدوث هذا الأصلح)

قال راسل: دعنا من هذا، وأجبني على ما يقوله علم النفس الحديث المؤيد بالكثير من الوسائل العلمية.. لقد أعطى هذا العلم العظيم تفسيره للدين والإله.. فذكر أن الإله والآخرة ليسا سوى قياس للشخصية الإنسانية وأمانيها على مستوى الكون.. ما تقول في هذا؟

ابتسم خان، وقال: سأجيبك عن هذا بصروف من الإجابات..

وأبدأ أولها بالتسليم الجدلي لك.. فأعتبر أن ما تقوله صحيحا.. ولكني أضم إلى ذلك دعوى أخرى، وهي أن الشخصية الإنسانية وأمانيها ليست محصورة في الإنسان فقط.. بل هي موجودة أيضا على مستوى الكون.. ولا يهمني ما عسى أن يبطل ادعائي هذا من منطق المعارضين.. لأنه ليس لديهم ـ بالنسبة للإنسان في هذا ـ أي دليل.

نحن نعرف أن المادة (الجنين) التي لا تشاهد إلا بالمنظار تنبئ في ذاتها عن إنسان طوله 72 بوصة، وأن (الذرة) التي لا تقبل المشاهدة تحتوى نظاما رياضيا كونيا يدور عليه النظام الشمسي، فلا عجب إذن أن يكون النظام الذي نشاهده على مستوى الإنسان في الجنين، وعلى مستوى النظام الشمسي في الذرة موجودا أيضا.. بل موجود بصورة أكمل.. على مستوى الكون.. فضمير الإنسان وفطرته ينشدان عالما متطورا كاملا، فلو كان هذا الأمل صدى لعالم حقيقي، فلست أرى في ذلك أي ضرب من ضروب الاستحالة.

هذا أولا..

ثانيا.. أنا لا أكذب ما يورده علماء النفس وغيرهم من أن الذهن الإنساني يحتفظ بأفكار قد تظهر فيما بعد في صورة غير عادية.. ولكن سوف يكون قياسا مع الفارق أن نعتمد على هذه الفكرة كي نبطل الدين.. لأن ذلك قياس في غير محله، وهو ـ بذلك ـ يعتبر استدلالا غير عادى من واقع عادى..

وذلك يشبه من يشاهد رجلا يصنع صنما، فيصيح:  هذا الذي قام بعملية خلق الإنسان.

ثالثا.. أرأيت لو أن رجلا كان يسير في شارع، ثم أخذ يهذي بكلام غريب نتيجة لأفكار مختزنه في ذهنه.. فجاء فيلسوف مثل حضرتكم، وراح يستغل هذا الحادث في البحث في كلام الأنبياء، وهو الكلام الذي يكشف سر هذا الكون..

ألا ترى أن هذا النوع من الاستدلال غير علمي وغير منطقي.. بل إنه يدل على أن صاحبه يفتقر الى القيم حتى يستطيع التفرقة بين كلام رجل الشارع وكلام الأنبياء، فلا يدعى أن هذا الهذيان هو المسئول عما جاء به الدين؟

ثم تخيل معي لو أن رهطا من سكان بعض الكواكب هبط الأرض، وهم يسمعون، ولكنهم لا يقدرون على الكلام.. ولنتصور أنهم ذهبوا يبحثون عن الأسباب التي تجعل الإنسان يتكلم.. وبينما هم في طريقهم إلى هذا البحث هبت الرياح واحتك غصنان أحدهما مع الآخر، فنتج صوت، وتكررت العملية غير مرة حتى توقفت الرياح، وإذا بهم يعلن كبيرهم: لقد عرفنا سر كلام الإنسان، وهو أن فمه يحتوى على فكين من الأسنان، فإذا احتك الفك الأعلى بالأسفل صوت.

لا شك أن هذا الكلام صحيح.. ولكن واقع الكلام الإنساني أعظم من أن يفسر بمثل هذا.. فلهذا لا يصح تفسير أسرار النبوة بكلام غريب كهذيان رجل الشارع، في حال الجنون أو الهستيريا.

رابعا.. لاشك أن اللا شعور – من الوجهة العلمية – ليس سوى مخزن للمعلومات والمشاهدات التي شاهدها الإنسان في حياته ولو مرة، ومن المستحيل أن يختزن اللاشعور حقائق لم يعلمها من قبل..

ولكن الذي يثير الدهشة أن الدين الذي جاء على لسان الأنبياء يشتمل على حقائق أبدية لم تخطر على بال أحد من الناس في أي زمان، فلو كان اللاشعور هو مخزن هذه المعلومات، فمن أين يأتى بها هؤلاء الذين يتكلمون عن أشياء لا طريق لهم إلى العلم بها؟

إن الدين الذي جاء به الأنبياء يتصل من ناحية أو أخرى بجميع العلوم المعاصرة([44]) من الطبيعة، والفلك، وعلم الحياة، وعلم الإنسان، وعلم النفس والتاريخ والحضارة والسياسة والاجتماع وغيرها من العلوم..

وكل حديث في التاريخ الإنساني مصدره (الشعور)، فضلا عن اللاشعور، لا يخلو من الأغلاط والأكاذيب والأدلة الباطلة.

أما الكلام النبوي فإنه بريء ولا شك من كل هذه العيوب رغم اتصاله بجميع العلوم.. فقد مرت قرون إثر قرون أبطل فيها الآخرون ما ادعاه الأولون، وما زال صدق كلام النبوة باقيا على الزمان، ولم يستطع أحد أن يدل على باطل جاء به، وكل من حاول ذلك أخفق.

خامسا.. لقد رأيت من خلال اطلاعي على مؤلفاتك ومؤلفات إخوانك من الذين يستدلون بالتاريخ أو الاجتماع أنكم لا تدرسون الدين من وجه صحيح.. ولهذا يبدو في نظركم شيئا غريبا.. أنتم تتناولون الدين على أنه (مشكلة موضوعية)، فلهذا تجمعون في سلة واحدة كل ما أطلق عليه اسم (الدين) من رطب ويابس، في أي مرحلة من التاريخ، ثم تتأملون في ضوء هذا المحصول حقيقة الدين.

إن هذا موقف ينحرف بكم عن الصواب من أولى مراحله، ولهذا يبدو لكم الدين – جراء هذا الموقف الفاسد-عملا اجتماعيا، لا كشفا لحقيقة.. ومن المعلوم أن لكل ما يكشف عن حقيقة من الحقائق مثلا أعلى، ولا بد عند البحث عن هذه الحقائق أن ندرس مظاهرها وتاريخها في ضوء مثله الأعلى.. أما الأمور التي تأتى بها أعمال اجتماعية فليس لها مثل أعلى.. وبقاؤها رهن بحاجة المجتمع إليها.

ومنهج البحث عن الدين يختلف عن هذا كل الاختلاف.. فليس من الصحيح البحث عن حقائقه، كما يبحث المؤرخون عن تطورات فنون العمارة والنسيج والحياكة والسيارات، لأن الدين علم على حقيقة يقبلها المجتمع أو يرفضها، أو يقبلها في شكل ناقص.. ويبقى الدين في جميع هذه الأحوال حقيقة واحدة في ذاتها، وإنما يختلف في أشكاله المقبولة، ولهذا لا يمكن أن نفهم حقائق (الدين) بمجرد فهرسة مماثلة لجميع الأشكال الموجودة في المجتمعات باسم الدين.

قال راسل: أراك انتقدت منهج بحثنا عن الإله.. فما المنهج الذي تراه سليما للبحث عنه؟

قال خان: هذا أهم سؤال طرحته.. وينبغي لأي باحث أن يطرحه.. فقضية العصر الحاضر وكل العصور ضد الدين هي قضية طريقة الاستدلال.

لقد كان الناس في القديم يصنعون السفن الشراعية من الخشب اعتقادا منهم أن الماء لا يحمل إلا ما يكون أخف منه وزنا، وحين قال بعضهم: إن السفن الحديدية سوف تطفو على سطح الماء كالتي من الخشب، أنكر الناس عليه مقالته واتخذوه هزوا، وجاء نحاس فألقى بنعل من حديد في دلو مملوء بالماء ليشهد الناس على أن هذه القطعة الحديدية -بدل أن تطفو على سطح الماء- استقرت في القاع، وكان هذا العمل تجربة، ولكننا جميعا نعتقد اليوم أنها كانت تجربة باطلة، فلو كان النحاس قد ألقى بطبق من حديد لشاهد بعينه صدق ما قيل من طفو السفن الحديدية.

وفي بداية القرن العشرين كنا كذلك نملك تلسكوبا ضعيفا، فلما شاهدنا السماء بهذا النظار وجدنا أجراما كثيرة كالنور، فاستنبطنا أنها سحب من البخار والغاز تمر بمرحلة قبل أن تصير نجوما، ولكنا حين تمكنا من صناعة منظار قوى وشاهدنا هذه الأجرام مرة ثانية علمنا أن هذه الأجرام الكثيرة المضيئة هي مجموعة من نجوم كثيرة شوهدت كالسحب نتيجة البعد الهائل بينها وبين الأرض.

وهكذا نجد أن التجربة والمشاهدة ليستا وسيلتي العلم القطعيتين، وأن العلم لا ينحصر في الأمور التي شوهدت بالتجربة المباشرة.

لقد اخترعنا الكثير من الآلات والوسائل الحديثة للملاحظة الواسعة، ولكن الأشياء التي نلاحظها بهذه الوسائل كثيرا ما تكون أمورا سطحية وغير مهمة نسبيا، أما النظريات التي يتوصل إليها بناء على هذه المشاهدات فهي أمور لا سبيل إلى ملاحظتها.

والعلم الحديث لا يدعى ولا يستطيع أن يدعى أن الحقيقة محصورة فيما علمناه من التجربة المباشرة، فالحقيقة أن (الماء سائل). ونستطيع مشاهدة هذه الحقيقة بأعيننا المجردة، ولكن الواقع أن كل (جزيء) من الماء يشتمل على ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين، وليس من الممكن أن نلاحظ هذه الحقيقة العلمية، ولو أتينا بأقوى ميكروسكوب في العالم، غير أنها ثبتت لدى العلماء لإيمانهم بالاستدلال المنطقي.

يقول في ذلك البروفيسور ا. ى. ماندير: (إن الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى (الحقائق المحسوسة)، بيد أن الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تنحصر في (الحقائق المحسوسة)؛ فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة، ولكننا عثرنا عليها على كل حال، ووسيلتنا في هذه السبيل هي الاستنباط، فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه (بالحقائق المستنبطة)، والأهم هنا أن نفهم أنه لا فرق بين الحقيقتين، وإنما الفرق هو في التسمية، من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة، والحقيقة دائما هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط)

ويضيف ماندير قائلا: (إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل، فكيف يمكن أن نعرف شيئا عن الكثير الآخر؟.. هناك وسيلة، وهى الاستنباط أو التعليل، وكلاهما طريق فكرى، نبتدئ به بوساطة حقائق معلومة حتى ننتهي بنظرية: أن الشيء الفلانى يوجد هنا ولم نشاهده مطلقا)

قاطعه راسل، وقال: كيف يكون هذا الرجل بروفيسورا وهو يقول هذا؟.. كيف يصح الاستنباط المنطقي لأشياء لم نشاهدها قط؟.. وكيف يمكن أن نسمى هذا الاستنباط بناء على طلب العقل (حقيقة علمية)؟

ابتسم خان، وقال: لقد أجاب ماندير عن تساؤلك هذا.. فقال: (إن المنهج التعليلي صحيح، لأن (الكون) نفسه عقلي.. فالكون كله مرتبط بعضه بالآخر؛ حقائقه المتطابقة، ونظامه عجيب، ولهذا فإن أية دراسة للكون لا تسفر عن ترابط حقائقه وتوازنها هي دراسة باطلة)

ويقول: (إن الوقائع المحسوسة هي أجزاء من حقائق الكون، غير أن هذه الحقائق التي ندركها بالحواس قد تكون جزئية، وغير مرتبطة بالأخرى، فلو طالعناها فذة مجردة عن أخواتها فقدت معناها مطلقا، فأما إذا درسناها في ضوء الحقائق الكثيرة مما علمناه مباشرة أو بلا مباشرة فإننا سندرك حقيقتها)

ثم يأتى بمثال يفسر ذلك، فيقول: (إننا نرى أن الطير عندما يموت يقع على الأرض، ونعرف أن رفع الحجر على الظهر أصعب ويتطلب جهدا، ونلاحظ أن القمر يدور في الفلك، ونعلم أن الصعود في الجبل أشق من النزول منه..  ونلاحظ حقائق كثيرة كل يوم لا علاقة لإحداها بالأخرى ظاهرا، ثم نتعرف على حقيقة استنباطية هي (قانون الجاذبية)، وهنا ترتبط جميع هذه الحقائق، فنعرف ـ للمرة الأولى ـ أنها كلها مرتبطة إحداها بالأخرى ارتباطا كاملا داخل النظام.. وكذلك الحال لو طالعنا الوقائع المحسوسة مجردة، فلن نجد بينها أي ترتيب، فهي متفرقة وغير مترابطة ولكن حين نربط الوقائع المحسوسة بالحقائق الاستنباطية فستخرج صورة منظمة للحقائق)

إن قانون (الجاذبية) لا يمكن ملاحظته قطعا، وكل ما شاهده العلماء لا يمثل في ذاته قانون الجاذبية، وإنما هي أشياء أخرى، اضطروا لأجلها- منطقيا- أن يؤمنوا بوجود هذا القانون.

واليوم يلقى هذا القانون قبولا علميا عظيما، وهو الذي كشف عنه نيوتن لأول مرة، ولكن ما حقيقة هذا القانون من الناحية التجريبية؟

لقد تحدث نيوتن في خطاب أرسله إلى (بنتلى)، فقال: (إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهى تؤثر على مادة أخرى مع أنه لا توجد أية علاقة بينهما)

فنظرية معقدة غير مفهومة ولا طريق إلى مشاهدتها، تعتبر اليوم بلا جدال حقيقة علمية.. لماذا؟

لأنها تفسر بعض ملاحظاتنا فليس بلازم إذن أن تكون الحقيقة هي ما علمناه مباشرة بالتجربة، ومن ثم نمضى إلى القول بأن العقيدة الغيبية التي تربط بعض ما نلاحظه، وتفسر لنا مضمونه العام تعتبر حقيقة علمية من نفس الدرجة.

قال ذلك، ثم التفت إلى راسل، وقال: كما رفض العلماء نظرية الضوء التي قدمها نيوتن لأنها لم تنجح في تفسير مظاهر حديثة للضوء ؛ فإننا نرفض أفكار الفلاسفة الملحدين لأنها فشلت في تفسير مظاهر الطبيعة.

 لم يجد راسل إلا أن ينصرف.. ولم يجد الجمع الملتف بهما إلا أن انضموا إلى وحيد الدين خان يسألونه.. وقد كان من شقائي أن تركت الجمع، ورحت أسرع إلى (برتراند رسل) أسأله عما لا يسمن من جوع، ولا يروي من ظمأ.. ولعلي لو اجتمعت معه في ذلك الحين كما اجتمع أولئك الجمع لكفينا ما نبحث عنه، فقد كان للرجل من العلم والمنطق ما يجعلك مستيقننا من أنه يطل من النافذة التي لا ترى منها إلا الحقائق.

المناظرة السابعة:

قال الجمع: حدثتنا عن المناظرة السادسة، فحدثنا عن السابعة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة وجدت رجلين يلتف حولهما جمع كبير([45])..

أما أحدهما، فرجل تشع من عينيه أنوار الحكمة، وعلى سمته يبدو الوقار، كان الجمع يطلق عليه اسم (البوطي)([46]).. وقد أخبرني بعضهم أنه رجل جاء من سورية، وقد قدم أبوه ـ الذي يسمى ملا رمضان ـ قبلها من جزيرة بوطان في تركيا إلى دمشق واستقر فيها.. ولذلك صار يطلق عليه هذا الاسم.

وأما الثاني، فرجل عريض المنكبين، واسع الجبهة، كثيف الشعر، داكن إلى حد الزرقة.. كان يبدو حيويا نشيطا لا يهدأ له بال.. وكان الناس يطلقون عليه لقب (ماركس)([47]).. ولست أدري علاقته بماركس منظر الشيوعية.. ولكن الذي أدريه هو أنه لا يختلف عن ماركس المعروف في أي شيء.. لا في صورته.. ولا في فكره.

سأقص عليكم بعض ما سمعت من حديث:

قال ماركس بعنف لمحدثه البوطي: كم من مرة طلبت منك أن لا تذكر لي هيجل([48]).. ماركس سميي هو صاحب هذا الفكر.. لا هيجل..

قال البوطي بهدوء: لا بأس.. أنا لم أذكر هيجل إلا لأني رأيتك تنهج نفس نهجه.

قال ماركس: بل هناك فرق كبير بيننا.. إن الفرق بيني وبينه كالفرق بينك وبيني..

قال البوطي: ولكنك تعتمد نفس الجدل الذي يعتمده.

قال ماركس: لكن جدله مثالي.. وجدلي مادي.. واقعي.. ولا يمكن أن يجتمع هذان في محل واحد.

قال البوطي: لا بأس.. سأدع لك الفرصة لأن تحدثني عن مذهبك.. ولنتناقش فيه بعد ذلك.

قال ماركس: لا بأس.. فلسفتي.. أو بالأحرى فلسفة سميي العظيم كارل ماركس.. تتلخص في (المادية الجدلية).. تلك المادية التي تلخص حقائق الوجود في قانون (لا إله والكون مادة).. وقانون (وحدة العالم تنحصر فى ماديته).. وقانون (المادة سابقة فى الوجود على الفكر).. وقانون (لم يكن هناك وقت لم تكن المادة موجودة فيه، وليس هناك وقت لا تكون المادة موجودة فيه).. وقانون (الإنسان نتاج المادة).. وقانون (الفكر نتاج الدماغ والدماغ مادة).. وغيرها من القوانين التي تفسر الوجود والحياة والإنسان.

بالإضافة إلى (المادة الجدلية).. ففلسفتي تنص على قوانين (المادية التاريخية).. وعلى قوانين (المذهب الاقتصادى الشيوعى مع الأوضاع السياسية والاجتماعية المصاحبة له)

لكني لن أحدثك الآن إلا عن مذهبي الذي فسرت به الوجود.. كل الوجود..

وإن شئت الصراحة.. فسميي ماركس اعتمد في نظريته العظيمة على ثلاثة أركان كبرى تقوم عليها الفلسفة الغربية المتحضرة..

أما أولها.. وهو الفكر الذي يفسر الوجود بالمادة البحتة.. فلنا فيه أساتذة كثر.. ابتدأوا منذ بدأت هذه الحضارة.. لكن أشهرهم اثنان (أوجست كونت)، و(فرباخ)([49]).. وقد قامت فلسفتهما على سيادة الطبيعة، بل عبادتها.. فالطبيعة هى التى تنقش الحقيقة فى ذهن الإنسان.. وهى التى توحى بها وترسم معالمها.. هى التى تكون عقل الإنسان.. والإنسان – لهذا – لا يملى عليه من ذاته الخاصة.. إذ ما يأتى من (ما وراء الطبيعة) خداع للحقيقة، وليس حقيقة..ومثله  ما يتصوره العقل من نفسه هو ليس إلا وهما وتخيلا للحقيقة، وليس حقيقة أيضا.

وبناء على هذه النظرة يكون الدين الذي يعبر عما بعد الطبيعة مجرد خدعة.

وأما الركن الثاني، وهو الجدلية فقد كان من أساتذة سميي فيها (فيشته) و(هيجل).. وقد كان الأصل فى هذا النوع من التفكير الجدلى الدياكتيكى هو البحث عن تصور فلسفى يسمح بوجود المتناقضات فى الكون والحياة ويفسرها.

ذلك أن المنطق اليونانى القديم، وهو المنطق الصورى كان ينفى وجود التناقض فى الكون والحياة، ويقيم تفكيره على أساس أن الشئ ونقيضه لا يمكن أن يجتمعا، فوجود أى شئ هو ذاته نفى قاطع لوجود نقيضه.

ولكن الفكر الأوروبى منذ عصر النهضة كانت له التفاتات مختلفة عنه فى مجالات متعددة.. حتى إذا كان النصف الثانى من القرن الثامن عشر الميلادى عصر سيادة العقل.. أو عصر التنوير.. قام فلاسفة يشيرون إلى وجود التناقض فى الكون والحياة ويحاولون تفسيره، من أبرزهم (فيشته) و(هيجل)

أما فيشته، فقد استخدم مبدأ النقيض كى يدعم سيادة العقل كمصدر للمعرفة مقابل الدين والطبيعة..

