×

الكتاب: كيف تناظر ملحدا؟

الوصف: إحصاء لإشكالات الملاحدة.. وبيان لكيفية الإجابة عليها

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: مؤسسة العرفان للثقافة الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1439 هـ

عدد الصفحات: 490

صيغة: PDF

صيغة: DOCX 

ISBN: 978-620-3-85909-6

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

يحاول هذا الكتاب أن يكون دليلا ومرجعا لكل داعية إلى الله، يريد أن يتصدى لظاهرة الإلحاد، قديمها وجديدها، ويخلف الأنبياء والأولياء عليهم الصلاة والسلام في القيام بدوره في حفظ الإيمان، وتبليغ رسالة الله، وتخليص البشر من كيد شياطين الإنسان والجن..

فالدعوة للإيمان، ومحاوره المجادلين فيه وفي قضاياه من أوكد الواجبات الشرعية على المسلمين جميعا، وخصوصا أهل العلم منهم، سواء كانوا من المهتمين بالعلوم الشرعية، أو بالعلوم الكونية، فكلاهما يحمل مسؤولية شرعية في مواجهة هذه الظاهرة، ما ظهر منها وما بطن.

ولهذا حاول هذا الكتاب أن يوفر الكثير من العناء لمن يريد أن يسلك هذا السبيل، ويمتهن هذه المهنة الشريفة ـ مهنة الدعوة للإيمان، ومواجهة شبهات الشيطان ـ وذلك بإحصائه للشبهات الكثيرة التي يستعملها الملاحدة، وتصنيفها، وبيان تقريراتهم المختلفة لها، ووجوه الاستدلال بها، ليعقب عليها بعد ذلك كله بصنوف من الرد العلمي، أو الإلزام الجدلي.

وقد اعتمد في ردوده على مراجع كثيرة متنوعة ومتفرقة، حاول أن يلم شتاتها في محل واحد ليتيسر التعامل معها، وتكتمل الصورة من خلالها، فالرد على الإلحاد لا تكفي فيه الردود الجزئية المقتضبة، وإنما يحتاج إلى ردود تفصيلية مستوعبة وشاملة.

كيف تناظر ملحدا؟ (11)

المقدمة

يحاول هذا الكتاب أن يكون دليلا ومرجعا لكل داعية إلى الله، يريد أن يتصدى لظاهرة الإلحاد، قديمها وجديدها، ويخلف الأنبياء وورثتهم عليهم الصلاة والسلام في القيام بدوره في حفظ الإيمان، وتبليغ رسالة الله، وتخليص البشر من كيد شياطين الإنسان والجن..

فالدعوة للإيمان، ومحاوره المجادلين فيه وفي قضاياه من أوكد الواجبات الشرعية على المسلمين جميعا، وخصوصا أهل العلم منهم، سواء كانوا من المهتمين بالعلوم الشرعية، أو بالعلوم الكونية؛ فكلاهما يحمل مسؤولية شرعية في مواجهة هذه الظاهرة، ما ظهر منها وما بطن.

ولهذا حاول هذا الكتاب أن يوفر الكثير من العناء لمن يريد أن يسلك هذا السبيل، ويمتهن هذه المهنة الشريفة ـ مهنة الدعوة للإيمان، ومواجهة شبهات الشيطان ـ وذلك بإحصائه للشبهات الكثيرة التي يستعملها الملاحدة، وتصنيفها، وبيان تقريراتهم المختلفة لها، ووجوه الاستدلال بها، ليعقب عليها بعد ذلك كله بصنوف من الرد العلمي، أو الإلزام الجدلي.

وقد اعتمد في ردوده على مراجع كثيرة متنوعة ومتفرقة، حاول أن يلم شتاتها في محل واحد ليتيسر التعامل معها، وتكتمل الصورة من خلالها، فالرد على الإلحاد لا تكفي فيه الردود الجزئية المقتضبة، وإنما يحتاج إلى ردود تفصيلية مستوعبة وشاملة.. فالملحد مثل المتطرف ينتقل من موضوع إلى موضوع، ومن قضية إلى قضية، ليبحث عن أي ثغرة يجدها في خصمه، لأنه لا يريد الحقيقة، بقدر ما يريد الانتصار.

ولهذا فقد حاولنا في هذا الكتاب أن نبصر المتدرب عليه بصنوف الرد، وبكيفية التعامل مع كل حالة قد تطرأ، مستنين في ذلك بما فعله إبراهيم عليه السلام، مما حكاه الله تعالى في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ

كيف تناظر ملحدا؟ (12)

قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]

فإبراهيم عليه السلام لم يشتغل هنا بالدفاع عن قوله {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، بل أورد مباشرة دليلا آخر مفحما.. ولهذا نرى تنوع الأدلة في القرآن الكريم على التوحيد والمعاد والنبوات حتى يشرب منها كل شخص بحسب توجهه وقدرته العقلية.

فقد قال تعالى في إثبات التوحيد والرد على الوثنية الشركية: {أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} (الأنبياء:21 ـ 24)

وفي موضع آخر قال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} (الإسراء:42)

وفي موضع آخر قال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون:91)

ولما لم يُجدِ الدليل العلمي العقلي على بطلان مُدَّعَاهم، أتاهم بأدلة حسية مادية من الواقع تثبت بطلان ألوهية الأصنام، فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} (الفرقان:3)، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج:73)

وبناء على هذا المنهج القرآني في الحوار حاولنا أن نجمع أكبر قدر من الردود العلمية، ونبسطها، ليستفيد منها عوام القراء وخواصهم، فمثل هذه القضايا المصيرية لا يصح أن تحبس

كيف تناظر ملحدا؟ (13)

في مدرجات الجامعات، أو في الدفاتر الأكاديمية المعقدة، بل عليها أن تصل إلى أكبر جمهور من الناس، حتى يستفيدوا منها لأنفسهم ـ أولا ـ بتحصينها من كل الشبهات التي تثار لزعزعة إيمانهم، ولتحويلهم ـ ثانيا ـ إلى دعاة إلى الله على بصيرة، يعرفون كيف يجادلون عن الحقيقة، وكيف يحتجون لها، وكيف يضمنون الانتصار فيها.

وبناء على هذا المنهج التبسيطي حاولنا أن نضع الأدلة على شكل عناوين واضحة وبسيطة، بحيث يمكن استعمالها جميعا، أو استعمال آحادها، بحسب الظرف المناسب.

وننبه إلى أننا لا نقصد بالمناظرة هنا المناظرة الشفاهية فقط، والتي تقام لها المجالس الخاصة، وإنما نقصد بها طرح مثل هذه الأدلة، ومواجهة المخالف لها، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عبر كل الوسائل، وخصوصا وسائل التواصل الاجتماعي التي تحول الكثير منها إلى وسيلة لزعزعة الإيمان، وزرع الفتن، والدعوة إلى التخلص من كل القيم.

ولذلك فإن الداعي إلى الله على بصيرة يمكنه أن ينقل ما شاء من الشبه، وينقل معها الردود عليها مبسطة مختصرة، أو معقدة مفصلة، ليستفيد منها من وصلته الشبهة، ولم يتمكن من الرد عليها، ولتكون جوابا استباقيا للملحد الذي طرحها، وحاول أن يزعزع بها إيمان المؤمنين، وبذلك ترتد عليه حجته، ويصيبه البهت الذي أصاب الملك بجواب إبراهيم عليه السلام.

ولعله يكون سببا لهدايته وتحويله من جند الشيطان إلى جند الإيمان، كما حصل لأنتوني فلو، ذلك الذي كان يُصنف ضمن أشرس دعاة الإلحاد، بل ألف أكثر من ثلاثين كتابًا تدور حوله، لكنه استطاع أن يتراجع عن كل ذلك، وفي مرحلة متقدمة من عمره، ويؤلف كتابه الذي رد به على جميع كتبه، والذي سماه [هنالك إله].. وقد تعرض بسببه لحملة تشهير ضخمة من المواقع الإلحادية في العالم، بل أزاحوا عنه كل تلك النياشين التي علقوها له بسبب وحيد، وهو اختياره الإيمان.

كيف تناظر ملحدا؟ (14)

ولذلك فإن المناظر الذي نتحدث معه في هذا الكتاب هو ذلك المناظر الهادئ صاحب القلب الطيب، والذي لا يستعجل، ولا يصيبه الغرور والكبرياء، بل هو يتأسى في حواره أو مناظرته بالأنبياء وورثتهم عليهم السلام.. فالحق يبلغ إلى العقول كالنسيم العليل، لا كالريح العاصف.

وقد أخبرنا القرآن الكريم عن نوح عليه السلام، وكيف حاور ابنه في ذلك الوقت الحرج، بكل هدوء ولطف وأدب، فقد خاطبه بالبنوة مع كونه كان كافرا معاندا، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} (هود:42)

وأخبرنا عنه قبل ذلك وكيف تعامل مع قومه بكل هدء، مع أنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله، فيقابلونه بكل أنواع السخرية، فلا يستسلم لسخريتهم بل يظل يحاورهم بهدوء محير، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود: 25 ـ 27)

فقد خاطبهم عليه السلام بكل أدب واحترام وهدوء، وبين لهم حبه لهم، والذي دعاه إلى الحرص عليهم والخوف على أن يصبيهم عذاب الله، ولكنهم واجهوه بالاحتقار والتكذيب والسخرية.

لكنه عليه السلام لم ينه الحوار، ولم ينسحب من ساحاتهم، لأن ذلك هو مايريدونه أو ما تريده شياطينهم، بل واصل الحوار معهم من النقاط التي أرادوا إنهاء العملية الحوارية عندها، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام في حواره مع قومه: {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً

كيف تناظر ملحدا؟ (15)

تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} (هود: 28 ـ 31)

فقد اعتبر نوح عليه السلام ما واجهه قومه به من الاستهزاء والسخرية شبهة تحتاج إلى إجابة، فراح يجب عليها بكل ما أوتي من حجج، وهو مع ذلك لا يزال يخاطبهم بحميمية، يقول لهم: (ياقوم) ينسبهم إليه، وينسب نفسه إليهم، ويتلطف في توجيه أنظارهم، ولمس وجدانهم.

وبعد هذه الإجابات القوية الهادئة، وبعد يأس قوم نوح من مناهضة الحجة بالحجة؛ إذا هم يتركون الجدل إلى التحدي، ويحولون الحوار الهادئ إلى بركان غضب فائر {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (هود:32)

لكن نوحا عليه السلام لا يخرجه هذا التكذيب والتحدي عن سمت النبي الكريم، ولا يقعده عن بيان الحق لهم، وهي أنه ليس سوى رسول، وليس عليه إلا البلاغ، أما العذاب فمن أمر الله، وهو الذي يدبر الأمر كله، ويقدر المصلحة في تعجيل العذاب أو تأجيله، فيظل يكشف لهم عن الحق حتى اللحظة الأخيرة، لا يقعده عن إبلاغه وبيانه أن القوم يكذبونه ويتحدونه، قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (هود:33 ـ 34)

بل إن نوحا عليه السلام لم يتوقف عن الحوار حتى أوحي إليه بأن يتوقف واستيأس من إجابتهم، بل بقي في آخر لحظة يدعو ابنه إلى الله، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} (هود:36 ـ 37)

ومثله إبراهيم عليه السلام الذي ذكر القرآن الكريم حواره مع قريبه في منتهى الرقة، مقدما لكل كلمة يقولها بـ {يَا أَبَتِ} مراعاة لسنه وقرابته مع كونه لم يكن والده الحقيقي..

كيف تناظر ملحدا؟ (16)

قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} (مريم:42 ـ 45)

أما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه رغم كثرة الأذى الذي تعرض له من أعدائه المختلفين من استهزاء وسخرية واتهام ورمي الأوساخ وتسليط الصبيان لرميه بالحجارة وغيرها لم يتخل عن الحوار الهادئ إلى آخر لحظة من لحظات دعوته، ولهذا كان من صفته صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السابقة أنه صلى الله عليه وآله وسلم (ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح) (1)

وقد حكى القرآن الكريم بعض ما كان يمارسه الكفار من أساليب الهمجية في الحوار معه، فقال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} (صّ:7)

لكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يجيبهم بكل هدوء يطلب منهم إبداء الدليل على ما هم عليه من شرك، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الأحقاف:4)، وقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (الأنعام:148)

__________

(1) رواه أحمد (2/ 174) (6622)، والبخاري (3/ 87)

كيف تناظر ملحدا؟ (17)

وبناء على هذا يدعونا القرآن الكريم إلى التحلي بالهدوء مع المخالف، وعدم معاملته بنفس الطريقة التي يعاملنا بها، معتبرا ذلك من الإحسان الذي هو أرقى درجات العبودية، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:33 ـ 34)؛ فالآية الكريمة بينت أن النجاح في الأخير للهادئ المحسن الذي أمسك زمام أعصابه، وعرف كيف يتعامل مع خصمه ليكسبه إلى صفه.

ولهذا أمر تعالى بالحوار مع أهل الكتاب لا بالحسنى فقط، وإنما بالتي هي أحسن، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت:46)

والسبب في كل ذلك هو تجنب الصخب وفوران الأعصاب الذي يحول دون تدبر الحق والإذعان له، لأن العقل المنشغل بالمخاصمة لا يستطيع أن يتدبر الحق ولا أن يذعن له، ولهذا قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ:46)، فاعتبر القرآن اتهام النبي بالجنون خاضعاً للجو الانفعالي العدائي لخصومه، لذلك دعاهم إلى الانفصال عن هذا الجو والتفكير بانفراد وهدوء.

ونحب أن نبين أننا نقصد بالملاحدة هنا كلا النوعين من الملاحدة: أصحاب الإلحاد السلبي، الذين يكتفون بطرح تشكيكات مجردة تبين عدم اقتناعهم الشخصي، أو العاطفي بالإيمان.. أو أصحاب الإلحاد الإيجابي الذين لا يكتفون بالتردد وعدم الاقتناع، وإنما يضيفون إليه محاولة البرهة على نفي وجود الخالق..

ويعتمد هؤلاء خصوصا أنواعا كثيرة من الطروحات، يمكن اختصارها في نوعين:

1 ـ طروحات فكرية وفلسفية: وهي عبارة عن مجموعة مغالطات عقلية تتعلق بعلاقة

كيف تناظر ملحدا؟ (18)

الدين بالتنوير، أو علاقته بالتحرر النفسي والاجتماعي، أو بإبطال مبدأ السببية، ونقض مبدأ الخلق، ومشكلة العدل والشر، واستحالة الوحي، ونقد الكتب المقدسة للأديان، واستحالة الحياة بعد الموت، أو إبطال مفهومه الديني بإثبات نظائر مغايرة له كالاستنساخ أو العودة للحياة، وغيرها من مشتقات البارسايكولوجيا.

2 ـ طروحات علمية: تحاول أن تستند للعلم الحديث بشتى فروعه، كعلوم الفضاء، والأحياء، والفيزياء، والكيمياء وغيرها لإثبات عدم حاجة الكون إلى خالق.

وبناء على هذا، وبناء على إحصائنا للشبه المختلفة التي يوردونها في هذا المجال، فقد قسمنا الكتاب إلى عشرة فصول، كل فصل تناول قضية من قضايا الإلحاد الكبرى، وهذا توضيح مختصر لها، ولمحتوياتها:

أولا ـ الإلحاد.. وبراهين الألوهية: وتناولت فيه ـ باختصار شديد ـ أهم ما يحتاج إليه المتصدي لمواجهة [الإلحاد] من فنون الحجج والبراهين الدالة على الله، بمختلف أصنافها، والتدرب على استعمالها، من دون تحيز لواحد منها، بناء على القاعدة المعروفة [لله طرائق بعدد الخلائق]، وقد لخصت فيه بعض ما ورد في كتابنا [الهاربون من جحيم الإلحاد]، والذي تناولت فيه بتفصيل كبير المناهج الكبرى التي استعملها العلماء والفلاسفة والمتكلمون من المدارس المختلفة للدلالة على وجود الله، مع ضرب الأمثلة عن البراهين المرتبطة بها، وتقريراتها المختلفة، مع تبسيط كل ذلك وتفصيله.

ثانيا ـ الإلحاد.. والمغالطات العقلية: وتناولت فيه تلك الطرق الملتوية المبنية على المغالطات بمختلف أنواعها، والتي يمارسها الملاحدة كما مارسها السفسطائية من قبلهم.. ولا يختلفون عن سلفهم من السفسطائية في شيء، حتى أن منهم من ينكر وجود الكون، ومنهم من ينكر المدارك الحسية، ومنهم من ينكر القوانين العقلية المعروفة بالبداهة كقانون العلية والدور والتسلسل وغيرها.

كيف تناظر ملحدا؟ (19)

ثالثا ـ الإلحاد.. والمغالطات العلمية: وتناولت فيه بالأدلة الكثيرة ضحالة المنهج العلمي الذي يعتمدونه؛ فهو منهج مبني على المغالطات والمصادرة على المطلوب، واستعمال الحيل المختلفة لمواجهة الإيمان والدعاة إليه.

رابعا ـ الإلحاد.. وخلق الكون: وتناولت فيه تلك النظريات المفسرة لنشأة الكون وتصميمه البديع، والتي نجدها في المصادر الإلحادية كسند يعتمدون عليه ويغالطون به عوام الناس، مع أنه ليس لها أي حظ علمي عند المتخصصين، فهي لم تجرب، بل يستحيل تجريب أكثرها، وهي عبارة عن ميتافيزياء، وليست فيزياء، ولذلك لا يصح اعتبارها سندا علميا.

خامسا ـ الإلحاد.. وخلق الحياة: وتناولت فيه الإشكالات التي واجهها الملاحدة عند تفسير ظاهرة الحياة التي يرونها على الأرض، والتي لا تنسجم مع كل التفسيرات المادية، ذلك أن الحياة فوق المادة، وهي معقدة تعقيدا خطيرا لا يمكن وصفه.

سادسا ـ الإلحاد.. والتحرر النفسي: وتناولت فيه الدور النفسي في التوجه للإلحاد؛ فالملحد لا يلحد لكون أدلة الإيمان لم تقنعه، أو لكونه يحمل أدلة الإلحاد، وإنما لشعوره بأن للإيمان أثره الكبير على حياته وسلوكه وعلاقاته، ويرى أن وجود الله سيحد من وجوده، ولذلك يلجأ إلى إعدم الله حتى يظل موجودا، وبينت فيه أن الإيمان لا يتناقض مع التحرر النفسي، بل هو يدعمه، ويضيف للمعاني الإنسانية معاني كثيرة يحرم منها الملحد.

سابعا ـ الإلحاد.. والقيم الحضارية: وتناولت فيه تلك الدعوى الخطيرة في اعتبار الإيمان بالله عقبة دون تحقيق القيم الحضارية.. وقد بينت فيه أن الإيمان دافع كبير من دوافع الحضارة، وليس سببا في التخلف، وما يرتبط بالتخلف من دين هو من تحريفات رجال الدين، لا من دين الله الأصيل.

ثامنا ـ الإلحاد.. والقيم الإخلاقية: وتناولت فيه ـ بالأدلة الكثيرة ـ افتقار الإلحاد لأي منظومة أخلاقية، ذلك أنه يختصر الإنسان في كيانه البيولوجي، ولذلك لا يستطيع أن تفسر أي

كيف تناظر ملحدا؟ (20)

قيمة من القيم الخلقية، ولا يستطيع كذلك أن يوفر لأتباعه أي حافز يدفعهم للسلوك الأخلاقي، وخاصة إن كان يحمل معاني التضحية والإيثار والبذل، في مقابل الإيمان بالله الذي يوفر كل ذلك.

تاسعا ـ الإلحاد.. ومعضلة الشر: وتناولت فيه هذه المعضلة التي تعتبر من أكثر الشبهات الإلحادية تداولا منذ القديم، وإلى عصرنا الحاضر، بل إنهم يعتبرونها البرهان الأكبر، على نفي وجود الله.. وقد تناولنا هذه المعضلة بتقريراتها المختلفة، وذكرنا صنوف الإجابة عنها.. سواء ما كان منها علميا تحقيقيا، أو ما كان منها إلزاميا جدليا، مع بيان الإجابات التي نرى عدم صلاحيتها أو وفائها بالإجابة على هذه المعضلة الخطيرة.

عاشرا ـ الإلحاد.. والإشكالات الدينية: وتناولت فيه الانتقادات المتعلقة بالتفسيرات الإلحادية لمصدر الدين، والعوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة فيه، وبينت مدى القوة التي تحملها التفسيرات الإيمانية.

وأنبه في الأخير إلى أنه لحساسية الموضوع، وأهميته، وعدم شغل القارئ بكثرة التهميشات والتفاصيل المرتبطة بها، فقد ذكرت في مقدمة كل عنوان المرجع أو المراجع التي اعتمدت عليها، والتي تشمل ذلك العنوان جميعا.. ومن يشاء تفاصيل التوثيقات، فإنه يمكنه الرجوع للمصدر الذي بينت استفادتي منه في ذلك العنوان، إلا إذا اقتضى المقام ذكر التوثيقات المفصلة، فحينها أذكرها.

مع العلم أن المادة العلمية المرتبطة بالكثير مما ذكرته موجودة في الكتب والمواقع المختلفة، لكن ميزة هذا الكتاب هو جمعها في محل واحد، وتصنيفها بطريقة خاصة، وتهذيبها وتبسيطها واختصارها ليستفيد منها أكثر الناس، لا الأكاديميون وحدهم.

كيف تناظر ملحدا؟ (21)

الإلحاد.. وبراهين الألوهية

أول ما على المتصدي لمواجهة [الإلحاد] تعلمه والتدرب عليه: إتقان فنون الحجج الدالة على وجود الله، بمختلف أصنافها، وإتقان استعمالها، من دون تحيز لواحد منها، ذلك أن التحيز قد يجعله يخطئ في تعامله مع الجمهور الذي يريد أن يخاطبه؛ فالمطلوب هو الإثبات، وليس الثبوت، ولذلك فإن الداعية يستعمل الوسائل التي يقتنع بها المخاطَب، لا التي اقتنع بها هو.

وذلك كله بناء على القاعدة المعروفة [لله طرائق بعدد الخلائق]، فقد لا يفهم بعض الناس دليلا من الأدلة كالدليل الأنطولوجي لأنسلم وديكارت، أو دليل الصديقين للفارابي وابن سينا والملا صدرا.. لكن في نفس الوقت نرى من فهم تلك الأدلة، واستفاد منها، وتحول بموجبها من الإلحاد إلى الإيمان.. ولذلك لا معنى لانتقادها أو رفضها بحجة عدم تناسبها مع الاتجاه الفكري أو المدرسة الفكرية التي يتبناها الداعية المواجه للإلحاد.. ذلك أن مقصده خطاب الآخر، لا نفسه.

وهكذا يكون موقف الداعية الحقيقي من القضايا المختلفة منطلقا من مدى تدعيمها للإيمان، ومواجهة الإلحاد، بغض النظر عن التفاصيل المرتبطة بها..

فمن المسائل المطروحة في هذا الباب ـ مثلا ـ مسألة قدم العالم، وهل هي في حال صحتها ـ كما يقول الكثير من الفلاسفة ـ تتناقض مع الإيمان، أو لا تتناقض معه، وهل قدم العالم شرط لثبوت الصانع، أو ليس شرطا.. فالداعية الحقيقي يعتبر هذه المسألة مسألة جزئية، ولهذا يبحث فيها على كلا الاحتمالين.. على احتمال الحدوث، وهو الذي دل عليه العلم.. أو على احتمال عدم الحدوث ـ كما يقول أكثر الفلاسفة ـ وفي هذه الحالة أيضا يمكن للداعية أن يثبت أنها لا تتناقض مع وجود الله بناء على مبدأ العلية والإمكان.

وبما أننا تناولنا في كتابنا [الهاربون من جحيم الإلحاد] المناهج الكبرى التي استعملها

كيف تناظر ملحدا؟ (22)

العلماء والفلاسفة والمتكلمون من المدارس المختلفة للدلالة على وجود الله، مع ضرب الأمثلة عن البراهين المرتبطة بها، وتقريراتها المختلفة، مع تبسيط كل ذلك وتفصيله؛ فسنحاول هنا في هذا الفصل تلخيص ما ذكرناه على شكل عناصر مضبوطة محدودة، ومن شاء المزيد من التقريرات، والتفاصيل، فيمكنه الرجوع للكتاب، ليستفيد منه بالإضافة إلى تلك التفاصيل الطرق المختلفة في تقرير البراهين واستعمالها، والإجابة على الإشكالات المرتبطة بها.

وقد قسمنا في ذلك الكتاب المناهج الكبرى التي تقوم عليها براهين وجود الله إلى سبعة أقسام، وهي تختلف باختلاف المخاطبين بتلك البراهين:

أولها البراهين القاطعة: وقصدنا بها أصناف الأدلة والبراهين التي استعملها الفلاسفة والمتكلمون، مثل برهان العلية، وبرهان لحدوث، وبرهان التطبيق أو نفي التسلسل، وغيرها.. وهي جميعا براهين تنطلق من الكون كواسطة للوصول إلى الله.

وثانيها المعاني الرقيقة: وقصدنا بها أصناف الأدلة التي استعملها الفلاسفة أو الصوفية، وهي الانطلاق من الأعلى إلى الأدنى أو من المكون إلى الكون، ومن أمثلتها برهان الفطرة، وبرهان الصديقين، والبرهان الوجودي أو الأنطولوجي، والبرهان الوجداني.

وثالثها العناية الرحيمة: وقصدنا بها أصناف الأدلة التي استعملها الفلاسفة والمتكلمون والعلماء، والتي تتعلق بالنظر إلى عناية الله بعباده ورحمته بهم، عبر المظاهر المختلفة لتلك العناية، والتي دل العلم الحديث على تفاصيل الكثير منها.

ورابعها الصنعة العجيبة: وقصدنا بها أصناف الأدلة التي يستعملها علم الكلام الجديد، والعلماء المعاصرون في الدلالة على الله انطلاقا من براعة الصنعة وإتقانها، فالصنعة المتقنة تدل على الصانع المبدع، وقد استفدنا في هذا المنهج خصوصا مما كتبه علماء الفيزياء والفلك والطب وغيرهم في هذا الجانب محاولين تبسيطه قدر المستطاع.

وخامسها النظام البديع: وقصدنا بها أصناف الأدلة التي يستعملها علم الكلام الجديد

كيف تناظر ملحدا؟ (23)

خصوصا لنفي العشوائية والصدفة.. فالنظام يحتاج إلى منظم، ويستدعيه بالضرورة العقلية.

وسادسها الآيات الباهرة: وقصدنا بها أصناف الأدلة التي تواجه الأطروحات الإلحادية التي تتصور أن الأدلة على الله أدلة نظرية وفلسفية فقط، ليس لها أي جانب حسي أو تجريبي.. فهي تعطي الكثير من المناهج التي يمكنها أن تحول الإيمان بالله إلى تجربة حسية، كسائر التجارب.

وسابعها الهداية المبينة: وقصدنا بها أصناف الأدلة التي استعملتها الكتب المقدسة في الدلالة على الله، لا عبر الاستدلال بنصوص تلك الكتب المقدسة نفسها، لأن ذلك قد يعبر دورا، وإنما باعتبارها ظاهرة من الظواهر الحسية، التي تحتاج إلى البحث فيها من هذا الجانب، وقد حاولنا أن نبين أن هذه الظاهرة أكبر ظاهرة تعريفية بالله، فالله لم يعلن عن نفسه من خلال الكون وظواهره فقط، وإنما أعلن عنه عبر رسله وكلماته المقدسة لعباده.. وقد اقتصرنا على بعض الأمثلة على ذلك، بناء على أننا خصصنا سلسلة [حقائق ورقائق] جميعا لإثبات النبوة بالمناهج المختلفة، وإثبات النبوة، ليس سوى إثبات للألوهية بالدرجة الأولى.

وسنحاول هنا أن نذكر باختصار وتلخيص شديد بعض النماذج عن البراهين المرتبطة بكل قسم، ومن شاء التفصيل، فعليه بالعودة للكتاب المذكور.

أولا ـ البراهين القاطعة

ونريد بها أصناف الأدلة والبراهين التي استعملها الفلاسفة والمتكلمون، مثل برهان العلية، وبرهان لحدوث، وبرهان التطبيق أو نفي التسلسل، وغيرها.. وهي جميعا براهين تنطلق من الكون كواسطة للوصول إلى الله.

ويحتاج لمن يريد استعمال هذا النوع من البراهين أن يدرس المنطق وعلم الكلام والفلسفة دراسة جيدة، لأن الكثير ممن ينكر الأدلة المطروحة فيها، أو يشاغب فيها، يكون

كيف تناظر ملحدا؟ (24)

مصدره الجهل بها، أو قلة معرفته بها، أو كما عبر عن ذلك [فرنسيس بيكون] بقوله: (القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان.. إذا أمعن (العقل) النظر وشهد سلسلة الأسباب كيف تتصل حلقاتها فأنه لا يجد بدًا من التسليم بالله) (1)

وهذا شرح مختصر لبعضها، كما يورده المتكلمون والفلاسفة في المدارس المختلفة.

1 ـ برهان العلية

وهو من البراهين البديهية العقلية التي تتفق عليها العقول، وقد أشار إليه قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرض بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} [الطور: 35، 36]، فالقرآن الكريم من خلال هاتين الآيتين الكريمتين يبين أن العدم لا يمكن أن يصنع شيئاً، ولذلك فإن الحادث يحتاج إلى محدث، فلا رجحان من دون مرجح.

والدليل على كون هذا البرهان من البراهين القطعية الفطرية هو تلك العبارات الكثيرة التي نسمع بها من عوام الناس، والتي تستند إلى هذا الدليل، ومن أمثلتها أن عجوزا كانت تمسك مغزلا، سئلت عن سر إيمانها، فقالت: (من آلة النسيج هذه، فعند ما أمسك مقبضها وأدوّره بهذا الدوران ينسج الحبل، وحيث أرفعُ يدي وأتوقف عن التدوير تتوقّف ويبقي الصوف والقطن على حاله، عندها لا نسيج ينسج، ولا ليف يبرم.. من هنا أيقنت أن للأفلاك والنجوم والكواكب السيّارة والشمس والقمر والأرض ونظام الخلق بأجمعه خالقاً مقتدراً، متى شاء عطّل الوجود ورماه في هوّة العدم. وإن شاء أمدّه بأسباب الحياة وأدار عجلة استمراره) (2)

__________

(1) مُلحدون محدثون معاصرون، د. رمسيس عوض، ص 58.

(2) معرفة الله، ج 1، ص: 148.

كيف تناظر ملحدا؟ (25)

ومثلها ذلك الأعرابي الذي سئل: بِمَ عرفتَ ربك؟ فقال: (البَعرةُ تدل على البعير، والأثَر يدل على المسير، ليل داجٍ، ونهار ساجٍ، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟!)

وروي أن طائفة من الملاحدة طلبوا من بعض العلماء أن يثبت لهم وجود الله، فقال لهم: (قبل أن أناظركم هلم بنا إلى الشاطئ، فقد علمت أن هناك سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء، ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون ولا عساكر ولا حراس.. فهي فرصة لنا للغنيمة منها).. ضحك الملاحدة لقوله، وقالوا له: (كيف تريد أن تناظرنا وأنت لا عقل لك.. فهل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! حتى صبياننا لا يصدقون هذا).. فقال: (كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟)

وما ورد في هذه التعبيرات جميعا هو نفسه ما عبر عنه الفلاسفة باسم [برهان العلية]، وبعضهم يسميه الدليل الكياني (1).

ومن التقريرات التي قرر بها هذا الدليل هذا التقرير الفلسفي: ومقدمته الأولى هي أننا نرى في العالم حادثات، وتقلبات، حتى إن وجودنا نحن من جملة تلك الحادثات.. وهذه مقدمةٌ، مبنية على الإحساس والمشاهدة، ومسلم بها عند أهل العلم القديم، والعلم الحديث.

أما المقدمة الثانية، فهي أنه لا بد لكل حادثٍ من علةٍ، وهذه المقدمة، وإن كانت لا تستند بكليتها إلى الإحساس، والتجربة، والمشاهدة؛ بناءً على أن العلية أمر معنويٌّ، لا يشاهَد، ولا أناَّ لم نشاهِد كل حادثٍ، إلا أنها ليست دون المقدمة الأولى المبنية على الحسِّ في القوة؛ بل أقوى منها.. ذلك أن حصول العلم بالمحسوس، بواسطة الإحساس، يتوقف عند التحليل العلمي

__________

(1) استفدنا بعض التقريرات هنا من [موقف العلم والعقل من رب العالمين]، مصطفى صبري.

كيف تناظر ملحدا؟ (26)

على تصديق هذه المقدمة الثانية، ولهذا، يقال بأن: (الشبهة في مبدإ العلية، تستلزم الشبهة في وجود المحسوسات)

ومن تلك التقريرات هذا التقرير المستند للطريقة المتبعة في علم الكلام، وهي: كل حادثٍ، يلزم أن يكون ممكناً؛ لا مستحيلاً، وإلا لما حدَثَ؛ ولا واجباً، وإلا لما سبقه العدم.. والممكن، ما لا يقتضى لذاته أن يكون موجوداً، ولا أن يكون معدوماً.. فالوجود والعدم، سيان بالنسبة إليه؛ فإذا وُجدَ، وُجدَ لعلةٍ ترجحه لهُ، لئلاَّ يلزم الرجحان من غير مرجحٍ، وهو محالٌ، ومستلزمٌ لعدم تساوي الوجود والعدم، فيما فُرض تساويهما فيه.

و عدمُ التساوي فيما فُرضَ فيه التساوي، يستلزم خلاف المفروض، المؤدي إلى التناقض.

فعلى هذه الطريقة، تكون المقدمة الثانية من مقدمات البرهان على وجود الله، القائلة بأن لكل حادث علةٌ، ثابتةً بالبرهان، وعلى الطريقة الأولى تكون بديهية.

فمقدمات هذا الدليل، أدناها درجةً في اليقينية، هي المقدمة الأولى، المبنية على الحس (1).. فإذا كانت مقدمات الدليل يقينية، كانت النتيجة المترتبة عليها أيضاً يقينية، إلا أن مرتبتها في اليقين، تكون على قدر أدنى المقدمات مرتبةً فيهِ، لأن نتيجية القياس المنطقي تتبع أخس المقدمتين اللتين يتألف منهما القياس.. حتى إن هذه الكائنات المحسوسة، التي نسميها [العالم]، إن لم تكن موجودةً، وكانت حواسنا تغالطنا، فعند ذلك ينهار الدليل الذي أقمناه لإثبات وجود الله، بانهيار مقدمة من مقدماته.

لكن بما أن جماهير الناس، بما فيهم الملاحدة أنفسهم ليسوا من الحسبانية، الذين لا يستيقنون وجود العالم، وينفون اليقين في كل شيء.. وليسوا من [أشباه الحسبانيين] القائلين بأن العالم عبارة عن صورة نفسية، أنشأتها أذهاننا في نفسها، ومخيلاتُنا في الخارج، وهم الذين

__________

(1) أي المقدمة القائلة بوجود أي حادث في الدنيا..

كيف تناظر ملحدا؟ (27)

يتزعمهم الفيلسوف [كانت].. فإن الجميع يدرك وجود الله، كما يدرك وجود المحسوسات.. أي أن إدراك وجودها، ليس أقوى من إدراك وجودهِ بدليله العقلي المنطقي.

وقد عبر عن ذلك [له بينج]، وهو من أكبر الفلاسفة الغربيين الألمان، فقال: (إن اليقين البرهاني، عبارة عن اليقين البديهي، الذي ينطبق على رابطة بين الحقائق المتعددة، بدلاً من انطباقه على حقيقة منفردة)

2 ـ برهان الحدوث

وهو البرهان الذي استعمله المتكلمون خصوصا، ليردوا به على من يستند للقول بقدم العالم (1) للرد على مبدأ العلية، واعتبار العالم قديما، ولا يحتاج إلى من يحدثه.. ولذلك احتاجوا للرد عليه بالبراهين الدالة على حدوث العالم.. لكن من الفلاسفة أو أكثرهم من راح يجمع بينهما: بين قدم العالم والعلية، وأنه لا تنافي بينهما، كما سنرى.

وبما أننا سنشرح أدلة حدوث الكون بتفصيل في الفصل المخصص لذلك، بحسب ما دلت عليه العلوم الحديثة، فسنكتفي هنا بالبراهين الكلامية والفلسفية، إما تلك التي تحاول البرهنة على حدوث العالم، أو تلك التي ترى أن قدمه لا يتعارض مع حاجته للصانع.

فمن الأدلة التي استدلوا بها على حدوث العالم أنه: إذا افترضنا أن العالم بدون بداية في الزمان، فإن هذا يعني أن كل حادثة فيه قد سبقتها حوادث أخرى لانهاية لها.. ولا يمكن أن تأتي حادثة من سلسلة لامتناهية من الحوادث.. فكي نثبت ظهور حادثة يجب علينا افتراض

__________

(1) القدم: أو الوصف بالقديم تعني عند الفلاسفة والمتكلمين ما ليس له أوّل البتّة. فكلّ موجود لم يسبقه عدم البتّة، أو كلّ موجود خلا بتاتا من حال لم يكن موجودا ثمّ كان، سمّوه قديما. وكلّ موجود كان له أوّل أو سُبِقَ بعدم، فمهما امتدّ في الماضي ولو كانت مدّته آلاف آلاف السّنين، فهو ليس بقديم، بل إنّه حادث.

كيف تناظر ملحدا؟ (28)

بداية أولى للزمان.. وهذا القول نفسه يسرى على المكان، فإذا افترضناه كلاً لامتناهياً، فلا معنى لوجود الأمكنة الجزئية، لأن المكان الجزئي ما هو إلا تركيب لبعض خصائص المكان الواحد الكلي، أي اللامتناهي.. واللامتناهي لا يمكن أن يُخصَّص أو يُجزأ، ولذلك لا يمكن انقسام المكان اللامتناهي، لأن المنقسم هو المتناهي وحده.. وبما أن هناك أمكنة جزئية، وبما أنه من الممكن أن ينقسم المكان، فيجب القول بتناهي المكان.

وقد رد عليهم المخالفون بردود كثيرة (1)، وذكروا فيها أنه لا تنافي بين الإيمان بالله، وبين

__________

(1) منها قولهم: لنفترض أن للعالم بداية.. وبما أن كل بداية تفترض زماناً خالياً سبقها، فمعنى هذا أننا نفترض زماناً سابقاً على وجود العالم كان خالياً منه.. لكن لا يمكن ظهور شئ من زمان خالٍ، لأن الزمان الخالي لا يمتلك شرطاً يميز وجود أو عدم وجود العالم.. أي ليس به مرجح للوجود على العدم.. وهكذا بالنسبة لمحدودية المكان، فإن القول بذلك يعني أن هذا العالم يقع في مكان خالٍ، وهذا مستحيل، إذ ينطوي على القول بأن للعالم صلة بمكان خالٍ، أي باللاشئ.. فلا يبقى إلا القول بأن العالم لامتناه من حيث الامتدادين الزماني والمكاني..

ومنها قولهم: لو فرضنا أن العالم الّذي هو صنع الله لم يكن قديما.. أي أنه كان في فترة من الفترات غير موجود.. فإن هذا لا يخلو من وجوه.. فإمّا أنّ الله كان عاجزا ثمّ صار قادرا، وحين صار قادرا قام بصنعه، وهذا محال.. وإمّا أن يكون قد افتقر لآلة من الآلات، ثمّ وجدت، وهذا أيضا محال، لأنّه من ضروريات كون الإله إلها قدرته المطلقة، وكون كل ما سواه محتاجا له، والآلات مفعولة له، فكيف تكون شرطا في الخلق؟.. وإمّا أنّ الله لم يكن مريدا لوجود الكون، ولذلك بقي معلّقا في العدم حتى أراده.. وهذا أيضا محال، لأنّه يجعل الذّات الإلهيّة محلاّ للحدوث والتغيّر.. ولأنّه ولو افترضنا جواز كونه محلاّ لتجدّد هذه الإرادة، فإنّ هذه الإرادة نفسها المتجدّدة الّتي كانت سببا لإيجاد العالم الحادث، هي نفسها محتاجة لإرادة أخرى متجدّدة لتوجدها لكونها هي نفسها حادثة.. فيتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وهذا محال.

كيف تناظر ملحدا؟ (29)

قدم العالم؛ فالعالم ـ حتى لو قيل بقدمه ـ يظل عاجزا فقيرا محتاجا، ولذلك يحتاج إلى من يعتني به ويرعاه وينظمه ويعطيه من المدد ما يستمر به وجوده (1).

ولذلك كان أكثر القائلين بقدم العالم من الفلاسفة من المؤمنين الموحدين، من أمثال أرسطو والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم كثير.. وردوا على المتكلمين في ذلك والقائلين بأنه لا يستقيم الإيمان بالله مع القول بقدم العالم.. باعتبارهم أن ذلك ناشئ عن النظر المبدئي البسيط، لكن عند التأمل في القضية بعمق نجد أن الأمر لا علاقه له بذلك.. فالظل تابع لصاحبه، ولا يمكن أن يكون موجودا بدونه، ومع ذلك يظل موجودا معه في كل حين.. وهكذا نور الشمس يظل تابعا للشمس مرتبطا بها في كل الأزمنة، مع أنه لا وجود له من دونها.. وهكذا الخالق ـ كما يعبرون ـ فمن ضروريات كونه إله كونه خالقا.. ولذلك ينشأ الخلق عنه كما تنشأ عن الشمس أشعتها من غير ارتباط بزمن.

3 ـ برهان التطبيق

وهو البرهان الذي يدل على استحالة التسلسل، والمراد منه أن (يستند الممكن في وجوده إلى علة مؤثرة فيه، وتستند تلك العلة المؤثرة إلى علة أخرى مؤثرة فيها، وهلم جرا إلى غير نهاية)، أي أن تستمر العلية والمعلولية إلى ما لا نهاية (2).

__________

(1) اقتبسنا بعض المادة العلمية هنا من مقال بعنوان: شرح اعتراضات الغزالي على دليل الفلاسفة الأوّل في إثباتهم لقدم العالم، لطفي خيرالله..

(2) وننبه إلى الذين يشكلون على البرهان المرتبط بنفيه إلى أنه نُظم في الأصل لإبطال حوادث لا أول لها، كما ذكرنا في تعريفه، وليس لإبطال ما لا آخر له، والفرق بينهما أنّ وجود حوادث لا آخر لها جائز عقلًا، لأن سبب وجود هذه السلسلة من الحوادث خارج عن ذاتها، وهذا ما لا يمكن أن تقوله في سلسلة الحوادث التي لا أول لها دون أن تقع في تناقض يرفضه العقل السليم.

كيف تناظر ملحدا؟ (30)

وهذا البرهان مهم جدا، ذلك أن الكثير من الملاحدة يستعملونه في دعواتهم الإلحادية، وذلك عندما يشكلون على المؤمنين بعد طرحهم لبرهان العلية بقولهم: [سلمنا بأن الخلق يحتاج إلى خالق، فمن خلق الله؟]

أو قولهم: (لا شك أنكم أيها المؤمنون بوجود إله، انطلقتم في بحثكم عن الله من السؤال عن علة وجود المادة الأولى للكون.. ثم أجبتم أنفسكم بأن علة وجود المادة الأولى للكون هي الله، ونحن نسألكم بنفس ما سألتم به: وما علة وجود الله؟.. لاشك أنكم ستحتالون علينا بأن الله غير معلول الوجود.. وإن كان الأمر كذلك، فلماذا توقفون مبدأ السببية وتعطلونه عندما يتعلق الأمر بالله؟.. وهنا نجيبكم: ولماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود؟!) (1)

ومن الأمثلة على انتشار مثل هذا الإشكال بين الملاحدة، واستعمالهم له، ما عبر عنه [برتراند راسل] في محاضرته المشهورة [لماذا لست مسيحيا]، والتي عبر فيها عن سبب الحاده، فمما جاء فيها قوله: (لقد قبلت لوقت طويل بفرضية المسبب الأول، حتى جاء اليوم الذي تخليت عن هذه الفرضية، وذلك بعد قراءتي لسيرة حياة جون ستيوارت ميل، حيث قال فيها: (لقد علمني والدي إجابة السؤال عمّن خلقني. وبعدها مباشرة طرحت سؤالاً أبعد من هذا، من خلق الإله؟).. إن هذه الجملة القصيرة، علمتني، إلى الآن، كيف أن مبدأ المسبب الأول هو مبدأ مغالط ومسفسط. فإذا كان لكل شيء مسبب، فيجب أن يكون لله مسبب أيضاً. وإذا

__________

(1) انظر: مقالا بعنوان [الملحد وسؤاله الخاطئ من خلق الله؟]، وانظر: الفيزياء ووجود الخالق د. جعفر شيخ إدريس.. صراع مع الملاحدة حتى العظم الشيخ عبدالرحمن الميداني.. كواشف زيوف الشيخ عبدالرحمن الميداني.

كيف تناظر ملحدا؟ (31)

كان كل شيء بلا مسبب، فسيكون العالم هو الله! لهذا وجدت أنه لا مصداقية في هذه الفرضية)

ومثله صرح [دوكنز] بقوله: (كل الحجة تدور حول السؤال التالي (من خلق الله) حيث لا يمكن استعمال نظرية الإله المُصمِم لتفسير الخلق المعقد هذا لأن أي إله قادر علي تصميم أي شيء يجب أن يكون علي مستوي أعلى من التعقيد ويتطلب بدورة إلي تفسير)

وبناء على هذا كانت أهمية إتقان استعمال هذا النوع من البراهين في مواجهة هذه الشبهة ونظيراتها من الشبه، ومن الردود التي صاغها المتكلمون في الرد على هذه الشبهة [برهان التطبيق] أو [برهان نفي التسلسل]

وتقريره هو (1): أن عالمنا الذي نعيش فيه غني بمجموعة من الظواهر الطبيعية.. وكلّ ظاهرة إمّا أن تكون علّة أو معلولة، فهي علّة للظاهرة التي تليها، ومعلولةً لظاهرة قبلها.. ولولا وجود العلّة لم يحدث المعلول، وبانعدام العلّة ينعدم المعلول.. وهكذا يتحقّق وجوده بوجودها.

وفي هذه الحالة نحن في العلل التي نشأت بها الظواهر الكونية بين أمرين.. إما أن نصل بها في التسلسل إلى علة نهائية هي العلّة الموجدة للكون.. وهي الله تعالى، وهو الغني بالذات، ويعتبر هو الخالق لهذه السلسلة.. وإما أن نستمر في التسلسل إلى ما لا نهاية له من العلل.. وهذا مستحيل عقلا.

وسبب اعتباره مستحيلا هو أنه لا يمكننا أن نتصوّر مجموعة من الكائنات الحيّة ـ والتي كانت فاقدة للحياة يوماً ما، ثم أصبحت فجأة قادرة عليها ـ أنها أوجدت نفسها من العدم من دون أن يكون هناك طرف خارجي صاحب قدرة مطلقة هو الذي أوجدها؟

ذلك أن كلّ كائن في هذا العالم يشهد بصدق بأنّه لم يكن صانع نفسه، بل يعترف بوجود

__________

(1) انظر: مصدر الوجود بين العلم والفلسفة، الشيخ جعفر السبحاني.

كيف تناظر ملحدا؟ (32)

علة موجدة له.. وجميعهم يشهدون بأنّ وجودهم وحقيقتهم لم تكن من ذات أنفسهم.. إذن من أين أتى وجودهم وخلقهم، وكيف؟

ليس أمامنا إلاّ طريق واحد، وهو الاعتراف بأن كلّ موجود حادث وناتج عن موجود غني بالذّات، وعنده يتوقّف التسلسل، إذ يعتبر هو العلّة الرئيسية لجميع المعلولات، وهو الخالق القدير.

وبناء على ذلك، فإن من يدّعي بأنّ الكائنات قد أوجدت نفسها من العدم دون استعانة بكائن خارجي، يشابه من يدعي بأننا يمكن أن نحصل على عدد صحيح عند اجتماع ما لا نهاية له من الأصفار، أو يمكننا الحصول على الوجود أو الحياة عندما تتراكم ما لا نهاية من العدوم.

وبناء على ذلك كله، فإن وجود هذه المخلوقات قد انحصر تحقّقها بكائن حي غني على الإطلاق، إذ يعتبر نهاية للتسلسل، ومنبعاً للكائنات جميعاً.. وأنه هو العلّة المطلقة.. وما دام كذلك، فهو ليس بمعلول.. فيستحيل على العلة المطلقة أن تكون معلولة.. ذلك أن وجودها ينبع من نفسها، وهي غير محتاجة إلى سواها.

بالإضافة إلى هذا هناك ردود أخرى ذكرناها في كتاب [الهاربون من جحيم الإلحادي] نلخصها فيما لي:

الرد الأول: لو دخلت إلى مكتبك ووجدت كتابا على الطاولة.. ووجدت في نفس الوقت رجلا جالسا على كرسي، ثم خرجت ورجعت، فوجدت الكتاب الذي كان على الطاولة داخل الدرج، ووجدت الرجل جالسا على البساط.. فلا شك أنك ستسأل من نقل الكتاب إلى الدرج.. دون أن تسأل عمن نقل الرجل إلى البساط.

وسبب ذلك أن الكتاب ليس له إرادة، ويحتاج إلى من ينقله، ولا يتحرك بذاته، فلذلك كان السؤال منطقيًا واقعيًا.. بخلاف السؤال عن الرجل، ذلك أن لديه قوة وطاقة واختيارا وارادة يستطيع بها أن ينتقل بنفسه من غير أن ينقله أحد.

كيف تناظر ملحدا؟ (33)

الرد الثاني: أن في هذا الإعتراض مغالطة كبيرة لمن طرحه، ذلك لأنه يفترض أن الاله مثله.. أي له مادة مثل مادة الكون، مما يمكن سحب القياس عليها، وهذا غير صحيح.. فالله لا يشبه مخلوقا في شيء..

ولهذا لا يصح أن نخضعه لتصوراتنا، لأنه ليس شبيها بشئ نعرفه حتى نقيسه عليه.. فإذا كان فوق تصوراتنا ومعارفنا، بل فوق قدرات عقولنا مهما تضخمت ملايين المرات، فإن هذا السؤال يعد مستحيلا فى حقه، بل وغير منطقى أيضا.

ذلك أن جميع المخلوقات يصح فى حقها هذا السؤال، لأنها تتحرك وفق قوانين نكاد نعرفها جميعا، ويمكن إخضاعها للتجربة والقياس والحسابات الرياضية، لكن الله ليس خاضعا لكل هذا، لأنه فوق علمنا وتصوراتنا، وما يمكن أن نقترحه على مانعرفه لايمكن اقتراحه على ماهو فوق معارفنا وتصوراتنا.. بل الشئ الوحيد الذى نتأكد منه أنه ليس مشابها لكل مانعرف وما نتوقع معرفته، ولا يمكن أن تسرى عليه تخيلاتنا.

الرد الثالث: وفق أى قانون يمكن أن نسأل هذا السؤال، وهل يمكن للعقل البشرى أن يجعل الله مادة لمعرفته فى ذاته؟.. إن معنى ذلك هو أن هذا العقل البشرى بلغ من القدرة أن يكون إلها.. ولكن الثابت أن هذا العقل بكل وسائله، وبكل معارفة الحديثة لايزال عاجزا عن تفسير أشيئا كثيرة فى عالم الماديات، ورغم كل معارفه فلا يزال الكون مجهولا بالنسبة له، وهو مازال يطور ويصحح فى معلوماته كل يوم، ومع كل كشف جديد.. فإذا كان العقل ومقاييسه ومعارفه لايمكنه إدراك أغلبية الحقائق المخلوقة، فكيف فى وثبة من الغرور يريد أن يخضع خالقه وخالق معارفه ومقاييسه لأدواته البدائية هذه.. إن المنطق لا يقبل أن يكون الطفل الذى يحبو، ويستطلع الأشياء من حوله قادرا على فهم ما يفهمه الشيخ المجرب العالم.

الرد الرابع: أن المقدمات العقلية الكثيرة تدل على أن الأصل في الخالق الوجودُ؛ إذ لو كان الأصل فيه العدم لَمَا أوجد الكون؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، وإذا كان وجود الله هو الأصل،

كيف تناظر ملحدا؟ (34)

فهذا يستلزم أنه لا يحتاج إلى موجِدٍ يوجده، ولا علة لوجوده؛ إذ لا يُبحَث عن علةِ وجودِ ما الأصلُ فيه الوجود!

ولهذا، فإن قول القائل: إن خالق الكون بحاجة إلى خالق، رغم أنه خالق، قريب من قول القائل: إن المِلح يحتاج إلى ملح كي يكون مالحًا رغم أنه مالح.. وإن السكر يحتاج إلى سكر حتى يكون حلوًا رغم أنه سكر.. وإن الأحمر يحتاج إلى اللون الأحمر كي يكون أحمرَ رغم أنه أحمر.

وهكذا، فإن قول القائل: (من خلق الله؟) يساوي قوله: ما الذي سبق الشيء الذي لا شيء قبله؟.. ويساوي قوله: ما بداية الشيء الذي لا بداية له؟.. ويساوي قوله: ما بداية وجود الشيء الذي لا بداية لوجوده؟.. وهذه الأقوال جميعا في غاية السخف والسقوط والاستحالة.

الرد الخامس: أولا.. أن الأصل في الخالق الوجود؛ إذ لو كان الأصل فيه العدم لما أوجد الكون؛ لأن فاقد الشيء الذي لا يملِكه ولا يملِك سببًا لإعطائه لا يعطيه، وإذا كان الأصل في الخالق الوجود، فلا يصح أن نسأل عن سبب وجوده.

ثانيا.. إن الله ـ كما تدل عليه الأدلة العقلية الكثيرة ـ أزليٌّ؛ فوجوده ذاتي لا ينفك عنه، فلا يصح أن نسأل عن سبب وجوده، ووجوده ليس له بداية.

ثالثا.. إن الله له الكمال المطلق؛ إذ هوواهبُ الكمال لمخلوقاته؛ فهو أحق بالاتصاف به من الموهوب، وكل كمالٍ ثبت للمخلوق الممكن، فإنه يكون ثابتًا للخالق من باب أَوْلى.. وإذا كان الكمال المطلق لله، والاحتياج يناقض الكمال المطلق، فالكامل المطلَق لا يحتاج إلى غيره، وعليه فالخالق لا يحتاج إلى غيره، وإذا لم يحتَجْ إلى غيره فهو غير معلول، وإذا كان غير معلول فلا يصح أن نسأل عن علته.

رابعا.. إن السؤال عن سبب وجود شيء يصح فيما كان الأصل فيه الحدوث، وأنه لم يكن موجودًا ثم أصبح موجودًا بعد عدم، والله قديم وليس حادثًا.

كيف تناظر ملحدا؟ (35)

خامسا.. لو قلنا بأن كلَّ خالق له مَن خلَقه؛ أي: خالق الكون له مَن خلقه، ومَن خلَق خالقَ الكون له مَن خلَقه، ومَن خلَق خالقَ خالقِ الكون له مَن خلَقه، وهكذا إلى ما لا نهاية، فإن هذا يستلزم أنْ لا خالقَ للكون، وهذا باطل لوجود الكون؛ فوجود الكون يستلزم عدم تسلسل الفاعلين إلى ما لا نهاية؛ إذ لا بد أن تصل سلسلة الفاعلين إلى علة غير معلولة، ولا بد مِن سبب تنتهي إليه الأسباب، وليس هناك أسباب لا تنتهي إلى شيء، وإلا لم يكن هناك شيء؛ أي: إن التسلسل في الفاعلين ممنوع، بل لا بد أن نصل إلى نهاية، وهذه النهاية في الفاعلين أو المؤثرين هي إلى الله تعالى.. وهذا ما نص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].. أي أن كل شيء ينتهي إليه.

الرد السادس: وهو مثال مبسط عن انتفاء التسلسل في الواقع.. وهو أن هناك مراتب في القيادة في النظام العسكري، حتى أنه لا يطلق جندي رصاصة إلا بعد أمر القائد له بذلك.. فإذا افترضنا أن هذا النظام لا نهاية لتسلسله.. أي أن الجندي قبل أن يرمي الرصاصة يستأذن من المجند الذي فوقه مرتبة، وهو كذلك لا يعطي الإذن حتى يستأذن ممن فوقه، وهكذا إلى ما لا نهاية.. فهل يمكن في هذه الحالة أن يطلق الجندي النار؟

ومن الطبيعي أنه لا يمكن أن يطلق الرصاصة في هذه الحالة، لأنه لن يصل إلى الجندي الذي سيعطيه الإذن بإطلاق النار.

وبذلك فإنه يثبت أنه لابد من انتهاء السلسلة إلى شخص لا يوجد فوقه أحد ليعطيه الإذن بإطلاق النار، حينها ستنطلق الرصاصة.. وبدون هذا الشخص، ومهما كثُر عدد الأشخاص، لن تنطلق الرصاصة؛ لأنهم حينها كالأصفار إذا وضعتها بجانب بعضها البعض، فمهما كثرت وبلغت حدًّا لا نهاية له، فستظل لا تساوي شيئًا، إلا أن يوضع قبلها رقم: 1 فأكثر.. حينها يصبح لها وجود واعتبار.

ثانيا ـ المعاني الرقيقة

كيف تناظر ملحدا؟ (36)

ونريد بها أصناف الأدلة التي استعملها الفلاسفة أو الصوفية، وهي الانطلاق من الأعلى إلى الأدنى أو من المكون إلى الكون، ومن أمثلتها برهان الفطرة، وبرهان الصديقين، والبرهان الوجودي أو الأنطولوجي، والبرهان الوجداني.

وقد أطلقنا عليه هذا الاصطلاح لكونها تنطلق من المكون لتصل إلى الكون.. ولذلك كانت معانيها رقيقة ودقيقة، فلا يستوعبها إلا أصحاب النفوس الطاهرة، والقلوب الخاشعة، والأرواح السامية، فلذلك لا معنى لجحودها أو إنكارها بسبب عدم القدرة على فهمها، ذلك أن هناك من له القدرة على ذلك.. ولله طرائق بعدد الخلائق.

ولذلك لا يصح لأي مناظر في الإلحاد أن ينكر مثل هذه البراهين، فهي أدلة قوية قاطعة، يمكن الاستفادة منها مع من له القدرة على ذلك، ذلك أن البشر مختلفون في طباعهم، وفي طريقة تفكيرهم، فبعضهم يفكر تفكيرا غليظا كثيفا محدودا.. وبعضهم يفكر تفكيرا رقيقا عميقا واسعا.. وهم الثلة القليلة من أصحاب العقول الذين نسميهم عباقرة.

وهكذا الأمر مع الحقائق الإيمانية.. فهناك من يحتاج إلى الأدلة الكثيفة التي تحاول أن تزيل الغشاوة عن عينيه، وقد تفلح ولا تفلح.. وهناك من يكون مبصرا، لا غشاوة على عينيه، ولذلك لا يحتاج إلى أي أدلة، لأنه مبصر بالفطرة أو الاكتساب.

ومن الأمثلة المقربة لذلك قدرات بعض العقول في الحساب.. حيث أنه تلقى إليه المسائل العويصة الصعبة، فيحلها في طرفة عين، وكأنه يراها بأم عينيه.. وهناك من يبذل جهدا كبيرا في حلها، ويستعمل كل ألوان الأقلام، ومع ذلك قد يخطئ في حلها.

ولذلك كان الداعية الحكيم هو الذي يستعمل لكل قوم لغتهم الخاصة بهم.. فهناك من لا ينجذب عقله للبراهين القاطعة، لكنه ما إن يسمع المعاني الرقيقة حتى يذوب فيها.. وينتقل مباشرة من الإلحاد إلى الإيمان.. ومن الغفلة إلى اليقين.

وقد ضرب لنا القرآن الكريم المثال على ذلك بسحرة موسى عليه السلام الذي آمنوا

كيف تناظر ملحدا؟ (37)

بربهم وسجدوا له وضحوا بأنفسهم في سبيله لا للخطابات العقلية التي خاطبهم بها موسى عليه السلام، وإنما لما رأوه من حججه الواضحة، وأدلته القاطعة التي تحدثت بها العصا، فقد كانت الآيات الباهرة هي دليلهم إلى الله، ولهذا قال تعالى: {لِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7].. ويقاس عليه: ولكل أمة رسول.. ولكل عقل حجة.

وهذا شرح مختصر لبعضها، ومن شاء التفاصيل، وكيفية الاستعمال، فيمكنه الرجوع لكتاب [الهاربون من جحيم الإلحاد]

1 ـ برهان الفطرة

وهو البرهان المستند لذلك الإيمان الجبلي الموجود في الفطرة الإنسانية الطاهرة التي لم تتلطخ بأوزار المادية، ولم تتدنس بدنس الكبرياء والغرور والعجب الذي أصاب أصحاب الفكر المادي، والذي أشار إليه قوله تعالى عند خطابه للإنسان في عالم الذر: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]

ونظم هذا الدليل هو أن الإنسان لو ترك وذاته، بدون معلم أو مربي، فإنّه يشعر في أعماق نفسه، وبما أودعه الله في خلقته بأنّ لهذا الكون خالقا خلقه، ومكوناً كونه، ومبدعاً أبدعه، ومدبراً دبره هذا الشعور نابع من فطرته وذاته وليس مما تعلمه من والديه وأهله، يولد معه، وينمو معه، ويبقى معه لا يتغير بتغير الظروف، ولا يمكن انتزاعه من نفسه، لأنّه جزء لا يتجزأ منها، فكما أنّ غرائز الإنسان ذاتية له لا يمكن فصلها عنه ولا تحتاج إلى تعليم معلم، وكما أنّ عواطف الإنسان وأحاسيسه جزء من خلقته وكيانه البشرى، فإنّ شعوره الفطري الذاتي يدفعه دائما إلى الإيمان بأنّ لهذا الكون خالقاً ومدبراً وربّاً.

و لو افترضنا إنساناً يولد في الصحراء بعيداً عن تعليم الأهل والمجتمع، ثُمّ يكبر هذا الإنسان حتى يبلغ سنّ الرشد، فإنّه كما يعرف غرائزه وأحاسيسه، فسيعرف أنّ له ربّاً وخالقاً، خلقه وأوجده من العدم، وكما يعرف أنّه يحتاج إلى الطعام لسدّ جوعه، وإلى الشراب لإرواء

كيف تناظر ملحدا؟ (38)

عطشه، فإنّه ليعرف كذلك من خلال فطرته بأنّه بحاجة إلى خالق لخلقه، وموجد له يوجده من العدم، أنّه يبحث بذاته ويتساءل من أين جاء؟ والى أين سيذهب؟ ولماذا هو في هذه الدنيا؟ ولابدّ أن يكون له خالقاً خلقه وكوّنه وأبدعه، فهو يؤمن بوجود خالق يتوجه إليه في حاجاته وخصوصاً عند الشدائد بدون حاجة إلى من يعلمه ذلك.

وقد عبر عن هذا الدليل الفيلسوف الفرنسي ديكارت بقوله: (لا يبقى ما يقال بعد ذلك إلا أن هذه الفكرة ولدت ووجدت معي منذ خلقت، كما ولدت الفكرة التي لدي عن نفسي، والحق أنه لا ينبغي أن نعجب من أن الله حين خلقني غرس فيّ هذه الفكرة لكي تكون علامة للصانع مطبوعة على صنعته)

بل عبر عنه الفيلسوف الاسكتلندي الشكاك [ديفيد هيوم] الذي قال في [حواراته]: (ليس هنالك من هو أشد مني إحساسًا بالدين المنطبع في نفسي أو أشد تعلقًا بالموجود الإلهي كما ينكشف للعقل بين ابتداع الطبيعة وصناعتها اللذين من الصعب تفسيرهما).. وقال في موضع آخر من الكتاب: (لا توجد حقيقة أظهر وأوضح من وجود إله)

ومما يدل على دلالة الفطرة على وجود الخالق ما يلي (1):

1 ـ وجود العبودية والتدين عبر تاريخ البشر: لاحظ العلماء أن جميع الأمم التي درس علماء تاريخ الأديان تاريخها اتخذت معبودات تتجه إليها وتقدَّسها، ولا يوجد عَلَى الإطلاق في أي عصر من العصور، ولا في أي أمة من الأمم مجتمع بلا دين ولا بلا إله معبود، حقاً كَانَ أو باطلاً فهناك اتجاه فطري إِلَى أن يكون هناك دين، وإله معبود حتى قال بعضهم: (لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، لكن لم توجد جماعة بغير ديانة)

__________

(1) انظر مقالا بعنوان: [دليل الفطرة] موجود في مواقع مختلفة من بينها بعض المقررات العلمية في مادة العقيدة الإسلامية، وكلها من دون مؤلف.

كيف تناظر ملحدا؟ (39)

وقال [ويليام جيمس ديورَانت]: (صحيح أنّ بعض الشعوب البدائية ليس لها ديانة على الظاهر فبعض قبائل الأقزام في إفريقية لم يكن لهم عقائد أو شعائر دينية على الإطلاق، إلاّ أنّ هذه الحالات نادرة الوقوع ولا يزال الاعتقاد القديم بأنّ الدين ظاهرة تعم البشر جميعاً اعتقاداً سليماً وهذه في رأي الفيلسوف حقيقة من الحقائق التاريخية والنفسية) (1)

وعبر في موضع آخر ـ وهو المؤرخ الكبير للحضارات البشرية ـ عن مدى تجذر الدين في الفطرة، وأن استثمار رجال الدين لذلك يدل على مدى ترسخه فيها، فيقول: (إنّ الكاهن لم يخلق الدين خلقاً لكن استخدمه لأغراضه كما يستخدم السياسي دوافع الإنسان الفطرية وغرائزه، فلم تنشأ العقيدة الدينية عن تلفيقات أو الاعيب كهنوتية إنّما نشأت عن فطرة الإنسان) (2)

وقال العالم الاجتماعي [صموئيل كونيك] عند حديثه عن جذور الدين في الأسلاف من البشر: (إنّ أسلاف البشر المعاصر ـ كما تشهد آثارهم التى حصل عليها في الحفريات ـ كانوا أصحاب دين، ومتدينين، بدليل أنَّهم كانوا يدفنون موتاهم ضمن طقوس ومراسيم خاصة وكانوا يدفنون معهم أدوات عملهم، وبهذا الطريق كانوا يثبتون اعتقادهم بوجود عالم آخر، وراء هذا العالم) (3)

فالشعور الفطري بوجود خالق مدبر لهذا الكون شعور مشترك بين جميع الناس مغروس في النفوس، يقوم في نفس الطفل الصغير، والإنسان البدائي والإنسان المتحضر، والجاهل والعالم والباحث والفيلسوف، كل هؤلاء يشعرون بشعور مشترك لا يستطيعون دفعه عن

__________

(1) قصة الحضارة: 1/ 99..

(2) قصة الحضارة: 1/ 99..

(3) كتاب جامعه شناسي: 192.

كيف تناظر ملحدا؟ (40)

أنفسهم.

يقول الفيلسوف الانجليزي [توماس كارليل] بقوله: (إنّ الذين يريدون إثبات وجود الله بالبرهان والدليل ما هم إلاّ كالذي يريد الاستدلال على وجود الشمس الساطعة الوهّاجة بالفانوس)

2 ـ الالتجاء إلى الله عند الشدائد فالشدائد تصفي جوهر الفطرة: من أوضح الأدلة على فطرية المعرفة بالله عز وجل والإيمان بوجوده ذلك الدافع القوي الذي يُلجئ الإنسان عند المصائب والمخاطر إلى نداء الله تعالى، والاستغاثة به كائناً من كان ذلك الإنسان مؤمناً أو غير مؤمن ففي الشدة تبدو فطرة الناس جميعاً كما هي في أصلها الذي خلقها الله عليه، وعندما تمر المحنة وتأتي العافية والنعمة يعودون إلى مخالفة فطرتهم من جديد، ويندر أن لا يذكر إنسان أمثلة من حياته عاش فيها هذا المعنى قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإنسان كَفُورًا} [الإسراء: 67]

وكثيراً ما تنكشف الحجب عن الفطرة، فتزول عنها الغشاوة التي رانت عليها عندما تصاب بشدة، أو تقع في مأزق لا تجد فيه من البشرعوناً، وتفقد أسباب النجاة، فكم من ملحد عرف ربّه ورجع إليه عندما أحيطت به شدة، وكم من مشرك أخلص دينه لله لضرّ نزل به، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22]

3 ـ التساؤلات الفطرية عن الوجود: هناك أسئلة تدور في ذهن الإنسان وتلح على الإنسان في داخله لا يستطيع دفعها عن أصل الوجود ونهايته وسببه، وعن الموت وأسراره، وعن الروح وأسرارها مما يدل على وجود فطرة كافية في النفوس تبرز هذه الأسئلة عن الإله والوجود.

كيف تناظر ملحدا؟ (41)

4 ـ احتياج النفس إلى قوة مدبرة: لا ريب أن كل إنسان يشعر في قرارة نفسه بافتقار وحاجة إلى إله قادر مدبر، يرفع إليه حاجاته، ويسند إليه أموره، وهذا الشعور ناشئ عن النقص والعجز الذاتي في أنفسنا، والعاجز يفتقر أبداً إلى من يعينه، والناقص دائماً يحتاج إلى من يكمله.

فنحن نشعر بوجود الروح فينا فنحرص عليها دون أن نشعر بها بإحدى الحواس الظاهرة وفي أنفسنا نشعر بالعواطف والوجدانيات، كالحب والبغض والرغبة والكره، فما الدليل على وجودها فينا وهي متغلغلة في داخلنا هل نستطيع أن نقيم عليها دليلاً أكثر من أننا نشعر بها وهي حق لا شك فيه كذلك حاجة النفس إلى قوة مدبرة.

وتثار حول هذا البرهان بعض الشبهات، وهذا هو تقريرها وكيفية الرد عليها (1):

1 ـ لوكانت معرفة الله فطرية لما أنكرها أحد: والجواب على هذا هو أن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً ضرورياَ في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة.

وما يحصل من ضلال أوانحراف في هذه الفطرة أمر طارئ على هذه الفطرة السليمة فالإنسان قد تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف عن المعبود الحق، والبشر جميعا في كل العصور يبحثون عن إله يعبدونه، وهذا استجابة لنداء مرتكز وموجود في داخلهم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن من أثر عنه إنكار الخالق في البشر قليلون جداً على مرّ التاريخ مقارنة مع من يثبت وجوده، وهذه القلة على قسمين:

أحدهما: من ينكر وجود الله ظاهراً فقط، مع إيمانه بخلاف ذلك في قرارة قلبه، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]

والثاني: هو في الحقيقة معترف بوجود صانع مدبر خالق ظاهراً وباطناً، غير أنه يحيل

__________

(1) المرجع السابق.

كيف تناظر ملحدا؟ (42)

ذلك إلى الطبيعة أوغيرها، مما يدل على وجود علوم أولية فطرية مشوبة بالمؤثرات الخارجية.

2 ـ تطلع العقلاء إلى الاستدلال على وجود الله: فلوكان أمرا فطريا لما كان ذلك، والجواب: أننا لا نسلم أن جميع العقلاء كذلك، بل جمهور العقلاء مطمئنون إلى الإقرار بالله تعالى، وهم مفطورون على ذلك، ولهذا إذا ذكر لأحدهم اسمه تعالى، وجد نفسه ذاكرة له مقبلة عليه، كما إذا ذكر له ما هومعروف عنده من المخلوقات.

والمتجاهل الذي يقول: إنه لا يعرفه، هوعند الناس أعظم تجاهلاً ممن يقول: إنه لا يعرف ما تواتر خبره من الأنبياء والملوك والمدائن والوقائع، وذلك عندهم أعظم سفسطة من غيره من أنواع السفسطة، ولهذا من تتبع مقالات الناس المخالفة للحس والعقل وجد المسفسطين فيها أعظم بكثير من المسفسطين المنكرين للصانع، فعلم أن معرفته في الفطرة أثبت وأقوى.

والاستدلال على وجود الله رغم دليل الفطرة من باب تعدد الأدلة، وتعدد الأدلة يزيد في التصديق، واليقين، والمعرفة، والإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة.

3 ـ لوكان التوجه إلى الله أمراً فطرياً لما عبد الناس في مختلف العصور آلهة شتى: والجواب على ذلك هو أن الإنسان إذا لم يهتد إلى الله تعالى فإنه يُعبِّد نفسه لأي معبود آخر ليشبع في ذلك نهمته إلى التدين، وذلك كمن استبد به الجوع فإنه إذا لم يجد الطعام الطيب الذي يناسبه فإنه يتناول كل ما يمكن أكله ولوكان خبيثا ليسد به جوعته.