وأما هيجل فاستخدم مبدأ النقيض لتأكيد قيمة العقل من جهة، ثم لدعم فكرة الألوهية من جديد، وتأكيد الوحى كمصدر أخير للمعرفة، فهو يعتبر الخالق عقلا.

لقد تصور هيجل ـ الذي أردت نسبة فلسفتي إليه ـ أن هناك فكرة مطلقة.. أطلق عليها اسم (العقل المطلق) – وهي ما تسمونه (الله) – انبثقت عنه الطبيعة، وهى تغايره تماما، لأنها مقيدة ومتفرقة وهى عنده العقل المقيد.. ثم انتقلت الفكرة من الطبيعة أو العقل المقيد إلى جامع يلتقى فيه الشئ ونقيضه، وهو العقل المجرد الذى هو نهاية الطبيعة المحدودة وغايتها.

وهذا العقل المجرد يتمثل فى القانون والأخلاق، وفى الفن والدين والدولة والجماعة والفلسفة.. فالعقل المجرد الذى يتحقق فى أى وحدة من هذه القيم العاملة المذكورة جامع للمتقابلين: جامع للفكرة فى العقل المطلق وهو الله، وللفكرة فى العقل المقيد وهو الطبيعة.. ذلك أنه ليس له إطلاق العقل المطلق، ولا تحديد عقل الطبيعة، بل فيه إطلاق بالنسبة إلى الطبيعة وتقييد بالنسبة للعقل المطلق، ولذا يعتبر جامع الدعوى ومقابل الدعوى.

هذا هو الركن الثاني، وأما الركن الثالث.. فهو العظيم دارون صاحب نظرية التطور..

لقد جاء دارون يؤله الطبيعة، ويقول عنها: إنها تخلق كل شئ، ولا حد لقدرتها على الخلق.. وجاء ليؤكد أن الإنسان هو نهاية سلسلة التطور الحيوانية.. وأن التطور ذاته – الذى أنشأ الحياة المادية الميتة أول مرة، ثم تدرج بها من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان – هو نتيجة أسباب مادية بحتة، وأنه يتم مستقلا عن إرادة الكائن الحى، وبصورة حتمية لا يملك الكائن الحى الخروج عليها ولا معارضتها ولا الوقوف فى طريقها.

هذه هي الأركان الثلاثة التي تم بامتزاجها جميعا فكر العظيم سميي ماركس..

ابتسم البوطي، وقال: فما الجديد الذي أتى به ماركس ما دمت قد ذكرت أنه اعتمد على كل هؤلاء؟

قال ماركس: أتى بالجديد الذي يأتي به الطباخ الماهر حين يمزج بين الخضر والتوابل وغيرها ليكون منها طبخة تسترق البطون.

ليس ذلك فقط.. بل أضاف إليها أشياء كثيرة جعلت من فلسفته عملا متميزا قل نظيره في جميع الفكر البشري.

لقد أنشأ ماركس فلسفة مترابطة متكاملة تشمل كل القضايا المحيطة بالإنسان.. وتشملها جملة وتفصيلا على نحو غير مسبوق فى الفكر الغربى..

قال البوطي: فحدثنا عن هذه الفلسفة المتميزة.. واقتصر منها على الجانب المرتبطة بتفسير الوجود.

قال ماركس: لقد ذكرت لك أن ماركس فسر الوجود بالمادية الجدلية.. وهي الفكرة التي تعزل ما تسمونه (الله) عزلا تاما عن تفسير الوجود.. فالمادة هى الشئ الوحيد الأصيل فى هذا الكون، وكل ما فى الكون ومن فيه منبثق منها ومحكوم بقوانينها، ولا وجود له خارج نطاقها.

كما تقوم على أساس وجود التناقض فى طبيعة المادة، ومن ثم فى كل ما ينبثق عنها من مخلوقات ومن كيانات بما فى ذلك الكيان الإنسانى، فهو كيان مادى من جهة، ومحكوم بصراع المتناقضات من جهة أخرى، وتلك هى حقيقة كل أفكاره ومشاعره، وكل نظمه ومؤسساته، وكل قيمة ومبادئه، وكل حركته خلال التاريخ.

لقد ذكرت لك أننا أخذنا من هيجل جدليته.. ولكنا مع ذلك نخالفه مخالفة أساسية، فهيجل اعتبر الفكرة هى الأصل، وهى سابقة فى وجودها على المادة ومسيطرة عليها، بينما نحن نقول: إن المادة هى الأصل، وهى سابقة على الفكرة ومسيطرة عليها..

ولهذا سميث جدلية هيجل (الجدلية المثالية)، بينما سميت جدليتنا (الجدلية المادية) أو (المادية الجدلية)، أو (المادية الديالكتيكية)

أما (الله)، فهو عندنا لا يعدو أن يكون خرافة ابتداعها خيال الإنسان.. لأن الحقيقة الوحيدة هى المادة، والوحدة التى تجمع الكون هى ماديته.

قال ذلك، ثم التفت إلى البوطي، وقال: هذه هي فلسفتي العظيمة.. فهل ترضى بأن تكون حواريا لماركس، رفيقا لي في التبشير بها.

ابتسم البوطي، وقال: اصبر عليك لأعرض عليك ما انتابني من الشبهات أثناء عرضك لفلسفتكم العظيمة، فإن أجبتني عنها، فسأسير معك إلى أي حزب شيوعي لأنضم إلى رفاقك فيه.

قال ماركس: تفضل.. يستحيل أن توجد شبهة لا يوجد لها جواب.. ما دام الدياليكتيك موجودا، فلكل سؤال جواب.

قال البوطي: أولا.. اسمح لي أن أبين لك أن الدوافع التي دفعت إلى مثل هذه الفكرة دوافع غير معقولة ولا موضوعية.

ذلك أنها انطلقت من واقع منحرف للدين.. وهي بالتالي كانت نوعا من الهروب الكنيسة وإله الكنيسة..

وإلا فإن الطبيعة والمادة لا يمكنها أن تفسر الوجود بتلك الصورة التي فسرت بها.. ذلك أن أي ذهن سيتساءل لا محاله: ما الطبيعة على وجه التحديد؟.. وأين تكمن قدرتها على الخلق؟..وفى أى مكان منها؟

أم أنه ليس لهذه القدرة مكان ولا حيز؟.. فإذا لم تكن محسوسة، ولم يكن يحدها المكان ولا الحيز، وكانت (غيبا) لا تدركه الأبصار، إنما تدرك آثاره فقط ومظاهره، فما الذى يبرر فى منطق العقل أن نعدل عن الاسم الحقيقى، اسم (الله)، ونلجأ إلى هذه المسميات؟

وإن كان (الله) فى هذا المنطق لا حقيقة له، فما الذى يبرر – فى منطق العقل أو فى منطق العلم – أن يقول قائل: إنه ليس حقيقة حين يكون اسمه (الله)، ثم يكون هو ذاته حقيقية حين يكون اسمه (الطبيعة)؟

إن كان سبب هذا التحريف هو الخوف من الكنيسة وطغيانها، أو هو البغض لها والحقد عليها.. فليكن ذلك..

وفي هذه الحالة، فلنهجر الكنيسة، ونفر منها إلى الله الحق، وهو إله لا كنيسة له فى الحقيقة، ولا رجال دين.

ثم ما المادة الأزلية الأبدية الخالقة، وما قصتها؟

وكيف نناقشها مناقشة علمية؟

ألا تعلم ـ حضرة الرفيق ـ أن القول بأن (المادة لا تفنى ولا تستحدث) لم يعد صحيحا من الوجهة العلمية، وهو القول الذى تصيده أساتذتك تصديا فى نهاية القرن الماضى ليبنوا عليه تفسيرا علميا للكون والحياة والإنسان، ولقضية الألوهية؟

ألا تعلم ـ حضرة الرفيق ـ أن طلاب الجامعات يدرسون هذه الأيام أن الكون المادى حدث ذات يوم، ولم يكن موجودا من قبل، وأن عمر هذا الكون المادى يكاد يحدد الآن تحديدا علميا دقيقا على ضوء المعلومات التى ترسلها الأقمار الصناعية التى تدور حول الشمس وغيرها من الأفلاك.

ألا تعلم ـ حضرة الرفيق ـ أن ماركس وإنجلز ولينين وغيرهم من أساتذتك العظام لم يكونوا مطالبين بثقافة علمية أكبر من ثقافة عصرهم الذى وجدوا فيه، ولكنهم ـ مع ذلك ـ مسئولون ولا شك مسئولية كاملة عن دعواهم بأن المادة هى التى تخلق، وأن من بين خلقها الإنسان؟

ما الدليل العلمى على هذه الفرية؟

متى شوهدت المادة وهى تخلق؟ وكيف تخلق؟!

بعد هذه التساؤلات المنطقية، والتي أرجو أن تكشف لي غموضها.. فسأناقشك فيما ذكره أساتذتك العظام من مبادئ الطبيعة وقوانينها([50]).

أما ما ذكروه من أن الطبيعة كلٌّ واحد متماسك ترتبط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطاً تاماً، فذلك صحيح.. وهو ـ عند المؤمنين ـ ظاهرة تدل على أن الخالق البارئ المصور واحد مهيمن على كونه.. وهو يدبّره كله بنظام واحد مترابط الأسباب متشابك العناصر.

أما ما ذكروه من أن الطبيعة (أي الموجود المادي الذي هو كل الوجود) سرمدية أزلية أبدية لا بداية لها ولا نهاية، فهو ادّعاء منقوض ببراهين العقل ودلائل العلم، التي تثبت حدوث الكون، وتثبت مصيره إلى الفناء.. وما عليك إلا أن تسير في هذه البلدة قليلا لترى من العلماء من يبيبن لك ـ حسا ـ أن المادة ليست أزلية كما تزعمون([51]).

أما ما ذكروه من أن الطبيعة ليست ساكنة، بل هي ملازمة للحركة، وهي في تطور وتغير دائمين.. فهو مبدأ لا حرج فيه.. بل إنه من مقررات المؤمنين بالله، سواءٌ أكانوا أتباع دين رباني صحيح أو فلاسفة مثاليين.. وهو من الأدلة التي هدتهم إلى حدوث الكون، وحاجته إلى محدثٍ خالق بارئ مصور، إذ يقولون: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، فالعالم لا بد له من محدث([52]).

أما ما ذكروه من أن الوعي لمادة عالية التنظيم وهي الدماغ، وأن الحياة وظيفة من وظائف المادة متى وصل تركيبها إلى وضع خاص، فهو مخالف لما كشفته العلوم الكثيرة.. فآخر ما توصلت إليه العلوم الإنسانية، والتي أنفقت في سبيلها ألوف الملايين، وعشرات السنين، قد انتهت إلى قرار علمي جازم هو أنه لا تتولد الحياة إلا من الحياة، وأن وسائل العلوم الإنسانية لا تملك تحويل المادة التي لا حياة فيها، إلى أدنى وأبسط خلية حية([53]).

وبما أن الوعي مرتبط بالحياة فهو مظهر من مظاهرها وصفة من صفاتها، فلا سبيل للمادة الميتة أن يكون الوعي أحد وظائفها، مهما كانت عالية التنظيم([54]).

على أن مبدأهم هذا هو في الأساس ادعاء غير مقترن بأي دليل عقلي أو علمي، وهو من لوازم مبدئهم الأول الباطل الذين يرون فيه أن المادة هي أساس الوجود وجوهره.

أما ما ذكروه من أن كل الأشياء وحوادثها تحوي تناقضات داخلية، مجتمعة متزاحمة في وحدة، يعبرون عنها بوحدة الأضداد أو وحدة المتناقضات. وهي تتصارع فيما بينها وفق نظام (جدلية هيجل) فيدفع بها الصراع إلى التطور الصاعد لأنه السبيل الوحيد لحل التناقض أو التضادّ القائم بينها.. فهي قضية تحوي مغالطات كثيرة.

منها أن النقيضين كالوجود والعدم، وكإيجاب الشيء وسلبه، لا يجتمعان في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما مستحيل عقلاً.. ولا يرتفعان معاً من شيء واحد في وقت واحد، وارتفاعهما معاً مستحيل عقلاً.. فلا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد موجوداً ومعدوماً معاً، ولا موجباً وسالباً معاً من الجهة التي يكون فيها موجباً.. ولا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد غير موجود وغير معدوم معاً، أو غير موجب وغير سالب معاً.

ومنها أن الضدين كالأبيض والأسود، وكالواجب والحرام، وكالجبر على الهداية والجبر على الضلال، لا يجتمعان معاً في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما معاً مستحيل عقلاً. فلا يكون الشيء الواحد بالذات أبيض وأسود معاً من الجهة نفسها في وقت واحد، ولا يكون حكم العمل الواحد واجباً وحراماً معاً فيوقت واحد لشخص واحد من جهة واحدة، ولا يكون المخلوق الواحد مجبوراً على الهداية ومجبوراً على الضلالة معاً، في وقت واحد، ومن جهة واحدة.

لكن الضدين ـ خلافا للمتناقضين ـ قد يرتفعان معاً في وقت واحد، فيكون الجسم لا أبيض ولا أسود معاً في وقت واحد، إذ قد يكون أحمر أو أصفر أو غير ذلك من ألوان..

لكن المادية الجدلية نسفت هذا الأصل العقلي المنطقي نسفاً كلياً، فأقامت الوجود كله على فكرة اجتماع الأضداد أو المتناقضات واتحادها.

وفي ادعاء اتحاد الأضداد والمتناقضات استهانة بالغة بالعقل البشري، وإقامة مذهب كامل على أمر باطل واضح البطلان.. فاللحظة التي يكون فيها الشيء متحركاً، لا يمكن أن يكون فيها ساكنا، واللحظة التي يكون فيها ساكناً لا يمكن أن يكون فيها متحركاً.. لكن الشيء الواحد قد تتداول عليه الحركة والسكون بلحظات متتابعات مهما صغرت ودقت هذه اللحظات، وقد ينخدع بذلك بعض أهل الفلسفة، فيظن أن السكون كامن في الحركة، فيعتبر ذلك من اجتماع النقيضين، وليس الأمر كذلك.

وقد يمثل مدعو اجتماع الضدين أو النقيضين بتماس السالب والموجب في الكهرباء، الذي ينجم عنه الظواهر الضوئية والحركية.. لكن التمثيل بهذا تمثيل باطل، فالسالب والموجب في الكهرباء ليسا ضدين ولا نقيضين منطقيين.

إن السالب المنطقي للكهرباء هو لا كهرباء، ويصدق ذلك بأي شيء غير كهرباء في الوجود، فالخشب والحجر والتراب والثلج والملح والحلاوة والملاسة والخشونة وغير ذلك كلها ليست بكهرباء.

أما السلك السالب في الكهرباء، فليس هو السالب المنطقي للكهرباء، إنما هو مشتمل على قوة أخرى منافرة للقوة الكهربائية.

فالموجب والسالب في الكهرباء قوتان متنافرتان متقابلتان، إذا تماسا تفاعلا، فأنتجا بحسب قوانين إنتاجهما ظواهر ضوئية أو حركية، كالذكر والأنثى، وما ينتج عنهما.

إن القوى المتنافرة والمتآلفة والمتفاوتة كلها إذا تلاقت أو تماست أو اجتمعت كانت ذات آثارٍ ما، وآثارها تخضع لقوانين خاصة بكل منها.

أما ما ذكروه من أن حركة التطور هي تغير ينتقل من تغيرات كمية تتراكم، إلى تغيرات كيفية، بشكل سريع ومفاجئ وارتقائي من حالة أدنى إلى حالة أعلى وبشكل ذاتي.. فإن هذا المبدأ لا يمكن أن يعتبر قانوناً عاماً ينطبق على كل حركة تطور في الطبيعة، فالعلوم المادية الإنسانية لا تقر به، وهو إن صدق ببعض الأمثلة، فإنه لا يصدق بآلاف الأمثلة الأخرى.

إن التراكم في الكم لا يقتضي دائماً تطورا في الكيف، ما لم يكن نظام ذلك الشيء يقتضي ذلك.. فالملاحظة تثبت أن لكل حالة تطور في الكون شروطاً معينة في أنظمته وسننه الثابتة، فمتى استوفيت هذه الشروط تحقق التطور.

فبيضة الدجاجة الملقحة إذا وجدت ضمن حرارة ذات مقدار معين، ورطوبة ذات مقدار معين، بدأ جنينها يتكون تدريجياً حتى يتكامل داخل القشرة، وفي نهاية ثلاثة أسابيع يكون قد تكامل، وبدأ ينقر القشرة من الداخل حتى يكسرها، وعندئذٍ يخرج من غلافه إلى الهواء، ليبدأ رحلة حياته على الأرض.

لقد حصل التطور، ولكن على خلاف ما ادعاه أساتذتك المدعين، فلا تراكم الحرارة هو الذي أحدث ظاهرة التغير، ولا تراكم الرطوبة، بل ثبات درجة الحرارة، وثبات درجة الرطوبة، قد ساعدا على تكون جنين البيضة تكوناً تدريجياً، ضمن الوقت المخصص في نظام الكون لتكامل تكوينه.

ولو أن الحرارة تراكمت أكثر من المقدار المحدد في نظام التكوين لسلقت البيضة، ولهلكت نواة جنينها، ولو زاد هذا التراكم لاحترقت البيضة.

فنظام الكون هو نظام تحديد مقادير لكل شيء، ضمن خطط ثابتة، وليست تغيراته ثمرة تراكمات.. هذه هي الحقيقة التي تدل عليها الملاحظات والتجارب العلمية، وهي التي أعلنها قول الله عز وجل:{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ)(الرعد: من الآية8)

إن هذا المثال وحده كافٍ لنقض فكرة التراكم التي تعتبرونها قانوناً شاملاً لكل تطور في الوجود.. وهو كافٍ لنقض فكرة التطور السريع المفاجئ، إذ الأمور تتطور في الغالب تطوراً تدريجياً..

بالإضافة إلى هذا، فإن الكائنات الحية تبدأ حركة بنائها منذ لحظة التقاء خلية لقاح الذكر بخلية بييضة الأنثى، ثم يسير بناء الكائن في نمو متدرج، حتى إذا استوفى الشروط اللازمة لظهور الحياة دبت الحياة فيه.. ثم يسير ضمن نظام نمو متدرج، حتى إذا استكمل نموه الجنيني، تمخضت عنه أمه فولدته.. ثم يسير في نمو تدريجي حتى يبلغ، ويتدرج في النماء حتى يكون شاباً فكهلاً.. ثم يعود إلى طور الانحدار، فيصير شيخاً، فهرماً، ثم يقضي أجله المقدر له، فيموت، فيتفسخ جسمه، ويعود تراباً كما بدأ من التراب.

وقد يموت في أي مرحلة من المراحل السابقة، فينحدر ويعود إلى مثل مرحلة البدء، دون أن يمر في المراحل المعتادة للأحياء.

وتخضع كل المراحل لنظام المقادير المحددة في كل شيء، في العناصر، وفي الصفات، وفي الزمان، وفي درجة الحرارة، وفي سائر ما يلزم لتكوين الحي، وإعداده لأداء وظائفه.

ولهذا، فإن فكرة التراكم المقررة عندكم فكرة منقوضة، ذلك لأن الأحياء تخضع لنظام المقادير المحددة سواء في جواهرها وأعراضها، ولا تخضع لفكرة التراكم الكمي.. ومثلها فكرة التطور السريع المفاجئ، ذلك أن الأحياء تسير وفق نظام البناء المتدرج، لا وفق التطور السريع المفاجئ.

وفكرة الارتقاء المقررة عندكم على أنها قانون شامل عام، فكرة لا تصلح لأن تكون مبدأً عاماً، فعمومها منقوض، وذلك لأن تطور الأحياء ليس حركة ارتقائية دائماً، بل قد تكون حركة إلى الأدنى أو إلى المساوي.. فالتعميم المدعى في المبدأ تعميم باطل.

ما وصل البوطي من حديثه إلى هذا الموضوع حتى رأيت وجه ماركس قد تغير تغيرا شديدا، ثم راح يسير مطأطئا الرأس.. لا أدري لم، ولا أدري أين.

المناظرة الثامنة:

قال الجمع: فحدثنا عن المناظرة الثامنة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة وجدت جماهير من الناس تلتف حول رجلين: أما أحدهما، فكان اسمه (عبد الرحمن حبنكة)([55]). وأما الثاني، فكان الناس يطلقون عليه لقب (العظم)([56]).. ولست أدري سر هذا اللقب العجيب.

كان أول ما بدأ به العظم حديثه أن قال ـ كما قال الكثير ممن سبقه ـ: لن أناظرك حتى تخبرني ـ أولا ـ عمن خلق الله؟

قال العظم: لقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الوسوسة الشيطانية، فقال:( يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ باللهِ ولينته)([57]).. وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم:( لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله ورسله) ([58])

ضحك العظم بهستيرية، ثم قال: ما بالك يا رجل تحدثني عن نبيك.. لو كنت أؤمن به ما جلست معك هذا المجلس.. أنا أريد أن تخاطبني بالعقل.. فأنا لا أؤمن إلا بالعقل..

أنا في حياتي لا أؤمن إلا بشيئين: أولهما العقل.. وثانيهما الدينونة بالاحترام والتقدير لإبليس المظلوم([59]).

اسمع منهجي في التفكير.. اسمع المنهج العلمي الحقيقي.. اسمع ما قلته في بعض كتبي منطلقا من هذا التساؤل لأصل إلى أن الإيمان بالله لا يعدو أن يكون خرافة كسائر الخرافات التي امتلأت بها العقول المتخلفة.

فتح كتابا كان يحمله، وراح يقرأ بصوت جهوري ممتلئ غرورا.. (حتى لو سلمنا كلياً بالنظرة العلمية للأشياء ستبقى أمامنا مشكلة المصدر الأول لهذا الكون. لنفترض مع (رسل) أن الكون بدأ بسديم، ولكن العلم لا يقول لنا: من أين جاء هذا السديم، إنه لا يبين لنا من أين جاءت هذه المادة الأولى التي تطور منها كل شيء؟ فلا بد للعلم إذن من أن يتصل بالدين في نهاية المطاف.. ولكن طرح السؤال بهذه الصورة يبين لنا مدى تحكم تربيتنا الدينية وتراثنا الغيبي في كل تكفيرنا.. لنفترض أننا سلمنا بأن الله هو مصدر وجود المادة الأولى، هل يحل ذلك المشكلة؟ هل يجيب هذا الافتراض على سؤالنا عن مصدر السديم الأول؟ والجواب هو طبعاً بالنفي.. أنت تسأل عن علة وجود السديم الأول وتجيب بأنها الله، وأنا أسألك بدوري وما علة وجود الله؟ وستجيبني بأن الله غير معلول الوجود، وهنا أجيبك: ولماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود، وبذلك يُحسم النقاش دون اللجوء إلى عالم الغيبيات، وإلى كائنات روحية بحتة لا دليل لنا على وجودها، علماً بأن ميل الفلاسفة القدماء بما فيهم المسلمين كان دائماً نحو هذا الرأي إذ قالوا بقدم العالم، ولكنهم اضطروا للمداورة والمداراة بسبب التعصب الديني ضد هذه النظرة الفلسفية للموضوع([60])، في الواقع علينا أن نعترف بكل تواضع بجهلنا حول كل ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون)([61])

ابتسم حبنكة، وقال: هل انتهيت؟

قال العظم: ألا يكفي هذا الكلام العلمي لأن يجعل هذا المجلس ينفض؟.. لقد أتيت بفصل الخطاب.. ولا يمكن لأحد في الدنيا أن يعقب على حرف واحد مما ذكرت.

قال حبنكة: اسمح لي أن أعقب على ما ذكرت.. فقد اتفقنا جميعا، ومعنا هذا الجمع على أن لا نعظم إلا الحقيقة.. الحقيقة وحدها، بغض النظر عمن يمثلها، هل أنا أم أنت؟

طأطأ العظم رأسه، فقال حبنكة: سأبدأ حديثي معك عن تساؤلك عن علة وجود المصدر الأول للأشياء، وزعمك أن إحالة المؤمنين ذلك على الله تعالى يساوي نظرياً وقوف الملحدين عن السديم، الذي اعتبروه المادة الأولى لهذا الكون..  فكلا الفريقين عندك متساويان مع فارق مهم، وهو أن الملحد اعترف بهذا قبل المؤمن بخطوة واحدة.. فهل هذا ما تقصده؟

قال العظم: أجل.. أم أنك تحتقر ما ذكرت؟

قال حبنكة: لا.. أنا لا أحتقر ما ذكرت.. ولكني أقرره لأناقشه عن بينة.

قال العظم: إن كان لديك قدرة على نقض ذلك الكلام، فهلم به.

قال حبنكة: اسمح لي أن أذكر لك بأن ما ذكرته ليس سوى مغالطة من المغالطات الفكرية.. وهي مغالطة قائمة على التسوية بين أمرين متباينين تبايناً كلياً، ولا يصح التسوية بينهما في الحكم.

غضب العظم، وقال: لا ينبغي لك أن تقول هذا.. إن ما تقوله خطير..

قاطعه حبنكة بهدوء، وقال: اصبر علي كما صبرت عليك.. فلا يمكن أن ننفعل أثناء حوارنا.

هدأ العظم، فقال حبنكة: إن الترجمة الصحيحة لكلامك هي (ما دام الموجود الأزلي غير معلول الوجود، فلم لا يكون الموجود الحادث غير معلول الوجود أيضاً؟)

وكل ذي فكر صحيح سليم من الخلل يعلم علم اليقين أنه لا يصح أن يُقاس الحادث على القديم الأزلي الذي لا أول له، فلا يصح أن يشتركا بناء على ذلك في حكم واحد.

وعلى هذه الطريقة من القياس الفاسد من أساسه صيغت تلك المغالطة الجدلية..

نعم.. أنتم تتفننون في ستر عورة هذه المغالطة، وذلك بعبارات التقدم العلمي، والمناهج العلمية، والتقدم الصناعي، والمناهج العقلية في تقصي المعرفة، والاتجاهات الثورية في المجتمع والاقتصاد.. وتخلطون هذه العبارات خلطاً.. وتحشرونها في كل مكان ومع كل مناقشة، تمويهاً وتضليلاً، وكأن التقدم العلمي والصناعي للإلحاد وحده، وليس للإيمان، مع أن الدنيا جميعها وما فيها من ماديات قد كانت وما زالت ولن تزال حتى تقوم الساعة للمؤمنين والكافرين وغيرهم على السواء، ضمن سنن الله الثابتة التي لا تتغير، وهي مجال مفتوح لكل الناس، إذ يمتحن الله بها إرادتهم وسلوكهم في الحياة، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.

قال العظم: دعنا من كل هذه الخطابات، وأنبئني: لِمَ لا تكون المادة الأولى لهذا الكون (كالسديم مثلاً) قديمة أزلية غير حادثة ،تنطلق منها التحولات، ثم ترجع إليها التحولات؟

قال حبنكة: إن الجواب على هذا يؤخذ من الكون نفسه، وما فيه من صفات وخصائص، فالكون يحمل دائماً وباستمرار صفات حدوثه، تشهد بهذه الحقيقة النظرات العقلية المستندة إلى المشاهدات الحسية.. وتشهد بها البحوث العلمية المختلفة في كل مجالات المعرفة.. حتى القوانين العلمية التي توصَّل إليها العلماء الماديون تشهد بهذا.

وإذا ثبت أن هذا الكون حادث له بداية وله نهاية كان لا بد له من علة تسبب له هذا الحدوث، لاستحالة تحول العدم نفسه إلى وجود، أما ما لا يحمل في ذاته صفات تدل على حدوثه فوجوده هو الأصل، ولذلك فهو لا يحتاج أصلاً إلى موجد يوجده.. وكل تساؤل عن سبب وجوده تساؤل باطل منطقياً، لأنه أزلي واجب الوجود، وليس حادثاً حتى يُسأل عن سبب وجوده.

ولو كانت صفات الكون تقتضي أزليته لقلنا فيه كذلك، لكن صفات الكون المشاهدة والمدروسة تثبت حدوثه.

وهنا تكمن المغالطة التي تستند إليها، إذ أنك تريد أن تجعل الكون أزلياً، مع أن البراهين تثبت أنه حادث، وذلك لتتخلص من الضرورة العقلية التي تلزم بالإيمان بوجود خالق لهذا الكون الحادث، لأن الحدوث من العدم المطلق دون سبب موجود سابق عليه مستحيل عقلاً.

قال العظم: من السهل علي أن أدعي بأن هذا الكون أزلي.. وبذلك تنتهي المشكلة.

قال حبنكة: إن هذه الدعوى باطلة بكل الاعتبارات.. سواء كان منها العقلية الفلسفية القديمة، أو القوانين العلمية الحديثة:

فالأدلة العقلية الفلسفية تثبت لنا حدوث العالم من ظاهرة التغير الملازمة لكل شيء فيه، وذلك لأن التغير نوع من الحدوث للصورة والهيئة والصفات.. وهذا الحدوث لا بد له من علة.. وتسلسلاً مع العلل للمتغيرات الأولى، سنصل حتماً إلى نقطة بدء نقرر فيها أن هذا الكون له بداية، في صفاته وأعراضه، وفي ذاته ومادته الأولى.. وحينما نصل إلى هذه الحقيقة لا بد أن نقرر أن خالقاً أزلياً لا يمكن أن يتصف بصفات تقتضي حدوثه، وهذا الخالق هو الذي خلق هذا الكون وأمده بالصفات التي هو عليها.

قال العظم: أنا لا أسلم لهذا النوع من الأدلة.. فهي تفتقر إلى العلمية.

قال حبنكة: لقد اكتشف العلم الحديث القانون الثاني للحرارة الديناميكية، وهو القانون الذي يسمونه (قانون الطاقة المتاحة) أو يسمونه (ضابط التغير)

وهذا القانون يثبت أنه لا يمكن أن يكون وجود الكون أزلياً، إذ هو يفيد تناقص عمل الكون يوماً بعد يوم، ولا بد من وقت تتساوى فيه حرارة جميع الموجودات، وحينئذ لا تبقى أي طاقة مفيدة للحياة والعمل، وتنتهي العمليات الكيميائية والطبيعية، وبذلك تنتهي الحياة.

لقد ذكر هذا التحقيق العلمي عالم أمريكي في علم الحيوان، هو (إدوارد لوثر كيسل) ثم قال: (وهكذا أثبتت البحوث العلمية دون قصد أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائياً وجود الإله، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا بد أن يحتاج إلى المحرك الأولى الخالق الإله)

وذكره (السير جيمس) حين قال في كلام له: (تؤمن العلوم الحديثة بأن (عملية تغير الحرارة) سوف تستمر حتى تنتهي طاقاتها كلية، ولم تصل هذه العملية حتى الآن إلى آخر درجاتها، لأنه لو حدث شيء مثل هذا لما كنا الآن موجودين على ظهر الأرض حتى نفكر فيها، إن هذه العملية تتقدم بسرعة مع الزمن، ومن ثم لا بد لها من بداية، ولا بد أنه قد حدثت عملية في الكون يمكن أن نسميها (خلقاً في وقت ما) حيث لا يمكن أن يكون هذا الكون أزلياً)

وبذلك، فإن حدوث هذا الكون أمر معترف به عند العلماء الماديين..

بالإضافة إلى هذا، فإن الادعاء بأن المؤمن بالله لا يدري علة وجود الله مغالطة أخرى في الحقيقة.. ذلك أن من أصله الوجود، ووجوده أزلي، فإنه لا يحتاج إلى علة لوجوده.. إذ السؤال عن هذه العلة أمر مخالف للمنطق السليم، أو عبث من العبث، أو مغالطة قائمة على الإيهام بأنه حادث غير أزلي.

ولهذا نرى الملحدين يسارعون إلى عوام المسلمين يقولون لهم: ألستم تقولون: إن كل موجود لا بد له من موجد، وإن هذا الكون موجود فلا بد له من موجد، وذلك هو الله تعالى؟

فيقول له العامي الذي لا يعرف أصول المغالطات: بلى..

عندئذ يستدرجه الملحد فيقول له: الله موجود، وهو على حسب الدليل لا بد له من موجد، فيجد العامي نفسه قد انقطع إذ لم يستطع جواباً.

لكن الخبير لا يقبل أصلاً صيغة الدليل على هذا الوجه القائم على المغالطة، ذلك لأن المقدمة (كل موجود لا بد له من موجد) مقدمة كاذبة غير صحيحة، فالخبير لا يسلم بها لفسادها، وإنما يقول بدلها: (كل موجود حادث لم يكن ثم كان لا بد له من محدث)، ثم يقول: (وهذا الكون موجود حادث لم يكن، ثم كان بشهادة العقل وبشهادة البحوث العلمية)، عندئذٍ تتحصل النتيجة على الوجه التالي: (إذن فلا بد لهذا الكون من محدث)، وهذا المحدث للكون لا بد أن يكون موجوداً أزلياً غير حادث، ولا بد أن يكون منزهاً عن كل الصفات التي يلزم منها حدوثه، حتى لا يحتاج إلى موجد يوجده، بمقتضى الدليل الذي أثبتنا فيه وجود الله.

فمغالطة الملحد في المقدمة التي أوهم بها قائمة على التعميم، إذ وضع (كل موجود) بدل (كل موجود حادث)، ومعلوم أن عبارة (موجود) تشمل الموجود الأزلي والموجود الحادث.

وهكذا تجري مغالطات الملحدين، ليتصيدوا بها الجهلة والغافلين بغية استدراجهم وإحراجهم، ونقلهم من مرحلة الإيمان إلى مرحلة التشكك.

فالمؤمن إذن يعلم أن الخالق موجود أزلي ليس له من الصفات ما يلزم منها حدوثه، ووجوده هو الأصل، فلا يسأل عن علة وجوده عند العقلاء أصلاً، والسؤال عن علة وجوده أمر مخالف للحقيقة العلمية المنطقية التي انتهينا إليها.

وكما لا يُسأل عمّا أصله العدم: ما هي علة عدمه؟ لأن مثل هذا السؤال لا يرد إلا على افتراض أن أصله الوجود، وهذا يناقش أن أصله العدم، كذلك ما أصله الوجود لا يُسأل عن علة وجوده ولا يبحث عنها، لأن أي سؤال أو بحث عنها لا يكون إلا على افتراض أن أصله العدم، وبهذه العلة تحول من العدم إلى الوجود، لكن هذا الافتراض مرفوض ابتداءً، باعتبار أن أصله الوجود.

وبهذا يتضح لنا تماماً أنه لا يُسال ولا يبحث عن علة وجود ما الأصل فيه الوجود.

وبهذا أيضاً تسقط المغالطة التي طرحها الملحد في مناقشته، ويظهر فساد تسويته بين الكون الحادث وبين الخالق الأزلي.. وحينما نطالبه بعلة وجود الحادث وهو الكون، فليس من حقه المنطقي أن يطالبنا بعلة وجود الله الأزلي.

وليس من حق الملحد أن ينكر الوجود الأزلي كله ما دام الواقع يكذبه، والبراهين العلمية تهزأ به، لأنه لو لم يكن في الوجود موجود أزلي لاستحال أن يوجد شيء في هذا الكون، لأن الافتراض على هذا يقوم على أساس العدم المطلق.. والعدم المطلق يستحيل أن يتحول بنفسه إلى وجود.

ولهذا، فإن هذا الكون الذي نحن جزء منه موجود حادث ذو بداية، وكل ذي بداية لا بد له من علة كانت السبب في وجوده، وإيجاده قد كان عملية من عمليات الخلق، وعملية الخلق إنما تتم بخالق قادر، وهذا الخالق القادر لا بد أن يكون أزلياً، ولا بد أن يكون متحلياً بالكمال المطلق.. هذه هي عقيدة المؤمنين بالله.

قال العظم: لا شك أنك لم تقرأ ما ذكرته في كتابي.. وبالضبط في صفحة (25) منه حين قلت: (ولنلمس طبيعة هذا الفارق بين النظرة الدينية القديمة وبين النظرة العلمية التي حلت محلها، سنوجه انتباهنا إلى مثال محدد يبين بجلاء كيف يقودنا البحث العلمي إلى قناعات وتعليلات تتنافى مع المعتقدات والتعليلات الدينية السائدة، مما يضطرنا إلى الاختيار بينهما اختياراً حاسماً ونهائياً)

اسمع جيدا هذا المثال الذي ذكرته.. إنه فصل الخطاب في المسألة.. لقد قلت في كتابي:( لا شك أن القارئ يعرف التعليل الإسلامي التقليدي لطبيعة الكون ونشأته ومصيره.. وهو أن الله خلق هذا الكون في فترة معينة من الزمن، بقوله: كن فكان، ولا شك أنه يذكر حادثة طرد آدم وحواء من الجنة، تلك الحادثة التي بدأ بها تاريخ الإنسان على هذا الأرض، ومن صلب المعتقدات الدينية أن الله يرعى مخلوقاته بعنايته وهو يسمع صلواتنا وأحياناً يستجيب لدعائنا، ويتدخل من وقت لآخر في نظام الطبيعة فتكون المعجزات، أما الطبيعة فقد حافظت على سماتها الأساسية منذ أن خلقها الله، أي أنها تحتوي الآن على نفس الأجرام السماوية وأنواع الحيوانات والنباتات التي كانت موجودة فيها منذ اليوم الأول لخلقها.. أما النظرة العلمية حول الموضوع ذاته فلا تعترف بالخلق من لا شيء، ولا تقر بأن الطبيعة كانت منذ البداية كما هي عليه الآن)

ابتسم حبنكة، وقال: إن هذا الكلام الذي أوردته في كتابك العظيم كذب على الدين، ومغالطة في الحقيقة، وتمويهات بذكر بعض أمور هي من الدين، أوردتها لتغشي بها على نظر القارئ، فلا يبصر مواطن الافتراءات، ومزالق المغالطات.

لقد أدخلت فكرة لا يعترف بها الدين أصلاً، ضمن عرضك لطائفة من المفاهيم والعقائد الدينية الصحيحة، لتضلل القارئ بالإيهام الذي اصطنعته له، ولتجعله يعتقد أن هذه الفكرة الدخيلة هي فعلاً من المفاهيم الدينية، ما دامت قد وردت ضمن مجموعة مفاهيم صحيحة يعرفها هو عن الدين.

لقد زعمت أن الإسلام يرى أن الطبيعة قد حافظت على سماتها منذ أن خلقها الله، أي: أنها تحتوي الآن على نفس الأجرام السماوية وأنواع الحيوانات والنباتات التي كانت موجودة فيها منذ اليوم الأول لخلقها.. مع أن هذا افتراء صريح على الدين، تكذبه بالنصوص القرآنية، ولست أدري من أين جئت بهذه المفاهيم فألصقتها بالدين؟

لما تحدث القرآن عن فئة الحيوانات التي خلقها الله لركوب الإنسان، وليتخذها زينة له، ألحقها بقوله تعالى:{  وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل: من الآية8) بصيغة الفعل المضارع التي تدل على الحال والاستقبال، للدلالة على أن عمليات التجديد في الخلق الرباني للأشياء مستمرة غير منقطعة، قال الله تعالى:{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6} (النحل)

أليس في هذا إعلاناً صريحاً مخالفاً لما زعمت من أن الدين يقرر أن الطبيعة قد حافظت على سماتها منذ أن خلقها الله.

وبالنسبة إلى الأجرام السماوية لا نجد في النصوص الإسلامية ما يدل على هذا الذي افتريته، بل في النصوص ما يدل على خلاف ذلك، قال الله تعالى:{ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذريات:47).. فكلمة (موسعون) في الآية تشير إلى أعمال التوسعة المتجددة في السماء، وذلك لأن هذه الكلمة من صيغ اسم الفاعل، وصيغة اسم الفاعل بقوة المضارع من جهة الدلالة، هي للتعبير عن الحال أولاً ثم عن الاستقبال.

قال العظم: دعنا من هذا.. وأخبرني ألم تسمع بنظرية (لافوازيه)([62]) التي تقول: لا يخلق شيء من العدم المطلق، ولا يعدم شيء، وإنما هي تحولات من مادة لطاقة، أو من طاقة لمادة، أو من مادة لمادة؟

ابتسم حبنكة، وقال: أنت لم تفهم (لافوازيه).. إن نظريته لا تتحدث عن الكون جميعا.. إنها تتحدث عن مجال معين ذي أبعاد.. وليس في مستطاعها أن تتحدث عن كل الوجود في كل أبعاده من الأزل إلى الأبد.. فهذا أمر لا تستطيع تقريره أية نظرية استقرائية مهما بلغ شأنها، إلا أن يكون كلامها رجماً بالغيب، وتكهناً لا سند له، وطرحاً تخيلياً محضاً.