4 ـ فساد هذا الدليل بسبب وجود الملاحدة: والجواب على ذلك هو أن من فسدت فطرته لا يمكن إصلاحها إلا بالحجج والبراهين العقلية، والتي قد لا تجدي معه أيضا، مثل المريض النفسي الذي تنتابه الأوهام التي لا يمكن دفعها عنه بالإقناع أوالتفاهم.

وسبب ذلك هو أن الفطرة قابلة للتغير والانحراف بفعل مؤثرات خارجية، وهذا الانحراف كان هوالسبب في وجود الوثنيات والشرك في الأمم السابقة، وهوأيضا سبب الشرك

كيف تناظر ملحدا؟ (43)

والضلال في زمننا الحاضر.

2 ـ برهان الصديقين

وقد سمي بهذا الاسم لكونه لم يستخدم أي واسطة لإثبات ذات الحق (1)، فالاستدلال فيه على ذات الله بالله، خلافا للقاعدة العامّة للاستدلال، والتي تنص على أنه لا بدّ أن يكون لكلّ برهان حدّ أوسط لإثبات مطلوبه، كما فعل المتكلّمون الذين اتّخذوا من حدوث العالم واسطة لإثبات وجود الله بوصفه [محدث الأشياء]، أو ظاهرة النّظام في العالم لإثبات المنظّم.. أو كما فعل أرسطو عن طريق الحركة، استنادا إلى أن كلّ حركة تتطلّب محرّكاً، وكلّ المحرّكين يجب أن ينتهوا إلى محرّك غير متحرّك، ومن ثمّ أثبتوا وجود الله بوصفه [المحرّك الأول]

وهكذا نرى في جميع هذه الاستدلالات أنه اتُّخذ عالم المخلوقات واسطة، فانتقلوا من الشاهد إلى الغائب، ومن العيان إلى الخفاء.

وتقرير هذا البرهان هو: إنّ حقيقة الوجود موجودة، أي إنّها عين الموجودية ويستحيل عليها العدم، ثم إنّ حقيقة الوجود في ذاتها، أي في موجوديتها وواقعيتها، ليست مشروطة بأي شرط وليست مقيّدة بأي قيد.

فالوجود بحكم كونه وجوداً موجود، وليس لوجوده مناط أو ملاك ما، وليس بفرض وجود شيء آخر أيضاً، أي إنّ الوجود في ذاته ليس مشروطاً بشرط، ثمّ إنّ الكمال والعظمة والشدّة والاستغناء والجلال والكبرياء والفعلية والإطلاق، هذه الصفات التي تقف مقابل النقص والصغر والإمكان والمحدودية والحاجة، تنبعث جميعها من الوجود، أي ليس هناك

__________

(1) انظر: أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، ج 2، ص 648، وقد عرضت للتفاصيل الكثيرة المرتبطة به وبتقريراته في كتاب [الهاربون من جحيم الإلحاد]، واقتصرت هنا باختصار على تقرير الملا صدرا له.

كيف تناظر ملحدا؟ (44)

حقيقة غير الوجود، إذاً فالوجود في ذاته يساوي اللامشروطية بشيء آخر، أي يساوي الوجوب الذاتي الأزلي، ويساوي أيضاً الكمال والعظمة والشدّة والفعلية.

ونستنتج من هذا أنّ حقيقة الوجود في ذاتها ومع قطع النظر عن أيّ تعيّن يلحقها من الخارج تساوي الذات الأزلية، إذاً فأصالة الوجود تقود عقلنا بشكل مباشر إلى ذات الحقّ لا إلى شيء آخر.. وما سوى الحقّ لا يتعدّى أفعاله وآثاره وظهوراته وتجلّياته، ومن ثمّ لا بدّ من العثور عليه بدليل آخر.

وهذه الواقعيّة التي ندفع بها السّفسطة ونجد كلّ ذي شعور مضطرًّا إلى إثباتها، وهي لا تقبل البطلان والرّفع لذاتها، حتّى إنّ فرض بطلانها ورفعها مستلزم لثبوتها ووضعها، فلو فرضنا بطلان كلّ واقعيّة في وقتٍ أو مطلقًا كانت حينئذٍ كلّ واقعيّة باطلة واقعًا، أي الواقعيّة ثابتةـ وكذا السّوفسطي لو رأى الأشياء موهومة أو شكّ في واقعيّتها، فعنده الأشياء موهومة واقعًا والواقعيّة مشكوكة واقعًا، أي هي ثابتة من حيث هي مرفوعة.

وإذا كانت أصل الواقعيّة لا تقبل العدم والبطلان لذاتها فهي واجبة بالذّات، فهناك واقعيّة واجبة بالذّات والأشياء التي لها واقعيّة مفتقرة إليها في واقعيّتها، قائمة بالوجود بها.

بعد هذه المقدمة، فإننا إذا نظرنا إلى العالم نظرة حسّية وعلمية نجد أنّ العالم يقبل العدم، أي إنّنا نجد الواقع الحسّي محدوداً مشروطاً، فنتعامل مع وجودات توجد في موقع وتفقد في موقع آخر، أو توجد في حين وتفقد أحياناً أخرى، وهي توأم النقص والجزئية والإمكان والمحدودية والمشروطية والتبعية.

ومن ثمّ نضّطر إلى القول بأن (العالم ليس هو عين الواقع الذي لا يقبل النفي، بل يتوفّر على الواقع بواسطة، وبدونها يضحي بلا واقع)، أي إنّنا نحكم بأنّ العالم ليس هو عين حقيقة الوجود، بل العالم ظل الوجود، إذاً فالعالم أثر، وهو ظهور وتجلٍ وشأن واسم.

وبناء على هاتين المقدمتين، فإن العقل الفلسفي المرتكز على المعرفة الوجودية، انطلاقاً

كيف تناظر ملحدا؟ (45)

من أنّ الوجود وجود، يقودنا قبل كلّ شيء إلى الله، وهو أوّل موجود نتعرّف إليه.

أمّا القراءات التّجريبيّة والحسّيّة فتقودنا إلى الوجودات المحدودة والمقيدة والمشروطة والممكنة التي هي آثاره وأفعاله وتجلّياته وشؤونه، وعلى هذا المنوال نكتشف الواجب ونكتشف الممكن أيضاً.

على أنّ الثابت في أبحاث الإلهيات أنّ طريق كشف الممكن لا ينحصر في ما تقدّم، بل يمكن اكتشاف الممكن بواسطة الواجب، كما أنّ اكتشاف الواجب لا ينحصر بالطريق المتقدّم، بل يمكن اكتشاف الواجب عن طريق الممكن.

بناء على هذا التقرير فإن برهان الصدّيقين، بحسب تقرير [صدر المتألهين] لا يحتاج إلى أكثر من تعقّل الوجود بما هو وجود، والالتفات إلى أصل الواقعية، وهو يقوم على مجموعة من الأسس، وهي:

1. أصالة الوجود: أي إنّ ما له التحقّق هو حقيقة الوجود، والماهيات موجودة بالعرض والمجاز.

2. وحدة الوجود: أي إنّ حقيقة الوجود لا تقبل الكثرة المتباينة والاختلاف الذي تقبله هو تشكيكي ورتبي، فإمّا أن يكون مرتبطاً بالشدّة والضعف والكمال ونقص الوجود، وإمّا أن يكون مرتبطاً بالامتداد والاتّصال الذي هو نوع من تشابك الوجود والعدم. وعلى كلّ حال فالكثرة المتصوّرة في الوجود كثرة في توأم الوحدة، وهي عين الوحدة من زاوية من الزوايا (الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة).

3. إنّ حقيقة الوجود لا تقبل العدم: فالموجود من حيث هو موجود لا يعدم، والمعدوم من حيث كونه معدوماً لا يوجد، وحقيقة عدم الموجودات عبارة عن محدودية الموجودات الخاصّة، لا أنّ الوجود يقبل العدم، وبعبارة أخرى العدم نسبي.

4. حقيقة الوجود بما هو، تساوي الكمال والإطلاق والغنى والشدّة والفعلية والعظمة

كيف تناظر ملحدا؟ (46)

والجلال والإطلاق والنورية، بصرف النظر عن أيّ حيثية وجهة تنضمّ إليه، أي حقيقة الوجود. أمّا النقص والتقيّد والفقر والضعف والإمكان والصغر والمحدودية والتعيّن فكلّها من العدم. إذاً، تنشأ كلّ تلك السمات من العدم، وحقيقة الوجود تقف مقابل العدم، وما هو من شؤون العدم خارج عن حقيقة الوجود، أي إنّه منفي عن حقيقة الوجود ومسلوب منها.

5. طروّ العدم وشؤونه والنقص والضعف والمحدودية وغيرها ينشأ من المعلولية، أي إذا كان الوجود معلولاً وفي مرتبة متأخّرة من علّته، فهو في الطبع ذو مرتبة من النقص والضعف والمحدودية، لأنّ المعلول عين الربط والتعلّق والإضافة بالعلّة، ولا يمكن أن يكون في مرتبة العلّة، والمعلول كونه مفاضاً من العلّة فهو عين التأخّر عن العلّة، وعين النقص والضعف والمحدودية.

ومن الشبهات التي تعرض لهذا البرهان القول بأنه من الممكن أن ينشأ وهم بشأن استنتاجنا بأنّ ما هو موجود ينحصر في ذات الواجب وشؤونه وظهوراته وتجلّياته، فيقال إنّ هذا يستلزم نفي العلّية والمعلولية أساساً، بل نفي الممكن والإمكان، لأنّ الفرض هو عدم وجود شيء في البين سوى ذات الحقّ وشؤونه وأسمائه.

لكن هذا الوهم باطل، إذ ينشأ هذا الوهم من عدم إدراك المفهوم الصحيح للعلّية والمعلولية، فيحسب أنّ العلّية لون من الولادة تفرض للعلّة، فتفرز من ذاتها شيئاً إلى الخارج، وتكون حاجة المعلول إلى العلّة نظير حاجة الولد إلى الأم.

لكنّ دراسات صدر المتألهين خصوصا أثبتت أنّ المعلول عين الحاجة وعين الارتباط والتعلّق والارتهان بالعلّة، فالعلّة مقوّمة لوجود المعلول، ومن ثمّ تكون المعلولية مساوية للظهور والشأنية. إذاً، لا منافاة بين هاتين النظريتين.

3 ـ البرهان الوجودي

ويطلق عليه كذلك [البرهان الأنطولوجي]، وله تقريرات مختلفة تبدأ من الراهب

كيف تناظر ملحدا؟ (47)

أنسلم، وتنتهي بالفيلسوف الكبير [رينيه ديكارت]، والذي يعتبر بحق [مؤسس الفلسفة الحديثة]

وحتى تتوضح قيمة هذا البرهان، نذكر أنه كان في أوروبا في ذلك الزمان تياران كلاهما يحاول أن يواجه الإلحاد بأسلوبه الخاص:

أما التيار الأول، فتمثل في التوجه الأكويني المنتسب لـ[توماس الأكويني] الذي بنى براهينه على أساس اثنينية العقل والله متأثرا بأفكار أرسطو، وبطروحات الفيلسوف ابن رشد وأتباعه.

أما التيار الثاني، فهو التوجه الأغوسطيني الإيماني الذي بنى براهينه على أساس اثنينية النفس والله، وقد تأثر أيضا بالأفكار الصوفية الإسلامية، والتي تدعو إلى البدء في الرحلة من الله للوصول إلى أكوانه.. بل ربما يكون تأثر بالطرح القرآني نفسه، والذي يعتبر الله حقيقة بديهية لا تحتاج إلى أي براهين تدل عليها، فالله تعالى يخبر عن منهج دعوة الرسل لأقوامهم، فيقول: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض} [إبراهيم: 10]

بل إن القرآن الكريم يذكر أن وجود الله حقيقة نفسية موجودة حتى في نفوس الملاحدة أنفسهم، وأن سبب عدم اعترافهم بها هو كبرهم وجحودهم، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].. ولذلك كان كفرهم هو كفر نفسي، قبل أن يكون كفرا عقليا.. أي أنهم كفروا بحقائق آمنت بها أنفسهم، ودلت عليها فطرهم، لكنهم لكبرهم جحدوها.

وقد كان من أبرز أعلام هذه المدرسة، وربما يكون ديكارت من المتأثرين به والمتتلمذين على يديه الفيلسوف والمتأله [أنسيلم] (1)، والذي تحول في ذلك العصر إلى أفضل ممثل للتوجه

__________

(1) انظر مقالا بعنوان: البرهان الأنطولوجي عند أنسيلم، عبد العالي العبدوني.

كيف تناظر ملحدا؟ (48)

الأغوسطيني المؤسس على الإيمان والعرفان.. وميزته أنه حاول أن يكون حلقة وصل بين الأغوسطينية والتوماوية، أو بين الإشراق الداخلي والتأمل العقلي.

فقد قدم في كتابه [بروسلجيون]، نفسه على أنه الساعي لـ (إيجاد حجة دامغة لا بد أن تكفي ـ وحدها ـ في البرهنة على أن الله موجود حقا، وأنه الخير الأسمى، وأنه غني عن العالمين، وأن جميع الخلق يحتاجون إليه في وجودهم وفي سعادتهم، وفي البرهنة على كل ما نعتقده في الجوهر الإلهي) (1)

ومن التقريرات التي قرر بها هذا البرهان: إنكم مهما تصورتم من كائن ممكن الوجود على أنه أكبر شيء، فسوف تجدون بأنه ليس ذلك الكائن الأكبر، لأنه ليس بوجود حقيقي.. ولهذا السبب يجب على الكائن ذي الكمال المطلق أن يحتوي في وجوده، إلى جانب الكمالات الأخرى، الوجود الواقعي الكامل.. فالوجود الحقيقي هو المكون الماهوي لهذا الكائن اللامتناهي، بخلاف باقي الموجودات الممكنة والتي لا تمتلك هكذا ماهية.

ومنها: إذا كان الله إلها، فإن الله موجود فالوجود الإلهي كفيل للقول بوجود الله.

ومنها: البرهان على وجود الله لا يبدأ من الوجود، بل من فكرة الله نفسها.. ولما كان الله هو ما لا يتصور أعظم منه.. أي الموجود الكامل، وكأن الوجود أحد هذه الكمالات، فالله موجود.. فالموجود الكامل لا يوجد فقط في الذهن، بل أيضا في الواقع وإلا كان مجرد تصور، ولا فرق في ذلك بين المؤمن وغير المؤمن، فهو دليل طبيعي مفطور عليه الإنسان.

ومنها (2): إن الموجود الذي لا يمكن تصور شيء أعظم منه لا يمكن أن يوجد في العقل

__________

(1) نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط: أوغسطين – أنسيلم – توما الأكويني، حسن حنفي، ص 137.

(2) إميل برهييه في تاريخ الفلسفة (3/ 51)

كيف تناظر ملحدا؟ (49)

وحده، وبالفعل، حتى إذا كان موجودا في العقل وحده، فمن الممكن أن نتصور موجودا مثله له وجود في الواقع أيضا، وهو بالتالي أعظم منه، وعليه، إذا كان موجودا في العقل وحده، فإن الموجود الذي لا يمكن تصور شيء أعظم منه سيكون من طبيعة تستلزم أن يكون بالإمكان تصور شيء أعظم منه.

وحتى أبسط هذه التقريرات، فقد وضعت حوارا في كتابي [الهاربون من جحيم الإلحاد] على لسان أنسلم وبعض محاوريه، جاء فيه:

قال المحاور: أرى أنك تتكلم كلاما غريبا، لا دلالة له، فهلا وضحته لي، ولهؤلاء الذين يحيطون بك.

قال أنسلم: أجبني.. هل يمكن أن تتصوَّر أي شيء في الذّهن مهما كان عظيما؟

قال المحاور: نعم.. يمكنني ذلك.

قال أنسلم: فهل يمكن أن تتصوَّر ما هو أعظم من ذلك الشَّيء الّذي ورد في خيالك؟

قال المحاور: نعم، يمكن تصوّر شيء أعظم من ذلك.

قال أنسلم: فلنسمِّ هذا الأعظم الذي لا أعظم منه [الله].. أترى أن هذا خاص بك، أم يشمل جميع الناس؟

قال المحاور: بل جميع الناس يستوون في هذا.. حتى الأحمق يمكنه أن يتصوَّر هذا الشَّيء الأعظم في ذهنه؟

قال أنسلم: فهل هذا الشيء الّذي يتصوره الجميع.. المؤمن وغير المؤمن.. موجود في الذهن فقط أم موجود في الذهن، وفي الواقع؟

قال المحاور: ربّما يكون موجودا في الذهن فقط.

قال أنسلم: ألا ترى أننا حين نذكر أنَّ هذا الأعظم موجود في الذّهن فقط نكون قد حقرناه، ولم نعطه أي قيمة، بل إن أي موجود مهما كان حقيرا يصبح أعظم منه.. وبالتّالي فإنَّ

كيف تناظر ملحدا؟ (50)

هذا الأعظم لا يبقى عظيمًا.

قال المحاور: هذا صحيح...

قال أنسلم: فإذن ليكون هذا الأعظم عظيمًا ينبغي أن يكون موجودًا في الذّهن وفي الواقع.

قال المحاور: نعم، بكلّ تأكيد.

قال أنسلم: إذن، مادمنا نستطيع تصوُّر هذا الموجود الأعظم، والّذي هو الله، فإنَّ هذا يعني أن الله موجود في الذّهن وفي الواقع.

ومن الاعتراضات التي اعترض بها على هذا البرهان ما ذكره راهب مارموتيو، والذي كتب كتابا حاوره فيه على لسان شخص غير مؤمن بوجود خالق للكون قال له فيه: يلزم من برهانك هذا أن مجرد التصور لشيء ما يستلزم وجوده الخارجي.. وبناء على قولك هذا توجد [الجزيرة المثلى].. ولو أن الجزيرة المثلى لم توجد، فإن ذلك سوف يتناقض مع كونها مثلى.. وعليه فإنها وغيرها مما نعتبرها مثاليًا، يجب وجوده.. وهذا أمر غير منطقي؛ لأن الجزيرة المثلى لا توجد بالفعل.. وإذا كانت البراهين الموازية للبرهان الأصلي غير منطقية فالأخير يكون غير منطقي كذلك.

وقد كتب له أنسلم ردًا يقول له فيه: (فرق كبير بين الوجود الواجب، والوجود الممكن.. أما الجزيرة التي ذكرتها ورحت تشنع بها علي فهي ممكنة، ووجودها ممكن؛ لأنه يفتقر إلى وجود البحر والأرض، والجزر نفسها لا يلزم وجودها، فهو إذن وجود غير واجب.. فكيف تبطل ما ذكرت بما ذكرت.. وكيف تبطل بالممكن الواجب)

أما ديكارت، والذي كان له دور كبير في عصره وغيره من العصور، حيث راح يلغي ثنائية العقل والإيمان، باطراح الإيمان، وإعادة حقوق العقل إليه، وتخليصه من الحسبانية، وقضائه على الشك، بسلاحٍ مأخوذٍ من الشك نفسه، كما عبر عن ذلك بقوله: (إن قضية [أدرك

كيف تناظر ملحدا؟ (51)

فأنا إذن موجودٌ] حقيقةٌ بديهية، وهذه الحقيقة لا تسقط في أي زمان بساحة الذاكرة، ولا تزال غير فاقدة لبداهتها حتى تصل إلى الله؛ فإذا وصلت إليه تُيقِّن أن العقل أنشئ لفهم الحقيقة، ويتضمن هذا اليقينَ المقدماتُ المستخدمة في إثبات وجود الله أيضاً) (1)

وهو يقصد بذلك أنه يشك في كل ما ليس بمبرهن عليه، ولا يُقبَل، ما عدا الظاهر بذاته، أو بغيره، أو تدل الأدلة والبراهين عليه..

وقد مارس بذلك ما مارسه جميع المؤمنين الذي قد ينطلقون من الشك، ليحققوا الإيمان، فالخروج من الإيمان الوراثي يستدعي طرح تساؤلات تشكيكية ليصل صاحبها بعدها إلى بحر الحقيقة الذي لا ساحل له.. ولذلك يحتاج إلى أن يبحر في زورق صحيح من البراهين العقلية، ليتمكن من الاستمرار في الطريق.

لقد فعل ذلك الكثير من الفلاسفة والمفكرين، ومنهم [طوماس في سوم أولوزيك] الذي بدأ أبحاثه الإلهية بطرح هذا السؤال: (هل الله موجود؟)، ثم راح يجيب عليه بقوله: (و ليكن جوابنا بالنفي).. ثم راح يورد الاعتراضات العقلية على ذلك النفي إلى أن أثبت الوجود.

والميزة التي جعلت من ديكارت أستاذا للإيمان كما أنه أستاذ في الفلسفة هو اعتباره لموجودية الإدراك الأساس الذي ينطلق منه اكتشاف الحقائق، كما عبر عن ذلك بقوله: (مهما كان ترتيب المعاني، الذي يراد تقريره في الفلسفة، فالشيء الذي يبقى حقيقة دائماً، هو الشعور؛ فقد أشك في وجود الأجسام، وقد أشك في وجود الله، وفي الحقائق الرياضية؛ لكن لا أشك أصلاً في وجود شعوري، لأن شكي في وجود شعوري، شعورٌ أيضاً؛ والحال أن شعوري، أي شكي معناه أني موجودٌ، فإن من لا يوجد، لا يشكُّ أيضاً؛ وبناءً عليه، فأنا مدرك، شاعرٌ، موجودٌ، من حيثُ أني مدركٌ، إن لم أكن موجوداً بأي حيثية)

__________

(1) المطالب والمذاهب، (ص: 68).

كيف تناظر ملحدا؟ (52)

وبناء على هذا لم يستعمل ديكارت الأدلة الطبيعية.. لا الدليل الكياني.. ولا دليل العلة الغائية.. الذي استعمله سائر الفلاسفة.. لأنه رأى أن وجودَ الكائنات المادية يحتاج أولا إلى إثبات وجودها إلى وجود الله؛ والذي لا يحتاج في إثبات وجوده إلى وجود الله، إنما هو وجود نفسه، فلا دور.. فوجود نفسه، المستفاد من إدراكه، هو الحقيقة الأولى الثابتة، ثم يترتب عليه وجود الله، ثم يترتب عليه ثبوت وجود العالم.

ففلسفة ديكارت بهذا تمتاز بكونه أثبت وجود الله، قبل إثبات وجود العالم المادي، واستدل عليه من وجود نفسه الناطقة، ووجود شعوره، وتمتاز أيضاً بكونه بنى حقية وجود العالم على صدوقية الله.

لعل كل ذلك.. وكل تلك المعاني السامية التي أشار إليها ديكارت متضمنة في قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن أحقية ربوبية الله للكون بدليل شعوري نفسي وهو النطق.. فكما أن الإنسان يشعر بنطقه، ولا يجادله أحد في وجوده، فإن ذلك الشعور لابد أن يكون أداته ووسيلته للوصول إلى الحق.

بناء على هذا، راح ديكارت مثله مثل أنسلم والقديس أوغسطين وغيرهما من الفلاسفة والباحثين عن الله يخاطبون زمر المشككين واللاأدريين والملاحدة بقوله: إذا قلت الله، فإني أفهم منه جوهراً أزلياًّ غير متناهٍ، ولا قابلٍ للتغير، عليماً، قديراً، أوجدني وسائر الأشياء على تقدير ثبوتها.. فمن أين يأتيني هذا المفهوم؟.. ومن حيث أنه معنى من المعاني، يلزم أن يوضح منشأه؟.. وهب أني لكوني جوهراً، أتصور في نفسي جوهراً غيري، ولكني جوهرٌ متناهٍ؛ فكيف أتصور جوهراً غير متناهٍ؟.. ألا يكفي هذا للدلالة على وجود الله؟

كيف تناظر ملحدا؟ (53)

وكان يقول ـ مخاطبا علماء الرياضيات والهندسة (1) ـ: من الحقائق ما هو ضروريٌّ أزلي، وتلك الحقائق لا تخرج من أن تكون حقاًّ، ولو لم يوجد شيءٌ من الأشياء، التي تعمل فيها، مثلاً إن زوايا المثلث مساوية لقائمتين، فلا تحتاج هذه الحقيقة في أن تكون حقاًّ، إلى تحقق أي مثلث في الواقع، ولا تحتاج أيضاً إلى وجود الذهن الإنساني ليعلمها، فهي حقٌّ، ولو لم يوجد إنسان في الدنيا، وإذا لم يكن لها أي توقف على العالم، ولا على الروح الإنسانية، لزم أن تكون مربوطة بوجود آخر.

وكان يقول مخاطبا لهم: إن وجود الله يقيني، أكثر من يقينية الدعاوى الهندسية، والقوانين الرياضية، لأن تلك الدعاوى، وتلك القوانين التي لا تحتاج في كونها حقاًّ، ثابتةٌ إلى وجود ما تنطبق عليه من الكائنات في العالم، ولا في أذهان من يتصورونها من علماء البشر الرياضيين.

وكانوا يقول مخاطبا الذين لم يستسيغوا رفض التسلسل، ولم تقنعهم البراهين المرتبطة بذلك: أنتم لستم في حاجة للبرهنة على بطلان التسلسل، فبقاء الكون على ما عليه دليل على الله.. ذلك أن حفظ الجوهر، وإبقاءه، عينُ خلقه.. فمن خلقني سابقاً، هو الذي يبقيني حالاً؛ مع أني لا يمكنني إن لم أسنده إلى من يملك جميع الكمالات، وأجد مفهومه في ذهني، أن أسنده لا إليّ، ولا إلى والديّ، ولا إلى أيّ علة أخرى.

وكان يرد على الذين يناقشونه في هذا الدليل بقوله: إن العلة الموجدة لأي شيء، يلزم أن تبقى ما دام معلولها باقياً، حتى لو زالت علته، انعدم معها المعلول، فيكون زوال العلة علةٌ لعدم الحادث؛ ومن هنا يقال: (علة العدمِ، عدم العلة)

ومن أحسن تقريراته للدليل الوجودي ما عبر عنه بقوله: (إني لأتصور هذه المشابهة

__________

(1) هذا الاستدلال في إثبات وجود الله للفيلسوف بوسسوئه، وهو يشبه ما يطرحه ديكارت..

كيف تناظر ملحدا؟ (54)

المتضمنة لفكرة الله بعين الملكة التي أتصور بها نفسي، أي أني حيث أجعل نفسي موضوع تفكيري، لا أتبين فقط أني شيء ناقص، غير تام، ومعتمد على غيري، ودائم النزوع والاشتياق إلى شيء أحن وأعظم مني، بل أعرف أيضاً وفي الوقت نفسه أن الذي اعتمد عليه يملك في ذاته كل هذه الأشياء العظيمة التي أشتاق إليها، والتي أجد في نفسي أفكارً عنها، وأنه يملكها لاعلى نحو معين أو بالقوة فحسب، بل يتمتع بها في الواقع وبالفعل وإلى غير نهاية، ومن ثم أعرف أنه هو الله)

وعبر عنه في محل آخر، فقال: ما دمتم لا تنظرون إلى أنفسكم.. فانظروا إلي أنا جيدا.. انظروا إلى ديكارت.. وسترون أنه موجود غير تام الكمال.. بل ناقص.. وهو ليس الكائن الوحيد في الوجود، إذ لابد لوجوده من علة.. والعلة لابد أن تكون مكافئة على الأقل للمعلول إن لم تكن أكثر منه فضلاً وكيفاً.. وبما أن ديكارت الذي يقف أمامكم ليس علة لوجود نفسه، إذ لو كان كذلك لاستطاع أن يحصل من نفسه لنفسه على كل مايعرف أنه ينقصه من الكمالات، لأن الكمال ليس إلا محمولاً من محمولات الوجود، والذي يستطيع أن يهب الوجود يستطيع أن يهب الكمال.. والتأمل في هذا يدلكم على وجود علة وجوده، وهي ذات تتوفر على كل ما لا يمكن تصوره من الكمالات وهذه هي ذات الله تعالى (1).

وعبر عنه في محل آخر مخاطبا به بعض المهندسين والرياضيين، فقال: كما أن فكرتنا عن المثلث تستتبع أن تكون زواياه الداخلية مساوية لقائمتين (180 درجة)، كذلك فإن فكرتنا عن الله باعتباره كائناً كاملاً متناهياً تستلزم وجوده بالضرورة.. ففكرة الوجود متضمنة في تعريف المثلث.. وعليه فإذا كان من التناقض أن نعتبر الزوايا الداخلية للمثلث لاتساوي قائمتين، فمن

__________

(1) الفلسفة الحديثة من ديكارت إلى هيوم، ص 97. وانظر: دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، د/ يحي هويدي، ص 46.. بتصرف.

كيف تناظر ملحدا؟ (55)

التناقض كذلك أن نعتبر الله غير موجود، لأن الوجود متضمن في ماهية الله على نحو ما تكون مساواة الزوايا الداخلية للمثلث لقائمتين متضمنة في تعريف المثلث.

ويذكرنا هذا البرهان الأخير ببرهان ذكره [ابن حزم]، وهو مهم خصوصا لمن لهم ميول رياضية، وهذا ملخصه (1): إن خاصة العدد هو أن يوجد عدد آخر مساو له، وعدد آخر ليس مساوياً له، هذا لا يخلو منه عدد أصلاً.. المساواة هي أن تكون أبعاضه كلها مساوية له إذا جزئت.. فالفرد والفرد مساويان للاثنين، والزوج والفرد ليسا مساويين للزوج الذي هو الاثنان، والخمسة مساوية للاثنين والثلاثة، غير مساوية للثلاثة.. وهكذا كل عدد في العالم.

فكل ما كان له أبعاض فهو مركب كثيراً بلا شك، فهو إذن بالضرورة ليس واحداً، فالواحد ضرورة هو الذي لا أبعاض له.

وبناء على هذا، فإن الحس وضرورة العقل يشهدان بوجود الواحد، إذ لو لم يكن الواحد موجوداً لم يقدر على عدد أصلاً، إذ الواحد مبدأ العدد والمعدود الذي لا يوصل الى عدد ولا معدود إلا بعد وجوده، ولو لم يوجد الواحد لما وجد في العالم عدد ولا معدود أصلاً.

وبما أن العالم كله أعداد ومعدودات موجودة.. فإن الواحد لابد أن يكون موجودا بالضرورة، ذلك أنه لو نظرنا في العالم كله نظراً طبيعياً ضرورياً لم نجد فيه واحداً على الحقيقة البتة بوجه من الوجوه، لأن كل جرم من العالم منقسم.. محتمل للتجزئة.. متكثر بالانقسام أبداً بلا نهاية.. وكل حركة فهي أيضاً منقسمة بانقسام المتحرك بها الذي هو المدة.. وكذلك كل معقول، من جنس أو نوع أو فصل.. وكذلك كل عرض محمول في جرم فإنه منقسم بانقسام حامله.. وهذا أمر يعلم بضرورة العقل والمشاهدة.

وبما أن أمر العالم هكذا، وليس في العالم واحد البتة.. وبما أن البرهان قائم على ضرورة

__________

(1) انظر: الفصل لابن حزم 1/ 83 - 84.

كيف تناظر ملحدا؟ (56)

وجود الواحد، فإذن لابد من وجوده.. وبما أنه ليس في العالم، فهو إذا شيء غير العالم.

ثالثا ـ العناية الرحيمة

ونقصد بها أصناف الأدلة التي استعملها الفلاسفة والمتكلمون والعلماء، والتي تتعلق بالنظر إلى عناية الله بعباده ورحمته بهم، عبر المظاهر المختلفة لتلك العناية، والتي دل العلم الحديث على تفاصيل الكثير منها.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من الاستدلال عند ذكره لنعم الله على عباده، فالله تعالى يخاطب عباده بكل حنان ورحمة، ويقول لهم: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)} [النبأ: 6 ـ 16]

وهذا النوع من البراهين يحوي الكثير من البراهين الفرعية التي لا عداد لها، لأن نعم الله لا عد لها، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]، وقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]

ولهذا يبتلي الله عباده بسلب النعم، لا عقوبة لهم، وإنما تأديبا وتربية ليكتشفوا حقيقة المنعم، لأنه لا سعادة لهم إلا في جواره وصحبته، والعيش في ظلال رعايته وعنايته، وقد ذكر الله تعالى ذلك التأديب الإلهي الذي حصل لقوم فرعون عندما أعرضوا عن موسى عليه السلام، والذي نص عليه قوله تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)}

كيف تناظر ملحدا؟ (57)

[الأعراف: 132 ـ 134]

وقد ذكرت في كتاب [الهاربون من جحيم الإلحاد] الكثير من البراهين المرتبطة بهذا النوع، أكتفي هنا بتلخيص أحدها، وهو ما أطلقت عليه [برهان التسخير]، والذي ذكرت فيه اهتمام ابن رشد به، ودعوته إليه، واعتباره أفضل من الأدلة التي يستعملها المتكلمون والفلاسفة.

وقد قال معبرا عن ذلك: (الطريق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها إذا استقراء الكتاب العزيز وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما: طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجلها ولنسم هذه (دليل العناية).. والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل، ولنسم هذه (دليل الاختراع)

ثم ذكر وجه الاستدلال على البرهان الأول [برهان العناية].. فذكر أنه ينبني على أصلين بقدر فهمهما والرسوخ في معرفتهما، بقدر ما يتوضح البرهان، وتزال الإشكالات المرتبطة به.

أما الأصل الأول، فهو (أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود الإنسان)، وأما الأصل الثاني، فهو (أن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك، مريد، إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق.. أي صدفة)

ثم فصل بعض الحقائق المرتبطة بالأصل الأول، فقال: (فأما كونها موافقة لوجود الإنسان، فيحصل اليقين بذلك باعتبار موافقة الليل والنهار، والشمس والقمر لوجود الإنسان، وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة له، والمكان الذي هو فيه أيضا وهو الأرض، وكذلك تظهر أيضا موافقة كثير من الحيوان له والنبات والجماد وجزئيات كثيرة مثل الأمطار والأنهار والبحار، وبالجملة، الأرض والماء والنار والهواء، وكذلك أيضا تظهر العناية في أعضاء البدن وأعضاء الحيوان، أعني كونها موافقة لحياته ووجوده.. وبالجملة فمعرفة ذلك أعني منافع

كيف تناظر ملحدا؟ (58)

الموجودات داخلة في هذا الجنس، ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن منافع المجودات)

وهكذا ذكر [دلالة الاختراع] على الله، ولها علاقة أيضا بـ[دلالة العناية]؛ فذكر أنها أيضا تنبني على أصلين موجودين بالقوة في جميع فِطر الناس، أما أحدهما، فهو (أن هذه الموجودات مخترعة.. فإنا نرى أجساما جمادية، ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعا أن ها هنا موجدا للحياة ومنعما بها، وهو الله تبارك وتعالى.. وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما ها هنا ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة)

وأما الأصل الثاني، فهو (أن كل مُخترَع فله مُختَرِع، فيصح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلا مخترِعا له)

وبناء على هذا، فقد دعا ابن رشد إلى البحث في الآفاق والأنفس للتعرف على الله.. فقد نصب الله دلائل التعرف عليه في مخلوقاته، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]

يقول في ذلك: (ولذلك كان واجبا على من أراد معرفة الله حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185].. وكذلك أيضا من تتبع معنى الحكمة في وجود موجود، أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق، والغاية المقصودة به كان وقوفه عى دليل العناية أتم)

ثم ذكر أن هذا النوع من الأدلة هو الذي دلت عليه النصوص المقدسة، ففي القرآن الكريم الكثير من (الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز وهي منحصرة في هذين الجنسين من الأدلة، فذلك بيّن لمن تأمل الآيات الواردة في

كيف تناظر ملحدا؟ (59)

الكتاب العزيز في هذا المعنى.. وذلك أن الآيات التي في الكتاب العزيز في هذه المعنى إذا تصفحت وجدت على ثلاثة أنواع: إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية، وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع، وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعا)

رابعا ـ الصنعة العجيبة

ونقصد بها أصناف الأدلة التي يستعملها علم الكلام الجديد، والعلماء المعاصرون في الدلالة على الله انطلاقا من براعة الصنعة وإتقانها، فالصنعة المتقنة تدل على الصانع المبدع.

ونستفيد هذا النوع من الأدلة من خلال ما كتبه علماء الفيزياء والفلك والطب وغيرهم في هذا الجانب، وهو ما يستدعي من الداعية الذي يريد أن يناظر الملاحدة أن يكون على اطلاع بالكثير من أمثال هذه المعارف العلمية التي تصب في بحر الإيمان.

وقد ذكرت في كتاب [الهاربون من جحيم الإلحاد] و[الكون بين التوحيد والإلحاد] و[الحياة تصميم لا صدفة] الكثير من البراهين المرتبطة بهذا النوع، وسنرى بعض ما يرتبط بها في الفصول المخصصة لهذا في هذا الكتاب.

وأحب أن أشير هنا فقط إلى برهان من تلك البراهين تحدث عنه الكثير ممن اهتم بهذا النوع من الأدلة، وهو [برهان التصميم]، وهو برهان خصص له هارون يحيى كتابه المعروف [التصميم في الطبيعة]، وقد أشار في مقدمته إلى المباني التي يتأسس عليها هذا البرهان.

فقد ذكر (1) أنه عند النظر في الكائنات المختلفة نجد أنها ذات تصميم بديع فريد ممتلئ بالغرابة.. وبما أن كل تصميم لا بد له من مصمم.. فالنتجية الطبيعية لتينك المقدمتين الضروريتين هي أنه لا بد لهذه الخلائق من خالق خلقها وقت ما يشاء، وحفظ بقاءها بقوة وحكمة مطلقة.

__________

(1) انظر: التصميم في الطبيعة: هارون يحيى، ترجمة: أورخان محمد علي.

كيف تناظر ملحدا؟ (60)

ونحن في الواقع نتعامل بهذا المنطق مع كل المنتجات، فعندما نرى العلامة الموجودة في منتصف حبة الأسبرين، يخطر على بالنا مباشرة أنها صممت خصيصا لمساعدة أولئك الذين يتناولون نصف جرعة.. وأن تلك العلامة ليست عبثا، وإنما هناك قوة خارجية وضعتها، وصممتها بذلك الشكل.

وهكذا، فإن كل منتج موجود حولنا، حتى ولو لم يكن ببساطة حبة الأسبرين، له تصميم مميز، بدءاً من المركبات التي نخرج بها إلى العمل وانتهاء بجهاز التحكم عن بعد.

ولهذا فإنه لا يصعب على أحدنا أن يفكر في أن السيارة نوع من أنواع التصاميم، ذلك لأن الهدف من تصنيعها هو نقل الأشخاص والشحنات، وحسب هذا الهدف يتم تصميم الأجزاء المختلفة مثل المحرك والإطارات وجسم السيارة، وتجميعها في المصنع.

وعندما ننتقل من هذه التصميمات البشرية إلى التصميمات الموجودة في الطبيعة نجد العجب العجاب.. فهل يمكن أن تكون تلك التصميمات التي هي أدق بكثير من تصميماتنا جاءت وحدها، ومن غير وجود مصمم صممها؟

هل يمكن أن تكون اليدان اللتان تعملان بشكل لا يمكن لأي رجل آلي أن يعمل به، والعينان اللتان تنفذان عملية الرؤية بطريقة لا يمكن لأفضل آلة تصوير في العالم أن تنفذها.. هل يمكن أن يكون كل ذلك جاء صدفة، ومن غير تصميم مقصود؟

وعندما يصل أحدنا إلى هذه النتيجة الهامة، يجد أن كل المخلوقات الموجودة على سطح الأرض، بما فيها نحن، هي في الحقيقة تصميم فريد، وكل تصميم لا بد له من مصمم، إذن: لا بد لهذه الخلائق من خالق خلقها وقت ما يشاء، وحفظ بقاءها بقوة وحكمة مطلقة.

خامسا ـ النظام البديع

ونقصد بها أصناف الأدلة التي يستعملها علم الكلام الجديد خصوصا لنفي العشوائية

كيف تناظر ملحدا؟ (61)

والصدفة.. فالنظام يحتاج إلى منظم، ويستدعيه بالضرورة العقلية، وقد ذكرت في كتاب [الهاربون من جحيم الإلحاد] الكثير من البراهين المرتبطة بهذا النوع.

وأحب أن أنقل هنا نصا قد يوضح كيفية استخدام هذا البرهان، وهو ما يرتبط بالثبات في قوانين الكون، وهو جزء من النظام الذي يحكمه.

فقد ذكرت فيه على لسان المؤمن الهارب من جحيم الإلحاد قوله: لا أزال أذكر تلك الأيام جيدا، حينها كنت أجمع بين تخصصين علميين: تخصص في العلوم القانونية، وتخصص في العلوم المادية.. وقد كان من فضل الله علي الجمع بين ذينك التخصصين.. فقد كان الأول هو من دعاني لتصحيح أخطائي عن الثاني.. وكان الثاني هو ملهمي في تعديل بعض أفكاري في التخصص الأول.

لقد كان مما شد انتباهي في الكون، كما شد انتباهي في المجتمعات القوانين التي تحكمها، فقد كنت أرى أن ثبات القوانين وحزمها ودقتها هي وحدها الكفيلة بتنظيم المجتمعات ورقيها، وأن تخلفها هو سبب كل المآسي التي تحصل لها.. وقد دفعني إلى ذلك ما كنت أراه في المجتمعات المتخلفة من عدم التزام بالقوانين، وتلاعب بها، واحتيال عليها.

وقد شاء الله أن يكون ذلك التفكير هو المقدمة التي أركب بها سفينة الإيمان، لأجلس فيها معكم هذا المجلس..

والبداية كانت مع القوانين الفيزيائية والكيميائية التي بهرتني بثباتها الذي لولاه لم يكن الكون بالصورة التي هو عليها.. بل لولاه لم تكن هناك علوم ولا معارف أصلا، فهي جميعا وليدة للثبات الذي بنيت عليه قوانين الكون ونواميسه.

من الأمثلة على ذلك (1) قوانين [الانصهار والجمود] في المعادن.. فالمواد الصلبة تتحول

__________

(1) موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة: محمد راتب النابلسي.

كيف تناظر ملحدا؟ (62)

إلى حالة سائلة بالانصهار.. ولولا هذه الخاصة لم نتمكن من استخراج المعادن من مظانها لاختلاطها بالتربة.. وكيف يمكن أن نعيد تشكيلها لولا انصهارها وتجمدها.. فبالانصهار والتجمد نأخذ المعادن من أعماق الأرض، وبهما نشكل المعادن كما نريد.. وقد جعلني هذا أتساءل عن المقنن الذي وضع لها هذه القوانين، والتي كانت سببا في الاستفادة منها، ولولا ذلك لم يستفد منها أحد.

ومن الأمثلة على ذلك قوانين [التبخر والتكثيف]، فلولا هذان القانونان لم تنزل الأمطار، ولم تتشكل ذلك أن البحر الملح الأجاج، هو الذي يتبخر ماؤه بفعل أشعة الشمس ليتشكل منه الماء، فمن الذي قنن قانون ذلك التبخر؟.. ومن قنن قانون التكثيف حيث يتحول الماء إلى بخار، والبخار إلى ماء دون أن تعلق المواد الراسبة في السائل في البخار؟

مع العلم أنه لولا هذين القانونين.. قانون التبخر والتكثيف.. لما كانت أمطار، ولما كانت مياه عذبة نشربها، ونرتوي بها.

وهكذا رحت أنظر في ظاهرة الذوبان.. فلولا ذوبان أملاح المعادن في الماء لما أمكن للنبات أن يأخذ كل المعادن من التربة.. فكل أملاح المعادن تذوب في الماء، ثم يصعد الماء مع أملاح المعادن المذابة، لتأخذ الأوراق حاجتها.. ولولا هذه الظاهرة والقوانين المرتبطة بها لما ذابت الأطعمة على شكل سائل، ولما تنقل هذا السائل إلى الدم، ليتحول إلى الخلايا.

وذكرت فيه بعض الردود على من يعتبر الطبيعة مقننا للقوانين، ومنها هذا الرد الذي تضمنه هذا الحوار:

قال ذلك، ثم راح يسألني عن تخصصي الأول في القانون إلى الدرجة التي ظننت أنه قد خرج من الموضوع، لكني اكتشفت أنه راح يستثمر تخصصي فيه ليقنعني بما ذكره لي.

قال لي: بحكم خبرتك في القانون وفي تواريخ القوانين.. هل رأيت قانونا يحكم أي مجتمع من المجتمعات دون أن تكون هناك جهة ما قامت بتشريعه.. وجهة أخرى قامت

كيف تناظر ملحدا؟ (63)

بتنفيذه.. وجهة أخرى راحت تراقب الصرامة في ذلك التنفيذ؟

قلت: أجل.. فلا يوجد قانون من دون مقنن.. ولا نظام من دون منظم.

قال: فكيف نحكم على هذه القوانين المنظمة للكون، والتي لولاها لم يكن بالصورة التي هو عليها، بأنها صدرت من غير مقنن ولا منظم ولا مقدر؟

قلت: أساتذتنا يذكرون أنها الطبيعة.

ابتسم، وقال: ما دام للطبيعة كل هذه السلطة، فلم لم تذهب إلى تلك الشعوب المتخلفة، لتفرض عليها من القوانين ما يخرجها من تخلفها وفوضاها وعبثيتها.

قلت: في إمكان تلك الشعوب أن تنظم نفسها بنفسها.

قال: لكنها لم تفعل.. فكيف سكتت الطبيعة عنها؟

قلت: أنت تتحدث عن الطبيعة، وكأنها كائن مستقل له قدراته الخاصة.

قال: وما هي إذن؟

قلت: هي القوانين نفسها.

قال: فهل يمكن للقوانين وحدها أن تفعل شيئا.. وهل يمكن للقوانين أن تصدر من غير عاقل ولا واع ولا مدرك؟

سادسا ـ الآيات الباهرة

ونقصد بها أصناف الأدلة التي تواجه الأطروحات الإلحادية التي تتصور أن الأدلة على الله أدلة نظرية وفلسفية فقط، ليس لها أي جانب حسي أو تجريبي.. فهي تعطي الكثير من المناهج التي يمكنها أن تحول الإيمان بالله إلى تجربة حسية، كسائر التجارب.

وهو ما أشار إليه أبو العتاهية بقوله:

وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد

كيف تناظر ملحدا؟ (64)

فأدلة الوحدانية هي نفسها هي أدلة الوجود، ولهذا نرى القرآن الكريم يشير كثيرا إلى هذا النوع من البراهين، كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرض لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وغيرها من الآيات الكثيرة التي تدعو إلى النظر في الآيات المبثوثة في الكون.. فكل آية منها دليل قائم بذاته على الله.

وقد بين بعض المعاصرين (1) أهمية هذا النوع من الأدلة فقال: (هذه الحجة القرآنية ـ التي أسميناها دليل الآيات ـ يمكن وضعها هي الأخرى في صيغة من الصيغ المنطقية العقلية المعروفة، وذلك أن الحجج المنطقية ليست محصورة في الاستنباط، أو ما كان يسميه علماؤنا بقياس الشمول، بل هنالك حجج أخرى منطقية عقلية صحيحة يستعملها الناس في علومهم بل في حياتهم اليومية، وإن لم يصوغها الصياغات المنطقية) (2)

ثم وضع صياغة منطقية لهذا النوع من البراهين، فقال: (والحجة القرآنية هذه يمكن وضعها في هذا الشكل المنطقي، كأن نقول مخاطبين الملحد: أنت تعلم من نفسك أنك حادث وجدت بعد أن لم تكن.. فإما أن تكون قد وجدت من العدم أو أن شيئاً أوجدك.. من المستحيل أن توجد من العدم.. إذن فقد أوجدك شيء.. هذا الموجد إما أن يكون نفسك أو أن يكون غيرك.. من المستحيل أن تكون أنت الذي أوجدت نفسك.. إذن لابد أن يكون شيء غيرك هو الذي أوجدك.. هذا الغير إما أن يكون مثلك في حاجته إلى من يوجده أو لا يكون.. لا يمكن

__________

(1) أقصد محمد أبو القاسم حاج حمد (1941 - 2004 م)

(2) انظر: الفيزياء ووجود الخالق: مناقشة عقلانية إسلامية لبعض الفيزيائيين والفلاسفة الغربيين، أبو القاسم حاج حمد.

كيف تناظر ملحدا؟ (65)

أن يكون مثلك؛ إذ ما قيل عنك سيقال عنه أيضاً.. لابد إذن أن يكون خالقاً بنفسه غير مفتقر إلى من يوجده؛ وهذا هو الله تعالى)

وقد ذكرت في كتاب [الهاربون من جحيم الإلحاد] الكثير من البراهين المرتبطة بهذا النوع، أكتفي هنا بذكر هذين النصين اللذين يتحدث فيهما بعض الفارين من جحيم الإلحاد عن بعض أغلوطات الملاحدة المرتبطة بهذا الجانب، وكيفية الرد عليها.

النص الأول: قال: لا أزال أذكر تلك الأيام جيدا، حينها كنت أصيح في كل حين في وجوه المؤمنين: إن كان لإلهكم وجود فليرنا نفسه، أو ليعلن عنها، أو ليظهر آية من الآيات حتى لو كانت بسيطة.. فلا يمكن أن نؤمن بشيء من غير أن يظهر نفسه.

وكنت أضيف إلى هذه الكلمات الكثير من التصرفات التهريجية التي أتحدى بهم المؤمنين، فأضع ورقة صغيرة على الطاولة، وأقول لهم: أنتم تزعمون أن إلهكم قادر على كل شيء.. ما دام كذلك، فليظهر نفسه برفع هذه الورقة، ولو مترا واحدا.. بل حتى سنتمتر.. أو ملمتر.

ثم أمكث مدة أنتظر.. وبعدها أقول لهم: هل رأيتم عجز إلهكم؟.. إنه لا يستطيع رفع ورقة مع أننا أعطيناه وقتا كافيا لفعل ذلك.

ثم أطلب من صبي من الصبيان أن يحمل الورقة، ويرفعها، ثم أقول: ها أنتم رأيتم بأم أعينكم أن هذا الصبي الصغير أقوى من إله المؤمنين.

وكان المؤمنون عندما يسمعون هذا يتألمون، ولا يجدون ما يقولون، وإن كانوا في قرارة قلوبهم يتمنون لو أن الله حقق المعجزة، ورفع الورقة.. أما غيرهم، فكانوا يضحكون ويصفرون ويرقصون ويتصورون أنني قد وضعت حجرا في أفواه المؤمنين بتلك اللعب التي ألعبها.

لكني في قرارة نفسي لم أكن مقتنعا بما أقول، فالله ليس ملزما أن يستجيب لأمثالي من الساخرين، ولو أنه فعل ذلك لأصبح الكل يطالبه بما يشاء، ولتغير نظام المجتمع، بل نظام

كيف تناظر ملحدا؟ (66)

الكون لأن هناك من لا يقنع برفع الورقة، فيطالبه بأن يغيب الشمس، أو يحول الليل نهارا والنهار ليلا.. أو يقتل فلانا.. أو يحيي ميتا.. وهكذا يصبح الكل يتدلل على الله، ويطالبه بالمعجزات ليمن عليه بعد ذلك بالإيمان.. وكأن الله مفتقر لخلقه حتى يؤمنوا به.

وعندما أعود إلى بيتي، ويعود إلي الكثير من عقلي أدرك أنني لم أكن أمارس احتجاجات عقلية، بل كنت أمارس مغالطات تهريجية لا علاقة لها بالمنطق، ولا بالعقل.

بل إنني كنت أشعر أنني لم أكن أغالط إلا نفسي، فأين الإلحاد، وأين المنطق؟.. وهل يمكن أن يكون الملحد منطقيا أو عقلانيا؟.. وكيف يكون كذلك، وهو لا يؤمن إلا بالمادة، والمادي لا يمكنه أن يؤمن بقوانين المنطق، لأنه يعتقد بأن كل شيء في الوجود مادة فقط.. وقوانين المنطق ليست مادية.. ولهذا فإن قوانين المنطق لا يمكن أن تتواجد في العالم الإلحادي.. وبالرغم من ذلك، فإن المُلحد يناقض نفسه حين يستخدمها..

إنه في ذلك يشبه الشخص الذي يذكر أنه لا يؤمن بالهواء، وفي نفس الوقت لا يستطيع أن يعيش من دون هواء.. هكذا هو الملحد بالضبط، هو ينكر السيارة التي يركبها، ويجحد العقل الذي يستعمله، ويغفل عن الحقيقة التي يستند إليها وجوده.

النص الثاني: أذكر أني التقيت بعد نهاية بعض تلك التهريجات قسا مسيحيا، فقلت له ساخرا: هل تؤمن بأن المسيح مشى على الماء؟

فقال لي: أجل.. وأنت هل تؤمن بأن الماء وجد هكذا وحده من لا شيء؟

قلت: أجل.. أنا أؤمن بذلك.

قال: فلماذا تنكر علي معجزة أنت تؤمن بما هو أخطر منها.. فإن قلت لي: أثبت لي بأن المسيح مشى على الماء.. فإني سأقول لك أنا أيضا: أخرج لي لترا أو قطرة من الماء من لاشي..

ثم قال لي: أنا أؤمن بإله خالق يستطيع أن يُعطل أو يعّلق قوانين الطبيعة التي خلقها، ويمارس ما شاء فيها من المعجزات، لأنه لا شيء يعجزه.. وقد دلني الدليل العقلي على ذلك..

كيف تناظر ملحدا؟ (67)

ذلك أنه أثبت لي قدرته بكل هذه الآيات المعجزات التي أراها.. وبذلك فأنا لا أقفز على عقلي، ولا أؤمن بالخرافة.. لأني ما دمت مؤمنا بأن الله خالق كل شيء في الكون، فليس من الغرابة أن أؤمن بأنه ليس مقيدا بقوانين الكون الذي خلقه هو، ووضعها هو.. وبذلك فإن الله ما دام خلق الماء، فإنه بالتأكيد يستطيع أن يجعل في أي شخص شاء القدرة على أن يمشي عليه.

سابعا ـ الهداية المبينة

ونقصد بها أصناف الأدلة التي تدل على تواصل الله تعالى مع خلقه عبر الوسائط المختلفة، فالله تعالى لم يعلن عن نفسه من خلال الكون وظواهره فقط، وإنما أعلن عنه عبر رسله وكلماته المقدسة لعباده، كما يعلنه كل حين عبر هدايتهم والاستجابة لدعواتهم.

وقد خصصنا سلسلة [حقائق ورقائق] جميعا لإثبات هذه النوع من الأدلة، باعتباره أكبر أنواع الأدلة، وأكثرها دلالة وصراحة وقطعية، فإثبات النبوة وما يتعلق بها، ليس سوى إثبات للألوهية بالدرجة الأولى.

بالإضافة إلى ذلك ذكرت في كتاب [الهاربون من جحيم الإلحاد] الكثير من البراهين المرتبطة بهذا النوع، أشير إلى بعضها هنا:

1 ـ برهان التواصل

وأقصد به التواصل الدائم لله تعالى مع خلقه، والمتحقق كل حين، وهو من أعظم أنواع الأدلة التي لا يستفيد منها إلا المتواضعون الصادقون الذين تطهروا من الكبرياء، وراحوا يطلبون بصدق من الله أن يعرفهم عن نفسه، ويدلهم عليه.

وقد قلت على لسان الهارب من جحيم الإلحاد في تقرير هذا الدليل: وقد كان مظهر الهداية، وتواصل الله مع كائناته، هو دليلي الأول إلى الله.. فقد كنت أقول في نفسي: إن كان الله موجودا، فيستحل ألا يتواصل مع خلقه، بأي طريقة من طرق التواصل.. ولابد أن تكون له

كيف تناظر ملحدا؟ (68)

لغته الخاصة في تواصله بهم.. لأنه يستحيل أن يكون الإله من جنس مخلوقاته، ولذلك فإن تواصله معهم يستحيل أن يكون من جنس تواصل مخلوقاته بعضها ببعض.

وقد عرفت بعد ذلك، بعد أن من الله علي بالهداية التامة أن القرآن الكريم ذكر هذا الدليل على لسان موسى عليه السلام حين سأله فرعون، فقال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى} [طه: 49]، فقال له موسى عليه السلام: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]

فالله لم يكتف بخلق خلقه، ولا العناية بهم.. بل يتواصل معهم كل حين لهدايتهم ودلالتهم على مصالحهم في كل جزئية منها أو كلية.

ودل على هذا النوع من البراهين كذلك قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68، 69]، فهاتان الآيتان الكريمتان تشيران إلى أن ما نراه من عجائب النحل ليس بسبب الغريزة كما يصور قومنا، وإنما هي هداية إلهية خاصة، لا نعرف سرها ولا كنهها ولا كيفيتها.. ولكنا نرى بكل دقة آثارها التي تدل عليها.

وقد كان أول ما دعاني إلى هذا النوع من التفكير أني كنت أشاهد في يوم من الأيام شريطا وثائقيا عن ثعبان الماء (1)، وكيف يقطع آلاف الأميال في المحيط، قاصدا الأعماق السحيقة جنوب برمودا حيث يلتقي ثعابين الماء من كل أنحاء العالم، وهناك تبيض وتموت، أما صغارها التي لا تملك وسيلة تتعرف بها على أي شيء، سوى أنها في مياه قفرة، فإنها تعود أدراجها، وتجد طريقها إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها.. ومن ثم إلى كل نهر أو بركة صغيرة.. وقد ملأني هذا بالعجب، فكيف اهتدت تلك الصغار إلى محالها بدقة عالية، لو لم تكن هناك هداية خاصة،

__________

(1) انظر: الله جل جلاله: سعيد حوى.

كيف تناظر ملحدا؟ (69)

هي التي أرتها الطريق، وهي التي أوصلتها إليها.

وهكذا رأيت الجراد البالغ من العمر سبعة عشر عاما في ولاية نيوانكلاند. يغادر شقوقه تحت الأرض حيث عاش في ظلام مع تغير طفيف في درجة الحرارة، ويظهر بالملايين في 24 مايو من السنة السابعة عشرة تماما.. بحيث يضبط مواعيده للظهور في اليوم تقريبا بهداية يعجز عنها الإنسان لولا أنه يستعمل التقويم.

وهكذا رأيت في الإنسان من دلائل الهداية ما ملأني بالعجب.. فقد رأيت كيف تنمو الغدد التي تصنع اللبن أثناء الحمل، يدفعها إلى هذا النمو مواد يفرزها المبيضان، وفي نهاية الحمل وبدء الوضع، تتلقى هذه الغدد النخامية الموجودة في قاعدة الجمجمة أمرا بالبدء في صنع اللبن، وما يكاد الطفل يولد حتى يبحث عن ثدي أمه بهداية لا حد لها، وعملية الرضاعة عملية شاقة، إذ أنها تقتضي انقباضات متوالية في عضلات وجه الرضيع ولسانه وعنقه، وحركات متواصلة في فكه الأسفل، وتنفسا من أنفه، ويقوم الطفل بهذا كله بهداية تامة من أول رضعة لساعة فطامه.. وقد ذكر لي بعض المختصين في هذا أن الرجل نفسه لا يستطيع أن يقوم بعملية الرضاع كما يقوم بها الطفل الذي لا يتجاوز عمره ساعات.

هذه بعض النماذج التي كان التفكير فيها أول رحلتي إلى الله.. وهي ظاهرة أشمل مما ذكرت بكثير.. فهي تنتظم شؤون الكون كله من الإلكترونات في الذرة، إلى الذرة، إلى العناصر، إلى الأرض، إلى الشموس، إلى المجرات بكل حوادثها إلى كل خلية من خلايا الحيوان، إلى كل جهاز من أجهزته، إلى كل حيوان من وحيد الخلية، إلى النحلة، إلى الإنسان.. وهكذا.

وقد جعلني هذا أتساءل بيني وبين نفسي: هل يمكن أن تكون هناك هداية بلا هاد؟.. وهل يمكن أن تسير الطائرات والسيارات من غير أن يكون هناك قائد يقودها، أو دليل يدلها على الطريق؟

وقد جعلني هذا التفكير أنتقل إلى نوع آخر من البحث، لعله أكثر صلة بالدلالة على

كيف تناظر ملحدا؟ (70)

الله.. وهو في إمكانية تواصل الله مع عباده.. وهل أن الله وضع القوانين لعباده هكذا، ثم تركهم، أم أنه يقوم بنفسه بدلالتهم عليها كل حين، وأنه إذا ما احتاجوا إليه كان غوثهم وعونهم ومددهم.

طبعا لم أكن في ذلك الحين مؤمنا بإله، كما أني لم أكن كذلك من المكابرين الذين يجحدون الله ويستعملون كل الوسائل لجحوده.. بل كنت لا أدريا.. ولهذا كنت بحوثي وتأملاتي في هذا المجال هي للتأكد من الفرضيات التي وضعتها.. والتي رأيت أن الله بكرمه دلها عليها جميعا ابتداء من ظاهرة الهداية التي ذكرتها إلى ظاهرة التواصل المباشر مع عباده وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لأمنياتهم.

وقد رحت للتأكد من مدى تواصل الله مع عباده أذهب إلى المحال التي يكون فيها المؤمنون الصادقون المتواضعون وأسألهم عن تجاربهم الخاصة في هذا المجال، فكان كل واحد منهم يذكر لي تجربته الخاصة في إجابة الله لدعواته، أو إغاثة الله له في كرب من الكروب أو محنة من المحن..

ويذكرون لي كيف أنهم بمجرد التواصل مع الله بصدق وعبودية وتواضع كيف يعود الرخاء بعد الضراء، وكيف تزول الكروب، وكيف يقضى على الشدائد.

وقد ذكر لي بعضهم أن الله تعالى ذكر هذا، فقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 40، 41]

وقال في موضع آخر: {وَإِذَا مَسَّ الْإنسان الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12]

وقال في موضع آخر: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ

كيف تناظر ملحدا؟ (71)

تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63، 64]

2 ـ برهان النبوة

وهو من أهم البراهين وأدقها وأكثرها وضوحا ودلالة، ذلك أن الله تعالى أعلن عن نفسه من خلال أنبيائه عليهم السلام، وعرفنا بحقائق الوجود، وعرفنا فوق ذلك بالمصير الذي ينتظرنا، وينتظر الحياة جميعا.

ولذلك كان الاهتمام بالنبوة والبحث فيها حلا لكل المعضلات التي توقف العقل البشري في فهمها أو التعرف عليها..

وقد ذكرت بعض تقريرات هذا البرهان في كتاب [الهاربون من جحيم الإلحاد]، أكتفي منه هنا بهذا المقطع الذي يتحدث فيه المؤمن الهارب من جحيم الإلحاد بقوله: اسمعوا حديثي عن برهان من براهين الهداية المبينة، أطلقت عليه اسم [برهان النبوة].. وهو برهان يدل على الله من كل الوجوه، وبكل المقدمات، وبجميع اللغات.. فالله برحمته لم يتواصل مع آحاد خلقه برعاية حاجاتهم وإجابة دعواتهم فحسب.. ولم يحفظ عليهم حياتهم بالقيم التي وفرها لهم فقط.. وإنما أضاف إلى ذلك إرسال وسائط الهداية لهم ليكونوا نماذج تيسر عليهم تحقيق الكمال، وليبلغوهم الحقائق التي لا يمكن أن يصلوا إليها بعقولهم المجردة.

وقد كان أول ما دفعني إلى هذا البرهان هو شعوري بأن الذي خلق هذا الكون ـ إن كان موجودا فعلا ـ فإنه لابد أن يتصل بخلقه بأي طريقة من الطرق ليعرفهم بنفسه أولا، ويعرفهم بحقيقتهم وغاية وجودهم ثانيا، وليعلمهم كذلك القيم التي عليهم أن يسلكوها لينسجم وجودهم مع الكون جميعا.

وقد التقيت حينها رجلا جمع بين الفلسفة والعلم راح يقول لي ـ بعد أن عرضت له ما خطر على بالي ـ: إن ما تقوله صحيح.. ومنطقي.. فيستحيل على من صمم هذا الكون بهذا الإبداع، وأبرز فيه لخلقه كل أنواع العناية والرعاية، أن يغفل عن هذه النقطة التي اهتدى إليها

كيف تناظر ملحدا؟ (72)

عقلك.. ذلك يستحيل.

ذلك أن الإنسان لايستطيع أن يصل الى حقائق الوجود الكبرى بجهوده الشخصية.. ولا يستطيع أن يصل إلى فهم أسرار بدء الحياة ونهايتها.. ولا حقائق الشر والخير.. ولا كيفية تنظيم أجهزة الحياة (1).

ولهذا ترى قومنا، بل من قبلهم من الفلاسفة تاهوا بعقولهم، ولم يتمكنوا أن يصلوا بها إلى شيء.. لقد ذكر صديقنا [ألكسيس كريل] هذا، فقال: (إن مباداء الثورة الفرنسية، وأفكار ماركس، ولينين، لاتنطبق إلا على الإنسان العقلي المثالى.. ومن الواجب أن نشعر بصراحة تامة بأن قوانين العلاقات الإنسانية لم تكشف بعد.. أما الاجتماع والاقتصاد وما أشبههما، فهي علوم افتراضية محضة، بدون أدلة يمكن اثباتها بها)

ومثله قال الأستاذ [ج. و. ن. سوليفان]: (إن الكون الذي كشفه العلم الحديث هو أكثر غموضا وابهاما من التاريخ الفكري بأكمله، ولاشك في أن علمنا عن الطبيعة أكثر غزارة من أي عصر مضى، ولكن هذه المعلومات كلها غير مقنعة، فنحن نواجه اليوم الابهام والمتناقضات في كل ناحية)

إن هذا الجهل المطبق للإنسان بمثل هذه الحقائق الضرورية يستدعي البحث عن مصدر آخر نتعرف من خلاله على هذه الحقائق.

ثم التفت إلي، وقال: إن هذه الحالة وحدها تكفي لنتبين حاجتنا الشديدة الى التواصل مع مبدع هذا العالم، ذلك أن سر الحياة يدل على أنه لابد أن تأتي المعرفة من الخارج تماما مثلما يأتينا الضوء والحرارة اللذين تتوقف عليهما حياة الإنسان.

قلت: فلم لا يكون هذا التواصل عبر كل شخص على حدة، ولا يحتاج إلى خواص

__________

(1) الاسلام يتحدى: وحيد الدين خان.

كيف تناظر ملحدا؟ (73)

الناس، ليتم التواصل عبر واسطتهم؟

نظر إلى الشمس، وقال: إن طرحك هذا يشبه من يطلب أن يكون لكل إنسان شمسه الخاصة به.. والتي ينير بها الكون متى شاء.. ويجعله مظلما متى شاء.

قلت: ما تعني؟

قال: كما أن الشمس واسطة النور والدفء.. وأشياء كثيرة مما تنعم به أجساد الناس وحياتهم.. فإن وسائط الهداية الإلهية هم شموس الأرواح وهداتها.

قلت: هلا وضحت لي أكثر.

قال (1): الحدس الشخصي لا يُستفاد منه إلا لتثبيت الإيمان واليقين بعد اقتناع العقل وانكشاف الحقائق، لكنه لا يصلح أن يكون مصدرا يتفق عليه الناس لأنه خاص بكل منهم على حدة، ولا يمكن طبعا أن يُعتمد مصدرا للتشريع والقوانين، فلا يمكن لبقية الناس أن يتحققوا من زعم أحد بأنه تلقى قانوناً إلهياً بحدسه الخاص.

قلت: فلماذا لا تكون حلقة الوصل هذه من كائنات أخرى غير البشر؟

قال: لقد ذكرني سؤالك هذا بآية وردت في القرآن.. كتاب المسلمين المقدس.. ففيه هذه الآية التي تجيبك بكل لفظة فيها: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرض مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95]

قلت: لم أفهم المراد منها، فهلا وضحته لي.

قال: هي تريد أن تقول لنا بأن الله يبعث للناس رسلا من جنسهم لكي يتمكنوا من رؤيته ومخالطته والتواصل معه والتعلم من سلوكه وأفعاله وأقواله، وليضعوه أيضا موضع الاختبار والتمحيص.. ولو أن الله منح الناس القدرة على رؤية الملاك المُرسَل في حال إرساله

__________

(1) انظر: مقالا بعنوان [نبوة محمد]، أحمد دعدوش وربى الحسني..

كيف تناظر ملحدا؟ (74)

بدلا من رسول بشري، فربما كان الجاحدون سيطرحون اعتراضا آخر من قبيل: وما الذي يضمن لنا أن هذا الملاك مرسل من الله أيضا وليس مجرد كائن فضائي أو شيطان متجسد؟

قلت: إن هذا يقتضي بحثا مستحيلا في هذا الزخم الكبير من الأديان.. فمن أدرانا من هو الصادق من المدعي.

قال: وهنا تكمن مسؤولية الإنسان في البحث عن الوحي الصحيح، والتحقق من صدق نسبته إلى الله وسلامته من التبديل والتحريف، وذلك بالتحقق أولا من صدق الأشخاص الذين زعموا أنهم أنبياء مرسلون من الله، بدراسة سيرتهم ومعجزاتهم وما نُقل عنهم من أقوال وأفعال، ثم بالتحقق من صدق الوحي الذي جاؤوا به، وذلك بعرضه على العقل ودلائل الحس.. وغيرها من أنواع التمحيص والتدقيق.

كيف تناظر ملحدا؟ (75)

الإلحاد.. والمغالطات العقلية

لا يعتمد الملاحدة في كتبهم ومناظراتهم التفكير المنطقي السليم، المبني على المقدمات الحقيقية، والموصل للنتائج الصحيحة، وإنما يعتمدون طرقا ملتوية كثيرة مبنية على المغالطات بمختلف أنواعها، فهم سفسطائية بامتياز.. لا يختلفون عن سلفهم من السفسطائية في شيء، حتى أن منهم من ينكر وجود الكون، ومنهم من ينكر المدارك الحسية، ومنهم من ينكر القوانين العقلية المعروفة بالبداهة كقانون العلية والدور والتسلسل وغيرها.

ولذلك كان على الداعية المواجه للإلحاد أن يتعرف على أنواع تلك المغالطات، والتلبيسات التي يمارسونها من خلالها، حتى لا تنطلي عليه أولا، وليكشف تلاعبهم وحيلهم وخدعهم ثانيا.

والسر في كل تلك المغالطات هو اعتمادهم على ما يطلق عليه [التفكير الرغبوي]،] أو [التفكير بالتمني]، وهو تفكير غير متناسب تماما مع العقل السليم.. ذلك أنه يبحث في حقائق الأشياء كما هي عليه، لا كما يحب أن تكون.. وهو غير متناسب مع العلم أيضا، لأن العلم يقتضي موافقة الواقع موافقة تامة، وما عداه يعتبر جهلا أو خيالا أو ظنا كاذبا، ولا علاقة له بالعلم (1).

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من التفكير، فقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، فالآية الكريمة اعتبرت كل ميزان وضعه البشر من غير العمل مجرد أمان وأوهام وتوقعات لا علاقة لها بالواقع.

وضرب القرآن الكريم لذلك مثالا بدعوى بني إسرائيل أن النار لن تمسهم إلا أياما

__________

(1) انظر في تعريف العلم أبجد العلوم، أبو الطيب محمد صديق خان القِنَّوجي، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1423 هـ- 2002 م (ص: 31)

كيف تناظر ملحدا؟ (76)

معدودة، فرد الله عليهم بقوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]

وبناء على ذلك كان التفكير الرغبوي أغلوطة من الأغلوطات التي يخادع بها الإنسان نفسه، ليصور الواقع بالصورة التي يريد، لا بالصورة التي هو عليها، ولهذا أطلق عليه الكاتب البريطاني كريستوفر بوكر مصطلح [دائرة الخيال]، والتي تبدأ عادة ـ كما وصفها ـ (بانخراط الفرد في حلم يعيش فيه ويعتقد في صحته، ثم لا يلبث أن يفيق بعد أن يدرك أن الواقع يعمل ضد أمنياته، فيدخل في قنوط، وهنا يسعى إلى بذل جهد بغية أن يطوع الواقع لحلمه، دون جدوى، فيدخل كابوساً مخيفاً، وتتبخر أمنياته) (1)

وما ذكره كريستوفر ينطبق تماما على مواقف الملاحدة الجدد من الحقائق العلمية الثابتة، والتي تبرهن على ضرورة وجود الله، وقد عبر عالم الفيزياء والفلك ورأس علماء وكالة (ناسا) (روبرت جسترو) في كتابه [الله والفلكيون] عن هذا النوع من التفكير عند حديثه عن الأدلة العلمية المثبتة لنشأة الكون، فقال: (اللاهوتيون عامة مبتهجون ببرهان نشأة الكون، في حين أنّ الفلكيين غاضبون بصورة غريبة. لقد آل الأمر إلى أنّ العلماء يتصرّفون على الطريقة التي نتصرّف بها نحن لما تكون اعتقاداتنا مخالفة لما دلّ عليه الدليل) (2)

وقال: (تنتهي القصّة بالنسبة للعالِم الذي عاش بإيمانه بقوّة العقل، كمنامٍ سيء. لقد تسلّق جبال الجهل، ويكاد يقهر أعلى قمّة، وبينما هو يرفع نفسه إلى الصخرة الأخيرة، يُفاجأ بتهنئة من جَمْع من اللاهوتيين الجالسين هناك منذ قرون) (3)

__________

(1) انظر: مقالا بعنوان آفة التفكير بالتمني، د. عمار علي حسن، موقع 24،السبت 31 أكتوبر 2015/ 22:59 على الرابط التالي: http://24.ae/article/197112/.