إن لنظرية (لافوازيه) ثلاثة أبعاد هي: البعد الزمني، والبعد المكاني، والبعد الإدراكي.

التفت حبنكة إلى العظم، وقال: أجبني: هل رصد واضعو هذه النظرية العلمية ومقرروها أجزاء الكون في كل الأزمان، بما فيها الأزمان السحيقة في القدم، وعرفوا منها أنه لم يخلق في الأزمان القديمة جداً شيء من العدم؟

سكت العظم، فقال حبنكة: إنهم لم يفعلوا ذلك لأنه لا يتسنى لهم بحال من الأحوال، وهم أبناء النهضة العلمية الحديثة، على أن الأدلة العلمية التي سبق بيانها قد أثبتت أن لهذا الكون بداية، وهذا يعني أنه لم يكن ثم كان، فهو إذن مخلوق من العدم، بقدرة خالق موجود أزلي.

فهذه النظرية لا تتحدث عن الانطلاقة الأولى للكون، لأن أياً من الأجهزة العلمية لا تستطيع أن تسترجع الأزمان السحيقة وترصد الكون فيها، وكذلك لا تستطيع النظرات التحليلية الاستنتاجية أن تحكم على ماضي الكون وانطلاقته الأولى، بالقياس على واقعه النظامي الذي نشاهده في الحاضر، لاحتمال الاختلاف البيِّن بين نقطة البدء وبين ما يأتي بعدها من حالات نظامية مستمرة.

فنظرية (لافوازيه) لا تتناول بحال من الأحوال الزمن الأول لبداية الكون، ومجالها يأتي في الأزمان التي يترجح فيها قيام النظام الكوني الذي درسته هذه النظرية، وبهذا يتبين لنا أن التعميم الزمني فيها الشامل لكل أزمان الماضي غير صحيح.

التفت حبنكة إلى العظم، وقال: أجبني: هل رصد واضعو هذه النظرية العلمية ومقرروها أجزاء الكون في مستقبل ما يأتي من الأزمان، وثبت لهم من رصدهم أنه لا يمكن أن يخلق شيء من العدم، ولا يمكن أن يعدم شيء موجود؟

سكت العظم، فقال حبنكة: لا.. لا يمكن.. كيف يتسنى لهم رصد المستقبل وهم لا يملكون استقدامه؟

إن جل ما يملكونه قياس المستقبل على الحاضر والماضي، بشرط استمرار نظام الكون القائم، ولا يستطيعون أن يحكموا على الكون بأنه لا يمكن أن يتغير نظامه الكلي، فتأتيه حالة من الحالات يمسي فيها عدماً، أو تنعدم بعض أجزاء منه، أو تضاف إليه أجزاء لم تكن هيئتها ولا مادتها فيه، فهذا حكم لا سبيل إليه، إنه حكم مجهول، والحكم على المجهول باطل.

فنظرية (لافوازيه) تنطبق على هذا الكون بشرط استمرار نظامه القائم، وهي لا تحكم على المستقبل حكماً قاطعاً باستحالة تغير هذا النظام، ولكن ما دام هذا النظام الكوني قائماً، فإن ضابطه أن جميع ما يجري من مدركات فيه إنما هو من قبيل التحولات، وبهذا يتبين لنا أن التعميم الزمني فيها الشامل لكل أزمان المستقبل غير صحيح.

هذا ما يتعلق بتحديد البعد الزمني للنظرية، أما تحديد البعد المكاني لها فنقول فيه: هل رصد واضعو هذه النظرية ومقرروها هذا الكون في كل أبعاده المكانية؟.. ألا يحتمل وجود مكان سحيق فيه لم يرصدوه ولم يعرفوا ما فيه؟.. أفيحكمون عليه إذن حكماً غيابياً قياساً على ما رصدوه منه في الأمكنة التي استطاعت أن تبلغ إلى مداها أجهزتهم وملاحظاتهم؟

إن هذا الحكم الغيابي مع جهالة الخصائص والصفات حكم باطل، وهذا طبعاً لا يعني ضرورة مخالفة الغائب للحاضر، ولكن لا يعني أيضاً لزوم موافقته.

فلا بد إذن من تحديد مكان النظرية بالأبعاد المكانية التي كانت مجال الملاحظة والقياس والأجهزة، مع التجاوز بصحة قياس ما شابهها عليها، مما لم يخضع للملاحظة المباشرة.

أما تحديد البعد الإدراكي للنظرية فيتلخص بأن النظرية قد اعتمدت على ملاحظة عالم الشهادة من الكون المنظور المدرك، أما عالم الغيب الذي لا تصل إليه الإدراكات الإنسانية المباشرة أو عن طريق الأجهزة، فهو عالم خارج بطبيعته عن مجال النظرية، لذلك فإنها لا تستطيع أن تحكم عليه، لأن حكمهما عليه هو من قبيل الحكم على الغائب المجهول في ذاته وفي صفاته.

جُلُّ ما تستطيعه النظريات في هذا المجال هي أن تعلق أحكامها تعليقاً كلياً، أو تصدر أحكاماً مشروطة احتمالية غير جازمة، وهذا ما تقتضيه الدراسة العلمية المنطقية الحيادية، وتوجبه الأمانة الفكرية في البحث الجاد عن المعرفة والحقيقة.

وهكذا ظهر لنا أن نظرية (لافوازيه) لم تتناول من الكون إلا مقطعاً محدود الأبعاد الثلاثة: البعد الزماني، والبعد المكاني، والبعد الإدراكي، وهذا المقطع هو مجال ملاحظتها.

يضاف إلى كل ذلك أن وجود الحياة في المادة لم يقترن بأي دليل تجريبي يثبت تحول المادة غير الحية إلى مادة حية، عن طريق التولد الذاتي، رغم كل التجارب العلمية التي قامت في عالم البحث العلمي حتى الآن.

لذلك نلاحظ أن الآراء العلمية في هذا المجال ترجع إلى أصول ثلاثة كبرى:

أما أولها، فهو ما قرره (أغاسيز) في كتابه (تصنيف العضويات) سنة (1858م) إذ قرر أن كل نوع من الأنواع خلق بفعل خاص من أفعال القوة الخالقة، و(باستور) مكتشف جراثيم الأمراض على هذا الرأي، والقائلون بهذا الرأي قد استقر مذهبهم على (أن كل حي لا بد أن يتولد من حي مثله)

أما الثاني، فهو ما ذهب إليه (هيرمان أبير هارد ريختر).. إذ رأى أن الفراغ الذي نراه مملوءاً بجراثيم الصورة الحية، كالجواهر الفردة التي تتكون منها المادة الصماء، كلاهما في تجدد مستمر، ولا يتطرق لهما العدم، وبنى قاعدته في أصل الحياة على (أن كل حي أبدي، ولا يتولد إلا من خلية)، وهذا الرأي يتضمن أن تطورات المادة من المادة، وتطورات الحياة من الحياة.

أما الثالث، فهو ما ذهب إليه الماديون من أن الحياة نشأت من المادة بالتولد الذاتي، وليس لهذا الرأي أي شاهد تجريبي، أو مستند عقلي، وقال بهذا الرأي الدكتور (باستيان) في إنكلترا، والأستاذ (هيكِل) في ألمانيا([63]).

قال العظم: دعنا من هذا.. وأجبني ألا ترى أن ما جاء في النصوص الدينية من استعمال كلمة (الخلق) ومشتقاتها بالنسبة إلى الأحداث والتغيرات التي توجد داخل مجال النظرية المذكورة، مناقضاً أو معارضاً لمضمون هذه النظرية؟

قال حبنكة: إن هذا يستدعي الرجوع إلى استعمال كلمة (الخلق) ومشتقاتها في اللغة العربية وفي نصوص الشريعة الإسلامية.. وقد رجعت إلى هذه النصوص، فوجدت أن هذه المادة اللغوية لا تعني دائماً الإيجاد من العدم المطلق، بل كثيراً ما تستعمل مراداً منها التحويل في الصفات والعناصر التركيبية من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن هيئة إلى هيئة، ومن خصائص إلى خصائص، دون زيادة شيء على المادة الأولى من العدم المطلق، وفي حدود هذا الاستعمال نجد قول الله تعالى:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } (المؤمنون)

ففي كل ما ذكر من صور الخلق نشاهد عمليات التحويل من وضع إلى وضع، ومن حال إلى حال، ومن صورة إلى صورة، ومن خصائص إلى خصائص، وقد أطلق على هذه التحويلات أنها خلق، باعتبار أن القدرة الربانية هي المتصرفة في كل هذه التحويلات.

وجاء في القرآن إطلاق الخلق على تغيير هيئة الطين وجعله على صورة طير، نظراً إلى أن الخلق لا يستدعي دائماً أن يكون إيجاداً من العدم، وذلك في قول الله لعيسى u:{ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } (المائدة: من الآية110)

وبما أن كل التغييرات الكونية إنما تجري بإرادة الله وقدرته، فهي ظواهر لأعمال الخلق التي يقوم بها الله تعالى.

فعلى التسليم الكامل بنظرية (لافوازيه) ضمن حدودها، لا نجد تعارضاً بينها وبين المفاهيم الدينية التي دلت عليها النصوص الصحيحة الصريحة.

ابتسم، وقال: أنا أعلم أن مثل هذه الحقائق لا تسر الملحدين، لأنهم حريصون جداً على أن يظفروا بتناقض ما بين العلم والدين، حتى يتخذوا ذلك ذريعة لنقض الدين من أساسه.. ولن يظفروا مهما أجهدوا نفوسهم، لأن القرآن حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد، عليم بكل شيء، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

قال العظم: دعنا من هذا.. وأجبني.. ألم تتساءل يوما عن السر الذي جعل جميع العلماء المحترمين علماء ماديين ملحدين.. بل لا يصير العالم عالما حتى يصير ملحدا.. خذ مثالا على ذلك بالفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس) الذي كتب كتابه العظيم، والذي عنونه بـ (إرادة الاعتقاد)؟

إن هذا الرجل العظيم يرى أن البينات العلمية والأدلة العقلية غير كافية بحد ذاتها للبرهان على وجود الله أو عدم وجوده، لذلك يحق للإنسان أن يتخذ موقفاً من هذه المعضلة يتناسب مع عواطفه ومشاعره.

واسمع بعد هذا إلى هذه المعزوفة العظيمة التي لحنها الفيلسوف الأديب (برتراند رسل) تحت عنوان: (عبادة الإنسان الحر).. لقد صور فيها تفسيرات الملحدين لنشأة الكون وتطوره، ونشأة الحياة وتطورها، وأصل الإنسان ونشأته وتطوره، ونشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها، وأنكر فيها الآخرة وما فيها.. فالكون بدأ من السديم، وهو إلى السديم يعود.

واسمع مع هؤلاء إلى تلك المعزوفات الجميلة التي لحنها (ماركس) و(فرويد) و(داروين).. وغيرهم من العباقرة.

ابتسم حبنكة، وقال: أنت تتهجم على المدافعين عن الدين بأنهم يقدمون أقوالاً تقريرية غير مقترنة بأدلة.. ولكنك في الرد عليهم تفزع إلى قصة أدبية كتبها (برتراند رسل).. وكأنها السند الأمثل للتحقيق العلمي في قصة الخليقة.

هل تصبح تلك القطعة الأدبية هي التحقيق العلمي العظيم لقصة الوجود كله، التي بدأت بالسديم وستنتهي إلى السديم، وفق النظرات التي يرجحها أصحابها دون مستندات علمية صحيحة، ودون براهين معتبر وفق المنهج العلمي السليم؟

أنَّى لواضعي هذه النظرية أن يشهدوا بداية الكون؟ وكيف يتسنى لهم مشاهدة نهايته؟

إن راسل صور في قصته أن السديم الحار دار عبثاً في الفضاء عصوراً لا تعد ولا تحصى، ثم نشأت عن هذا الدوران هذه الكائنات المنظمة البديعة بطريق المصادفة، وأن اصطداماً كبيراً سيحدث في هذا الكون يعود به كل شيء إلى سديم كما كان أولاً.

أذكر أنك علقت على هذه القصة الخيالية بقولك:( هذا المقطع الذي كتبه (رسل) يلخص لنا بكل بساطة النظرة العلمية الطبيعية للقضايا التالية: نشوء الكون وتطوره، نشوء الحياة وتطورها، أصل الإنسان ونشأته وتطوره، نشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها، وأخيراً يشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء هي الفناء والعدم، ولا أمل لكائن بعدها بشيء، إنه من السديم وإلى السديم يعود)

وهكذا وبكل بساطة تعتبر هذه الأمور حقائق مقررة مسلماً بها علمياً، دون أن تقترن بأي إثبات لها، أهذا هو مستوى الأمانة الفكرية عندك؟ أهذا هو المنهج العلمي السليم؟

ما أبعد المناهج العلمية عن القصص التقريرية، التي تنسجها أخيلة الكتاب والأدباء والشعراء، أو أخيلة واضعي النظريات لأغراض معينة.

في موضع آخر من كتابك العظيم استشهدت بإعجاب برسل قائلا:( وفي مناسبة أخرى عندما سئل (رسل): هل يحيا الإنسان بعد الموت؟ أجاب بالنفي، وشرح جوابه بقوله: عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم وليس من خلال ضباب العاطفة نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت، فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت يبدو لي بدون أي مرتكز أو أساس علمي)

أهكذا ترفض الحقيقة التي جاء بيانها بالأخبار الصادقة عن الله، بمجرد الاستبعاد؟

حينما يسمع المؤمن بالإسلام جواب هذا الفيلسوف الإنكليزي عن الحياة بعد الموت، لا بد أن تسترجع ذاكرته الجواب الجاهلي الذي كان يجيب به كفار العرب البدائيون، إذ قالوا كما حدثنا القرآن عنهم:{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (المؤمنون: من الآية82)، وقال حاكيا عنهم:{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (قّ:3)

إن هذا المنطق يدلنا بوضوح على أن الإنكار هو الذي لا يرتكز على أساس علمي، إنما يعتمد على مجرد التقرير للنفي، أو استبعاد فكرة البعث بإطلاق عبارات التعجب.

على أن الإيمان بالحياة بعد الموت للحساب والجزاء لا بد أن يعتمد على أساس الإيمان بالله، فإثارة هذه العقيدة دون أساس الإيمان بالله هي من قبيل الاشتغال بالفروع قبل الاتفاق على الأصول، وهذا لا يؤدي إلى نتيجة صحيحة، فإذا تم التسليم بعقيدة الإيمان بالخالق جلَّ وعلا جاء من بعدها عرض أدلة البعث.

التفت إلى العظم، وقال: أما بخصوص انتقائيتك في اختيار العلماء والفلاسفة.. فأنا أستطيع أن أذكر لك الآن الكثير منهم.. وكلهم كان مؤمنا عارفا بربه خاشعا له.. كما أخبرنا ربنا، قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (فاطر: من الآية28)

لقد قال البروفيسور (إيدوين كونكلين):( إن القول بأن الحياة وجدت نتيجة (حادث اتفاقي) شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار يقع في مطبعة على سبيل المصادفة)، أي لا يمكن للمصادفة أن توجد هذا الكون ذا النظام المتقن الرائع، إذن فلا بد له من خالق خلقه وأتقنه.

وقال عالم الطبيعة الأمريكي (جورج إيرل ديفيس):( لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الإله، وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الإله)، ولكن إلهنا هذا سوف يكون عجيباً، إلهاً غيبياً ومادياً في آن واحد! إنني أفضل أن أؤمن بذلك الإله الذي خلق العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بدلاً من أن تبنى مثل هذه الخزعبلات)

انظر كيف أن هذا العالم الأمريكي من علماء الطبيعة يرى أن نظرات الملحدين هي من قبيل الخزعبلات، أو الخرافات التي ليس لها سند علمي ولا سند عقلي، وهذا هو شأن كل عالم منصف محايد.

واسمع إلى رد (كريسي موريسن) الذي كان رئيس أكاديمية العلوم الأمريكية بنيويورك على الملحد (هيكل) إذ قال هذا الملحد متبجحاً: (إيتوني بالهواء وبالماء، وبالأجزاء الكيماوية، وبالوقت، وسأخلق الإنسان).. لقد قال له:( إن هيكل يتجاهل في دعواه الجينات الوراثية، ومسألة الحياة نفسها، فإن أول شيء سيحتاج إليه عند خلق الإنسان هو الذرات التي لا سبيل إلى مشاهدتها، ثم سيخلق (الجينات) أو حملة الاستعدادات الوراثية، بعد ترتيب هذه الذرات، حتى يعطيها ثوب الحياة، ولكن إمكان الخلق في هذه المحاولة بعد كل هذا لا يعدو واحداً على عدة بلايين، ولو افترضنا أن (هيكل) نجح في محاولته فإنه لن يسميها مصادفة، بل سوف يقررها وبعدها نتيجة لعبقريته)

وهكذا أظهر هذا العالم سخافة أقوال (هيكل) عن طريق الاستدلال العلمي.

فالاستناد إلى فرضية المصادفة في تعليل وجود الكائنات المتقنة المنظمة لون من التخريف الفكري، القائم على إرادة التضليل فحسب، وليس مذهباً فكرياً تحيط به شبهات تزينه في عقول القائلين به، وهذا ما تدل عليه الشهادات العلمية المنصفة المحايدة.

واسمع إلى عالم الأعضاء الأمريكي (مارلين ب. كريدر)، لقد قال: (إن الإمكان الرياضي في توافر العلل اللازمة للخلق عن طريق المصادفة في نِسَبِها الصحيحة هو ما يقرب من لا شيء)، أي: إن احتمال المصادفة احتمال مرفوض رياضياً في تعليل عمليات الخلق المتقن المنظم.

وجاء في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) ثلاثون مقالاً لثلاثين من كبار العلماء الأمريكيين، في الاختصاصات العلمية المختلفة من علوم الكون السائدة في هذا العصر الحديث، وقد أثبت هؤلاء العلماء في مقالاتهم هذه وجود الله جلَّ وعلا، عن طريق ما وَعَوْه من الأدلة الكثيرة المنبثة في مجالات اختصاصاتهم العلمية.

وفي هذا الكتاب يطلع القارئ على نوع من الأدلة العلمية، التي تفرض سلطانها على العلماء الماديين، من خلال ملاحظاتهم وتجاربهم واختباراتهم العلمية، فتجعلهم يؤمنون بالله، ويجد فيه أيضاً الرد الكافي على مروجي الإلحاد، الذين يزعمون أن العلوم تبعد عن الإيمان بالله، وأن جميع أو معظم العلماء الكونيين ملحدون.

عم صمت قليل المجلس قطعه حبنكة قائلا، وهو ينظر إلى العظم: ولهذا، فإن ما ذكرته في الصفحة (28) من كتابك العظيم ـ من قولك:( إن النظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان خالية عن ذكر الله) ـ ادعاء باطل لا أساس له من الصحة مطلقاً.

ومع ذلك، فلنفترض جدلاً أن العلماء الماديين جميعهم أنكروا وجود الله.. فهل ترى ذلك كافيا في إنكار حقيقة وجود الله؟

هل ينتظر من العلوم المادية المتقدمة وأجهزتها المتطور أن ترينا الله تعالى رؤية حسية؟

إن أقصى ما تفعله هذه الأجهزة أن ترينا آيات الله في الكون.. أما ذات الله تعالى، فلن تستطيع أن ترينا إياها.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال:{ سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) (فصلت)

لا نقول هذا فقط.. بل نحن نتحدى العلوم المادية المتقدمة، وأجهزتها المتطورة، أن ترينا كثيراً من الطاقات الكونية التي غدت حقائق علمية ثابتة لدى العلماء الماديين عن طريق الاستنتاج من ظواهرها وآثارها، وهذه الحقائق التي أثبتوها ليست إلا تفسيرات نظرية للظواهر.

بالإضافة إلى هذا، فإن شهادات العلماء الماديين المؤمنين الذين نشأوا في عصر النهضة العلمية المادية الحديثة تقدم للمتشككين أدلة كافية على أن العلوم المادية ليست علوماً ملحدة في حقيقتها، لكن الإلحاد ملصق بها بطريقة صناعية مقصودة موجهة، من قبل فئات خاصة لها في نشر الإلحاد مصالح سياسية واقتصادية ضد خير البشرية وسعادتها.