(2) Robert Jastrow، God and the Astronomers، p.16.

(3) Robert Jastrow، God and the Astronomers (Toronto: George J. McLeod، 1992،)، p.116.

كيف تناظر ملحدا؟ (77)

ومثله عالم الفلك والرياضيات (أرثر إدنجتن) الذي عبر عن امتعاضه الشديد من الأدلة على حدوث الكون، فقال: (إنّ أصل الكون هو فسلفيًا أمر بغيض) (1)

ومثلهما كان موقف مكتشف إشعاع الخلفية الكونية الميكروي المثبت لنشأة الكون (روبرت ويلسن) الذي كان من أنصار قد العالم أو الحالة الثابتة، لكنه بسبب اكتشافه ذلك قال: (لقد أحببت فلسفيًا نظرية الحال الثابتة، وعليّ بوضوح أن أتراجع عن ذلك) (2)

أما الصحفي الأمريكي (جورج ول) فقد قال معبرا بسخرية عن موقف الملاحدة من الأدلة على نشأة الكون من العدم: (يبدو أن الملاحدة سيعترضون على وكالة (ناسا) باعتبارها تقدمّ دعمًا علميًا للمتديّنين من خلال ما يثبته (مرصد هابل الفضائي) من حقائق) (3)

وهكذا نرى الملاحدة يتبنون نظرية التطور مع عدم ثبوتها علميا لكونها وسيلتهم الوحيدة للهرب من الإيمان، وقد عبر [سير آرثر كيث] عن ذلك بقوله: (إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علمياً ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها إلا لأن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر، وهذا ما لا يمكن حتى التفكير فيه)

ومثله قال [سير جيمس جينز] في كتابه الشهير [عالم الأسرار]: (إن في عقولنا الجديدة تعصباً يرجح التفسير المادي للحقائق)

وذكر [ويتكر شامبرز] في كتابه [الشهادة] حادثاً كان من الممكن أن يصبح نقطة تحول

__________

(1) نقلا عن: فمن خلق الله؟: نقد الشبهة الإلحادية [إذا كان لكل شيء خالق، فمن خلق الله؟] في ضوء التحقيق الفلسفي والنقد الكوسمولوجي، د. سامي عامري، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، 2016، ص 95.

(2) Quoted by Heeren، Show Me God، 157.

(3) George Will، “The Gospel from Science،” in Newsweek، November 8، 1998..

كيف تناظر ملحدا؟ (78)

في حياته، حيث ذكر أنه بينما كان ينظر إلى ابنته الصغيرة استلفتت أذناها نظره، فأخذ يفكر في أنه من المستحيل أن يوجد شيء معقد ودقيق كهذه الأُذُن بمحض اتفاق، بل لا بد أنه وجد نتيجة إرادة مدبرة... ثم ذكر أنه طرد هذه الوسوسة عن قلبه حتى لا يضطر أن يؤمن ـ منطقياً ـ بالذات التي أرادت فدبرت، لأن ذهنه لم يكن على استعداد لتقبل هذه الفكرة الأخيرة.

وقد علق الأستاذ الدكتور [تامس ديور باركس] على هذه الحادثة بقوله: (إنني أعرف عدداً كبيراً من أساتذتي في الجامعة ومن رفقائي العلماء الذين تعرضوا مراراً لمثل هذه المشاعر، وهم يقومون بعمليات كيميائية وطبيعية في المعامل) (1)

بناء على هذا نحاول في هذا الفصل التعرف على أهم الأغلوطات التي يستعملها الملاحدة في الجانب الفكري والفلسفي (2)، وسنقتصر هنا على أربع مغالطات كبرى يستعملونها كثيرا، بل يعتمدون عليها اعتمادا كليا، وهم يكيلون فيها بالمكاييل المزدوجة، حيث يستعملونها متى شاءوا، ويتركونها متى شاءوا من دون اعتماد أي ضوابط تقيد ذلك، وتبين مصداقيته، وهي بهذا الترتيب:

الأول: نفي العلية، واعتقاد عدم إمكانيتها تفسير ما يحصل من ظواهر، وذلك لكونها من الأسس الكبرى التي تقوم عليها براهين الإيمان.

__________

(1) الله يتجلى في عصر العلم.

(2) من المراجع التي رجعنا إليها في هذا الفصل:

1. الأسس اللا عقلية للإلحاد.. مشكلة مبدأ العالم نموذجاً، عمر بسيوني.

2. ما كتب حول الصدفة وغيرها مثل كتاب: كتب هارون يحي في نقد نظرية التطور، وكتب عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في نقد الإلحاد، بالإضافة للكثير من كتب العقيدة الحديثة، ففيها جميعا مباحث تتعلق بالرد على القول بالصدفة..

كيف تناظر ملحدا؟ (79)

الثاني: الإيمان بالعلية، مع إسناد الخلق للطبيعة وقوانينها المختلفة.

الثالث: الإيمان بالعلية، مع إسناد الخلق للصدفة والعشوائية ووضع الاحتمالات المرتبطة بذلك.

الرابع: الإيمان بالعلية، وإسناد الخلق للأسباب التي يكشف عنها العلم في كل حين.

أولا ـ إنكار مبدأ العلة والسببية

يعتبر مبدأ السببية (1) من المبادئ الكبرى التي اتفقت عليه جميع العقول، بل اعتبر من (إحدى بدائه الفكر الأساسية)، ذلك أنه (لا يحدث شيء بلا علة، أو على الأقل بلا سبب محدد) (2)

بل إن الفطرة تقتضيه، فالطفل الصغير إن تعرض لتأثير مؤثر ما؛ تراه يطلب ذلك المؤثر ويبحث عنه، فيلتفت ليبحث عمن ضربه خلسة، لكونه مما ارتكز في فطرته، وفي مبادئ عملياته العقلية الأولى أن لكل فعل فاعلا، ولكل مصنوع صانعا.. بل إنه إن لم يجد ذلك المؤثر يرتبك، بل لعله يخاف ويهلع، وسبب ذلك الخوف ليس الجن أو الشياطين.. فالطفل لا يدرك وجود تلك القوى غير المنظورة أصلا في تلك المرحلة المبكرة من حياته، ولكن سبب ذلك هو الاضطراب النفسي الذي يصيبه نتيجة اختلال المبادئ التي يفهم بها الوجود.

ولهذا كان البحث في العلل قديما قدم الفكر نفسه، فمنذ العصور الفلسفية لليونان اهتم أرسطو بدرس العلل، وقسمها إلى علل أربع: المادية، والصورية (الهيولى)، والفاعلية،

__________

(1) استفدنا المادة العلمية هنا من مقال مهم بعنوان: الأسس اللا عقلية للإلحاد.. مشكلة مبدأ العالم نموذجاً، لعمرو بسيوني.

(2) المعجم الفلسفي لجميل صليبا، 1/ 649.

كيف تناظر ملحدا؟ (80)

والغائية (1).. وقد أثبت بالأدلة العقلية أن الله هو العلة الأولى، وليس معلولا لشيء آخر.

لكن الملاحدة راحوا يتعنتون في قبول هذا المبدأ، ويتلاعبون به مع كونهم يستعملونه، حتى لا يعطوا الفرصة للمؤمنين في استعماله لإثبات وجود الله.

ولعل أهم من تولى كبر ذلك، وعنه نقله سائر الملاحدة [ديفيد هيوم (2)] الذي تميز عن غيره من الفلاسفة بسلوكه خطاً فلسفيا جديداً خطيرا.. فلا هو تبع المثالية المشغولة بالتأمل العقلي.. ولا هو ناصر المذهب التجريبي.. بل ذهب إلى أن مصدر المعرفة للإنسان لا يكون بالعقل، كما أنه لا يكون بالحواس.. وإنما يكون بالعادة والتكرار..

ولذلك أنكر وجود ما يسمى بالعقل البشري، وقال: إن العقل ليس سوى ذاكرة نحفظ بها تجاربنا وتجارب الآخرين.. وبهذا أبطل العلية، وفتح الباب على مصراعيه لهدم المنهج الإستقرائي، ومنه لهدم المنهج التجريبي.. وبذلك أحدث من الفضائح الفلسفية ما هو وبال على البشرية جميعا.

وقد عبر بعضهم عن فعلته تلك، فقال: (هيوم أول فيلسوف أوروبي نقل فكرة العلة من معانيها الأرسطية إلى معنى التتابع المجرد بين السبب والمسبب، أي التتابع الذي لا يعني شيئا أكثر من أن السبب سابق لمسببه فيما دلت عليه العادة (التجربة). وقد كان يمكن عقلا أن

__________

(1) تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم، 148.

(2) ديفيد هيوم (1711، 1776)، فيلسوف واقتصادي ومؤرخ اسكتلندي ولد وتوفي بأدنبره، أهم كتبه: بحث في الطبيعة الإنسانية، ثلاثة أجزاء، وفحص عن الفهم الإنساني، وفحص عن مبادئ الأخلاق، والتاريخ الطبيعي للديني، وغير ذلك راجع تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم 172 ـ 173.

كيف تناظر ملحدا؟ (81)

يجيء الترتيب على صورة أخرى، لكنه جاء هكذا) (1)

وقد استفاد من مقولته تلك عمانويل كانط (2)، الذي أعطى الملاحدة المبرر العقلي لنفي وجود الله، باعتبار أنه لا يمكن التدليل عليه بالدليل العقلي.. بل راح ـ تحت تأثير تلك المقولة ـ يزعم أنه يستحيل إثبات وجود الله بالعقل، كما أنه يستحيل إثبات عدمه.. ثم ترك القضية بعد ذلك للضمير، ولمصادرات العقل العملي.

مع أنه كان قبل احتكاكه به وبأفكاره لا يقول بذلك، بل كان يقرر العلية في كتبه، لكنه بعد اطلاعه على مقالته تحول إلى كانط المؤمن الوحيد الذي يحبه الملاحدة، ويستدلون بمقالاته لضرب الدين.. لقد قال في ذلك: (إن هيوم أيقظني من سباتي الاعتقادي، وكان ذلك برأيه في مبدأ العلية بنوع خاص، إذ كان قد قال: إن مبدأ العلية ليس قضية تحليلية، أي: إن المعلول ليس متضمنًا في العلة أو مرتبطًا بها ارتباطًا ضروريًّا، وإن الضرورة التي تبين له ما هي إلا وليدة عادة تتكون بتكرار التجربة) (3)

وقال في محل آخر: (عندما لا نقتصر، في استعمالنا للمبادئ الفاهمية، على تطبيق عقلنا على موضوعات التجربة، بل نغامر بمد العقل إلى ما وراء حدود هذه التجربة؛ ستتولد قضايا مماحكة لا أمل بمصادقة التجربة، ولا خوف عليها من مناقضتها، وكل واحد منها سوف لن

__________

(1) مناهج البحث عند مفكري الإسلام لعلي سامي النشار، 164.

(2) عمانويل كانط (1724 ـ 1804)، حاول التوسط بين التجريبية والعقلانية المثالية، ووجه نقدا عقليا للدين، أهم كتبه: نقد العقل الخالص النظري (المشهور بنقد العقل المحض)، ونقد العقل العملي، ونقد الحكم، وميتافيزيقا الأخلاق، ورسالة في السلام الدئم راجع يوسف كرم 208 ـ 216.

(3) تاريخ الفلسفة الحديثة، ليوسف كرم 210.

كيف تناظر ملحدا؟ (82)

تخلو من التناقض وحسب، بل ستجد أيضا في طبيعة العقل الشروط التي تجعلها ضرورية، لكن للأسف، سيستند لزعم النقيض هو الآخر إلى حجج تتمتع بنفس المصداقية ونفس الضرورة) (1)

وقد جعلته هذه المغالطات يعطي الحجج والذرائع للاأدريين، الذين لا يختلفون كثيرا عن الملاحدة، وقد قال معبرا عن ذلك: (ويمكن أن نتصور بسهولة أن ساحة القتال هذه قد خيضت مرارا حتى الآن، وأن عددا كبيرا من الانتصارات قد أحرز من جهة وأخرى، أما بالنسبة إلى الانتصار الأخير الذي سيحسم المسألة؛ فقد اتخذت الاحتياطات لكي يبقى دائما فارس الحق وحده سيد الميدان بمنع خصمه من حمل السلاح من جديد، وليس علينا كحكم حيادي في المعركة أن نهتم بمعرفة هل يتصارع المتحاربون من أجل قضية محقة، أم من أجل قضية باطلة، ويجب علينا أولا أن ندعهم يحسمون المسألة. فقد يعترفون بعد أن يتعب الواحد منهم أكثر مما يؤذي الآخر ببطلان تنازعهم ويفترقون کأصحاب) (2)

وهكذا استفاد [برتراند راسل (3)] من طروحات هيوم على الرغم من تناقضها الشديد مع العقل والمنهج العلمي، لكنه قبلها، ودافع عنها لكونها من السبل التي يمكنه أن يستعملها في مواجهة الطروحات الإيمانية؛ فقد قال ـ عند نقده للاستناد إلى الخبرات الحسية في التفسير ـ: (أنقتصر على خبراتنا الحسية وما تأتي به؟، فإذا لم يكن بين هذه الخبرات خبرة مباشرة بما يسمى (قوة) فلا داعي لافتراضها عند تفسير الطبيعة وظواهرها، إنها أحداث تتلاحق وتترابط

__________

(1) نقض العقل المحض لكانط، ترجمة موسى وهبة، 225..

(2) نقد العقل المحض 226، ويسميه صراحة في موضع لاحق بالمنهج الريبي.

(3) برتراند راسل (1872 – 1970)، إنجليزي، أستاذ للفلسفة بجامعة كمبردج، وأحد أعلام المنطق الرياضي المعاصرين، أهم كتبه: تاريخ الفلسفة الغربية، وتحليل المادة، وموجز الفلسفة، والمدخل إلى الفلسفة الرياضية، وغير ذلك. راجع يوسف كرم 431..

كيف تناظر ملحدا؟ (83)

مجموعات بمجموعات، فإذا اطرد حدوث مجموعة منها كان ذلك واحدا من قوانين الطبيعة، فالأمر كله حوادث وارتباطها بالتجاور، ولا شيء غير ذلك في علمنا؛ إلا ما نتبرع به ظنا ووهما.. فإذا اعترض علينا معترض بأن (القوة) الرابطة بين السبب ونتيجته هي مما يرد في خبراتنا؛ أجبناه بأنه يخلط بين ما (يخبره) وبين ما (يستدله).. إنه قد يرى الريح تقتلع الشجرة، فيظن أنه قد رأى بعينه (القوة) التي فعلت بها الريح ما فعلت، لكنه أحس الريح، وأحس الشجرة تقتلع، ثم (استدل) من عنده (قوة)؛ لأنه يميل بفطرته أن يسأل (لماذا)، على حين أن النظرة العلمية تسأل (كيف)، ولا تزيد على ذلك؛ إننا لا نلاحظ إلا أحدثا في تتابعها المطرد، من اطراد التتابع تتألف القوانين الطبيعية، أما (لماذا) كانت هذه القوانين على نحو ما كانت؛ فشيء لا يأتي بين ما يأتينا عن طريق الخبرة الحسية.. ولو حاولنا تعليل القوانين بقولنا (لماذا) لاحتاج التعليل إلى تعليل، وهذا إلى ثالث، وهلم جرا، ونكون عندئذ كالهندي الذي سأل (لماذا) لا تسقط الأرض في الفضاء؟.. وأجاب نفسه بقوله: لأنها تستند إلى فيل، ثم سأل مرة أخرى: ولماذا لا يسقط الفيل في الفضاء؟.. وأجاب نفسه بقوله: لأنه بدوره يستند إلى سلحفاة، لكنه سأل نفسه: ولماذا لا تسقط السلحفاة في الفضاء؟.. فأخذته الربكة، وقال: إنه ملَّ البحث الميتافيزيقي، ولا يريد المضي فيه) (1)

وهذا المنهج في التفكير الذي يعتمده الملاحدة، دليل على مدى غلبة التفكير الرغبوي عليهم، ذلك أن مبدأ العلية من مبادئ الذهن الأولى، بل هي من القضايا التي يتوقف عليها عقل كل إنسان، ويحكم بها، قبل الحكم بسائر القضايا، ويجعل لها قيمة، وأهمية تجعلانها فوق كل مناقشة.. فتلك القضايا للتفكر، كالعضلات للمشي، على تشبيه الفيلسوف [له بينج]

__________

(1) الفلسفة بنظرة علمية، لبرتراند راسل، تلخيص وتقديم د زكي نجيب محمود، 95 – 102، بتصرف.

كيف تناظر ملحدا؟ (84)

ذلك أن كل إنسان يستخدمها ـ حتى ديفيد هيوم نفسه ـ ربما البعض لا يعرفها في حالته الابتدائية، أي يستخدمها من حيث لا يشعر، وهي آخِرُ تأمين على ما يعرف الإنسان، وما يريد أن يعرفه من الحقائق؛ ولولاها، لما تقررت أي حقيقة في الأذهان.

لقد قال أرسطو معبرا عن ذلك: (للمبادئ الأولى خصلتان؛ الأولى: عدم احتياجها إلى الإثبات بالدليل.. والثانية: كونها معلومة بيقين، أعلى من جميع النتائج، التي يمكن أن تُستنتج منها؛ لأن الاستنتاج مجرى اليقين، والمبادئ معادنه).. وقال: (لو احتاج كل معرفة إلى البرهنة، لاستحال العلم).. أي، للزم التسلسل في البراهين.

فجميع العلوم مدينة لمبدإ العلية؛ لأن العلم معرفة الشيء بسببه؛ وبعبارة أخرى بدليله؛ فلولا مبدأ العلية في الإنسان، لما انبعثت نفسه إلى تحري الأسباب، والعلل، وارتفعت العلوم (1).

وقد قال الغزالي معبرا عن هذا المعنى: (من بدائة االعقول أن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب يحدثه، والعالم حادث فإذا لا يستغني في حدوثه عن سبب) (2).

ويوضح الفخر الرازي هذه الحقيقة بقوله: (إن حدوث دار منقوشة بالنقوش العجيبة، مبنية على التركيبات اللطيفة الموافقة للحكم والمصلحة يستحيل إلا عند وجود نقاش عالم، وبان حكيم، ومعلوم أن آثار الحكمة في العالم العلوي والسفلي أكثر من آثار الحكمة في تلك الدار المختصرة، فلما شهدت الفطرة الأصيلة بافتقار النقش إلى النقاش والبناء إلى الباني، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم كان أولى) (3)

__________

(1) انظر: موقف العلم والعقل من رب العالمين، مصطفى صبري.

(2) احياء علوم الدين: للغزالي، ج 1، ص 106.

(3) التفسير الكبير: للرازي، ج 19، ص 73.

كيف تناظر ملحدا؟ (85)

وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرض بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} [الطور: 35، 36]؛ فالآيتان الكريمتان تضعان الإنسان أمام ثلاثة احتمالات تتمثل في:

أ. أنهم خلقوا من غير خالق وهذا ممتنع عقلاً.

ب. أنهم خلقوا أنفسهم وغيرهم.. وهذا أشد امتناعاً في العقل، لأن المخلوق لا يخلق نفسه ولا غيره.

ج. أن لهم خالقاً خلقهم، وهذا ما يسلم به العقل، وهو الحق.

وبناء على هذا، فإن نقد السببية وعدم الاعتراف بها نقد لكل علوم الدنيا وأصول القواعد وكليات البديهيات، ومن العجيب أن المُلحد يُعمِل السببية في مخبره، ويُسِّلم بوجودها، ويُسلِّم بيقينية مُعطياتها، ويُسلم بنتائج تجاربه المرتبطة بها.. بل يُعمل السببية في كل كبيرة وصغيرة من حياته الشخصية وفي بحثه وحاله ومآله، ثم يوقف السببية في أصل كل هذه الأمور، ويفترض العدم مصدراً وحيداً للوجود، ويُصِر على ذلك، وهذا هو الكبرياء بعينه.

ومما قد يستدل به الملاحدة الجدد على نفي السببية ما يطلق عليه [حُجة التذبذب الكمومي]، أو [مبدأ عدم اليقين عند هايزنبرج]

وقد رد على هذا المبدأ الملاحدة أنفسهم، فقد قال [ستيفن هاوكنج] في كتابه [التصميم العظيم]: (في حال مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج يجب أن نعلم أنه يستحيل أن يوجد مكان يخلو من الطاقة ونقل الطاقة، ولابد أن يحتوي على أقل قدر من الطاقة في هذا الفراغ، ويحدث أن تظهر وتختفي لحظياً جسيمات، لكن هذا الظهور والإختفاء محكوم بعالم الكوانتم المادي ـ له قوانين وأُسس وأُطر ضابطه ـ أي أننا لسنا في العدم بل في عالم مادي.. ولو صح أن هذه الجسيمات تحتوي على طاقة لانهائية لكان المفترض بمجرد ظهور الكون وظهور هذه الجسيمات لانهائية العدد والطاقة فإنها تؤدي إلى انكماش الكون على نفسه فورا وانتهائه وهذا بداهة ما لم

كيف تناظر ملحدا؟ (86)

يحدث) (1)

ثانيا ـ إسناد الخلق للطبيعة وقوانيها

وهو من أهم الأطروحات الإلحادية وأكثرها انتشارا، حيث يعتبر الملاحدة أن علة وجود العالم هي قوانين الكون نفسها.. أو هي الطبيعة.. ويرون أن ما في الكون من الأنظمة وقوانين يجعله مستغنيا عن خالق يدبر أموره.. فقوانينَ الكون هي التي تحكُمُ الكون.

وقد ظهر هذه المغالطة قديما عند بعض الفلاسفة الطبائعيين، والذين ذكروا أن عناصر العالم الأربعة (الماء والهواء والتراب والنار) هي أصل الوجود، وأنها قديمة، وأن كل شيء يتكون من اتحادها أو افتراقها (2).

وبقيت هذه المغالطة مستعملة إلى العصر الحديث، وفي كل فترة تلبس لباسا جديدا، أو تظهر بصورة جديدة:

فمن صورها تلك الصورة التي ظهرت بها في القرن الثامن عشر فيما يعرف بمدرسة الفلسفة الطبيعية، التي انتهت إلى المادية الضرورية المحضة متمثلة في المدرسة الماركسية، والتي تقوم على فكرة أن المادة قديمة، ولها قوانينها، وتلك القوانين هي التي أوجدت كل الموجودات، وقوانين المادة تلك هي البديل على الاختراع الإلهي، فالمادة هي الله، وقوانينها هي الإرادة الإلهية.

وقد قال ماركس معبرا عن ذلك: (إن العزة الإلهية والهدف الإلهي هي الكلمة الكبيرة المستعملة اليوم لتشرح حركة التاريخ، والواقع أن هذه الكلمة لا تشرح شيئا) (3)

__________

(1) التصميم العظيم ص 169 - 171.

(2) انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم 45 – 46.

(3) بؤس الفلسفة، كارل ماركس، ترجمة، أندريه يازجي، دار اليقظة ومكتبة الحياة، سوريا، 127..

كيف تناظر ملحدا؟ (87)

وقال كيلي وكوفالزون: (إن العلم إذ يكشف عن الصلات الطبيعية بين ظواهر الطبيعة؛ يطْرُد في تصوره الإله من الطبيعة، ويدحض خطأ المثالية، ويؤيد صحة النظرة المادية للعالم، والعلم يتفق مع المادية في بحثه عن الحقيقة في الحياة ذاتها، وفي الطبيعة، وهذا ما يدل على أن العلم الحقيقي هو ذو طابع مادي. إن العلم مادي بطبيعته وبجوهره، والمثالية غريبة عنه وعدوة له) (1)

وهكذا ذهب دولباك (1723 ـ 1789) إلى أن (المادة متحركة بذاتها، وأن كل شيء يفسر بالمادة والحركة، وأنهما أزليتان أبديتان، خاضعتان لقوانين ضرورية هي خصائصهما. فليس العالم متروكًا للصدفة، ولا مدبرًا بإله، وكل الأدلة على وجود الله منقوضة، ولا غائية في الطبيعة. ليست العين مصنوعة للرؤية، ولا القدم للمشي، ولكن المشي والرؤية نتيجتان لاجتماع أجزاء المادة. ولا نفس في الإنسان، ولكن الفكر وظيفة الدماغ، والفرق بين العقول نتيجة الفرق بين الأدمغة) (2)

وهكذا (وجدت الطبيعة ليس فقط قبل الناس، وإنما عموما قبل الكائنات الحية، وبالتالي مستقلة عن الإدراك، وهي أولية.. أما الإدراك فلم يستطع التواجد قبل الطبيعة، فهو ثانوي) (3)

بل إننا نجد من راح يطرح دين الطبيعة بديلا للأديان السماوية، مثلما فعل [بول هينري ثيري] المعروف بـ[بارون دي هولباخ] (4) في بداية عصر النهضة الأوروبية في كتابه [فضح

__________

(1) المادية التاريخية، ف. كيلي، م كوفالزون، ترجمة: أحمد داود، نشر دار الجماهير، دمشق، 500..

(2) تاريخ الفلسفة الحديثة ليوسف كرم، 192، 193..

(3) أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية، لسيريكين وياخوت، ترجمة محمد الجندي، دار التقدم، موسكو، 39..

(4) بارون دي هولباخ: [1723 - 1789] كاتب وفيلسوف وموسوعي فرنسي ألماني، عرف عن كونه واحدا من رواد في عصر التنوير الفرنسي، وقد عرف بتواجده في الصالونات الأدبية، وعرف بإلحاده، وقد كانت له عدة كتابات ضد الدين، وقد كان كارل ماركس واحد من المتأثرين بأفكاره.. انظر في ترجمته د. رمسيس عوض، الإلحاد في الغرب ص 136.

كيف تناظر ملحدا؟ (88)

أسرار المسيحية ومنهج الطبيعة]، وهو الكتاب الذي دعا فيه إلى عبادة الطبيعة بدل الله.

وقد عبر مؤرخ الحضارة الكبير [ويليام جيمس ديورَانت] عن رؤيته وعمله في ذلك، فقال: (بعد أن انتهى دي هولباخ من بيان برنامجه على هذه النحو تقدم في ترتيب ونظام ليفند كل الكائنات والاعتبارات والأفكار الخارقة للطبيعة. ويحبذ الطبيعة بكل ما فيها من جمال وقسوة وتقييد وإمكانات، وليختزل كل الحقيقة والواقع إلى مادة وحركة، ويبني على هذا الأساس المادي منهجاً للفضيلة والأخلاق يأمل أن يكون في مقدوره أن يحول المتوحشين إلى مواطنين، ويشكل الخلق الفردي والنظام الاجتماعي ويضفي سعادة معقولة على حياة مقرر لها الموت المحتوم. إنه يبدأ ويختتم بالطبيعة، ولكنه ينكر أية محاولات لتشخيصها أو تجسيدها، إنه يحددها ويعرفها بأنها الكل الأعظم الذي ينتج من اجتماع المادة في مجموعاتها المختلفة. وهذا هو الاسم المحبب لدى دي هولباخ للكون، فهو يعرف المادة في حرص وحذر بأنها بصفة عامة، كل ما يؤثر على حواسنا بأي شكل كان) (1)

ثم اقتبس من كتابه قوله: (كل شيء في الكون في حركة دائبة.. وجوهر المادة هو أن تعمل، وإذا تأملناها في يقظة تامة لاكتشفنا أنه ليس ثمة جزء صغير فيها ينعم بسكون مطلق، وكل ما يبدو لنا أنه ساكن لا يبقى ولو للحظة واحدة على نفس الحالة، وكل الكائنات تتناسل وتتكاثر وتتناقص وتتفرق باستمرار.. إن أشد الصخور صلابة تتصدع بدرجات متفاوتة أمام لمسات الهواء.. إن هذا الكل لا يقدم لمجال تأملنا وتفكيرنا إلا مجرد تعاقب ضخم متصل غير متقطع لأسباب ونتائج.. وكلما ازدادت معرفتنا وجدنا أبلغ دليل على أن الكون يعمل من

__________

(1) قصة الحضارة (38/ 142)

كيف تناظر ملحدا؟ (89)

خلال الأسباب الطبيعية وحدها. وقد يكون من العسير أن ندرك كيف أن المادة الجامدة يمكن أن تكون فيها حياة، ولكن يكون من الأصعب أن تصدق أن الحياة خلق أو نتاج خاص لوجود خفي خارج عن الكون المادي)

وهكذا أعطى [بارون دي هولباخ] للطبيعة كل صفات حتى أنه في سنة 1704 م عندما أصدر [صامويل كلارك] كتابه [مبحث عن وجود الله وصفاته]، ونسب لله الصفات الواجبة له مثل الخلود والقدم واللامحدودية واللانهائية، رد عليه بقوله: (إن جميع الصفات التي نسبتها يا كلارك لله غير قابلة للفهم، بل هي تنطبق على المادة والطبيعة بصورة أوضح)

ولم يتوقف تأليهه للطبعية عند ذلك الحد، بل راح يناجيها كما يناجي المؤمنون الله، فقد قال في فقرة ختامية من كتابه [منهج الطبيعة] يناجيها، وكأنها الله نفسه: (أيتها الطبيعة، يا سيدة كل الكائنات.. إن بناتك الفاتنات الجديرات بالتوقير والعبادة.. الفضيلة والعقل والحقيقية.. يبقين إلى الأبد معبوداتنا الوحيدات.. إن إليك تتجه كل تسابيح الجنس البشري وينصب عليك ثناؤه، وإليك يقدم كل ولائه وإجلاله)

وهذا ما كان سائدا في الغرب في عصر النهضة، فقد تصوروا أنه يمكن أن يسند لقوانين الطبيعة كل شيء، باعتبار أن في إمكانها أن تعوض الله، وأن تفسر كل حقائق الوجود، أو كما عبر عن ذلك بعضهم بقوله: (لقد أثبت (نيوتن) أنه لا وجود لإله يحكم النجوم، وأكد (لابلاس) بفكرته الشهيرة أن النظام الفلكي لا يحتاج إلى أي أسطورة لا هوتية.. وقام بهذا الدور العالمان العظيمان (دارون) و(باستور) في ميدان البيولوجيا.. وقد ذهب كل من علم النفس المتطور والمعلومات التاريخية الثمينة التي حصلنا في هذا القرن بمكان الإله، الذي كان مفروضا أنه هو مدير شئون الحياة الإنسانية والتاريخ) (1)

__________

(1) نقلاعن الاسلام يتحدى مدخل علمي الى الايمان، وحيد الدين خان، تعريب: ظفر الاسلام خان، مكتبة الرسالة، ص 18.

كيف تناظر ملحدا؟ (90)

وعبر عنه الرياضي والفلكي المعروف [بيير سيمون لابلاس] حين سأله نابليون عن مكان الله في نظامه الميكانيكي الخاص بالأجرام السماوية، فقال له بكل ثقة: (يا سيدي لست بحاجة إلى هذا الافتراض) (1)

وبقي كل الملاحدة على هذه الرؤية إلى أن جاء الإلحاد الجديد، وراح يدعمها بصنوف الحيل والخدع، ومن أمثلة ذلك قول هاوكنج: (تماما مثلما فسر دارون ووالاس كيف أن التصاميم المعجزة المظهر في الكائنات الحية من الممكن أن تظهر بدون تدخل قوة عظمى، فمبدأ الأكوان المتعددة من الممكن أن يفسر دقة القوانين الفيزيائية بدون الحاجة لوجود خالق سخر لنا الكون.. فبسبب قانون الجاذبية فالكون يستطيع ويمكنه أن ينشيء نفسه من اللاشيء.. فالخلق الذاتي هو سبب أن هناك شيء بدلا من لا شيء، ويفسر لنا لماذا الكون موجود، وكذلك نحن) (2)

وكل هذه الطروحات لا تعدو أن تكون مغالطات عقلية، ذلك أن من يقول بذلك لا يختلف كثيرا عمن يزعم أن القوانين التي تعمَل بها السيارة يمكن أن تُسيِّر السيارةَ دون الحاجة لمن يقُودها.. أو مثل من يعتقد أن القوانين التي تعمل بها الطائرة يمكن أن تجعَلها تطير دون الحاجة لمن يقودها.. أو مثل من يعتقد أن القوانينَ الحسابية يمكن أن تُجريَ عملية حسابية دون الحاجة إلى محاسبٍ مالي (3).

__________

(1) نقلا عن العلم في منظوره الجديد لروبرت م. أغروس وجورج ن. ستانسيو، ترجمة كمال خالايلي، طبع سلسلة عالم المعرفة، ورقمه في السلسلة (134)، ص 54.

(2) المرجع سابق.

(3) اقتبسنا بعض المعلومات الواردة هنا من مقال بعنوان: مغالطات أكذوبة الملاحدة: أن الكونَ يسير بقوانينَ؛ فلا يحتاج إلى خالق ليدبِّرَ أمره..

كيف تناظر ملحدا؟ (91)

ولا يخفى أن كل ذلك مغالطات لا دليل عليها، بل كل شيء ينفيها.. إذ قوانينُ الكون ليست عندها المقدرة على تدبير وتسييرِ الكون، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة.. فقوانين السيارة ليست عندها المقدرة على قيادة السيارة، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة.. وقوانين الطائرة ليست عندها المقدرة على طيران الطائرة، سواء أكانت مجتمعة أم متفرقة!

وهكذا، فإن قوانين الكون هي وصفٌ لطريقة سَيْر الكون، وليست هي مَن يُسيِّر الكون، كما أن قوانين الطائرة هي وصفٌ لطريقة طيران الطائرة، وليست هي مَن يقود الطائرة.

بل إن قوانينَ الكون تدل بَداهةً على وجود مُقنِّن لها، سنَّ هذه القوانين، وأودَعها في الكون، والعلمُ بذلك كالعلم بوجود كاتبٍ للكتابة، وبانٍ للبناء، ومؤثِّر للأثر، وفاعل للفعل، ومحدِث للحدَث، وهذه القضايا المعيَّنة الجزئية لا يشكُّ فيها أحدٌ مِن العقلاء، ولا يُفتَقَر في العلم بها إلى دليلٍ؛ فهي واضحةٌ ظاهرة.

قد يقال: إذا كانت قوانينُ الكون تدلُّ بَداهةً على وجود مُقنِّن لها سنَّ هذه القوانينَ وأودَعها في الكون؛ فلم لا يعتبر الكون نفسه هو الذي سن هذه القوانينَ.. أي سن القوانين لنفسه؟

والجواب عن هذا هو أنه لو كان الكونُ هو الذي سنَّ هذه القوانين لنفسه، لاستطاع أن يُغيِّرَها كما يشاء، لكن الواقع أنه لا يستطيع تغييرَها، ولا الخروج عنها، وإنما هي مفروضةٌ عليه فرضًا؛ فدلَّ ذلك على أن هذه القوانينَ ليست مِن الكون نفسِه.

قد يقال: فلم لا نقول بأن الذي سنَّ هذه القوانينَ هي القوانينُ نفسُها؟

والجواب عن هذا هو أن هذا تصويرٌ للقوانين على أنها فاعلٌ محرك، وهذا تصوُّر غير صحيح، والواقع يرفضه؛ لأن القوانينَ مجردُ وصفِ سلوك الظواهر الطبيعية التي تحدُثُ في

كيف تناظر ملحدا؟ (92)

الكون وتتكرَّر تحت نفس الظروف، وليست هي الفاعلَ المحركَ للكون.

قد يقال: فلم لا نقول بأن الذي سنَّ قوانينَ الكون هي الصدفةُ؟

والجواب عن هذا هو أن الصُّدفةَ تصف كيفية الحدث، ووصفُ كيفية حدوث الفعل لا ينفي وجودَ فاعلٍ له.. ومعنى أن الفعلَ حدَث صدفة أنَّ الفعل حدَث دون قصدٍ وترتيب مسبق مِن الفاعل، وليس أن الفعلَ ليس له فاعلٌ.

بالإضافة إلى ذلك، فإن العلامة المميزة للصدفة: هي عدمُ الثبات، وعدم الاطِّراد، بينما قوانينُ الكون ثابتةٌ مطَّردة.. والصُّدفة لا تنتج قوانينَ مطردة ثابتة.. ولو سلَّمنا جدلًا وتنزُّلًا أنها أنتجت قوانينَ مطردة، فسَرْعان ما تزول هذه القوانينُ.

ولذلك كله فإن ما ذكروه أصعب هضما للعقل من إسناده إلى خالق عظيم، كما عبر عن هذا المعنى العالم المختص في علم الأحياء والنبات [رسل تشارلز آرنست] بقوله: (الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بخذلان وفشل ذريعين.. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع بعض الذرات والجزيئات عن طرق المصادفة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية. وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده. ولكنه إذ يفعل ذلك فإنما يسلم بأمر أشد إعجاز وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله الذي خلق هذه الأشياء ودبرها) (1)

وذلك لكون (المادة لا يمكن أن تكون مطلقا مبدأ حياة ولا مصدر، لأن ما كان خاليا من شيء قوة وفعلا لا يمكنه مطلقا أن يكون مصدرا له، ومادة الخالية من الحياة بالقوة والفعل، فإذا لا يمكن أن تكون مصدرا للحياة. أما خلوها من الحياة فعلا فبالمشاهدة، لأن كلا يرى أن

__________

(1) الله يتجلى في عصر العلم، 79، مقالة (الخلايا الحية تؤدي رسالتها)، لرسل تشارلز آرنست.

كيف تناظر ملحدا؟ (93)

المادة عرية منها، وإلا لاقتضى أن تحرك نفسها فعلا بأن تنمو أو تحس أو تعقل، وذلك ظاهر البطلان ظهور الشمس في رابعة النهار. وأما خلوها منها بالقوة؛ فلأنها لو قدرت أن تبرز الحياة ذات يوم لقدرت أن تبرزها الآن؛ لأن طبائع الأشياء ثابتة لا تتغير، فكما كانت من قبل فهي الآن، ولا يمكن أن توجد في وقت وتضمحل في آخر، وذلك مقرر في مبادئ العلوم الطبيعية الثابتة، فما شوهد قط ولا يشاهد أدنى أثر للحياة في المادة؛ فإذا ثبت الافتقار إلى موجد هو مسبب الأسباب) (1)

ثالثا ـ إسناد الخلق للصدفة والعشوائية

وهي من المغالطات التي يستعملها أكثر الملاحدة، فهم يذكرون ـ بصيغ مختلفة ـ أن كل ما نراه من أنواع الجمال والنظام، والإبداع والإتقان ليس نتاج خلق إلهي محكم، وإنما هو ثمرة لصدفة (2) عشوائية تنقلت طورا فطورا إلى أن تحولت إلى العالم الذي نراه بأحيائه وجماداته (3).

أي أن الحياة ـ كما يرون ـ نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل

__________

(1) دلائل التوحيد للقاسمي، 101..

(2) يقصد بالصدفة عدة معانٍ، منها: حدوث الشيء دون علة؛ كغليان الماء دون أي سبب، وهذا مستحيل؛ فمن المستحيل حدوث شيء دون علة وسبب.. ومنها: حدوث الشيء بعلة مجهولة، مثل صديق كان يمشي في شارع لزيارة أحد أقاربه، فوجد صديقًا له كان ذاهبًا لشراء طعام من السوق صدفة، وهنا ترافق وتزامن.. ومنها: حدوث الكون وانتظامه عبر سلسلة من العلل غير العاقلة وغير المدركة، ومنها: التقاء عرضي لسلسلتين من الأسباب، ومنها: توفر مجموعة من العوامل بطريقة غير واعية لتُشكل ظاهرة..

(3) استفدنا الكثير من المادة العلمية المرتبطة بهذا المطلب من كتاب [الملحد واستدلاله الخاطئ بالصدفة] د. ربيع أحمد.

كيف تناظر ملحدا؟ (94)

الحيوي استمر لملايين السنين، ابتداءً من الكيميائيات البسيطة، مرورًا بالجزيئات المتعددة، والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيًّا داخلة بدورات تحفيزية، وصولًا إلى كائنات [ما قبل بكتيرية]، وأخيرًا وصولًا إلى بكتريا بسيطة.

ومثل ذلك الكون الذي نراه بهذا الانتظام لم يتكون ـ كما يذكرون ـ إلا صدفة نتيجة سلسلة من العلل المادية غير العاقلة وغير المدركة.. ونتيجة لتوافر الظروف والعلل المادية لنشأة الكون نشأ الكون دون حاجة لقوة عاقلة مريدة أرادت إنشاءه على هذا الشكل.

وهم يستعملون في ذلك أساليب مختلفة، بحسب العصر العلمي الذي يكونون فيه، حيث نجدهم يقللون الاحتمالات في العصور السابقة التي لم يتم اكتشاف الكثير من الحقائق العلمية فيها، ويزيدونها في العصور التالية.

ومن أمثلة ذلك أن [توماس هنري هاكسلي (1)]، والذي كان يدعى (كلب داروين) نتيجة إخلاصه الشديد لدارون ونظرية التطور، ذكر أنه: لو تركنا ستة قرود تضرب على آلة كاتبة تحوي 26 حرفا، و4 رموز، ومسافات، وزمنا طويلا، فإنها يمكنها أن أن تكتب الاعمال الكاملة لويليام شكسبير..

أما في العصور المتأخرة، وبعد الاكتشافات العلمية الكثيرة، فإنه لم تعد تكفي القرود الستة، فذلك راحوا يجرون تعديلات على تلك النظريات، فاستبدلوها بنظرية جديدة، وهي [نظرية القردة اللا متناهية]، أو على وضع أكبر عدد من الاحتمالات والفرص ليتحقق من خلالها الكون بالصورة التي نراه عليها..

__________

(1) توماس هنري هاكسلي: (1825 - 1895) عالم أحياء بريطاني.. كان قد لقب بـ (كلب داروين) لدفاعه القوي عن نظرية تشارلز داروين النشوء والتطور.. التقى تشارلز داروين في حوالي 1856.. وهو صاحب نظرية القرد.

كيف تناظر ملحدا؟ (95)

ولذلك نراهم يضعون ترليونات الاحتمالات التي تفوق كل الممكنات في سبيل إلغاء قوة خارجية أنشأت الكون وصممته، حتى أن دوكينز أثناء رده على المعجزات باعتباره تدل على وجود قوة خارجية راح يقول في كتابه صانع الساعات الأعمى: (المعجزة عبارة عن شيء ممكن الحدوث، لكن حدوثه مفاجئ جدًا. فإذا لوّح تمثال رخامي لمريم العذراء بيده تجاهنا فعلينا اعتبار ذلك معجزة، لأنّ كلَّ خبراتنا ومعارفنا تؤكّد لنا عجز الرخام عن هذه الحركة.. لكن العلم لن يحكم على هذه الحادثة باعتبارها مستحيلة تمامًا، ولكنها فقط غير محتملة الحدوث للغاية) (1)

ويعبر في موضع آخر عن هذه الفكرة بصيغة أكثر وضوحا، فيقول: (فرضيتي بأنّ الأحداث التي يشيع ذكرها كمعجزات ليست أمورًا خارقة للطبيعة، لكنّها جزءٌ من سلسلة من الأحداث الطبيعية الأكثر أو الأقل احتمالية.. المعجزة، بكلمات أخرى، في حال حدثت، فإنّ ذلك ضربة حظ مبهرة، لا تنقسم الأحداث برتابة إلى أحداث طبيعية ومعجزات.. فبمجرّد إعطاء وقتٍ أو فرصٍ غير محدودة، فإنّ أيَّ شيءٍ ممكن) (2)

وبناء على هذا، فقد طرح في كتابه [وهم الإله] إمكانية توفر ملايير ملايير الكواكب التي تصلح للحياة في مكان ما من الكون الواسع، حتى يكون كوكبنا هذا، وبالصورة التي هو عليها مجرد احتمال من الاحتمالات، أو كما عبر عن ذلك بقوله: (سأقولها ثانية، إذا كانت احتمالات تولّد حياة على كوكبٍ ما عفويًا واحد إلى مليار، يبقى الحدث غير المتوقّع مع ذلك

__________

(1) صانع الساعات الأعمى، لماذا تُظهِر أدلة التطوّر كوناً بلا مصمم، ريتشارد دوكينز،: (نيويورك: نورتون، 1996)، 159.

(2) المرجع السابق، ص 139.

كيف تناظر ملحدا؟ (96)

مفاجأة ممكنة الحدوث على مليار كوكب) (1)

ونتيجة لهذه الطريقة في التفكير راح يفسر كل شيء، فهو لا يحتاج إلا إلى الزمن، وقد قال شارحا كيف تعمل الصدفة عملها في تمثال الرخام الذي سبق ذكره: (فيما يتعلّق بالتمثال الرخامي، تتدافع الجزيئات في الرخام الصلب فيما بينها باتجاهات غير محدّدة باستمرار، يلغي التدافع بين الجزيئات المختلفة بعضه، لذلك تبقى كامل يد التمثال ثابتة. ولكن إذا حدث واتجهت كل الجزيئات ـ بصدفة مطلقة ـ باتجاه واحد في اللحظة نفسها فستتحرّك اليد. من الممكن أن يلوّح تمثال رخامي لنا في هذه الحالة. من الممكن أن تحدث، لكن الاحتمالات المعاكسة لمثل هذه صدفة، كبيرةٌ بشكلٍ غير ممكنٍ تخيّله. ولكن ليست عصية على الحساب كثيرًا. قام زميلٌ فيزيائي بحساب ذلك لي، ووجد أنّ عدد الاحتمالات كبيرٌ جدًا بحيث أنّ عمر الكون حتى يومنا هذا صغير جدًا لا يكفي لكتابة كل الأصفار! من الممكن لبقرةٍ أن تقفز إلى القمر نظريًا مع أنّ احتمالية ذلك قليلة. إنّ خلاصة هذا الجزء من النقاش أن نتمكًن بالحساب من الوصول إلى مناطق من ضآلة الاحتمال بشكل أكبر بكثير مما نستطيع أن نتخيله معقولًا) (2)

وكل هذه أطروحات ممتلئة بالمغالطات، ولم يدل عليها أي دليل علمي ولا رياضي، ولا عقلي.. حتى أن البعض أجرى تجربة على مجموعة من القردة، وبعد تدريبها على الضرب على لوحة المفاتيح، وتركها مدة طويلة، لم تتمكن من كتابة كلمة واحدة كاملة (3).

__________

(1) وهم الإله، ريتشارد دوكينز، ص 373 - 374.

(2) صانع الساعات الأعمى، 159 - 160..

(3) أراد المركز البريطاني للبحوث اختبار هذه النظرية حاسوبياً.. فوضع ستة قردة افتراضية بدأت تضرب على الآله الكاتبة لمدة شهر كامل لم يجدوا فيها كلمة مكونة من حرف واحد.. في الإنجليزية، مع العلم أن الحرف في الإنجليزية يعتبر كلمة اذا كان مسبوقاً ومتبوعاً بفراغ..

كيف تناظر ملحدا؟ (97)

مع العلم أنه حتى لو تمكنت هذه القردة من كتابة جملة، بل من كتابة قصيدة، بل من كتابة ديوان كامل، فإن ذلك لا يغير من القضية شيئا.. ذلك أن كل ذلك لا يساوي شيئا أمام دقة خلية واحدة وإحكامها وعجائب صنعتها.

بالإضافة إلى ذلك يقال لهؤلاء المولعين بإضافة احتمالات عدد القردة، وما عليها كتابته، ليثبتوا الصدفة (1): هل يمكن لهذه القردة أن تنطق كلماتها، أو تجعل كلمات القصيدة ناطقة؟.. وهل هناك قرد يعيش ملايين السنين؟.. وهل هناك آلة كاتبة تظل تطبع لملايين السنين؟.. وهل هناك أوراق تكفي للكتابة عليها لملايين السنين؟.. ومن الذي صنع له الحبر ووفره له في نفس المكان الذي هو فيه؟.. ومن الذي وفر له الأوراق في نفس المكان الذي هو فيه؟

ولو سلمنا أن الصدفة يمكن أن تنتج أشياء غير متوقعة، فليس معنى ذلك أنها يمكن أن تنتج حدثًا مستحيلاً، ونشأة نظام مستمر قابل للتفسير بلا منظم عاقل: حدَثٌ مستحيل لا يمكن وقوعه مهما طال الزمان، وتحول مادة غير حية بنفسها لمادة حية: حدث مستحيل لا يمكن وقوعه مهما طال الزمان، وتحول مادة غير واعية بنفسها إلى كائن واعي: حدث مستحيل لا يمكن وقوعه مهما طال الزمان، وتحول مادة لا تسمع بنفسها إلى كائن يسمع: حدث مستحيل لا يمكن وقوعه مهما طال الزمان، وتحول مادة لا تضحك إلى كائن يضحك: حدث مستحيل لا يمكن وقوعه مهما طال الزمان.

ولذلك فإن الرد على هذه المغالطة من أيسر الأمور، ذلك أنها لا تعتمد إلا على نفس المبادئ التي يعتمد عليها هؤلاء في طروحاتهم، ويغالطون فيها، وسنذكر هنا باختصار خمسة وجوه، يمكن الاستفادة منها في الرد على هذه المغالطة (2):

__________

(1) انظر: الملحد واستدلاله الخاطئ بالصدفة، د. ربيع أحمد.

(2) انظر: الملحد واستدلاله الخاطئ بالصدفة، د. ربيع أحمد.

كيف تناظر ملحدا؟ (98)

1 ـ الصدفة تفسر كيفية الحدث لا تحديد الفاعل

ذلك أنه يمكننا قبول الصدفة باعتبارها تصف كيفية الحدث.. لكن لا يمكن قبولها أبدا لنفي وجود فاعل للحدث.. وهو ما يقوم به الملاحدة، حيث يجعلون الصدفة وسيلة لنفي الفاعل، لا لوصف الكيفية.

والأمثلة الواقعية المقربة لهذا كثيرة جدا، ونعيشها كل يوم، ومنها ـ مثلا ـ أنه عندما اكتشف أهالي إحدى قرى المنوفية بمصر عن طريق الصدفة مدخل مقبرة فرعونية أثناء إجراء حفائر لتشييد مسجد، وقاموا بإبلاغ مسؤولي المجلس الأعلى للآثار، الذين أوفدوا لجنة فنية وأثرية متخصصة، وتبين لهم ـ بعد البحث والتنقيب ـ أنه من الاكتشافات الأثرية المهمة، وأنه يعود إلى العصر الفرعوني المتأخر للدولة الفرعونية القديمة.

فهنا عبرنا عن الاكتشاف بكونه صدفة.. لكنا لم نعبر عن المكتشَف بأن حصوله كان صدفة، وإنما رحنا نبحث بجد عن حقيقته وتاريخه والتفاصيل المرتبطة به، ولو اعتبرناه صدفة لما فعلنا ذلك.

وهكذا عندما نسمع أن أحد القوانين الفيزيائية اكتشف صدفة.. مثل اكتشاف أرشميدس لقانون الطفو، واكتشاف نيوتن للجاذبية.. لا نفهم من ذلك أن القانون ليس له مكتشِف.. وإنما طريقة الاكتشاف فقط كانت عن طريق الصدفة.

وهكذا عندما نسمع أن شيئًا من الأشياء اخترع صدفة.. مثل اختراع هانز ليبرش للنظارة الطبية، واختراع جون واكر لأعواد الثقاب، واختراع ليبارون سبنسر للميكروويف.. لا نفهم من ذلك أن هذا الشيء ليس له مخترِع.

وهكذا عندما نسمع أن جريمة من الجرائم اكتشفت صدفة لا نفهم من ذلك أن هذه الجريمة ليس لها مرتكب.

وبناء على هذا، فإن اعتبار الكون نشأ صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات الطويلة، دون

كيف تناظر ملحدا؟ (99)

تنظيم أو تخطيط سابق.. مقولة غير صحيحة، بل هو مغالطة صريحة.

بل إن الملاحدة في معاملاتهم العادية يقرون بهذا، ويعتبرونه، ولا يطبقونه إلا في هذا الأمر وحده، لينفوا وجود الله..

ومن الأمثلة على ذلك أن [كارل ساغان]، في روايته [اتصال] التي حولتها [هوليود] إلى فلم سينمائي، يحكي قصة عالِمة فلك تدعى [إيلي] كانت تدرس مع زملائها في مركز أبحاث [سيتي] إشارات واردة من أعماق الفضاء، وتبين من خلال البحث أنها تتمتع بصفتي التفرد والتعقيد، وذلك ما جعل أعضاء فريق البحث يؤكد أنها يستحيل أن تكون قد نشأت بالصدفة، ولذا يصيحون: (إنها ليست تشويشا كونيا.. إنها تحمل نظاما).. ثم تكشف أحداث الفيلم عن ورود تلك الرسائل بالفعل من عوالم أخرى.

فالرواية، والفيلم الذي مثلها يؤكد أن رسالة معقدة واحدة كانت كافية لإثبات وجود مرسل ذكي، لكن هذا الرجل نفسه وملايين الملحدين لم يستخدموا نفس هذا المنطق عندما يرون تعقيد الحمض النووي.. بل يعتبرونه نشأ عن صدفة عشوائية.

2 ـ تكرار الحدث يقلل من احتمالية الصدفة

وهذا من الحقائق المتفق عليها عند جميع العقلاء؛ فعندما يتكرر حدث معين بنفس النمط يستبعد العقل الصدفة من الحسبان، ويذهب للبحث عن السبب الكامن وراء الحدث؛ فالصدفة لا تکون أکثرية أو دائمية في الحدوث، بل عشوائية، لا قصد فيها ولا ترتيب، ولا يمكن التنبؤ بها قبل حدوثها، وهذا ما يقضي على تلك المغالطة من أساسها، لأنها تنبني ـ كما ذكرنا ـ على اعتماد الزمن الطويل، والزمن ليس في مصلحة الصدفة.

ومن الأمثلة المقربة لهذا المعنى أنه لو وجدنا حادثة من الحوادث تتكرر من حين لآخر في نفس المكان وبنفس النمط، فإننا لا شك نستبعد الصدفة، ونبحث عن السبب الكامن وراء ذلك، وهذا السبب ربما يكون خللاً ما في هذا المكان، أو شخصًا معينًا يتسبب في ذلك.

كيف تناظر ملحدا؟ (100)

فلو رسب طلاب مدرسة معينة في امتحان معين دون باقي المدارس، فلا شك أننا سنستبعد الصدفة، ونبحث عن سبب ذلك، فقد يكون خللاً في المنظومة التعليمية، أو إهمال أُسَرِ الطلاب لأبنائهم أو غير ذلك.

ولو أن شخصا يسكن في شقة وحيدًا، ويذهب لعمله صباحًا ويأتي ليلاً، وعندما عاد في يوم من الأيام لشقته وجد نافذة حجرة النوم مفتوحة، رغم أنه يغلق جميع نوافذ الشقة قبل خروجه منها، فإنه في المرة الأولى، قد يعتبر ذلك غفلة منه، وأنها حصلت صدفة، لكن إن تكرر هذا الأمر، فإنه سيستبعد الصدفة، ويبحث عن سبب ذلك، وأول ما يتبادر إلى ذهنه هو أن شخصًا يتسلل إلى شقته.

وبناء على هذا، فإن قول الملاحدة بأن مادة الكون كانت موجودة ثم انفجرت وتباعدت أجزاؤها وتناثرت، وفي اللحظات الأولى من الانفجار الهائل ارتفعت درجة الحرارة إلى عدة تريليونات، كونت فيها أجزاء الذرات، ومن هذه الأجزاء كونت الذرات، وهي ذرات الهيدروجين والهليوم، ومن هذه الذرات تألَّف الغبار الكوني الذي نشأت منه المجرات فيما بعد، ثم تكونت النجوم والكواكب، وما زالت تتكون حتى وصل الكون إلى ما نراه عليه اليوم، وكل هذا صدفة دون تدخُّل قوى عاقلة مريدة مغالطة كبيرة لا تخالف العقل فقط، بل تخالف العلم أيضا.

فحسب قانون نيوتن الأول [الجسم الساكن يبقى ساكنًا ما لم تؤثر عليه قوة خارجية فتحركه، والجسم المتحرك بسرعة ثابتة في خط مستقيم يبقى على هذه الحالة ما لم تؤثر عليه قوة خارجية فتغير الحالة الحركية له] يستدعي البحث عن قوة خارجية أدت إلى ذلك؛ لأن كل حدث لا بد له من محدِث.. وهم يذكرون أن مادة الكون الأولى كانت ساكنة ثم انفجرت، فلا بد إذن من وجود من فعل بها ذلك.

بالإضافة إلى هذا، فإنه من المعلوم أن أي انفجار يتبعه تناثر لأشلاء عديدة وجسيمات

كيف تناظر ملحدا؟ (101)

صغيرة، فكيف يتبع الانفجار تجمُّع للجزئيات والجسيمات، وتكوين أرض وجبال وكواكب ونجوم ومجرات وغير ذلك دون وجود قوة خارجية حكيمة عالمة أدت لذلك؟

ومن المعلوم أيضا أن أي انفجار يتبعه دمار، فكيف يتبع الانفجار الكوني العظيم عمار وتكوين أرض وجبال وبحار ومحيطات وأنهار وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات دون وجود قوة عالمة حكيمة؟

ومن المعلوم فوق ذلك كله أن أي انفجار يتبعه هدم، فكيف يتبع الانفجار الكوني بناء أرض وجبال وكواكب وأقمار ونجوم ومجرات دون وجود قوة عالمة حكيمة؟

وعلى التسليم الجدلي بما قالوا؛ فكيف يبقى الكون، ويستمر دون وجود قوة خارجية تحافظ على بقائه واستمراره؟

وإذا كان الكون قد تطور من المادة الأولى له، فمن الذي طور هذه المادة؛ إذ أي تطور لا بد له من مطور؟.. فإن قيل: المادة هي التي طورت نفسها عبر ملايين السنين، فالجواب: هذا الكلام يستلزم أن الأدنى يتطور بنفسه إلى الأعلى، والتطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، أمرٌ مستحيل عقلًا؛ إذ الناقص لا ينتج الكامل (1)، ويلزم من هذا الكلام قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض (2).

وإذا كان وجود هذا الكون عن طريقة الصدفة، أليس من الممكن، والحال هكذا، أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون كله؟ وتتعطل كل هذه المصالح من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك، مما في هذا الكون المترابط المنتظم بصورة تضمن استمرار الحياة سليمة عن الخراب والتداخل؛ إذ الشمس تجري لمستقر لها، والنجوم زينة للسماء، والقمر ضياء، والرياح

__________

(1) كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 331.

(2) كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 446.

كيف تناظر ملحدا؟ (102)

لواقح، والسحب تحمل المطر، والليل في وقته، والنهار في وقته، كلها تجري لصالح الإنسان، ولبقاء الحياة هذه الدهور التي لا يعرف لها وقتًا إلا الله تعالى، بل والإنسان نفسه أعظم آية، كيف أوجدته الصدفة من العدم؟ وكيف وجد الإنسان الحي من مادة ليس لها حياة؟! (1).

وعلى التسليم الجدلي أن تكوين كوكب من الكواكب كان صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين الكواكب الأخرى؟ ولو كان تكوين أحد الأقمار صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين الأقمار الأخرى؟ ولو كان تكوين أحد النجوم صدفة، فكيف تفسر الصدفة تكوين النجوم الأخرى؟ فإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت كوكبًا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث كوكب آخر كل مرة.

وإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت قمرًا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث قمر آخر كل مرة، وإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت نجمًا، فلا يمكنها أن تكرر إحداث نجم آخر كل مرة، وإذا سلمنا جدلاً أن الصدفة أحدثت مجرة، فلا يمكنها أن تكرر إحداث مجرة أخرى كل مرة؛ أي: نحن أمام كمٍّ هائل من الأحداث المتكررة، التي يحيل العقل حدوثها دون وجود قوة عالمة حكيمة أدت لذلك، نحن أمام سلسلة من الصدف المنظمة، وليس صدفة واحدة.

وما دام الكون لم يكن إلا مادة راكدة ركودًا رهيبًا، ولم يكن هناك شيء غير المادة الراكدة، فمن أين أتت هذه الصدفة التي حركت الكون كله، مع أن هذا الحادث الذي وقع لم تكن له أية أسباب موجودة، لا داخل المادة ولا خارجها؟

3 ـ احتمال وقوع الحدث لا يستلزم وقوعه

وهذا من المعلومات البديهية التي يحاول الملاحدة تجاوزها باعتبارهم أن الصدفة شيء

__________

(1) المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات للدكتور غالب عواجي 2/ 1174 - 1175.

كيف تناظر ملحدا؟ (103)

حتمي الوقوع، لا ممكن الوقوع (1).. فاحتمال وقوع الحدث لا يستلزم وقوعه، واحتمالية وقوعه تكون في كل مرة، فلو أن عندنا قطعة معدنية بها وجه صورة ووجه كتابة عندما نلقيها على الأرض، فاحتمال وقوع وجه الصورة في كل مرة واحد من اثنين 1/ 2، ولكن مع ذلك يمكن أن نلقي القطعة المعدنية عشر مرات ولا نحصل على وجه الصورة، ويمكن أيضًا أن نلقيها عشرين مرة ولا نحصل على وجه الصورة.

ولو أن عندنا حجر نرد به ستة وجوه، فاحتمال الحصول على وجه [1] في كل مرة سيكون واحدًا من ستة 1/ 6، ويمكن أن تلقي حجر النرد عشر مرات ولا تحصل على وجه [1]، ويمكن أيضًا تلقيه عشرين مرة أو ثلاثين مرة ولا تحصل على وجه [1].

وليس معنى أن الحدث يمكن حساب احتمالية وقوعه بالصدفة أنه ممكن الوقوع بمعزل عن الأسباب الموجِدة له، فالاحتمالية الرياضية لا تعني أن الحدث قابل لأن يخرج إلى حيز الواقع دون أن تتوافر له المقدمات التي تنسجم مع القوانين الموجدة للظاهرة (2).

فإن قال طالب لا يذاكر ـ مثلا ـ: من المحتمل أن أنجح بنسبة 50 بالمائة، قيل له: النجاح له أسبابه، وليس معنى احتمالية نجاحك في الامتحان إمكان أن تنجح دون مذاكرة؛ فمن جد وجد، ومن زرع حصد.

ومن خلال هذا يظهر مدى تهافت قول الملاحدة: (إذا كان هناك احتمال ـ ولو ضئيلاً ـ في أن تنشأ الحياة من المادة صدفة بلا خالق عبر ملايين السنين، فمن الممكن أن تنشأ الحياة من المادة صدفة عبر ملايين السنين، وفي ظل وجود الكثير من الوقت المستحيل يصبح ممكنًا، والممكن يصبح من المحتمل، والمحتمل قد يصبح مؤكدًا، وما على المرء إلا الانتظار، والوقت

__________

(1) انظر: الملحد واستدلاله الخاطئ بالصدفة، د. ربيع أحمد.

(2) خرافة الإلحاد للدكتور عمر شريف ص 337.

كيف تناظر ملحدا؟ (104)

نفسه ينفذ المعجزات)

بالإضافة إلى هذا، فإن قولهم هذا يستلزم أن المادة التي لا حياة فيها يمكن أن تعطي الحياة لغيرها، وهذا باطل؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه إذا كان لا يملِكه ولا يملك أسبابه، والمادة تفتقد الحياة، فكيف تهب الحياة لغيرها؟.. والحياة شيء غير مادي، فكيف تكون ناتجة من شيء مادي؟.. والحياة لا تأتي إلا من حي، والكائنات الحية لا يمكن أن تأتي إلا من كائنات حية مثلها.. وكلام هؤلاء الملاحدة يستلزم قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض (1).

والبون الشاسع بين المادة والكائنات الحية لا يمكن تغافله؛ إذ المادة لا حياة فيها، ولا نمو ولا حركة ولا تكاثر، والكائن الحي كالإنسان والحيوان يتمتع بالحياة والنمو، والحركة والتكاثر.

أما ادعاؤهم بأن الوقت كفيل بأن يحول المستحيل ممكنًا، فمغالطة كبرى؛ لأن الوقت عامل هدم لا عامل بناء؛ فالكائنات من إنسان وحيوان ونبات وأسماك وطيور وحشرات كلها تهرَمُ وتموت بمرور الوقت، والجمادات من بيوت وقصور وغير ذلك تفسُدُ وتبلى بمرور الوقت، وإذا تركت طعامًا أو لحمًا تجده يفسد بعد مدة معينة، حتى النجوم بمرور الوقت تجدها تفقد وقودها من غاز الهيدروجين الذي يزودها بالطاقة، أضِفْ إلى ذلك أن الشيء الممكن قد يصير مستحيلاً بمرور الوقت.

وهؤلاء الملاحدة الذين يرون أن المادة قد أدت إلى ظهور عناصر متجاوزة لها ـ كالحياة مثلاً ـ هم في نهاية الأمر ينسبون للمادة مقدرات غير مادية، ومن ثم فإنهم يكونون قد خرجوا من مقاصد الفلسفة المادية، خصوصًا وأن فرضياتهم لا تخرج عن كونها تكهنات عنيدة طفولية

__________

(1) كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 446.

كيف تناظر ملحدا؟ (105)

تضمن لهم الاستمرار في ماديتهم، وتضمن لهم في الوقت ذاته تفسير ما حولهم من تركيب ووعي وغائية (1).

4 ـ تعارض الصدفة وقوانين الاحتمالات

ذلك أن المصادفة والاحتمال تقوم الآن على أسس رياضية سليمة بغية الوصول إلى حكم صحيح مطلق، وهي تضع أمامنا الحكم الأقرب إلى الصواب مع تقدير احتمال الخطأ في هذا الحكم..

وقد تقدمت دراسة نظرية المصادفة والاحتمال من الوجهة الرياضية تقدمًا كبيرًا، حتى أصبحنا قادرين على التنبؤ بحدوث بعض الظواهر التي نقول: إنها تحدث بالمصادفة، والتي لا نستطيع أن نفسر ظهورها بطريقة أخرى (مثل قذف الزهر في لعبة النرد)

وقد صِرنا ـ بفضل تقدم هذه الدراسات ـ قادرين على التمييز بين ما يمكن أن يحدث بطريق المصادفة، وما يستحيل حدوثه بهذه الطريقة، وأن نحسب احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر في مدى معين من الزمان.

وبناء على هذا، فإننا إذا أردنا أن نحسب دور المصادفة في نشأة الحياة ـ كما يزعم الملاحدة ـ فإن علينا أن نتعرف على كل العناصر الضرورية المشكلة للحياة، ثم نقوم بحساب الاحتمالات الممكنة لذلك.

مع العلم (2) أن هناك فرقا بين خلق الشيء، وترتيبه أو تركيبه، حيث إن فكرة المصادفة لا يمكننا أن ندخلها البحث الأول، لأن الموجود لا تحكمه قانون المصادفة بحال من الأحوال،

__________

(1) الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان للدكتور عبدالوهاب المسيري ص 27.

(2) انظر: الطب محراب للإيمان، خالص جلبي، ص 9، فما بعدها، وقد ذكر أنه اقتبس الأمثلة الواردة هنا من كتاب مصير البشرية لكاتبه ليكونت دي نوي.

كيف تناظر ملحدا؟ (106)

وأما تركيب الأشياء فقد يبقى موضع بحث، كما أن حركة الشيء لا يمكن أن يرد الى المصادفة، وهكذا نجد أن قانون المصادفة يبقى مشوهاً مبتوراً منذ الأساس، فإلقاء حجر النرد ذي الوجوه السداسية قد تلعب الصدفة دورها، فيتكرر رقم واحد خمس مرات أو ست مرات أو أكثر، ولكن احتمال هذا نادر جداً كما أن احتمال سحب أوراق مرقمة من 1 ـ 10 وموضوعة في كيس واحد بصورة مرتبة متدرجة (بحيث ان الرقم 1 يأتي في الأول ثم تتبعه الأرقام التالية بالترتيب) احتمال ضعيف ونادر ولكن أين لقانون المصادفة أن يلعب دوره في الوجود أصلاً أو في حركة المادة من الأساس؟!

بالإضافة إلى هذا، فإن العلم يقف دون تفسير ظاهرة الحياة، فقانون المصادفة عاجز عند هذه العتبة؛ فترتيب المواد بكيفية ما قد يوضع في مدار البحث، ولكن انبثاق الحياة من الموات يبقي معجزة مستحيلة التفسير على ضوء المنهج الذي يفكر به الملاحدة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن حظ المصادفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الامكانيات المتكافئة المتزاحمة، فعندما نضع عشرة أرقام مرقمة من واحد الى عشرة في كيس واحد. فان احتمال أن يكون الرقم واحد هو الأول احتمال واحد من عشرة لأن كل رقم من الأرقام العشرة قد يكون هو المسحوب، فالمصادفة ليس لها وجدان ولا ذاكرة كما يقول الرياضي الكبير جوزيف برترند.

والأمر الأخطر من ذلك كله هو أن تطبيق هذا القانون إنما يتم على المادة غير الحية، فدراسة الاحتمال على ضغط غاز في وعاء أو خليط من غازات قد يصح، ولكن على الخلية وباقي الحياة فانه يقف، لأن الترابط في الخلية مع ظاهرة الحياة معجزة ومحيرة الى حد يجعل هنا القانون غير ساري المفعول في هذا المجال..

بناء على ذلك كله، فلو كان معنا كيس فيه عشرة أرقام من 1 ـ 10 وأردنا أن نسحب ورقة واحدة فان احتمال أن يكون الرقم واحد هو الأول هو احتمال واحد من عشرة، لانه كما

كيف تناظر ملحدا؟ (107)

ذكرنا كل رقم قد يكون له الحظ في أن يكون هو المسحوب.. ولكن المثل يتعقد بشدة أكثر عندما نريد أن نسحب رقمين متتابعينن ذلك أن احتمال أن يكون الرقم واحد ثم يتبعه الرقم اثنان هو احتمال واحد ضد مائة، لأننا لو فكرنا كيف سيتم الأمر فان احتمال رقم واحد ثم تنبعه الارقام الباقية بشكل غير محدد مثل واحد يتلوه سبعة أو واحد يتلوه ثلاثة حتى يكتمل نصاب عشرة مرات ثم بقية الأرقام بالطريقة نفسها فيكون المجموع مائة مرة، وهي احتمال أن نسحب رقمين متتاليين ويكون الرقم الأول واحداً والثاني اثنين.. ثم يتعقد المثل أكثر عندما نريد أن نسحب ثلاثة أرقام متتالية بحيث تخرج الارقام واحد، اثنان، ثلاثة متتابعة فيكون احتمال ذلك هو واحداً صد ألف.