ومن هذه الأقوال يتبين لنا بوضوح أنه لا يوجد تناقض ولا تعارض مطلقاً في نظر جمهور العلماء الماديين بين الدين والعلم حول الأساس الأول من أسس العقيدة الدينية، وهي عقيدة الإيمان بالله تعالى، وبهذا تنهار المستندات الإلحادية التي تزعم وجود هذا التناقض بالنسبة إلى هذه النقطة بالذات، باعتبارها مجال بحثنا الآن، وباعتبارها أعظم نقطة في الأيديولوجية الإلحادية، والتي يحاول الملحدون جهدهم أن يوجدوا لها المبررات النظرية، أو المبررات العملية، فلا يجدون إلا افتراء الأكاذيب، وصناعة المغالطات، والاحتماء المزور بالتقدم العملي والصناعي، وسرقة أسلحة العلم التي لا تملك في الحقيقة الدفاع عن الإلحاد، وإنما هي في الأصل أسلحة لقضية الإيمان، يحسن استعمالها العالمون بها، وتكون عند الجاهلين بها أسلحة معطلة، ويسرقها الملحدون فيحملونها أمام الجاهلين، فيتخيل الجاهلون بها أنها فعلاً أسلحة للملحدين، وهي تدعم قضية الإلحاد، مع أن الحقيقة بخلاف ذلك، إنها أسلحة للمؤمنين العالمين بها، الذين يحسنون استعمالها.

لو كانت النظرة العلمية الحديثة تناقض أو تعارض النظرة الغائية للكون، لما وجدنا هذا الجمهور الكبير من علماء النهضة العلمية الحديثة مؤمنين بالله ،وبتفسيرات النظرة الغائية للكون ،وبالمفاهيم الأخلاقية الدينية..

لقد كان (أندرو كونواي إيفي) من هؤلاء.. لقد كان من علماء الطبيعة الكبار.. وكان ذا شهرة عالمية من سنة (1925م) إلى سنة (1946م).. ولكن ذلك لم يمنعه من أن يقول ـ في مقال له تحت عنوان: (وجود الله حقيقة مطلقة) ـ:( ويظهر أن الملحدين أو المنكرين بما لديهم من شك لديهم بقعة عمياء، أو بقعة مخدرة داخل عقولهم، تمنعهم من تصور أن كل هذه العوالم، سواء ما كان ميتاً أو حياً، تصير لا معنى لها بدون الاعتقاد بوجود الله)

ثم استشهد لذلك بتصريح لأينشتاين قال فيه:( إن الشخص الذي يعتبر حياته وحياة غيره من المخلوقات عديمة المعنى ليس تعيساً فحسب، ولكنه غير مؤهل للحياة)

انظروا.. أليس هذا التفكير الذي يعلن عنه هذا العالم ومن قبله (أينشتاين) تفكيراً قائماً على النظرة الغائية للكون، وعلى اعتبار القيم الأخلاقية؟

إن هذه النظرة الموافقة للنظرة الإسلامية لم تكن عند أصحابها مناقضة للأسس العلمية الحديثة، ولا للنظرة العلمية كما تبلورت مع تطور العلم الحديث وتقدمه..

قاطعه العظم، وقال: ولكن هذه النظرة مناقضة لنظريات دُركهايم، وفرويد وماركس.. ومناقضة للداروينية.

قال حبنكة: لو كان لدي الوقت الكافي لبينت لك هنا بالدليل القاطع أن هؤلاء ليسوا سوى أجراء لمخططات ليس لها من هدف سوى هدم الأسس الدينية، لا على أساس قناعات علمية صحيحة.

لقد أصبح مخططهم مكشوفاً للعالم.. بل كتب في كشف مكايدهم محققون من العلماء المتتبعين.

ومع ذلك.. وبغض النظر عن مدى صدق هذا.. فلنقارن بين السمو الذي تحمله نظريات من ذكرت، وبين السمو الذي تحمله النظرية الإسلامية، ومن يوافقها من علماء الطبيعة المؤمنين.

راح العظم يقرأ من كتابه بصوت جهوري هذا النص:( جلي أن هذه النظرة الإسلامية للكون هي نظرة غائية، تعتمد في تفسيرها لطبيعة الكون على العلل الغائية، والأهداف السامية، وعلى مفاهيم أخلاقية مثل (الحق والعدل)

هل تنسجم هذه النظرة الغائية إلى الكون والحياة مع النظرة العلمية التي تسود العالم المعاصر وثقافته؟ لو رجعنا إلى التفسيرات العلمية للكون من (نيوتن) إلى (أينشتاين) هل نجد في صلبها مقولات مثل (الأهداف السامية) أو (الحق والعدل) أو (الروح والجمال والخالق)؟.. هل نجد لهذه المفاهيم الأخلاقية الدينية أي ذكر في النظرية النسبية، أو في ميكانيكا الكموم مثلاً؟ سؤال جدير بالتمحيص والإيضاح والمناقشة على أقل تعديل)

قرأ ذلك، ثم التفت لحبنكة، وقال: ما تقول في هذا النص؟

ابتسم حبنكة، وقال: أعلى هذا المستوى الفكري تعرض قضية الإلحاد، وتناقش قضية الإيمان بالله!؟

أهكذا يجازف بالمنطق والفلسفة ليصنع حجة مكشوفة بهذا الشكل؟

فما صلة النظرية النسبية وميكانيكا الكموم بالحديث الصريح عن الله تعالى، أو التعرض إلى المفاهيم الأخلاقية، حتى يعتبر عدم ذكر اسم الله والمفاهيم الأخلاقية فيها دليلاً على نفي وجود الله، أو على إلغاء المفاهيم الأخلاقية!؟

إن مثل هؤلاء الذين يرطنون بمثل هذا كمثل وارث كنز عظيم، ولكنه قد نشأ وهو يجهل أين خبأ له مورثه كنزه، وأقبل خبراء البحث عن الكنوز ينقبون ويبحثون، وتسلل من وراء هؤلاء الخبراء لصوص، تظاهروا بأنهم باحثون خبراء، ولكنهم وقفوا يرصدون ما يعثر عليه الباحثون الحقيقيون، ليسرقوه كله أو ما يستطيعون سرقته منه، وكان مورث الكنز قد كتب اسمه ورسم صورته على أحد وجهي مصكوكاته الذهبية علامة على أنها له، وقد خبأها لوارثه، أما الخبراء المنقبون الأمناء: فإنهم لما ظفروا بما وجوده من الكنز، أعلنوا ما شهدوا من كتابة ورسوم على مصكوكاته، وثبتوا استحقاق الوارث لها، وأخذوا أجرهم على أعمالهم. وآخرون لم تكن لديهم الأمانة الكافية أو كانوا جاهلين بقراءة المكتوبات الأثرية أخذوا ما عثروا عليه، وانتفعوا بالكنز، ولم يعلنوا ما شهدوا من كتابة ورسوم على مصكوكاته، ولم يهتموا بأن يعترفوا باستحقاق الوارث لها.. وجاء من وراء الفريقين فئة اللصوص، فسطوا على بعض ما استخرجه الخبراء من الكنز، وطمسوا الوجه المكتوب، وأقبلوا يفاخرون بأن الكنز كله هو ملكهم، وهو ميراثهم، والدليل على ذلك أن بعض قطع مصكوكاته الذهبية في أيديهم، قد عثروا عليها وفيها كتابة تشهد لهم بأن مورِّثهم قد خبأها لهم.

وحينما يُقال لهم: أرونا هذه الكتابة التي تشهد لكم يقولون: فلان قال هذا، وفلان قال هذا، وفلان قال هذا، وكل هؤلاء الذين ذكروهم هم من فئة اللصوص أنفسهم، أو من غيرهم ولكن يكذبون عليهم، ويظلُّون حريصين على أن يبقى الوجه الثاني للمصكوكات الذهبية مطموساً، حتى لا تنكشف لعبتهم القائمة على اللصوصية والتزوير.

أخذ العظم يقرأ من كتابه هذه العبارات:( عندما نقول مع (نيتشه): إن الله قد مات، أو هو في طريقه إلى الموت، فنحن لا نقصد أن العقائد الدينية قد تلاشت من ضمير الشعوب، وإنما تعني أن النظرة العلمية التي وصل إليها الإنسان عن طبيعة الكون والمجتمع والإنسان خالية من ذكر الله تماماً كما قال (لابلاس))

التفت إلى حبنكة، وقال: وما تقول في هذا الكلام؟

ابتسم حبنكة، وقال: لست أدري لم تحشر اسم العالم (لابلاس) في هذا المحل.. لقد شرح (لابلاس) دليل الحركة الكونية، وأبان قوة هذا الدليل في جسم الشبهات التي يثيرها الجاحدون فقال:( أما القدرة الفاطرة التي عينت جسامة الأجرام الموجودة في المجموعة الشمسية وكثافتها، وثبتت أقطار مداراتها، ونظمت حركاتها بقوانين بسيطة، ولكنها حكيمة، وعينت مدة دوران السيارات حول الشمس والتوابع حول السيارات بأدق حساب، بحيث إن النظام المستمر إلى ما شاء الله لا يعروه خلل.. هذا النظام المستند إلى حساب يقصر عقل البشر عن إدراكه، والذي يضمن استمرار واستقرار المجموعة إزاء ما لا يعد ولا يحصى من المخاطر المحتملة، لا يمكن أن يحمل على المصادفة إلا باحتمال واحد من أربعة تريوليونات، وما أدراك ما أربعة تريوليونات؟ إنه عدد من كلمتين، ولكن لا يمكن أن يحصيه المحصى إلا إذا لبث خمسين ألف عام يعد الأرقام ليلاً ونهاراً ،على أن يعد في كل دقيقة (150) عدداً)

انظر هذا الكلام المضمخ بعطر الإيمان.. لم لم تسمع إليه؟

قال العظم: لقد سمعت إلى قوله الآخر:( إن العالم العظيم الذي سيتمكن من معرفة انتشار الذرات في السحب السديمية الأولية سيكون باستطاعته أن يتنبأ بكل مستقبل الكون وأحداثه)

قال حبنكة: ولكن قوله هذا لا يعني إنكاره للخالق، وإنما يدل على شعوره بأن الكون سائر وفق نظام مرسوم خاضع لسلاسل سببية متتابعة، يمكن التنبؤ باللاحق منها لدى معرفة السابق.

قال العظم: وما تقول في قوله لنابليون: (الله فرضية لا حاجة لي بها في نظامي)([64])

قال حبنكة: فلنفرض أنه قال هذا وذاك.. فلم تنتقي هذا دون ذاك.. ألا يمكن أن يقول أحد من الناس قولا ثم يتراجع عليه بعد ذلك؟

ثم ما قيمة (لابلاس).. مهما كان محترما.. أمام القضية الكبرى التي نتحدث عنها؟

لم يجد العظم إلا أن فتح كتابه، وقال: فما تقول في ردي على الفيلسوف الأمريكي (وليم جيمس)؟

قال حبنكة: ماذا قال (وليم جيمس) أولا؟

قال العظم: لقد كتب كتابا يغلب فيه العاطفة على العقل.. سماه (إرادة الاعتقاد).. وقد تعرض في بحثه هذا إلى حق الإنسان المفكر بالاعتقاد بوجود الله، ولو لم تكن البينات العلمية والأدلة العقلية كافية بحد ذاتها للبرهان على وجود الله أو عدم وجوده، نظراً إلى أن عواطف الإنسان ومشاعره ترجح جانب الإثبات، كما أن الإنسان يجد نفسه بين موقفين:

إما أن ينكر الله ويجحده، ثم يكون الواقع بخلاف ذلك.. وفي هذه الحالة، فإنه يعرِّض نفسه لخسائر كبرى.

وإما أن يؤمن به، ثم يكون الواقع بخلاف ذلك.. وفي هذه الحالة، فإنه لا يخسر شيئاً.

واستنتج من ذلك أن موقف الإيمان على هذا موقف لا خسارة فيه مطلقاً، مع وجود احتمال اغتنام أرباح كثيرة منه بخلاف موقف الإلحاد الذي لا ربح فيه مطلقاً، مع وجود احتمال تكبد خسائر كبرى.

وبمقارنة هذين الموقفين رجح موقف الإيمان على موقف الإلحاد قطعاً.. وبذلك غلب جيمس العاطفة على العقل.

لقد قلت ردا عليه في الصفحتين (76) و(77):( في الواقع أن (جيمس) يسيء فهم المشكلة: فالمسألة لا تتعلق بالفائدة الدنيوية أو الأزلية التي قد أجنيها من اعتقادي بالله، وبالخسارة المماثلة التي قد أتكبدها من عدم اعتقادي به إذا كان موجوداً.. المشكلة أصلاً لا تمت بصلة إلى حساب الأرباح والخسائر، ولا علاقة لها بعقلية الرهان والمجازفة.. المشكلة بكل بساطة هي: هل القضية (الله موجود) قضية صادقة أم كاذبة، أم أن صدقها جائز جواز كذبها، وليس لدينا أدلة أو بينات ترجح أياً من هذين الاحتمالين على الآخر؟ يجب أن ينسجم موقفنا الشخصي من قضية وجود الله انسجاماً تاماً مع جوابنا على هذا السؤال، لا مع حساب الخسائر والأرباح)

ابتسم حبنكة، وقال:  ما ذكره جيمس ليس دليلا([65]).. فلا ينبغي للدليل إلا أن يعتمد على العقل المجرد.. بالإضافة إلى أنه لا يعتبر الإيمان إلا من العقل الجازم الموقن لا من العقل التاجر المجرب.

ولكن مع ذلك، فإن هذا مما اعتاد العلماء في المناظرات طرحه.. وهم يطرحونه، لا باعتباره دليلا.. وإنما باعتباره مؤثرا في الملحد حتى يعيد نظره ويدققه.. فالمسألة ليست مسألة نظرية مجردة.. إنها مسألة يرتبط بها مصير الإنسان جميعا.

لقد اعتاد المناظرون الدالون على الله أن يذكروا ما ذكره جيمس عند آخر مرحلة من مراحل النقاش الذي يرفض فيه الملحد أدلة الإيمان الكثيرة، ويعلن تشككه بها.. أو يطرحونه في أول مرحلة من مراحل النقاش، لتوجيه النفس إلى منطقة الإيمان منذ الانطلاقة الفكرية الأولى، ثم تطرح من بعده الأدلة والبينات الأخرى، فهو إما دافع إلى النقلة الأولى التي تتجاوز منطقة الشك المطلق، وإما ممسك بالنفس في منطقة الإيمان قبل أن تنزلق إلى منطقة الشك المطلق.

لقد علمنا القرآن هذا.. فقد ذكر أن مؤمن آل فرعون، قال لقومه الذين هموا بقتل موسى u:{ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر: من الآية28)

فهذا الرجل المؤمن من آل فرعون عرض عليهم ـ أولاً ـ دليل البينات التي جاء بها موسى، ثم تنازل معهم إلى مستوى آخر لا يستطيعون أن يرفضوه إذا هم رفضوا البينات، فقال لهم:{ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)، أي: إنكم لا تخسرون شيئاً إذا تركتم موسى وشأنه فيما لو كان كاذباً، بخلاف ما لو كان صادقا فإنكم تخسرون كثيراً بتكذيبه ومقاومة دعوته:{ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، أي: فيما لو كان صادقاً.

والمنطق الحق يرجح الأخذ باحتمال صدقه على احتمال كذبه، لأن الأخذ باحتمال الصدق يدفع عنكم احتمالات الخطر دون أن تخسروا شيئاً، أما الأخذ باحتمال الكذب فإنه قد يعرضكم للخطر دون أن تخسروا شيئاً، أما الأخذ باحتمال الكذب فإنه قد يعرضكم للخطر دون أن تجنوا شيئاً من الربح.. وهذا منطق عقلي يصح الاستناد إليه والاعتماد عليه، في كل الأمور التي يجد الإنسان نفسه فيها بين موقفين متكافئين نظرياً، إلا أن الأخذ بأحدهما فيه السلامة بصفة قطعية مع احتمال الربح، أما الآخر ففيه احتمال عدم السلامة مع الخسارة، وهذا هو أضعف الأدلة المرجحة.

قال العظم ساخرا: أهان العقل عندكم لهذه الدرجة.. حتى صارت العاطفة تغلبه؟

ابتسم حبنكة، وقال: لقد ذكرني موقفك هذا بقصة طالب غبي يحفظ بعض المسائل النحوية والصرفية واللغوية، سأله الممتحن أول ما سأله ما اسمك؟ فقال له: الاسم على أقسام: منه علَمَ، والعلم مرتجل ومنقول، وهو علم شخصي وعلم جنسي، ومنه معارف أخرى غير علم، ومنه نكرة، والنكرة قد تكون اسم جنس، وقد تكون اسم جنس جمعي، وفي باب النداء قد تكون النكرة نكرة مقصودة، وقد تكون نكرة غير مقصودة، ومعاجم اللغة قد جمعت المفردات اللغوية وبينت معانيها، سواء ما كان منها اسماً أو فعلاً، وفيها مئات الألوف من الكلمات.. وهكذا سار على هذا المنوال في السرد الغبي.

وهكذا أنت، فقد ظننت نفسك في مثل صحراء واسعة تبحث فيها عن دينار، واحتمالات الخطأ فيها لا نهاية لها، ونسيت أنك في موضوع يتردد بين احتمالين فقط، لا ثالث منهما، أحد هذين الاحتمالين هو أن الله موجود وحق، والاحتمال الثاني هو الاحتمال المناقض له، ولا شيء وراء هذين الاحتمالين، فالقضية كمن جاءنا فقال: في وسطي حزام ناسف، وهنا لا بد أن نكون أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن نرجح احتمال الصدق فنأخذ حذرنا، وإما أن نرجح الاحتمال الآخر فنورط أنفسنا في احتمال الخطر.

وهكذا، فإن (جيمس) رجح احتمال الإيمان على نقيضه فقط، وليس على احتمالات لا حصر لها.

ثم كيف لا تتعلق المشكلة بالفائدة الدنيوية أو الأزلية التي قد أجنيها من اعتقادي بالله، وبالخسارة المماثلة التي قد أتكبدها من عدم اعتقادي به إذا كان موجوداً؟

إنها مشكلة وجودي وحياتي وسعادتي ومستقبلي، أفلا أبحث عنها؟

أفلا أضعها في الحساب؟

أفأعرض وجودي كله وسعادتي كلها للخطر، دون أن يكون لي في الموقف الذي أتخذه أي ربح، أو أية فائدة؟

هل أتعامل مع أرقام في مسألة رياضية لا علاقة لي بها؟

إنها قضية حياة، قضية سعادة، وقضية مصير، واللعب فيها لعب بالنار.

رأيت العظم بعد أن سمع هذا تغير وجهه، ثم قال بصوت فيه بعض رعدة: أستأذن.. ربما نلتقي مرة أخرى لنكمل مناقشتنا.

سقط الكتاب من يده، وهو يسير، فأخذه بعض الناس، وأعطاه له.. فنظر إليه، وقال: خذه.. لدي نسخ أخرى منه.

المناظرة التاسعة:

قال الجمع: فحدثنا عن المناظرة التاسعة.

قال: في شارع من شوارع تلك المدينة وجدت رجلين يلتف حولهما جمع كبير([66])..

أما أحدهما، فكان شيخا يبدو على ملامحه الصلاح.. وكان الناس يطلقون عليه (الراوندي)([67]) وقد عرفت أن سببه هو كونه من بلاد يقال لها راوند.

وأما الثاني، فشاب تبدو عليه بعض خفة العقل.. ممزوجة بغرور كثير زاد فيه اطلاعه الواسع وعلمه الكثير.. فهو كما يقال (علم بلا عقل)..، وكان يطلق عليه (ابن الرواندي)([68]).. وقد عرفت أن كلا الرجلين من بلد واحد.. لكنهما مع ذلك مختلفان اختلافا شديدا يستحيل معه أي اجتماع.

بدأ ابن الراوندي الحديث متوجها به للراوندي قائلا: إلى الآن لا أسمع إلا جعجة.. لم أر طحينا بعد.. أنت تعلم أني جائع.. والجائع لا تشبعه الجعجعة.

قال الراوندي: إنك لم تمنح لي الفرصة الكافية لأتسلسل بك في الدلالة على وجود الله.. إني كلما حدثتك حديثا انتقلت بي إلى غيره.. ولا يمكن أن تفهم بهذا شيئا.

قال ابن الراوندي: ها قد صمت.. فتكلم.. ولا تتكلم إلا بالطحين.. فإني لا أحب الجعجعة.