وهكذا نتدرج في التعقيد والصعوبة حتى نصل الى حد عجيب وهو اذا أردنا أن نسحب الارقام العشرة مرتبة بعضها تلو بعض بحيث تخرج الارقام من واحد الى عشرة متتابعة فإن احتمال هذا هو واحد ضد عشرة مليارات، أي اننا إذا أردنا أن نسحب الاوراق عشرة مليارات مرة فان احتمال أن تخرج الارقام مرتبة بعضها تلو بعض بشكل متدرج من (1 ـ 10) هو مرة واحدة، قد تكون المرة الاولى هي التي ستكون المطلوبة ولكننا لا ننتظر معجزة لان الطبيعة شريفة غير مخادعة ولان احتمال عشرة مليارات هو الذي يرد الى الذهن قبل المرة الواحدة؟

لكن هذا المثال بسيط جداً مقارنة بأمثلة أخرى أكثر تعقيدا، فلو فرضنا أن لدينا انبوباً زجاجياً وفيه ألف كرة بيضاء وألف كرة سوداء والكرات البيضاء تعلو الكرات السوداء، وهذا الانبوب يتصل من إحدى نهايته بكرة زجاجية مجوفة تتسع إلى أكثر من ألفي كرة من حجم الكرات الموجودة في الأنبوب الزجاجي، فلو القينا نظرة على الانبوب الزجاجي لوجدنا اللون الأبيض واضحاً كما ان اللون الأسود واضح، ولكن لو فرضنا اننا املنا الانبوب الزجاجي (وهو لا يتسع في قطرة إلا لكرة واحدة فقط بحيث تصبح الكرات بعضها فوق بعض) بحيث أن الكرات اختلطت في النهاية المجوفة التي تتسع للجميع فان اللون يصبح رمادياً، وإذا أردنا

كيف تناظر ملحدا؟ (108)

ارجاع الكرات الى الانبوب الزجاجي فان اللون لا يعود كما كان أي الأبيض متميز عن الأسود بل يصبح اللون رمادياً وذلك لامتزاج الكرات السوداء مع البيضاء امتزاجاً تاماً..

والآن فإن أمكانية أن تعود الكرات إلى ما كانت عليه أي الألف كرة البيضاء منفصلة عن الكرات السوداء تحتاج إلى احتمال لا يمكن تصوره وهو احتمال 489 × 10 أس 600 أي رقم 489 مسبوق بـ 600 صفر إلى اليمين وهذا يحتاج الى ملء أسطر عديدة من الاصفار وهو رقم لا يمكن قراءته بحال.. وهذا المثل هو فقط في ناحية اللون مع تماثل باقي الشروط فكيف الحال لو حدث تغير في شروط أخرى، وأين سيكون قانون المصادفة عند ذلك وهذا كما ذكرنا في عالم المادة فقط وفي ترتيب الاشياء..

وهذا المثال لا يساوي شيئا أمام أمثلة أخرى أكثر تعقيدا، ومن ذلك ما قام به عالم رياضي سويسري هو [تشارلز يوجين جاي] على ذرة واحدة من العضويات والتي يمكن أن تشترك في تركيب خلية واحدة من خلايا الكائنات التي تعمر هذا الوجود.. ومع أن الوزن الذري لابسط الأحيات هو 34،500 وهو آح البيض ومع ذلك قام بتبسيط أول فاعتبر الذرات 2000 (الفي ذرة). وقام بتبسيط آخر فاعتبر أن الذرات هي نوعان فقط بينما هي في الحالة العادية أربع جواهر على الاقل وهي الفحم والهيدرجين والاكسجين والآزوت بالاضافة إلى الكبريت والنحاس والفوسفور وغيرها من العناصر.

وقام بتبسيط ثالث وهو اعتبار الوزن الذري عشرة وسطياً مع ان الفحم 12 والاكسجين 16... فكانت نتيجة الحسابات التي وصل اليها هي أقرب للخيال منها إلى الحقيقة حيث أن احتمال حدوث هذه الذرة تحتاج لثلاثة أشياء: أولاً: الاحتمال النظري لحدوث هذه الذرة وثانياً: المادة وحجمها التي بامكانها أن تعين رقم الاحتمال وثالثاً: الزمن الذي تحتاج اليه نظرية الاحتمالات حتى يمكن تشكيل هذه الذرة الواحدة فقط.

وبناء على هذا كان احتمال المصادفة تقريباً 2 × 10 أس 321 أي مسبوق بـ 321 صفر

كيف تناظر ملحدا؟ (109)

إلى يمين الرقم.

وأما حجم المادة الذي نحتاج إليه حتى تتحقق مثل هذه المصادفة فهو بحجم كرة ضخمة يحتاج الضوء لكي يقطع قطرها الى 10 أس 164 سنة أي رقم واحد أمامه 164 صفراً، ونتيجة قراءة هذا الرقم يكون بالسنين الضوئية وهو ما يعادل المسافة التي لو سار الضوء سنة زمنية كاملة يستطع أن يقطعها وهي ما تصل إلى رقم ستة ملايين مليون ميل أي 6 × 1 أس 120 ميلا، حيث إن الضوء يقطع في الثانية الواحدة 300 الف كيلو متر أو 186 الف ميل أو كما ذكرنا في السنة الواحدة 11 مليون ميل و160 الف ميل أو كما ذكرنا في السنة الواحدة 6 مليون مليون ميل على وجه التقريب حيث وصلنا الى هذا الرقم بضربه عدة مرات حتى نصل إلى رقم السنه، فهذه الكرة المادية التي نحتاج اليها لحدوث احتمال تكون ذرة بسيطة مكونة من الفين من الذرات وذات نوعين فقط من الجواهر وذات وزن ذري وسطياً يبلغ العشرة (كما ذكرنا ثلاث تبسيطات لهذه الذرة الوحيدة) هي ذات قطر يبلغ بالسنين الضوئية 10 أس 164 سنة.. وهذا الرقم يبلغ في علم الفلك أكبر من الكون الذي تخيله انشتاين بسكستيليون سكستيليون سكستيلون مرة.

بقي علينا الشيء الثالث وهو الزمن بالاضافة الى الاحتمال والكون المادي، فلو فرضنا أن عامل الخض الحروري هو الذي يعمل وبقدر يبلغ 500 مليون تريليون هزة في الثانية الواحدة أي 5 × 10 14 / ثا، والتي هي من رتبة ذبذبة الضوء، فان الزمن الذي نحتاج اليه مع كل هذا هو 10 أس 243 بليون سنة.

ويجب أن لا ننسى مع ذلك كله أن الأرض على آراء الجيولوجيين لم توجد إلا منذ بليوني سنة كما أن الحياة لم توجد إلا منذ بليون سنة.. وهكذا فاننا نجد انفسنا أن الامكانية الزمانية والحجم المادي لا يسعفنا في تحقيق تكوين ذرة واحدة (مع وجود الذرات بالأصل أي ليس الخلق)، وهكذا نصل إلى أن نجعل فكرة المصادفة هي الاستحالة لذرة واحدة.

كيف تناظر ملحدا؟ (110)

لكن الكون ليس ذرة واحدة فقط مصممة على نسق عجيب وتكوين غريب، فتكوين الذرة مدهش محير وتركيب الفلك مدهش محير، وتركيب الخلية مدهش محير، وتركيب الانسجة مدهش محير، وتركيب الاعضاء مدهش محير، كما أن تركيب الكائن الحي مدهش محير، وأما النفس فهي ذلك العالم الغامض المجهول الذي تستشف البشرية بعض مكنونانه الآن..

ونختم هذا الدليل بما قاله رئيس أكاديمية العلوم الأمريكية بنيويورك [كريسي موريسن]ـ ردا على الملحد [هيكل] في قوله: (إيتوني بالهواء وبالماء، وبالأجزاء الكيماوية، وبالوقت، وسأخلق الإنسان): (إن هيكل يتجاهل في دعواه الجينات الوراثية، ومسألة الحياة نفسها، فإن أول شيء سيحتاج إليه عند خلق الإنسان هو الذرات التي لا سبيل إلى مشاهدتها، ثم سيخلق (الجينات) أو حملة الاستعدادات الوراثية، بعد ترتيب هذه الذرات، حتى يعطيها ثوب الحياة، ولكن إمكان الخلق في هذه المحاولة بعد كل هذا لا يعدو واحداً على عدة بلايين، ولو افترضنا أن (هيكل) نجح في محاولته فإنه لن يسميها مصادفة، بل سوف يقررها وبعدها نتيجة لعبقريته) (1)

وقال البروفيسور [إيدوين كونكلين]: (إن القول بأن الحياة وجدت نتيجة (حادث اتفاقي) شبيه في مغزاه بأن نتوقع إعداد معجم ضخم نتيجة انفجار يقع في مطبعة على سبيل المصادفة)

وقال عالم الطبيعة الأمريكي [جورج إيرل ديفيس]: (لو كان يمكن للكون أن يخلق نفسه فإن معنى ذلك أنه يتمتع بأوصاف الخالق، وفي هذه الحال سنضطر أن نؤمن بأن الكون هو الإله، وهكذا ننتهي إلى التسليم بوجود (الإله) ولكن إلهنا هذا سوف يكون عجيباً، إلهاً

__________

(1) الله يتجلى في عصر العلم.

كيف تناظر ملحدا؟ (111)

غيبياً ومادياً في آن واحد! إنني أفضل أن أؤمن بذلك الإله الذي خلق العالم المادي، وهو ليس بجزء من هذا الكون، بل هو حاكمه ومديره ومدبره، بدلاً من أن تبنى مثل هذه الخزعبلات)

وقال عالم الأعضاء الأمريكي [مارلين ب. كريدر]: (إن الإمكان الرياضي في توافر العلل اللازمة للخلق عن طريق المصادفة في نِسَبِها الصحيحة هو ما يقرب من لا شيء)

5 ـ الصدفة لا تتناسب مع الدقة والنظام

وهذا ما يدل عليه الواقع، فالصدفة يمكن أن تفسر حدثا طارئا بسيطا، أما أن تفسر واقعا معقدا ممتلئا بكل ألوان النظام، فهذا مستحيل.

فيمكننا قبول أن يلتقي عالمان، ويتناقشا في مسألة علمية محددة، وفي محل معين صدفة، لكننا لا يمكن أن نقبل اجتماع مئات العلماء في وقت واحد، لإقامة مؤتمر علمي صدفة.

فالأول أمر بسيط، أما الثاني فمعقد جدا، ويحتاج تحضيرات كثيرة، ولذلك يستحيل حصوله صدفة.. ولهذا لم نسمع أبدا أن هناك مؤتمرا حصل صدفة من دون أن يكون هناك تحضير مسبق.

ومثل ذلك، بل أعقد منه بترليونات المرات هذا الكون، فذراته قد صممت وهيئت، بحيث إنها إذا اجتمعت بطريقة معينة يتكون منها شيء معين في الكون، مثلاً تتجمع الذرات بطريقة معينة تكون ماءً، وبطريقة أخرى تكون أكسجينا، وبطريقة أخرى تكون نيتروجينا، وبطريقة أخرى تكون ذهبًا، وهكذا، فلا بد من وجود مصمم لها ومهيئ لها قبل وجودها وقبل نشأة الكون.

بالإضافة إلى ذلك، فإن فروع العلم كافة تثبت أن هنالك نظامًا معجزًا يسود هذا الكون، أساسه القوانين والسنن الكونية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، والتي يعمل العلماء جاهدين على كشفها والإحاطة بها، وقد بلغت كشوفنا من الدقة قدرًا يمكننا من التنبؤ بالكسوف والخسوف وغيرهما من الظواهر قبل وقوعها بمئات السنين.

كيف تناظر ملحدا؟ (112)

فمن الذي سن هذه القوانين وأودعها كل ذرة من ذرات الوجود، بل في كل ما هو دون الذرة عند نشأتها الأولى؟.. ومن الذي خلق كل ذلك النظام والتوافق والانسجام؟.. من الذي صمم فأبدع وقدَّر فأحسن التقدير؟.. هل خلق كل ذلك من غير خالق أم هم الخالقون؟ إن النظام والقانون وذلك الإبداع الذي نلمسه في الكون حيثما اتجهت أبصارنا يدل على أنه من صنع إله قدير عليم خبير (1).

والملاحدة الذي يذكرون أن (نشأة الحياة ليست دليلاً على وجود خالق؛ لأنها نشأت صدفة عبر سلسلة طويلة من التطور الكيميائي ما قبل الحيوي استمر لملايين السنين ابتداءً من الكيميائيات البسيطة، مرورًا بالجزيئات المتعددة، والجزيئات المتعددة الناسخة ذاتيًّا داخلة بدورات تحفيزية، وصولًا إلى كائنات ما قبل بكتيرية، وصولًا إلى بكتريا بسيطة) ليس سوى مغالطة كبيرة، لا يقبلها أي عقل سليم، بل هو دليل على جهلهم بمفهوم الصدفة؛ إذ على التسليم الجدلي ـ تنزلاً معهم ـ أن الحياة نشأت صدفة نتيجة سلسلة من التفاعلات فهذا لا ينفي وجود خالق للحياة؛ لأن الصدفة ليست فاعلة، ولكنها صفة للفعل الصادر من الفاعل، والفعل لا يوجد بدون فاعل.

وعلى التسليم الجدلي أن الملاحدة قدموا الآلية الصحيحة لنشأة الحياة، فهم تكلموا عن كيفية نشأة الحياة، وليس لماذا نشأت الحياة، ومن الذي أنشأها؟ ومن الذي جعلها تنشأ بهذه الطريقة؟ إذ العلم يبحث عن الفعل، ولا يبحث عن الفاعل، ويبحث عن الحدث، ولا يبحث عن الحادث.

ولو كانت الحياة قد نشأت نتيجة سلسلة من التفاعلات، فلا بد من وجود موجِد للمواد التي تتفاعل، ولا بد من وجود من أعطى هذه المواد القابلية للتفاعل، وهذه السلسلة من

__________

(1) من مقدمة مترجم كتاب: الله يتجلى في عصر العلم، الدكتور الدمرداش عبدالمجيد ص 7.

كيف تناظر ملحدا؟ (113)

التفاعلات لها شروط معينة للحدوث، فتحتاج إلى من يهيئ لها الشروط المعينة لحدوثها، وهذه السلسلة من التفاعلات تحتاج إلى من يحافظ عليها كي تعطي نتائجها.

ولو كانت الحياة قد تطورت من مادة غير حية، فمن الذي طور هذه المادة؟ إذ أي تطور لا بد له من مطوِّر، وإن قيل: المادة هي التي طورت نفسها عبر ملايين السنين، فالجواب: هذا الكلام يستلزم أن الأدنى يتطور بنفسه إلى الأعلى، والتطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، أمرٌ مستحيل عقلًا؛ إذ الناقص لا ينتج الكامل في خطةٍ ثابتة، وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود (1)، ويلزم من هذا الكلام قبول تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض (2).

بالإضافة إلى هذا.. ألم يكن من الممكن أن ترتطم النجوم ببعضها البعض وتتحطم؟ وبعد حدوث الحركة في المادة، أما كان من الممكن أن تبقى حركة مجردة دون أن تصبح حركة ارتقائية، تجري في سلسلة مدهشة من العمل التطوري لإيجاد الكون الخالي؟

ما هو ذلك المنطق الذي جعل النجوم والسيارات تتحرك بهذا النظام العجيب في الكون اللامتناهي؟ وما هو ذلك المنطق الذي أوجد النظام الشمسي في ركن بعيد من أركان الكون؟ وما هو ذلك المنطق الذي أمكن بواسطته إجراء تغيرات مدهشة أتاحت الفرصة لنشأة الحياة الإنسانية على كرة الأرض؟

وهذه التغيرات التي قد حدثت بالفعل على كرتنا لا نعرف حتى الآن ما إذا كانت موجودة على ظهر سيار أو نجم آخر من ملايين المجرات المنتشرة في أركان الكون، فما هو المنطق الذي تسبب في إيجاد مخلوق حي من مادة بدون حياة؟ هل لأحد أن يقدم لنا تفسيرًا معقولًا

__________

(1) كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 331.

(2) كواشف زيوف للشيخ عبدالرحمن حبنكة الميداني ص 446.

كيف تناظر ملحدا؟ (114)

لتوضيح: كيف وجدت الحياة على سطح الأرض؟ ولماذا؟ وتحت أي قانون تستأنف الحياة وجودها المدهش بهذا التسلسل؟!

ثم ما هو ذلك المنطق الذي أوجد في حيز مكاني صغير كل تلك الأشياء اللازمة لحياتنا ومدنيتنا؟ ثم ما هو ذلك المنطق الذي يعمل على إبقاء هذه الأحوال دائمًا في صالحنا كما هي؟ أي صدفة واتفاق يتيحان حدوث هذه الإمكانات بهذا التسلسل والترتيب الجميل، ثم استمرارها لملايين السنين بحيث لا يطرأ عليها أدنى تغير يخالف مصالح الإنسان (1

رابعا ـ إسناد الخلق للتطور العلمي

وهذه من المغالطات الكبرى التي يدلسون بها على العوام والبسطاء، حيث يتصورون أن اكتشاف سبب أي ظاهرة من الظواهر مغن عن الله.. وكأن الظاهرة تتحرك بنفسها من غير حاجة محدث لها.

وقد عبر عن هذه المغالطة [ريتشارد داوكنز] بقوله متسائلا: (لماذا يعتبر الله تفسيراً لشيء ما؟)، ثم أجاب على تساؤله بقوله: (هو ليس تفسيرا، بل هو بالأحرى عجز فى التفسير واللامبالاة، وهو عبارة عن [لا أعرف] متنكرة بالروحانيات والطقوس.. وعندما يعطى الناس لله هذا الدور فى شاء ما، فهذا يعنى عادة بأنهم لا يملكون أي دراية بهذا الشيء، ولذلك فإنهم يعطون التفسير لأسطورة سماوية لا يمكن أن نعرفها أو نصل اليها يوماً ما، وولو سألت من أين أتت تلك الشخصية، فالاحتمالات هى أن تحصل على إجابة ضبابية، نصف فلسفية عن وجوده الأزلي، أو وجوده خارج الطبيعة، والتى بالطبع لا تفسر شيئاً على الإطلاق) (2)

وعبر عن ذلك بصياغة أخرى أكثر وضوحا، فقال: (الفراغات بالأساس في عقل

__________

(1) الدين في مواجهة العلم لوحيد الدين خان ص 46 - 47.

(2) وهم الإله، ص 136.

كيف تناظر ملحدا؟ (115)

الخلوقيين، تملأ بواسطة الإله) (1)، أي أن المؤمن يلجأ إلى الله بسبب عجزه عن التفسير العلمي لما يراه من ظواهر، وبذلك يكون الإيمان حائلا بينه وبين البحث عن حقائقها وتفسيرها تفسيرا علميا.

أما عالم الفيزياء البريطاني الشهير [ستيفن هاوكنج] الذي لم يكن يدع مناسبة إلا ويشهر فيها إلحاده، ولو لم يكن لذلك علاقة بالموضوع المطروح، ومن أمثلة ذلك ما نشرته الصحف العالمية عنه أنه، ولكي يثير انتباه الحاضرين في مهرجان [ستارموس فيستيفال] الذي استضافته جزر الكناري بمشاركة ثلة من العلماء ورواد الفضاء، للتباحث في أمور الفضاء، وكان هاوكنج من ضمن المشاركين، وفجأة سمع الصوت المعدني الصادر من كرسيه المتحرك يصدح في أرجاء القاعة، ليفاجئ الجميع ويؤكد مرة أخرى أنه (ليس هناك حاجة إلى وجود خالق لنشأة الكون)

ثم أضاف (الدين مثله مثل العلم، إذ كلاهما يفسران أصل الكون، ولكن أعتقد أن العلم هو أكثر إقناعا، ويقدم باستمرار إجابات لأسئلة يعجز الدين الإجابة عليها.. ولا أحد يستطيع أن يثبت وجود الخالق، ولكن يمكن التفكير في كيفية نشوء الكون بشكل عفوي، ونحن نعلم أنه لا يمكن تقديم أي تفسير عقلي إلا عن طريق العلم، وفي النهاية سنعرف كل ما يعرفه الخالق إذا كان موجودا فعلا) (2)

وهذا كله من المغالطات التي جعلتهم يوهمون العامة أن نسبة الخلق لله، تعني عدم الحاجة للبحث في الأسباب، وهذا غير صحيح؛ فالاعتقاد بوجود الله، وكونه مسبب الأسباب لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية، أو التمرّد على شيء من حقائق العلم الصحيح، وإنّما

__________

(1) المرجع السابق، ص 64 4.

(2) انظر: مقالا بعنوان: عالم فيزيائي بريطاني شهير يجدد نفيه وجود خالق للكون، حميد كعواس، موقع هسبريس، الخميس 02 أكتوبر 2014 على الرابط التالي:

https://www.hespress.com/sciences-nature/242317.html

كيف تناظر ملحدا؟ (116)

هو اعتقاد بأن الله هو المسبب لهذه الأسباب الطبيعية، ويحتّم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد إلى قوّة فوق الطبيعة وفوق الكون.. وحتى لو سلمنا جدلا أن العلم وصل إلى معرفة كل الأسباب الطبيعية، فهذا لا ينفي وجود الخالق، بل هذه الأسباب الطبيعية دالة على موجد لها، فكل سبب له مسبب، وهو الله عز وجل.

ومثل ذلك ما لو اخترع الإنسان حاسوبا ضخما استطاع أن يصنع آلات بديعة.. تقوم هي الأخرى بصناعة آلات أخرى.. وهكذا فإن هذا التسلسل لن ينفي دور الإنسان.. بل يبقى الإنسان هو المبدع الأول لتلك الآلات جميعا.

ولهذا فلو أن شخصا سئل عن المنتج الأخير، ومن صنعه، وقال: الإنسان هو الذي صنعه لكان صادقا، لأن الإنسان هو الذي صنع من صنع تلك المصنوعات.

وقد رد على هذه المغالطة الكثير من علماء الطبيعة أنفسهم، فقد قال بعضهم: (ان الطبيعة حقيقة من حقائق الكون وليست تفسيرا له، لأن ما كشفتم ليس بيانا لاسباب وجود الدين، فالدين يبين لنا الاسباب والدوافع الحقيقية التي تدور وراء الكون، وما كشفتموه هو الهيكل الظاهر للكون. إن العلم الحديث تفصيل لما يحدث، وليس بتفسير لهذا الأمر الواقع، فكل مضمون العلم هو اجابة عن السؤال: (ما هذا؟)، وليس لديه اجابة عن السؤال: (ولكن لماذا؟) (1)

ولتوضيح هذا ضرب مثالا بسيطا بالكتكوت الذي يعيش أيامه الاولى، داخل قشرة البيضة القوية، ويخرج منها بعدما تنكسر مضغة لحم؛ فقد كان الإنسان القديم يؤمن بأن الله أخرجه، ولكنا شاهدنا اليوم بالمنظار أنه في اليوم الحادي والعشرين يظهر قرن صغير على منقار الكتكوت، يستعمله في تكسير البيضة، لينطلق خارجا منها، ثم يزول هذا القرن بعد بضعة أيام

__________

(1) نقلا عن الإسلام يتحدى، ص 31.

كيف تناظر ملحدا؟ (117)

من خروجه من البيضة.

وهذه المشاهدة، كما يزعم الملاحدة، أبطلت الفكرة القديمة القائلة: بان الإله يخرج الكتكوت من البيضة، مع أن المشاهدة الجديدة لا تدلنا إلا على حلقات جديدة للحادث، ولا تكشف عن سببه الحقيقي، فقد تغير الوضع الآن، فأصبح السؤال لا عن تكسر البيضة، بل عن (القرن)

ذلك أن السبب الحقيقي سوف يتجلى لأعيننا حين نبحث عن العلة التي جاءت بهذا القرن؛ فالعلة التي كانت على معرفة كاملة بأن الكتكوت سوف يحتاج إلى هذا القرن ليخرج من البيضة، فنحن لا نستطيع أن نعتبر الوضع الاخير (وهو مشاهدتنا بالمنظار) إلا أنه (مشاهدة للواقع على نطاق أوسع)، ولكنه ليس تفسيرا له.

وقد قال البروفسور [سيسيل بايس هامان]، وهو أستاذ أمريكي في البيولوجيا، معبرا عن هذا المعنى: (كانت العملية المدهشة في صيرورة الغذاء جزءا من البدن تنسب من قبل إلى الإله، فاصبحت اليوم بالمشاهدة الجديدة تفاعلا كيماويا، هل أبطل هذا وجود الاله؟ فما القوة التي أخضعت العناصر الكيماوية لتصبح تفاعلا مفيدا؟... إن الغذاء بعد دخوله في الجسم الإنساني يمر بمراحل كثيرة خلال نظام ذاتي، ومن المستحيل أن يتحقق وجود هذا النظام المدهش باتفاق محض. فقد صار حتما علينا بعد هذه المشاهدات أن نؤمن بان الله يعمل بقوانينه العظمى التي خلق بها الحياة!) (1)

وهكذا؛ فإن الإنسان القديم كان يعرف أن السماء تمطر، لكننا اليوم نعرف كل شيء عن عملية تبخر الماء في البحر، حتى نزول قطرات الماء على الأرض، وكل هذه المشاهدات صور للوقائع، وليست في ذاتها تفسيرا لها، فالعلم لا يكشف لنا كيف صارت هذه الوقائع قوانين؟

__________

(1) The Evidence of God in an Expounding Universe، p 221..

كيف تناظر ملحدا؟ (118)

وكيف قامت بين الأرض والسماء على هذه الصورة المفيدة المدهشة، حتى أن العلماء يستنبطون منها قوانين علمية؟ والحقيقة أن ادعاء الإنسان بعد كشفه لنظام الطبيعة أنه قد كشف تفسير الكون ليس سوى خدعة لنفسه، فإنه قد وضع بهذا الادعاء حلقة من وسط السلسلة مكان الحلقة الاخيرة.

ويقول العالم الامريكي [سيسيل] معبرا عن هذا المعنى بلغة ساخرة: (إن الطبيعة لا تفسر شيئا من الكون، وإنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير.. فلو أنك سألت طبيبا: ما السبب وراء احمرار الدم؟.. فسيجيب: لأن في الدم خلاياحمراء، حجم كل خلية منها 700/ 1 من البوصة!.. حسنا، ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء؟.. فسيجيب: في هذه الخلايا مادة تسمى (الهيموجلوبين) وهي مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالاوكسجين في القلب.. هذا جميل، ولكن من أين تأتي هذه الخليا التي تحمل الاهيموجلوبين؟.. فسيجيب: إنها تصنع في كبدك.. عجيب! ولكن كيف ترتبط هذه الاشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكبد وغيرها، بعضها ببعض ارتباطا كليا، وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة؟.. فسيجيب: هذا ما نسميه بقانون الطبيعة.. ولكن ما المراد بقانون الطبيعة هذا. ياسيدي الطبيب؟.. فسيجيب: المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية.. ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائما إلى نتيجة معلومة؟ وكيف تنظم نشاطها، حتى تطير الطيور في الهواء، ويعيش السمك في الماء، ويوجد إنسان في الدنيا، بجميع ما لديه من الامكانات والكفاءات العجيبة المثيرة؟.. فسيجيب: لا تسالني عن هذا، فإن علمي لا يتكلم الا عن: (ما يحدث)، وليس له ان يجيب: (لماذا يحدث؟) (1)

ثم يعقب على هذه المحاورة بقوله: (يتضح من هذه الأسئلة مدى صلاحية العلم

__________

(1) نقلا عن الإسلام يتحدى: 34.

كيف تناظر ملحدا؟ (119)

الحديث لشرح العلل والاسباب وراء هذا الكون.. ولا شك أنه قد أبان لنا عن كثير من الأشياء التي لم نكن على معرفة بها، ولكن الدين جواب لسؤال آخر، لا يتعلق بهذه الكشوف الحديثة العلمية، فلو أن هذه الكشوف زادت مليون ضعف عنها اليوم فسوف تبقى الإنسانية بحاجة إلى الدين، لأن جميع هذه الكشوف (حلقا ثمينة من السلسلة)، ولكن ما يحل محل الدين لا بد أن يشرح الكون شرحا كليا وكاملا. فما الكون على حاله هذه إلا كمثل ما كينة تدور تحت غطائها، لا نعلم عنها الا أنها تدور.. ولكنا لو فتحنا غطاءها فسوف نشاهد كيف ترتبط هذه الماكينة بدوائر وتروس كثيرة، يدور بعضها ببعض، ونشاهد حركاتها كلها.. هل معنى هذا أننا قد علمنا خالق هذه الماكنة بمجرد مشاهدتنا لما يدور داخلها؟.. هل يفهم منطقيا أن مشاهدتنا هذه أثبتت أن الماكينة جاءت من تلقاء ذاتها، وتقوم بدورها ذاتيا؟.. لو لم يكن هذا الاستدلال منطقيا فكيف إذن نثبت بعد مشاهدة بعض عمليات الكون أنه جاء تلقائيا، ويتحرك ذاتيا؟)

وقد عبر عن هذا المعنى أيضا البروفيسور [هريز] عند نقده فكرة داروين عن النشوء والارتقاء، فقال: (إن الاستدلال بقانون الانتخاب الطبيعي يفسر عملية (بقاء الأصلح)، ولكنه لا يستطيع أن يفسر حدوث هذا الأصلح)

وبناء على هذا كله (1) فإن هذه المكتشفات التي وضع الإنسان المعاصر يده عليها لم تزد على أنها وضعت الإنسان أمام مجهول جديد لم يجد له حلا ولا تفسيرا، ألا هو: من الذي أوجد هذا القانون الذي ينظم هذه الظواهر الكونية؟ ومن الذي أوجد العلة التي بواسطتها يكون ذلك المعلول؟

وهذا السؤال الجديد الذي يحار أمامه الإنسان المعاصر، مهما بلغ من العلم، وأدرك من المعارف، لا بد له في نهاية المطاف من أن يعزو هذا إلى قوة وراء هذا القانون، هي التي أوجدته

__________

(1) انظر: الدين والعلم، د. محمد حسن هيتو.

كيف تناظر ملحدا؟ (120)

وأحكمته، ألا وهي قدرة الله وحكمته.

نعم.. لقد اكتشف نيوتن قانون الجاذبية، وعرفنا أنه هو الذي يحكم النجوم في هذا الفضاء، وهو الذي يتحكم بحركتها، ولكن هذا لا يدعونا إلى الالحاد، وإنكار الدين والألوهية، بل إنه وضعنا أما السؤال الجديد، من الذي أوجد هذا القانون العظيم المحكم الذي يذهل لدقته وإتقانه كل عقل بشري؟

إنه السؤال الذي لا يدفعنا إلى الالحاد، بل يزيدنا إيمانا بدقة الصانع العظيم، موجد هذا القانون، ألا وهو الله..

فجميع المكتشفات التي عرفناها، والقوانين العلمية التي وضعنا أيدينا عليها، لم تقل لنا أنه لا اله.. ولم تدلنا على عدم وجوده، ولم تزد على أن وضعت أيدينا على بعض المجاهيل التي كنا لا نعرفها، وما أكثرها في هذا الكون، بل أرشدتنا إلى البحث عن بقية المجاهيل التي توصلنا إليها من خلال كشفنا عن هذا ا لمجهول، والتي لم نكن لنتمكن من الوقوف عليها وبحثها لولا كشفنا لهذا المجهول الأول الذي عرفنا به السبب والعلة لبعض مظاهر الكون، كما أنها زادتنا إيمانا بوجود الله وصدق الدين، ولو كانت هذه المكتشفات، وهذه القوانين تدل على عدم وجود الله وبطلان الدين، لما كان بها مجال للاستدلال على وجود الله وصدق الدين، إلا أننا نجد جميع المؤمنين يدعمون إيمانهم بوجود الخالق بهذه المكتشفات الحديثة.

ولذلك؛ فإن مثل المنكر لوجود الله وقدرته باكتشافه لبعض القوانين العلمية إلا كمثل إنسان كان يسمع عن مركبة الفضاء، ويعجب لدقة صنعها وعظمة صانعها، ويتعجب من حركتها، وطيرانها، وهبوطها، ويكيل صفات المدح والثناء والإعجاب لصانعها، ثم أتيح له أن يرى مركبة الفضاء، ويرى الآلات والمحركات التي كانت سببا في حركتها، فلما رأى محركها وما فيها من الآلات قال: (لقد اكتشفت سر الحركة في هذه المركبة، إنها تسير بواسطة هذا المحرك، وتلتقط الصور وتبثها بواسطة هذه الآلات، إذن فلا داعي للقول بأن ثمة صانعا

كيف تناظر ملحدا؟ (121)

صنعها، ولا داعي للإعجاب بقدرته)

ويقول: (لقد كنا نعزوها للصانع ونعجب من دقة صنعه، عندما كنا لا نعرف سر حركتها، وأنها مرتبطة بذلك المحرك، أما وقد عرفنا سر الحركة والمحرك، فلا داعي لأن تنسب الحركة لذلك الصانع).. هل يمكن أن يقبل أي عاقل هذا القول؟

بل إن الموقف الصحيح هو أن اطلاعنا على المحرك الذي تتحرك به المركبة، والآلات التي بداخلها، لا يدعونا إلى جحود صانعها، وإنما يدعونا لزيادة الإعجاب به، لما في هذه الآلات من الدقة البالغة، والإتقان، والإحكام.

وهكذا؛ فإننا كنا نعجب من قدرة الله في حركة النجوم، ووقوفها في الفضاء، حينما كنا لا نعرف قانون الجاذبية، فكنا ننسب وقوفها في الفضاء وحركتها إلى قدرة الله، وحينما اكتشفنا قانون الجاذبية، وعرفنا أن هذه الأجرام خاضعة لهذا القانون، وأنه في غاية الدقة والإتقان والإحكام لم يدفعنا هذا إلى جحود الله، وإنما زادنا إيمانا به وبقدرته التي أوجدت مثل هذا القانون الذي يحكم النجوم في هذا الفضاء.

إننا عندما عرفنا قانون الحركة في أصغر ذرة من ذرات الوجود وفي أكبر مجرة من مجرات السماء، وأنها كلها تدور وتتحرك طبقا لنظام محكم بديع، تتفق فيه جميع أجزاء هذا الكون من عناصر الذرة إلى أجرام المجرة، إننا عندما عرفنا هذه الحركة واكتشفناها لم تزدنا إلا إيمانا بالله، وبالقوانين المحكمة التي خلقها وأحكمها، ليدل بها الإنسان على وجوده وقدرته.

إن هذه القوانين لم تقل لنا إنه لا إله، وإنما دلتنا على أن الله يجري أحكامه في هذا الكون بناء على هذه القوانين.

لقد عبر نيوتن ذاته، وهو مكتشف قانون الجاذبية، عن هذا المعنى، فقال: (لا تشكوا في الخالق، فإنه مما لا يعقل أن تكون الضرورة وحدها هي قائدة الوجود، لأن ضرورة عمياء، متجانسة في كل مكان وفي كل زمان، لا يتصور أن يصدر منها هذا التنوع في الكائنات، ولا هذا

كيف تناظر ملحدا؟ (122)

الوجود كله، بما فيه من ترتيب أجزائه وتناسبها، مع تغيرات الأزمنة والأمكنة، بل إن كل هذا لا يعقل أن يصدر إلا من كائن أوليّ له حكمة وإرادة) (1)

وقال: (من المحقق أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تنشأ من مجرد فعل الجاذبية العامة، لأن هذه القوة تدفع الكواكب نحو الشمس، فيجب لأجل أن تدور هذه الكواكب حول الشمس أن توجد يد إلهية تدفعها على الخط المماس لمداراتها)

وقال: (ليس هذا كل ما في المسألة، فان الله ضروري أيضا، سواء لإدارة هذه الأجرام على بعضها، وهو الأمر الذي لا يمكن أن ينتج من مجرد قوة الجاذبية، أو لتحديد وجهة هذه الدورات، لتتفق مع دورات الكواكب، كما يرى ذلك في الشمس والقمر وتوابعها)

وقال: (وغير هذا، ففي تكون الأجرام السماوية، كيف أن الذرات المبعثرة استطاعت أن تقسم إلى قسمين، القسم المضيء منها انحاز إلى جهة لتكوين الأجرام المضيئة بذاتها، كالشمس والنجوم، والقسم المعتم تجمع في جهة أخرى، لتكوين الأجرام المعتمة، كالكواكب وتوابعها، وكل هذا لا يعقل حصوله إلا بفعل عقل لا حد له)

ومثله قال العلامة الانجليزي [هرشل]، وهو من كبار علماء الفلك: (كلما اتسع نطاق العلم، ازدادت البراهين الدامغة على وجود خالق أزلي، لا حد لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون، والرياضيون، والفلكيون، والطبيعيون، قد تعاونوا وتضامنوا على تشييد صرح العلم، وهو صرح عظمة الله وحده)

وقال [هربرت سبنسر]: (نرى من بين كل هذه الأسرار التي تزداد غموضا، كلما زاد بحثنا فيها، حقيقة واضحة لا بد منها، وهي أنه يوجد فوق الإنسان قوة أزلية أبدية ينشأ عنها

__________

(1) هذا النص وما يليه من النصوص منقول من كتاب: الدين والعلم، د. محمد حسن هيتو، وصراع مع الملاحدة حتى العظم، لحبنكة الميداني، وغيرهما.

كيف تناظر ملحدا؟ (123)

كل شيء)

وقال الفزيولوجي الفرنسي [لينيه] في كتابه [الله في الطبيعة]: (إن الله الأزلي الكبير، العالم بكل شيء والمقتدر على كل شيء قد تجلى لي ببدائع صنائعه، حتى صرت مندهشا مبهوتا، فأي قدرة، وأي حكمة، وأي إبداع أودعه مصنوعات يده، سواء في أصغر الأشياء أو أكبرها، إن المنافع التي نستمدها من هذه الكائنات تشهد بعظم رحمة الله الذي سخرها لنا، كما أن جمالها وتناسقها ينبئ بواسع حكمته، وكذلك حفظها عن التلاشي وتجددها يقر بجلاله وعظمته)

وقال [مونتيل] في دائرة معارفه: (إن أهمية العلوم الطبيعية لا تنحصر فقط في إشباع نهمة عقولنا، ولكن أهميتها الكبرى هي في رفع عقولنا إلى خالق الكون، وتحليتنا بإحساسات الإعجاب وإلا جلال لذاته المقدسة)

وقال العالم الطبيعي الفيزيائي [ميريت ستانلي]: (إن جميع ما في الكون يشهد على وجود الله سبحانه، ويدل على قدرته وعظمته، وعندما نقوم نحن العلماء بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية، فإننا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمته، ذلك هو الله الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آياته في أنفسنا، وفي كل ذرة من ذرات هذا الوجود، وليست العلوم إلا دراسة خلق الله وآثار قدرته)

وقال العالم الكيماوي الرياضي [جون كليفلاند]: (إن النتيجة المنطقية التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على أن لهذا الكون خالقا فحسب، بل لا بد أن يكون هذا الخالق حكيما، عليما، قادرا على كل شيء، حتى يستطيع أن يخلق هذا الكون وينظمه ويدبره، ولابد أن يكون هذا الخالق دائم الوجود، تتجلى آياته في كل مكان، وعلى ذلك فانه لا مفر من التسليم بوجود الله خالق هذا الكون وموجهه، إن التقدم الذي أحرزته العلوم منذ أيام لورد كيلفن يجعلنا نؤكد بصورة لم يسبق لها مثيل ما قاله من قبل: إننا إذا فكرنا تفكيرا عميقا، فإن العلوم سوف تضطرنا

كيف تناظر ملحدا؟ (124)

إلى الإيمان بالله)

وقال الأخصائي في علم الحيوان والحشرات [أدوارد كيسيل]: (لقد من الخالق على جيلنا، وبارك جهودنا العلمية بكشف كثير من الأمور حول الطبيعة، وصار من الواجب على كل إنسان، سواء أكان من المشتغلين بالعلوم، أم من غير المشتغلين بها، أن يستفيد من هذه الكشوف العلمية، في تدعيم إيمانه بالله)

هذه بعض الاقتباسات من أقوال علماء الطبيعة أنفسهم، وفي جميع مجالات العقل والعلم، تشهد بأن هذه المعارف والعلوم والمكتشفات كانت من أكبر الأدلة الناطقة على وجود الله وعظيم قدرته.. ولذلك فإن الإلحاد لم يكن أبدا وليد المكتشفات العلمية الحديثة، بل الأمر على خلاف ذلك تماما، فالعلم لم ولن يؤدي أبدا إلا إلى الإيمان.

كيف تناظر ملحدا؟ (125)

الإلحاد.. والمغالطات العلمية

بعد أن يتعرف الداعية إلى الله، والذي يريد أن يواجه الفكر الإلحادي على المغالطات العقلية التي يمارسها الملاحدة للتمويه على الحقيقة والحجب عنها، يحتاج أن يعرف أيضا مدى ضحالة المنهج العلمي الذي يعتمدونه؛ فهو منهج مبني على المغالطات والمصادرة على المطلوب، واستعمال الحيل المختلفة لمواجهة الإيمان والدعاة إليه.

وتبرز أهمية تعرف كل من يريد مواجهة الإلحاد أو مناظرة دعاته على تلك المغالطات فيما يلي:

1 ـ الخروج من حالة الانبهار التي يستعملها الملاحدة عند حديثهم عن العلم والمنهج العلمية، وذلك كله نوع من الحرب النفسية التي يستعملونها في مواجهة العلماء والمفكرين والباحثين من ذوي التوجهات الفلسفية أو الدينية، والذين يتصورون أن هناك علوما دقيقة وصعبة وتحتاج إلى تخصص ليستطيعوا من خلالها الرد على الملاحدة، وكل ذلك غير صحيح، بل الأمر فيها أشبه بالمغالطات السفسطية منه بالحقائق العلمية.

2 ـ عدم التسليم الجدلي بما يذكره الملاحدة، ذلك أن من قوانين التسليم الجدلي وجود الإمكانية أو تحققها، والكثير مما يذكره الملاحدة، ويصفونه بالعلمية، لا حظ له من كليهما، بالإضافة إلى أن التسليم الجدلي نوع من الاعتراف بما يذكرونه من مغالطات، لذلك كان موقف المطالب بالبينة على إثبات الحقائق العلمية أكثر إحراجا للملحد من المسلم له جدلا.

3 ـ تنبيه المسارعين إلى ربط كل ما يذكره علماء الغرب من نظريات وفرضيات بالقرآن الكريم، أو بالروايات الشريفة، على مدى خطورة ذلك؛ فقد رأيت من راح يبرهن على كون نظرية الأكوان المتعددة سبق قرآني، بسبب ذكر الله تعالى لتعدد العوالم، مع كونهما معنيين مختلفين تماما، أحدهما يدل على التوحيد الخالص، والقدرة المطلقة، والغائية الحكيمة، والثاني يبرر

كيف تناظر ملحدا؟ (126)

الإلحاد والقول بالصدفة، ويتصور أن هذه الأكوان الكثيرة مجرد عدد ضخم وعشوائي ليظهر من خلالها هذا الكون كاحتمال من الاحتمالات.

4 ـ استبدال الدفاع عند مناظرة الملاحدة بالهجوم، ذلك أن كل الخرافات التي رددها أهل الجاهليات المختلفة أو المنحرفون عن الأديان صار لها وجود في الحقول العلمية، وبذلك أصبحت تلك النظريات عرضة للتهكم والسخرية كما قال بعضهم معبرا عن حقيقة نظرية التطور: (ليست الأدلة ما تجعل الداروينية (حقيقة)، وإنَّما الفلسفة المادية. روى ريتشارد ليونتن، عالم الوراثة في جامعة هارفرد، في عام 1997 كيف قد دافع وكارل ساجان في إحدى المرات عن الداروينية في مناظرةٍ، ثم فسَّر قائلًا: نقف في صف العلم رغم سخافة بعض تناقضاته البارزة... لأنَّ لدينا التزامًا ذا أولوية، التزامًا تجاه المادية) (1)

وقال آخر متهكما من طروحات هاوكنج العلمية: (إن فلسفة هاوكنج هي تحديدا ما أعارضه فهي كما وصلتني مثال واضح على التعالم، فطرح أن العلم هو مصدر المعلومات الوحيد، وأننا لدينا فهم كامل لكل شيء هو هراء بل وهراء خطير أيضا، فهو يشعر العلماء بالكبر والغرور بشكل مبالغ فيه) (2)

بناء على هذا نحاول في هذا الفصل التعرف على أهم وأكبر مغالطات الملاحدة، والتي يمكن التعرف عليها من خلال مواقعهم ومناظراتهم مع المؤمنين.

__________

(1) نقلا عن كتاب احتضار منظومة الدجال الدارويني، هارون يحي، دط، دت، من موقعه الالكتروني، ص 48.

(2) انظر: مقالا علميا مهما بعنوان: عالم الفيزياء الملحد ستيفن هوكينج وأفكاره الإلحادية الخيالية في نظر العلماء والمتخصصين ـ النظرية M والأكوان المتعددة والجاذبية الخالقة ـ إعداد فريق الباحثون المسلمون.

كيف تناظر ملحدا؟ (127)

فالحقائق العلمية تقوم على دعائم وأسس منطقية يقبلها العقل، وتنسجم معه، ويمكن إثباتها بالطرق المختلفة؛ أما الطروحات العلمية التي لا تتوفر على هذه الأسس، ولا تنطلق من هذه المناهج، فإنها لا تعدو أن تكون دعاوى لم تثبت، وفرضيات لم تتحقق.

وقد وضعت لأجل تمييز الحقائق العلمية عن الدعاوى والفرضيات الكثير من القوانين العلمية التي اتفقت عليها البشرية، وعلى أساسها تحكم لأي دعوى بكونها فرضية أو نظرية أو حقيقة، ولذلك كان على كل من يناقش الأطروحات الإلحادية المتلبسة بلباس العلم أن يتقن تطبيق أمثال تلك القوانين على تلك الأطروحات، كما يتقن فن المنطق وعلم الجدل وغيرها من العلوم الأساسية للحوار مع الملاحدة.

ومن تلك القوانين العلمية مثلا ما يطلق عليه [شفرة أوكام] (1)، وهي شفرة أو قانون يطبق على مدى واسع، وتتحاكم إليه العلوم المختلفة، وهو متفق عليه علميا، بل هو أحد أهم المبادئ المنطقيّة التي تشمل تطبيقاتها طيفا واسعا من المجالات المتباينة من علم المنطق، ونظرية المعرفة، والاقتصاد، وحتى الفلك والفيزياء وربما الرّياضيات.. وبفضل هذا المبدأ فصل وإلى غير رجعة بين الفيزياء والميتافيزياء.. وبين الكيمياء والخيمياء (2).

وهذا المبدأ منسوب إلى الفيلسوف الإنكليزي [ويليام أوكام] حيث استنتج في أبحاثه المتعلقة بهذا المبدأ أن (التعددية لا ينبغي أن تفرض دون ضرورة، أي أن الأولوية للأبسط

__________

(1) انظر مقالا بعنوان: شفرة أوكام هي أحد أهم المبادئ المنطقيّة وأوسعها استخداما.

(2) الخيمياء: هي علم ينظر في المادة التي يتم بها تكوين الذّهب والفضة بالصّناعة، ويشرح العمل الذي يوصِل إلى ذلك، وتلجأ الخيمياء إلى الرّؤية الوجدانية في تعليل الظّواهر، وكثيراً ما لجأ الخيميائيّون إلى تفسير الظّواهر الطّبيعية غير المعروفة لديهم على أنّها ظواهر خارقة، وترتبط بالسّحر.

كيف تناظر ملحدا؟ (128)

وللأقل تكلفة، والأقل تشعبا بطبيعة الحال)، وقد عبر عن ذلك بقوله: (من العبث القيام بعدد أكبر من الخطوات لإنجاز شيء ما، بينما يمكننا إنجازه بعدد خطوات أقل)

وقد استخدمه كبار العلماء كغاليلو غاليلي في دفاعه عن نموذجه الفلكي للسماوات.. وكان لنيوتن نصيبه في استخدامه أيضا، في تفضيل الفرضية الأبسط على الفرضيات المنافسة، وعرفت طريقة نيوتن هذه بسيف نيوتن الليزري الملتهب، حيث يصف نيوتن ذلك بقوله: (علينا أن نقبل فقط بالأسباب التي تلزم وتكفي لتفسير جميع جوانب الظاهرة المدروسة)

بل إن الملاحدة الجدد يستخدمونه بكثرة ـ ويسيئون استخدامه ـ ومن أمثلة ذلك قول [ريتشارد دوكنز] في كتابه [وهم الإله]، حيث كتب يقول: (تاريخيا، سعى الدين إلى تفسير وجودنا، وطبيعة الكون، محاولا مساعدتنا في إدراك ذواتنا؛ إلا أن العلم خلف الدين في زمننا الحاضر)

وطبقه عالم الكونيات [سين كارول] بقوله: (استطاع التقدم العلمي على مدار الخمسة قرون الأخيرة أن يجرد الله من أدواره التي يلعبها في هذا العالم؛ ولذلك كان استدعاء الله لتفسير الظواهر الطبيعية أمرا مقبولا قبل ألفي عام، ولكن يمكن فعل ما هو أفضل من ذلك في الحاضر)

لكن كل هذه المقولات مجرد دعاوى، لأن للطروحات الإلحادية من التعقيد والخيال وعدم إمكانية التطبيق ما يختلف كثيرا عن بساطة الإيمان بالله، وانسجامه مع الفطرة والعقل.. ففرضية [الله] تدل عليها كل الدلائل.. فهي أسهل الفرضيات، وأجملها، وأبسطها، وكل الدلائل فوق ذلك تدل عليها.. ولذلك فإنها إذا ما وضعت مع غيرها كان الانتصار لها لا محالة.

ومن الأمثلة القريبة على ذلك، والتي تلقى رواجا كبيرا لدى الملاحدة الجدد ما طرحه هاوكنج مما سماه [التصميم العظيم].. حيث أن الذي دعاه إلى هذا الطرح هو حل معضلة الإعداد المسبق لكوننا بعناية، ولذلك راح يفرض هذا الحل الممتلئ بالغرابة، وهو أن هناك

كيف تناظر ملحدا؟ (129)

تريليونات تريليونات تريليونات الأكوان الأخرى.. أي 10 أس 500 كون ـ كما يذكر ستيفن هاوكنج في كتابه الأخير [التصميم العظيم]ـ مع أننا لم نشهد أي كون آخر غير كوننا فضلا عن تريليونات تريليونات تريليونات الأكوان الأخرى، ومع أن هذا ـ حتى لو صح ـ فإنه لا يحل مشكلة التصميم المسبق بعناية لكوننا، بل ربما يطرح تساؤلات فلسفية أعمق مع تقدم علوم الفيزياء..

وعند تطبيق شيفرة أوكام على هذه النظرية نراها تسقط بسرعة ذلك أنها فرضية في غاية الغرابة والدهشة والبعد عن التجريب والاختبار واليأس التام في الرصد.. بالإضافة إلى كونها لم تنطلق من التجرد العلمي، وإنما انطلقت من الأيديولوجية العلمية والتفكير الرغبوي.

ومن الأمثلة على تلك القوانين التي يمكن اعتبارها أدوات لمحاجة الملاحدة التقرير الذي نشره مجلس البحوث الوطني بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي قصد منه المحافظة على سلامة واستقامة تدريس العلوم.

ومن تلك المبادئ التي نص عليها التقرير: أن تكون النتائج العلمية متسقة مع الأدلة التجريبية والرصدية حول الطبيعة.. وأن تكون لها القدرة على التنبؤ بدقة بخصوص الأنظمة التي يتم دراستها.. وأن تكون بعيدة عن التفسيرات المبنية على الأساطير، والآراء الشخصية، والقيم الدينية والإلهامات الذاتية، والمعتقدات الخرافية.. فكل هذه الأمور قد تكون مفيدة شخصيا أو اجتماعيا، ولكنها ليست تفسيرات علمية.

وهكذا عند تطبيق هذه الأسس على الكثير من النظريات العلمية التي يستند إليها الملاحدة نجد سقوطها وتهافتها، وبنفس القوانين التي يطبقونها على كل العلوم.

انطلاقا من هذا سنحاول هنا ذكر بعض النماذج عن مدى تخلف النظريات العلمية التي يستند إليها الملاحدة الجدد عن المنهج العلمي وفق التقرير الأمريكي الذي سبق ذكره، وذلك في المجالين الكبيرين: علوم المادة، وعلوم الحياة.. والتي حاولوا من خلالهما تفسير نشأة الكون

كيف تناظر ملحدا؟ (130)

ومصدر مادته وتصميمه، وتفسير نشأة الحياة وأسباب تنوعها بعيدا عن الحاجة إلى الله، وذلك من خلال تطبيق ما ورد في التقرير الأمريكي للعلوم.

أولا ـ البيانات الرصدية

قوة النظرية العلمية تنطلق من إمكانية رصدها للتحقق منها، فإن لم يتمكن أصحاب النظرية من إثباتها على أرض الواقع، فإنها تبقى مجرد دعوى لا دليل عليها، وأحيانا تصبح أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة، مثل نظرية الأوتار الفائقة، التي ذكر بعض الباحثين استحالة رصدها، فقال: (نظرية الأوتار تحتاج لمصادم هيدروني بحجم مجرة لاختبارها، وهذا غير ممكن) (1)

وقال عن [النظرية إم] التي جاء بها هاوكنج: (لو قلنا ـ طبقا للنظرية ـ إن الكون خلق نفسه فمن أوجد [النظرية إم]؟.. ومن أوجد القوانين الفيزيائية الخاصة بها؟.. ورغم ذلك فلا توجد لها معادلة فيزيائية حتى الآن.. أطلب منهم أن يكتبوا معادلة فيزيائية.. لن يفعلوا لأنهم ببساطة لايمتلكونها) (2)

وقال العالم [روجرز بنروز]، وهو الفيزيائي الشهير الذي أثبت مع هاوكنج حدوث الإنفجار الكبير مُعلقا على كتاب [التصميم العظيم]: (على عكس ميكانيكا الكم فإن [النظرية إم] لاتملك أي إثبات مادي إطلاقا) (3)

وقال الفيزيائي وعالم الفضاء [مارسيلو جليسر]: (ادعاء الوصول لنظرية نهائية يتنافى مع أساسيات وأبجديات الفيزياء والعلم التجريبي وتجميع البيانات، فنحن ليس لدينا

__________

(1) انظر: عالم الفيزياء الملحد ستيفن هوكينج وأفكاره الإلحادية الخيالية في نظر العلماء والمتخصصين، مرجع سابق..

(2) المرجع السابق.

(3) المرجع السابق.

كيف تناظر ملحدا؟ (131)

الأدوات لقياس الطبيعة ككل، فلا يمكننا أبدا أن نكون متأكدين من وصولنا لنظرية نهائية، وستظل هناك دائما فرصة للمفاجآت كما تعلمنا من تاريخ الفيزياء مرات ومرات.. وأراها إدعاء باطلا أن نتخيل أن البشر يمكن أن يصلوا لشيء كهذا.. وأعتقد أن على هاوكنج أن يدع الله وشأنه) (1)

وقال الفيزيائي [بيتر ويت] من جامعة كولومبيا: (لست من أنصار إدخال الحديث عن الله في الفيزياء، لكن إذا كان هاوكنج مصرا على دخول معركة الدين والعلم فما يحيرني هو استخدامه لسلاح مشكوك في صلاحيته أو فاعليته مثل [النظرية إم]) (2)

وقال فيلسوف الفيزياء [كريج كالندر] من جامعة كاليفورنيا ساخرا: (منذ ثلاثين عاما صرح هاوكنج بأننا على أعتاب نظرية كل شيء، وبحلول عام 2000 وحتى الآن في عام 2010.. لاشيء.. لكن لايهم فهاوكنج رغم ذلك قرر أن يفسر سبب الوجود بالرغم من عدم وجود النظرية.. إن ما يتحدث عنه هو مجرد حدس غير قابل للإختار أبدا) (3)

وقال العالم [جون بترورث] العامل بمصادم الهادرون بسويسرا: ([النظرية إم] خارج نطاق العلم) (4)

وقال [د. هاميش جونستون] محرر موقع عالم الفيزياء، وهو يعبر عن خوفه من تأثر الدعم الحكومي للبحث العلمي في بريطانيا تبعا لتصريحات هاوكنج: (توجد فقط مشكلة صغيرة وهي ضحالة الدليل التجريبي للنظرية. بمعنى آخر فهناك عالم كبير يخرج بتصريح

__________

(1) المرجع السابق.

(2) المرجع السابق.

(3) المرجع السابق.

(4) المرجع السابق.

كيف تناظر ملحدا؟ (132)

للعامة يتحدث فيه عن وجود الخالق إعتمادا على إيمانه بنظرية غير مثبته.. إن الفيزياء بحاجة لدعم العامة حتى لاتتأثر بتخفيض النفقات وهذا سيكون صعبا جدا إذا ظنوا أن معظم الفيزيائيين يقضون وقتهم في الجدال عن ما تقوله نظريات غير مثبته عن وجود الخالق) (1)

لكن الملاحدة الجدد، يحتالون أحيانا كثيرة عند طلب الدليل، حيث أنهم يصادرون على المطلوب، ومن الأمثلة على ذلك التلاعب بمفاهيم التطور، حيث أن نظرية التطور تحمل مفهومين: الأول، وهو التطور الكبير، وهو المعروف عند الإطلاق، ويعني التغيّر في الصفات المورفولوجية والجينية مما يتسبب في الانتقال من نوع إلى نوع آخر.

والثاني هو التطور الصغير، ويشير إلى مقدار التغير في تكرار المورث في العشيرة، ويتم التغير فيه على مستوى النوع الواحد نفسه، كتطوير كائن حي لمقاومته نحو جسم غريب، أو تغيير لون لجلد، أو تغيير في حجم عضو معين من الجسم، أو نحو ذلك.

وهذا النوع الثاني لا إشكال فيه، ذلك أن هجرة الأوروبيين مثلا إلى أستراليا واختلاطهم بالشعب الأسترالي الأصلي، أدت إلى اختلاط العرقين، وقد أثر ذلك على أولادهم، بحيث أصبحت أشكالهم تمزج بين الأصلين.. وهم يعبرون عن هذا بالتطور البيولوجي للأستراليين.. ومن أمثلته أيضا ظهور فيروس الأنفلونزا كل مرة بصورة جديدة، بحيث لا تؤثر فيه اللقاحات السابقة.

والمغالطة التي يمارسها الملاحدة في هذا الجانب هي أنهم إذا طولبوا بدليل على التطور الكبير يذكرون أدلة التطور الصغير، وقد عبر عن هذا الخلط [مايكل بيهي] بقوله: (الدارونية الحديثة فسرت التطور الدقيق بشكل رائع، لكن عند الحديث عن التطور الكبير فعلى

__________

(1) المرجع السابق.

كيف تناظر ملحدا؟ (133)

التطوريون أن يصمتوا) (1)

وذكر [نيكولاس كومنينلس]، الأستاذ بجامعة ميزوري ـ كنساس، في كتابه [Darwin's Demise]، أنه من الأخطاء الشائعة في الاستدلال العلمي استخدام التكيُّفات الملحوظة في التطور الصغير لافتراض صحة التطور الكبير، والانتقال من نوع إلى نوع آخر (2).

ثانيا ـ التنبؤات الدقيقة

من أهم أدلة مصداقية النظرية العلمية صدق تنبؤاتها في حال عدم إمكانية إثباتها عمليا، والأمثلة على ذلك في تاريخ العلوم كثيرة، ومن أشهرها وأقربها ما ذكرته وسائل الإعلام من أن العلماء رصدوا للمرة الأولى موجات جاذبية، وهي تموجات في المكان والزمان، تنبأ بها ألبرت أينشتاين، بالتزامن مع رصد ضوء ناجم عن الحدث الكوني نفسه، ولأجل ذلك فاز ثلاثة علماء أميركيين اكتشفوا تلك الموجات بجائزة نوبل في الفيزياء، وأثبت هؤلاء الباحثين أن النتائج التي اكتشفوها تساهم في تأكيد نظرية أينشتاين (3).

لكن الأمر مختلف تماما مع كل الدعاوى والطروحات العلمية التي طرحها الملاحدة، وحاولوا من خلالها إثبات الاستغناء على الخالق، بل إن الاكتشافات العلمية أثبتت عكس

__________

(1) انظر: المصادر الموثقة لهذا النص في كتاب: الرد على الملحدين العرب: د. هيثم طلعت علي سرور، دط، دت، ص 250.

(2) المرجع السابق.

(3) انظر مقالا بعنوان: نبوءة أينشتاين تتأكد.. رصد متزامن لموجات الجاذبية بين أميركا وأوروبا تنبأ بها قبل أكثر من 100 عام، هاف بوست عربي، رويترز، تم النشر: 10:44 17/ 10/2017. على الرابط:

http://www.huffpostarabi.com/2017/10/17/story_n_18291660.html

كيف تناظر ملحدا؟ (134)

مقصودهم.

والأمثلة على ذلك في علوم المادة كثيرة جدا، وهي تشمل كل النظريات والنماذج التي حاولت أن تتخلص من وجود بداية للكون، مثل نظرية الحالة الثابتة والكون المتذبذب وغيرها.

أما في علوم الحياة، وهي تلك النبوءات المرتبطة بنظرية التطور، فكلها تخلفت، بل كلها أثبت الزمن عكسها تماما، فقد كان داروين ـ بعد طرحه لنظريته ـ يطمع في أن تثبت الاكتشافات اللاحقة في السجل الاحفوري نظريتة، وبناء على ذلك فإن التنبؤ الدقيق لنظرية التطور هو اكتشاف كميات كبيرة من الأشكال الانتقالية.

لكن صار المستقبل الذي كان يحلم به داروين بحد ذاته عبئا على الداروينية وكما يقول هنري جي المحرر العلمي في مجلة الطبيعة: ـ (إنّ عملية أخذ مجموعة من الحفريات والقول بأنها تعكس وجود سلسلة قرابة هي في الواقع ليست فرضية علمية يمكن إخضاعها للاختبار، وكل ما في الامر انها مجرد حكاية أو حدوته من احاجي منتصف الليل المسلية التي قد تكون مُوَجِّهَةً أو مُرْشِدَةً للإنسان في كثير من الأحيان إلا أنها ومع ذلك لا تستند لأيّ أساس علمي) (1)

كما اعترفت مجلة [National Geographic] مؤخرا بقولها: (مضيء ولكن متقطع، يبدو السجل الأحفوري كفيلم للتطور فقد منه 999 من اصل 1000 صورة)

وهكذا يعترف التطوريون أن 99.9 بالمائة من الدليل مفقود، ومع ذلك يحاولون دائما خداعنا بنماذج مزيفة لحلقات انتقالية ليبرروا بها نظريتهم.

ولم يكن الأمر قاصرا على عدم اكتشاف الحلقات المفقود، بل إن الاكتشافات الأحفورية

__________

(1) نقلا عن الدّاروينية في الزّمن القديم، هارون يحي، دط، دت، من موقعه الالكتروني، ص 34.

كيف تناظر ملحدا؟ (135)

كل حين تثبت عكس كل التوقعات التي تبنتها الداروينية، ومن الأمثلة على ذلك تلك الحفرية البشرية التي عثر عليها في أسبانيا في سنة 1995، على يد ثلاثة علماء أسبان من جامعة مدريد متخصصين في الأنثروبولوجيا القديمة، وقد كشفت الحفرية عن وجه صبي في الحادية عشرة من عمره كان يبدو مثل الإنسان العصري تماما، على الرغم من مرور 800.000 سنة على وفاته.

وقد هزت هذه الحفرية قناعات المكتشفين لها، فقد قال [أرساجا فريراس]، وهو أحد المكتشفين: (لقد توقعنا أن نجد شيئا كبيرا، شيئا ضخما، شيئا منتفخا... كما تعلم، شيئا بدائيا. لقد توقعنا أن يكون غلام عمره 800.000 سنة مشابها لطفل توركانا. ولكن ما عثرنا عليه كان وجها عصريا تماما... بالنسبة لي كان الأمر مثيرا للغاية... إن العثور على شيءٍ كهذا غيرِ متوقع على الإطلاق لهُوَ من الأشياء التي تهز كيانك. فعدم العثور على حفريات أمر غير متوقع، تماما مثل العثور عليها، ولكن لا بأس. إلا أن أروع ما في الأمر هو أن تجد شيئا في الماضي كنت تعتقد أنه ينتمي إلى الحاضر. إن الأمر أشبه بالعثور على شيء مثل جهاز تسجيل في كهف جران دولينا. سيكون ذلك مدهشا للغاية، لأننا لا نتوقع العثور على أشرطة كاسيت وأجهزة تسجيل في العصر البلستوسيني الأدنى. وينطبق ذات الشيء على اكتشاف وجه عصري عمره 800.000 سنة. لقد اندهشنا جدا عندما رأينا هذا الوجه) (1)

ثالثا ـ المنطقية العلمية

وحتى نبسط مدى تخلف الملاحدة عن تطبيق هذا المعيار في مواقفهم العلمية نذكر هذا المثال الواضح الدقيق (2)، وهو أنهم أو أي شخص غيرهم إذا رأى إنسانا آليا يسير على قدمين،

__________

(1) المرجع السابق، ص 65.

(2) انظر: مقالا بعنوان: التطور ومعايير النظرية العلمية على هذا الرابط:

http://allabouttheism.blogspot.com/2014/08/is-evolution-scientific_78.html

كيف تناظر ملحدا؟ (136)

وهو يحمل بكفيه طردا ملصقا عليه عنوان دقيق.. ثم يذهب إلى ذلك العنوان بالضبط، ويسلم له الطرد؛ فإنهم بداهة، ومع النظرة الأولى، ومن غير بحث ولا تدقيق، يعتبرونه إنجازا علميا كبيرا، ومحترما، بل يسبحون بحمد من صنعه وصممه وأبدعه، ويعتبرون من جادل في ذلك، وتصور أنه مجرد آلات تجمعت بطريقة عشوائية عبر الزمن الطويل مجرد خرافة، وأنه قول لا يستند للعقلانية، ولا المنطقية.

في نفس الوقت نراهم يعتبرون ـ بداهة وللنظرة الأولى، ومن غير بحث ولا تدقيق ـ التجمع الحيوي الذي يتشكل منه الإنسان مجرد تشكل عشوائي انطلق من الصدفة والطفرة، وليس من مبدع حكيم مصمم.

مع العلم أن في الأرض وحدها ملايير ملايير ملايير من أمثال ذلك الإنسان الآلي الذي رأوه، بل ما هو أعجب منه، وبأعداد لا تحصى، ومع ذلك ينسبونها جميعا للصدفة والعشوائية، وهذا يبين مدى ازدواجية المعايير عندهم.

فهناك بروتين يسمى [kinesin]، وهو يعتبر نموذجا مصغرا لرجل البريد، وهو يوجد بشكل كبير في كل خلية حية ليؤدي دوره المتمثل في نقل حزم البروتين مستخدما طرقا سريعة ذاتية التجميع تسمي [micro tubule]، وهو يتحرك على قدمين بشكل يشبة حركه الإنسان تماما، وبطريقة ما تعرف الخلايا أيا من الاجزاء الخلوية يجب تصنيعها، ويتم ذلك في مصانع صغيرة توجد في الخلايا تسمي [Ribosome]، ثم يتم بعد ذلك تغليفها في عضيه خلويه تسمي [Golgi apparatus]، وبطريقة ما ترسل هذه الأجهزة إشارات للبروتين الناقل [Kinesin] لكي يحمل تلك الشحنه التي تم تغليفها، وينقلها إلى مكانها المناسب.

وهذا يشبه تماما ذلك الإنسان الآلي الذي تحدثنا عنه.. بل إنه أكثر تعقيدا منه، وهو من الصغر بحيث لا نستطيع أن نقارن بين مدى الإبداع بينهما.. فلذلك كان من العقلانية والمنطقية

كيف تناظر ملحدا؟ (137)

أن نضع أحكاما واحدة للجميع، فلا نميز بين ما نصنعه وبين ما نجده جاهزا.. فكما احتاج ما نصنعه إلى عقل مبدع، فكذلك يحتاج ما وجدناه جاهزا إلى صانع أكثر إبداعا وعلما وخبرة.

وقد أشار [جوناثان ويلز (1)] عالم الأحياء الأمريكي إلى هذه الازدواجية في المكاييل لدى الملاحدة، وذلك عند ذكره لرحلته البحرية التي راقب فيها مناقير البط، فقال: (من النادر للغاية أن يتم إطلاع المجتمع كله بما يقوم به العلماء المتخصصون من تفسيرات علمية تتعلق بالإبهام والغموض العميقين بخصوص أصل الإنسان، وبديلا عن ذلك نتلقى مجرد خبر عن آخر نظرية لهذا الشخص أو ذاك، ولا ينقلون لنا الحقيقة التي لم يستطيعوا هم أيضا فهمها بخصوص هذا الموضوع، فيتم الترويج للنظرية وتزيبها بشكل دقيق وبالاستعانة ببعض الرسوم والصور المتخيلة لإنسان الكهف أو لجد الإنسان بوضع كثير من الماكياج عليها، والواضح أن أحدا من قبل لم ينسج خيالا واسعا إلى هذا الحد بخصوص جزئية بسيطة إلى هذا القدر في أى فرع من فروع العلم المختلفة) (2)

ففي هذا التصريح ينص [جوناثان ويلز]، وهو عالم الأحياء المتخصص، بكل صراحة، على أن الداروينية التي يتمسك بها الملاحدة في تفسير نشأة الحياة وتنوعها، لا تعدوا أن تكون

__________

(1) جوناثون ويلز عضو في مركز العلم والثقافة التابع لمعهد ديسكفري يحمل شهادتي دكتوراه واحدة في البيولوجيا الخلوية والجزيئية من جامعة كاليفورنيا وأخرى في الدراسات الدينية من جامعة يال، وهو مؤلف كتاب (أيقونات التطور: لم يكون معظم ما ندرسه عن التطور خاطئاً)، وهو واحد من أهم الشخصيات المحورية لإصلاح تعليم التطور عبر تصحيح أخطاء الكتب المدرسية وعبر التأكيد على أن الدليل المؤيد والمعارض للدراونية يجب أن يدرس، وهو معروف بشكل واسع كمحاضر ومناقش في موضوع التصميم الذكي.

(2) أيقونات التطور: لم يكون معظم ما ندرسه عن التطور خاطئاً، ص 225.

كيف تناظر ملحدا؟ (138)

خيالا علميا، لا حظ له من العقلانية، ولا المنطقية.

وقبله صرح العالم [ريتشاد ليكي] وهو أحد علماء [الباليوأنثروبولوجيا]، وهو العلم الذي يبحث في أصول الإنسان القديم، فقال: (لو أنكم جئتم برجل علم ذكي ماهر من فرع مختلف من فروع العلم، وأطلعتموه على ما لدينا من دلائل غير كافية فإنه سيقول لكم وبكل تأكيد: انسوا هذا الموضوع، فليس لديكم دعامة أو سند كاف للاستمرار فيه.. فالدلائل لدينا غير كافية إطلاقا) (1)

وقال: (لقد أصبحت الفكرة التي تقول بأن تاريخ تطور الكائنات الحياة عبارة عن مسألة أو قضية استكشافية مجرد خرافة.. فلو كان بهذا الشكل ووجدنا حفريات كثيرة لكائنات شبيهة بالإنسان لكان من الضروري أن تتحول حكاية التطور إلى شكل أكثر وضوحا غير أن الحقيقة هي أنه عندما كان يحدث شيء كان يحدث شيء آخر على النقيض تماما من الأول) (2)

وهكذا صرح [هنري جي] المحرر العلمي في مجلة الطبيعة بقوله: (إن عملية أخذ مجموعة من الحفريات والقول بأنها تعكس وجود سلسلة قرابة هي في الواقع ليست فرضية علمية يمكن إخضاعها للاختبار، وكل ما في الأمر أنها مجرد حكاية أو حدوته من أحاجي منتصف الليل المسلية التي قد تكون موجهة أو مرشدة للإنسان في كثير من الأحيان إلا أنها ومع ذلك لا تستند لأي أساس علمي) (3)

وهكذا صرح [ميلفورد ولبوف] و[آلان ثورن]، فقد ذكرا أن (الإنسان منتصب القامة ليس إلا تصنيفا خياليا لا وجود له، وأن الحفريات التي أدمجت في هذا التصنيف هي عبارة عن

__________

(1) نقلا عن مقال بعنوان: فكرة وحش السباجيتي الطائر.. وسذاجة ريتشارد داوكنز..!!.

(2) المرجع السابق.

(3) المرجع السابق.

كيف تناظر ملحدا؟ (139)

الإنسان العاقل من أعراق مختلفة) (1)

بل إن الكثير من العلماء الآن ينادون قائلين: (نحن في حاجة ماسة وعاجلة إلى عدم الدفع بالعلم إلى دائرة الخرافة.. فما الذي يستفيده العلم من معرفة درجات القرابة بين الحيوانات المختلفة.. إن العلماء كفوا عن أن يكونوا علماء أنساب!!) (2)

وعبر [جريج كيربي] عن الإفلاس الذي وقع فيه التطوريون قائلا: (لو أنكم قضيتم حياتكم كلها في جمع العظام والقطع الصغيرة من الجمجمة والذقن، فإنكم ستشعرون برغبة ملحة في أن تبالغوا في أهمية هذا القطع الصغيرة التي قمتم بجمعها) (3)

فكل الدلائل العلمية الآن تقف ضد نظرية التطور.. وبفضل هذه الدلائل والقرائن تعرضت نظرية التطور للسقوط في الكثير من المناطق التي كانت تتبناها؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية اعتبارا من النصف الثانى من التسعينات، اتخذت عدد من الولايات القرار بضرورة تدريس القرائن التي تشير إلى عدم صلوحية تدريس نظرية التطور في مدارسها.. وجميع أعضاء هذه الحركة من رجال العلم الذين لهم رصيد مهني في أكبر جامعات الولايات المتحدة الأمريكية.