قال الراوندي: سأعود.. وأبدأ من الأول.. وسأفترض معك بأن وجود الله مجرد دعوى تبحث عن أدلة علمية عقلية تدل عليها.

أولا أنت تعلم أن هذا من النوع من الدعاوى لا يتعلق من العلم بجانبه الذي يخضع للتجربة والمشاهدة.. ولذلك فإن الدليل الذي يمكن أن نستعين به لإثبات هذا هو البراهين العقلية.

إن هناك بديهيات اتفقت العقول على قبولها والتسليم لها.. وهي التي يعتمد عليها الدليل الذي سأورده لك.. وهي أربعة:

أما أولها، فهو (بطلان الرجحان دون مرجح)..

قاطعه ابن الراوندي، وقال: الرجحان دون مرجح!؟.. ما هذا!؟.. أنت تريد أن تتحدث عن الله، أم تريد أن تتحدث عن الموازين.. أو الأرجوحات.. ما هذا يا رجل.. ما هذه الجعجعة.. أريد الطحين.. لقد أنهكني الجوع.

تنفس الراوندي الصعداء، وقال: ما عساي أن أقول لك.. لقد عدت إلى طبيعتك.. ألم نتفق على أن تترك لي فرصة الكلام؟

قال ابن الراوندي: لا بأس.. لا بأس.. لكن وضح لي ما الذي تريده من الرجحان دون مرجح.

قال الراوندي: المراد منه بديهية من بديهيات العقول، وهي أنه يستحيل أن يكون الشيء جاريا على نسق معين، ثم يتغير عن نسقه، ويتحول عنه بدون وجود أي مغير أو محول إطلاقا.. إن هذا من الأمور الواضحة البطلان، وجميع العقلاء يعلمون أن الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، ولا بد ـ لتحويله عن حاله السابقة ـ من محول ومؤثر يفرض عليه هذا الوضع الجديد، وينسخ حاله القديمة.

قال ابن الراوندي: أسلم لك بهذا.. ولكن كيف تستدل به على ما نحن فيه؟

قال الراوندي: بالتأمل في الأشياء تجد أنها جميعا لا تخلو من ثلاثة أوصاف: الوجوب والاستحالة، والإمكان([69]).

فما اتصف بالوجوب استحال في العقل عدمه.. وما اتصف بالاستحالة استحال في العقل وجوده.. وما اتصف بالإمكان أجاز العقل وجوده وعدمه..

قال ابن الراوندي: سلمت لك بكل هذا.. فكيف تستدل به على ما نحن فيه؟

قال الراوندي: بالتأمل في هذا الكون الذي نراه نرى أنه في جملته من نوع الممكن.. أي أن العقل يجزم بأنه لا يترتب أي محال على فرض انعدامه.. ويرى أنه من الممكن أن توجد أسباب تعدمه من أصله دون أن يستلزم ذلك محال لا يقبله العقل.

وهذا يعني أنه لا بد لهذا الكون الذي كان في أصله قابلا لكل من الوجود والعدم بحد سواء من قوة خارجة عنه مؤثرة فيه خصصته لجانب الوجود..

قال ابن الراوندي: يمكن أن أتفق معك إلى هنا.. فما هذه القوة؟

قال الراوندي: هذه القوة هي قوة الله.

قال ابن الراوندي: لا.. لا أتفق معك على هذا..

قال الراوندي: لم.. أو ما القوة التي تراها بديلة عن الله؟

قال ابن الراوندي: ما دام الأمر يحتاج إلى الله.. فأنا لا أحتاج إلى هذا.. أنا أفرض فرضا آخر لا نحتاج فيه إلى أي قوة خارجية.

قال الراوندي: فما هو هذا الفرض الذي يغني الكون عن خالقه؟

قال ابن الراوندي: أنا أفرض أن الكون وجد بذاته دون أي قوة مؤثرة خارجية.

قال الراوندي: فما دليلك على هذا؟

قال ابن الراوندي: لا أحتاج إلى أي دليل.. بل أنت الذي تحتاج إلى أن تنفي صحة هذا الفرض.

قال الراوندي: لا بأس.. إن هذا الفرض الذي فرضته سيلزم عنه القول برجحان الشيء بدون مرجح له، وهو باطل كما علمت، فبطلت الفرضية التي استلزمتها أيضا.

لقد قال الفارابي الذي أراك تقدره وتحترمه يقرر هذا: (إن الموجودات على ضربين: أحدهما ممكن الوجود، والثاني واجب الوجود.. وممكن الوجود إذا فرض غير موجود لم يلزم عنه محال، وليس بغني بوجوده عن علته وإذا وجد صار واجب الوجود لغيره لا بذاته.. أما واجب الوجود فمتى فرض غير موجود لزم عنه محال، ولا علة لوجوده ولا يجوز كون وجوده بغيره، والأشياء الممكنة لا يجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علة ومعلولة.. ولا يجوز كونها على سبيل الدور، بل لا بد من انتهائها إلى شيء واجب هو الموجود الأول الذي هو السبب الأول لوجود الأشياء وهو الله تعالى)

و على تعبير ديكارت القريب التناول: (إنني موجود فمن أوجدني ومن خلقني؟.. إنني لم أخلق نفسي.. فلا بد لي من خالق.. وهذا الخالق لا بد أن يكون واجب الوجود وهو الله بارئ كل شيء)

و على تعبير باسكال:(إنه كان يمكن أن لا أكون لو كانت أمي قد ماتت قبل أن أولد حيا، فلست إذا كائنا واجب الوجود.. فلا بد من كائن واجب الوجود يعتمد عليه وجودي وهو الله)

وقد عبر القرآن الكريم على ذلك بأوجز عبارة، فقال:{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35)

قال ابن الراوندي: فلنفرض أن العالم قديم في وجوده.. أي لا أول له، ولا سبق للعدم عليه.

قال الراوندي:  كيف ذلك؟

قال ابن الراوندي: عن طريق التوالد الذاتي.. فكل سبب طبيعي له سبب طبيعي إلى ما لا نهاية.

قال الراوندي:  إن هذا النوع من التوالد تنفيه الحقيقة الفطرية الثانية.. وهي (بطلان التسلسل)

قال ابن الراوندي: بطلان التسلسل!؟.. ما بطلان التسلسل؟

قال الراوندي: هو افتراض أن المخلوقات كلها متوالدة عن بعضها إلى مالا نهاية، بحيث يكون كل واحد منها معلولا لما قبله، وعلة لما بعده.. دون أن تنبع هذه السلسلة أخيرا من علة واجبة الوجود هي التي تضفي التأثير المتوالد على سائر تلك الحلقات.

إذ أن سلسلة المخلوقات الممكنة مهما طالت وطالت فإن استمرار طولها لا يخرجها على كل حال عن كونها ممكنة، والممكنات لا بد لرجحان أحد طرفي الإمكان فيها من مرجح.. ولنعتبر أن التسلسل حلقات.. فحلقات السلسلة كلها لا تأثير ذاتي في واحدة منها مهما طال الزمن.. إذا فلكي نصدق أنها موجودة لا بد أن ننتظر ظهور المؤثر الخارجي الذي أمد السلسلة بالحياة، فراحت بدورها تنتقل من حلقة إلى حلقة، وإلا كان لا بد من الجزم بأحد أمرين: إما أن كل هذه السلسلة مفقودة إذ لم يثبت وجود ذلك الذي قذف فيها الحياة.. وإما أنها موجودة، ولكنها تنبع أخيرا من ذات واجبة الوجود تؤثر فيها، ولا تتأثر بشيء.

أما الأمر الأول، فظاهر البطلان، لأن الحس والمشاهدة يكذبانه.. وأما الثاني، وهو تيقن أن لابد له من مصدر ذاتي وهبه الحياة والقدرة على الحركة والتطور والتوالد، فيبطل بذلك التسلسل المذكور.

وكما تعلم، فالعالم مركب بمجموعه وأجزائه.. وكل مركب حادث بداهة.. والعالم بما فيه متغير تغيرا مستمرا من صورة إلى صورة.. وكل متغير من صورة إلى صورة لا يمكن أن تكون له صورة أصلية أزلية قديمه، لأنها لو كانت كذلك لم يجز أن يطرأ عليها التغير.

والقول بتسلسل الصور إلى غير نهاية غير صحيح.. لأن التسلسل مستحيل عقلا.. فلا بد أن نقف عند حد، ونقول: إن هذا المتغير لم تكن له في أول أمره صوره.. وإذا لم تكن له صوره لا يكون له وجود، لأن الصورة تشمل الشكل والحجم والوزن واللون والطعم والرائحة، ومتى فقد الشيء هذه الصور كلها فقد وجوده.. فالعالم نتيجة لهذا حادث.. والعقل بقوة قانون العلية البديهي يحكم بداهة بأن كل حادث لا بد له من سبب يحدثه، وهذا السبب المحدث لا يجوز أن يكون حادثا، لأنه يفتقر إلى سبب محدث له.. ولا يجوز القول بتسلسل الأسباب إلى غير نهاية، لأن التسلسل ممتنع عقلا.. فلا بد أن يكون المحدث الصانع للعالم قديما، وهو الله تعالى الذي خلق العالم وأحدثه بعد العدم المطلق.

قال ابن الراوندي: أنا لا أستطيع أن أضع في خيالي ما تذكره من أحاديث.. فمن الصعب علي الخيال أن يتصور النهاية.. واللانهاية..

ابتسم الراوندي، وقال: أنا أخاطب عقلك لا خيالك.. فالله يمكن أن نتعقله، ولكنا مهما أوتينا من سعة الخيال، فلا يمكن أن نتخيله..

إن ما ذكرته لك بديهيات عقليه يأخذ بعضها برقاب بعض، ولكن هذه البديهيات يزاحمها في الذهن عند آخر مراحل التفكير ارتباك وكلال عند تصور النهاية التي ليس وراءها أي شيء، واللانهاية التي لا تقف عند حد، والأزلية التي ليس لها بداية، والزمن الذي ليس قبله زمن، والمكان الذي ليس وراءه أي شيء..والعدم المطلق.

ولكن إذا علمنا أن العالم الواقع المشاهد هو من قسم الممكن، لأننا نستطيع تصور عدم وجوده، وبما أنه ليس هو الذي أوجد نفسه، فلا بد إذا من علة كافية لوقوعه ووجوده.. وقبل أن تحدثه العلة الكافية لم يكن موجودا، فلا بد إذا من تصور العدم سابقا لحدوث العالم.. فهل تصور إيجاده بعد العدم يوجب تناقضا عقليا؟

كلا..بل إن التناقض العقلي إنما يكون إذا تصورنا عدم سبق العدم لوجود العالم.

نعم يعجز الخيال البشري عن تصور ذلك.. ولكن ما قيمة هذا العجز أمام البرهان القاطع؟

ألا تؤمن بالحقائق الرياضية، وتجد اليقين في نتائجها الصحيحة؟

ألست تعرف كثيرا من الحقائق الرياضية التي تستند إلى أوليات بديهية عقلية تكون في أول الأمر خافية عليك ولا تظهر لك إلا بالتأمل والاستنتاج والبرهنة.

إن عقولنا في مجال الأعداد الكبيرة تكل عن تصور حقائق واضحة لا تحتاج إلا لتأمل قليل وحساب بسيط من نوع الجمع، ويكون كلالها غريبا جدا حتى تمارى في النتيجة ولو أخبرها بها أصدق الناس وأعلمهم.

سأضرب لك مثالا على ذلك.. أنا أعلم حبك لأحجية الورقة المقطعة.. ولذلك سأستثمر هذا المثل لأقنعك بهذا.

لو أعطيت ورقة رقيقة بالغة الرقة سمكها جزء من مائة جزء من الميليمتر، وطلب منك أن تقطعها نصفين، ثم تقطع النصفين ثانية ليصبحا أربعة، ثم تقطع الأربعة لتصبح ثمانية، وهكذا إلى أن تكرر القطع والتضعيف (ثمان وأربعين) مرة، ثم سئلت: قبل أن تبدأ بالقطع وقبل أن تحسب.. كم تتوقع أن تصبح سماكة هذه الأوراق الرقيقة بعد قطعها (ثمان وأربعين) مرة؟

قال ابن الراوندي: أنا أعلم جواب هذه الأحجية.. إذا كررت القطع إلى المرة الـ(ثمان وأربعين)، ثم جعلت الأوراق المقطعة ركاما مرصوصا صاعدا في السماء، فإنه يلمس أو يكاد يلمس القمر الذي يبعد عن الأرض (384) ألف كيلومتر.

قال الراوندي: إن العقل هو الذي استنتج هذا.. ولكن اذهب إلى أي عامي وأخبره بهذا، فإنه سيمتلئ منك ضحكا وسخرية.

قال ابن الراوندي: لقد حصل ذلك لي مرة.

قال الراوندي: ولهذا.. فإن فرض التسلسل منقوض بالحس والمشاهدة.. ذلك أننا جميعا نعلم أن هناك مخلوقات نوعية انقرضت وانتهت، فلو صح بأن الموجودات تتسلسل إلى ما نهاية بأن يكون كل حلقة فيها معلولا بما قبلها وعلة لما بعدها.. فلماذا انقرضت هذه الموجودات؟.. إذ كيف تنقرض وهي علة لما بعدها؟.. وهذا إخلال بنظام التسلسل المزعوم.

قال ابن الراوندي: فأنا أرجع إلى أن العالم حادث.. وله علة أثرت في إيجاده.. ولكن هذه العلة لا تتمثل في أكثر من التفاعل الذاتي المتدرج، كتفاعل العناصر الأولية للحياة كالكربون والهيدروجين والأوكسجين التي تلاقت ونتج عنها مركبات عضوية لا حصر لها؟

 قال الراوندي: إن هذا يستلزم القول بالدور.. وهو من البديهيات التي تنكرها العقول..

قال ابن الراوندي:  الدور!؟.. ما الدور!؟

قال الراوندي: الدور هو أن يتوقف الشيء في وجوده المطلق أو تكييف معين له على شيء آخر إلا أن هذا الشيء متوقف في ذلك الوجود أو التكييف، وفي نفس الوقت على ذلك الشيء الأول.

مثال ذلك ما لو قلنا: إن وجود البيض متوقف على وجود الدجاج، ثم نقول: إن الدجاج وجد قبل البيض، وفرضنا أن لا وسيلة إلى وجود هذا ولا ذاك إلا عن هذا الطريق، فإن من البديهي أن كلا الأمرين يظلان معدومين حتى يأتي مؤثر خارجي يفك هذا الطوق.

 قال ابن الراوندي:  عرفت إلى الآن ثلاث حقائق بديهية.. فما الرابعة.. أم أنك نسيتها؟

قال الراوندي: لا.. كيف أنساها.. وهي في عقلي وعقلك وعقول كل الناس..

قال ابن الراوندي: من حقك أن تفرض وجودها في عقلك.. ولكن ليس من حقك أن تفرض وجودها في عقلي.. عقلي هو بيتي ولا يعرف ما في البيت إلا أهله.

قال الراوندي: من السهل علي أن أدرك وجود هذه الحقيقة فيه؟

قال ابن الراوندي: هل تريد أن تشرح عقلي لترى ما فيه؟

قال الراوندي: سأتحرى كما يتحرى القضاة.. وسأدرك من خلال التحري أن عقلك لا يخلو من هذه البديهة.

قال ابن الراوندي:  أنا مستعتد لسماعك حضرة القاضي.. فاسأل كما تشاء.

قال الراوندي: نفرض أنك نظرت إلى وعاء أمامك، فوجدت فيه قطعا من الآلات المختلفة الدقيقة، ولما تأملتها جيدا اكتشفت أن لكل واحدة منها مكانا تركيبيا دقيقا من الأخرى، فأخذت تجمع هذه الأجزاء.. وعندما فرغت من وضع آخر آلة منها في موضعها فوجئت بصوت دقيق رتيب ينبعث في حركة مطردة من داخل تلك الآلات، وتأملت فإذا هي ساعة زمنية.. ما لذي تدركه عقب هذا كله؟

قال ابن الراوندي:  لا شك أني كسائر الناس أدرك دون ريب أن لكل آلة من تلك الآلات الدقيقة غاية جزئية معينه قد هيئت لتحقيقها، وأن لمجموعها غاية نوعية واحدة هي ضبط الزمن.

قال ابن الراوندي:  فأبشر إذن.. فإن عقلك لا يزال سليما.. إنه يحوي هذه البديهية التي يسميها أصحابك من الفلاسفة قانون العلية (العلة الغائية).. ويسميها أصحابنا من علماء الكلام (دليل الحكمة والتناسق).. فظهور العلة الغائية دليل قطعي على وجود مدبر صممه على هذا النحو إذ لا تملك الأجهزة الجامدة أن تفكر لتسير وحدها نحو غايات معينة.

قال ابن الراوندي:  فكيف تستدل بهذا القانون على وجود الله؟

قال الراوندي: لقد عبر عن هذا الدليل أعرابي كان لا يزال يحتفظ بفطرته حين قال جوابا لمن سأله عن دليله على الله:( البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك كله على الله اللطيف الخبير)

وعبر عنه أفلاطون بقوله: (إن العالم آية في الجمال والنظام، ولا يمكن أبدا أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقيه، بل هو صنع عاقل كامل توخى الخير ورتب كل شيء عن قصد وحكمة)

وعبر عنه (اناكساغورس) الذي جاء بعد (ديموقريطس) فقال: (من المستحيل على قوة عمياء أن تبدع هذا الجمال وهذا النظام الذين يتجليان في هذا العالم، لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى، فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد بصير حكيم)

المناظرة العاشرة:

بعد أن مللت من التجول في الشوارع يممت صوب معهد من معاهد العلوم.. وهناك رأيت رجلا اجتمع عليه نفر كثير.. منهم بعض الملحدين الذين كنت رأيتهم في الشوارع السابقة التي تجولت فيها.. ومنهم من كان مثله من المؤمنين الذين تلوح أنوار الإيمان على وجوههم..

قال له أحدهم: عجبا لك.. أبعد لقائك الصادق([70]) تغيرت كل هذا التغير؟

قال: أجل.. فلم يكن الصادق بشرا عاديا.. وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهراً، ويتروح إذا شاء باطناً، فهو هذا.. لقد جلست إليه، فلما لم يبق عنده أحد غيري، ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء، وهو على ما يقولون فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر كما تقولون وليس هو كما تقولون، فقد استويتم وهم.

فقلت: يرحمك الله، وأي شيء نقول، وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحد.

فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحد، وهم يقولون إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأن للسماء إلهاً وإنها عمران، وأنتم تزعمون ان السماء خراب ليس فيها أحد.

فاغتنمتها منه، فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف فيه اثنان. ولم يحتجب عنهم، ويرسل إليهم الرسل، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟

فقال: ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك، نشوّك بعد أن لم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد إنابتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجاءك، وخاطرك لما لم يكن في وهمك وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك.

وما زال يعد عليّ قدرته التي هي فيَّ التي لا أدفعها، حتى ظننت انه سيظهر فيما بيني وبينه.

وبينما نحن كذلك إذ دخل عليه بعض أصحابنا من الملاحدة، فقال: أليس تزعم أن الله تعالى خالق كل شيء؟

فقال الصادق: بلى.

فقال الملحد: أنا أخلق.

فقال له الصادق: كيف تخلق؟

فقال الملحد: أحدث في الموضوع، ثم ألبث عنه، فيصير دواب، فكنت أنا الذي خلقتها.

فقال الصادق: أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه؟

قال: بلى

قال: أفتعرف الذكر من الأنثى وتعرف عمرها؟ فسكت الملحد.

ثم إنه عاد في اليوم الثاني إلى الصادق فجلس، فسأله الصادق: أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟

فقال له الملحد: أنا غير مصنوع.

فقال له الصادق (عليه السلام): فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون؟

فبقي الملحد مليا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول: طويل عريض، عميق قصير، متحرك ساكن، كل ذلك من صفة خلقه.

فقال له الصادق فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها، فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك مما يحدث من هذه الأمور.

فقال له الملحد: سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها.

فقال له الصادق: هبك علمت أنك لم تسأل في ما مضى، فما علمك أنك لم تسأل في ما بعد؟ على أنك نقضت قولك، لأنك تزعم أن الأشياء من الأول سواء، فكيف قدمت وأخّرت؟

ثم قال: أنزيدك وضوحاً؟ أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر، فقال لك قائل: هل في الكيس دينار؟ فنفيت كون الدينارفي الكيس، فقال لك قائل: صف لي الدينار، وكنت غير عالم بصفته، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم؟

قال: لا.

فقال الصادق: فالعالم أكبر وأطول وأعرض من الكيس، فلعل في العالم صنعة من حيث لا تعلم، صفة الصنعة من غير الصنعة.

فانقطع الملحد.. ثم إنه عاد في اليوم الثالث فقال: أقلب السؤال.

فقال الصادق: سل عما شئت.

فقال: ما الدليل على حدوث الأجسام؟

فقال الصادق: أني ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إلا وإذا ضم إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى، ولو كان قديماً ما زال ولا حال، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الأولى دخوله في العدم، ولن تجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد.

فقال الملحد: هبك علمت بجري الحالين والزمانين على ما ذكرت، واستدلت على حدوثها، فلو بقيت الأشياء على صغرها، من أين لك أن تستدل على حدوثها؟

فقال الصادق: إنما نتكلم على هذا العالم الموضوع، فلو رفعناه ووضعنا عالم آخر، كان لا شيء أدل على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره، ولكن أجبت من حيث قدرت إنك تلزمنا وتقول: إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم لأنه متى ما ضم شيء منه إلى مثله كان أكبر، وفي جواز التغيير عليه خروج من القدم، كما بان في تغيير دخوله في الحدث أن ليس وراءه.

***

التفت إلينا صاحبنا (آرثر شوبنهاور)، وقال: هذا حديثي مع العلم والعقل ودلالتهما على الله.. لقد عشت في رحابهما أياما جميلة.. ولكن  كلاليب الدنيا سرعان ما جذبتني، فانشغلت بها عن التعرف على ربي أو البحث عنه أو السير إليه.. وقد نسيت لذلك تلك الأيام.. ونسيت معها تلك المعاني..

نعم صار (الله) عندي حقيقة من الحقائق، ولكنها حقيقة أقرب إلى الباطل منها إلى الحق..

نعم كنت أقول بوجود الله، ولكني لا أشعر بأن شيئا تغير بذلك.. لقد كان وجود الله في نفسي – بسبب غفلتي – أقرب إلى العدم منه إلى الوجود..

ولولا أن الله الرحمن الرحيم تداركني بلطفه، فأعاد إلى ذاكرتي الساعة تلك الأيام الجميلة التي نعمت فيها بتلك المعاني لكنت الآن في عداد الغافلين.


([1])   نشير به إلى (آرثر شوبنهاور) (1788-1860م)، وهو فيلسوف ألماني، ولد في دانزيج (غدانسك ببولندا).. أهم أعماله: العالم رغبة وعَرَض (عام 1819م، الطبعة الثانية عام 1844م). إضافة إلى مجموعة مقالات بعنوان باريرجا وباراليبومينا عام (1851م) جلبت له شهرة عالمية حتى نهاية حياته.

وقد اخترناه هنا بسبب كون آرائه من الدعائم التي اعتمد عليها الإلحاد في العصر الحديث، فقد كان فكره يدور حول (أن الدين هو من صنيعة البشر ابتكروها لتفسير ما هو مجهول لديهم من ظواهر طبيعية أو نفسية أو اجتماعية، وكان الغرض منه تنظيم حياة مجموعة من الناس حسب ما يراه مؤسس الدين مناسبا وليس حسب الحاجات الحقيقية للناس الذين عن جهل قرروا بالالتزام بمجموعة من القيم البالية وأنه من المستحيل أن تكون كل هذه الديانات من مصدر واحد فالاله الشديد البطش الذي أنزل 12 مصيبة على المصريين القدماء وقتل كل مولود أول ليخرج اليهود من أرض مصر هو ليس نفس الإله الذي ينصحك بأن تعطي خدك الآخر ليتعرض للصفع دون أن تعمل شيئا)

وقد تزامنت هذه الأفكار مع أبحاث تشارلز داروين الذي كان مناقضا تماما لنظرية نشوء الكون في الكتاب المقدس وأعلن فريدريك نيتشه من جانبه موت الخالق الأعظم وقال: إن الدين فكرة عبثية وجريمة ضد الحياة إذ أنه من غير المعقول أن يعطيك الخالق مجموعة من الغرائز والتطلعات وفي نفس الوقت يصدر تعاليم بحرمانك منها في الحياة ليعطيك إياها مرة اخرى بعد الموت.

([2])  بعض الحكاية المذكورة هنا منقولة بتصرف من كتاب (رحلتي من الشك إلى الإيمان…) لمصطفى محمود، وهو كتاب يؤرخ فيه المؤلف للطريق الذي سلكه للإيمان.

([3])  نشير بهذا النور إلى ما وضعه الله في فطرة الإنسان من المطالبة كل الحين بالبحث عن الله واللجوء إليه، وهو ما يشير إليه قوله تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ (لأعراف:172)

وقد ورد في الحديث ما يدل على هذا، فقد سئل النبي a عن قوله تعالى:﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ﴾ (الأنعام: من الآية125) قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: (نور يُقْذَف فيه، فينشرح له وينفسح)، قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: (الإنابة إلى دار الخُلُود، والتَّجَافِي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت) (تفسير عبد الرزاق (1/210) ورواه الطبري في تفسيره (12/99) من طريق عبد الرزاق به)

وقد أشار الغزالي إلى تأثير هذا النور في إخراجه من حالة الشك التي عرضت له، فقال في (المنقذ من الضلال): ( لما خطر لي هذه الخواطر، وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل الداء، ودام قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة)

([4])  استفدنا الكثير من المعلومات حول التطور العلمي هنا من كتاب (العلم فى منظوره الجديد)، وهو كتاب من سلسلة (عالم المعرفة) التى كان يصدرها المجلس الوطنى للثقافة بالكويت، وعنوان الكتاب الأصلي هو (The New Story of Science) من تأليف Robert M. Augros وGeorge N. Stanciu.

وقد قام بترجمة الكتاب الأستاذ (كمال خلايلى) الذى عرف الهدف من الكتاب بقوله في (ص7): (صنف هذا الكتاب اثنان من الأساتذة المعروفين فى أمريكا الشمالية أحدهما متخصص فى فلسفة العلوم والآخر فى الفيزياء النظرية، والهدف الذى يرمى إليه المؤلفان هو هدم أركان المادية العلمية، تلك النظرية الكونية التى استهلها فرانسيس بيكون وجاليلو فى مطلع القرن السابع عشر، واستمرت إلى العقود الأولى من القرن العشرين، ثم إثبات وجود الله تعالى، وبيان الحكمة والغاية من إبداع الكون وخلق الإنسان، وذلك بالاستناد إلى النتائج التى انتهى إليها أقطاب العلماء والباحثين المعاصرين فى مجالات الفيزياء والكوزمولوجيا ومبحث الأعصاب وجراحة الدماغ وعلم النفس الإنسانى.

([5])  هو السِّير إسحق نيوتُن، (1642-1727م). عالم رياضيات ووفلكي إنجليزي، اكتشف كيفية تماسك مكونات الكون بعضها ببعض من خلال نظريته عن الجاذبية، كما اكتشف أسرار الضوء والألوان، وابتكر فرعًا من الرياضيات يسمى حساب التفاضل والتكامل.

([6])  نحب أن ننبه هنا إلى أن نيوتن لم يكن ملحدا، بل حاول أن يحتفظ بمكان للألوهية في نظامه الميكانيكي الخاص بالسماوات، ففي رسالة وجهها إلى الدكتور ريتشارد بنتلي في عام 1692 أكد له فيها على أن الله ضروري لإحداث حركة الكواكب وإرساء البنية الأصلية للمجموعة الشمسية قائلاً: (إن حركات الكواكب الراهنة لا يمكن أن تكون قد انبثقت من أي علة طبيعية فحسب، بل كانت مفروضة بفعل قوة عاقلة)

([7])  ميكانيكا الكم: هي ميدانٌ من ميادين علم الفيزياء، يصف تركيب الذرّة وحركة الجسيمات الذرية، ويوضح كيف تمتص الذرات الطاقة في شكل ضوء، وكيف تطلقها، ويوضح طبيعة الضوء.. وهي تتجاوز الحدود القصوى للفيزياء التقليدية، التي تقوم على أساس القوانين التي صاغها نيوتن.. وهي تُعد من المُنجَزَات العلمية الكبرى التي تحققت في القرن العشرين.. وبالإضافة إلى أهميتها النظرية، فقد ساهمت في تطوير أجهزة عملية مثل أجهزة الليزر والترانزستور، كما مكنت العلماء من تحقيق فهم أفضل للروابط والتفاعلات الكيميائية.

([8])  هو مَاكْس بُورن (1882 ـ 1970م) فيزيائي ألماني أدى دوراً كبيراً في تطوير ميكانيكا الكم.. في عام 1954م نال جائزة نوبل للفيزياء مناصفة مع فالتربوتا تقديرًا لأعماله.. ساهم بورن أيضاً في مجالات علم البلورات والبصريات. وحصل على شهادة دكتوراه من جامعة جتجين عام 1907م. وُلد في برسلو، بألمانيا (حالياً روكلاو في بولندا)

([9]) انظر: (العلم فى منظوره الجديد)

([10])  هو تُومَاس هِنرِي هَكْسِلِي (1825 – 1895م). عالم حيوان ومحاضر ومؤلف.. وكان من الذين مالوا إلى نظرية تشارلز داروين التحليلية الخاصة بالتطور العضوي، كما أنه توسّع في هذه النظرية ودافع عنها.

([11])  هو بنفيلد، وايلدر جريفز  (1891-1976م). اختصاصي أعصاب كندي.

([12])  كوبرنيكوس، نيكولاس (1473 – 1543م) عالم فلك بولندي، طور نظرية دوران الأرض، ويعتبر مؤسس علم الفلك الحديث.. ونحب أن ننبه هنا إلى أن ديفيد كينج اكتشف عام 1970م أن كثيرًا من النظريات المنسوبة لنيكولاس كوبرنيكوس هي للفلكي العربي ابن الشاطر (ت 777هـ، 1375م)، وبعد ذلك بثلاث سنوات (1973م) عثر على مخطوطات عربية في بولندا اتضح منها أن كوبرنيكوس قد اطلع عليها. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([13])   مما يشير إلى هذا ما ورد في الأثر الإلهي: (لولاك لما خلقت الأفلاك)، وهو وإن جزم العلماء بوضعه إلا أن  الشيخ القاري قال فيه: ( لكن معناه صحيح فقد روى الديلمي عن ابن عباس مرفوعاً: أتاني جبريل فقال: يا محمد لولاك ما خلقت الدنيا ، ولولاك ما خلقت النار)، وفي رواية ابن عساكر: ( لولاك ما خلقت الدنيا)

ووجه الإشارة في هذا أن رسول الله a هو المثل الأعلى للإنسان.. وبالتالي تكون غاية الكون هي الإنسان.. وغاية الإنسان هو المثل الأعلى فيه.. والمثل الأعلى فيه هو رسول الله a كما قال a: ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر)

([14])  هذا الرفض ـ كما هو معلوم ـ يستند إلى أسباب منهجية، لأن بيكون وديكارت لم يكونا من المؤمنين بالمذهب المادي أو من الملاحدة.

([15])  بيير سيمون لابلاس  (1749 – 1827م). فلكي ورياضي فرنسي اشتهر بنظريته حول أصل النظام الشمسي.

([16])  وهذا لا ينفي تشبثه بيهوديته كما ذكرنا ذلك في مواضع مختلفة من هذه السلسلة.. فاليهودية تتقبل مثل هذا النوع من الأفكار.

([17])   الله أباد، اسم فارسي يعني (مدينة الله)، وأقصد بها مدينة رمزية، وهي في الواقع إحدى مدن ولاية أوتار براديش التي تقع في شمال الهند، وهي المركز الإداري لمقاطعة الله أباد.

([18])  لم نذكر مثل هذه التعابير في هذا المحل إلا للضرورة التي استدعته، وإلا فلا يجوز الحديث عن الله بمثل هذا..

([19])  تعمدنا في هذا المبحث أن نذكر في كل مناظرة حقيقية أو افتراضية رجلين: أما أحدهما فيكون من المتكلمين وقد حاولنا أن نختار متكلمين من مدارس مختلفة لنبين أنهم جميعا ـ مهما اختلفت مدارسهم ـ لا يقصدون إلا خدمة الحقيقة.

وأما الثاني، فهو من الملاحدة، باختلاف مدارسهم كذلك.. وذلك لأن من مقاصد هذه الرسالة التأريخ للإلحاد والتعريف بالملحدين وشبههم.. وننبه هنا كما نبهنا مرات كثيرة إلى أن أكثر ما نذكره من مناظرات هي مناظرات افتراضية، وذلك حتى لا يرمينا أحد من الناس بالكذب والدجل.

([20]) نشير به إلى القاضي أبي بكر الباقلاّني(338-403هـ)، وهو محمّد بن الطيّب بن محمّد بن جعفر، قاضٍ من كبار علماء الكلام، انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة، ولد في البصرة، وسكن بغداد فتوفيّ فيها. وقد قيل: إنه صنف سبعين ألف ورقة في الدفاع عن الدين.. كل ليلة خمسة وثلاثين ورقة.. بيد أن أشهر كتبه على الإطلاق هو كتابه (إعجاز القرآن) الذي حدّد فيه مفهومه للإعجاز القرآني. (انظر: الأعلام وغيره) 

([21])   نشير به إلى ديموقريطَسْ (460؟ ق.م -370؟ ق.م)، هو فيلسوف مادّي يوناني ، حاول أن يبرهن أنَّ العالم مكوَّن من عدد غير محدود من الذَّرات، يتحرك في فراغ لا حدود له. وهذه الذَّرات جُسَيمات من المادَّة غير المرئية، وغير القابلة للانقسام، وغير المولّدة أو القابلة للإتلاف. وتختلف عن بعضها في الحجم والشَّكل والوضع. وكل شيء في هذا العالم مكوّن من مجموعة مختلفة عن غيرها من هذه الذَّرات، وقد جاء عالمنا من تركيب عَرَضي لهذه الذَّرات. وبسبب وجود عدد غير محدود من الذَّرات، فقد وجدت عوالم أُخرى أَيضًا.

([22])   المذهب الذرّي هو عبارة عن فكرة فلسفية تطوّرت في اليونان خلال القرن الخامس قبل الميلاد.. وهي ترى أن العناصر الأساسية للحقيقة تتشكّل من الذرة غير القابلة للانقسام والإتلاف، وهي مادة سابحة في الفضاء.. ويظنّون أن الذرّة لها حركة، ولكنها تنعدم وترتدُّ بعد ارتطامها. وقد تكوّنت الدنيا نتيجة هذه الحركات. ووجدت لفترة من الزمن ثم اختفت. وهذه العوالم والأشياء الظاهرية التي وجدت عليها تختلف فقط في الحجم والشكل وموضع ذراتها.

([23])  ذكرنا هنا أدلة المتكلمين.. والعلماء المحدثون يستدلون على الحدوث بأن الكون لو كان قديما لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد وتوقف كل نشاط في الوجود، وهذا ما يؤكده العلم التجريبي في (القانون الثاني للحرارة الديناميكية)، والذي ينص على أن الطاقة في الكون تقل تدريجياً بصورة مطردة.

([24])  هذا الدليل هو متمسك المتكلمين على اثبات حدوث العالم ، وهو مذكور في أكثر كتب الكلام كالتمهيد للباقلانى، وأصول الدين لعبد القاهر البغدادى، وشرح المقاصد للتفتازانى وشرح العضدية للجرجانى.. وقد عبر الباقلاني عنه باختصار في الإنصاف مستدلا له بالنقل، فقال: (يجب أن يعلم: أن العالم محدث؛ وهو عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، والدليل على حدوثه: تغيره من حال إلى حال، ومن صفة إلى صفة، وما كان هذا سبيله ووصفه كان محدثاً، وقد بين نبينا a هذا بأحسن بيان يتضمن أن جميع الموجودات سوى الله محدثة مخلوقة، لما قالوا له: يا رسول الله: أخبرنا عن بدء هذا الأمر ؟ فقال: نعم. كان الله تعالى ولم يكن شيء، ثم خلق الله الأشياء فأثبت أن كل موجود سواه محدث مخلوق. وكذلك الخليل u ، إنما استدل على حدوث الموجودات بتغيرها وانتقالها من حالة إلى حالة؛ لأنه لما رأى الكوكب قال:﴿  هَذَا رَبِّي)(الأنعام: من الآية76) ، إلى آخر الآيات، فعلم أن هذه لما تغيرت وانتقلت من حال إلى حال دلت على أنها محدثة مفطورة مخلوقة، وأن لها خالقاً، فقال عند ذلك وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)

([25])  انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي.

([26])  استفدنا المعلومات الواردة هنا من كتاب (الإسلام يتحدى) لوحيد الدين خان.

([27])  المعلومات العلمية المحضة هنا ـ والتي استفدناها من كتاب (الإسلام يتحدى) ـ  ربما تكون قد تغيرت بفعل التطور العلمي، ولكنها مع ذلك تبقى صالحة للاستدلال.

([28])   أشير به إلى (أبي محمد الرسي) وهو القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو منسوب إلى ضيعة كانت له جهة المدينة يقال لها الرس، لم يسمح المنصور له بالإقامة فيها في كفاف من العيش، بل طلبه مع الطالبيين ففر إلى السند، وأعقب من ولده ثمانية أنبههم الحسين بن القاسم وكان زاهداً ومن نسله أئمة صعدة، (وأئمة صعدة من اليمن كانوا زيدية)، وذكر ابن خلدون في التاريخ أنه توفي سنة 245 هـ

والمناظرة منقولة من كتابه (الدليل الكبير في الرد على الزنادقة والملحدين)، والكتاب من جزئين: جزء يذكر فيه المؤلف أدلة وجود الله وينقد أدلة المعارضين ثم يبين صحة الإسلام ويتكلم في بعض مسائل العقيدة، والجزء الثاني عبارة عن مناظرة دارت بينه وبين ملحد كان يدور في البلاد يثير الشبهات حتى تلقفه الرسى ودارت بينهما مناظرة.

وقد جاء في مقدمة الكتاب: ( هو كتاب رد فيه على رجل من أرباب النظر من الملحدة، وكان يغشى مجامع المسلمين ويورد عليهم الأسئلة الصعبة، في قدم العالم وغير ذلك، حتى وافاه المؤلف وأجابه على ما عنده من المشكلات فوضح له الحق وتاب إلى الله)

ونحب أن ننبه هنا إلى أن ما نذكره من هذه المناظرة هو جزء بسيط فقط منها، وقد أضفنا إليه ما يقتضيه المقام من الأدلة العقلية التي ذكرها المتكلمون.

([29])  أشير به إلى أبيقور (342 ق.م. – 270 ق.م.)، وهو فيلسوف إغريقي كان لأفكاره حول اللذة، والحرية، والصداقة، تأثير كبير على العالم الروماني ـ اليوناني.. وكان يرى بأن هناك مصدرين يسببان القلق للعقل البشري هما الخوف من الآلهة، والخوف من الموت.. وقد اعتقد أن هذه المخاوف مبنية على معتقدات خاطئة، وأنه يمكن التغلب عليها، وأعلن أن الآلهة موجودة ولكنها يجب ألاّ تشكل مصدر خوف، لأنها توجد بعيدًا عن البشر ولا تُعنى بأمورهم لأن هذا يتعارض مع سعادتها.

وذكر أبيقور أن الموت يجب ألاّ يُخشى، لأن الخير والشر يكمنان في الشعور، والموت بزعمه يُنهي الشعور، وإذا تحرر الشخص من هذه المخاوف، فبإمكانه أن يعيش حياة سعيدة بالسعي لملذات معتدلة وتجنُّب الألم، وإن أفضل طريقة للحصول على اللذة هي العيش بتعقل واعتدال وشجاعة وعدل وزرع بذور الصداقة.

وُلِدَ في جزيرة ساموس، وأدار مدرسة للفلسفة في أثينا منذ عام 306 قبل الميلاد وحتى وفاته.. وكان كاتبًا غزير الإنتاج، ترك ثلاث رسائل تلخص تعاليمه، ويمكن الوقوف على أفكاره وفلسفته في مصادر عديدة منها قصيدة طويلة للشاعر الروماني لوكريشيس عنوانها: في طبيعة الأشياء.. (انظر: الموسوعة العربية العالمية)

([30])  أسس المذهب الأبيقوري ترجع إلى المذهب الذري الذي قال به (ديموقريطس)من قبل ، لكن (أبيقور) أضاف فكرة الميل في التحرّك الآلي في الذرات ، ليحصل التصادم بينها ، فتتكوّن الظاهرات الكونية.