حتى إن البروفيسور كينيون، وقد كان واحدا من أشهر المدافعين عن نظرية التطور بأطروحته التي قدمها في السبعينات فيما يتعلق بأصل الحياة والتطور الكيميائي، تحول هو أيضا إلى واحد من ممثلي الحركة المضادة لنظرية التطور، وتحدث عن أن أصل الحياة لا يمكن أن يفسر بالتطور وإنما بالخلق.

__________

(1) المرجع السابق.

(2) المرجع السابق.

(3) المرجع السابق.

كيف تناظر ملحدا؟ (140)

ومع ذلك كله، نجد الملاحدة إلى الآن يعتبرون نظرية التطور حقيقة علمية، ويفسرون بها نشأة الحياة وتنوعها، في نفس الوقت الذي يعتبرون التفسير الديني لذلك، واحتياج الحياة لمصدر خارجي خرافة وأسطورة، مع أن كل الأدلة العلمية تدل عليه، وهذا بسبب انعدام المنطقية العلمية، والكيل بالمكاييل المزدوجة.

رابعا ـ الانفتاح على النقد

وهو المعيار الرابع من المعايير العلمية، فالحقيقة العلمية منفتحة على النقد، وتتقبل الآخر، وتناقشه مناقشة علمية هادئة، ولا تفرض عليه أي سلطة أو وصاية.

وهذا ما يخالفه الواقع الإلحادي تماما؛ حيث نجد الملاحدة يتهمون كل مصدر يخالف رؤاهم بادئ الرأي، ومن دون أي مناقشة علمية، بل من دون اطلاع عليه أصلا، ولا يكتفون بالسخرية به، وإنما يشنعون عليه، ويستعملون كل الوسائل لتشويهه.

ومن الأمثلة التي تدل على ذلك الانغلاق الفكري الذي يعانيه الملاحدة، موقفهم من كتاب [التطور: نظرية في أزمة] الذي أصدره [مايكل دنتون] عام 1985، والذي أثار الكثير من الجدل، بل من العنف والمواجهة من طرف التطوريين، لسبب بسيط، وهو أنه أقر فيه بالحقيقة، وصرح فيه بما جبن غيره أن يصرح به؛ فقد ذكر فيه أن نظرية التطور بالاصطفاء الطبيعي نظرية في أزمة علمية حقيقية.

ولهذا وُصف من قبل العديد من البيولوجيين بأنه نقض لأركان نظرية التطور وهدمها بأسس علمية.. وبسبب هذا تعرض الكتاب ومؤلفه إلى حملة كبيرة من التشويهات، لا لكونه غير علمي، ولا غير منسجم مع المنطق.. ولكن لكونه ناقض الخط العام المرسوم مسبقا، والقائل بقبول نظرية التطور حتى وإن كانت تناقض في كثير من نقاطها الحقائق العلمية الواضحة.

وهذا الأسلوب هو نفسه الذي حصل في الاتحاد السوفييتي إبان عهد ستالين.. ففي

كيف تناظر ملحدا؟ (141)

تلك الفترة، اعتبرت الشيوعية، الأيديولوجية الرسمية للاتحاد السوفييتي فلسفة (المادية الجدلية) هي الأساس لكل العلوم.. ولذلك أمر ستالين بأن تتمشى كل البحوث العلمية مع المادية الجدلية.

ومع ذلك، تم رفع هذا الالتزام عند انهيار الاتحاد السوفييتي، وعادت الكتب إلى كونها نصوصا علمية فنية عادية تحتوي على نفس المعلومات.. بل إن التخلي عن سخافات مثل المادية الجدلية لم يتسبب في تخلف العلم، بل أزال عن كاهله الضغوط والالتزامات المفروضة عليه (1).

وهكذا نرى في الوقت الحاضر أنه لا يوجد سبب يدعو إلى ربط العلم بنظرية التطور، فالعلم يقوم على الملاحظة والتجريب، بينما تعبر نظرية التطور، من ناحية أخرى، عن فرضية متصلة بماض لا يمكن إخضاعه للملاحظة.

فما يقع فيه دعاة نظرية التطور من انغلاق وتشدد لا يختف عن ذلك العصر الذي كان هناك فيه إجماع علي سطحية الأرض.. وقد اتهم حينها بالزندقه والتكفير كل من خالفهم، واتبع الدليل.. وهذا هو واقعنا الحالي مع أصحاب نظرية التطور، والمؤسسات العالمية الكبرى التي تدعمها.

ولهذا نراهم يتركون الاحتجاج العلمي المبني على الأسس المنطقية التجريبية، ويلجؤون إلى أساليب لا علاقة لها بالعلم من أمثال ادعائهم أن النظرية مقبولة بشكل واسع في المجتمع العلمي.

وكأن صحة أي نظرية تعتمد على الأغلبية المفترضة لأتباعها، لا على ما يدل عليها من أدلة.. ولهذا يمارسون نوعا من الضغط النفسي والدعاية الخالية من اللغة العلمية.

لقد أقر الدكتور [أدرا دينكل]، وهو برفيسور في الفلسفة، ومساند لنظرية التطور، بالطبيعة الخاطئة لهذا الأسلوب، فقال: (هل الحقيقة التي يؤمن بها العديد من الأناس البارزين

__________

(1) انظر: هدم نظرية التطور في عشرين سؤالا، هارون يحيى، ص 17.

كيف تناظر ملحدا؟ (142)

أو المنظمات أو الهيئات يثبت صحة نظرية التطور؟.. هل يمكن اثبات النظرية بقرار المحكمة؟.. هل الحقيقة التي يؤمن بها الشخصيات أصحاب السلطة يجعلها صحيحة؟) (1)

ثم راح يجيب على هذه التساؤلات بقوله: (أريد أن أسترجع حقيقة تاريخية.. ألم يقف جاليلو ضد الشخصيات الهامة والمحامين، وخصوصًا العلماء في ذاك الوقت، وتكلم عن الحقيقة لوحده، وبدون أي دعم من أي شخص؟.. ألم تكشف محاكم الإستقصاء حالات أخرى مشابهة؟)

ثم ختم كلمته بقوله: (إن كسب دعم الدوائر البارزة والمؤثرة في صنع القرار لا يصنع الحقيقة، وليس له علاقة بالحقيقة العلمية)

إضافة إلى ما ذكره الدكتور [أدرا دينكل]، فإننا إذا تأملنا الواقع العلمي جيدا، وبنظرة حيادية، نجد نظرية التطور غير مقبولة من المجمتع العلمي كله، كما يشيع أنصار نظرية التطور.. بل إنه خلال العشرين سنة ماضية، نرى أعدادا محترمة من العلماء ترفض الداروينية بشكل متصاعد؛ فقد ترك معظمهم عقيدتهم الدوغماتية في الداروينية بعد رؤية تصميم لا عيب فيه في الكون وفي الكائنات الحية.

والأهم من ذلك كله أن الذين تخلوا عن النظرية هم أعضاء من جامعات مشهورة، ومن جميع أنحاء العالم، خاصة في الولايات المتحدة، فهم خبراء وأكاديميون في مناصب علمية مثل البيولوجيا والبيوكيماء والميكروبيولوجي وعلم التشريح وعلم الدراسات القديمة وغيرها من الحقول العلمية.. فلذلك، فإنه الخطأ الكبير القول بأن الأغلبية من المجتمع العلمي تؤمن بالداروينية.

__________

(1) انظر: أردا دِنكِل، ملحق العلوم والتكنولوجيا الصادر عن الكومهوريِت اليومية التركية، 27 شباط/ فبراير 1999..

كيف تناظر ملحدا؟ (143)

وحتى لو فرضنا أن هناك إجماعا على قبول هذه النظرية، فهل الاحتكام إلى الإجماع من الناحية العلمية احتكام صحيح؟.. وهل الإجماع العلمي معصوم من الخطأ؟

لقد عبر عن هذا المعنى [مايكل كريتشتون] حين ذكر أن الإجماع يمكن استخدامه في مجالات الدين أو السياسة، ولكن لا مكان له في العلم، ذلك أنه يعتمد فقط على الأدلة المكتشفة من التجارب العلمية، ولا يعتمد على أعداد العلماء..

لقد عبر عن ذلك بقوله: (دعنا نكن واضحين: الأسلوب العلمي ليس له أي علاقة بالإجماع، الإجماع هو عمل السياسة.. العلم في الوجه المقابل، يحتاج إلى محققين يصادف أنهم على صواب، وهذا يعني أن لديه معلومات قابلة للإثبات بالمراجع في العالم الواقعي.. أما الإجماع العلمي فليس له علاقة، فالذي له علاقة هي النتائج القابلة للإنتاج.. أعظم العلماء في التاريخ كانوا عظماء بالفعل لأنهم كسروا الإجماع.. لا يوجد شيء اسمه إجماع علمي.. إذا كان هناك إجماع فهو ليس علما.. وإذا كان هناك علم فهو ليس إجماعا.. نقطة على السطر) (1)

وعبر عن ذلك في موقف آخر بقوله: (الإجماع يستخدم عندما لا يكون العلم صلبًا بما فيه الكفاية.. لا أحد يقول إن إجماع العلماء يتفق على أنّ بعد الشمس عنا هو 93 مليون ميل.. لم يحدث أبدًا أن تكلم أحد بهذه الطريقة)

وقال: (أريد أن أتوقف هنا لمهلة وأتكلم عن فكرة الإجماع، والفكرة التي انتشرت بكثرة وهي الإجماع العلمي.. أنا اعتبر الإجماع العلمي تطورا خبيثا يجب إيقافه بدون رحمة.. فتاريخيًا، ادعاء الإجماع كان مأوى الأوغاد.. إنها طريقة لتجنب المناظرة بإدعاء أن القضية صارت محلولة.. كلما سمعت عن إجماع العلماء في الموافقة على شيء ما أو آخر، فابحث عن محفظتك، لأنه يتم شراؤك.. أو تفقد مخك، لأنه يتم غسيله)

__________

(1) http://www.evolutionnews.org/2008/11/is_there_a_consensus_in_scienc 013351.html.

كيف تناظر ملحدا؟ (144)

وقبله بقرون عبر جاليلو عن موقفه من قضية الإجماع العلمي، فقال: (في الأسئلة العلمية، سلطة الآلاف لا تستحق التفكير المتواضع لشخص واحد)، هذا هو القانون الصحيح الذي يحتكم إليه في العلم، لا تفكير القطيع الذي يتصور أنه كلما كبر العدد كانت الحقيقة.

وما ذكره جاليليو هو نفسه ما أشار إليه الفيزيائي [جيوفاني أميليون] حين تحدث عن المساءلات التي تعرضت لها نظرية النسبية لآينشتاين، وهي أعز نظرية على قلوب الفيزيائيين على حد وصفه.. وذلك حين اكتشفت جسيمات النيوترينو والتي كان يظن أنها تجري بسرعة تفوق سرعة الضوء.. ولكن رغم أنه تم إثبات خطأ ذلك، حيث أنه تبين أن التنيوترينو لا يجري بسرعة أكبر من سرعة الضوء، إلا أنه مجرد تعريض النظرية النسبية للمساءلة رغم أهميتها ومدى تمسك الفيزيائيين جميعا بها يحد أمرا صحيا وإيجابيا بحد ذاته..

لقد عبر عن ذلك بقوله: (فمن يدري؟ لعل الاكتشاف العظيم القادم يكون على بعد خطوة صغيرة منا ونحن لا ندري.. فربما تبين خطأ النظرية النسبية وظهور نظرية (1)

ثم راح يتندر على الحال مع نظرية التطور، ويذكر أنه (على عكس ما يحصل عند الفيزيائيين من استعداد تام لتعريض أهم نظرياتهم للمساءلة، فإن التطوريين لا يبدون أي استعداد لفعل الشيء نفسه مع نظريتهم. بل على العكس، فإنك ستجد دوما مقالات وكتابات تصر وتلح بعناد ومكابرة على أن نظرية التطور هي حقيقة تامة ولا تشوبها شائبة!)

خامسا ـ المعلومات الدقيقة

وهو المعيار الخامس من المعايير العلمية؛ ذلك أنه لا يمكن أن نثق في أي نظرية تتلاعب بالمعلومات، أو تزورها، أو تفسرها على خلافا ما تدل عليه النتائج العلمية المنطقية.. ويكفي لأي نظرية تفعل هذا أو بعضه أن تتهم في مصداقيتها وموضوعيتها وصفتها العلمية.. بل

__________

(1) http://www.nature.com/news/no-theory-is-too-special-to-question-1.10182

كيف تناظر ملحدا؟ (145)

يمكن أن تطرح أصلا مثلما يطرح ذلك الكاتب الذي اكتشفت لصوصيته العلمية، أو راح يزور الحقائق، أو راح ينسبها لنفسه.

ومن الأمثلة على ذلك، والتي استعملها الملاحدة لفترة طويلة، بل لا زال بعضهم يستعملها، ما يسمونه [إنسان بلتداون].. أو ما يطلق عليها الآن بـ[خدعة بلتداون] (1)، ففي عام 1912، ادعى فريق بحثي بقيادة عالم حفريات بريطاني هاوٍ يُدعى [تشارلز داوسون] اكتشاف حفرية.. وقد كان الأمر حينها عجيبا ومثيرا.. ذلك أن عظام فك تلك الحفرية التي تم عرضها تشبه عظام فك القرد، بينما الجمجمة كانت تمتلك صفات جمجمة الإنسان.

وقد اهتمت الهيئات الكثيرة بذلك الاكتشاف الخادع، وتم إطلاق اسم [إنسان بلتداون] على تلك الحفرية، والتي عُرضت في أهم متاحف العالم لأكثر من 40 عامًا متتالية على أنها دليل قاطع على صحة نظرية التطور.

وكان صداها هائلًا على المستوى الأكاديمي، حتى أن ما يقرب من 500 أطروحة للدكتوراه تمت كتابتها عن هذا الأمر لمدة 40 عامًا، بل كانت توصف بكونها رمزًا لانتصار نظرية التطور المزعومة، وُضعت للعرض والمشاهدة في المتحف البريطاني، والذي يعتبر واحدًا من أشهر المؤسسات في العالم.

وقد تم فحصها ودراستها في تلك الفترة الطويلة من قبل أشهر العلماء من جميع أنحاء العالم، بل حتى من قبل أعداد لا تُحصى من الزائرين.

وفي الأخير، وبعد كل ذلك الانتصار الكاذب الذي لبس لباس العلم اكتشف أن الأمر كله لا يعدو أن يكون مجرد خدعة.

ففي عام 1949، استطاع [كينيث أوكلي] من قسم الحفريات في المتحف البريطاني أن

__________

(1) انظر: مقالا بعنوان: خدعة إنسان بلتداون، هارون يحي.

كيف تناظر ملحدا؟ (146)

يطور طريقة جديدة لتحديد أعمار الحفريات.. وبدأ باستخدام هذه التقنية التي أُطلق عليها اختبار الفلوريد على الحفريات الموجودة داخل المتحف.

وما إن راح يطبقها على جمجمة [إنسان بلتداون] حتى ذهل للمفاجأة، فقد اكتشف أن عظام الفك خالية من مادة الفلوريد، بينما احتوت الجمجمة على نسبة صغيرة منه.. وهذا يعني أن عظام الفك لا يتجاوز عمرها بضع سنوات، والجمجمة لا يتجاوز عمرها بضع المئات من السنين على أقصى تقدير.

ومع تكثيف التحقيقات، اكتشف أن تلك الحفرية التي تم تصويرها على أنها أفضل دليل تم التوصل إليه لإثبات نظرية التطور كانت في الحقيقة محض كذب.. فعظام الفك تنتمي إلى إنسان الغاب المتوفى حديثًا.. والجمجمة تنتمي إلى إنسان متوفٍّ منذ فترة قاربت 500 عام..

ومن خلال الفحص عن قرب عرف أن الأسنان تم إرفاقها بعظام الفك في وقتٍ لاحق، وتم استخدام أداة صلبة لكشطها.. ثم تم غمرها في سائل ثنائي كرومات البوتاسيوم، وذلك لإعطائها مظهرًا قديمًا.

وقد أثبتت التحاليل المفصلة التي أجراها [جوزيف وينر] بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه الحفرية كانت مجرد خدعة.

وكان البروفيسور [لو جروس كلارك] أستاذ التشريح بجامعة أوكسفورد واحدًا من هؤلاء العلماء الذين كشفوا هذا الغش والاحتيال.. وفي نهاية التحقيقات التي قام بها، قال: (بالفعل فإنه يبدو جليًا افتعال هذه الخدوش، ويبدو أنه من الجيد طرح السؤال الأهم، وهو: كيف أن هذه الخدوش لم يتم ملاحظتها من قبل؟.. إنهم لم يبحثوا عن هذا الأمر من قبل.. لم يقم أي شخص في السابق ممن فحصوا عظام فك بلتداون بوضع فكرة وجود تزييف محتمل نُصب عينيه، إنه تلفيق متعمد)

أما [كلارك هاول] أستاذ الأنثروبولوجيا، فقد قال معلقا على هذه الخدعة الخطيرة:

كيف تناظر ملحدا؟ (147)

(اكتُشفت بلتداون عام 1953 ولم تكن سوى عظام فك لقرد تم إدخالها على جمجمة إنسان، فهي خدعة قد تم وضعها عن عمد، فهم لم يقروا بشكل واضح عما إذا كان هذا الفك ينتمي لقرد أو إذا كانت الجمجمة تنتمي لإنسان، وبدلًا من ذلك فقد أعلنوا أن كل جزء من الجزئين السابقين هو شيء في المنتصف ما بين القرد والإنسان.. وقد أرجعوا تاريخه لحوالي 500 ألف عام مضت، وأطلقوا عليه اسم [الإنسان الفجرى الدوسوني أو إنسان داون]، وكُتب ما يقرب من 500 كتاب عن هذا الأمر خدع هذا الاكتشاف علماء الحفريات لمدة 45 عامًا)

هذا مجرد مثال.. والأمثلة كثيرة جدا.. بل إننا في كل يوم نسمع كذبة جديدة وخدعة جديدة، ويصدقها الكثير، لا لكونها علمية، ولكن لكونها تصب في ذلك التفكير الرغبوي المزاجي الذي جعل الملاحدة ينتصرون لهذه النظرية بالصدق أو بالكذب.

ومن الأمثلة على ذلك أيضا خدعة أخرى اسمها [إنسان نبراسكا].. وتبدأ قصة هذه الخدعة عام 1922، وهو الوقت الذي كانت الجهود المكثفة تبذل فيه بهدف الوصول لبرهان على نظرية التطور.

حينها كان الجميع مهووسون بالوصل إلى ذلك الإثبات.. أو بالوصول إلى الحلقة المفقودة التي تصل الإنسان بالقرد أو بغيره من الحيوانات..

حينها أعلن [هنري فيرفيلد أوزبورن] رئيس قسم الحفريات بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي عن اكتشافه حفرية لضرس يعود تاريخه إلى الحقبة البليوسينية بالقرب من وادي الأفاعي غرب نبراسكا.

وقد حدث توافق بشكل تام بناءً على ضرس واحد فقط بأنه ينتمي إلى ما يسمى بالرجل القرد.. ثم دارت العديد من النقاشات العلمية العميقة حول هذا الدليل المزعوم، والذي لم يكن في الحقيقة أكثر من مجرد خيال.

وقد أُطلق على هذه الحفرية ـ والتي سببت جدلًا واسعًا ـ اسم [إنسان نبراسكا].. بل

كيف تناظر ملحدا؟ (148)

سرعان ما تم إعطاء اسم علمي عليها، وهو [هسبيروبايثيكوس هارولدكوكي].. وسرعان ما لقي مكتشفها الكثير من الدعم والاهتمام.

ومما يدل على فداحة التفكير الرغبوي لدى الملاحدة، وتسلطه عليهم، أنهم راحوا يجرون العديد من الرسومات لإعادة بناء جمجمة وجسد إنسان نبراسكا اعتمادًا على ضرس واحد فقط.. بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث نُشرت العديد من الرسومات الإيضاحية لإنسان نبراسكا مع أولاده وزوجته في بيئتهم الطبيعية التخيلية.

بل بدأ التطوريون مرة أخرى بحشد جميع الوسائل المتاحة لهم من أجل هذا السيناريو الوهمي..

ومع أن بعض العقلاء في ذلك الحين أقر بأن الأدلة المتعلقة بخصوص [إنسان نبراسكا] غير ملائمة تمامًا، وأن الدليل المتاح لا يبرهن على أي شيء، وأن على هؤلاء الانتظار مزيدًا من الوقت.. إلا أن التطوريين، ولحرصهم على نظريتهم، وخوفهم من فقدان هذا الدليل الكاذب راحوا يشنون حملة مضادة تضمنت الدعاية التطورية المعتادة ضد من يخالفهم، باعتبارهم غير علماء ولا متخصصين ولا متطورين عقليا.

لكن بعد كل ذلك بفترة من الخداع والوهم اكتشف أن هذا الضرس لا ينتمي لا للبشر ولا للقردة، وإنما لفصيلة منقرضة من الخنازير البرية.

سادسا ـ عدم التحيز

وهو المعيار السادس من المعايير العلمية؛ ذلك لا يمكن أن نثق في نظرية تتحيز لوجهة نظرها تحيزا مطلقا، يجعلها تلغي غيرها من غير أي أدلة علمية.. ولكن تفعل ذلك فقط بسبب تفكيرها الرغبوي.

والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، فالملاحدة يعتبرون العلماء المخالفين لهم، وهم كثير جدا ـ كما رأينا سابقا ـ علماء مزيفين نتيجة انحيازهم لأفكارهم الدينية.

كيف تناظر ملحدا؟ (149)

وقد اعترف العالم التطوري [ريتشارد ليونتين] بهذا التحيز، فقال: (ليست الأساليب والمناهج العلمية هي التي تدفعنا لقبول التفسيرات الماديه للعالم المشاهد، ولكن على العكس التزامنا المسبق بالتفسيرات المادية هو الذي يفرض علينا أن نخلق نظاما للتحقيقات، ومجموعة من المفاهيم ينتج عنها تفسيرات مادية، مهما كانت محيرة للمبتدئين، علاوة على ذلك، المادية مطلقة لأننا لا يمكننا السماح بتقبل فكره الله) (1)

ومثله اعترف [الدوس هكسلي] بأن العدمية.. أي عدم وجود اله.. هو محور رؤيتة الكونية، فقال: (كان لدي حافز يدفعني لإنكار وجود أي معنى للكون، لذلك افترضت أنه ليس للكون معنى، وكان الأمر سهلا أن أجد أدلة مقنعة لذلك الافتراض، الفيلسوف الذي يؤمن بأنه لا معنى في للحياة ليس فقط مهتما بمشكلة ميتافيزيقيه بحتة، ولكن أيضا مهتم بإثبات أنه لا يوجد سبب مقنع يمنعه عن القيام بما يشتهي، ويمنع أصدقائه من الاستيلاء على السلطة السياسية والحكم بما يخدم مصالحهم، بالنسبة لي لقد كانت الفلسفه العدمية أداه تحرر جنسي وسياسي) (2)

هذا التصريح من الدوس هكسلي يدلنا على أن الفلسفه الهيومانية الإنسانية التي لا تحكمها أي حدود أخلاقية ليس لديها أي مشكلة في الاستيلاء على السلطة السياسية من أجل الترويج لآرائها الإلحادية.

ولذلك لا نعجب إذا رأينا مثل هذا التصريح منشورا في المنشورات الهيومانيه، والذي يقول صاحبه فيه: (لدي اقتناع أن معركه مستقبل البشرية يجب أن تشن في فصول المدارس على أيدي المعلمين، والذين يعتبرون مبشرين بإيمان جديد، سوف تصبح الحجرة الدراسية ساحة

__________

(1) Richard Lewontin، Harvard Geneticist، “Billions كيف تناظر ملحدا؟ ( Billions of Demons”، The New York.

(2) Huxley، A.، Ends and Means، pp. 270 ff.

كيف تناظر ملحدا؟ (150)

للصراع بين الجديد والقديم: الجثة المتعفنة للمسيحية، والإيمان الجديد بالهيومانية)

وعندما ننظر إلى المسألة من هذه الزاوية نجد أن التطوريين ذوو توجه أيديولوجي لا يختلف عن الدين نفسه، ذلك أن الدين ليس سوى مجموعة المعتقدات حول سبب وطبيعة وهدف الكون.. أو هو مجموعة خاصة من المعتقدات الأساسية والممارسات يتفق عليها مجموعة من الناس بشكل عام.. والهيومانيه بهذا المعنى دين يروج له في المدارس.. ومن الأسلحة التي يستخدمونها لذلك نظرية التطور.

لقد صرح بعضهم بهذا، فقال: (إن الايمان بالداروينيه الحديثة يجعل من الناس ملحدين، فمن الممكن للشخص أن يكون لديه معتقد ديني يتلائم مع الداروينية فقط اذا كان هذا المعتقد الديني هو الالحاد) (1)

__________

(1) انظر: التطور ومعايير النظرية العلمية.

كيف تناظر ملحدا؟ (151)

الإلحاد.. وخلق الكون

يعتبر الكون بظواهره العجيبة، وتصميمه البديع من أبرز الأدلة على الله، ذلك أنه يستحيل أن تكون هذه الدقة، وتلك البراعة، وذلك التنظيم العجيب المبني على موازين دقيقة، ناشئا عن صدفة عشوائية، أو طبيعة عمياء صماء، بل لابد له من جهة خارجة عنه، تملك من القوة والعلم والقدرة والحكمة وكل صفات الكمال ما يؤهلها لمثل هذا الإبداع العظيم.

ولهذا، فقد استعمل الملاحدة كل الحيل، ليصرفوا النظر عن هذا الإبداع العظيم، ويجعلوه وليدا لعلل كثيرة، حتى لو كانت غريبة متناقضة، فيكفي أن تكون وسيلة للصد عن الله، حتى تكون محل قبول لديهم.

وبناء على هذا، فإن على الداعية إلى الله على بصيرة، والذي يريد أن يواجه الإلحاد، وحيله وخدعه، أن يتعرف على منتجات العلوم الحديثة التي يستند إليها الملاحدة في تبرير إلحادهم، وهي تشمل خصوصا علمي الفلك والفيزياء بنوعيها الكلاسيكي والحديث..

ومن خلال ذلك سيكتشف المغالطات التي يمارسها الملاحدة عند استدلالهم بها؛ ذلك أنها من الناحية المنطقية عديمة الدلالة على الإلحاد، وإنما يتلاعب الملاحدة بالألفاظ ليجعلوها سندا لهم.

بالإضافة إلى ذلك يكتشف الأغلوطات الكثيرة المرتبطة بها، ذلك أن الكثير من النظريات التي نجدها على المواقع كسند يعتمد عليه الملاحدة ليس لها أي حظ علمي عند المتخصصين، فهي لم تجرب، بل يستحيل تجريب أكثرها، وهي عبارة عن ميتافيزياء، وليست فيزياء، ولذلك لا يصح اعتبارها سندا علميا.

وهذا ما أشار إليه الكثير من الباحثين المختصين من أمثال البروفسور [جون بولكنجهورن] الفيزيائي الشهير الذي قال معبرا عن نقده الشديد لنظرية الأكوان المتعددة:

كيف تناظر ملحدا؟ (152)

(إنها ليست فيزياء.. إنها في أحسن الأحوال فكرة ميتافيزيقيه، ولا يوجد سبب علمي واحد للإيمان بمجوعة من الأكوان المتعددة.. إن ماعليه العالم الآن هو نتيجة لإرادة خالق يحدد كيف يجب أن يكون)

ومثله قال الفيزيائي الشهير [راسل ستانارد] الذي اعتبر الكثير من طروحات الفيزياء الحديثة فلسفة وليست علما، فقال: (إن فلسفة هاوكنج تحديدا ما أعارضه، فهي كما وصلتني مثال واضح على التعالم، فطرح أن العلم هو مصدر المعلومات الوحيد، وأننا لدينا فهم كامل لكل شيء هراء، بل هراء خطير أيضا، فهو يشعر العلماء بالكبر والغرور بشكل مبالغ فيه)

وبناء على هذا، نحاول في هذا الفصل أن نذكر أهم ما يحتاجه من يواجه الإلحاد من معارف ترتبط بهذه النظريات: الحديثة منها، والتقليدية، ليتبين من خلالها حظها من العلم، ولتكون له القدرة العلمية على مناقشة الدعاوى الإلحادية المتعلقة بها.

ومن خلال استقرائنا للشبهات العلمية المطروحة في هذا الجانب نجد أنها تبدأ ـ أولا ـ من فرضية أزلية الكون أو ما يطلق عليه علميا [الحالة الثابتة]، وهو ما سنذكر الرد العلمي عليه في المبحث الأول، والذي نبين فيه الأدلة العلمية على حدوث الكون.

والشبهة الثانية: وهي هي فرضية الصدفة والعشوائية؛ وقد رددنا عليها بتفصيل في الفصل السابق، لكنا سنركز هنا على الطروحات الفيزيائة الجديدة التي حاولت أن تحيي الصدفة بلباس علمي جديد، وذكرنا استحالة ذلك وفق المنتجات العلمية الحديثة كالثوابت الكونية والتوازن وغيرها.. بالإضافة إلى أننا ركزنا خصوصا على طروحات هاوكنج حول التصميم العظيم والأكوان المتعددة والأوتار الفائقة باعتبارها أكثر النظريات انتشارا بين الملاحدة..

وبما أنا أفردنا جزءا من هذه السلسلة [الإلحاد والدجل] لهذه الناحية، وذلك في كتاب [الكون بين التوحيد والإلحاد]، فقد اكتفينا هنا بتلخيص بعض ما ورد فيه، ومن أراد المزيد

كيف تناظر ملحدا؟ (153)

يمكنه العودة للكتاب ليجد التفاصيل الكثيرة، بالإضافة لما فيه من تبسيط للكثير من الحقائق العلمية.

أولا ـ الكون بين القدم والحدوث

من أكثر المغالطات التي ظل الملاحدة يعتمدون عليها لقرون طويلة قولهم بقدم العالم، وكونه بذلك لا يحتاج إلى محدث يحدثه؛ وهذا ما تطلب من الفلاسفة المؤمنين محاولة استعمال براهين عقلية وفلسفية تتماشى مع القول بقدم العالم، مثلما ذكرنا ذلك في الفصل الأول.. وحاول آخرون إثبات حدوث العالم، ولكن بأدلة فلسفية، لا علمية.

وظل الحال هكذا إلى العصر الحديث، حيث كانت الفكرة السائدة قبل بداية القرن العشرين لدى أكثر المدارس المادية هي كون العالم قديما؛ وهي فكرة تتناسب مع الأفكار المادية التي ترى أن المادة كانت الشيء الوحيد الموجود في الكون، وأن الكون وجد في الزمن اللانهائي، وسوف يبقى إلى الأبد (1).

وقد كان من أنصار هذه الفلسفة الكبار الفيلسوف (إيمانويل كانت) الذي دافع عنها، وأعلن أن الكون موجود في كل الأزمان، وأن كل احتمالية (إن كانت موجودة) فسوف ينظر إليها على أنها ممكنة، وبناء على ذلك رأى عدم انسجام الإيمان مع العقل، وإن كان قد قبل الإيمان

__________

(1) من أهم المراجع التي رجعنا إليها في هذا المطلب:

1. خلق الكون من العدم والانفجار الكوني الكبير، هارون يحي، وهو موجود بموقع (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة)

2. فمن خلق الله؟ نقد الشبهة الإلحادية: [إذا كان لكل مخلوق خالق فمن إذن خلق الله؟ في ضوء التحقيق الفلسفي والنقد الكوسمولوجي]، د. سامي عامري، تكوين للدراسات والأبحاث. المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى 1437 هـ 2016 م.

كيف تناظر ملحدا؟ (154)

باعتباره محفزا على القيم، ولو أنه غير معقول في ذاته.

ومع بداية القرن التاسع عشر صارت فكرة أزلية الكون، وعدم وجود لحظة لبدايته مقبولة بشكل واسع، وتم نقل تلك الفكرة إلى القرن العشرين من خلال أعمال الماديين الجدليين من أمثال (كارل ماركس) و(فريدريك أنجلز) وغيرهما.

لكن مع إطلالة القرن العشرين، انقلب الحال، وصار العلم المادي في صفّ القائلين بأنّ الكون حادث، وأنه وُجد بعد أن لم يكن، وقد كان في ذلك إحراجا كبيرا للملاحدة، وهو ما وضعهم بين أمرين: إما قبول الإيمان، عن طريق الانتساب لأي دين من الأديان، أو عن طريق الإيمان المجرد عن الانتساب لأي دين.. وإما الهروب لأي حل آخر، لينجو به من الإشكالات التي طرحتها الأدلة العلمية على حدوث الكون.

وربما يعتقد الكثير أن (نظرية الانفجار العظيم) هي الدليل العلمي الوحيد لخلق الكون، وذلك ليس صحيح؛ فهناك دلائل أخرى كثيرة، بل إنّ كلّ الدلائل المادية والرياضية تدلّ على أنّ الكون له بداية.

وقد صرح بذلك كبار علماء الفيزياء والفلك وغيرهم، وقد قال الكوسمولوجي الشهير اللاأدري [ألكسندر فلنكن] في حديثه بمناسبة عيد ميلاد (هاوكنج) السبعين، سنه 2012 م، والذي ناقش فيه العلماء أهم نظريات نشأة الكون: (تقول كلّ الأدلة التي عندنا إنّ الكون له بداية) (1)

وأكّد هذا الأمر بلغة أكثر حدّة، بقوله: (لقد قيل إنّ الحجة هي التي تقنع العقلاء والدليل هو الذي يقنع حتى غير العقلاء. لم يعد بإمكان علماء الكوسمولوجيا، بعد أن قامت الآن الأدلة، أن يَتَخفّوا وراء إمكانية وجود كون أزلي. لم يعد هناك مهرب، عليهم أن يواجهوا

__________

(1) Lisa Grossman، Death of the Eternal Cosmos، in New Scientist. 1/14/2012، Vol. 213 Issue 2847، p.7.

كيف تناظر ملحدا؟ (155)

مشكلة البداية الكونيّة) (1)

وبناء على هذا سنحاول هنا أن نذكر أهم الأدلة على حدوث العالم، والموقف منهما:

1 ـ الانفجار العظيم

مع كون نظرية [الانفجار العظيم] من الحقائق العلمية التي دلت عليها كل الأدلة إلا أننا نجد من يشكك فيها بطرق مختلفة، حتى توهم البعض أن هذه النظرية مجرد مغالطة، في نفس الوقت الذي تعتبر فيه نظرية التطور حقيقة علمية مع انعدام الأدلة عليها، بل مع وقوف الأدلة ضدها.

وللأسف نجد من المؤمنين من يردد هذا الوهم؛ فيذكر أن هذه النظرية مجرد [نظرية]، أي أمرٌ لم يثبت، وإنما هي مجرد افتراض.. ولو ثبت بطلان هذه النظرية فسيفقد المؤمنون بالله دليلهم العلمي الوحيد على وجود الله، ليرجع الأمر إلى ما كان عليه سابقًا من دلالة العلم الطبيعي على أزلية المادة، خاصة مع وجود بدائل نظرية كوسمولوجية تقرّر أزلية الكون.

وسبب هذا الخطأ هو التعبير عن [الانفجار العظيم] بكونه نظرية، في نفس الوقت الذي تعتبر فيه [النظرية] مجرّد رأي لا تسنده البراهين، ولا يحمل أيّة سلطة أدبيّة، ولا يعبر عن أي حقيقة علمية.

لكن هذا غير صحيح؛ فالنظرية في المفهوم العلمي ـ طبقًا لتعريف الأكاديمية القومية الأمريكية للعلوم ـ هي: (تفسير موثّق بصورة جيدة لبعض جوانب العالم الطبيعي من الممكن أن يضم حقائق، وقوانين، واستدلالات، وفرضيات مختَبرة) (2)

أ ـ أدلة الانفجار العظيم

__________

(1) Alexander Vilenkin، Many Worlds in One: The Search for Other Universe (New York: Hill and Wang، 2006)، p.176..

(2) National Academy of Sciences، Teaching about Evolution and the Nature of Science (Washington، DC: National Academy Press، 1998)، p.7.

كيف تناظر ملحدا؟ (156)

وبناء على هذا يمكننا أن نقول: إنّ سيناريو (الانفجار الأوّلي العظيم) موثَّق بالقرائن العلميّة المدعومة بالنبوءات الصادقة للعلماء، وهو بذلك تفسير علمي مدلّل عليه لنشأة الكون.

وقد صرح بذلك الكثير من العلماء، فقد قال عالم الفيزياء والفلك ورأس علماء وكالة (ناسا) اللاأدري [روبرت جسترو] في ختام كتابه [الله والفلكيون]: (تنتهي القصّة بالنسبة للعالِم الذي عاش بإيمانه بقوّة العقل، كمنامٍ سيء. لقد تسلّق جبال الجهل، ويكاد يقهر أعلى قمّة، وبينما هو يرفع نفسه إلى الصخرة الأخيرة، يُفاجأ بتهنئة من جَمْع من اللاهوتيين الجالسين هناك منذ قرون) (1)

وقال (بول ديفيس): (لو أنّ نظرية الانفجار الكبير كانت تقوم على عمل (هابل) و(أينشتاين) فقط، لما استطاعت أن تحوز هذا الدعم الواسع. لحسن الحظ، توجد أدلة تأكيدية مقنعة.... حقيقة أنّ الكوسمولوجيا الحديثة وفّرت أدلّة فيزيائية صلبة لصالح الخلق هو أمر مرضٍ جدًا للمفكّرين المتديّنين) (2)

وشهد [فكتور ستنجر] أنّ (كلّ سنة تمرّ، ومع تراكم المعلومات الكونية، تتوافق معارفنا بصورة أكبر مع الصورة العامة للانفجار العظيم على الأقلّ) (3)

وقال مؤرّخ العلوم [فردريك برنهام]: (هذه الاكتشافات المتاحة الآن، تجعل القول إنّ الله قد خلق الكون فرضية جديرة بالاحترام اليوم، بصورة أكبر من أي وقت مضى في المئة سنة الأخيرة) (4)

وقال عالم الكوسمولوجيا الشهير، ورئيس (الجمعية الملكية البريطانية في لندن لتطوير

__________

(1) Robert Jastrow، God and the Astronomers (Toronto: George J. McLeod، 1992،)، p.116..

(2) Paul Davies، God and the New Physics (New York: Simon and Schuster، 1983)، 20 - 24.

(3) Cliff Walker، ‘An Interview with Particle Physicist Victor J. Stenger’ (November 1999) <www.positiveatheism.org/ crt/ stenger 1. htm..

(4) Henry F. Schaefer III، “Stephen Hawking، The Big Bang، and God،” <http://globalwebpost.com/farooqm/study_res/hawking/schaefer.html.

كيف تناظر ملحدا؟ (157)

المعرفة الطبيعية [مارتن ريس]) سنة 1999 م: (كنت سابقًا، منذ سنوات قليلة، أثق بدرجة 90% في حدوث الانفجار العظيم... أمّا الآن فالنسبة أعظم بكثير، التقدّم العظيم في المشاهدات والتجارب جعلت الصورة الكونية الكبرى أدقّ أثناء التسعينات من القرن العشرين، وأرغب الآن في رفع درجة يقينيى إلى 99%) (1)

وقال: [راسل كانون]ـ وهو عضو في فريق علمي أمريكي قام بمسحٍ لعدد كبير من الكواكب باعتماد أساليب أحدث وأكثر تطوّرًا ـ سنة 2005 م: (لقد عَلِمنا منذ زمن بعيد أنّ أفضل نظريّة لتفسير الكون هي الانفجار العظيم... ما يمكننا الآن أن نكون واثقين فيه بصورة أكبر هو أنها الفكرة الأساسيّة الصحيحة) (2)

وقال الصحفي الأمريكي [جورج ول] مازحًا: (إنّه يبدو أنّ الملاحدة سيعترضون على وكالة (ناسا) باعتبارها تقدمّ دعمًا علميًا للمتديّنين من خلال ما يثبته (مرصد هابل الفضائي) من حقائق!) (3)

بناء على هذا، سنذكر هنا باختصار بعض ما ذكره عالم الفيزياء الفلكية [هيو روس] من الأدلة العلمية على حدوث (الانفجار العظيم)، وهي ثلاثون دليلًا منسّقة على طريقة جيّدة، وموثّقة تفصيلًا من دراسات المتخصصين أصحاب الكشوف والدراسات (4):

1. وجود إشعاع الخلفية الكونية وحرارته: وقد قدّر [رالف ألفر] و[روبرت هرمان] سنة 1948 م أنّ تبرّد الكون بعد (الانفجار العظيم) سينتج أشعة كونية بحرارة تقارب 5 كلفن

__________

(1) Martin Rees، Just Six Numbers: The deep forces that shape the universe (New York: Basic Books، 2000)، p.10..

(2) Universe is flat with a ripple،” January 12، 2005 < http://www.theage.com.au/news/Science/Universe-is-flat-with-a-ripple/2005/01/12/1105423539638.html.

(3) George Will، “The Gospel from Science،” in Newsweek، November 8، 1998.

(4) Hugh Ross، The Creator and the Cosmos، appendix.

كيف تناظر ملحدا؟ (158)

(-455°F)، وقد اكتشفت هذه الأشعة سنة 1965 م وكانت حرارتها تقريبًا 3 كلفن (-457° F)، وهي قريبة جدًا من النسبة المتنبَّأ بها.

2. طابع الجسم الأسود لإشعاع الخلفية الكونية: فالاختلافات بين طيف الإشعاع الخلفي المتنبّأ به والمكتشف لاحقًا بلغ أقلّ من 0.03% على مدى طول الموجات المدرَكة.

3. نسبة التبريد لإشعاع الخلفية الكونية: حيث تتنبّأ (نظرية الانفجار العظيم) أنّ الإشعاع الكوني كلّما كان أطول عمرًا كلّما كان أبرد، وكلّما عدنا إلى الماضي من خلال قياس الإشعاعات الأبعد، كلّما ارتفعت حرارة الإشعاع، وهو ما أثبته العمل المرصدي.

4. التماثل الحراري لإشعاع الخلفية الكونية: فالاختلاف الحراري بين الإشعاعات الكونية من مختلف الجهات لا يتفاوت إلّا بقدر جزء واحد من عشرة آلاف، وهو ما لا يمكن أن يفسّر إلّا بأنّ الإشعاعات الخلفية تعود إلى حدث خلق كوني أوّلي حار جدًا.

5. نسبة الفوتونات مقارنة بالبريونات في الكون: فنسبة (الفوتونات) مقارنة بنسبة (البريونات) -البروتونات والنوترونات- في الكون تتجاوز 100 مليون للواحد، وهذا يثبت أنّ الكون في حال أنتروبية عالية جدًا. ولا تفسير لذلك إلّا أنّ الكون كلّه قد تفجّر بسرعة من حال حار وكثيف جدًا.

6. تموجات الحرارة في إشعاع الخلفية الكونية: فلا بدّ أن تبلغ التموّجات الحرارية في خريطة إشعاع الخلفية الكونية درجة تقارب الواحد من عشرة آلاف حتى تتكون المجرّات وعناقيد المجرّات من انفجار خلقي عظيم. وقد تمّ رصد هذه التموّجات بالنسبة المتنبّأ بها.

7. قوة طيف التموجات الحرارية في إشعاع الخلفية الكونية: فقد أكّدت تجربة (بوميرانج) في أبريل 2000 م درجات الطيف الحراري لإشعاع الخلفية الكونية المتنبأ بها.

8. معدّل التوسّع الكوني: فقد أظهر قياس سرعة المجرات أنّ توسّعًا كونيًا قد بدأ في زمن قريب من الزمن المحدّد للانفجار العظيم.

كيف تناظر ملحدا؟ (159)

9. المدارات المستقرّة للنجوم والكواكب: فالمدارات المستقرة للكواكب حول النجوم، وللنجوم حول نواة المجرّة، لا يمكن أن تثبت ماديًا إلّا بعد توسّعات كبيرة وسريعة ثلاثية الأبعاد في المكان.

10. وجود الحياة والإنسان: فلا بدّ من نظام شمسي مستقر لوجود الحياة والإنسان، وهو ما لا يمكن أن يكون في غير سيناريو الانفجار والتبريد التدرّجي الذي تنبأت به (نظرية الانفجار العظيم)

11. وفرة الهليوم في الكون: حيث يتنبّأ نموذج (الانفجار العظيم) أن يتحوّل ربع (الهيدروجين) في الكون إلى (هليوم) في الدقائق الأربع الأولى للخلق، ذلك أن الاحتراق النجمي هو المصدر الوحيد الآخر (للهليوم).. وقد قاس العلماء نسبة كثافة (الهليوم) في السحب الغازية والمجرات التي ليس فيها البتة نجوم تحترق أو فيها فقط قليل من ذلك، وحدّدوا بذلك نسبة الهليوم الأوّلية، ووجدوا أنّها قريبة جدًا مما تنبّأت به النظريّة.

12. وفرة الديوتريوم في الكون: فالانفجار العظيم هو وحده القادر على إنتاج (الديوتريوم) -الهيدروجين الثقيل-، أمّا النجوم فتدمّره.. وقد أثبتت قياسات (الديوتريوم) في السحب الغازية والمجرات التي ليس فيها البتة نجوم تحترق أو فيها فقط قليل من ذلك، أنّه يلزمنا أن نقرّ أنّ الكون يعود في أصله إلى انفجار أوّل.

13. وفرة اللثيوم في الكون: فالانفجار العظيم هو وحده القادر على إنتاج (اللثيوم)، أمّا النجوم فتدمّره.

14.حجج النسبية العامة: فقد أثبتت نظرية النسبية العامة صحّتها مرارًا وتكرارًا، ولا تصحّ معادلاتها إلّا في كون له بداية، وله طبيعة تمدديّة.

15. مبرهنة الزمكان للنسبية العامة: فقد أثبتت مبرهنة رياضية قدمها كلّ من (ستيفن هاوكنج) و(روجر بنروز) سنة 1970 م أنّه إذا كان للكون كتلة، وإذا كانت ديناميكيّته محكومة

كيف تناظر ملحدا؟ (160)

بقانون النسبية العامة، فلا بدّ عندها أن يكون متناهيًا في الماضي.

16. قياسات كثافة الطاقة في الفضاء: حيث طوّر كلّ من (أينشتاين) و(إدنجتون) نموذجًا كونيًا دون أن يتضمن انفجارًا عظيمًا، وذلك بإثبات قوة مضادة للجاذبية سمّاها أينشتاين (الثابت الكوني)، وأثبت لها قدرًا معينًا، وقد تراجع (أينشتاين) بعد ذلك عن نظريّته، غير أنّ علماء أثبتوا بعد عقود وجود هذا الثابت، وتدلّ قيمته التي وصلوا إليها على أنّ للكون بداية.

17. الأعمار النجمية: فوفقًا لنظرية الانفجار الكبير، ستتكون أنواع مختلفة من النجوم في حقب مختلفة بعد الخلق. وتُخبر الألوان ودرجات حرارة أسطح النجوم عن زمن بداية احتراقها. وأعمار هذه النجوم تتوافق مع (نظرية الانفجار العظيم)، ومع بقية قياسات الزمن إلى بداية الانفجار.

18. أعمار المجرّات: فطبق (نظرية الانفجار العظيم)، لا بدّ أن تتكوّن المجرّات في بدايات الكون، ضمن البلايين الأربعة الأولى. وهو ما يوافق قياسات العلماء.

19. انخفاض في ازدحام المجرّات: حيث تتنبّأ (نظرية الانفجار العظيم) أنّ المجرّات تتباعد عن بعضها البعض على مرّ الزمن. وقد أثبتت صور مرصد هابل أنّه كلّما نظرنا بعيدًا إلى الماضي، كلّما كانت المجرّات أكثر تقاربًا. وعند النظر في الثلث الأول من عمر الكون نلاحظ أنّ المجرّات كانت شديدة التقارب، وكأنّها حرفيًا تفكّ أذرعها الحلزونية عن بعض.

20. صور تاريخ الكون: حيث تتنبّأ نظرية الانفجار العظيم أنّ جميع المجرات قد نشأت في أوقات متقاربة، ولما كانت المجرات تغيّر شكلها بصورة دراماتيكية مع تقدّمها في العمر، كان شكل أقدمها غير شكل أحدثها، وهو ما أثبتته صور المرصد هابل.

21. نسبة المادة العادية مقارنة بالمادة الأجنبية: حيث يتنبّأ نموذج (الانفجار العظيم) أنه لتتكون المجرات والنجوم وتتطوّر حتى توجد منطقة صالحة للحياة الفيزيائية، لا بد أن تتحوّل

كيف تناظر ملحدا؟ (161)

في الكون نسبة من المادة الأجنبية (التي لا تتفاعل بصورة جيدة مع الإشعاعات) إلى مادة عادية (تتفاعل بصورة جيدة مع الإشعاعات) بمعدّل خمسة أو ستة إلى واحد، وهو ما أثبتته القياسات الحديثة.

22. وفرة البرليوم والبورون في النجوم الهرمة: حيث كشف الفلكيون أنّ نسبة (البرليوم) و(البورون) في الكون توافق ما تنبأت به (نظرية الانفجار العظيم).

23. كثافة المجموعات النجمية الأولى والثانية والثالثة: حيث يتنبّأ (الانفجار العظيم) أنّه مع توسّع الكون ستظهر ثلاث مجموعات نجمية مختلفة، وأنها في هذه المرحلة العمرية لا بدّ أن تحمل صفات معينة، وهو ما أثبته البحث العلمي.

24. كثافة الثقوب السوداء والنجوم النوترونية ومكانها ونوعها: فالكون الناشئ عن انفجار عظيم، والذي يسمح بوجود حياة مادية في مكان فيه، من المتوقّع أن ينتج بعد بلايين السنين من احتراق نجومه عدد صغير نسبيًا من (الثقوب السوداء)، وعدد أكبر من (النجوم النيوترونية) في كلّ مجرة. ومن المتوقّع أيضًا أنّ تنتج المجرّات الكبيرة (ثقوبًا سوداء) في مركز لبّها. وقد كشف العلماء (الثقوب السوداء) و(النجوم النيترونية)، وكثافتها، ومكانها.

25. تشتّت عناقيد المجرات النجمية: حيث يتنبّأ (الانفجار العظيم) أنه مع توسّع الكون ستنتثر في الكون أنواع مختلفة من المجموعات النجمية والمجرّيّة بدرجات محدّدة تتزايد مع الوقت. ويتنبّأ أيضًا أن المجموعات النجمية الأكثر كثافة لن تتشتت، ومع ذلك ستتطوّر السرعات المدارية لنجومها حول مركز المجموعة نحو وضع يسمى بـ (virialization). وقد كشف الرصد الفلكي عن هذه التطورات في تاريخ الكون.

26. كتلة النيوترينو وطبيعته: حيث تفترض أفضل نماذج (الانفجار العظيم) أنّ الشكل الأكثر هيمنة من أنواع المادة هو مادة أجنبية تسمّى (المادة المظلمة الباردة). ويدرك العلماء اليوم أنّ (النيوترينات) موجودة بكثافة كبيرة في الكون، وأنها باردة ومظلمة.. وتكشف الأبحاث

كيف تناظر ملحدا؟ (162)

الأحدث أنّ (النيوترينات) تتحوّل من طبيعة ولون إلى آخر. ويدلّ هذا التحوّل أنّ جسيم (النيوترينو) لا بدّ أن تكون كتلته أصغر من (الإلكترون) ببلايين وملايين المرات. مثل هذه الأحجام هي التي تفترضها أفضل نماذج (الانفجار العظيم).

27. الكثافة الكونية للبروتونات والنيوترونات: فقد أثبتت أربع طرق مختلفة لتحديد كثافة البروتونات والنيوترونات في الكون أنّ النسب التي توصّلت إليها توافق ما توقعه (نموذج الانفجار العظيم) لكون يضمّ نجومًا وكواكب صالحة للحياة (1).

ب ـ نقض أدلة الملاحدة

بما أن نظرية الانفجار العظيم كانت بمثابة الصاعقة التي قضت على آخر قشة يتعلق بها الملاحدة، فقد راحوا يفرون منها بكل وسائل الفرار، ويستعملون لذلك كل أنواع المغالطات، والتي سنذكر بعضنا مع الرد عليها هنا باختصار:

1. الهروب إلى المستقبل واكتشافاته العلمية: وهي حيلة يستعملها الملاحدة كثيرا كلما ضيقت عليهم السبل، فيتذرعون بأنه سيكشف في المستقبل ما يثبت دعاواهم، متجاهلين أن المستقبل أيضا قد يؤيد دعاوى مخالفيهم.

وقد سئل [جاسترو] عن قول الكاتب الملحد الشهير [إسحاق أزيموف]: (إنّ العلماء وإن عجزوا اليوم عن تفسير الانفجار العظيم، فسيتمكنون غدًا من فعل ذلك لأنّ العلم يتطوّر تبعًا لما يكتسبه من معلومات جديدة)

فأجاب بقوله: (أنا متشبّث بفكرة أنّ العلم لن يتمكّن من أن يفكّ شفرة سبب الانفجار الكوني مادام يظهر أنّ الكون كان لامتناهي الحرارة والكثافة في لحظاته الأولى. يبدو لي هذا الاستنتاج كإحدى الحقائق الصلبة للعلم، مثل التقسيم الكمّي للشحنة، وكتلة الإلكترون، واللولب الثنائي للحمض النووي. في رأيي، بإمكان الوضع أن يتغيّر فقط إن أطيح بالانفجار

__________

(1) Hugh Ross، The Creator and the Cosmos، appendix.

كيف تناظر ملحدا؟ (163)

العظيم من خلال الكشف عن معلومات جديدة، ولكن في ضوء اكتشاف إشعاع الكرة النارية الأوّلي على يد (بنزياس) و(ويلسن)، يبدو هذا التطور بعيدًا) (1)

وقد مرّت اليوم ثلاثة عقود على هذا التصريح، لم يكشف البحث العلمي عن أيّة معلومة جوهرية قادرة على نقض طرح الانفجار العظيم، بل أكّد البحث على خلاف ذلك بدعمه سيناريو الحال الملتهبة لبداية الكون.

2 ـ عدم التفريق بين النماذج والنظريات: فالعلماء يميّزون بين النموذج كفكرة كبرى، والنظريات التي تنضوي تحته، وهي لا تتناقض فيما بينها؛ فما يقوم به العلماء الآن من حلّ أهم الإشكالات التي تواجه (نظريّة الانفجار العظيم) ليس مناقضا للنظرية، وإنما هو ضمن نفس النموذج الكوني لذات الانفجار.

وقد نجحت نظرية (التضخم الكوني) ضمن (نموذج الانفجار العظيم) في حلّ المشكلات الثلاث الكبرى للنموذج والتي تتعارض مع التصوّر الكلاسيكي للانفجار العظيم، وهي (مشكلة الأفق)، و(مشكلة التسطّح)، و(مشكلة أحادية القطب المغناطيسي).

فـ (نظرية الانفجار العظيم) نجحت في أن تفسّر ما نعرفه عن الكون دون أن تتخلّى عن أصولها، وأهمّها أنّ للمكان والزمان بداية.

3 ـ الأدلّة على الانفجار العظيم الذي نشأ منه الكون تتراكم مع تتابع الاكتشافات الفلكيّة الكبرى ولا تتناقص: وهي تثبت قدرتها التفسيرية للظواهر الكونية المشاهدة اليوم والتي تمثّل التاريخ القديم للكون. ولعلّ أبرز طابع لصلابة (نظرية الانفجار العظيم) هو صحّة نبوءاتها العلميّة عن تاريخ الكون منذ بدايته، والناتج عن انفجار حراري هائل تمددت عناصره لتنشئ المكان المتوسّع بسرعة.

__________

(1) Roy Abraham Varghese، ed. The Intellectuals Speak out about God: A handbook for the Christian student in a secular society (Chicago، Ill.: Regnery Gateway، 1984)، p.17..

كيف تناظر ملحدا؟ (164)

ولم تكن أبحاث العلماء الأمريكيين وحدها حجّة متجددة لصالح نظرية الانفجار الكبير، وإنّما هي أبحاث علماء الكوسمولوجيا في كلّ قارات الأرض، ومن ذلك أنّ (الوكالة الأوروبية لأبحاث الفضاء) التي تُعنى بتطوير برامج التعاون الفضائي بين دول أوروبا الغربية، قد أصدرت تقارير سنة 2013 م عن تحليل نتائج ما رصده (مرصد بلانك الفضائي) الذي أنشئ لمسح توزيع (إشعاع الخلفية الميكروي الكوني) في الكون بدقة عالية، وقد جاء في أحدها: (إجمالًا، توفّر المعلومات المستقاة من الخريطة الجديدة لبلانك تأكيدًا رائعًا للنموذج القياسي للكوسمولوجيا بدقّة غير مسبوقة) (1)

ج. فشل البدائل المطروحة

لم يكتف الملاحدة بالامتعاض أو الحزن على تلك الحقائق العلمية التي هدمت جميع الأسس الإلحادية التي استندوا إليها، واستند قبلهم فلاسفة الإلحاد، بل راحوا يضعون النماذج، ويتخيلونها، ليبنوا على أساسها كونا وهميا لا يستند لأي دليل علمي (2).

وقد عبر عن هذا المنهج الجديد في الرد على الانبثاق الكوني عالم الفيزياء الفلكية (كريستوفر إشام)، فقال: (ربّما أفضل حجة لصالح الطرح القائل إنّ (الانفجار العظيم) يؤيّد الإيمان بالله هو التململ الواضح الذي قوبل به من طرف بعض الفيزيائيين الملاحدة. وقد أدّى ذلك إلى ظهور أفكار علمية، مثل (الخلق الدائم) أو (الكون المتذبذب)، وقد تمّ تقديمها بحماسة تفوق بكثير قيمتها الحقيقية ممّا يلزم المرء بأن يرى دوافع نفسيّة أعمق بكثير من الرغبة المألوفة للمنظّر لدعم نظريّته) (3)

__________

(1) Planck Reveals an Almost Perfect Universe ”<http://www.esa.int/Our_Activities/Space_Science/Planck/Planck_reveals_an_almost_perfect_Universe>. Retrieved 1/19/2015..

(2) William Lane Craig، Reasonable Faith (Wheaton، Ill.: Crossway Books، 2008)، pp.125 - 150.

(3) C. Isham، “Creation of the Universe as a Quantum Process” in R.J. Russell، W.R. Stoeger and G.V. Coyne، eds. Physics، Philosophy and Theology: A common quest for undestanding (Vatican City: Vatican Observatory، 1988)، p.378.

كيف تناظر ملحدا؟ (165)

بناء على هذا، سنذكر هنا بعض البدائل التي طرحها الملاحدة للفرار من الانفجار العظيم، وكيف أثبت العلم فشلها:

الحالة الثابتة

وهي من النظريات التي لم تثبت بعد تقدّم (نظرية الانفجار العظيم)، مما اضطر الكل إلى التخلي عنها، ومنهم [أرنو بنزياس] الذي قال عنها:: (لقد تبيّن أنّ (نظرية الحال الثابتة) قبيحة جدًا حتّى إنّ الناس لفظوها. كان الطريق الأيسر لمطابقة الملاحظات مع العدد الأقل من المعلمات هو الطريق الذي فيه أنّ الكون خُلق من لاشيء، في لحظة، وبقي يتّسع) (1)

ومن الانتقادات التي وجهت لها:

1. فقدانها الأدلة الإيجابية لصحّتها.

2. عدم وجود مجرّات قديمة جدًا في محيط مجرّتنا، ينفي أن يكون الكون أزليًا.

3. عدم وجود مجرات صغيرة جدًا في محيط مجرتنا، ينفي الخلق العفوي المستمر.

4. ندرة الانزياحات الحمراء وراء z =5 تقتضي وجود حدّ حقيقي للكون أدنى من الحد البصري المتوقّع من كون لانهائي ثابت.

5. تفتقد النظرية لآلية مادية (مثل الانفجار الأوّلي) لقيادة التوسّع المبصَر للكون.

6. إشعاع الخلفية الكونية الميكروي المدرَك -والذي يتناسق تمامًا مع تصوّر تبريد الكرة النارية البدائية- يتحدى قصّة الكون كما تقدّمها نظرية الحال الثابتة.

7. عدم الانتظام الهائل للكون لا معنى له في (نظرية الحال الثابتة)

8. وفرة (الهليوم) في الكون توافق ما تنبأت به (نظرية الانفجار العظيم) لا (نظرية الحال

__________

(1) Quoted by Fred Heeren، Show Me God (Wheeling، IL: Day Star Publications، 1997)، p.156.

كيف تناظر ملحدا؟ (166)

الثابتة)

9. لا تقدّم (نظرية الحال الثابتة) تفسيرًا للوفرة المعروفة (للديوتريوم) و(الهليوم الخفيف) و(الليثيوم)، وفي المقابل تقبل هذه الظاهرة التفسير السلس في سيناريو (الانفجار العظيم) الحار (1).

وقد أدّى ظهور فساد (نظرية الحال الثابتة)، وعجز مخزونها النبوئي، إلى أن ينصرف عامة أنصارها عنها إلى (نظرية الانفجار العظيم) التي نجحت فما فشلت فيه النظرية الأخرى

الكون الساكن

وهذا مما قد يطرح كبديل لبداية الكون، ذلك أن الزمان هو مقدار الوجود بين حدثين، وفي غياب الحركة بجميع أنواعها ينعدم الزمان، وهذه الدعوى باطلة من الناحيتين العقلية والعلمية:

أما من الناحية العقلية: فإن ظهور الحركة في الكون بعد سكونه من الأزل إمّا أن يكون بسبب أو بغير سبب.. إن قال الملحد إنّ الحدث الأول نتج عن سبب، فقد أوقع نفسه في ما يحاذره؛ وهو افتراض ذات غير مادية متعالية على الزمان والكون الهامد أزلًا؛ إذ هي تسبقه أنطولوجيًا. وإن قال إنّ الكون قد انتقل إلى الحركة دون سبب فقد زعم أنّ الشيء قد ينتقل من حال إلى آخر دون سبب، وهذا ظاهر الفساد!

أما من الناحية العلمية: فإن حقائق العلم ترفض التسليم لدعوى الكون الساكن، لأنّ الكون الساكن ميّتٌ حراريًا، ولا يمكن أن ينتقل إلى الحركة إن افترضنا جدلًا إمكان وجوده دون حرارة، وهو غير ممكن أصلًاحتى تُضخّ إليه الحرارة من الخارج، وهو ما يضطرّ الملحد إلى التسليم بوجود من هو خارج الكون، وهو ما يسعى لنفيه!

__________

(1) Hugh Ross، The Fingerprint of God: Recent scientific Discoveries Reveal the Unmistakable Identity of the Creator (Orange، CA: Promise Publishing، 1991)، p.95.

كيف تناظر ملحدا؟ (167)

وهذا الوهم قد يقود إليه سوء الفهم لنظرية التموّج الكمومي، وهو وهم لا يطابق الواقع لأنّ الفراغ الكمومي ـ كما يقول أصحابه ـ هو عالم من الطاقة المتحرّكة المضطربة، وهو ما يعني أنّه بعيد عن معنى السكون والجمود.

النموذج المتذبذب

وهو نموذج يحاول تجاوز الانبثاق الكوني، والعوة للحالة الثابتة، باعتبار أنّ الكون في حال توسّع ثم انكماش دائبين منذ الأزل، دون بداية، وقد قال الفيزيائي البريطاني (جون غربن)، معبرًا عن الأيديولوجية التي تنطلق منها هذه النظرية: (الإشكال الأكبر في نظرية الانفجار العظيم المتعلّقة بنشأة الكون هو فلسفي ـ وربما حتى لاهوتي ـ وهو: ماذا كان قبل الانفجار؟ كان هذا الإشكال وحده كافيًا لمنح دفعة أولى لـ (نظرية الحال الثابتة)، ولكن بعد أن تبيّن ـ للأسف ـ أنّ تلك النظرية معارضة للأمور المشاهدة، كان الطريق الأفضل للالتفاف حول هذا الإشكال الأوّلي هو في تقديم نموذج يتوسّع فيه الكون من (مفردة) (singularity)، ويعود فينهار بعد ذلك، ثم يعيد دورته هذه دون نهاية) (1)

وقد انتقدت هذه النظرية انتقادات كثيرة جدا لمخالفتها لكل القوانين العلمية، ولعدم إمكانية إثباتها نظريا أو عمليا، ذلك أن الكون المتذبذب ـ في حال التسليم جدلا بإمكانيته ـ لا يمكن أن يكون أزليًا لأنّه لا يستطيع أن يقاوم عدّة عوامل مادية وقانونية مطلوبة، وقد قال كل من (زلدوفيتش) و(نوفيكوف) عن هذا النموذج: (النموذج متعدد الدورات له مستقبل لانهائي، أمّا ماضيه فهو متناهٍ) (2)

وعندما حسب الفلكي (جوزيف سلك) عدد المرات الممكنة لتاريخ تذبذب الكون

__________

(1) Hugh Ross، The fingerprint of God، p.97..

(2) I. D. Novikov and B. Zeldovich، “Physical Processes Near Cosmological Singularities،” in Annual Review of Astronomy and Astrophysics 11 (1973): 401 - 402..

كيف تناظر ملحدا؟ (168)

انطلاقًا من المستوى الأنتروبي الحالي للكون، وجد أنّ الحالات الممكنة لا يمكن أن تتجاوز مئة مرّة (1).

بالإضافة إلى هذا، فقد انتقدت هذه النظرية انتقادات كثيرة منها:

1. لا يوجد دليل مادي على أكثر من انفجار واحد وتمدّد واحد للكون.

2. أشار (فلنكن) إلى أنّ هذه النظرية تصادم وجود الكون إلى اليوم؛ إذ إنّها لو صحّت، فلا بدّ أن يكون الكون قد بلغ مرحلة (التوازن الترموديناميكي) (thermodynamic equilibrium) لتتوقف جميع التفاعلات الفيزيائية في الكون، وهو خلاف ما نعلمه ونشاهده من كوننا اليوم (2).

3. يبدو أنّ الكثافة المشاهدة للكون لا تكفي في أفضل أحوالها لنصف ما يُحتاج لانكماش كوني.

4. لا توجد آلية فيزيائية معروفة ومعقولة من الممكن أن تحقق الانكماش العكسي المطلوب.

5. لما حسب الفلكي (جوزيف سلك) (Joseph Silk) عدد المرات الممكنة لتاريخ تذبذب الكون انطلاقًا من المستوى الأنتروبي الحالي للكون، وجد أنّ الحالات الممكنة لا يمكن أن تتجاوز مئة مرّة (3).

6. يحتاج الكون لكي يمرّ بعدد لانهائي من دورات التذبذب المتتابعة أن يبدأ بمقادير مضبوطة ومتقنة من المادة والطاقة والقوانين الحاكمة لها حتى يتمكن من أن يعيش دورة التمدد

__________

(1) Joseph Silk، The Big Bang، (San Francisco: W. H. Freeman، 1989)، pp.311312..

(2) (James D. Sinclair):William Lane Craig and J. P. Moreland، eds. The Blackwell Companion to Natural Theology، p.151.

(3) Joseph Silk، The Big Bang، (San Francisco: W. H. Freeman، 1989)، pp.311312..

كيف تناظر ملحدا؟ (169)

قبل الانكماش، وهو ما لا تسمح به عشوائية الكون الإلحادي.

7. إنّ الكون المتذبذب، حتى لو صّح تاريخيًا، فإنه لا يمكن أن يكون أزليًا لأنّه لا يستطيع أن يقاوم عدّة عوامل مادية وقانونية مطلوبة، ولذلك قال كل من (زلدوفيتش) (Zeldovich) و(نوفيكوف) (Novikov) في الحكم على هذا النموذج: (النموذج متعدد الدورات له مستقبل لانهائي، أمّا ماضيه فهو متناهٍ) (1)

الأكوان المتعددة.

تعتبر نظرية الأكوان المتعددة من أكثر النظريات شهرة وشيوعا على الرغم من عدم التحقق منها علميا، وبأي وسيلة من الوسائل، بل على الرغم من أنه لا يمكن التثبت منها بحال من الأحوال، ذلك أن أصحاب النظرية أنفسهم يذكرون أن كل كون من الأكوان منفصل تماما عن الأكوان الأخرى، بل له قوانين تختلف اختلافا جذريا عن غيرها، والسبب في ذلك ـ كما يذكرون ـ يرجع لما يُعرف بأُفق الجسيم، وهو أقصى مسافة من تلك الجسيمات التي تحمل المعلومات، والتي ما إن تصل للراصد حتى يكون عمر الكون قد انتهى منذ مليارات السنوات الضوئية، وأي كون آخر حتما هو خارج أُفق الجسيم.

ولأجل ذلك يذكر علماء الفيزياء والفلك الكبار استحالة اعتبار هذه النظرية حقيقة علمية لا الآن، ولا في المستقبل للاستحالة العلمية والمنطقية لإثباتها، وقد قال عالم الكونيات [جورج إليس]، معبرا عن ذلك: (إن فرضية الأكوان المتعددة ليست من العلوم، ولا توجد داخل دائرة العلم، وإنما في إطار الفلسفة)

ولذلك فإن هذه النظرية التي لم تدل عليها المخابر، ولا حتى العقل المجرد، ليست سوى مقولات خيالية تحاول أن تتدارك المقولات الإلحادية القديمة التي كانت ترى أن الكون كاف

__________

(1) I. D. Novikov and B. Zeldovich، “Physical Processes Near Cosmological Singularities،” in Annual Review of Astronomy and Astrophysics 11 (1973): 401 - 402..

كيف تناظر ملحدا؟ (170)

نفسه بنفسه، ولذلك احتاج الملاحدة لوضع أنفسهم في هذا المأزق للبحث عن أكوان متعددة للخروج من مأزق الثوابت الكونية التي هم أنفسهم أطلقوا عليها الثوابت المعدة بعناية.

وقد أشار الفيزيائي الشهير البروفسور [جون بولكنجهورن] هذا المعنى، فقال ـ عند حديثه عن هذه النظرية ـ: (إنها ليست فيزياء.. إنها في أحسن الأحوال فكرة ميتافيزيقيه، ولا يوجد سبب علمي واحد للإيمان بمجوعة من الأكوان المتعددة.. إن ماعليه العالم الآن هو نتيجة لإرادة خالق يحدد كيف يجب أن يكون) (1)

بل إن [ريتشارد داوكنز] في حواره مع [ستيفن واينبرج] بين سبب اعتماد هذه النظرية والاهتمام بها، وهو كونها وسيلة لنفي الإله، وقد قال معبرا عن ذلك: (إذا اكتشفت هذا الكون المدهش المعد فعليا بعناية.. أعتقد أنه ليس أمامك إلا تفسيرين اثنين.. إما خالق عظيم، أو أكوان متعددة) (2)

وأشار هاوكنج إلى ذلك أيضا، فقال: (تماما مثلما فسر دارون ووالاس كيف أن التصاميم المعجزة المظهر في الكائنات الحية من الممكن أن تظهر بدون تدخل قوة عظمى، فمبدأ الأكوان المتعددة من الممكن أن يفسر دقة القوانين الفيزيائية بدون الحاجة لوجود خالق سخر لنا الكون.. فبسبب قانون الجاذبية فالكون يستطيع ويمكنه أن ينشيء نفسه من اللاشيء.. فالخلق الذاتي هو سبب أن هناك شيء بدلا من لا شيء، ويفسر لنا لماذا الكون موجود، وكذلك نحن) (3)

__________

(1) انظر: عالم الفيزياء الملحد ستيفن هوكينج وأفكاره الإلحادية الخيالية في نظر العلماء والمتخصصين، مرجع سابق.

(2) المرجع سابق.

(3) المرجع سابق.