وللأبيقوريين أقوال يهاجمون فيها الدين الوثني المعدد للآلهة ، والذي كان منتشراً بين اليونانيين وغيرهم ، في تلك العصور.. فمن أقوال (لوكرتيوس) أحد الأبيقوريين:(إن الدين شرٌّ ما بعده شرّ ، وإن الواجب على الإنسان ومهمة الفلسفة الأولى أن تتخلص نهائياً من كل دين ، لأن الدين هو ينبوع كل شر)

وربما لم يكن في عهدهم ذلك صورة صحيحة عن دين رباني صحيح ، وإنما لديهم أديان وثنية خرافية ، لذلك شجبُوا الدين الذي رأوا نماذجه في عصورهم.

ولذلك نجد في تعبيرات الأبيقوريين: إن الذي يؤمن بالدين الشعبي المألوف ومعتقداته يرتكب خطيئة دينية في الواقع ، بينما الذي لا يؤمن بها هو الذي يسلك سبيل الصواب.

وهجومهم على هذا النوع من الأديان لا شأن لنا به ، وقد يكون لهم في ذلك عذر ، لما عليه هذه الأديان من خرافات وأضاليل وأكاذيب.

ونشير هنا إلى أن هذه المناظرة التي ذكرناها ليست متوجهة للأبيقوريين على الخصوص.. لأن الرد عليهم ذكرناه في المناظرة السابقة.. وإنما ذكرناهم هنا ليتعرف القارئ على المواقف المختلفة من (الله)، فهذا من أغراض هذه الرسالة.

([31])  استفدنا المادة العلمية الواردة في هذه المناظرة من كتاب (العقائد الحقة – دراسة علمية جامعة في أصول الدين الاسلامي على ضوء الكتاب والسنّة والعقل-) للسيد على الحسيني الصدر.

([32])   أشير به إلى أبي جعفر محمد بن موسى الخَوارزْمي (776 – 847م)،  رياضي فلكي مؤرخ من أهل خوارزم، عاصر الخليفة المأمون العباسي الذي أدرك فضله وأولاه رعاية عظيمة، وهو مؤسس علم الجبر وقد لقّب بأبي الجبر.. وقد اخترناه هنا باعتباره من المتكلمين للدلالة على أن العقل الإسلامي لم يتأثر بالنظريات الإلحادية التي راجت بين النخبة المثقفة في الملل الأخرى.. ولبيان أن نصرة الدين كانت من الكل علماء دين كانوا أم علماء دنيا، إن صح هذا التفريق.

([33])   أشير به إلى (توماس هوبز) (1588 – 1679م)، وهو فيلسوف إنجليزي، وأشهر كتاب له بعنوان (لفياثان) أو (شكل المادة)، و(سلطة الكومنولث الكنسيّة والمدنية) (1651م)،  تأثر هوبز بتطورين حدثا في زمانه، أولهما، النظام الجديد لعلم الطبيعة الذي كان جَالِيليُو وآخرون يحاولون التوصل إليه. وقد استنتج من أفكارهم أن المادة وحدها هي الموجودة، وأن أي شيء يحدث يمكن التنبؤ به وفقًا لقوانين علمية دقيقة، واعتقد الكثيرون في زمانه أن نظرته أنكرت وجود الله، والروح الإنسانية الحرة الخالدة، ولكنه نفى ذلك.

([34])  أشير به إلى شيخنا الجليل العلامة الشيخ (محمد الغزالي) ، وهو: محمد الغزالي أحمد السقا (1917- 1996م)، وهو  أحد دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، عرف عنه تجديده في الفكر الإسلامي وكونه من المناهضين للتشدد والغلو في الدين.

وقد ذكر الشيخ محمد الغزالي هذا الحوار الذي اقتبسناه بتصرف هنا في كتابه قذائف الحق، قال في أوله: ( دار بينى وبين أحد الملاحدة جدال طويل، ملكت فيه نفسى وأطلت صبري حتى ألقف آخر ما في جعبته من إفك، وأدمغ بالحجة الساطعة ما يوردون من شبهات).. وقد ذكرنا هنا نص الحوار بأنواع التصرفات التي جرينا عليها في هذه السلسلة.

([35])  سمي الشيخ محمد الغزالي بهذا الاسم رغبة من والده بالتيمن بالإمام الغزالي، فقد رأى في منامه الشيخ الغزالي وأخبره أنه سوف ينجب ولدا، وأمره أن يسميه على اسمه الغزالي.

([36])  أشير به إلى (إسماعيل مظْهر بنُ مُحمّد بن ِ عبدالمجيدِ) (1308-1381 هـ) كان أحدَ دعاةِ الداروينيّةِ في العصر ِ الحاضر ِ ، ومن دعاةِ الشعوبيّةِ ، أنشأ مجلّةِ العصور ِ في مصرَ وذلكَ في سنةِ 1927 م ، وجعلَ من مجلّتهِ باباً للطعن ِ في الدين ِ ، ونشر ِ الشعوبيّةِ ، وفتح ِ بابِ الرّدةِ و الإلحادِ ، كانَ معظّماً لليهودِ ، وداعياً للسير ِ على نهجهم وطريقتهم ، وكانَ يُسمّي نفسهُ: صديقَ دارون ، وألّفَ في الانتصار ِ لنظريّةِ داروين مجموعة ً من المؤلفاتِ ، ثمّ اعتنقَ الفكرَ الشيوعيَّ ، وأنشأ حزباً أسماهُ حزبَ الفلاح ِ ، جعلهُ منبراً لنشر ِ الشيوعيّةِ والاشتراكيّةِ ، ثمّ في آخر ِ عمرهِ أعرضَ عن كلِّ ذلكَ ، ورجعَ عن الكثير ِ من آراءهِ ، وألّفَ كتاباً أسماهُ (الإسلامُ لا الشيوعيّة) ، وقد اشرنا إلى تراجعه في هذه المناظرة..

([37])  ذكرنا أن إسماعيل مظْهر قد تراجع عن الكثير من آرائه.. ونحب أن ننبه هنا من جديد إلى أن الحوار الذي ذكره الغزالي كان مع ملحد لم يسمه.

([38])  كان البروفسور (روبرت) مدير لمعهد للأرصاد تشترك فيه سبع وخمسون جامعة أمريكية.. وقد جرى هذا النقاش ـ على حسب ما يذكر الزنداني ـ عقب المؤتمر الدولي للإعجاز العلمي في إسلام آباد.

([39])  هذا من التصرف في النص.

([40])  أشير به إلى (وحيد الدين خان)، وهو مفكر مسلم هندي معاصر يجمع بين الفكر الإسلامي ، والفكر العلمي الفلسفي.. وبتلك المقومات استطاع أن يناظر الملحدين واللادينيين بحججه الدامغة في العديد من كتبه، وتتميز مؤلفاته أنها تجمع بين البساطة والعمق، ولذلك فهي تناسب مختلف أنواع القراء، من مؤلفاته المترجمة إلى العربية ( الإسلام يتحدى)، وهو أشهرها، وقد استفدنا منه في هذا المحل، و( الدين في مواجهة العلم)، و( حكمة الدين)، و( تجديد علوم الدين)، و(المسلمون بين الماضي والحاضر والمستقبل)، و(خواطر وعبر)

([41])   نشير به إلى برتراند راسل  (1872 – 1970)، وهو  فيلسوف ورياضي وكاتب إنجليزي،  وقد كان من أشهر الفلاسفة الذين عرفهم الفكر الفلسفي أثناء الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.. وقد ظل صاحب الخطوة الأولى لدى الذين يطلقون على أنفسهم تقدميين من المثقفين المعاصرين الملاحدة في أوروبا وغيرهم.. وهو ذو تطرف سياسي، ومتطرف جداً في إلحاده، وقد بسط أفكاره السياسية والإلحادية المتطرفة في كتابات أدبية مؤثرة.. أثرت كتاباته السهلة على العامة ، وأثرت كتاباته العميقة على الفكر الأوروبي المعاصر كله.

ونحن ننبه هنا إلى أنا لا نقصد هنا الرد على كل ما يرتبط بأفكار راسل، وإنما نقصد فقط التنبيه إليه.. ورد ما يرتبط بموضوعنا هذا من أفكاره.

([42])   انظر الرد على هذا القول وما يشبهه في رواية ( أسرار الحياة) من هذه السلسلة.

([43])  ذكر وحيد الدين خان ، أنه قرأ كل أعمال (برتراند رسل) واستطاع بعد قراءتها أن يلتقط من أقواله ما يكشف عن النهايات الفكرية التي انتهى إليها.. وما نذكره هنا هو هذه الأقوال التي جمعها وحيد الدين خان.

([44])  لا ينطبق هذا انطباقا صحيحا شاملا إلا على الإسلام ومصادره المقدسة، وقد برهنا على هذا بتفصيل في رواية (معجزات علمية) من هذه السلسلة.

([45])  حاولنا في هذه المناظرة أن نلخص ـ باختصار ـ ما تنص عليه أخطر نظرية إلحادية، وهي (المادية الجدلية)، أما تفاصيل الردود عليها، فهي موجودة في أثناء هذه الرسالة، باعتبار أن هذه النظرية في جوهرها ليست سوى مزيج من نظريات مختلفة.

([46])  أشير به إلى أستاذنا الكبير العلامة (محمد سعيد رمضان البوطي)، وهو  من علماء الكلام المعاصرين الكبار.. وهو ضالع في العقائد والفلسفات المادية وخاصة في نقد المادية الجدلية.

([47])  أشير به إلى كارل ماركس (1818-1883م)، وهو فيلسوفٌ ألماني واجتماعي وثوري محترف، كان المؤسس الرئيسي لحركتين جماهيريَّتين قويتين هما: الاشتراكية الديمقراطية، والشيوعية الثورية..  والوصف الذي ذكرناه له في الرواية هو وصف أحد أصدقائه له.

([48])  هو جورج ويلهلم فريدريك هيغل  فيلسوف ألماني.. يعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي.. من أهم مميزات هيجل ميله الحاد إلى التناقض والتعقيد، وقد انعكس تنافضه على المعجبين به والناقدين له, فهو موجود في الماركسية، وذا بصمة واضحة في الاجتهادات البروتستانتية.. وهو شاهد لدى الوجودين، ومرجع للبراغماتين.. وسنرى بعض ما يرتبط بفلسفته والتي اعتمد عليها ماركس في هذا المطلب.

([49])  سبق أن أشرنا إلى مضمون هذه الفلسفة.. ونحب أن ننبه ـ هنا، بناء على ما ذكر الباحثون ـ أن الاتجاه المادى قديم فى الحياة الأوروبية ، فهو يتجلى فى بعض اتجاهات الفلسفة الإغريقية القديمة، واتجاهات الحياة الرومانية قبل المسيحية..

([50])  هذه المناقشات ملخصة بتصرف واختصار من كتاب (كواشف زيوف) لحبنكة..  وقد اقتصرنا منها على الجانب المتعلق بالمادية الجدلية، دون سائر المبادئ الشيوعية المرتبطة بالتاريخ والاقتصاد لعدم تناسبها مع الموضوع.

([51])  ذكرنا الأدلة العلمية الكثيرة على ذلك في هذا الفصل.

([52])  ذكرنا هذه النوع من الاستدلال في المناظرة الأولى.

([53])  هذا من الحقائق العلمية التي لم تزدها الأيام إلا تأكيدا، وقد تواترت شهادات العلماء على ذلك، يقول (رسل تشارلز إرنست) أستاذ الأحياء والنبات بجامعة فرنكفورت بألمانيا:( لقد وضعت نظريات عديدة لكى تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات ، فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين ، أو من الفيروس أو تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوى التى تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات.. ولكن الواقع الذى ينغى أن نسلم به هو أن جميع الجهود الذى بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية قد باءت بفشل وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع ، على أن مجرد تجمع الذرات والجزئيات من طريق المصادفة ، يمكن أن يؤدى إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التى شاهدناها فى الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية فى أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة ، فهذا شأنه وحده ! ولكنه إذ يفعل ذلك ، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا أو صعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله ، الذي خلق الأشياء ودبرها)

ويضيف: ( إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها ، وأن ملايين الملايين من الخلايا الحياة الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإننى أؤمن بوجود الله إيمانا راسخا (من مقال (الخلايا الحية تؤدى رسالتها) من كتاب (الله يتجلى فى عصر العلم) ، ص 77)

ويقول إيرفنج وليام (دكتوراه من جامعة أيووا وإخصائى وراثة التبانات ، وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة ميتشجان): ( إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية فى صغرها ، والتى لا يحصيها عد ، وهى التى تتكون منها جميع المواد. كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا – بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها – كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكى تكون الحياة) (الله يتجلى فى عصر العلم، ص 52)

([54])  الوعي المراد هنا هو الوعي الكامل.. أما أصل الوعي فقد ذكرنا في مناسبات كثيرة أنه لا تخلو منه ذرة من ذرات الكون.. انظر رسالة (أكوان الله)

([55])   أشير به إلى عالم الشام الكبير الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة،  وقد استفدنا هذه المناظرة الافتراضية من كتابه (صراع مع الملاحدة حتى العظم)

([56])  أشير به إلى صادق جلال العظم، وهو أحد أساطين  الفكر  الشيوعي المادي ، وملحد من كبار  الملاحدة ، ممن أخذ يجاهر بالإلحاد ، ويدعو إليه ، قضى عمره في السخرية من المسلمين ومن دينهم ، وكفر بكل شيء إلا المادة.

وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه (صراع مع الملاحدة حتى العظم) (ص12-13) ـ والذي استفدنا منه هذه المناظرة الافتراضية ـ بأن العظم ألف كتابه السابق (خدمة للماركسية والداروينية والفرويدية، وسائر النظريات، بل الفرضيات اليهودية الإلحادية، وهو في كل ذلك يتستر بعبارات التقدم العلمي والصناعي والمناهج العلمية الحديثة، ولا يقدم من البينات إلا قوله مثلاً: إن العلم يرفض هذا، أو لا يُسلم بهذا، أو يثبت هذا، دون أن يطرح مناقشات علمية نقدية تتحرى الحقيقة).

وقد قام بالرد على العظم كثير من العلماء والكتاب؛ من أبرزهم:

الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه (صراع مع الملاحدة حتى العظم)، وهو الذي استفدنا منه هنا في هذا المحل، واقتصرنا على ما يرتبط بالإيمان بالله.

الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه (هوامش على كتاب نقد الفكر الديني)

الأستاذ جابر حمزة فراج في كتابه (الرد اليقيني على كتاب نقد الفكر الديني)

الأستاذ محمد عزت نصر الله في كتابه (تهافت الفكر الاشتراكي)

الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه (القرآن والملحدون)

الدكتور عبداللطيف الفرفور في كتابه (تهافت الفكر الجدلي)

([57])  رواه البخاري ومسلم.

([58])  رواه البخاري ومسلم.

([59])  رغم إلحاد العظم وعدم إيمانه بالله.. ولا بجميع عوالم الغيب إلا أنه عقد فصلاً في كتابه (نقد الفكر الديني) يدافع فيه عن (إبليس) سماه (مأساة إبليس) (ص55 وما بعدها) ردد فيه شبهات إبليس التي نقلتها بعض الكتب السابقة في اعتراضه على القدر؛ ككتاب (الملل والنحل) للشهرستاني (7-10)

ثم ختم كلامه بقوله عن إبليس (ص85): (يجب أن نرد له اعتباره بصفته ملاكاً يقوم بخدمة ربه بكل تفان وإخلاص، ويجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له، وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيراً)

وقد ذكر سبب بحثه في هذا مع عدم إيمانه به، بقوله في (ص57): (يدور (بحثي) في إطار معين لا يجوز الابتعاد عنه على الإطلاق؛ ألا وهو إطار التفكير الميثولوجي الديني الناتج عن خيال الإنسان الأسطوري وملكاته الخرافية) فهو يريد دراسة شخصية إبليس (باعتبارها شخصية ميثولوجية أبدعتها ملكة الإنسان الخرافية، وطورها وضخمها خياله الخصب)

([60])  لا شك أن هذا من المفتريات، فأكثر فلاسفة الإسلام كانوا من الملتزمين بالإسلام، بل حاولوا نصرته بما أتيح لهم من أدوات لم تتح لغيرهم.

([61])  نقد الفكر الديني:ص28.

([62]) هو أنطوان لوران لافوازيه (1743 – 1794م) كيميائي فرنسي، وهو مؤسس الكيمياء الحديثة. قام بقياس أوزان المواد التي تدخل في التفاعلات الكيميائية.

([63])  نقله حبنكة عن (إسماعيل مظهر) في مقدمته لكتاب (أصل الأنواع)، تأليف (تشارلز داروين)

([64])  ذكرنا هذا القول في المبحث السابق، والذي نقلناه من كتاب (العلم في منظوره الجديد).. ولكن حبنكة يشكك في مدى صدقه.. قال بعد عرضه له:( لست أدري مبلغه من الصحة أمام قوله الذي قرأناه مما كتب بنفسه، وبكل أسف لم نجد لدى الناقد أثراً للأمانة الفكرية التي يتظاهر بالغيرة عليها)

([65])  نحب أن ننبه هنا إلى الخطورة التي تحملها هذه الفكرة التي عرضها وليم جيمس، والتي صار البعض يتشبث بها للإيمان بأي شيء، بحجة أن الإرادة تغلب العقل.. وهو لذلك لا يبحث عن الدين الصحيح الذي ينبغي أن يسلم زمامه له.

([66])  ننبه إلى أن المناظرة ليست حقيقية كما هو ظاهر.

([67])  أشير به إلى الإمام المتكلم  ظهير الدين، محمّد بن الإمام قطب الدين سعيد بن هبة الله، الراونديّ، من أعلام الشيعة في القرن السابع الهجري، وهو صاحب كتاب (عجالة المعرفة في أصول الدين)

([68])  أشير به إلى (ابن الرواندي)، وهو أبو الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي، نسبة إلى قرية راوند الواقعة بين أصفهان وكاشان في فارس، ولد عام 210 هـ ، وتوفي في الأربعين من عمره مخلِّفاً وراءَه أكثرَ من مئةِ كتابٍ طافحةٍ بالافتراءاتِ التي تُبَيِّنُ خُروجَه عن الإسلام، وقد كانَ يهودياً، ثمَّ دخلَ الإسلامَ وتنقَّلَ بينَ عدَّةِ مذاهبَ حتى ماتَ كافراً ملحداً.

سردَ ابنُ الجوزي سيرته في عدَّةِ صفحات؛ وقال الذهبيُّ في ختامِ ترجَمته: (لعنَ اللهُ الذكاءَ بلا إيمانٍ ورضيَ عن البلادةِ معَ التقوى)؛ ونُقلَ عن أبي عليٍّ الجبائي المعتزلي قولَه: (قرأتُ كتابَ هذا الملحدِ الجاهلِ السفيهِ ابن الراوندي فلم أجدْ فيه إلاَّ السفهَ، والكذبَ، والافتراء)

([69])  الواجب: هو ما لا يتصور العقل نفيه، أي ما لا يمكن للعقل أن ينفك عن إثباته.. والاستحالة ضد الوجوب فهي عدم قبول الثبوت في العقل، فالمستحيل ما لا يتصور العقل ثبوته، أي أن العقل لا ينفك عن نفيه وسلبه والحكم بعدمه كلما عرض مفهومه على العقل.. أما الجواز أو الإمكان العقلي فهو تمام القسمة العقلية بين الوجوب والاستحالة، فهو قبول الثبوت والانتفاء في العقل؛ فالجائز العقلي هو ما يتصور العقل ثبوته ونفيه، أي أنه عند عرضه على العقل فإن العقل ينفك عن إثباته كما ينفك عن نفيه.

ودليل الحصر أن المعلوم إما أن لا ينفك العقل عن إثباته وهو الواجب، أوْ ينفك عن إثباته كما ينفك عن نفيه وهو الجائز، أو لا ينفك عن نفيه وهو الممتنع لذاته، ولا ثالث بين الإثبات والنفي.. فثبت بذلك انحصار الأحكام المذكورة في الثلاثة.

([70])  أشير في هذه المناظرة إلى مناظرة للإمام جعفر الصادق وهو من أئمة أهل البيت عليهم السلام مع بعض الملحدين.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...