كيف تناظر ملحدا؟ (171)

وحتى يتلافى ستيفن هاوكنج الانتقادات التي توجه لهذه النظرية في خصوص تفسير دقة الكون والثوابت العجيبة التي تحكمه راح يفترض في كتابه [التصميم العظيم] وجود 10 أس 500 كون.. أي 10 وأمامها 500 صفر، وهو ـ كما يذكر بعض الباحثين ـ لا يختلف في ذلك عمن يحضر سيارة مفككة من كل أجزائها ابتداء من أصغر مسمار فيها.. ثم يقول: إن هناك احتمالية رياضية لتكون هذه السيارة صدفة وعشوائية، وبالطبع، فإن الإجابة على استحالتها رياضيا يتخطي 1 إلى 10 أس 50 أو 70 أو حتى 100.. لأن السؤال أصلا خطأ.. وذلك لأن الأجزاء لن تتحرك من ذاتها وتتراكب ويدخل بعضها في بعض إلا بفاعل قدير حكيم يعلم ما يفعل ويريده.

التضخم الأزلي

وهو نموذج اقترحه عالم الفيزياء الفلكية الروسي (أندري لند) في السبعينات من القرن الماضي، غير أنه عاد في بداية العقد التالي ليقترح نموذجًا آخر يُعرف بـ (التضخم الجديد)، ثم عاد فانتبه بعد فترة قصيرة إلى عيوب نموذجه الجديد، لينشئ بعد ذلك ما يعرف بنموذج (التضخم العشوائي)، حيث تنشأ من جوانب الكون الأم أكوانٌ جديدة تتوسّع، وتنشأ من جوانبها أيضًا أكوان أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية.

ولم تقدّم هذه النظريات في عناصرها وتاريخها حجّة مادية واحدة لإثبات صدقها، ولذلك أعرب الفيزيائي [جون برّو] عن امتعاضه منها بقوله: (للأسف، لا يبدو أنّ كامل المخطط الكبير للتضخم الأزلي قابل للاختبار) (1)، ومثله قال [هاوكنج]: (في رأيي الخاص، نموذج التضخم الجديد هو ميت الآن كنظرية علمية) (2)

__________

(1) John Barrow، The Book of Nothing: Vacuums، voids، and the latest ideas about the origins of the universe (New York: Pantheon Books، 2000)، p.256..

(2) Stephen Hawking، A Brief History of Time، p. 132.

كيف تناظر ملحدا؟ (172)

ومن أهم الردود على أزليّة نموذج (لند) كان بنشر (أرفن بورد) و(ألكسندر فلنكن) سنة 1994 م دراسة تثبت أنّ كلّ نظريات التمدد، بما في ذلك نظرية (لِند) لا يمكنها أن تتلافى المفردة التي نشأ منها الكون.. وقد انتهيا في دراستهما إلى أنّ (الزمكان المادي المعقول، والمتوسع أبدًا، لا بدّ أن يضمّ مُفردة أولى في تاريخه) (1)، وهو ما أقرّ به (لند) في رده على هذه الدراسة (2).

نماذج التذبذب الفراغي

خلافا لما تذهب إليه معظم نظريات التضخم ـ والتي ترى أنّنا كلّما عدنا إلى الخلف وراء حاجز بلانك ـ أي الثانية 10 - 43 من الانفجار العظيم ـ انكمش الكون حتى يصبح مفردة ـ فإن نماذج الفراغ المتذبذب ترى في المقابل أنّ العالم قبل تضخمه لم يكن ككلٍ يتوسّع، وإنما كان فراغًا بدائيًا في حال ثبات أزلي، وكانت تفاعلات الطاقة مستمرة في هذا المجال الفراغي، وهو ما نتج عنه تحوّل الطاقة إلى مادة، وبالتالي نشوء أكوان صغيرة، وبذلك فإنّ لكوننا بداية لا تمثّل البداية المطلقة، وإنّما هي مجرّد تغيّر في الكون الأزلي.

وقد قدّمت هذه النماذج حلًا مغريًا للخروج من إشكالية الكون المخلوق مع الاعتراف بحقيقة ابتداء كوننا وتمدّده، لكنّها لم تتجاوز في تاريخ حياتها العقد الثامن من القرن العشرين، وذلك لأسباب كثيرة منها:

1. وجود إشكالات في آليات توليد المادة.

2. أنّ افتراض أزلية الكون يقضي أن تنشأ من الطاقة أكوان أزليّة لا نهائية العدد، لتندمج بعد ذلك فيما بينها، وهذا ما يخالف حقيقة كوننا صغير السن نسبيًا، فأزلية الطاقة الأولى التي يستحيل معرفة سبب تحوّلها إلى مادة، تقضي أن يكون ما ينشأ منها أزليًا، والحلّ الوحيد

__________

(1) Arvind Borde and Alexander Vilenkin، “Eternal Inflation and the Initial Singularity،” in Physical Review Letters 72 (1994): 3305..

(2) A. Linde، D. Linde، and A.Mezhlumian، “From the Big Bang Theory to the Theory of a Stationary Universe’” in Physical Review D 49، 1994، 1783 - 1826.

كيف تناظر ملحدا؟ (173)

للإشكال السابق هو افتراض تضخّم الفراغ الأوّل، وهو ما سيعيدنا إلى افتراض بداية مطلقة للكون، وهو ما يفرّ منه الملاحدة.

3. أن هذا النموذج فشل في إقناع الراصدين، حتى قال عالم الكوسمولوجيا الكمومية الشهير [كريستوفر إشام]: (إنّه قد تمّ التخلّص من هذه النظرية منذ فترة بعيدة، ولم يتم إحياؤها منذ ذلك الحين) (1)

نظرية الأوتار

وهي مجموعة من الأطروحات التي تنطلق من الزعم بأنّ المادة ليست بناءً من الجسيمات مثل الكواركات، وإنما هي في الحقيقة مجموعة أوتار من الطاقة صغيرة الحجم، ذات بعد واحد وطبيعة اهتزازية.

وعلى الرغم من كثرة الإشكالات المثارة حولها إلا أنها وجدت دعاية إعلامية واسعة بسبب غرابتها وتطرّفها، وكونها وسيلة يستعملها الملاحدة لبث أغلوطاتهم وشبهاتهم.

وتقدّم هذه النظرية صيغتين اثنتين للوجود الكوني:

النظرية الأولى: وهي من وضع الفيزيائيين (غبريال فنزيانو) و(موريزيو غسبريني)، وهي تقرّر أنّ الانفجار العظيم عبارة مرحلة بين انكماش سابق وتمدد لاحق، حيث تكوّن قبل الانفجار العظيم ثقب أسود في الفراغ الأزلي المستقر، وقد أدّى انهياره إلى ظهور النسب اللاحقة من الحرارة والكثافة وغير ذلك، مما أدّى إلى التوسّع اللاحق.

ولا يوجد ما يدل على هذا الافتراض أي دليل مادي، بالإضافة إلى عدم اكتمال تأصيلها النظري، بالإضافة إلى أنه يلزم من نشوء الثقوب السوداء في الفراغ الكوني في أي رقعة منه أن تكون نشأة هذه الثقوب من الأزل، وهو ما يخالف واقع عمر كوننا الصغير سنًا نسبيًا. كما يلزم

__________

(1) Christopher Isham، “Quantum Cosmology and the Origin of the Universe،” lecture presented at the conference “Cosmos and Creation،” Cambridge University، July 14، 1994.

كيف تناظر ملحدا؟ (174)

من ذلك أيضًا أن تندمج الثقوب السوداء في بعضها منذ الأزل لتكوّن ثقبًا أسود مساويًا في امتداده للكون، وهو ما يؤول إلى أن يكون زمن ما بعد الانفجار العظيم قديمًا من الأزل. كما يلزم من كون الكون مغلقًا أن يصل إلى حال التوازن الترموديناميكي، وهو ما لم يبلغه كوننا بعد.

النظرية الثانية:، وهي الأشهر، وتسمى (نموذج التحوّل الناري)، وانتصر لها (بول ستينهارت)، وهي في أحدث نماذجها، تفترض وجود غشائين أزليين، ينتج من تكرر تصادمهما ثم تباعدهما كون جديد.

وهذه النظرية محض خيال، وهي تعاني من إشكالات داخلية عميقة، وقد انتقدت من نواح مختلفة منها (1):

1. أنّ سلسلة التصادم اللامتناهية محالة عقلًا.

2. أنّ الدقة العالية المطلوبة لتوازي هذين الغشائين حتى عند تباعدهما لا تفسّر بغير الصنعة الحكيمة.

3. أنها لا تملك أن تقدم كونًا أزليًا لأنّ كلّ نموذج تضخمي لا بدّ أن يعود إلى نقطة ابتداء.

وقد صرّح (ستينهارت) أنّه لا يلزم من نموذجه أن تكون التذبذبات لا نهائية في الماضي، بل واعترف بنفسه أنّ لنموذجه التذبذبي بداية في قوله: (القصة الأرجح هي أنّ التذبذب قد ابتدأ ببداية مفرديّة) (2)

ولذلك ردّ ما قبل تلك البداية إلى الغيب، ليصبح هذا النموذج في ذاته قاصرًا عن إثبات

__________

(1) Gary Felder، Andret Frolov، Lev Kaufman، and Andrei Linde،“Cosmology with Negative Potentials،” <http://arXiv:hep-th/0202017 v 2> (February 16، 2002.

(2) P. Steinhardt، and N. Turok، The cyclic model simplified، p.5.

كيف تناظر ملحدا؟ (175)

أزلية الكون، بل قائلًا إنّ له بداية نشأ منها!

نموذج هارتل- هاوكنج

وهو نموذج لا علاقة له ببداية الكون، ذلك أن الزمن الذي أثبته قبل الانفجار العظيم، (زمن تخيّلي)، وقد افترضه (هاوكنج) لتصحّ معادلاته دون أن يرى له حقيقة، وكانت غايته تلافي المفردة التي نشأ منها كوننا، ولذلك اعترف بقوله: (عندما يعود المرء إلى الزمن الحقيقي الذين نعيش فيه، ستظل هناك مفردات) (1)

وهذا السلوك يمارسه الفيزيائيون عادة كسلوك افتراضي غير حقيقي، كما عبر عن ذلك الفيزيائي [جون برّو] بقوله: (من دأب الفيزيائيين الذين يعمدون كثيرًا إلى تحويل الزمن إلى مكان لمعالجة بعض إشكالات ميكانيكا الكم، دون أن يتصوّروا أنّ الزمن هو في الحقيقة مثل المكان. وفي نهاية الحساب، يعودون إلى التفسيرات الاعتيادية للوجود على أنه بعد زمني واحد وثلاثة أبعاد للمكان) (2)

ومن الأمثلة على هذا النوع من الاستعمال ما قام به عالم الكيمياء [ويليام هـ. ملر] سنة 1969 م عندما استعمل الزمن التخيلي لفهم ديناميكية التفاعلات الكيميائية، ونال بذلك مجدًا علميًا، دون أن يتحوّل الزمن التخيّلي عنده إلى حقيقة موضوعيّة.

وهكذا؛ فإن فإن ما قام به (هاوكنج) هو أنه تخلّص من المفردة التي تمثّل فيزيائيًا بداية المكان والزمان ليصبح تاريخ بداية الزمان كقاعدة ناعمة وليس كنقطة كما في النماذج الكلاسيكية، وبذلك لا توجد للبداية نقطة أولى! وهو تصوّر رياضي لا يمكن نقله إلى الواقع،

__________

(1) Stephen Hawking، A Brief History of Time، p. 139..

(2) John D. Barrow، Theories of Everything (Oxford: Clarendon، 1991)، pp.66 - 67.

كيف تناظر ملحدا؟ (176)

أو بعبارة (فلنكن): مجرّد (ملاءمة حاسوبية) (1)

ولذلك قال الفيزيائي [دافيد بارك]: (من السهولة المخادعة تصوّر أحداث قبل الانفجار العظيم.. لكن لا سبيل البتّة في الفيزياء لأن يكون لهذه التصوّرات معنى) (2)

ونحب أن ننبه هنا إلى أنّ [هاوكنج] نفسه يقرر بداية للكون مثل سائر الكوسمولوجيين، فهو القائل: (اليوم، تقريبًا يؤمن الجميع أنّ الكون، والزمن نفسه، لهما بداية مع الانفجار العظيم) (3)

مع العلم أن [هاوكنج] صرح أنه يلزم من وجود بداية للكون وجود خالق له؛ فهو الذي أعلن أنّه (إذا كانت للكون بداية، فعلينا أن نفترض أنّ للكون خالقًا، ولكن إذا كان الكون مكتفيًا بنفسه بصورة تامة، دون أن يكون له حد أو حافة، فلن تكون له بداية ولا نهاية) (4)

2 ـ أدلة أخرى

بالإضافة للدليل السابق، والذي يمكن اعتباره حقيقة علمية دلت عليها كل الدلائل، وسقطت في مواجهتها كل النماذج والنظريات، هناك أدلة أخرى كثيرة تزيد في قطعية ذلك الدليل، وتجعل من حدوث العالم قضية قطعية لا مجال للجدل فيها، ومن تلك الأدلة:

القانون الثاني للديناميكا الحرارية

وهو القانون الذي يحتلّ مكانة خاصة بين القوانين الكونية، حتى اعتبره عالم

__________

(1) Alexander Vilenkin، Many Worlds in One: The Search for Other Universes (New York: Hill and Wang، 2006)، 182.

(2) David Park، “The Beginning and End of Time in Physical Cosmology،” in The Study of Time IV، ed. J. T. Fraser، N. Lawrence، and D. Park (Berlin: Springer Verlag، 1981)، pp.112 - 113.

(3) Hawking and Penrose، Nature of Space and Time، p.20.

(4) Stephen Hawking، A Brief History of Time، p.146.

كيف تناظر ملحدا؟ (177)

الكوسمولوجيا [إدنجتون] القانون الأوّل لكلّ العلوم، واعتبر أن (أي نظرية علمية تتعارض مع هذا القانون لا تملك أملًا في البقاء، وستنهار ضرورة) (1)

ومع كون هذا القانون في الأصل متعلّقا بالانتقال الحراري، إلا أنه مع ذلك يستعمل في محال كثيرة، منها أنّ الكون ينحو إلى الفوضى بعد الانتظام، وأنّ النُظُم تتحوّل من السلوك المنتظم إلى السلوك العشوائي.. ومن لوازم هذا القانون أنّ الكون يتّجه إلى فقد طاقته، ويتحوّل بصورة عفوية من الحرارة إلى البرودة، ومن النظام إلى الفوضى، فكلّ شيء يتحوّل من الأعلى إلى الأدنى.. أي أنه [قانون الفساد في الكون]، وهو الحقيقة الكبرى التي ألزمت (أينشتاين) أن يقول بكلّ ثقة: (إنه لا يمكن أن يتمّ إبطاله في يوم ما) (2)

ويمكننا الاستفادة من هذا القانون في الدلالة على وجود بداية للكون، وذلك من خلال التصورات الكبرى التي يؤمن بها الملاحدة حوله، وهي كونه كيانا مغلقا رغم ضخامته الهائلة.. وكونه كيانا ماديا بحتا.. واعتبار روحه هي طاقته التي يستهلكها وتمنعه من أن يبلغ مرحلة التموّت الحراري..

وبناء على هذا، وبناء على أن الكون يستهلك طاقته على مدى الزمن بما يجعلها تتناقص يومًا بعد يوم، كما يتقلص البنزين من خزّان السيارة كلّما أخذت السيارة منه رصيدًا لحركتها؛ فإن هذا يدل على أنّ لهذا الكون بداية محدّدة بدأ منها استهلاك الطاقة، ولا يستقيم لذلك أن يكون الكون أزليًا؛ لأنه لا ينقص إلا المبدوء، فإنّ الكون الذي تتناقص طاقته من الأزل، تنفد طاقته في الأزل.

وقد عبر الفيزيائي اللاأدري [بول ديفيس] عن هذا المعنى، فقال: (اليوم، نحن نعلم أنه

__________

(1) Arthur Eddington، The Nature of the Physical World (New York: Macmillan، 1928)، p.74.

(2) Albert Einstein (author)، Paul A Schilpp (editor)، Autobiographical Notes)A Centennial Edition، Open Court Publishing Company، 1979(، p. 31.

كيف تناظر ملحدا؟ (178)

لا يمكن لنجم أن يستمر في الاحتراق إلى الأبد؛ إذ لا بدّ أن ينفد وقوده. وهذا يفيد في توضيح مبدأ عام جدًا: [مفهوم] الكون الأزلي يتعارض مع استمرار وجود العمليات الفيزيائية التي لا رجعة فيها. إذا كان بإمكان النظم الفيزيائية أن تخضع لتغييرات لا رجعة فيها بمعدل محدود، فهي إذن ستنتهي من تلك التغييرات في زمن لانهائي مضى) (1)

ويقول: (ثمّة خيوط لأدلّة عديدة تدعم هذه النظرية المذهلة، وسواء قبلنا كافّة التفاصيل أم لم نقبل، فالفرضيات الأساسية ـ بوجود نوع من خلق ما ـ تبدو قاهرة من وجهة نظر العلم، ويعود الفضل ـمباشرة ـ إلى مجموعة كبيرة من البراهين، تعود إلى أحد أكثر قوانين الفيزياء شهرة، ذلك المعروف بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية، ويوضح هذا القانون ـبالمعنى العام ـ أنّ الكون يصبح ـيومًا بعد يوم ـ أكثر اضطرابًا، فثمّة نوع من الانحدار التدريجي والعنيد ينزع إلى الفوضى، والأمثلة على صحة القانون الثاني واضحة للعيان، ففي كلّ مكان: بنايات تنهار، بشر يتقدّمون في العمر، جبال وسواحل تتآكل، وموارد الطبيعة تنضب.. وقد أثبتت تجارب دقيقة عديدة أنّ الكميّة الكليّة للاضطراب في نظام ما لا تنخفض أبدًا، وإذا كان النظام معزولًا عن محيطه، فأيّ تغييرات تحدث داخله سوف ترفع الأنتروبي، أي الاضطراب، بحدّة بالغة حتى لا يمكنه بعدها الوصول إلى أعلى، وحينها لن يحدث المزيد من التغيير؛ إذ يكون النظام قد وصل إلى حال توازن الديناميكا الحرارية) (2)

ومع وضوح دلالة هذا القانون على وجود بداية للكون إلا أن بعض الملاحدة طمع في أن تكون الكوسمولوجيا الكمومية هي المخرج من هذا المأزق الذي أوقعهم فيه القانون الثاني

__________

(1) Paul Davies، The Mind of God: The Scientific Basis for a Rational World (New York: Simon كيف تناظر ملحدا؟ ( Schuster، 1992)، p.46.

(2) بول دافيز، الله والفيزياء الحديثة (تعريب: هالة العوري، دمشق: دار صفحات، 2013 م)، ص 22 - 23.

كيف تناظر ملحدا؟ (179)

للديناميكا الحرارية، لكنّ دراسة نشرت قريبًا للكوسمولوجي [آرون وال] أثبتت أنّ السلطان التام لهذا القانون على كوسمولوجيا الكم يلزمنا بالإقرار بخلق الكون، ولا حلّ لمواجهة ذلك إلا بتبنّي إمكانية أن تسير حركة الزمان بصورة عكسيّة، أي أن يتحرّك الزمان إلى الماضي لا من الماضي (1).

النظرية النسبية لأينشتاين

وهي نظرية يمكن الاستدلال بها على وجود بداية الكون، وقد علِم [أينشتاين] أثناء عمله على نظريته أنّ الحسابات تقوده إلى كون غير مستقر في حجمه، فاضطرّ للهروب من هذه النتيجة أن يفترض سنة 1917 م وجود ما سمّاه بـ[الثابت الكوني] كإضافة إلى نظريته في النسبية العامة، حتى يتحقق الاستقرار الكوني بالتغلّب على سلطان الجاذبية بوجود قوة تنافرٍ تفعل فعلًا معاكسًا لفعل الجاذبية، لكنّه اضطرّ إلى التنازل عن رأيه والإقرار بتوسّع الكون بعد اكتشاف [هابل] في آخر العقد الثاني من القرن العشرين لدليل مدرك لتنائي المجرّات عنّا.

بالإضافة إلى هذا، فقد نشر بعض الباحثين ورقة علمية سنة 2003 في مجلة [Physical Review Letters] تحت عنوان [الزمكانات المتضخمة غير تامة من جهات الماضي]، وأثبتوا فيها أنّ الكون اللامتناهي في الزمان لا يتوافق مع نظرية أينشتاين النسبية التي ثبت صدقها علميًا منذ زمن.

تمدد الكون

ودلالته واضحة على وجود بداية للكون؛ فقد اكتشف [إدون هابل] في بداية القرن العشرين أنّ الكون يتمدّد، وأن سرعة ابتعاد الأجرام عن بعضها تطابق سرعة ابتعادها عن الأرض.. وكان هذا الكشف من أقوى الدلائل لتأكيد (نظرية الانفجار العظيم)، غير أنّ هذا

__________

(1) Aron C. Wall، “The Generalized Second Law implies a Quantum Singularity Theorem،” < http://arxiv.org/abs/1010.5513 v 3 >..

كيف تناظر ملحدا؟ (180)

التمدّد وحده حجّة لوجود بداية للكون.

وقد أبدى [هاوكنج] استغرابه من عدم الكشف عن تمدد الكون قبل القرن العشرين؛ إذ إنّه من المستحيل أن يوجد كون ثابت من الأزل تعمل فيه الجاذبية عملها الجذبي (1).

وعلّق على ذلك قائلًا: (كان الكشف عن توسّع الكون إحدى أكبر الثورات الفكريّة في القرن العشرين. من السهل أن نتساءل ـبصورة متأخرة: لِمَ لَمْ يفكّر أحد في ذلك من قبل. لقد كان على (نيوتن) والآخرين أن يكتشفوا أنّ الكون الثابت لا بدّ أن يبدأ عن قريب في الانكماش تحت تأثير الجاذبية) (2)

ومن الحجج الأقوى اليوم لدلالة التوسّع على نفي أزليّة الكون [مبرهنة بورد وغوث وفلنكن]، والتي لقيت قبولًا كبيرًا في أوساط الكوسمولوجيين في العالم، وهي تقرّر أنّ كلّ كون أو أكوان تتمدّد بدرجة أعلى من الصفر، فلا ريب أنها تعود إلى بداية ولا يمكن أن تكون أزليّة (3)

وقد لخّص أصحاب المبرهنة دراستهم بقولهم: (النموذج الكوسمولوجي المتضخم ـ أو حتى المتوسع بسرعة كافية ـ لا بدّ أن يكون غير تام في الاتجاهات الماضية للعدم والزمان)

مفارقة السماء المظلمة

وتسمى كذلك [مفارقة أولبرز] على اسم الفلكي الألماني [هاينريش أولبرز] (1840 م)، وهي تنص على أنه لو كان الزمان بلا بداية لكانت السماء كلّها مضيئة ليلًا لأنّها ستكون مغمورة كلّها بأضواء النجوم التي وصلنا ضوؤها منذ الأزل، أمّا والحال كما نعرف من

__________

(1) Stephen Hawking، A Brief History of Time، p.6.

(2) المرجع السابق، ص 41.

(3) A. Borde، Guth and A. Vilenkin، In?ationary space-times are not past-complete، Phys. Rev. Lett. 90 151301 (2003)، pp.1 - 4.

كيف تناظر ملحدا؟ (181)

سمائنا اليوم من أنّ ليلها أسود إلا من قليل من النجوم المضيئة، فذاك يعني أنه لا يصلنا من ضوء النجوم إلا ما انتهى من رحلته إلينا منذ بداية تخلّق النجوم أو بعد ذلك.

يقول [بول ديفيس] معبرا عن ذلك: (لو كان الكون غير متناهٍ في تمدده المكاني والزماني لكان الضوء الآتي من النجوم اللامتناهية منهمرًا على الأرض من السماوات. ويظهر الحساب البسيط أنّ السماء لا يمكن أن تكون مظلمة في مثل هذه الظروف. يمكن حلّ المفارقة بافتراض سنّ محدود للكون؛ إذ إننا في هذه الحال سنكون قادرين فقط على رؤية النجوم التي أخذ ضوؤها زمنًا للسفر عبر الفضاء إلى الأرض منذ البداية) (1)

ثانيا ـ الكون بين الصدفة والغائية

بناء على ما ذكرنا سابقا من كون [الصدفة] المبنية على العشوائية وعدم القصد هي المغالطة الكبرى التي اعتمد عليها الملاحدة على مدار التاريخ، فإن على الداعية المواجه للإلحاد ألا يكتفي بما ذكرنا من ردود عقلية وعلمية، بل يذكر هؤلاء الملاحدة بما يكتشفه العلم كل حين من أدلة التصميم والقصد واستحالة الصدفة.

وسنكتفي هنا بالحديث عن ناحيتين مهمتين تدعمان الغائية، وتقضيان على المغالطات المرتبطة بالصدفة، وقد وضحناهما بتفصيل أكثر في كتاب [الكون بين التوحيد والإلحاد]، وهما:

1 ـ الثوابت الكونية

على عكس ما يظن دعاة الإلحاد الجديد في مغالطاتهم الكثرة؛ فإنه كلما تطورت قدراتنا على فهم الكون وقوانينه نجد أقوى الدلائل على التعقيد الهائل والتصميم الدقيق الذي لو لم ينضبط ضمن أقل تفصيل من تفاصيله لكانت الحياة مستحيلة فيه (2).

__________

(1) Paul Davies، The Mind of God، p.46..

(2) انظر لتبسيط الموضوع أكثر مقالا مهما مدعما بالصور والتوضيحات بعنوان: الضبط الكوني الدقيق والثوابت الفيزيائية، فادي السويطي، وقد استفدنا المادة العلمية منه.

كيف تناظر ملحدا؟ (182)

ومن أقوى الأدلة على الضبط الدقيق لهذا الكون تلك القوانين التي تحكم الكون، والتي تم ضبطها وتنميقها بدقة عالية، وبشكل هادف وموجه للسماح بتكون الظروف المناسبة لنشوء حياة في هذا الكون، والتي يعبر عنها بالثوابت الكونية.

فبعد الأرض عن الشمس بمسافة دقيقة جدا ثابت كوني للمحافظة على الماء بشكله السائل الضروري للحياة على الأرض..

وهذا المثال بسيط وضئيل جدا مقابل الثوابت الكونية الرئيسية الأكبر والأكثر تعقيدا بكثير، والتي نجد منها الثابت الكوني للجاذبية.. والظروف الأولية لنشأة الكون والحقائق الثابتة كسرعة الضوء.. والظروف المحلية الضرورية لوجود حياة على كوكب ما، كالمسافة الضرورية التي يجب أن تفصل كوكبا ما عن النجم الذي يدور حوله بحيث تكون الحرارة مناسبة لنشوء حياة فيه.. وغيرها كثير.

وهي جميعا في منتهى الدقة.. والتعبير الرقمي عنها معقد جدا، ويعتمد على نوعية الحسابات والوحدات الرياضية المستخدمة..

وهي جميعا محل إجماع من كل علماء الفيزياء والرياضيات، فهم يتفقون عليها، ويتفقون على أنها محكمة، أي أنه لو حصل تغيير ولو بسيط عليها، فإنه سيدمر أي احتمال لتكون الكون ووجود أي نوع من الحياة فيه.

حتى [ستيفن هاوكنج] داعية الإلحاد الجديد لم يستطع أن ينكرها، بل إنه قال عنها: (إن الحقيقة المدهشة هي أن القيم التي تحملها هذه الثوابت الفيزيائية يبدو أنها ضُبطت على مستوى عال من الدقة حتى تسمح بتطور الحياة في الكون)

ولننتقل من الإجمال إلى التفصيل حتى نستوعب مدى دقة هذه الثوابت؛ فإن العلماء

كيف تناظر ملحدا؟ (183)

يذكرون أن هناك أربع قوى كبرى تتحكم في كل الظواهر الكونية ـ بحسب العالم الذي نعيشه ـ وأول هذه القوى قوة الجاذبية.. وتليها القوى الكهرومغناطيسية مثل الكهرباء والضوء.. وتليها القوى النووية الكبرى، والتي تتحكم بسلوك العناصر الذرية الصغيرة.. وتليها القوى النووية الصغرى أوالخفوت الإشعاعي للذرات.. وهذه القوى جميعا تم تشكلها في أقل من جزء من المليون من الثانية بعد الانفجار الكوني الكبير..

ولو أنها تأخرت في التشكل، ولو بأقل مقدار لكانت المواد المتفجرة ستتبعثر نهائيا بدون أن ينجذب بعضها لبعض لتكون المجرات والنجوم والكواكب.. فالقوى النووية القوية والضعيفة الكامنة في الجزيئات الذرية كالبروتونات ـ مثلا ـ تحكمها علاقة دقيقة من التوازن، لو اختلت لما استطاع أي نجم أن يتكون نهائيا.

فلو تغير ثابت الجاذبية الكوني بمقدار وحدة عددية واحدة من ستين جزءا.. لما كانت الحياة ممكنة في الكون.

وهذا مجرد مثال عن ثابت من الثوابت الكونية.. ولهذا كانت مصدر إحراج للعديد من العلماء الملحدين.. فـ[كريستوفر هيتشنز] أحد أذكى المفكرين الملحدين في زمنه قال بصراحة: (إن فرضية التظيم الدقيق للكون هي أقوى حجة كان يواجهني فيها الطرف الآخر المؤمن بوجود إله)

بناء على هذا، سنذكر هنا باختصار تسعة ثوابت كونية يتجلى من خلالها مدى الدقة التي ينبني عليها الكون.. ومن خلالها نتعرف على استحالة تصور الصدفة أو العبثية في بناء الكون.

1 ـ ثابت الجاذبية الكونية: وهو مهم جدا لتكون المجرات والنجوم والكواكب.. وقيمته من الثبات والدقة بحيث لو زادت بنسبة بسيطة، فإن النجوم ستحرق مخزونها من الطاقة بسرعة تجعل الكون قصير العمر، عنيف التفاعل، غير مناسب للحياة.

2 ـ الثابت الكهرومغناطيسي: وهي القوى القطبية التي تتحكم بالقوى الجاذبة

كيف تناظر ملحدا؟ (184)

والطاردة للجزيئات الذرية، وهي المسؤولة عن تكون العناصر كلها.. فلو كانت القوى التي تسيطر على علاقة البروتونات مع النيوترونات ونواة الذرة.. بالإضافة للجسيمات الذرية المكتشفة حديثا.. أقل مما هي عليه، لما تكونت المعادن والعناصر مثل الهيدروجين والكربون والهيليوم، وغيرها.

3 ـ ثابت القوة النووية الكبرى: وهي التي تجعل الجزيئات تتماسك فيما بينها، وهي قوى عظيمة لها قيمها الدقيقة.. وحين تتفكك تعطينا الطاقة الذرية.. فالقنبلة الذرية ليست سوى انفلات الطاقة النووية الكبرى التي تربط بين الأجسام الموجودة داخل نواة ذرة اليورانيوم.. وهذه الطاقة العظيمة ضرورية لتماسك الأجسام الموجودة داخل نواة الذرة فيما بينها، لولاها لتفككت كل العناصر الكونية، وما تكون اي جسم فضائي.. وأي تغيير بسيط للمقدار الدقيق لهذه الطاقة سيجعل تكون العناصر الفلزية مستحيلا.

4 ـ ثابت القوى النووية الصغرى: أو التآكل الإشعاعي الموجود في كل العناصر.. فكل ذرة تفقد طاقة إشعاعية.. وهذه القوة هي المسؤولة عن الإشعاع الذري لكل شيء في هذا الكون.. فكل ذرة تموت بشكل بطيء جدا حين تطلق إشعاعها الذي ينشأ عن تحويل النيوترون إلى بروتون.. وهذا الثابت الذي ينظم الإشعاع الضعيف للعناصر لو كان أقوى مما هو عليه لاستحال تكون النجوم في الكون.

5 ـ الثابت الكوني: وهو القيمة الفيزيائية لمدى التوازن المطلوب لضمان توسع الكون بمقدار لا يجعل الأجرام السماوية كالمجرات والنجوم والكواكب وأقمارها تتناثر في أرجاء الكون.. وبمقدار لا يجعلها متكتلة بشكل يحرمها من التكون والتشكل بحرية للسماح بوجود نجوم وكواكب.. فالثابت الكوني بذلك هو ميزان قوى الجذب والتنافر الكونية..

وتكمن أهميته في كونه محصلة فيزيائية لتفاعل كل الثوابت الفيزيائية الأخرى ليصبح الكون ممكنا.. فكل منها يتفاعل بقيمته الدقيقة والثابتة.. أي أن كل ثابت كوني يعتمد على

كيف تناظر ملحدا؟ (185)

الآخر بعلاقة نسبية..

وكمثال على ذلك، فإن القوى النووية الكبرى الكامنة في نواة الذرات أقوى من طاقة الجاذبية بعشر آلاف، مليار، مليار، مليار، مليار، مليار مرة.. هذا التوازن الدقيق بين القوى النووية الكبرى مع قوى الجاذبية هو الذي يسمح بتكون مجرات ونجوم وكواكب في الكون.. فلو أخذنا صفرا واحد من نسبة التوازن هذه لاختلت موازين الكون لدرجة يصبح بها الكون فضاء خاويا أو كتلة مادية خالية من الحياة..

وقيمة هذا الثابت الكوني هي 1: 10 أس 122.. وهو يعني أنه لو اختلفت قيمته بأقل من جزء من صفر يليه 123 صفرا، ثم 1 من الواحد لانهار الكون بأكمله بعد تشكله بلحظات، أو لتوسع بسرعة هائلة تمنع تشكل الجزيئات الأساسية.

وطبقا للمعلومات التي حصل بمقتضاها العلماء الباحثون على جائزة نوبل للفيزياء عام 2011 تبين وجود سرعة في توسع الكون لا تتيحها المعادلات الفيزيائية، ولا كتلة المادة المتاحة في الكون، ولذا فقد اتضح أن قيمة الثابت الكوني تحدد بالضبط التوسع المطلوب، وقد كتب [ليونارد سوسكايند] الفيزيائي الشهير يقول: (الثابت الكوني 10 أس 122 يستحيل أن ينشأ بداهة عن صدفة).. ومثله قال [ستيفن هاوكنج] في كتابه [موجز تاريخ الزمن]: (الحقيقة الواضحة بخصوص الثوابت الكونية تؤكد على أنها صُممت بعناية تتيح الحياة وبمنتهى الضبط المدهش)

ولمن لا يعرف معنى كلمة 123 صفر، فإن هذه الكلمة تعني أننا بحاجة إلى قرص صلب بحجم 15 مليار سنة ضوئية، أي أكبر من حجم الكون كله، لنخرج منه بهذا الإحتمال، وطبعا هذا هو قمة الجنون الرياضي، لأن المستحيل الرياضي لا يتجاوز 50 صفر فضلا عن 123 صفرا.

فافتراض هذا الثابت الكوني بهذا الرقم المدهش الذي ظل العلماء يفترضون أنه صفر

كيف تناظر ملحدا؟ (186)

زمنا طويلا إلى أن بينت الدراسات في 1998 أنه ليس صفرا، ويستحيل أن يكون صفر، وإنما هو قريب جدا جدا جدا جدا من الصفر، لكن لابد أن يكون أكبر من الصفر بمقدار ضئيل للغاية بحيث يصبح رقما عشريا وأمامه 122 صفرا ثم واحد.

وقد فشل الفيزيائيون في معرفة سبب كون هذا الرقم بهذا القرب المدهش من الصفر، ومع ذلك لم يصبح صفرا، ولذا اعتبر الكثير من الفيزيائيين هذه المشكلة أعمق مشكلة غير محلولة في الفيزياء، ويطلقون عليها [معضلة الثابت الكوني]

وهكذا نجد كل الأرقام في هذا المجال تمتلئ بمثل هذه المعجزات؛ فكل الأرقام في الثوابت الكونية لا يمكن التعبير عنها لدقتها الشديدة.. فالنسبة بين الإلكترون والبروتون هي 1: 10 أس 37.. والنسبة بين القوة الكهرومغناطيسية والجاذبية هي 1: 10 أس 40.. ونسبة تمدد الكون هي 1: 10 أس 55.. وكتلة كثافة الكون هي 1: 10 أس 59..

إن هذه الأرقام جميعا، وغيرها كثير، تحدد القيم الفيزيائية للثوابت الكونية التي لو حدث أي تغير بسيط للغاية فيها لما نشأ الكون..

لقد قال [ليونارد سوسكايند] أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة ستافورد والمؤسس لنظرية الأوتار الفائقة: (إن المشكلة الحقيقية في إعداد الكون بعناية أن هذه المعطيات التي تقف على حافة السكين كلها مستقلة عن بعضها البعض، وفي الوقت نفسه تتلاقى لتسمح فقط بإحداث الحياة، وتغير أى مُعطى من هذه المعطيات التي نشأت مستقلة لم يكن يسمح لها بالتلاقي فضلا عن إمكانية إيجاد حياة أو حتى منظومة كونية)

6 ـ الثوابت الفيزيائية والظروف الأولية لتكون الكون: وهي الحالات الفيزيائية السابقة والموازية واللاحقة للانفجار العظيم، وهي الظروف التي يجب أن تتضافر لتسمح بتكون الكون.. وقد نصفها بالميزان الدقيق لتوزع الطاقة والمادة في لحظات زمنية.

ذلك أن الكون يتوسع الآن في خط زمني مستقيم، وتنخفض حرارته تدريجيا مع

كيف تناظر ملحدا؟ (187)

توسعه.. فإذا انكمش فإن الحرارة سوف تزيد مع اقتراب الأجسام الفضائية ببعضها حتى تصل لحرارة ضخمة غير قابلة للقياس..

ويمكن التعبير عن الظروف الأولية السابقة للانفجار العظيم بمعادلات رياضية، ولكن قد لا نستطيع تحديدها أبدا.. فنحن نتكلم عن حالة الوجود قبل أكثر من (18) مليار سنة.

لقد عبر العالم الفيزيائي البريطاني [روجر بينروز] عن هذا الثابت عند حديثه عن قانون الثيرمودينامكية الثاني، فقال: (التوسع الزماني المكاني للكون يتبعه زيادة في الفوضى، وهذا يعني أنه كلما عدنا عبر الزمن فإن النظام الكوني يزداد دقة وضبطا حتى نصل لقمة الضبط الكوني، وهي لحظة ما قبل الإنفجار الكوني)

وقد حاول هذا الفيزيائي الكبير أن يصل إلى حسابات تقديرية لمحاولة فهم الدقة اللامتناهية لظروف تكون الكون.. وقد استنتج من خلالها استحالة الصدفة في تكون الكون.

فقد استنتج أن احتمالية الصدفة لتوفر كل الظروف لتكون طاقة ومادة من حالة السكون الأدنى هي 1 على 10 يتبعه 123 صفر.. أي أنه لو كان لدينا (10) كرات في كيس، (9) كرات بيضاء وواحدة حمراء.. فاحتمالية حصولنا على الكرة الحمراء هي واحد على عشرة أو 1/ 10.

أما احتمالية حصولنا على كون يدعم الحياة بالصدفة، فإننا نحتاج إلى رقم خيالي لنفهمه نحتاج إلى تجميع كل الذرات المكونة لحبة رمل على أرضنا، ثم نجمع كل الذرات المكونة لكوكبنا، مع الشمس، مع كواكب المجموعة الشمسية، وكل الذرات المكونة لمجرتنا، ثم نضيف إلى ذلك كله الذرات المكونة لكل المجرات في كل الكون المنظور وغير المنظور.. ومع ذلك كله سيظل الرقم أكبر.

وهذا الرقم الكبير هو الذي دعا إلى طرح فكرة الأكوان المتعددة.. أي أنه اذا افترضنا ذلك العدد من الأكوان، فلا بد أن يحتوي أحدها على كل الثوابت الكونية الضرورية لتكون أجسام فضائية تمهد لنشوء حياة فيه.. وهذه الفرضية وقبلها الفرضية الأنتروبية مستحيلتان لا

كيف تناظر ملحدا؟ (188)

يقبل بهما أي عقل، ولا أي منطق.. بل هما ليسا سوى نوع من الهروب من إمكانية وجود الخالق..

7 ـ نسبة كتل البروتونات والالكترونات: فإذا اختلفت هذه النسب الذرية فإن اللبنات الأساسية لتكون الحياة (DNA) ما كانت لتتكون (1).

8 ـ سرعة الضوء: فإذا كانت سرعة الضوء أكبر مما هي عليه، فإن المجرات والنجوم والأجسام المشعة ستصبح مضيئة لدرجة أن الكون كله سيصبح كتلة ضوئية ضخمة.. وإذا كانت سرعة الضوء أقل مما هي عليه فإن الكون سيكون خافتا أقرب إلى الظلمة منه إلى الضياء.

9 ـ نسبة زيادة كتلة النيوترون على حساب البروتون: فلو كانت الزيادة أكبر لما تكونت العناصر الثقيلة في الكون، كالحديد والرصاص وغيرها من المعادن الضرورية للحياة، فأجسادنا تتكون من نسب متفاوتة من هذه المعادن، ولو كانت الزيادة أصغر لانكمشت النجوم، وتكونت ثقوب سوداء تدمر الكون بأكمله.. هذا إن نشأ الكون أساسا.

هذه بعض الثوابت الكونية، التي تجعل من الصدفة مستحيلة عقلا ومنطقا وعلما ومن كل الوجوه.. وبالإضافة إلى ما ذكرنا هناك الظروف المساعدة لأي كوكب حتى تقوم عليه الحياة بشروطها التي نعيشها.. مثل صفائح تكتونية ثابتة مع عوامل جيولوجية مناسبة.. وتوفر كميات مناسبة من الماء في قشرته.. ومنها قمر بحجم مناسب ودورة مناسبة تساعد على إضافة استقرار وثبات للكوكب لكي يحافظ على دورته الشمسية.. ومنها حجم وكتلة مناسبين للكوكب للحصول على قدر من الجاذبية يضمن الحفاظ على الماء والغلاف الغازي من التشتت في الفضاء.. ومنها وجود كوكب آخر ضخم في مكان مناسب حول الكوكب يقوم بجذب كل الكويكبات والنيازك والأجرام السماوية الضخمة بعيدا عن الكوكب الاصلي.. مثلما في حالة

__________

(1) انظر التفاصيل المرتبطة بهذا في كتاب [الحياة بين التوحيد والإلحاد] من هذه السلسلة.

كيف تناظر ملحدا؟ (189)

الأرض نرى المشتري يقوم بهذه المهمة، حيث أن جاذبيته الضخمة تجذب كل الأجسام الضخمة الخطيرة مما يشكل درع حماية لكوكبنا.. ومنها وجود الكوكب في طرف المجرة بعيدا عن التكدس الداخلي.. ومنها توفر قطبية جزيئية للماء مع خصائص تجعل هذا العنصر الأساسي للحياة في حالته السائلة ونطاق حراري دقيق. فمثلا، لو كان الماء يتبخر ضمن حرارة (25) مئوية، لاستحالت الحياة على الأرض.. وغيرها كثير.

ولا يمكن عقلا في ظل كل هذه الثوابت والشروط الدقيقة جدا أن يكون هناك أي محل للصدفة.

2 ـ التوازن الكوني

وهو من أكبر الأدلة التي يمكن من خلالها أن نواجه من يقول بالصدفة والعشوائية، فالتوازن في الكون في منتهى الدقة والحساسية، وكمثال على ذلك [القوة النووية الصغرى] (1)، فهذه القوة تعتبر من القوى المؤثرة في الكون، وتمتلك قيمة عددية ثابتة ودقيقة جدا، وهي موجودة في بعض جسيمات الذرة، وتسبب النشاط الإشعاعي للمادة.

فلو كانت قيمة هذه القوة أكبر قليلا مما هي عليه لتحلّلت النيوترونات في الكون وندر وجودها فيه، أي لأصبح الهليوم نادرا في الكون منذ الانفجار العظيم، لأن هذا العنصر يحمل نيوترونين في نواة ذرته، ويمكن القول أنه كان سينعدم وجوده بالمرة.

والمعروف عن الهليوم أنه أخف العناصر في الوجود بعد الهيدروجين، وإذا انعدم الهليوم في الكون ينعدم تكون العناصر الثقيلة في جوف النجوم في أثناء التفاعلات داخل مراكز النجوم نتيجة التفاعلات النووية التي تطرأ على نوى ذرات الهيليوم، وهذا يعني أن الهليوم يعتبر مادة خام لإنتاج العناصر الأخرى، أي أن انعدام الهليوم يؤدي إلى انعدام العناصر اللاّزمة لنشأة

__________

(1) انظر: سلسلة المعجزات، هارون يحي.

كيف تناظر ملحدا؟ (190)

الحياة واستمراريتها.

وعلى عكس ذلك لو كانت قيمة القوة النووية الصغرى أصغر قليلا مما هي عليه لتحوّلت ذرّات الهيدروجين المصاحبة للانفجار العظيم إلى ذرات الهليوم، ولزادت كميات العناصر الثقيلة في مراكز النجوم زيادة غير عاديّة، وهذه الزيادة تؤدي حتما إلى استحالة نشوء الحياة.

وبذلك، فإن هذه القوة الضعيفة التي تحملها جسيمات الذرة لها قيمة ذات حساسية فائقة، وخلقت بهذه الكيفية لتلعب دورها في نشوء الكون.

بالإضافة إلى هذا، فإن هناك عاملا آخر يؤثر على مدى حساسية قيمة هذه القوة، ويتمثل في تأثير هذه القوة على جُسيم ذرّي يدعى بـ[النيوترينو]، فالنيوترينوات هي الجسيمات التي تلعب دورا كبيرا في دفق العناصر الثقيلة واللاّزمة للحياة والمتكونة في مراكز النجوم العملاقة إلى الفضاء السحيق.

وتعتبر القوة النووية الصغرى هي القوة الوحيدة التي تؤثر على جسيمات النيوترينو في الكون، ولو كانت هذه القوة أصغر قليلا مما هي عليه لأصبحت جسيمات النيوترينوات أكثر حرية في الحركة دون أن تتأثر بقوة جذب أي شيء، وهذا يعني أن هذه الجسيمات تستطيع أن تهرب من قوة جذب النّجوم العملاقة دون أن تتأثر بالطبقات الخارجية لهذه النجوم، وبالتالي سيكون دفق العناصر الثقيلة إلى الفضاء مستحيلا.. ولو كانت هذه القوة أكبر مما هي عليه لبقيت في مراكز النجوم قابعة فيه دون حراك، وهذا يؤدي إلى صعوبة إطلاق العناصر الثقيلة المتكونة إلى الفضاء.

لقد ذكر [بول ديفيس] أن قوانين الفيزياء الأساسية والمؤثرة في الكون تحمل قيما معينة ومحددة لتناسب وتلائم حياة الإنسان، وإذا حدث أي تغيير طفيف في هذه القيم يتغير وجه الكون الحالي تغيرا ملحوظا، فقال: (ولما وجدنا نحن كبشر لنشاهد هذا الكون.. وكلّما استمر

كيف تناظر ملحدا؟ (191)

الإنسان في أبحاثه الفضائية اكتشف أموراً مثيرة لا يمكن تصديقها بالعقل الإنساني، وآخر ما توصل إليه الإنسان بشأن الانفجار العظيم يثبت أن الكون يتمدد بشكل دقيق وموزون لدرجة مثيرة للحيرة والإعجاب)

ويقول [آرنوبنزياس] أحد من اكتشف الأشعة الكونية الدالة على حصول الانفجار العظيم، والحاصل على جائزة نوبل سنة 1965 موضّحا هذا التخطيط والتصميم الخارقين للكون: (إنّ علم الفلك يقودنا إلى أمور غير عادية، إلى كون خلق من العدم، الكون الذي يحتوي على موازين دقيقة للغاية تكفي سببا لنشأة الحياة، أي أنّ الكون وجد بهذه الكيفية لتحقيق هذه الغاية)

ويقول البروفيسور [روبرت جاسترو] أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة كولومبيا: (إنّ الكون بالنسبة إلى الفيزيائيين والفلكيين هو المكان المناسب لعيش الإنسان والمحدد بمجموعة من القيم الرّياضية تحديدا ضيقا للغاية، وهذا التعريف يدعى بـ[المبدأ الإنساني]، وتعتبر هذه النتيجة برأيي من أكثر النتائج التي توصل إليها العلم الحديث غموضا)

وكل هذه النتائج التي أقر بها كبار علماء العلماء في التخصصات المختلفة بشأن القوى الكونية المؤثرة من ناحية ثبات قيمها وتناسبها وتوازنها مع بعضها البعض بهذه الدّقة المتناهية تدل على أنه لا تفسير لهذه الحقيقة باستخدام كلمة المصادفة، وإنما التفسير الوحيد لها هو [المعجزة]

ونستطيع أن نتثبت كونها كذلك بإجراء القياسات التي تؤدي إلى نتائج ثابتة دائما، ولا تتغير حتى بنسبة 1 إلى 100 أو 2 إلى 100.. إضافة إلى أن هذه الموازين الدقيقة هي نفسها لم تتغير حتى قبل وجود الإنسان، أو وجود الحياة، ولم تعان أي تغيير أو تحول في قيمتها..

وهذا كله يعني أن الكون مستند إلى موازين دقيقة للغاية، والادّعاء بأنّ المصادفة هي التي أوجدت هذا النظام المتوازن والمتقن يعتبر منافيا لقواعد العقل والمنطق حتما..

كيف تناظر ملحدا؟ (192)

كيف تناظر ملحدا؟ (193)

الإلحاد.. وخلق الحياة

بعد كل ذلك الجدل واللغط والمغالطات التي حاول الملاحدة من خلالها إثبات عدم حاجة الكون إلى إله، واجهتهم مشكلة أخرى، ربما تكون أعقد من المشكلة السابقة، وهي مشكلة الحياة التي يرونها على الأرض، والتي لا تنسجم مع كل التفسيرات المادية، ذلك أن الحياة فوق المادة، وهي معقدة تعقيدا خطيرا لا يمكن وصفه.. ولذلك راحوا يبحثون عن حلول أخرى لعلها تتدارك ما وقعوا فيه.

وكانت الصدفة هي مغالطتهم في هذا الجانب كما كانت هي مغالطتهم في سائر الجوانب، وحتى يجدوا تصويرا لكيفية الصدفة، راحوا يضعون فرضيات كثيرة لنشأة الحياة، وتنوعها.

ولذلك يحتاج الداعية المواجه للإلحاد أن يتعرف على تلك الفرضيات، وعلى المنهج العلمي في الرد عليها، وقد ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بذلك في كتابنا [الحياة: تصميم لا صدفة]، ولذلك سنكتفي هنا بذكر مغالطاتهم المتعلقة بنشأة الحياة وتنوعها، وكيفية الرد عليها.

أولا ـ الإلحاد.. ونشأة الحياة

على الرغم من عدم قدرة العلم على إثبات أي شيء يتعلق بنشأة الحياة، وكيفيتها، ذلك أنها غيب مطلق، ولا يمكن بأي وسيلة من الوسائل العلمية التعرف على ذلك إلا أن الملاحدة وحتى يفروا من الأسئلة التي تطرح عليهم في هذا الجانب راحوا يفترضون افتراضات عجيبة ممتلئة بالغرابة، وتفتقر لأي مصداقية علمية.. وسنقتصر هنا على اثنين منها:

1 ـ التوالد الذاتي

وهي نظرية تنص على أنه (1)، وقبل بضع مليارات من السنين، قررّت بعض من المواد

__________

(1) من المراجع التي رجعنا إليها في هذا: كتاب [وقال الله]، تأليف الدكتور فريد أبو رحمة، ترجمة ميشال خوري، ومقالا بعنوان [نظريات نشأة الحياة]، والمعلومات الواردة فيه موجودة في مواقع ودوائر معارف علمية كثيرة.

كيف تناظر ملحدا؟ (194)

اللاعضوية الميتة في موضع معيّن من الأرض، أن تجتمع لتكوين أول خلية حية.. وقرارها هذا، كان من تلقاء نفسها ومن دون الاستعانة بأي قوى خارجية، ما عدا الظروف الطبيعية التي كانت سائدة آنذاك.

وراحوا لأجل إثبات هذا يفترضون كل مستحيل، ومن تلك المستحيلات إمكانية نشأة الحياة من المادة الميتة.. وكان هذا هو المعتقد السائد في أيام داروين.. فالناس كانوا يؤمنون بالتولّد التلقائي.. فباعتقادهم أن يرقات الديدان تتولد من اللحم الميت، كما أن القمامة هي المسؤولة عن توليد الفئران والذباب والحشرات، والبراغيث متولدة من مواد غير حية كالغبار، والضفادع وبعض الكائنات المائية نشأت مباشرة من طين الجداول والبرك، والأسماك والزواحف والفئران يمكنها أن تنشأ تلقائياً من تربة رملية أو حتى من مواد متعفنة.. بل حتى الإنسان نفسه نصوا على أنه يمكن أن ينشأ من بركة من الوحل بطريقة التوالد الذاتي.

وقد ذكر [فان هلمونت] الذي اشتهر بتجاربه في التمثيل الضوئي للنبات بأنه لو أخذنا كمية من القمح، وبعضا من التبن والقش، وقطعة من قماش قديم، وقطعة أو قطعتين من ملابس داخلية وسخة.. ثم أضفنا إلى الكل قليلاً من الماء، ثم تركنا هذه المجموعة في مكان هادئ لعدة أيام؛ فإنه سرعان ما تولد هذه المجموعة مجموعة من الفئران.

وقد انتقد هذه النظرية كل الباحثين المحققين ابتداء من [فرانسيسكو ريدي] الذي أثبت بتجربة بسيطة أن يرقات الذباب توجد في اللحم المتعفن نتيجة لفقس البيض الذي تضعه أنثى الذباب على اللحم، لا من توالدها ذاتياً ومباشرة من اللحم المتعفن، فلو جنبنا اللحم من الذباب، وذلك بتغطية الوعاء المحتوي على اللحم وبقطعة من القماش النظيف لاستحال ظهور

كيف تناظر ملحدا؟ (195)

اليرقات مهما تعفن اللحم وطال تعفنه، إلا أن ترك اللحم بدون تغطية ولّد عليه يرقات الذباب.. وقد أدت هذه التجربة وتجارب أخرى من هذا القبيل إلى إضعاف شوكة نظرية التوالد الذاتي.

وبعد اختراع المجهر في نهاية القرن السابع عشر على يد [أنطون فان ليفنهوك]، واكتشافه لكائنات دقيقة لم تكن ترى بالعين المجردة، بل ظهرت خلال المجهر الضوئي، عاد فأنعش نظرية التوالد الذاتي بعض الشيء، ذلك أن وجود هذه الكائنات الدقيقة في السوائل المتخمرة لا يمكن شرحه إلا على أساس فكرة التوالد الذاتي.

وكان من بين الذين وجدوا في اكتشاف ليفنهوك انتعاشاً لفكرة التوالد الذاتي القسيس [الويلزي نيد هام]، لذا أجرى عدة تجارب، وجد من خلالها أن حساء لحم الضأن سوف يؤدي إلى إنتاج كائنات دقيقة حتى بعد تسخينه لدرجة الغليان.

لكن تلك التجارب لم تكن علمية، فقد وجد القسيس الإيطالي [لازورا سبالانزاني] أن الحساء الذي اعتمد عليه [الويلزي نيد هام] كان عرضة للتلوث بالهواء بعد التسخين مما يشرح ظهور الميكروبات في تجاربه.. ولإثبات ذلك قام بعدة تجارب سخن فيها الحساء لمدة طويلة تستمر بالساعات، وعاملة بطريقة تحول دون تلوثه بالهواء.. وفي نهاية هذه التجارب لم يظهر أي نوع من الميكروبات.

وهكذا أجرى قريبي [لويس باستور] تجارب عديدة قدمت دلائل قاطعة على عدم صحة التوالد الذاتي.. وقد أثبت أن الهواء ملئ بالكائنات الدقيقة التي يمكنها أن تنمو على الحساء بتعرض الحساء للهواء.. ذلك أنه لو عرضنا الحساء المعقم لهواء معقم؛ فإنه لا تنمو أية ميكروبات على الحساء، إلا أن الحساء بتعرضه لهواء غير معقم تنمو عليه كائنات دقيقة مختلفة.. وبناء على هذه التحارب فقد صرح باستور قائلا: (سوف لا تحيا أبداً نظرية التوالد الذاتي بعد أن صرعتها هذه التجارب البسيطة)

كيف تناظر ملحدا؟ (196)

2 ـ الحساء البدائى

وهي نظرية ينطلق منها جميع الملاحدة في تصوير وتفسير نشأة الحياة، وهي تنص على أن الحياة نشأت بسبب توفر ظروف معينة، اجتمعت جميعا لتشكل ما يسمونه [الحساء البدائي] الذي انطلقت منه الحياة، ثم تطورت بعد ذلك إلى الصورة التي نراها عليها اليوم.

وقد أخذ هؤلاء بالاستعانة بالكثير من البيولوجيين (1) ـ المؤمنين وغير المؤمنين ـ محاولة التعرف على كيفية ذلك، لمواجهة الطروحات الإيمانية، وحتى يقدموا تفسيرا عقلانيا على معتقداتهم (2).

والافتراض الذي انطلقوا منه هو أن النشأة الطبيعية للحياه الأولى مرت بالمراحل التالية:-

المرحلة الاولى: توليف المواد (غير الحية) وفق ظروف معينه، وتكون مونومرات عضويه صغيره بدائيه مثل الأحماض الأمينية أو النيوكليوتيدات (الحساء البدائى)

المرحلة الثانيه: انضمام مونومرات (جزيئات صغيره) وارتباطها لتكوين جزيئات أكثر

__________

(1) الروسي الملحد الكسندر ايفانوفيتش اوبارين اول من روج لنشر هذه الفكره بسخاء حيث افترض ان جو الارض انذاك كان مختزل كيميائيا ثم بتعرضه لطاقه من نوع ما ينتج اشكال بسيطه من الحياه تتطور تدريجيا فى برك ومحيطات الحساء العضوى البدائى، وفى عام 1953 خرج طالب الدراسات العليا بجامعة شيكاغو ستانلى ميلر بسيناريو مفترض بتجربته الشهيره التى يدعى بانها نجحت بمحاكاة ظروف الارض فى وقت مبكر وتعزيز عمليه كيميائيه لانتاج لبنات الحياه.

(2) انظر مقالا في الموضوع بعنوان: نشوء الحياة وتجربة ميلير، ومقالا مميزا آخر بعنوان: نظرية التطور وحقيقة الخلق، لعالم الحياة أحمد يحيى.

كيف تناظر ملحدا؟ (197)

تعقيدا هى البوليمرات مع مرور الوقت.

المرحلة الثالثه: إنتاج جزيئات بسيطه ذاتيه التكرار والتطور التدريجى للحياه الأولى.

ففى الخطوة الاولى للحياه يجب توليف الماده الخام الاولى للحياه وهى الاحماض الامينيه ومفردات الحمض النووي، ولذلك فإن التساؤل البديهى هو هل يمكن أن يحدث هذه فى ظروف طبيعيه وكيف؟

وللإجابة على هذا السؤال قاموا بتصميم مخابر للتعرف على كيفية نشوء الحياة من مادة غير حية، وقد عرفت أشهر هذه التجارب بتجربة ميللر، التي قام بها الباحث الأمريكي ستانلي ميللر عام 1953.

فقد قام هذا العالم في سبيل إثبات إمكانية نشوء الحمض الأميني عن طريق الصدفة، بصنع جو في مخبره زعم أنه كان موجودا على الأرض البدائية (والذي ظهر فيما بعد أنه غير حقيقي)، وبدأ يعمل.

والمزيج الذي استخدمه في جوه البدائي مكون من الأمونيا والميتان والهيدروجين وبخار الماء، وقد عرف ميللر أنه لا يمكن أن يتفاعل الأمونيا والميتان وبخار الماء تحت ظروف طبيعية، وكان يعلم أن عليه أن يحقن المزيج بالطاقة ليبدأ التفاعل.

حينها افترض أن هذه الطاقة كانت تأتي من الومضات الضوئية في جو الأرض البدائية، وبناء على هذا الاعتقاد استخدم تيارا كهربائيا مصطنعا في تجربته.

وقام ميللر بغلي مزيجه حتى درجة 100 درجة مئوية وادخل في الغرفة تيارا كهربائيا، وبعد نهاية الأسبوع حلل ميللر الكيميائيات التي تشكلت في الغرفة، ولاحظ أنه قد تم تركيب ثلاثة من الحموض الأمينية العشرين، التي تشكل أساس البروتين.

وقد أثارت هذه التجربة اهتمام الماديين والملاحدة وبدؤوا يروجون لها على أنها نجاح بارز، من غير أن يحققوا فيها وفي مدى مصداقيتها.

كيف تناظر ملحدا؟ (198)

وبناء على تلك التجربة التي سنرى متى تهافتها وعدم مصداقيتها، راح الماديون والملاحدة يضعون مخططات لكيفية نشأة الحياة؛ فذكروا أن الأحماض العضوية تعاونت فيما بعد في سلاسلها المنظمة عن طريق الصدفة لتشكل البروتينات التي وضعت نفسها داخل غشاء الخلية مثل البنية التي جاءت ـ بطريقة ما ـ إلى الحياة وشكلت الخلية البدائية.. ومع مرور الزمن تجمعت الخلايا وشكلت العضويات الحية.

وقد تعرضت هذه التجربة، وما انبنى عليها لانتقادات كثيرة يحتاج الداعية إلى التعرف على بعضها ليستعملها أثناء مناظراته ومحاوراته، وأهمها:

1 ـ أن الظروف التي نشأت عندها الحياة، والتى يجب محاكاتها غير معروفة، ويفترض أنها مجهوله على وجه اليقين، بل غلب الاعتقاد العلمى وفقا لما تم رصده من مشاهدات أنها كانت مغايره تماما لما تم التكهن به فى النماذج المقترحه من قبل أنصار النشأه الطبيعيه.

2 ـ تعقد ظاهرة الحياة، حتى أننا لا نفهم الخصائص الأساسية لها، فكيف يمكن تفسيرحدوثها؟

وسنرى بعض التفاصيل المرتبطة بهذا في العنوانين التاليين:

أ ـ عدم توافق ظروف التجربة مع البيئة الأرضية

فلم تكن الظروف البدائية الأرضية التي افترضها ميللر في تجربته حقيقية. فقد كان النتروجين وثاني أكسيد الكربون من مكونات الجو البدائي، إلا أن ميللر أهمل هذا واستخدم الميتان والأمونيا كبديل.

وقد ذكر [كيفين مكين] عن هذا في مقالة كتبها في مجلة [اكتشف]، قال فيها: (قلد ميللر وأوري البيئة البدائية باستخدامهما خليطا من الميتان والأمونيا. حسب اعتقادهم أن الأرض كانت مخزنا حقيقيا لمزيج حقيقي متجانس من المعدن، والصخور والجليد. إلا أنه، ومن خلال الدراسات الأخيرة، ثبت أن الأرض كانت في تلك الأزمان حارة جدا وأنها كانت تتكون من

كيف تناظر ملحدا؟ (199)

النيكل والحديد المصهورين، لذلك فإن البيئة الكيميائية لذلك الزمن كانت تحتوي بالدرجة الأولى على النتروجين N 2 وثاني أكسيد الكربون CO 2 وبخار الماء H 2 O. ومع ذلك لم تكن ملائمة، كما هما الأمونيا والميتان، لإنتاج جزيئات عضوية)

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن التجارب المنتجه للاحماض الامينيه تفترض الغياب الكلى للاكسجين لانه عدو للتجربه مع أنه كان متواجدا بوفره فى جو الارض البدائى، فالباحثون الآن متأكدون تماما من أن غاز الاكسجين كان موجودا على الأرض في وقت مبكر لأن غلافها احتوى على الكثير من بخار الماء، والإنحلال الضوئي للمياه الناجم عن الأشعة فوق البنفسجية في الغلاف الجوي العلوي سيكون مصدرا رئيسيا للأكسجين الحر في الغلاف الجوي حيث أنتج الأكسجين بمعدلات مرتفعه للغاية على الأرض البدائية، لعدم وجود درع الأوزون (المصنوع من الأكسجين) لمنع ضوء الأشعة فوق البنفسجية، وكشف تحليل أقرب عصور ما قبل الكمبري للصخور الرسوبية على وجود الأكسجين الحر، وبمستويات مماثلة لما هو عليه اليوم.

كما نشرت مجلة العلوم عدد ديسيمر 1995 مقالا لجون كوهين يظهر ذلك بوضوح ويؤكد مخالفة جو الارض البدائى المفترض أن تحاكيه تجربة ميلر لما افترضه ميلر تماما مما يؤكد عدم صلاحيتها.

وقد تم العثوربواسطة الجيولوجين فى طبقات الارض القديمه على المعادن المؤكسدة... (الهيماتيت) في وقت مبكر قبل 3.8 مليار سنة كدليل لا يقبل التشكيك على وجود الاكسجين بمعدلات مرتفعه جدا كما هى الان.

ثم توالت التأكيدات العلميه لكشوف تقر بوجود الأكسجين الحر فى غلاف الارض بعد وقت قريب جدا من تشكلها حيث تم اكتشاف وجود نطاقات واسعه من الكائنات الحيه المعتمده على التمثيل الضوئى لحياتها

كيف تناظر ملحدا؟ (200)

وفى نفس الاطار نشرت نيتشر في نوفمبر 1996 نتائج، من معهد سكريبس لعلم المحيطات بوجود النظائرالداله على أن الأيض الخلوي كان يجري قبل 3.8 بليون سنة.

وقد توالت الدرسات والتأكيدات من قبل الجيوكيميائين بتداول تلك الكشوف ففى عام 2004 نشرت مجلة العلوم حول الامر لتقول ان الظروف المؤكسدة، وبالتالي التمثيل الضوئى تواجدت على كوكب الارض منذ اكثر من 3،7 مليارسنه وأن الحياة كانت موجودة تقريبا في أقرب وقت كانت الأرض قادرة على دعم ذلك،

وهذا كله يدل على فشل تجربة ميلر وشبيهتها، ذلك أنه لايمكن أن تتم فى مجال مؤكسد يحتوى على الاكسجين، كما أكد ميلر ذلك بنفسه.

ومع ذلك، فإن المدافعين عن نموذج ميلر وبدون أى دليل حقيقى يدعون بأن الاكسجين لم يتواجد بنسبه تذكر فى الغلاف الجوى قبل 2،4 مليار سنه بمعطيات قديمة عفى عليها الزمن، مع أن أغلب علماء الجيولوجيا اليوم يؤكدن تواجده بنفس نسبة وجوده اليوم فى الغلاف الجو بل وفى اعماق البحار قبل 3.46 مليار سنه من هذا الوقت، وتؤكد اسبقية البكتيريا الخضراء المزرقه المنتجه للاكسجين قبل ذلك بملايين السنين

بالإضافة إلى ذلك، فإنه إذا لم يكن هناك اكسجين فى ذلك الوقت من عمر نشوء الحياه فلن يكون هناك اوزون، لذلك لن تكون هناك حمايه من الأشعة فوق البنفسجية التى تنفذ لتدمر المواد الكيميائية الحيوية المتكونه فى الحساء البدائى المزعوم.

ومع كل هذه الأدلة وغيرها، لا يزال الماديون يصرون على تلك التجربة التي أثبت العلم فشلها، باعتبارها الخيار الوحيد أمامهم لإثبات نشأة الحياة عن طريق الصدفة، وهذا ما أقره [جوناثان ويلز]، عالم الأحياء التنموية، فى كتابه [أيقونات التطور]، حيث قال: (نحن لا زلنا جاهلين جهلا عميقا بكيفية نشأة الحياة. ومع ذلك لازالت تجربة ميلر أوري تستخدم كأيقونه للتطور، لأنه لم يظهر شيء أفضل. وبدلا من قول الحقيقة، أعطينا انطباعا مضللا أن العلماء

كيف تناظر ملحدا؟ (201)

أثبتوا تجريبيا الخطوة الأولى في أصل الحياة)

وذهب آخرون منهم إلى الإقرار بفشها، ووضع بدائل لها، لتحل محلها، ولو فترة من الزمن، مثل [نيك لين] وفريقه بكلية الكيمياء الحيوية في جامعة لندن عام 2010، حيث ذكر بأن نظرية الحساء البدائي لا تصمد، وأنها من الماضي، وبدلا من ذلك اقترح نشأة الحياة في الفتحات الحرارية المائية تحت سطح البحر.. وهي فرضيه مقترحه فقط للخروج من الازمه، ولا يقوم على دعمها أى دليل، إضافة إلى مواجهتها مشاكل تضعها هى أيضا فى نطاق المستحيل العلمي.

ب ـ تعقد ظاهرة الحياة

ومع كل ما سبق ذكره من عدم توفر أي دليل علمي على صحة ما يذكره الماديون الملاحدة من نشأة الحياة؛ فإن للحياة من التعقيد ما لا يمكن لأي نظرية مهما اتسمت بالعلمية أن تصوره، أو كما قال [كارل بوبر]: (التقدم العلمى غير المسبوق فى البيولوجيا جعل مشكلة أصل الحياة لغزا أكبر مما كان عليه قبل؛ فقد اكتسبنا مشاكل جديدة وأكثر عمقا)

ذلك أن الاحماض الامينيه ليست سوى ماده عضويه بسيطه جدا خاليه تماما من الحياه، ومجرد لبنة بناء بسيطه وأوليه ويمكن تشبيهها باستخراج معدن الالومينوم كاحد عشرات او مئات المعادن الاساسيه المستخدمه فى بناء طائره وجعلها تطير.

وبالطبع لن يطير معدن الالومينوم الخام إلا فى الطائره، وداخل نظام مصمم وذكى بالغ التعقيد، وهكذا الاحماض الامينيه؛ فإنها لا تمثل أى قيمه بيولوجيه الا فى الخليه مع اعتبار الفارق الشديد فى نسبه التعقيد بين الطائره والخليه.

أو يمكننا تشبيه الاحماض الامينيه بانها جزء من مجموعة الحروف، والخليه الحيه هى كتاب مؤلف من ملايين الحروف لتشكيل ملحمة روائية بالغة الحنكه، والاشكال الحقيقى يكمن فى الاستخدام الذكى لترتيب تلك الحروف، وليست مجرد تراكمات وتراكبات عشوائيه

كيف تناظر ملحدا؟ (202)

ناتجه من عمليات فزيوكيميائه.

فالخليه نظام كونى مستقل له إراده تخالف تلك القوانين، ونظرة قريبه فى الخليه تثير الذهول من ذلك التصميم الدقيق المحكم؛ فهى مدينه كامله من الآلات الجزيئيه المتعاضده المتكامله التى يحسدها عليها عوالم التقانات النانوية؛ فمع اهتزازها أو التفافها أو زحفها المتواصل في أرجاء الخلية، تقطع هذه الآلات، وتلصق وتنسخ جزيئات جينية، وتقوم بنقل المغذّيات من مكان إلى آخر أو تحولها إلى طاقة، وتبني أو تصلح الأغشية الخلوية، وتنقل الرسائل الميكانيكية والكيميائية والكهربائية.

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن من أبرز ألغاز الحياة، والتى تقف بقوه ضد كل النظريات العشوائيه التي تحاول تفسيرها، تلك الغائية والتوجيه المستقل للحياة بعيدا عن العمليات الكيميائية الطبيعية.

فبتخطى تلك العقبات التي مرت بها أمثال تلك التجارب، وبافتراض نجاحها فى محاكاة جو الأرض وإنتاج مادة عضوية أولية للحياة، وتخليق الأحماض الأمينية، فإن تخليقها من مواد أولية ليست الجزء الصعب.. فالإشكال الحقيقى هو الحصول على نوع الأحماض الأمينية المطلوبة للحياة، وطريقة تنظيمها.

ذلك أنه يوجد أكثر من 2000 نوع من الأحماض الأمينية في الطبيعة، بينما لا يدخل فى التركيب الحيوى للخلية إلا 20 نوعا فقط.. وعلاوة على ذلك، يتم تجميع الذرات التي تشكل كل الأحماض الأمينية الأساسية في شكلين متناظرين عرفا باسم (اليد اليسرى، واليد اليمنى) مقارنة بتناظر كلتا يدي الإنسان.. فلكل يد نفس المكونات، ومع ذلك فهي مختلفة.

ومثل أيدينا، تأتى الأحماض الأمينية في شكلين حيث تتألف من نفس المكونات، ولكن هي صور طبق الأصل من بعضها البعض، ولهذا تسمى الأحماض الأمينية العسراء، والأحماض الأمينية اليمينيه.

كيف تناظر ملحدا؟ (203)

لكن المذهل هو أن جزيئات الأحماض الأمينية اللازمه للحياة كلها عسراء التوجه، وكل السكريات الموجودة في الأحماض النووية اللازمه للحياة يمينية التوجه، أما تلك الأحماض الأمينية المنتجة في المختبر فهي نصف عسراء، ونصف يمينية، وتسمى راسيمات، وهنا تكمن مشكله قاتلة، وهي أن السكريات العسراء والأحماض الأمينية اليمينيه تكون سامة وقاتلة، وتحول دون أى محاوله للتخلق الحيوى المزعوم من تلك المخاليط الراسميه الملوثه.

وعلاوة على ذلك، فقد تم تصميم جميع الإنزيمات لتعمل فقط مع سكريات اليد اليمنى والأحماض الأمينية العسراء.. لذلك إذا تم ارتباط حمض أمينى واحد يمينى الاتجاه أثناء تجميع بروتين، فإن ذلك البروتين الناتج لن يكون له أي قيمة للحياة.

ثانيا ـ الإلحاد.. وتنوع الحياة

تعتبر نظرية التطور أو [النظرية الداروينية] (1) القاعدة التي يعتمد عليها كل الملاحدة والفلاسفة الماديين، ذلك أنها تنطلق من إنكار حقيقة الخلق، وتعتبر كل ما حصل من تنوع للحياة سلسلة صدف متوالية.. ولذلك كان دحض هذه النظرية واجبا يحتمه علينا الدين، لحماية المعتقدات، والرد على كل وسيلة يعتمدها الملاحدة لنفي وجود الله، أو نفي تدبيره لخلقه.

وترجع جذور الفكر الذي قامت عليه هذه النظرية إلى العصور القديمة؛ وذلك بوصفه اعتقادا متعنتا يحاول التنكر لحقيقة الخلق.. فقد دافع معظم الفلاسفة الوثنيين في اليونان القديمة عن فكرة التطور.. وعندما نلقي نظرة على تاريخ الفلسفة، نجد أن فكرة النشوء

__________

(1) انظر: خديعة التطور الانهيار العلمي لنظرية التطور وخلفياتها الأيديولوجية: هارون يحيى، وغيرها من كتبه، ويستحسن للداعية الرجوع إليها ولغيرها لكونها جمعت الكثير من الاقتباسات والنقول من العلماء والمختصين في الغرب، سواء من أولئك الذين لا يزالون يؤمنون بنظرية التطور، أو من الذين تراجعوا عنها.

كيف تناظر ملحدا؟ (204)

والارتقاء تشكل العمود الفقري لكثير من الفلسفات الوثنية.

وقد أحيا دارون تلك الفلسفات، وحاول أن يعطيها بعدا علميا إلا أنه لم يفلح في ذلك، بل كان كل ما فعله هو ومن تبعه ما عبر عنه الدكتور البيولوجي التطوري [هنري جي] المُحرر بمجلة نيتشر التطورية الشهيرة في كتابه [البحث في أعماق الزمن] مُعلقا على أضحوكات الاستشهاد ببضعة عظام لا تملأ صندوقا صغيرا على تطور الإنسان: (إن أخذ سلالة من الأحافير، وادعاء أنها تمثل خطاً تكاثرياً لا يعتبر فرضية علمية قابلة للاختبار، وإنما هو تأكيد على قصة تحمل نفس قيمة القصص التي تروى قبل النوم ربما تكون مفيدة، ولكن ليست علمية!)

مع العلم أن دارون لم يتلق أي تعليم رسمي في علم الأحياء، ولكنه اهتم بموضوع الطبيعة والكائنات الحية اهتمام الهواة، وحفزه هذا الاهتمام على الانضمام إلى رحلة استكشافية على متن سفينة أبحرت من إنكلترا عام 1832، وجابت مناطق مختلفة من العالم لمدة 5 سنوات.

وانبهر دارون انبهارا كبيرا بمختلف أنواع الأحياء، وخاصة بنوع معين من العصافير (الحساسين) التي شاهدها في بعض الجزر، واعتقد دارون أن التنوع في مناقير العصافير يعزى إلى تكيفها مع موطنها، وانطلاقا من ذلك افترض أن أصل الحياة والأنواع يكمن في فكرة التكيف مع البيئة؛ فافترض أن أنواع الأحياء لم توجد بشكل منفصل، بل إنها انحدرت من سلف مشترك، واختلفت عن بعضها البعض نتيجة للظروف الطبيعية.

ولم تستند فرضية دارون على أي اكتشاف أو تجربة علمية؛ ولكنه حولها ـ مع مرور الزمن ـ إلى نظرية حظيت بأهمية لا تستحقها، من خلال الدعم والتشجيع الذي تلقاه من أشهر علماء الأحياء الماديين في عصره.

وتتمثل فكرة النظرية في أن الأفراد التي تتكيف مع موطنها على النحو الأفضل تنقل صفاتها إلى الأجيال الآتية، ثم تتراكم هذه الصفات المفيدة مع الوقت، ويتحول الفرد إلى نوع

كيف تناظر ملحدا؟ (205)

يختلف اختلافا كاملا عن أسلافه. ووفقا لدارون، يمثل الإنسان أكثر نتاج متطور لهذه الآلية.

وقد أطلق دارون على هذه العملية اسم: التطور بالانتقاء الطبيعي، وظن أنه اكتشف أصل الأنواع؛ أي أن أصل نوع ما هو نوع آخر، ونشر هذه الآراء في كتابه الذي يحمل عنوان [أصل الأنواع بواسطة الانتقاء الطبيعي] عام 1859.

وقد كان دارون يدرك جيدا أن نظريته تعاني من مشكلات كثيرة، وقد اعترف بهذه المشكلات في كتابه في فصل بعنوان [صعوبات النظرية]، ويأتي على رأس هذه الصعوبات سجل المتحجرات، وتعقيد أعضاء الأحياء الذي لا يمكن أن يفسر عن طريق الصدفة (مثل العين) وغرائز الأحياء.

وكان يأمل في التغلب على هذه الصعوبات بواسطة الاكتشافات الجديدة؛ ولكن ذلك لم يوقفه عن تقديم عدد من التفسيرات غير الملائمة أبدا لبعض هذه الصعوبات.

وقد علق الفيزيائي الأمريكي ليبسون على صعوبات دارون بقوله: (عندما قرأت كتاب أصل الأنواع لمست أن دارون نفسه كان أقل ثقة مما كان الناس يصورونه في أغلب الأحيان؛ إذ يوضح الفصل الذي يحمل عنوان [صعوبات النظرية] مثلا قدرا لا يستهان به من عدم الثقة بالنفس، وبوصفي فيزيائيا، فقد أثارتني بشكل خاص تعليقاته حول كيفية ظهور العين)

وقد كان من أبرز الشخصيات التي تأثر بها دارون عالم الأحياء الفرنسي [لامارك]، الذي كان يرى أن الكائنات الحية نقلت السمات التي اكتسبتها أثناء حياتها من جيل إلى جيل، وبهذه الصورة تطورت هذه الكائنات؛ فالزرافات تطورت من حيوانات شبيهة بالبقر الوحشي عن طريق إطالة أعناقها شيئا فشيئا من جيل إلى جيل عندما كانت تحاول الوصول إلى الأغصان الأعلى فالأعلى لأكل أوراقها، وبناء على ذلك استخدم دارون فرضية توريث السمات المكتسبة التي اقترحها لامارك بوصفها العامل الذي جعل الأحياء تتطور.

وكان كل من لامارك ودارون مخطئا، ذلك أنه لم يكن ممكنا في تلك الفترة دراسة الحياة

كيف تناظر ملحدا؟ (206)

إلا بواسطة تكنولوجيا بدائية جدا، وبمستوى غير ملائم أبدا.. ولم تكن هناك مجالات علمية مثل علم الوراثة وعلم الكيمياء الحيوية، بل حتى اسمهما لم يكن موجودا؛ ومن ثم كان لا بد أن تعتمد نظريتهما اعتمادا كاملا على قوة مخيلتيهما.

وبينما كانت أصداء كتاب دارون مدوية، اكتشف عالم نبات النمساوي [غريغور مندل] قوانين الوراثة سنة 1865، وعلى الرغم من أن اكتشافات مندل لم يسمع بها الكثيرون حتى أواخر ذلك القرن، فإنها اكتسبت أهمية عظيمة في أوائل القرن العشرين الذي شهد ولادة علم الوراثة، وفي فترة لاحقة، اكتشف تركيب الجينات والكرموزومات، وفي الخمسينيات، أدى اكتشاف تركيب جزيء (DNA) (الذي يحتوي على المعلومات الوراثية) إلى إيقاع نظرية التطور في أزمة كبيرة، ويرجع ذلك إلى التعقيد المدهش للحياة وبطلان آليات التطور التي اقترحها دارون.

وكان حريا بهذه التطورات أن تؤدي إلى إلقاء نظرية دارون في مزبلة التاريخ، لكن هذا لم يحدث نظرا لإصرار الفلاسفة الماديين والملاحدة على تنقيح النظرية وتجديدها والارتفاع بها إلى منابر العلوم.

وبناء على ذلك حاول مجموعة من العلماء الذين أصروا على ولائهم لدارون أن يتوصلوا إلى حلول مناسبة لتلك الأزمة.. والتقى هؤلاء العلماء في اجتماع نظمته الجمعية الجيولوجية الأمريكية سنة 1941، وبعد مشاورات طويلة نجح في النهاية بعض علماء الوراثة وعلماء الحيوان وعلماء المتحجرات القديمة وعلماء الوراثة الرياضية في التوصل إلى اتفاق حول الطرق المناسبة لترقيع الدارونية.

وقد ركز هذا الفريق من العلماء على مسألة أصل التغيرات المفيدة التي من المفترض أنها قد تسببت في تطور الكائنات الحية (وهي مسألة لم يستطع دارون نفسه تفسيرها، لذلك حاول ـ ببساطة ـ أن يتجنبها معتمدا على لامارك)

كيف تناظر ملحدا؟ (207)

وبدأ تفكير هؤلاء العلماء يدور حول الطفرات العشوائية، وقد أطلقوا على نظريتهم الجديدة اسم [النظرية التركيبية الحديثة للتطور التركيبي]، التي تم تكوينها بإضافة فكرة الطفرة إلى فرضية دارون الخاصة بالانتقاء الطبيعي، وبعد مرور وقت قصير، أطلق على هذه النظرية اسم [الدارونية الجديدة] كما أطلق على الأشخاص الذين قدموها اسم الدارونيين الجدد.

وأصبحت العقود الآتية لتلك الفترة بمثابة حقبة للمحاولات اليائسة الرامية إلى إثبات صحة الدارونية الجديدة، وكان معروفا من قبل أن الطفرات (أو المصادفات) التي حدثت في جينات الكائنات الحية تلحق بها الضرر دائما، لكن الدارونيين الجدد حاولوا أن يقدموا برهانا على وجود طفرة مفيدة من خلال القيام بآلاف التجارب على الطفرات.. ولكن كل محاولاتهم باءت بالفشل الذريع.

كما حاولوا أيضا إثبات أن الكائنات الحية الأولى قد نشأت عن طريق الصدفة وتحت ظروف أرضية بدائية وفقا لفرضية النظرية، ولكن نفس الفشل صاحب هذه التجارب أيضا.. وكان الفشل حليف كل تجربة تسعى إلى إثبات أن الحياة يمكن أن تنشأ بالصدفة، وأثبت حساب الاحتمالات أنه لا يمكن حتى لبروتين واحد (وهو الوحدة الأساسية للحياة) أن يتكون عن طريق الصدفة.

أما بالنسبة للخلية (التي من المفترض أنها قد ظهرت عن طريق الصدفة تحت ظروف أرضية بدائية يتعذر التحكم فيها وفقا لعلماء التطور)؛ فإنه من غير الممكن تركيبها حتى في أكثر المختبرات تطورا في القرن العشرين.

وقد منيت نظرية الدارونية الجديدة بالهزيمة من قبل سجل المتحجرات أيضا؛ إذ لم يعثر قط في أية بقعة من العالم على أي من الأشكال الانتقالية التي من المفترض أن تظهر التطور التدريجي للكائنات الحية من الأنواع البدائية إلى الأنواع المتقدمة حسبما تزعم نظرية الدارونيين الجدد.

كيف تناظر ملحدا؟ (208)

وفي نفس الوقت، كشف التشريح المقارن أن الأنواع التي يفترض أنها تطورت بعضها من بعض تتسم في الواقع بسمات تشريحية مختلفة تماما، وأنها من غير الممكن أبدا أن تكون أسلافا أو خلفاء لبعضها البعض.

وبما أن [الدارونية الجديدة] لم تكن نظرية علمية أبدا، بل كانت مبدأ أيديولوجيا؛ فقد ظل أنصارها يدافعون عنها على الرغم من كل الأدلة المناقضة لها.. ومع ذلك، لم يستطيعوا الاتفاق على أي من النماذج المختلفة المقترحة لفهم التطور هو النموذج الصحيح. ويتمثل أحد أهم هذه النماذج في السيناريو الخيالي المعروف باسم [التوازن المتقطع]، أو [التطور على قفزات]

فمع أن معظم العلماء الذين يؤمنون بالتطور يقبلون نظرية الدارونيين الجدد المتعلقة بـ[التطور البطيء التدريجي]، ومع ذلك، فقد تم خلال العقود الأخيرة اقتراح نموذج مختلف يعرف باسم التطور على قفزات، أو التوازن المتقطع، ويرفض هذا النموذج فكرة الدارونيين بشأن حدوث التطور بشكل تراكمي وتدريجي، ويرى ـ بدلا من ذلك ـ أن التطور قد تم بقفزات كبيرة ومتفرقة.

وظهر هذا النموذج في بداية السبعينيات، بعد أن أدرك عالما المتحجرات الأمريكيان، [نايلز إلدردج] و[ستيفن غولد] أن مزاعم الدارونيين الجدد يدحضها سجل المتحجرات تماما، لأن المتحجرات أثبتت أن الكائنات الحية لم تنشأ بالتطور التدريجي، بل ظهرت فجأة بكامل تكوينها.

وكان الأصل أن يتخلى الداروينيون عن معتقداتهم بسبب ذلك، لكنهم لم يفعلوا، بل راحوا يقدمون بدائل أخرى، حتى لو كانت ممتلئة بالغرابة.

وحتى نعرف مدى تهاتف هذا النموذج الخيال، نذكر أن عالم المتحجرات الأوربي [شايندولف] ذهب إلى أن أول طائر خرج من بيضة إحدى الزواحف كطفرة هائلة، أي نتيجة مصادفة ضخمة حدثت في التركيب الجيني.

كيف تناظر ملحدا؟ (209)

وحسب النظرية ذاتها، كان من الممكن أن تتحول بعض الحيوانات البرية إلى حيتان ضخمة إذا تعرضت لتحول فجائي شامل.

ومع أن هذه الادعاءات المخالفة تماما لجميع قوانين علم الوراثة والفيزياء الحيوية والكيمياء الحيوية، والتي لا تختلف عن تلك القصص الخيالية التي تدور حول تحول الضفادع إلى أمراء إلا أنه ونتيجة لانزعاج علماء المتحجرات المؤمنين بالتطور من الأزمة التي كان يمرون بها جزم الدارونيين الجدد بهذه النظرية التي كانت تتميز بأنها أكثر غرابة حتى من الدارونية الجديدة نفسها.

ويتمثل الغرض الوحيد من هذا النموذج في توفير تفسير للفجوات الموجودة في سجل المتحجرات التي لم يتمكن نموذج الدارونيين الجدد من تفسيرها.

ومع ذلك، يكاد يكون من غير المعقول أن تجري محاولة لتفسير فجوات المتحجرات الموجودة في تطور الطيور عن طريق الادعاء بأن الطائر قد خرج فجأة من بيضة إحدى الزواحف؛ ذلك أن تطور نوع إلى نوع آخر يتطلب ـ باعتراف علماء التطور أنفسهم ـ حدوث تغير ضخم ومفيد في المعلومات الوراثية، ومع ذلك، لا يمكن لأية طفرة أيا كانت أن تحسن المعلومات الوراثية أو تضيف إليها معلومات جديدة؛ ذلك أن الطفرات لا تؤدي سوى إلى إفساد المعلومات الوراثية. ومن ثم فإن الطفرات الهائلة التي تخيلها نموذج التوازن المتقطع لن ينتج عنها غير إضعاف وإتلاف هائل، أي كبير، في المعلومات الوراثية.

وفضلا عن ذلك، فقد انهار التطور المتقطع من أول خطوة بسبب عدم قدرته على التعامل مع مسألة أصل الحياة، وهي ذات المسألة التي تدحض نموذج الدارونيين الجدد منذ البداية. وما دام من غير الممكن أن يتكون ولو حتى بروتين واحد عن طريق الصدفة، فلا يوجد معنى للجدال حول ما إذا كانت الكائنات الحية المكونة من تريليونات البروتينات قد مرت بمراحل تطور متقطعة أو تدريجية.

كيف تناظر ملحدا؟ (210)

بناء على هذا سنحاول أن نضع هنا بين يدي القارئ أهم الردود العلمية على هذه النظرية:

1 ـ الرد على علمية هذه النظرية

سبق أن ذكرنا في الفصلين المخصصين للمغالطات العلمية والعقلية التي يعتمدها الملاحدة عدم اعتماد الملاحدة على المنهج العلمي والعقلي في طروحاتهم العلمية المرتبطة بالإلحاد، ذلك أنها مبنية على تفكير رغبوي وليس على تفكير علمي.

وأول ما يدل على هذا هو أن كبار علماء الحياة كتبوا في الرد على نظرية التطور، ولم يكونوا يؤمنون بها، ولو كانت نظرية لها مصداقية علمية ما صدر منهم ذلك.. لأن الحقيقة لا يمكن إخفاؤها أو الهرب منها.

فمن العلماء الذين ردوا على نظرية التطور [ديفيد برلنسكي]، وقيمته في هذا المجال هو كونه عالما لا أدريا، وهو عالم في الرياضيات والبيولوجيا الجزيئية والفلسفة، وهو من أشهر من انتقدوا نظرية التطور، والإلحاد الذي يروج بسببها، وهو صاحب كتاب [وهم الشيطان] الذي ألفه في الرد على [ريتشارد دوكينز] وغيره سنة 2008 م.. وله حوار مصور شهير باسم [العنيد - مفكر متمرد يتحدى داروين]، وهو مليء باعترافاته من سخرية العلماء الحقيقيين من خرافة التطور، ومليء بالسخرية العلمية من افتراضات التطور الخيالية ونقاط ضعفها القاتلة.

ومنهم [مايكل دنتون]، وهو عالم لاأدري، ومتخصص في الكيمياء الحيوية، وكان يؤمن بنظرية التطور بحكم إلحاده وتخصصه إلى أن اكتشف بنفسه، ومع التقدم الرهيب في البيولوجيا الجزيئية عشرات الثغرات القاتلة التي أزالت عن التطور الهالة العلمية التي ينسجها أتباعه حوله ليمرروه على الناس بغير تفكير ولا مناقشة، فقام ساعتها بوضع كتابه الشهير [التطور نظرية في أزمة] عام 1985 م، وهو من أوائل الكتب التي قلبت نظرية التطور في العصر الحديث رأسا على عقب، وله مشاركات عديدة في وثائقيات علمية عن الدقة المتناهية

كيف تناظر ملحدا؟ (211)

وعلامات التصميم الذكي في الحياة والأرض والكون وصولا إلى الإنسان.

ومنهم [مايكل بيهي]، وهو عالم لاديني وتطوري سابق ومتخصص في الكيمياء الحيوية وأستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة ليهاي في بنسلفانيا – أمريكا، وقد ساورته شكوك كثيرة أيضا في نظرية التطور مع تخصصه العلمي الدقيق والاكتشافات العلمية الأخيرة، وخصوصا عندما قرأ كتاب (التطور نظرية في أزمة) لمايكل دانتون، حيث وجد أن كل النقاط التي ذكرها بالفعل طعنت التطور الصدفي والعشوائي في مقتل، فقام بتأليف كتابه الشهير [صندوق داروين الأسود] عام 1996 م، ويعتبر من أشهر من أسسوا ووضعوا قواعد نظرية (التصميم الذكي) في شكلها الأكاديمي الأخير وخصوصا نقطة (التعقيد غير القابل للاختزال) ودلالته على استحالة التطور التدريجي العشوائي عبر الزمن، وعلى دلالتها على الغائية لظهور الأعضاء المعقدة مرة واحدة من جهة مُصمم ما (هو لا يذكر إله أو خالق بعينه)

ومنهم [جوناثان ويلز]، وهو عالم البيولوجيا الجزيئية الأمريكي، والذي يعترف بأنه كان ملحدا في شبابه، وذلك في مجموعة كتب الصحفي الشهير [لي ستروبل]، لكن بسبب دراسته للبيولوجيا الجزيئية، ومع الاكتشافات الحديثة أيضا الناطقة بعلامات الغائية والخلق تراجع عن إلحاده، وصار من أعدى أعداء نظرية التطور وفضحها وكشف زيفها للناس، وهو صاحب الكتاب الشهير [أيقونات التطور] عام 2002 م

ومنهم [جيري فودور]، و[ماسيمو بياتيللي بالماريني]، وأولهما بروفيسور الفلسفة وعلم الإدراك بجامعة ولاية نيوجيرسي، والثاني بروفيسور الفلسفة وعلم الإدراك بجامعة ولاية أريزونا، والاثنان ملحدان، وقد بدأ أولهما بالتشكيك في حقيقة وجود خرافة (الانتخاب) الطبيعي وذلك في كتاب [لماذا لا تملك الخنازير أجنحة؟]، والذي تم نشره في معرض الكتاب بلندن عام 2007 م، ثم شارك مع ماسيمو في إصدار الكتاب الصادم للتطوريين [الأمر الذي أخطأ فيه داروين] عام 2011 م.

كيف تناظر ملحدا؟ (212)

وقد كتبا في مقدمة الكتاب يقولان: (هذا ليس كتاباً عن الله، ولا عن التصميم الذكي، ولا عن الخلق. ليس أياً من أحدنا متورطٌ في شيءٍ من ذلك.. لقد رأينا أنه من المستحسن أن نوضح هذا منذ البداية، لأن رأينا الأساسي فيما سيأتي يقضي بأن هناك خطأ ما ـ وربما خطأ لدرجة قاتلة ـ في نظرية الانتخاب الطبيعي)

وهذا يدل على أن أكبر الانتقادات الموجهة لخرافات التطور وآلياته الخيالية وغير العلمية هي من أشخاص ملحدين أو لا أدريين أو لادينيين فضلا عن أن يكونوا تطوريين من قبل أن يرجعوا لصوابهم وعقلهم.

ومنهم [جوب مارتين]، وهو أستاذ أحياء متخصص وتطوري سابق، وقد حكى قصته عن الخنفساء المدفعية الشهيرة وتعقيدها غير القابل للاختزال: وكيف أن مناقشاته مع الطلبة كانت سببا في إعادة تفكيره في هذه الاستحالات التطورية الكثيرة التي لا وزن علمي لها إلا الخرافة والتلقين والوهم بصحتها.

ومنهم [فيليب جونسون]، وهو متخصص في القانون، وكان ملحدا وتطوريا، ولكنه أفاق بدوره على كتاب (التطور نظرية في أزمة) لمايكل دانتون، وبدأ في التوسع في القراءة ومتابعة آخر الأخبار العلمية إلى أن تيقن تماما من خرافات التطور وأنها لا تعدو تزييفات وتكهنات خيالية لا يدعمها أي دليل عقلي أو علمي تجريبي صحيح، وعلى إثر هذا صار من أشهر مَن ينتقدون خرافات التطور في أمريكا بل كان يخوض مناظرات بنفسه مع تطوريين ويهزمهم، ومن مؤلفاته في هذا المجال (هزيمة الداروينية: كتاب عن مناظرة)، و(هزيمة الداروينية بعقول مفتوحة)، و(محاكمة داروين)، وهو من أشهر كتبه، و(كتاب عن الاعتراضات الوجيهة للتطور وأشياء أخرى)

هذه بعض النماذج عن المعارضين للتطور، وما كتبوه في انتقادها، ويمكن الاستفادة منها في الردود على هذه النظرية، وبيان تهافتها.. وكل ما ذكرناه من مناظرات ونحوها موجودة على

كيف تناظر ملحدا؟ (213)

النت، ويمكن الوصول إليها بسهولة.

2 ـ التصميم الذكي

وهي نظرية نشأت في مواجهة نظرية التطور (1)، وتحاول تفسير نشأة الأنواع الحية تفسيرا علميا بعيدا عن كل أنواع الأيديولوجيا والتفكير الغرضي، وهي تتبنى توجهاً مناهضاً للدور العشوائي اللاغائي الذي تعطيه نظرية التطور للطبيعة، باعتبارها أداة فاعلة في الخلق..

وهي لأجل ذلك تواجه دعاوى التطوريين عن وجود عيوب في تصميم الأنواع الحية؛ لكونها تطورت بعضها من بعض، فنشأت العيوب نتيجة السمكرة وإعادة التخليق، وهي لذلك لا تعترف بوجود أعضاء بلا وظيفة، أو أعضاء غيّرت وظيفتها عبر المشوار التطوري.

وهي ترى في الأنظمة الحيوية تعقيدات وظيفية متخصصة، وتعقيدات غير قابلة للاختزال، ومن ثم تعجز الرؤية التطورية التدرجية التراكمية عن تفسيرها.

وهي تحصر دورها في وصف حقيقة الحياة كما هي، وتزيل عنها الرؤية التطورية الخرافية.. وترى كل نوع من الأنواع عالما قائما بذاته، لم يتطور من غيره، ولم ينشأ عنه.. وهي لذلك تفسر خلق الأنواع الحية بكونها تمت من قِبل مصمم ذكي، ولا تسمي اسم ذلك المصمم ليجتمع فيها جميع الأديان المؤمنة بوجود مصمم ذكي بغض النظر عن اسمه وصفاته وحقيقته، وهذا ما يفرقها عن النظريات الدينية.

وهي لا تتبنى رؤية دينية معينة لسببين.. أولهما أن ذلك سيبعدها عن أداء دورها المرتبط بمواجهة أيقونات التطور وكهنته.. والثاني هو أن تحديد المصمم بدقة وعلمية أمر يخرج عن قدرة العلم.. ولذلك ترى هذه النظرية أن الخلق الخاص لكل نوع حي يتناسب كفرضية تفسيرية مع التصميم الذكي، بينما التطور التدريجي للأنواع الحية بعضها من بعض لا يتواءم

__________

(1) انظر مقالا مهما بعنوان: اتجاهات في تفسير التنوع الحيوي، منى زيتون.

كيف تناظر ملحدا؟ (214)

مع التصميم.

ودورها يتعدى تقديم تفسير لنشوء الأنواع الحية، وهي الحدود التي تتناولها نظرية التطور؛ بل إنها تضيف إلى ذلك تفسيراً لنشأة الكون ككل، يُستدل عليه من خلال التوافق الدقيق للكون.

وقد تعرض أصحاب هذه النظرية لمضايقات كثيرة من طرف التطوريين؛ فمنذ بدأت حركة التصميم الذكي، والتطوريون يشيعون عن أصحابها أنهم [خَلْقَوِيُّون]، مع أن المنضمين إلى هذه الحركة والمؤسسات التابعة لها ليسوا كذلك جميعا.. فبعضهم دينيون مع اختلاف دياناتهم.. وبعضهم لا أدريون.. بل إن بعضهم ملاحدة.

ومن أقطاب هذه النظرية البروفيسور [دين كينيون]، وهو من أوائل المؤسسين لهذه الحركة، وأحد المشاركين في وضع نموذج شهير لتفسير نشأة البروتين في بدء الخلق من خلال الأُلفة الكيميائية للأحماض الأمينية، بعد أن تراجع عن نموذجه واعترف بعدم وجود قيمة تفسيرية له.

ومنهم البروفيسور [أنتوني فلو]، الذي قضى عمره في الإلحاد، ثم عاد عنه وصنّف كتاب [هناك إله] الذي أعلن فيه تراجعه عن إلحاده، وانضم إلى حركة التصميم الذكي..

ومنهم الدكتور البيولوجي [هنري جي] المُحرر بمجلة نيتشر التطورية الشهيرة، وذلك في كتابه [البحث في أعماق الزمن]، والذي علق على الاستشهاد ببضعة عظام لا تملأ صندوقا صغير على تطور الإنسان أو غيره ـ مع كونه من التطوريين ـ: (إن أخذ سلالة من الأحافير وادعاء أنها تمثل خطاً تكاثرياً لا يعتبر فرضية علمية قابلة للاختبار، وإنما هو تأكيد على قصة تحمل نفس قيمة القصص التي تروى قبل النوم ـ ربما مفيدة.. ولكن ليست علمية)

ومنهم [جيري فودور]، وهو بروفيسور الفلسفة وعلم الإدراك بجامعة ولاية نيوجيرسي، والذي كتبت كتابه في التشكيك في حقيقة وجود خرافة الانتخاب الطبيعي مع

كيف تناظر ملحدا؟ (215)

كونه كان حينها ملحدا، وذلك في كتابه [لماذا لا تملك الخنازير أجنحة؟]

وسنذكر هنا نماذج مختصرة عن بعض طروحات هذا الفريق العلمي المواجه لنظرية التطور:

أ ـ التعقيد المتخصص

ولإيضاح مرادهم من هذا المصطلح، نذكر هذا المثال التقريبي، وهو أنه عندما نرى أحد أحرف الأبجدية لوحده، فإننا نذكر أنه متخصص دون كونه تعقيداً.. لكننا عندما نرى جملة طويلة من الأحرف العشوائية، فإننا حينها نصفها بكونها تعقيدا.. ولكن ليس متخصصاً.. لكن عندما نرى قصيدة لشكسبير حينها نقول: إنها [تعقيد متخصص]

وبناء على هذا؛ فإننا عندما ندقق النظر في تفاصيل الكائنات الحية نجدها جميعا في غاية التعقيد والتخصص للدرجة التي لايمكن فيها اعتبارها وجدت هكذا صدفة.. وقد وجدت ببعض العمليات الرياضية المعقدة أن أي شيء احتمال حدوثه في الطبيعة أقل من 1 من 10150 يعتبر من هذا النوع.. ويعتبر في نفس الوقت من الأمور التي يستحيل في حقها أن تكون صدفة.

أما علاقة هذا بنظرية التطور.. وكيف يتسبب في هدمها، فواضح جدا، ذلك أن كل شيء في الحياة، بل في الكون من هذا النوع.. فالتعقيدات المتخصصة دليل لايقبل الشك على وجود مصمم ذكي قد تحكم بإنشاء هذه التعقيدات، وهذا ماينقض نظرية التطور التي تعتبر أن الكائنات قد تكونت بمحض الصدفة.

والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.. ومنها مثلا تصميم النظام الميكانيكي للمخلوقات.. فهو تصميم في غاية التعقيد والتخصص لدرجة لا يمكن تصورها، ذلك أنه غالباً ما يكون تصميم الأنظمة المتحركة أكثر تحدياً للمصممين من الأنظمة البنيوية الثابتة.

وكمثال على ذلك أننا نرى المشاكل التي تظهر في المثقب اليدوي أكبر بكثير من تلك التي يمكن أن تنتج عن الإبريق، ذلك لأن الأولى تعمل على أساس ميكانيكي، بينما يقوم الثاني

كيف تناظر ملحدا؟ (216)

على مبدأ الشكل الفيزيائي، والتصاميم العملية تميل لأن تكون أكثر تعقيداً.

وسب بذلك هو أن كل عنصر من عناصر التصميم يؤدي هدفاً معيناً.. وغياب أو تعطّل أيٍّ من هذه العناصر يؤدي إلى عجز النظام عن العمل في عنصر واحد يجعل النظام عديم الفائدة.

ولأجل هذا نرى نهاية الكثير من هذه التصاميم مملوءة بالعيوب والأخطاء.. لكن ذلك لا يصدق إلا على الأنظمة التي يصممها الإنسان، حيث نرى فيها أخطاء أكبر بكثير مما يمكن تصديقه، لأن معظم هذه التصاميم أنجزت عن طريق التجربة والخطأ، على الرغم من أن بعض الأعطال يمكن تجنبها في الطور البدائي الذي يسبق إدخال المنتج إلى الأسواق، إلا أنه يبقى من المستحيل تلافي جميع الأخطاء.. ومع ذلك لم يزعم أحد من الناس أن أي تصميم صممه الإنسان وجد هكذا صدفة.

أما عندما ننظر إلى جميع الأنظمة الميكانيكية في الطبيعة، فإننا نراها ترقى إلى درجة الكمال.. فجميع المخلوقات مصممة بإتقان محكم لا يمكن تصور مدى دقته.

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك جمجمة نقار الخشب.. فهي مصممة بإتقان بديع لا يمكن تصور مدى دقته وتعقيده وغائيته؛ فنقار الخشب يتغذى على الحشرات واليرقات التي تختفي في جذوع الأشجار، ويستخرجها عن طريق النقر.. حيث يستطيع أن ينقر ما بين تسع إلى عشر نقرات في الثانية الواحدة، ويزداد هذا العدد ليصل إلى ما بين 15 ـ 20 عند الأنواع الأصغر حجماً، ومنها نقار الخشب الأخضر.. وتصل سرعة عمله إلى 100 كم/سا.. أما الزمن الفاصل بين النقرة والأخرى فهو أقل من 1/ 1000 من الثانية.

والصدمة التي تنتج عن هذه الطرقات المتتالية لا تختلف عن تلك التي يسببها ضرب الرأس في حائط إسمنتي، إلا أن التصميم المعجِز لدماغ نقار الخشب يجنبه التعرض لأي نوع من الإصابة.

كيف تناظر ملحدا؟ (217)

ولذلك كانت جمجمة نقار الخشب تتميز عن سائر الطيور في هذه الناحية.. فعظام الجمجمة تتصل عند معظم الطيور ببعضها، ويعمل المنقار مع حركة الفك السفلي إلا أن منقار وجمجمة طائر نقار الخشب منفصلان عن بعضهما بأنسجة إسفنجية تمتص الصدمات الناتجة عن عملية النقر.. بل إن هذه المادة المرنة تؤدي عملها بشكل أفضل من ماص الصدمات في السيارات.. وجودة هذه المادة تأتي من قدرتها على امتصاص الصدمات المتتالية بفواصل قصيرة جداً واستعادتها لحالتها الطبيعية على الفور، وهي تفوق بجودتها المواد التي أفرزتها التكنولوجيا الحديثة بأشواط.

حيث أن هذه العملية تكتمل حتى في حالات أداء الطائر عشر طرقات في الثانية، وفصل المنقار عن الجمجمة بهذه الطريقة الخارقة تسمح للحجرة التي تحمل دماغ الطائر بالحركة بعيداً عن المنقار العلوي أثناء عملية النقر، وهكذا تكون وتتشكل آلية ثانية في امتصاص الصدمات.

ب ـ التعقيدات غير القابلة للاختزال

ولإيضاح مرادهم من هذا المصطلح (1)، نذكر هذا المثال التقريبي، وهو عن مصيدة الفئران؛ فهي ـ كما نعلم ـ مؤلفة من عدة أجزاء.. مؤلفة من قطعة خشبية، ومن نابض، ومن ملقط معدني، ومن قطعة جبن.. وعندما نزيل أي جزءٍ منها، فإن باقي الأجزاء لا قيمة لها على الإطلاق، فلن تعمل المصيدة إلا بوجود كامل أجزائها مجتمعةً مع بعضها في أماكنها.. ومثل ذلك القوس الحجري، فإننا إذا قمنا بإزالة أيّ حجرٍ منه، فسينهار تماماً.. وبذلك فإن القوس والمصيدة أنظمة غير قابلة للاختزال.

وهذا هو الحال مع الكائنات الحية.. فالأنظمة المعقدة لا يمكن أن تعمل عند إزالة أحد أجزائها، ولذا لا يمكن لهذه الأنظمة أن تكون قد تشكلت بالتطور التدريجي، بل إنها لا بد أن

__________

(1) انظر: مقالا بعنوان: ما هو التعقيد الغير قابل للإختزال؟، د. أحمد إبراهيم.

كيف تناظر ملحدا؟ (218)

تكون قد وجِدَت كما هي بشكلٍ فوريّ لا على مراحل، والكائن الحي مثالٌ على هذه الأنظمة.

أما علاقة هذا بنظرية التطور.. وكيف يتسبب في هدمها، فواضح جدا، ذلك أن نظرية التطور تخبرنا أن الكائنات الحية معقدة التركيب الموجودة اليوم قد تطورت عن كائناتٍ أخرى أقل تعقيداً، وبما أن تعقيد الكائنات الحية يزداد عن طريق إضافة أجزاء أو وظائف أخرى إليها عن طريق الطفرات مثلاً؛ فبناءً عليه يمكن أن يقال: كما أن الكائنات تطورت بإضافة أجزاء ووظائف جديدة، فإنه نظرياً يجب أن نتمكن من العودة خطوةً إلى الوراء في المسار التطوري بأن نزيل الجزء المضاف، ويجب على الكائن الحي عندها أن يبقى قادراً على القيام بمهامه الحيوية.

فإذا كانت الرئتان قد ظهرتا مثلاً عندما خرجت السمكة الرئوية من الماء، يجب أن يكون صحيحاً أننا إذا أزلنا رئتي السمكة ستصبح أقل تعقيداً لكن قادرةً على الحياة والقيام بالوظائف الحيوية كما كانت قبل ظهورهما! وبما أن هذا لا يحدث، فإن هذا يؤدي بالضرورة إلى أن نظرية التطور ليست صحيحة.

وكذلك؛ فإنه إذا كانت نظرية التطور مبنية على تصور أن هذه الوظائف المعقدة الموجودة فى الكائنات الحية جاءت بشكل تدريجى عبر بلايين السنين، وأنه تم انتخاب كل شيء صالح أثناء هذه الفترة فتراكمت هذه الصلاحيات حتى وصلت إلى هذا التعقيد الذى نشاهده، والذى يقوم بكل هذه الوظائف الحيوية فى الكائنات الحية فلاشك أن هذا التصور ينهار إذا وجدنا فى الكائنات الحية وظائف غير قابلة للاختزال.

وهذا ما أقر به داروين نفسه فى كتابه أصل الأنواع حيث قال: (إذا كان من الممكن إثبات وجود أي عضو معقد لا يرجح أن يكون قد تكون عن طريق تحولات عديدة ومتوالية وطفيفة، فسوف تنهار نظريتي انهيارا كاملا)

ومعنى أن هذا العضو معقد تعقيد غير قابل للاختزال أى أن الوظيفة التى يقوم بها لا

كيف تناظر ملحدا؟ (219)

وجود لها قبل أن تجتمع كل الأجزاء التى يتكون منها هذا الشيء.. وأنه لو فقد ولو جزء واحد من المكونات لتلاشت الوظيفة بالكلية.

ومثل ذلك الأجهزة الحديثة المعقدة التى لو قطعت منها أي سلك، أو أخرجت منها جزءا صغيرا، فإنها تفسد بالكلية.. ذلك أن هذه الأجهزة لا يمكن تصور تكونها بشكل تدريجى، نتيجة تراكم الصلاحيات والمنافع التى يمكن تحصيلها من أشكال منها أولية التركيب.

ومن الأمثلة على ذلك المصعد الكهربائى، فوظيفته حمل الناس من الأدوار العلوية إلى السفلية أو العكس، وهذه الوظيفة لا يمكن تحقيقها قبل أن تجتمع كل أجزاء المصعد من أسلاك وأحبال ومحركات والصندوق الكبير الذى يدخله الناس، ويكون كل شيء من هذه الأشياء فى موضعه بالضبط، وموصلا بمصدر الطاقة.. وكل هذا يجب أن يحدث أولا قبل أن يتحرك المصعد سنتيمترا واحدا.

أما لو أحضرنا ربع المكونات الأساسية للمصعد أو نصفها مثلا، فلن نتمكن من استخدام المصعد لطابقين أو ثلاثة حتى نكمل باقى الأجزاء الناقصة، ولذلك كان هذا تعقيدا غير قابل للاختزال، ولا يمكن تكونه بشكل عشوائى بدون علم ولا حكمة ولا غاية.

فى حين أن العضو أو الشيء المعقد تعقيدا يمكن اختزاله لا يحتاج إلى مصمم، ويمكن أن يتكون بالصدفة وتراكم صلاحيات أجزائه، لأن كل جزء من أجزائه يحمل نفس الوظيفة التى يحملها هذا التعقيد المختزل في النهاية لكن بمقدرا أقل، وإلا لما وجد الانتخاب الطبيعى سببا لانتخاب تلك الأجزاء والتدريج يفيد فقط فى زيادة مقدرا الوظيفة.

وبالمقارنة مع مثال المصعد الكهربائى نجد الدرج قابلا للاختزال، ذلك أنه إذا كان عندنا درجة واحدة فقد حققت منفعة لأنها سترفعنا بمقدار ارتفاع هذه الدرجة من درجات الدرج، ولو أحضرنا ربع عدد درجات الدرج المطلوب لمبنى مكون من عشرة طوابق لانتفعنا

كيف تناظر ملحدا؟ (220)

بها ولاستطعنا الصعود والهبوط عليها إلى طابقين أو ثلاثة.. بخلاف المصعد الذى لا يمكن الإنتفاع به بأى نفع إلا بعد اكتمال كل أجزائه.

وبذلك، فإن طريقة الدرج هى التى تتبناها الداروينية فى تحصيل المنافع بشكل تدريجى بسيط لتحقيق الوظائف المطلوبة، وهي تنهار إذا لم تستطع تعميم هذا الأسلوب على كل الوظائف الموجودة فى الكائنات الحية.

والأمثلة عن الوظائف الحيوية المتصفة بهذا الوصف لا يمكن حصرها.. ومن أمثلتها السوط البكتيرى، وتخثر الدم، وتشفير الحمض النووي، وتنظيم الجهاز المناعى، وغير ذلك كثير.

ونحب أن ننبه إلى أن التطور الهائل لعلم الكيماء الحيوية منذ أواسط القرن الماضي وحتى اليوم يصب في خدمة نظرية التصميم الذكي، وخصوصا في خدمة التعقيدات غير القابلة للاختزال (1).

ذلك أن أنه أدى إلى تغير جذري في معرفة العلم والطب بما يجري في جسم الإنسان، وبالذات في مقومات الحياة، فقد تبين للعلماء وبوضوح قاطع لا لبس فيه، أن حياة أي كائن حي، قائمة على عدد يصعب حصره من الآلات والأجهزة التي تعمل بشكل متكامل ومتزامن.. ولو توقف أي منها عن العمل لكان لها تأثيرات قد تكون مميتة على حياة الكائن الحي.

وهذه الآلات ليست مصنوعة من معادن وأخشاب وغيرها من المواد التي نعرفها، ولكنها مصنوعة من جزيئات كيميائية، تقوم بكل ما يخطر وما لا يخطر على البال من أعمال،

__________

(1) انظر: تطور الكيمياء الحيوية يهدم نظرية دارون، مقالة نشرت في العدد 89 (نيسان 2015) من مجلة التقدم العلمي الكويتية.

كيف تناظر ملحدا؟ (221)

وتتحكم بكل ما يجري في الكائن الحي من مهام.

فهي تحمل المواد، وتنقلها، ثم تفرغ حمولتها في المكان المناسب، وتنسخ الخلايا وتعطيها شكلها ولونها، وتنقل صفات الكائن الحي لذريته وتدافع عنه ضد الأعداء، وتولد التيار الكهربائي وتنقله وترسله إلى الأماكن المطلوبة وتقطعه عندما تنتهي مهمته، ولو عددنا كل ذلك بتفصيل لما انتهينا.

وقد كان هذا التغير في المعرفة أحد المعاول الكبرى التي ساهمت مع غيرها في هدم نظرية التطور، ذلك أنه من المعروف أن نظرية داروين تقوم على أسس ثلاثة.. أولها أن الكائنات لها أصل مشترك.. والثاني أن الاختلاف والتنوع والتعقيد الذي نراه في الكائنات هو نتيجة طفرات عشوائية كانت تحدث للكائنات على مر الملايين من السنين، وأن تراكم هذه الطفرات كان يؤدي إلى تغيرات في الكائنات الحية.. وثالثا الاصطفاء الطبيعي، الذي ينتقي من الكائنات ما تؤدي طفراته المتراكمة إلى تحسن في نوعه، فيبقى ويتكاثر وينقل صفاته المحسنة الجديدة إلى ذريته، في حين ينقرض الكائن الأضعف أو ذو الصفات الأدنى.

لكن اكتشاف العمليات البيولوجية المتسلسلة والمعقدة، والتي لا تكاد تحصى، والموجودة في الخلايا الحية، كان أحد أهم عوامل انهيار مبدأ تراكم الطفرات، وبالتالي انهيار النظرية من أساسها.

كيف تناظر ملحدا؟ (222)

الإلحاد.. والتحرر النفسي

الظاهرة التي تجمع الكثير من الملاحدة، وخصوصا [الوجوديون] منهم هي تصورهم أن وجود الله يلغي وجودهم، ولذلك يضعون أنفسهم بين خيارين: إما الإيمان بالله.. وإما الإيمان بأنفسهم.. أو بعبارة أخرى: إما عبودية الله، أو عبودية الأهواء التي تمليها عليهم نفوسهم.

وقد عبر عن هذا المعنى كل الملاحدة، وخصوصا الوجوديون منهم، ومنهم [جان بول سارتر (1)] الذي استعمل كل الوسائل لبث مثل هذه الأفكار الخطيرة، والتي عبر عنها بقوله: (مرة واحدة شعرت بأن الله موجود حين كنت ألعب بعيدان الكبريت، وأحرقت سجادة صغيرة، وفيما كنت أخفي جرمي أبصرني الله فجأة.. لقد شعرت بنظراته داخل رأسي.. أحسُ أنني مرئي منه بشكل فظيع، وشعرت بأنني هدف حي للرماية، ولكن الإستنكار أنقذني، فقد اغتظت لفضوله المبتذل، لهذا رفضته وجدفت عليه فلم ينظر إليَّ أبدًا فيما بعد) (2)

وقال: (إذا انفجرت الحربة مرة أخرى في روح الإنسان، لم يبق للآلهة على هذا الإنسان

__________

(1) جان بول سارتر (1905 - 1980) فيلسوف وروائي وكاتب مسرحي كاتب سيناريو وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي.. من مؤلفاته: الوجود والعدم (1943) والكتاب المختصر الوجودية مذهب إنسانى (1945) أو نقد العقل الجدلي (1960) وأيضا النصوص الأدبية في مجموعة القصص القصيرة مثل الحائط أو رواياته مثل الغثيان (1938) والثلاثية طرق الحرية (1945). كتب سارتر أيضا في المسرح مثل الذباب (1943) والغرفة المغلقة (1944) والعاهرة الفاضلة (1946) والشيطان والله الصالح (1951) ومساجين ألتونا (1959)، وغيرها.

(2) نقلا عن: القس أنجيلوس جرجس، وجود الله وصور الإلحاد 85.

كيف تناظر ملحدا؟ (223)

أي سلطة)، وقال: (إذا كان الله موجودًا فالإنسان عدم)، وقال: (إن وجود الله يعطل وجودي أنا، فالأفضل أن لا يكون الله موجودًا حتى أوجد أنا).. وقلت كلاما كثيرا غير هذا لا أذكره الآن.

وقال في مسرحية [الشيطان والإله الطيب]: (لم يكن هناك غيري، لقد قررت وحدي الشر، ووحدي اخترعت الخير، أنا الذي عشت، أنا الذي أفعل المعجزات، أنا الذين أتهم نفسي، وأنا وحدي من أستطيع الغفران لنفسي، أنا الإنسان، إذا كان الله موجودًا فإن الإنسان هو العدم) (1)

ومثل سارتر نرى [فويرباخ] الذي قال: (إن نقطة التحول الكبرى في التاريخ ستكون في اللحظة التي سيعنى فيها الإنسان إن الإله الوحيد هو الإنسان نفسه)، وقال: (الإنسان الذي يؤمن بالله لا يؤمن بنفسه، فالله هو الإنسانية لا أكثر ولا أقل، والدين يجب أن يموت، فيقوم على أنقاضه عالم على مقاييس الإنسان، الذي يلزمه أن يكون إله نفسه) (2)

ومثلهما [إيتان بورن] الذي قال: (يجب ألا يكون الله، حتى يكون الإنسان)

ومثلهم جميعا [باكونين] الذي قال: (إذا كان الله موجودًا فلست بحر، أنا حر فالله إذا غير موجود)، وقال: (تتألف حرية الإنسان من مُجرد التالي: أن يُطيع قوانين الطبيعة لأنه أدركها بنفسه على هذا النحو، وليس لأنها فُرضت عليه بواسطة سلطة خارجية، بشرية أو إلهية، جماعية أو فردية)، وقال: (تتضمن فكرة الإله التخلي عن العقل والعدالة، إنها النفي الأكثر حسماً للحرية الإنسانية. وتنتهي بالضرورة إلى إستعباد الجنس البشري في كل من النظرية

__________

(1) الشيطان والإله الطيب ص 131.

(2) انظر: رحلة في قلب الإلحاد.

كيف تناظر ملحدا؟ (224)

والتطبيق) (1)

وهذه الكلمات وغيرها كثير تعبر عن حقيقة الإلحاد، وكونه قائما عن رغبة نفسية، لا عن حجة عقلية.. فالملحد لا يلحد لكون أدلة الإيمان لم تقنعه، أو لكونه يحمل أدلة الإلحاد، وإنما لشعوره بأن للإيمان أثره الكبير على حياته وسلوكه وعلاقاته، ويرى أن وجود الله سيحد من وجوده، ولذلك يلجأ إلى إعدم الله حتى يظل موجودا.

وموقفهم هذا ليس خاصا بالله، بل بكل شيء، ذلك أن الأنانية التي يسمونها حرية هي المتحكمة في كل سلوكاته وعلاقاتهم، وقد ذكر سارتر في بعض كتبه أنه عندما توفي والده هنأ نفسه بموته، لشعوره بتحرره منه، وقد قال في ذلك: (لو كان أبي حيًا لكان تمدَّد عليَّ بملء قامته وسحقني، ولحسن حظي مات أبي عندما كنت صغيرًا.. إن موت جان باتسيت (والده) كان الحدث الأهم في حياتي، لقد أعاد إليَّ حريتي) (2)

وهكذا كان ينظر بعين الريبة للذين يبدون له مودتهم ومحبتهم، فقد كان يقول عنهم: (إننا منذ الآونة التي نشعر فيها بأن إنسانًا آخر ينظر إلينا، إنما نشعر أيضًا بأن الآخر يسلبنا عالمنا على نحو من الأنحاء، هذا العالم الذي كنا نمتلكه وحدنا حتى هذه اللحظة)، وقال: (إنني ابتداءً من الآونة التي أشعر فيها أن أحدًا ينظر إليّ، أشعر أنني سلبت عن طريق نظر الآخر الموجه إليّ وإلى العالم، إنّ العلاقة بيننا وبين الآخرين هي التي تخلق شقاءنا)

بل عبر عن ذلك بعبارة فجة غليظة؛ فقال: (إن الآخرين هم الجحيم)

من خلال هذه الاقتباسات يمكننا التعرف على نفسية الملحد، حتى نعرف كيف نناقشه؛ فأكثر الملاحدة لم يدرسوا علوما، ولا فلسفات، ولا علاقة لهم بالمنطق والجدل، وإنما هم

__________

(1) انظر هذه النصوص وغيرها كثير في كتاب [ما قاله الملاحدة ولم يسجله التاريخ]

(2) الإلحاد.. نشأته وتطوُّره ج 1 ص 169.

كيف تناظر ملحدا؟ (225)

أصحاب نفوس شهوانية، يتصورون أنهم ما خلقوا في الحياة إلا ليمارسوا ما تهفو إليه غرائزهم، ولذلك يقاومون كل من يتصورون أنه يقف دون حريتهم ورحية غرائزهم.

ولذلك نرى الوجودية ـ التي هم بنت الإلحاد وأمه ـ تتصور الوجود وجودا سخيفا بلا غاية.. وجودا في عالم لا معقول.. والإنسان فيه لا يعرف من أين أتى، ولا إلى أين هو ذاهب، فهو بمثابة لقيط في مكان موحش، هو الطبيعة، لا يجد حوله أبًا ولا أمًا، وليس له ما يعتمد عليه إلا نفسه، وكل ما يعرفه عن وجوده هو أنه محكوم ومُسيَّر (1).

وترى الحياة كذلك كلها صراعا بين النفس والعالم، ذلك أنها تتوهم أن كل شيء يريد أن يسلب من الإنسان حريته، وقد قال سارتر في كتابه [الوجود والعدم]، والذي دعا فيه إلى الفلسفة الوجودية، مختصرا الوجود في كونه ليس سوى (صراع عبثي بين الحريات، فكل حرية تحاول أن تفني الأخرى، حتى تحتفظ باستقلالها السيادي) (2)

وقد طرح هذه الفكرة في [مسرحية الذباب] المشهورة، والتي مثلت كثيرا، وهي تهدف للثورة ضد الله، حتى يستطيع الإنسان أن يعيش حرًا، يفعل كل ما يريد بضمير مستريح، وقد ورد فيها هذا المشهد الذي يخاطب فيه [أوريست] الإله قائلة له: (أنت يا جوبتر ملك الآلهة.. ملك النجوم والحجر.. ملك أمواج البحر.. ولكنك لستَ ملك البشر.. فيرد جوبتر، وهو رمز في المسرحية لله: ألست ملكك أيها الدودة الوقحة؟ من خلقك إذًا؟.. فترد عليه أوريست: أنت. لكن ما كان عليك أن تخلقني حرًا.. فيقول جوبتر: منحتك الحرية لتخدمني.. فترد أوريست: لربما، إلا أنها انقلبت عليك، ولا نستطيع بعد شيئًا، لا أنت ولا أنا.. منذ أن خلقتني لم أعد ملكًا لك.. إنك حتى هذه الساعة كنتُ حجابًا على عيني وسدادًا من الشمع في أذني،

__________

(1) دراسات في علم اللاهوت، القمص بولس عطية بسليوس، ص 265، 266.

(2) ملحدوث محدثون ومعاصرون، د. رمسيس عوض، ص 71.

كيف تناظر ملحدا؟ (226)

خلقتني لأنفذ خططك.. وفجأة انقضت عليَّ الحرية وأتعبتني، وشعرت بنفسي وحيدًا كل الوحدة. ولم يبقَ شيء في السماء من خير أو شر، وما من أحد يلقي إليَّ أوامره.

-\--\-

بناء على هذا كله يحتاج الداعية المواجه للإرهاب إلى استعمال أساليب أخرى غير الأساليب التي شرحناها سابقا، وهي تعتمد أولا على تصحيح تصورات الملاحدة التي يحملونها عن الله، والتي سببها ـ في كثير من الأحيان ـ الأديان المنحرفة، ثم بيان مدى الخسارة التي يخسرونها في حال جحودهم لله، وعدم تسليمهم له، وأولهم نفوسهم التي أرادوا أن يلغوا الله من أجلها.

وبناء على هذا سنذكر في المبحثين التاليين ما يجنيه الملحد من خسائر سواء تعلقت بنفسه التي بين جنبيه، أو بمصيره الأبدي في مقابل ما يجنيه المؤمن من فوائد من ذلك الإيمان سواء لنفسه، أو لمصيره.

أولا ـ الإلحاد.. وخسارة الحقيقة الإنسانية

وقد عبر عن هذا المعنى آيات قرآنية كثيرة، كقوله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15]، فالآية الكريمة تخبر عن قاعدة كونية كبرى، وهي أن الخاسرين الحقيقين هم من خسروا أنفسهم، وسبب خسارتهم لأنفسهم هو خسارتهم لله؛ فالله هو مصدر وجودهم، ومن خسر الله، فلن يبقى لوجوده أي قيمة.

ولذلك نرى الملاحدة يرون كل شيء مثل السراب، لا أهمية له، ولا غاية، ولا قيمة، ولا يروي من العطش، ولا يفيد شيئا.. كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ

كيف تناظر ملحدا؟ (227)

سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]؛ فهذه الآية الكريمة تصور بدقة حال هؤلاء الجاحدين من الملاحدة، فهم يلهثون وراء السراب الذي يتوهمونه ماء، فإذا وصلوا إليه لم يجدوه شيئا، وظلوا على عطشهم وفاقتهم وحاجتهم.. حينها فقط يعلمون أنه لا يمكن أن يروي ظمأهم إلا الله.. وحينذاك فقط يتحول المتواضع منهم إلى الله.. أما المتكبر، فيظل على هواه، ويمتلئ بالتشاؤم والحزن والألم لأنه لم يجد إلا السراب.

ولهذا نرى الكثير من الملاحدة أو اللاأدريين أو أولئك الذين كانوا لا يبالون بالإيمان بالله تحولوا إليه بعد أن عرفوا قيمة الإيمان بالله، وعدم وجود معنى للحياة من دونه.. ومنهم الفيلسوف الألماني الكبير مارتن هايدغر الذي كان يرى أنه لا يمكن البتّ في وجود الله أو عدم وجوده.. لكنه أنهى مساره الفلسفي بمقولته الشهيرة [إنه لا يُخلّصنا إلا إله]

ومنهم عبد الرحمن بدوي، الذي كتب عن [الوجودية] و[الزمن الوجودي]، بل وصفه بعضهم أنه [رائد الوجودية فى الوطن العربي]، لكنه وبعد تلك المسيرة الطويلة، ترك ذلك كله، وتوجه إلى الإيمان، وقد قال في حوارا جرى معه في آخر حياته: (أي عقل ناضج يفكر لا يثبت على حقيقة واحدة.. ولكنه يتساءل ويستفسر ويطرح أسئلته في كل وقت، ويجدد نشاطه باستمرار، ولهذا فأنا في الفترة الحالية أعيش مرحلة القرب من الله تعالى، والتخلي عن كل ما كتبت من قبل، من آراء تتصادم مع العقيدة والشريعة، ومع الادب الملتزم بالحق والخير والجمال) (1)

والأمثلة على ذلك أكثر من أن نعدها أو نحصيها.. فالوجودية ليست قاصرة على الفلاسفة ولا المفكرين، بل هي تعم كل إنسان باحث عن ذاته وحقيقته.. فمنهم من يصل

__________

(1) انظر مقالا بعنوان: في آخر حوار معه الدكتور عبدالرحمن بدوي، نعم.. عدت إلى الإسلام بعد اغتراب ستين عاماً، أجرى الحوار: صلاح حسن رشيد، مجلة الحرس الوطني.

كيف تناظر ملحدا؟ (228)

إليها، ومنهم من يقترب منها، ومنهم من يضل عنها، ومنهم من ينحرف بها..

وبناء على هذا ظهرت الدعوات إلى الإيمان بأي شيء، أو الإيمان لأجل الإيمان، حتى يتخلص الإنسان من عقدة العبث، واللا غاية، التي تجعل الحياة لا قيمة لها.

ومن أمثلة ذلك ما طرحه [وليم جيمس] (1842 ـ 1910)، الفيلسوف البراغماتي المعروف، والذي وضع أربعة قواعد لفهم الحقيقة هي (1):

القناعة والرضا: فمصداقية الفكرة أو القضية عنده تتحدد بمدى تحقيقها للرضا، وهي رهن بما يترتب عليها من إرضاء لحاجات الإنسان البسيطة والمعقدة.

الفائدة والنفع: فالفكرة عنده لا تكون ذات فائدة إلا بقدر ما تزودنا به من الشعور بالراحة والطمأنينة.

التحقق: فمطابقة القضايا في البحث العلمي عنده تحتاج الى مبدأ التحقق في تعزيز صحة تلك القضايا، ذلك أن صحتها ـ كما يرى ـ تكمن في النتائج العملية التي تنبثق عنها.

الاختيار: فالاعتقاد ـ كما يرى ـ يقودنا إلى الأدوات والمناهج المنتجة بالاختيار الذي يأتي نتيجة للخبرات السابقة للإنسان، ونجاحها يعتمد على ماتقدمه من فوائد كبيرة على المدى البعيد.

وبناء على هذا دعا في كتابه [إرادة الاعتقاد] إلى إرادة التسليم بمعتقدات قد لا يبررها العقل، ولكن تبررها المنافع العملية التي تنتج عنها، فهي لا تتضمن إيماناً اعتباطياً لا يميز بين

__________

(1) انظر: مقالا مهما حول الموضوع بعنوان: سيكولوجية الدين عند وليم جيمس، منتهى عبد جاسم، نشره موقع: الحوار المتمدن، العدد: 3352 - 2011/ 5 / 1.. وانظر: البراغماتية، والعقل والدين، لوليم جيمس، والعقل الامريكي يفكر، لشوقي جلال، وقصة الفلسفة الحديثة، لزكي نجيب محمود واحمد امين، ودراسات في الفلسفة المعاصرة، لزكريا إبراهيم.

كيف تناظر ملحدا؟ (229)

الصحيح والفاسد من المعتقدات، بل تتضمن اختياراً حقيقياً ينشأ عن نتيجة لها خطرها.

وقد نص في كتابه ذلك إلى أن الإنسان لابد أن تكون له تجربة دينية، فهو بحاجة للسند الذي يقف لجواره ويشيع الراحة والسلام الداخلي في نفسه، وهو يحتاج لإله يدعم الخير ويحارب الشر.

ويرفض جيمس نظرية اللا أدريين لأنها ضعف وعجز عن اتخاذ القرار، ويرفض قولهم إننا لا يمكن أن نؤمن بشيء ما لم يكن عليه دليل حسي قاطع أو بينة منطقية كافية تتفق عليها العقول، حيث يجيبهم بأنه من حق الإنسان أن يؤمن، من حقه أن يعتقد بالله بسبب عاطفته، مع حقه أن يؤمن بوجود الله لانتفاء الدليل عند المخالف، مع حقه أن يؤمن لأي سبب كان بكل الفروض الدينية وبالأخلاق، لأن هذه الفروض حية وخلاقة ومفيدة.

ولم يحصر جيمس مذهبه هذا في الاعتقاد بوجود الله بل ألحق به مسألة الخلود والحياة ما بعد الموت، لأن مصالح كثيرة ترتبط بذلك.

بناء على هذا، سنحاول أن نذكر هنا بعض المعاني الطيبة التي يخسرها الملاحدة بسبب خسارتهم للإيمان بالله، وكلها مما يدل عليه الواقع، وأشارت إليه النصوص المقدسة، ونقتصر منها على ناحيتين:

1 ـ الإيمان.. وتحقيق السعادة

تعتبر السعادة ـ بإقرار جميع فلاسفة الدنيا، بل جميع بشرها ـ هي الغاية القصوى التي يهدف إليها كل إنسان، وهي تتشكل من معان ومقتضيات كثيرة لا يمكن أن تتحقق بكاملها من دون الإيمان.

فأول مقتضياتها (1)، الأمان النفسي، فلا يمكن أن يسعد الإنسان ما لم يعش الأمان

__________

(1) انظر: أثر الإيمان بالله تعالى في تحقيق الأمن النفسي، د. عبدالرحمن بن معلا اللويحق.

كيف تناظر ملحدا؟ (230)

والسلام، وهما مرتبطان ارتباطا وثيقا بالإيمان بالله، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]

ومن مقتضياتها الحياة الطيبة المطمئنة الخالية من المنغصات النفسية والاضطرابات الروحية؛ ولهذا نجد روح المؤمن هادئة طيبة تعيش منسجمة مع ذاتها ومع محيطها، تحيطها السكينة والأمن، محصنة من عوادي النفس الإمارة بالسوء، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]

ومن مقتضياتها السكون عند حلول المحن التي تطيش بالعقل، فالإيمان بالله وحده من يملك جميع أنواع التسلية والعزاء، وهو يورث هداية للنفس تخرجها من مصيبتها وتهديها للتعاطي الإيجابي مع هذه المصيبة، فتزيدها خيرا على خير، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]

وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) (1)

ومن مقتضياتها الشعور بالسكينة والأنس وراحة البال، وذلك ما يتحقق للمؤمن الذي يشعر أنه في حمى الله تعالى، ومن كان تحت رعاية الله وحفظه لا يضيع، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]، وقال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] وقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3])

__________

(1) رواه مسلم (8/ 227)

كيف تناظر ملحدا؟ (231)

ومن مقتضياتها صلاح البال والقلب والعقل والنفس، ولا يتحقق ذلك إلا بالإيمان، ذلك أن كل هذه اللطائف لا تستقر إلا بالإيمان، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2]، وإصلاح البال يجمع إصلاح الأمور كلها؛ لأن تصرفات الإنسان تأتي على حسب رأيه، فالتوحيد أصل صلاح بال المؤمن، ومنه تنبعث القوى المقاومة للأخطاء والأوهام التي تلبس بها أهل الشرك.

وقد ضرب الله تعالى مثلا يوضح حقيقة العلاقة بين الإيمان وحصول آثاره من راحة القلب وطمأنينة الصدر وطيب النفس وصلاح البال، فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]

ومن مقتضياتها (1) تحقيق البهجة والانشراح والتّفاؤل؛ ذلك أن المؤمن يعرف أنّ الحياة ذات هدف، وأنّ الهدف هو الخير والتكامل والسعادة، وهذا ما يجعله سعيدا مطمئنا، مثل ذلك الذي يعيش في بلد يعتبر قوانينه وأنظمته وتشكيلاته صحيحة وعادلة، ويؤمن أيضًا بصدق نيّة مدراء البلد الأصليّين، ولا بدّ أن يرى مجال السموّ والرقيّ مهيّئًا ولجميع الأفراد الآخرين، ويعتقد بأنّ الشّيء الوحيد الذي يمكن أن يؤدّي إلى تأخيره هو كسله وعدم تجربته هو وأمثاله من المكلّفين المسؤولين.

وفي رأي هذا الشّخص أنّ المسؤول عن التّأخير هو نفسه، لا أنظمة البلد وتشكيلاته، وكلّ نقصٍ موجود جاء من عدم قيامه هو وأمثاله بواجباتهم ومسؤوليّاتهم. وبالطّبع، فإنّ هذه

__________

(1) انظر: التوحيد والعدل في فكر الشهيد مرتضى مطهري، جمعية المعارف الإسلامية الثقافيّة، مركز نون للتأليف والترجمة..

كيف تناظر ملحدا؟ (232)

الفكرة تحرّك فيه الغيرة، وتدفعه إلى الحركة بالتّفاؤل والأمل.

لكنّ الشّخص الذي لا إيمان له في عالم الوجود يشبه شخصًا يعيش في بلد يعتبر قوانين البلد وتشكيلاته ومؤسّساته فاسدة وظالمة، ولا بدّ له من قبولها، فباطن مثل هذا الشّخص مليء بالعقد والحقد، ولا يفكّر بإصلاح نفسه أبدًا، بل يفكّر أنّه لمّا كانت الأرض والسّماء على غير تمهيد، فسائر أنحاء الوجود ظلمٌ وجور وخطأ، وأيّ أثرٍ لصواب ذرّة مثلي؟! ومثل هذا الشّخص لا يلتذّ بالعالم أبدًا. والعالم بالنّسبة إليه كالسّجن الرّهيب، ولهذا يقول القرآن الكريم: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]

وقد عبر بديع الزمان النورسي عن هذا المعنى بواقعة قارن فيها بين الرؤية الإيمانية للوجود، والرؤية الملحدة، فقال: (لقد رأيت في واقعة خيالية أن هناك طودين شامخين متقابلين نصب على قمتيهما جسر عظيم مدهش، وتحته واد عميق سحيق، وأنا واقف على ذلك الجسر والدنيا يخيم عليها ظلام كثيف من كل جانب، فلا يكاد يرى منها شيء، فنظرت إلى يميني فوجدت مقبرة ضخمة تحت جنح ظلمات لا نهاية لها.. ثم نظرت إلى طرفي الأيسر فكأني وجدت أمواج ظلمات عاتية تتدافع فيها الدواهي المذهلة والفواجع العظيمة وكأنها تتأهب للانقضاض. ونظرت إلى أسفل الجسر فتراءت لعيني هوة عميقة لا قرار لها.. كنت لا أملك سوى مصباح يدوي خافت النور، أمام كل هذا الهدير العظيم من الظلمات، فاستخدمته فبدأ لي وضع رهيب، إذ رأيت أسوداً وضواري ووحوشاً وأشباحاً في كل مكان، حتى في نهايات وأطراف الجسر، فتمنيت أن لم أكن أملك هذا المصباح الذي كشف لي كل هذه المخلوقات المخيفة، إذ أنني أينما وجهت نور المصباح شهدت المخاطر المدهشة نفسها) (1)

وقد عبر بذلك المصباح الباهت الضعيف عن رؤيته الذاتية للأشياء، والتي أحالتها في عينيه إلى تلك الصور المفزعة، وهي نفس الرؤية التي يرى بها الملاحدة الأشياء.

__________

(1) الكلمات، النورسي، ص 350.

كيف تناظر ملحدا؟ (233)

ثم ذكر أنه بعد أن استشاط غيظا من مصباحه الضعيف، والتجأ إلى السراج المنير الذي تنكشف به الحقائق، وهو سراج الإيمان رأى أمورا مختلفة تماما؛ فقد (انقشعت تلك الظلمات، وانكشفت وزالت نهائياً، وامتلأ كل مكان وكل جهة بذلك النور وبدت حقيقة كل شيء ناصعة واضحة.. فوجدت أن ذلك الجسر المعلق الرهيب ما هو إلا شارع يمر من سهل منبسط، وتبينت أن تلك المقبرة الهائلة التي رأيتها على جهة اليمنى ليست إلا مجالس ذكر وتهليل وندوة كريمة لطيفة وخدمة جليلة وعبادة سامية تحت إمرة رجال نورانيين في جنائن خضر جميلة تشع بهجة ونوراً، وتبعث في القلب سعادة وسروراً.. أما تلك الأودية السحيقة والدواهي المدهشة والحوادث الغامضة التي رأيتها عن يساري، فلم تكن إلا جبالاً مشجرة خضراء تسر الناظرين، ووراءها مضيف عظيم ومروج رائعة ومتنزه رائع، نعم هكذا رأيت بخيالي، أما تلك المخلوقات المخيفة والوحوش الضارية التي شاهدتها فلم تكن إلا حيوانات أليفة أنيسة) (1)

وبهذا صور النورسي في مثاله هذا حقائق الوجود التي تاه عنها كل ملاحدة الدنيا، فأمضوا حياتهم ممتلئين رعبا.. ناسين أنهم في فنادق الضيافة الإلهية.

وقد فسر بديع الزمان تلك الواقعة، فقال: (فذاكما الجبلان هما: بداية الحياة ومنتهاها، أي هما عالم الأرض وعالم البرزخ، وذلك الجسر هو طريق الحياة، والطريق الأيمن هو الماضي من الزمن، والطريق الأيسر هو المستقبل منه، أما المصباح اليدوي فهو أنانية الإنسان المعتدة بنفسها والمتباهية بما لديها من علم، والتي لا تصغي إلى الوحي السماوي. أما تلك الغيلان والوحوش الكاسرة فهي حوادث العالم العجيبة وموجوداته) (2)

وعلى هذا، فلا الزمان الماضي مقبرة كبيرة واسعة للأموات يسودها الصمت الرهيب، بل تاريخ مفعم بالحيوية والعبادة ونور الإيمان، ولا الموت عدم وفناء، بل بداية لحياة جديدة

__________

(1) الكلمات، النورسي، ص 351.

(2) الكلمات، النورسي، ص 351.

كيف تناظر ملحدا؟ (234)

وعالم آخر، ولا تحمل تغيرات الطبيعة وثوراتها المدمرة الدمار والخراب للبشرية، بل أدوات طيعة بيد القدرة الإلهية يسوقها لحكم ومقاصد خيرة (1).

في مقابل ذلك نرى الملاحدة ممتلئين بكل أنواع الضنك والتشاؤم، كما عبر عن ذلك [شوبنهاور] فيلسوف التشاؤم المعروف.. فقد قال: (حياة الإنسان كلها ليست إلا نضالا مستميتا من أجل البقاء على قيد الحياة مع يقينه الكامل بأنه سيهزم في النهاية).. وقال: (ينبغي أن ندمر في داخلنا، وبكل الأشكال الممكنة، إرادة الحياة، أو الرغبة في الحياة، أو حب الحياة).. وقال: (يُقال أن السماء تحاسبنا بعد الموت على ما فعلنا في الحياة الدنيا.. وأنا أظن أنه بإمكاننا أن نحاسبها أولًا عن المزحة الثقيلة للوجود الذي فُرض علينا من دون أن نعلم لماذا؟ وإلى أي هدف؟)

ومثله قال عالم الأعصاب، والمحلل النفسي النمساوي (فكتور فرنكل): (للكثير من الناس اليوم وسائل للحياة، غير أنهم يفتقدون معنى يعيشون لأجله)

وقد ضرب بديع الزمان النورسي مثالا جيدا قارن فيه بين الرؤية الإيمانية والإلحادية للحياة، وأثرها في تحقيق السعادة، فسربه قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (البقرة:3)، فقال: (ان كنت تريد ان تعرف مدى ما في الايمان من سعادة ونعمة، ومدى ما فيه من لذة وراحة، فاستمع الى هذه الحكاية القصيرة) (2)

ثم ذكر أنه خرج رجلان في سياحة ذات يوم، من أجل الاستجمام والتجارة. فمضى احدهما وكان أنانياً شقياً الى جهة، ومضى الآخر وهو رباني سعيد الى جهة ثانية.

فالاناني المغرور الذي كان متشائماً لقي بلداً في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاءاً وفاقاً على تشاؤمه، حتى انه كان يرى - أينما اتجه - عجزةً مساكين يصرخون ويولولون من ضربات

__________

(1) انظر: الأمثال في رسائل النور، د. الشفيع الماحي أحمد.

(2) الكلمات، الكلمة الثانية.

كيف تناظر ملحدا؟ (235)

ايدي رجال طغاة قساة ومن اعمالهم المدمّرة.

فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من اماكن، حتى اتخذت المملكة كلها في نظره شكل دار مأتم عام. فلم يجد لنفسه علاجاً لحاله المؤلم المظلم غير السُكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعر بحاله، إذ صار كل واحد من اهل هذه المملكة يتراءى له عدواً يتربص به، واجنبياً يتنكر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة ويتامى يبكون بكاءاً يائساً مريراً.

أمّا الآخر الرجل الربّاني العابد لله، والباحث عن الحق، فقد كان ذا أخلاق حسنة بحيث لقي في رحلته مملكة طيّبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال.

فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق. وفي كل طرف سروراً، وفي كل زاوية حبوراً، وفي كل مكان محاريب ذكر. حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقاً صدوقاً وقريباً حبيباً له. ثم يرى ان المملكة كلها تعلن - في حفل التسريح العام - هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء. ويسمع فيهم أيضاً أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز للذين يساقون الى الخدمة والجندية.

فبينما كان ذلك الرجل الاول المتشائم منشغلاً بألمه وآلام الناس كلهم.. كان الثاني السعيد المتفائل مسروراً مع سرور الناس كلهم فرحاً مع فرحهم. فضلاً عن انه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده.

ولدى عودته الى أهله، يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه، وعن أخباره، فيعلم كل شئ عن حاله فيقول له: (يا هذا لقد جننتَ! فان ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك بحيث أصبحتَ تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأن كل تسريح واجازة نهب وسلب. عُد الى رشدك، وطهّر قلبك.. لعل هذا الغشاء النكد ينزاح عن عينيك. وعسى أن تبصر الحقيقة على

كيف تناظر ملحدا؟ (236)

وجهها الأبلج. فإن صاحب هذه المملكة ومالكها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق.. وان مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأم عينيك... لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور)

وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع الى صوابه رويداً رويداً، ويفكر بعقله ويقول متندماً: (نعم لقد اصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر.. ليرضَ الله عنك؛ فلقد انقذتني من جحيم الشقاء)

ثم يفسر المعاني الجليلة التي يحملها هذا المثال، فيقول: (فيا نفسي! اعلمي ان الرجل الاول هو الكافر أو الفاسق الغافل فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام، وجميع الاحياء ايتام يبكون تألماً من ضربات الزوال وصفعات الفراق.. أما الانسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجل وتعتصر بمعصرته.. وأما الموجودات الضخام ـ كالجبال والبحار ـ فهي في حكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة.. وامثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الانسان وضلالته تذيق صاحبها عذاباً معنوياً مريراً.

أما الرجل الثاني، فهو المؤمن الذي يعرف خالقه حق المعرفة ويؤمن به، فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني، وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان، وميدان ابتلاء واختبار الانس والجان.. أما الوفيات كافة ـ من حيوان وانسان ـ فهي اعفاء من الوظائف، وانهاء من الخدمات، فالذين أنهوا وظائف حياتهم، يودّعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنوياً، حيث انهم ينقلون الى عالم آخر غير ذي قلق، خال من اوضار المادة واوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وطوارق الحدثان، لينفسح المجال واسعاً لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم.. اما المواليد كافة ـ من حيوان وانسان ـ فهي سَوقة تجنيد عسكرية، وتسلُّم سلاح، وتسنّم وظائف وواجبات، فكل كائن انما هو موظف وجندي مسرور، ومأمور مستقيم راضٍ قانع... وأما الاصوات المنبعثة والاصداء المرتدة من ارجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسنم الوظائف

كيف تناظر ملحدا؟ (237)

والشروع فيها، أو شكر وتهليل ايذاناً بالانتهاء منها، أو أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته..

فالموجودات كلها ـ في نظر هذا المؤمن ـ خدام مؤنسون، وموظفون أخلاّء، وكتبٌ حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم.. وهكذا يتجلى من ايمانه كثير جداً من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق)

2 ـ الإيمان.. والتحقق بالحقيقة الإنسانية

ذلك أن الملاحدة يتصورون الإنسان بصور ممتلئة بالتشويه، فيقتصرون منه على مقتضيات جسده دون مقتضيات روحه، وبذلك يحولونه إلى مجرد بهيمة ترتع وتمرح، ولا هدف لها، ولا غاية.. وبذلك قد يسعد جسدها، ولكن روحها تظل ممتلئة بالشقاء، في مقابل ذلك نرى المؤمن يعيش بجميع لطائفه ومكوناتها، ويعطيها جميعها ما تتطلبه من حقوق.

ذلك أنه يؤمن أن حقيقته ليست في جسده، وإنما في روحه؛ فالروح هي سبب التكريم الذي حصل له كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر:29)

وعدم معرفتنا بحقيقة الروح لا يعني عدم وجودها، ولا يعني عدم الإمكانية الاستفادة من الطاقات المتاحة لها؛ فقد ظلت البشرية في دهورها جميعا تأكل الفواكه والخضر واللحوم، وهي لا تعرف عناصرها ومركباتها، ومع ذلك ظلت تستفيد منها، بل لا تستطيع أن تعيش من دونها.. وظلت منذ سالف الدهور متثاقلة إلى الأرض منجذبة إليها مع أنها لا تعلم قوانين الجاذبية.. وظلت منذ سالف الدهور والأحقاب تستفيد من الآلات التي جهزت بها من القلب والمعدة والرئتين وغيرها.. من غير أن تعلم من تفاصيل ذلك شيئا.

ولذلك؛ فإن المؤمن لا ينكر الروح لعدم قدرته على رؤيتها أو التعرف عليها، ذلك أنه عندما لا تكون له الوسائل الكافية التي يبحث بها عن الحقائق والماهيات يكتفي بالاستفادة منها وبالاعتراف بها دون أن يحاول بعقله المحدود أو بوسائله المحدودة تخيلها؛ فنحن لا نرى إلا الألوان والأحجام

كيف تناظر ملحدا؟ (238)

والأشكال.. فلذلك لا نستطيع أن نرى ما لم تكن له من هذه الجسوم ما تستطيع مداركنا البسيطة أن تدركه.. ولذلك من العبث أن نبحث فيه.. ولهذا قطع الله عنا الجدل الذي يمكن أن نقع فيه إذا ما أردنا أن نبحث عن حقيقة الروح (1)، فقال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} (الاسراء:85)

ولذلك أمرنا بدل البحث عن الماهية أن نستثمر الطاقات الكبرى التي تتمتع بها أرواحنا في أداء الأمانة التي كلفنا بها، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب:72)

وبناء على هذا ورد في النصوص المقدسة وفي التراث العلمي الإسلامي بيان طاقات الروح، وقدراتها، وكيفية الاستفادة منها، وكيفية تحقيق السعادة لها، وهو ما يستحيل أن نجد مثله عند الملاحدة الذي قصروا الوجود الإنسان على صورته البهيمية المغالية في الحس والكثافة.

وحتى نرى الفرق الكبير بين الرؤية الإيمانية المكرمة للإنسان، ولحقيقته العظيمة، وبين الرؤية المادية الإلحادية القاصرة نذكر بعض ما ذكره علماء النفس المسلمين في هذا الجانب، وهو محل اتفاق بينهم وبين جميع المؤمنين حتى من غير المسلمين، فقد ذكروا أن الوجود الدنيوي

__________

(1) هذا هو السر الذي عزا إليه المحققون من العارفين سر عدم إمكان معرفة الجماهير للروح، وقد تحدث الغزالي عن ذلك عند ذكره للأسرار التي يختص بها المقربون ولا يشاركهم الأكثرون في علمها ويمتنعون عن إفشائها إليهم، فقال القسم الأول: أن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك. وإخفاء سر الروح وكف رسول الله (عن بيانه من هذا القسم فإن حقيقته بما تكل الأفهام عن دركه وتقصر الأوهام عن تصور كنهه. ولا تظنن أن ذلك لم يكن مكشوفاً لرسول الله (فإن من لم يعرف الروح فكأنه لم يعرف نفسه ومن لم يعرف نفسه فكيف يعرف ربه سبحانه؟ ولا يبعد أن يكون ذلك مكشوفاً لبعض الأولياء والعلماء وإن لم يكونوا أنبياء ولكنهم يتأدبون بآداب الشرع فيسكتون عما سكت عنه بل في صفات الله عز وجل من الخفايا ما تقصر أفهام الجماهير عن دركه ولم يذكر رسول الله (منها إلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إلى علمهم وقدرتهم إذ كان لهم من الأوصاف ما يسمى علماً وقدرة فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة. ولو ذكر من صفاته ما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء لم يفهموه) (انظر: الإحياء: 1/ 100)

كيف تناظر ملحدا؟ (239)

للإنسان يتطلب وسائل خاصة يتمكن بها الإنسان من السكن على هذه الأرض، كما يتطلب رائد الفضاء لباس خاصا يتناسب مع جو القمر، أو أي جو يريد أن يتعامل معه.

واللباس الذي يتناسب مع هذه الأرض، هو هذا الجسد الترابي، وخصائصه هي نفس خصائص المكونات الحية الموجودة على هذه الأرض، فلذلك صار يفتقر إلى ما يحفظه، وما يدفع عنه الهلاك.

وهذا الحفظ والتعهد يتطلب أعضاء تجلب الغذاء وغيره، وأعضاء تدفع عن النفس الهلاك.

وكل هذه الأعضاء التي سلح بها بدن الإنسان هي الوسائل الأساسية لتحقيق متطلبات الوجود من الغذاء والدفاع، بل ليس هناك جزء من جسد الإنسان لا يقوم بهذا الأمر.

ومع أن أكثر هذه الأعضاء يقوم بهذه الوظائف تلقائيا إلا أن أصل الغذاء والدفاع ركب في الجهاز الإرادي للإنسان فتنة وابتلاء.

فركب في الإنسان جهاز الشهوة الدافع إلى الغذاء والحفاظ على النسل.. كما ركب فيه جهاز الغضب الدافع إلى الحمية والحفاظ على الوجود.. وهذان الجهازان ينتظم تحتهما كل ما تتطلبه النفس من غرائز الوجود، وهما المستعملان لأعضاء البدن في تحقيق متطلبات هذه الغرائز.

قال الغزالي يشرح ضرورة هذه الغرائز: (فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن، وهو الشهوة. وظاهر، وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه، وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات فافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن، وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء. وظاهر، وهو اليد والرجل اللتين بهما يعمل بمقتضى الغضب، وكل ذلك بأمور خارجة؛ فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها) (1)

والأمر إلى هذا المحل تتفق فيه النفس البشرية مع النفس الحيوانية، وليس هناك أي خصوصية للإنسان في هذه الجوانب، وليس هناك أي مجال للمدح أو الذم لما يتعلق بمتطلبات هذه الغرائز.

__________

(1) الإحياء:3/ 5.

كيف تناظر ملحدا؟ (240)

وإنما يبدأ التكليف، وينشأ المدح والذم من غريزة أخرى لها علاقة بهذه الغرائز من جهة، ولها علاقة بسر وجود الإنسان من جهة أخرى، فهي بين بين، وعلى أساس هذه الغريزة تتحدد علاقة الإنسان بنفسه.

وهذه الغريزة هي غريزة الإدراك المزودة بأدوات التعرف على العالم الذي نزلت روح الإنسان إليه.

قال الغزالي مبينا وجه الحاجة إلى هذه الغريزة وعلاقتها بما سبقها من غرائز: (ثم المحتاج إلى الغذاء ما لم يعرف الغذاء لم تنفعه شهوة الغذاء وإلفه، فافتقر للمعرفة إلى جندين: باطن، وهو إدراك السمع والبصر والشم واللمس والذوق، وظاهر، وهو العين والأذن والأنف وغيرها)

وزود بالإضافة إلى هذه الحواس بوسائل التعامل مع المعلومات والمدركات، ويمكن إدراكها بسهوله (فإنّ الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ، ثم يتفكر فيما حفظه فيركب بعض ذلك إلى البعض، ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات؛ ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ)

فهذه هي الغرائز التي يحفظ بها الإنسان وجوده على هذه الأرض ـ والتي ذكرها علماء المسلمين بناء على دراستهم التحليلية للإنسان (1) ـ وربما استفادوا في ذلك من غيرهم.. ولا حرج عليهم في

__________

(1) وضع مكدوغل 14 غريزة، أضاف إليها غرائز أخرى، ومن أهمها غريزة المقاتلة، البحث عن الطعام، التملك، الجنس، الابوة، الراحة، النوم، وقد كان مكدوغل يعبر عن هذه الغرائز بالغرائز الفطرية. إلا أن آراءه هذه لقيت بعض النقد، ومن أهم ما وجه اليها من نقد:

1. تنافي اتجاه الغرائز الفطرية مع الاتجاه العلمي للبحث، وكونها خارجة عن إطار السيطرة والتحكم، اذ أن الغريزة من الأمور الانفعالية.

2. التشكيك في عدد الغرائز المطروحة (بين 14 و36) ويصل العدد، في رأي وليم جيمس، الى مئة غريزة.

3. يرى علماء الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع أن الاختلاف، في سلوك الإنسان، يعود إلى الاختلاف في الثقافة بين مجتمع وآخر، فتنتفي بعض الغرائز عند بعض المجتمعات، كغريزة المقاتلة، مثلا، إذ أن بعض المجتمعات، كالهنود الحمر، في كندا، يتنازلون عن الممتلكات تعبيرا عن الفوز بالمعركة، كان تحدي الانسان لدافع التملك دليل على الفوز.

كيف تناظر ملحدا؟ (241)

ذلك.

والفرق بين الرؤية الإيمانية والرؤية الإلحادية لهذه الغرائز، هي أن الرؤية الإلحادية تعتبرها أصلا وهدفا وغاية، بينما الرؤية الإيمانية تراها مجرد وسائل لحفظ الوجود الإنساني على الأرض، أما الغاية فأكبر بكثير.

وقد ضرب الغزالي مثالا عن حقيقة الإنسان ـ التي هي روحه وسر وجوده ـ وعلاقته ببدنه بملك في مدينته ومملكته، فالبدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها، والجوارح وقواها بمنزلة الصناع والعملة، والقوة العقلية المفكرة كالمشير الناصح والوزير العاقل، والشهوة كالعبد يجلب الطعام إلى المدينة، والغضب والحمية كالحرس والشرطة.

أما العبد الجالب للطعام، والذي يمثل الشهوة، فهو كذاب ماكر مخادع، يتمثل بصورة الناصح، وهو في علاقة عداء تام مع الوزير الناصح حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة.

فإذا كان الوالي في مملكته مستغنياً في تدبيراته بوزيره معرضاً عن إشارة هذا العبد الخبيث، أدبه صاحب شرطته، وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً له مسلطاً من جهته على هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنصاره، حتى يصير العبد مسوساً لا سائساً، ومأموراً مدبَراً لا أميراً مدبِراً.

وفي هذه الحالة يستقيم أمر البلد، وينتظم العدل بسببه.

وهكذا النفس متى استعانت بالعقل، وأدبت بحمية الغضب، وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها.

كيف تناظر ملحدا؟ (242)

وينطبق على من هذا حاله مع نفسه قوله تعالى فيمن لم يخضع لغرائزه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} (النازعات)

أما إن كان خلاف ذلك، وأصبح الحكم في الإنسان هواه وغرائزه، فإنه ينطبق عليه حينها قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)} (الجاثية)

وهذا المثل ينطبق تماما على هذا المثل القرآني الجليل، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} (الأعراف).. فقد اعتبر الله من خضع لغرائزه لتسيره كما تشاء كلبا.. أو لا يختلف عن الكلب..

وكذلك هؤلاء الذين يقولون للناس: (إن هذه هي غرائزكم.. فلا تكبتوها..) هم في الحقيقة يرمونهم كل مرة في هاوية من البهيمية يصعب عليهم الخروج منها، لأن النفس إذا تعودت شيئا أدمنت عليه.. فإذا أدمنت بان لها أنه الأصل.. ثم يأتي هؤلاء المحللون ليضموه إلى غرائز الإنسان.

ولذلك نرى المدمنين على المخدرات كيف يشق عليهم تركها.. ولو خيروا بين تلبية غريزة الطعام وغريزة الأفيون لاختاروا الأفيون.. فهل نترك لهؤلاء المحللين المجال ليفرضوا على الإنسان صاحب الفطرة الأصلية ما يقع فيه ضحايا الغرائز الشاذة؟

وهذه النظرة تجعل المسلم يشعر بأنه صاحب إرادة.. فلذلك لا يستسلم لغرائزه.. وإنما يهذبها لتستقيم مع الفطرة السليمة..

وقد ذكر القرآن الكريم أصناف الناس، وتعاملهم مع غرائزهم.. فذكر الغافلين عن أنفسهم الذين توحد الأنا فيهم بالنفس، فلم يدركوا من وظائف وجودهم غير إرضاء الشهوات والغرائز

كيف تناظر ملحدا؟ (243)

التي وضعت في الأصل لخدمة المطية التي تحملهم، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:19)

والفاسق هو الخارج عن حقيقته المستغرق في شهواته الغافل عن وظيفة وجوده، والآية تنبه إلى أن سر فسوقه هو نسيانه وغفلته عن الله، وفي ذلك إشارة إلى أن معرفة الله هي الأساس والمنطلق الذي ينطلق منه من يريد أن يترقى عن حجاب النفس.

وقد سمى القرآن الكريم هذه النفس بالنفس الأمارة بالسوء، قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء) (يوسف: من الآية 53)

وهي نفس مطمئنة من جهة اطمئنان صاحبها لما هو فيه، فلا تحدثه نفسه بملامة أو عتاب، فهو راض عن حاله، قد كفى الشيطان هم الوسوسة، وكفى نفسه هموم الصراع، فنفسه مستقرة مطمئنة، والقلب مغلف مطبوع.

وفي مقابل هذه النفس نفس أخرى، وهي كذلك نفس مطمئنة، لأنها استسلمت بعد جموحها، وذلت بعد كبريائها، فصاحبها في راحة منها، والشيطان لا يجد مجالا ليدخل إليها، وقد عبر القرآن الكريم عنها بالنفس المطمئنة، فقال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:29 ـ 30)

وهذه هي نفوس الخلاصة من عباد الله من الأنبياء والأولياء والصالحين، وهي المرحلة الأخيرة التي تنتهي إليها المجاهدات، وهي المرحلة الأولى التي تبدأ منها المواهب.

ومثل هذه النفس كالتربة الطيبة التي هذبت وصفيت وأصلحت، ثم بذرت فيها البذور الطيبة، ولا يبقى لها إلا المطر الذي ينزل عليها، فتبسق أشجارها وتطيب ثمارها.

وبين هاتين النفسين ما يسميه القرآن الكريم بالنفس اللوامة، قال تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة:2)

وهذه النفس هي التي تتعامل مع صاحبها، أو يتعامل معها صاحبها كما يتعامل مع شخص

كيف تناظر ملحدا؟ (244)

أجنبي، فهو يلومها ويعاتبها، وقد يضطر لمعاقبتها ومجاهدتها.

وقد ذكر بديع الزمان النورسي مثالا مقربا لهذا، فذكر أنه كان في الحرب العالمية الأولى، جنديان اثنان: أحدهما مدرَّب على مهمته مجدّ في واجبه، والآخر جاهل بوظيفته متّبعٌ هواه.

فكان الأول يهتم الاهتمام كله باوامر التدريب وشؤون الجهاد، ولم يكن يفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، لإدراكه أن رعاية شؤونه وتزويده بالعتاد، بل حتى مداواته اذا مرض إنما هو من واجب الدولة، وأما واجبه هو فالتدّرب على امور الجهاد ليس إلاّ.

وهو مع هذا لا يمتنع من ان يقوم بشؤون التجهيز وبعض الأعمال التي تتطلبها حياته وفي هذه الاثناء لو سُئل: ماذا تفعل؟ لقال: إنما اقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعاً، ولا يجيب: انني اسعى لأجل كسب لوازم العيش.

أما الجندي الآخر، وهو الجاهل بواجباته فلم يكن يبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب، بل كان يقول: ذلك من واجب الدولة، وما لي أنا؟! فيشغل نفسه بامور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها.

قال النورسي معقبا على هذا المثال شارحا له: (أمّا الجنديان الاثنان؛ فأحدهما هو العارف بالله والعامل بالفرائض والمجتنب الكبائر، وهو ذلك المسلم التقي الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.. وأما الآخر: فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد إتهام الرزاق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة العيش أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.. وأما تلك التدريبات والتعليمات، فهي العبادة وفي مقدمتها الصلاة.. وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الانسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والأنس، إنقاذاً لقلبه وروحه معاً من الهلاك الأبدي والخسران المبين)

ثانيا ـ الإلحاد.. وخسارة المصير الأبدي

لا يتألم الملاحدة لشيء كآلامهم لما تذكره الأديان من البعث بعد الموت، وبدء نشأة وحياة

كيف تناظر ملحدا؟ (245)

أخرى جديدة، تتوفر فيها من الكمالات ما لا يتوفر في هذه الحياة الدنيا، وذلك لسببين:

أولهما: أن المؤمنين يجدون عزاء كبيرا في هذا الاعتقاد الذي لا يوفره الإلحاد؛ فالملحد لا يرى إلا الحياة الدنيا، ولذلك لا يرى للحياة معنى، بل يظل متألما متشائما، ممتلئا بالكدورة وإن حاول أن يغطي ذلك ببعض المسكنات والمخدرات الكاذبة.

وثانيهما: أن العلم مهما ارتقى، والكشوفات مهما دقت، فإنها لا يمكن أبدا أن تعتبر ما يذكره المؤمنون كذبا مطلقا، بل يبقى هناك نسبة للقول بصحته، وفي ذلك آلام كبيرة للملاحدة، لأنهم حينها سيخسرون كل شيء.

وسنحاول أن نفصل في كلا المعنيين وموقف الملاحدة والمؤمنين منهما في العنوانين التاليين:

1 ـ الإيمان.. وسلوى المصير الأبدي

لا يتألم الملاحدة لشيء كما يتألمون لذلك التفاؤل والفرح والاستبشار بالمستقبل الذي يجده المؤمنون بالآخرة؛ فهم يتحملون كل عناء وفاقة بصبر عظيم، بل بفرح عظيم، لكونهم يعلمون أن تلك الحال لن تدوم، وأنهم سيعوضون عنها في الآخرة بالعوض الحسن، ولذلك لا ينظرون للموت بتلك النظرة التشاؤمية، وإنما ينظرون إليه باعتباره محطة ضرورية للدخول في عالم السعادة الأبدية.

والملحد لا يستطيع أن يوفر لنفسه هذا العزاء العظيم، فلذلك يحاول أن يبحث عن عزاءت أخرى بديلة، ومن أمثلتها ذلك الذي ورد في حوار بين [دانييل دينيت] (1 و[ريتشارد

__________

(1) هو فيلسوف أمريكي يؤمن بالتوافق بين الإرادة الحرة والحتمية، وهو من أركان الإلحاد الأربعة، وأقلهم شهرة وصيتاً، وصاحب كتاب [الدين كظاهرة طبيعية] الذي نشره في العام 2006 والذي حاول فيه (كما هو واضح من اسمه) أن يشرح نشأة ووجود الدين على أسس علمية وفلسفية.. وقد حقق كتابه هذا حوالي نصف رقم المبيعات الذي حققه كتاب سام هاريس [نهاية الإيمان]

كيف تناظر ملحدا؟ (246)

دوكنز] عام 2008، في سلسلة مقابلات أجراها البيولوجي التطوري لحساب القناة البريطانية الرابعة، وكانت تحمل عنوان [عبقرية تشارلز داروين] (1)، فحينما طلب دوكنز من دينيت أن يخبره بتجربته التي أوشك فيها على الموت؛ وبعد حوار جرى بينهما حول الموضوع، ذكر [دانييل دينيت] أنه مجرد حيوان متطور جاء من العدم مصادفة، ثم رجع إلى العدم الذي أتى منه إلى الأبد.

وعندما سئل عن السبيل إلى الجمع بين التطورية الداروينية المادية الإلحادية وبين إعطاء معنى أسمى لحياة الإنسان ومماته، ذكر أن الطريقة المثلى تأتي على أربع خطوات أساسية كما يلي: (أولاً ـ يتصور الإنسان احتمالية وجوده الضئيلة جدّاً.. ثانياً: يتصور الزمن التطوري المديد.. ثالثاً ـ يتصور عدد الكائنات الحية الهائلة وعدد أنواعها في الكون.. رابعا: يتصور حجم وعمر الكون نفسه!) (2)

فالعزاء الذي يراه الملاحدة، والذي نجده في مواقعهم الكثيرة أنه حال تعرّض الملحد إلى أي مصيبة فإن زعماء الإلحاد يفتونه أن باستطاعته أن يحصل على السلوان من تذكره أولاً أنه محظوظ جدّاً لوجوده أصلاً على قيد الحياة على الرغم من أن احتمالية وجوده تعد ضئيلة جدّاً، ثم عليه أن يُلهي نفسه بالتفكر في أن وجوده على شكله الحالي احتاج إلى مليارات السنوات من

__________

(1) المقابلة موجودة على حساب مؤسسة دوكنز (Richard Dawkins Foundation for Reason كيف تناظر ملحدا؟ ( Science) على اليوتيوب.

(2) من كتاب نظرة خلف الستار: بائعو التشكيك تحت المجهر - سامي أحمد الزين - مركز دلائل - الطبعة الأولى 1437 هـ/2016 م).

كيف تناظر ملحدا؟ (247)

التطور التدريجي البطيء الذي تسبب في النهاية في وجوده ووجود باقي الأحياء؛ وهذا أمر ينبغي أن يُنسي الملحد حزنه على ما يبدو، وأخيراً على الملحد أن يعرف حجمه الحقيقي مقارنة بباقي الكون، وأنه جزء صغير لا يُذكر من عالم حي كبير، وعليه أيضاً أن يتذكر أن هناك مجرات تبعد عنه مسافات تُقدّر بمليارات السنوات الضوئية تقع داخل كون يتجاوز عمره الثلاثة عشر بليون سنة، والمعنى: تفكر في جمال الكون لتنسى همك.

ومن أمثلة العزاءات التي يعتمدها الملاحدة، ويتصورون أنها يمكن أن تعوضهم عن عزاءات المؤمن، ما ذكره بعضهم في مقال له بعنوان [الإلحاد ومعنى الحياة] (1)، فقد قدم الملحد صاحب المقال لذلك بقوله: (إن إحدى أكبر الإعتقادات الخاطئة وأكثرها شيوعا حولنا ـ معشر الملحدين ـ هي الافتراض بأننا نفتقر، أو ليس لدينا أي احترام لقيمة الحياة، سواء أكانت حياة البشر أو الكائنات الأخرى. ولأننا نؤمن بأن الحياة قد نشأت بسبب صدفة عشوائية تولدت من توافر مجموعة مقومات في الطبيعة كانت ملائمة لانبثاق الجيل الأول من الكائنات أحادية الخلية، فإن هذا يُفسّر من قبل الآخرين على أنه اعتراف من الملحدين بأنه لا معنى ولا مغزى للحياة وأنها مجرّدة من أية قيمة، وأنه لا يمكننا نحن الملحدين أن نكتسب أي متعة أو رضا أو سعادة أو شعور بالإنجاز المتأتي من كينونة الحياة كما يفعل الدينيون، وأننا لا نبالي بمعاناة وألم الآخرين، لأنه في نهاية الأمر سيصبح الجميع طعاما تقتات عليه الديدان والبكتريا)

ثم راح يرد على هذا المعنى، لا باعترافه بالحقيقة التي يدل عليها كل شيء، وأولها عقله الذي يفكر به، والذي يجعل من اليوم الآخر ضرورة كبرى، لا يمكن أن يكون للحياة معنى من دونها، بدل ذلك راح يقول: (نعم، الحياة على هذا الكوكب مصادفة محظوظة، مثلها مثل عدد لا يحصى من المصادفات الأخرى المشابهة التي تولد عنها نشوء الحياة في أماكن أخرى من هذا الكون الشاسع. ليس وراء هذه المصادفة أي معنى أو مغزى خاص أو استثنائي - ولماذا

__________

(1) انظر: الإلحاد ومعنى الحياة، ليث البرزنجي، الحوار المتمدن-العدد: 1164 - 2005/ 4 / 11 - 11:15.

كيف تناظر ملحدا؟ (248)

يجب أن يكون؟ فالحياة على كوكب الأرض محصورة بداخل ما يعرف بالمحيط الحيوي الذي يمتد من أعلى نقطة في الغلاف الجوي، على ارتفاع 20 كم فوق سطح البحر، وحتى أعمق نقطة في خندق ماريانا في غرب المحيط الهادي، وهذا المحيط الحيوي في نهاية الأمر ما هو إلا قشرة كروية رقيقة جدا تغطي سطح الكوكب، وذات سمك صغير جدا (31 كم) مقارنة مع نصف قطر الكوكب (6378 كم)! ثم يأتي كوكب الأرض نفسه الذي يشكل، بكل ما عليه، جزءا صغيرا للغاية من المجموعة الشمسية، حيث يمكن مقارنته بحبّة ذرة موجودة على بعد 82 مترا من مركز ساحة دائرية نصف قطرها حوالي 4 كم! والمجموعة الشمسية نفسها ما هي إلى نقطة ضئيلة للغاية على طرف إحدى الأذرع الخارجية لمجرّتنا الحلزونية، والتي هي بدورها واحدة من بلايين وبلايين المجرات الموجودة في الكون. في ضوء كل هذا، ما الذي يعطينا الحق في اعتبار أنفسنا حالة خاصة وأصحاب أهمية مركزية في الكون، لدرجة الإعتقاد أن الحياة على هذا الكوكب لا يمكن إلا أن يكون لها مغزى أو معنى أو هدف أسمى، كما تدّعي الأديان؟)

وبعد هذا التحقير للإنسان وحياته والأرض التي يسكن فيها، باعتبارها جزءا بسيطا من الكون، وأنها لذلك لا تستحق أي نوع من أنواع العناية، راح يذكر البدائل التي يتعزى بها الملاحدة؛ فقال: (رغم هذا فإنني أعتبر الحياة (رغم عبثيتها) مقدّسة جدا. فنحن الملحدين على يقين بأننا نحظى بفرصة واحدة فقط للحياة - فرصة واحدة لا غير. فلا حياة أخرى ولا بعث أرواح ولا جنة ولا نار وما إلى ذلك. الحياة مباراة من جولة واحدة، لذا فمن المؤسف جدا أن يبعثرها المرء أو يضيعها سدى.. لذا، فلإعطاء هذه القدسية حقها الكامل، على المرء أن يستغل فترة وعيه الوجيزة جدا ككائن حي إلى أبعد الحدود. ثقّف نفسك وعلّمها، عزيزي القارئ، ليتسنى لك رؤية عجائب هذا الكون لما هي عليه فعلا، بمنأى عن ضباب الفكر الديني. إسبح في المحيط الهندي.. راقب غروب الشمس في وادي رم.. دغدغ رضيعا.. تسلق شجرة أو جبل.. تعلّم حرفة يدوية كالنجارة أو الفخارة.. إشتر منظارا ودليل فضاء وفلك للمبتدئين

كيف تناظر ملحدا؟ (249)

وتمعن في أعماق الكون وابحث عن كواكبه ومجراته.. كن سببا لتحسين حياة غيرك من الناس الأقل حظا واكتسب من عملك هذا المتعة والرضا، فهناك الكثير من البشر الذين يعيشون في ظروف من السوء لا توصف، ويكسبون في أسبوع ما قد تكسبه أنت في ساعة (هذا إن كانوا يكسبون شيئا أصلا).. تبرع بالدم بين الحين والآخر إن كانت صحتك تسمح.. إدعم ميتما أو داراً للعجزة.. إلخ)

هذا هو العزاء الذي ذكره هذا الملحد، وذكره قبله وبعده الكثير من الملاحدة، وهو لا يختلف عن تلك المسكنات والمخدرات التي يهرب بها صاحبها عن الحقيقة المرة التي يعيشها.

وللاستدلال لهذه المسكنات الكاذبة راح يشبه الحياة ببناء تمثال ثلج، أو قلعة من الرمال على الشاطئ، فهذه الأشياء ـ كما يعبر ـ (كالحياة نفسها، زائلة بدون شك تذيبها الشمس أو يمحيها المد.. هي أشياء ليس لها غاية أو هدف أسمى، وبعد زوالها لا يتبقى أي أثر يدل على وجودها الذي دام ساعات أو أيام قليلة.. إلا أننا نبني تماثيلا ثلجية أو قلاعا رملية لأننا، دينيين كنا أم ملحدين، نعيش في هذا المكان الصغير جدا من الكون وفي هذا المقطع الزمني القصير جدا من عمره. في ضوء حياتنا الفانية القصيرة جدا نسبيا، نستطيع كبشر أن نتمتع معظم الوقت بهذه الحياة بالقيام بأعمال لا معنى لها لمجرد كونها ممتعة. فمن الممتع بناء تمثال ثلج أو قلعة رملية، أو تسلق جبل، أو مشاهدة الغروب، أو رمي قطعة حجر مسطحة ومشاهدتها تتقافز على سطح الماء، أو تطيير طائرة ورقية، أو الخروج في رحلة إلى الطبيعة أو الريف للتنزه أو ركوب الدراجات. هذه الأعمال، بطبيعتها، ليس لها معنى أو غاية أو هدف أسمى في انتظار أن يُحرز أو يتم تحقيقه - بل هي أعمال تكتسب معناها وقيمتها مما تعنيه لنا ومن تأثيرها المباشر علينا. أنا لست قلقا جدا حول مستقبل سيأتي بعد خمسين بليون سنة. ما يهمني هو مستقبل البشرية الآن - مستقبل الأجيال الحالية والتي ستأتي بعدها. هذا هو جوهر معنى الحياة الفانية، وهذا هو بالتحديد السبب الذي يجعلني، كملحد، مكترثا ومهتما جدا بهذه الحياة ومستعدا أن أبذل أقصى

كيف تناظر ملحدا؟ (250)

جهدي للإستفادة البناءة من هذه الفرصة التي تمنحها الحياة لي)

وهذا العزاء الذي ذكره هذا الملحد لا يمكن أبدا أن ينسجم مع كل الناس، بل هو خاص فقط بطبقة محدودة من أصحاب الأموال الذين يمكنهم أن يمارسوا ما يشتهون حتى يشعروا بالعزاء، أما أولئك المستضعفين الفقراء، والذين تشكل الحياة عبئا كبيرا عليهم؛ فإن تلك العزاءات لن تفعل لهم شيئا، فالحياة عندهم مجموعة آلام.. ولذلك لا يستطيع الإلحاد أن ينقذهم من آلامهم.. بل الوحيد الذي ينقذهم من آلامهم هو الإيمان.

ولهذا نجد الملاحدة، ولأتفه الأسباب ينهارون، وينتحرون، لأن الحياة عندهم لا معنى لها، ولذلك لا معنى لتحمل العذاب فيها.

ومن أنواع العزاء التي ذكرها بعض فلاسفة الملاحدة (1) فكرة: بقاء الأنواع، حيث يذكر [ديدرو] أن الفرد يموت، ولكن الأنواع لا نهاية لها.

أما الفيلسوف الملحد الفرنسي [لامتريه] (1709 ـ 1751)؛ فقد ربط القضية بالموت، ولذلك اقترح دعوى أن القلق من الموت لا ينشأ إلا من العقائد الدينية، لما في الآخرة من عقاب، ومن ثم فإنه يرى أن إلغاء هذه الفكرة ـ الدين ـ من شأنه أن يلغي القلق.

ومثلهما [هولباخ] (1723 ـ 1789) الذي أشاد بالرؤية الأبيقورية للموت بأنه لا يخضع للتجربة، ومن ثَمَّ فإنه لا ينبغي أن يمثل أهمية للبشر، فرأى هولباخ أن المذكور في الأديان عن عواقب الموت لا يمثل قلقًا.

ومثلهم [إتيان دي سينانكور] (1770 ـ 1846) الذي اعتبر أن الحل الوحيد لمشكلة الموت هو شفاء البشر من مرض الرغبة في الخلود؛ وبناء على ذلك، فإن المرء يمكنه أن يقمع هذا الخوف من خلال استغلال جميع طاقته دفعة واحدة في حياته الحاضرة.

ومثلهم [ماركيزدي ساد] (1740 ـ 1814) الذي دعا إلى رفض الرغبة في الخلود، بل

__________

(1) نقلا عن: الأسس اللا عملية في الإلحاد.. (معنى الحياة) نموذجًا، عمرو بسيوني، موقع الباحث عن الحقيقة.

كيف تناظر ملحدا؟ (251)

وازدرائها، والاستغراق الكامل في الشهوانية، وإلحاق المعاناة ـ وحتى الموت ـ بالآخرين، باعتبارها وسيلة لإطفاء الخوف من الموت، وهو الاتجاه المعروف بالإلحاد الأيروسي.

وهو يمثل العزاء الأكبر لأكثر الملاحدة، ولعل أحسن تعبير عنه، ما ورد في محاورة تخيلية مشهورة كتبها [ماركيزدي ساد] بين راهب يدعو محتضرًا للتوبة، وهذا المحتضر الذي يتحدث دي ساد بلسانه يشرح للراهب فلسفته في الحياة: (الطبيعة شكلت روحي وتصرفاتي نتيجة لذلك، بكل ما فيها من رغبات واحتياجات خاصة، فهي تحتاج الرذائل بقدر ما تحتاج الفضائل، والطبيعة أثارت فيّ الشر، وقالت لي أن أفعل ذلك، كما أرادت مني أعمل صالحًا، أنا فقط أفعل كما تأمرني)

وكان المحتضَر معِدًّا لوليمة شهوانية خاصة للحظة موته، ولم يكتف بذلك حتى وجه الدعوة للراهب للاشتراك معه في الانغماس: (يا صديقي، الشهوانية ـ الحسية ـ تعني الكثير بالنسبة لي أكثر من أي شيء آخر، إنني أعبدها طوال حياتي، وكانت رغبتي في وضع حد لها في صدري. نهايتي اقتربت، ولكن هناك ست نساء جميلات في الغرفة المجاورة، إنني أحتفظ بهن خصيصًا لأجل هذه اللحظة، لماذا لا تشاركني في هذه الوليمة؟، لماذا لا تتخذني قدوة، وتبني على تجربتي بدلاً من خرافات المغالطات الفارغة؟ إن السماح لهن بالمداعبة تساعدك على نسيان نفاق إيمانك لبعض الوقت) (1)

هذه بعض النماذج التي حاول الملاحدة أن يكذبوا بها على أنفسهم، ولكن الحقيقة هي ما عبر عنه [كلود أدريان هيلفيتوس] (1715 ـ 1771 و[دنيسديدرو] (1713 ـ 1784) بذكرهما أن النتائج المترتبة على الإلحاد تتسق مع الاكتئاب، وذلك لافتقار الملاحدة لأي عزاء.

في مقابل ذلك نرى المؤمنين ممتلئين بكل أنواع العزاء.. حتى أنهم يستقبلون الموت بفرح

__________

(1) Alister McGrath ، THE TWILIGHT OF ATHEISM ، 34 ـ 35..

كيف تناظر ملحدا؟ (252)

عظيم، وذلك لعلمهم بما ينتظرهم عند الله تعالى، كما قال تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30]

وسنسوق هنا نموذجا عن ذلك، وهو ما ذكره بديع الزمان النورسي ردا على ملاحدة عصره الذين كانوا ينكرون اليوم الآخر، ويسخرون من المؤمنين بسبب ذلك (1).

فقد ذكر بديع الزمان كيف خرج بنور الإيمان من كل الأفكار المشؤومة التي تعتري الملاحدة، فقال: (ذات يوم من الايام الأخيرة للخريف، صعدت الى قمّة قلعة انقرة، التي اصابها الكبر والبلى اكثر مني، فتمثلّت تلك القلعة امامي كأنها حوادث تأريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد واسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي انا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الخلافة، ومن شيخوخة الدنيا)

فهذه الآلام الكثيرة التي قد نبصر مثلها، والتي تملأ النفس أسفا وحزنا، دعت بديع الزمان للبحث عن ترياق يعالج به هذه الكآبة، قال: (فاضطرتني تلك الحالة الى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة الى اودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن نور، وابحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط)

وهذا العزاء الذي بحث عنه بديع الزمان يبحث عنه كل إنسان شعر أو لم يشعر، ولكن يختلفون فقط في الجهة التي يولون لها وجوههم للبحث عن هذا العزاء، وكانت الجهة الأولى التي قصدها بديع الزمان هي الجهة التي يولي لها الملاحدة وجوههم، وهي الجهة البعيدة عن الحقائق الإيمانية، وهي بجهاتها الست لا تزيد القلب إلا غما وهما، قال بديع الزمان: (فحينما

__________

(1) انظر النص بطوله في: اللمعات/ 351.

كيف تناظر ملحدا؟ (253)

نظرت الى اليمين الذي هو الماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي واجدادي والنوع الانساني، فأوحشتني بدلاً من ان تسلّيني)

أما اليسار الذي هو المستقبل: (فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضا من ان يؤنسني)

أما الأمام وهو الزمن الحاضر (فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التأريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة)

أما القمة التي تمثل قمة شجرة العمر (فرأيت أن على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط، وهي تنظر اليّ، تلك هي جنازتي)

أما الأسفل الذي يمثل جذور شجرة العمر (فرأيت ان التراب الذي هناك ما هو الاّ رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تحت الاقدام، فأضافا الى دائي داء من دون ان يمنحاني دواءً)

أما الخلف الذي يمثل عمر الدنيا (فرأيت ان هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في اودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من ان تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي)

فهذه الجهات الست، والتي يتصور الملاحدة أنها تمثل الحقائق المطلقة، والتي يعزون أنفسهم بأنه لا محيد عنها، ولا مخرج منها، ثم يهربون لأي شيء، يتكفل الإيمان بمداواتها، قال النورسي يحكي عن تجربته الإيمانية: (وفيما كنت مضطرباً وسط الجهات الست تتولى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، اذ بأنوار الإيمان المتألقة في وجه القرآن المعجز البيان، تمدني وتضيء تلك الجهات الست وتنورها بانوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وانواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الانوار كافية ووافية لإحاطتها)

كيف تناظر ملحدا؟ (254)

وقد كان أثر أنوار الإيمان عظيما: (فبدّلت تلك الانوار السلسلة الطويلة من الوحشة الى سلوان ورجاء، وحولّت كل المخاوف الى انس القلب، وامل الروح الواحدة تلو الاخرى)

فالقرآن الذي هو قبس الإيمان (مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالمقبرة الكبرى، وحوّلها الى مجلس منوّر أنوس والى ملتقى الاحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين)

أما المستقبل الذي كان يمثل قبرا واسعا كبيرا، فإنه استحال بالنظرة القرآنية (مجلس ضيافة رحمانية أعدّت في قصور السعادة الخالدة)

أما تابوت الزمن الحاضر، فقد صوره القرآن الكريم (متجرا أخرويا، ودار ضيافة رائعة للرحمن)

أما الثمرة الوحيدة التي هي فوق شجرة العمر على شكل نعش وجنازة، فإنها بالقرآن لم تبق كذلك، (وانما هي انطلاق لروحي - التي هي أهل للحياة الابدية ومرشحة للسعادة الابدية - من وكرها القديم إلى حيث آفاق النجوم للسياحة والارتياد)

حتى تلك الصور المريعة التي كانت الغفلة تصور بها (عظامي ورميمها وتراب بداية خلقتي) لم تبق (عظاماً حقيرة فانية تداس تحت الاقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحمة، وستار لسرادق الجنة)

أما أحوال الدنيا واوضاعها المنهارة في ظلمات العدم التي نبصرها بنظر الغفلة، فإنها لم تبق كذلك بنور القرآن الكريم (بل انها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للاسماء السبحانية قد أتّمت مهامها، وأفادت معانيها، واخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين)

أما القبر، فلم يبق قبرا، بل هو بنظر القرآن الكريم (باب لعالم النور) ومثله ذلك الطريق المؤدي الى الابد، فإن لم يبق (طريقاً ممتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل انه سبيل

كيف تناظر ملحدا؟ (255)

سوي الى عالم النور، وعالم الوجود وعالم السعادة الخالدة)

وهكذا بددت النظرة القرآنية كل الأوهام التي سربتها الغفلة، وأصبح ما كان يتصور داء عين الدواء، يقول النورسي: (وهكذا اصبحت هذه الاحوال دواء لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة)

وهكذا عاش الرجل سعيدا، مع أنه أمضى أكثر حياته منفيا مسجونا يدس له السم كل مرة، بل يحرم كل أسباب الحياة، لكن الإيمان جعله يستهين بذلك كله.

2 ـ الإيمان.. وإمكانية المصير الأبدي

وهذه المعضلة الثانية التي يتألم لها الملاحدة دون أن يستطيعوا التصريح بذلك، ذلك أنه لا يمكن لمن يحترم عقله وعلمه ونفسه أن يجزم بعدم إمكانية شيء اتفقت عليه عقول أكثر الخلق من الفلاسفة والمفكرين ورجال الدين.. بل لا يكاد يوجد شعب من الشعوب إلا وهو يعتقد هذا الاعتقاد.

ولهذا نرى في الحوارات بين المؤمنين والملاحدة هذا الجانب الذي عبر عنه أبو العلاء المعري بقوله:

زعم المنجم والطبيب كلاهما... لا تبعث الأجساد قلت: إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر... أو صح قولي فالخسار عليكما

أو ما عبر عنه بعضهم، بقوله: (قال الملحد للمؤمن: ما موقفك اذا مت ولم تجد الله! فرد المؤمن: لن يكون اسوأ من موقفك اذا مت ووجدت النار!)

أو ما عبر عنه مصطفى محمود في حواره مع صديقه الملحد، والذي ذكر أنه قال له ساخرا: (ماذا يكون الحال لو اخطأت حساباتك، وانتهيت بعد عمر طويل إلى موت وتراب ليس بعده شيء؟)، فأجابه مصطفى محمود بقوله: (لن أكون قد خسرت شيئا.. ولكنكم أنتم سوف تخسرون كثيرا لو أصابت حساباتي وصدقت توقعاتي.. وإنها لصادقة.. سوف تكون

كيف تناظر ملحدا؟ (256)

مفاجئة هائلة يا صاحبي) (1)

أو ما عبر عنه ـ قبل ذلك كله ـ الإمام الصادق ع مع بعض الملاحدة، حيث قال مخاطبا له: (إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون، يعني المؤمنين، فقد سلموا وعطبتم وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم وهم)، فقيل له: وأي شي ء نقول وأي شي ء يقولون ما قولي وقولهم إلا واحد؟ فقال: (وكيف يكون قولك وقولهم واحدا، وهم يقولون إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن في السماء إلها وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد...) (2)

وقد صاغ هذا المعنى [بليز باسكال (3)] في رهانه المعروف، والذي يمكن صياغته على الشكل التالي (4):

1 - إن آمنتَ بالله وكان الله موجوداً، فسيكون جزاؤك الخلود في الجنة، وهذا ربح لامحدود.

2 - إن لم تؤمن بالله وكان الله موجوداً، فسيكون جزاؤك الخلود في جهنم، وهذه خسارة لامحدودة.

3 - إن آمنتَ بالله وكان الله غير موجود، فلن تُجزى على ذلك، وهذه خسارة محدودة.

4 - إن لم تؤمن بالله وكان الله غير موجود، فلن تُعاقب لكنك ستكون قد عشت حياتك،

__________

(1) حوار مع صديقي الملحد.

(2)  الكافي، ج 1 ص 74..

(3) بليز باسكال (19 يونيو 1623، 19 أغسطس 1662)، فيزيائي ورياضي وفيلسوف فرنسي اشتهر بتجاربه على السوائل في مجال الفيزياء، وبأعماله الخاصة بنظرية الاحتمالات في الرياضيات هو من اخترع الآلة الحاسبة. استطاع باسكال أن يسهم في إيجاد أسلوب جديد في النثر الفرنسي بمجموعته الرسائل الريفية..

(4) استفدنا أكثر ما ذكرناه حول هذا الرهان من مقال مهم بعنوان: الصراط المستقيم في الحجج والبراهين: رهان باسكال، آية الله السيد مرتضى الشيرازي، شبكة النبأ.

كيف تناظر ملحدا؟ (257)

وهذا ربح محدود.

ولتقريب هذا الرهان، نذكر هذا المثال التقريبي، وهو لو فرضنا وجود حلبة سباق للخيول، وشاهدنا الحصان الأبيض هو الفائز في كافة المسابقات الماضية، ولنفرضها مائة سباق، ووجدنا الحصان الأسود هو الخاسر في كل المسابقات الماضية، بل لو وجدنا الحصان الأبيض فاز في 99 بالمائة من المسابقات الماضية والحصان الأسود فاز في 1 بالمائة منها.

فمن الواضح ان العاقل يراهن على الحصان الأبيض، على الرغم من أنه يحتمل عقلاً أن يكون هو الحصان الرابح هذه المرة، ولكن العقلاء بالإجماع يرون من السفاهة أن يراهن على الحصان الخاسر دائماً أو في 99 بالمائة من الموارد أو حتى في 90 بالمائة منها.. ويرون من الحكمة والمنطق أن تكون المراهنة على الحصان الفائز دائماً أو غالباً.

ولذلك، فإن العقل وإن احتمل العكس لكن العقلاء بما هم عقلاء يلغون احتمال الخلاف، ويعتبرون الحجة في اقتفاء أثر التجارب الناجحة السابقة.

وهكذا تماماً رهان المؤمنين على وجود الخالق، وإن كان بصيغة أخرى، فإننا إن راهنا على وجوده ووجود الثواب والعقاب، وكان موجوداً كان الثواب العظيم بما لا يتناهى شدةً ومدةً وعِدةً، وإذا راهنا على عدم وجوده وعدم الجنة والنار وكان موجوداً كانت الخسارة هائلة مذهلة، وفي المقابل لو لم يكن موجوداً، فإن الكافر غاية الأمر أنه سيربح حياته المحدودة، مع العلم أن المؤمن هو الرابح حتى في هذه الحياة إذ يتجنب السرقة والغش وغير ذلك، فيزداد مكانةً ومصداقيةً لدى الناس كما سيحظى بالصحة والسلامة وغير ذلك.

فأي الرهانين يختاره العقلاء.. هل رهان الربح اللامتناهي، أو رهان الربح المحدود جداً؟

بل إن ذلك الربح المحدود الذي يتوهمه الملاحدة، ينال المؤمنون أكثر منه، كما ذكرنا في العنوان السابق، ونضيف إليه أن الإنسان إذا آمن بالله تعالى وبالمعاد والثواب والعقاب ولم يكن

كيف تناظر ملحدا؟ (258)

الله تعالى ـ فرضاً ـ موجوداً فإن المؤمن مع كونه لا يخسر شيئاً، ولا يربح المنكر شيئاً إلا أننا عندما نرى المؤمنين الملتزمين نراهم أسعد حالاً من غيرهم من الكفرة العصاة؛ وذلك لأن المحرمات إنما حرمت لمفاسد واقعية وأضرار حقيقية فيها؛ فالمؤمن المتدين يتجنب شرب الخمر وأكل لحم الخنزير والزنا مثلاً وغير المؤمن لا يرى سبباً لتجنبها، وقد ثبت في العلم أن الخمرة تضر العقل والبدن، وتتسبب في الكثير من الأمراض الخطرة، وكذلك لحم الخنزير، كما أن الزنا يهدم المجمعات ويتسبب في مجموعة من أخطر الأمراض كالسفلس والسيلان وغيرهما.. وبذلك فإن المؤمن يتجنب كل تلك الآثار الخطيرة للمعاصي، ويربح بذلك، بخلاف الملحد الذي لا يجد من يردعه عنها، ولذلك يخسر بسببها.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستقراء والتجربة يدلان على أن المؤمن الملتزم أسعد من غيره في أسرته ومجتمعه، ذلك أن الصدق والوفاء النزاهة وحب الأهل والوطن ومواساة الجار والقريب والبعيد والصلاة والصوم وغيرها مما أمر به الشارع الأقدس كلها عوامل سعادة وسلام وتقدم ورفاه وأمن وطمأنينة.

فإذا قيل بأنه يوجد في المؤمنين الكثير من الفقراء والمرضى، يقال كذلك بأن في الكفار الكثير من الفقراء والمرضى.. فكما في الكفار أغنياء وفقراء وعلماء وجهال فكذلك في المؤمنين، وإنما الكلام هو في أن المؤمن من حيث إيمانه والتزامه بتجنب المعاصي وبفعل الطاعات رابحٌ، عكس الكافر من حيث كفره وعصيانه، وأقل ما في الأمر أن المؤمن لأطمئنانه بالآخرة والجنة والثواب العظيم، أقدر على تحمل المصائب والنوازل من الكافر ولذلك تراه ـ على حسب درجات إيمانه ـ يمتلك الهدوء النفسي والطمأنينة والسكينة إذ يرى كل ذلك بعين الله، عكس الكافر الذي لا يؤمن بالله، كما أن الكافر إذا تعرض أبوه أو أخوه أو ابنه لحادث مؤلم أودى بحياته، فانه لا سلوان له ولا مستند يتكأ عليه إذ يراه قد تحوَّل إلى عدمٍ محض، أما المؤمن فإنه يرى حبيبه قد انتقل إلى عالم أرحب وأوسع وأجمل وأفضل فَلِئن حزن عليه ساعة أو أياماً اطمأن

كيف تناظر ملحدا؟ (259)

بعظيم لطف الله تعالى ساعات وأسابيع.

ومع وضوح كل هذا وقوته إلا أن الملاحدة حاولوا ـ كعادتهم ـ الالتفات عليه بصنوف من المغالطات:

منها قول بعضهم: (يفترض الرهان أن الإله الحقيقي هو بصورة الإله الإبراهيمي الذي يجازي أتباعه، ويمكننا هنا تخيل أن الإله الحقيقي هو عكس ذلك تماماً: فقد يقوم على سبيل السخرية بزج بالمؤمنين به في الجحيم وبجزاء غير المؤمنين به بالجنة، أو قد يكون الإله الحقيقي هو إله الفكرة المالثيسية والتي تقول بأن الآلهة تأكل أرواح المؤمنين بعد موتهم)

وقال: (الرهان المعاكس إحدى الطرق التي نرد بها على الرهان تكون بافتراض إله آخر في محل إله باسكال، الإله الآخر يعاقب هؤلاء الذين يؤمنون بوجوده من دون دليل ويجزي من سواهم)

وقال: (لاحظ أن هذه الفرضية لا تفترض مسبقاً أن الإنجيل أو القرآن أو ما شابههم من الكتب المقدسة ليست من مصدر إلهي، فقد يكون الإله قد أنزلهم بالضبط لاختبار مدى سذاجة البشر)

وقد تصور هؤلاء الملاحدة أنهم بهذه الافتراضات يحصلون على الربح في كلا الحالتين سواء كان الله موجوداً أو لا، بينما يخسر المؤمنون في الحالتين أيضا.

وقال آخر: (يفترض المؤمنون بطرحهم لهذا الرهان أنه في صورة ملاقاة إله ما بعد الموت سيكون بلا شك هو إلههم الواحد، فإما العدم أو الله الذي يؤمنون به وهم بذلك يجعلون الرهان مقتصرا على إحتمالين فقط بينما تعرض لنا الميثولوجيا آلاف الالهة والديانات التي تعد أتباع الآلهة والمعتقدات الأخرى بالجحيم والعذاب الأبدي! فلنفترض إذا وجود 3999 الهة مقترحة واحتمالا واحدا في عدم وجود الهة، احتمال أن يكون اعتقاد المؤمن صحيحا هو 1/ 4000 مساو لإحتمال أن يكون الملحد على حق للنجاة من الجحيم يملك المؤمن نسبة

كيف تناظر ملحدا؟ (260)

2/4000 أي في أن يكون إلهه موجودا أو عدم وجود آلهة بينما يملك الملحد نسبة 1/ 4000 للنجاة من العقاب)

والجواب على هذا من وجهين:

الوجه الأول: أن احتمال أن يعاقب الله (المفترض) عباده الذين يؤمنون به، ويثيب المنكرين له والمعارضين بالجنة، هو صفر لدى العقلاء، وهو وإن كان احتمالاً عقلياً إلا انه ليس بعقلائي أبداً، بل لا تجد عاقلاً في حياته العملية ينساق مع مثل هذا الاحتمال الهش.

فهل يمكن أن نجد عاقلاً يرى أن الجندي في الجيش إذا أطاع الضابط، أو الموظف في الشركة إذا أطاع المدير والتزم بأوامره ونفذ التعليمات كلها كما طلبت منه، فإنه من المحتمل أن يعاقبه المسؤول أشد العقاب ويسجنه ويعذبه، على سبيل السخرية مثلاً، وأنه إذا عصى المدير ودمر شركته وممتلكاته، أو خالف قرارات الجيش وأفسد خططه العسكرية فإنه حينئذٍ سيقرِّبُه إليه أكثر وسوف يمنحه ترقية كبرى في الشركة أو الجيش.

إن هذا الاحتمال وإن كان عقلاً ممكناً، لكنه عقلائياً صفر، وهل يلتزم هذا الفيلسوف بمقتضى كلامه؟ فمثلاً إذا وجد هذا الفيلسوف شرطي المرور يأمره بالوقوف عند الإشارة الحمراء فهل يعصيه ويعارضه متذرِّعاً بأنه من يدري: فلعلني إذا عصيته أعطاني هدية رائعة، أما إذا أطعته ووقفت عند الإشارة ضربني بالهراوة الغليظة على أمّ راسي وقادني إلى السجن المظلم وفي أشد أنواع التعذيب.

ونقول لهؤلاء: تصوروا أن هنالك غابة تقع في وسط بلدتين (أ وب) وأن فيها عصابة من الأشرار يعتدون على كل من يمرّ عبرها، ويسلبونه كافة أمواله، ثم يقتلونه شر قتلة، وأن هناك طريقاً آخر للوصول إلى البلدة (ب)، وهو طريق آمن، فهل تجد عاقلاً يعكس الرهان ويقول: سأسلك طريق الغابة إذ من المحتمل أن هؤلاء الأشرار إذا رأوني يحتضونني ويكرموني ثم يهبونني كل أموالهم؟ ومن المحتمل أنني إذا سلكت الطريق الآمن أن تهاجمني الشرطة

كيف تناظر ملحدا؟ (261)

(المعروفة بالنزاهة) وتسلبني حتى ثيابي ثم تقتلني شر قتلة؟

من البديهي ان العقلاء يراهنون على خيار الطريق الآمن، وإن احتمل عقلاً أن يتحول الشرطة الأخيار (وهم تحت رقابة صارمة) فجأة إلى أشرار، وأنهم يَعُدُّون من يسلك طريق الغابة الخطر لمجرد ذلك الاحتمال العقلي الواهي (أن الأشرار فجأة يتحولون إلى أخيار عشاق له ويكرمونه) من السفهاء بل من أكثر السفهاء سفاهة ويرون تفكيره أشد الأفكار تفاهةً!

الوجه الثاني: وهو أن كل برهان إنما يتكفل البرهنة على ما هو في حدود مقتضاه ولا يتكفل الأكثر من ذلك، فهذا البرهان الذي ذكره الإمام الصادق وبعده المعري والغزالي وباسكال وغيرهم، إنما يتكفل أصل احتمال وجود إله خالق للكون، وأن البناء عليه هو الأسلم الأفضل بلا شك، وهو على تقدير التنزّل، والخطاب فيه موجه لمن يشك في وجوده تعالى، ولا يطمئن للأدلة كبرهان إبطال الدور والتسلسل فرضاً، فنقول له حينئذٍ: لكن هذا الرهان هو الرهان الرابح وذاك الرهان هو الخاسر مثلما ذكرنا سابقا، ولكنه ـ بصيغته الحالية ـ لا يتكفل الأكثر من ذلك، أي لا يتكفل بمجرده إثبات عدم وجود شريك للباري وعدم التثليث مثلاً، إلا إذا جرى تطويره، كما لا يتكفل إثبات ان الله مجرد مثلاً.. بل ذلك يحتاج إلى تتميم أو ضمائم من أدلة أخرى، وذلك ككافة الحقائق التي تفتقر إلى إقامة العديد من البراهين على أصل وجودها تارة ثم على تفاصيل حقائقها، وبذلك تندفع بعض الإشكالات الأخرى على هذا البرهان، ولا حاجة للإطالة باستعراضها مع الأجوبة عليها.

ونحب أن ننبه في الأخير إلى أن رهان باسكال لا يعني الإيمان الحقيقي، ولكنه نافع للمتحيرين كمقدمة للبحث العقلي، وكمخلص للدوافع النفسية التي تدعو للإلحاد، وقد ذكر بعض المتحيرين كيف استفاد منه للوصول إلى الإيمان الحقيقي، فذكر أنه كان في مرحلة من مراحل حياته مؤمنا بوجود الله، لا عن اقتناع عقلي ولكن لأن الإيمان ـ في نظره ـ مناسب له، وملائم للطمأنينة التي يرجو تحقيقها في حياته، ويفتقر إليها الملحد في معيشته المضطربة

كيف تناظر ملحدا؟ (262)

المتحيرة.. وقد عبر عن هذا بقوله: أنا مؤمن لأن الإيمان يلائمني! ثم ما زال الرجل مستمرا في رحلته الإيمانية، متنقلا من الإشارات الوجدانية إلى البراهين العقلية، حتى تحول إلى الإيمان الحقيقي.

وعلى الداعية للإيمان بعد هذا أن تتوفر لديه الأدلة العقلية الكثيرة الدالة على وجود اليوم الآخر، وقد تكفلت المصادر المقدسة بالإشارة إلى الكثير منها.

فمنها أن قدرة الله تعالى التي أخرجت هذا العالم بهذه الصورة لا تعجز عن أن تنشئه من جديد، وبصور أخرى لا نهاية لها، فقدرة الله لا تحد، كما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} [يس: 78 - 83]

وقال في آية أخرى: {فَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]

وقد ضرب الله تعالى لنا الأمثلة المقربة لذلك ببعض مظاهر الحياة التي نرى عودتها بعد الموت، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]، فمن قدر على خلق الإنسان في أطوار متعددة لا يعجز عن إعادته مرة أخرى، بل إن الإعادة أهون من البدء في حكم العقل.

بالإضافة إلى ذلك، فإنه ليس هناك ما ينفيه العقل من شأن البعث والجزاء، إذ العقل لا

كيف تناظر ملحدا؟ (263)

ينفي إلا ما كان من قبيل المستحيل كاجتماع الضدين، أو التقاء النقيضين، والبعث والجزاء ليسا من ذلك في شيء.

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن وجود الحياة الدنيا وما فيها من نعيم وشقاء، شاهد على وجود حياة أخرى في عالم آخر يوجد فيها من العدل والخير والكمال، والسعادة والشقاء ما هو أعظم وأفضل بكثير، بحيث أن هذه الحياة وما فيها من سعادة وشقاء لا تمثل من تلك الحياة إلا ما تمثل صورة قصر من القصور الضخمة، أو حديقة من الحدائق الغناء على قطعة ورق صغيرة (1).

وقد طرح بديع الزمان النورسي في [رسالة الحشر] الكثير من التساؤلات التي تهدي العاقل لا محالة إلى الإيمان باليوم الآخر نقتصر منها على ما يلي:

أمن الممكن لمَن له شأن الربوبية وسلطنة الالوهية، فأوجد كوناً بديعاً كهذا الكون؛ لغايات سامية ولمقاصد جليلة، إظهاراً لكماله، ثم لا يكون لديه ثواب للمؤمنين الذين قابلوا تلك الغايات والمقاصد بالايمان والعبودية، ولا يعاقِب أهل الضلالة الذين قابلوا تلك المقاصد بالرفض والاستخفاف..؟!

أمن الممكن لربّ هذا العالم ومالكه الذي أظهر بآثاره كرماً بلا نهاية، ورحمة بلا نهاية، وعزة بلا نهاية، وغيرة بلا نهاية، ان لا يقدّر مثوبة تليق بكرمه ورحمته للمحسنين، ولا يقرر عقوبة تناسب عزته وغيرته للمسيئين؟.. فلو أنعم الانسان النظر في سير الحوادث ابتداءً من أضعف كائن حيّ وأشده عجزاً وانتهاءً بأقوى كائن، لوجد ان كل كائن يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، بل يَمنح سبحانه أضعفَهم وأشدّهم عجزاً ألطف الارزاق وأحسنها، ويسعف كل مريض بما يداويه.. وهكذا يجد كل ذي حاجة حاجته من حيث لا يحتسب.. فهذه الضيافة الفاخرة الكريمة، والاغداق المستمر، والكرم السامي، تدلّنا بداهة، ان يداً كريمة خالدة هي

__________

(1) انظر في ذلك مقالا بعنوان: الأدلة العقلية على إثبات اليوم الآخر والبعث والحساب والجزاء.

كيف تناظر ملحدا؟ (264)

التي تعمل وتدير الامور.

ما دام رب هذا العالم ومدبّره له هذا الكرم الواسع، وهذه الرحمة التي لا منتهى لها، وله الجلال والعزة المطلقان، وان العزة والجلال المطلقين يقتضيان تأديب المستخفين، والكرم الواسع المطلق يتطلب اِكراماً غير متناه، والرحمة التي وسعت كل شئ تستدعي احساناً يليق بها، بينما لا يتحقق من كل ذلك في هذه الدنيا الفانية والعمر القصير الا جزء ضئيل جداً هو كقطرة من بحر.

فلابد ان تكون هناك دار سعادة تليق بذلك الكرم العميم، وتنسجم مع تلك الرحمة الواسعة.. والا يلزم جحود هذه الرحمة المشهودة، بما هو كانكار وجود الشمس التي يملأ نورُها النهارَ، لأن الزوال الذي لا رجعة بعده يستلزم انتفاء حقيقة الرحمة من الوجود، بتبديله الشفقة مصيبةً، والمحبة حرقةً، والنعمة نقمةً واللذة ألماً، والعقل المحمود عضواً مشؤوماً.

وعليه فلابد من دار جزاء تناسب ذلك الجلال والعزة وتنسجم معها. لأنه غالباً ما يظل الظالمُ في عزته، والمظلومُ في ذلته وخنوعه، ثم يرحلان على حالهما بلا عقاب ولا ثواب.

فالأمر اذن ليس اِهمالاً قط، وِان اُمهلَت الى محكمة كبرى، فالقضية لم تُهمل ولن تُهمل، بل قد تُعَجّل العقوبة في الدنيا. فانزال العذاب في القرون الغابرة بأقوام عصت وتمردت يبين لنا ان الانسان ليس متروكاً زمامه، يسرح وفق ما يملى عليه هواه، بل هو معرّض دائماً لصفعات ذي العزة والجلال.

أمن الممكن لخالق ذي جلال أظهر سلطان ربوبيته بتدبير قانون الوجود ابتداء من الذرات وانتهاء بالمجرات، بغاية الحكمة والنظام وبمنتهى العدالة والميزان.. ان لا يعامل بالاحسان من احتموا بتلك الربوبية وانقادوا لتلك الحكمة والعدالة، وان لا يجازي اولئك الذين عصوا بكفرهم وطغيانهم تلك الحكمة والعدالة؟.

بينما الانسان لا يلقى ما يستحقه من الثواب أو العقاب في هذه الحياة الفانية على وجه

كيف تناظر ملحدا؟ (265)

يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة الا نادراً، بل يؤخر، اذ يرحل اغلب أهل الضلالة دون ان يلقوا عقابهم، ويذهب اكثر اهل الهداية دون أن ينالوا ثوابهم.. فلابد ان تناط القضية بمحكمة عادلة، وبلقاءٍ آيل الى سعادة عظمى.

نعم، انه لواضح ان الذي يتصرف في هذا الكون انما يتصرف فيه بحكمة مطلقة. فأتطلب برهاناً على هذا؟.. فانظر الى رعايته سبحانه للمصالح والفوائد في كل شئ!.. ألا ترى ان اعضاء الانسان جميعاً سواء العظام منها أو العروق وحتى خلاياه الجسمية وكل جزء منه ومكان، قد روعيت فيه فوائد وحكم شتى، بل ان في اعضاء جسمه من الفوائد والإسرار بقدر ما تنتجه الشجرة الواحدة من الثمار، مما يدل على ان يد حكمة مطلقة تدير الامور. فضلاً عن التناسق البديع في صنعة كل شئ والانتظام الكامل فيها اللذان يدلان على ان الامور تؤدى بحكمة مطلقة.

إلى آخر ما ذكره في الرسائل من خطابات وبراهين توجه لأصحاب العقول السليمة، التي تحاول التعرف على حقيقة الوجود كما هو في الواقع، لا كما ترغب.

كيف تناظر ملحدا؟ (266)

الإلحاد.. والقيم الحضارية

عندما نستقرئ الأطروحات الكبرى للملاحدة ابتداء من عصر النهضة الأوروبية إلى اليوم نجد الغالب عليها دعوى خطيرة هي كون الإيمان بالله عقبة دون تحقيق القيم الحضارية.. فهم لم يكتفوا بكونه عقبة دون التحرر الإنساني، وإنما أضافوا إليه أيضا كونه عقبة دون التحضر والقيم المرتبطة به.

ولذلك نشأت الماركسية وغيرها من التيارات الإلحادية في ظل تلك التصورات التشويهية للدين، ونشأ معها وقبلها شعار [الدين أفيون الشعوب]، وهو الشعار الذي رفع قبل الثورة الفرنسية، وبقي مستعملا لدى الملاحدة إلى اليوم.

ولهذا، فإن على الداعية المواجه للإلحاد أن يناقش الشبهات المرتبطة بهذا في الجانب، لا بالدفاع عن الدين، ذلك أن المقصود في العادة بالدين هي تلك الأديان المنحرفة التي كانت حقيقة أفيونا للشعوب.

ولذلك فإن الجدل معهم في هذا لا طائل من ورائه، بل قد يكون لهم الحق في كثير منه، وقد قال تعالى مشيرا إلى ذلك الشعار الذي يرفعونه، ومقرا له في بعض معانيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34]؛ فهذه الآية الكريمة تشير إلى ما كان يقوم به رجال الدين من استغلال للدين في سبيل تحقيق المصالح الشخصية، وتشويه الدين لأجل ذلك، حتى يصبح مطية لخدمة أغراضهم.

وإنما بناحيتين مهمتين:

أولاهما: بيان عدم علاقة الإيمان بالله بكل ما وقعت فيه الأديان من الانحرافات، وأن الإيمان بالله، كقضية عقلية منفصل تماما عن الأديان.. ولكل منهما منهجه الخاص في البحث.

كيف تناظر ملحدا؟ (267)

فالبحث عن الإيمان بالله، يقتضي استعمال الأدلة العقلية التي سبق أن أشرنا إلى مجامع الكثير منها في الفصل الأول.. أما البحث في الأديان، ومدى مصداقيتها، فيقتضي مناهج كثيرة، كالمنهج التاريخي والوثائقي للتحقق من مصادرها المقدسة، وملاحظة مدى التحريف الذي وقع لها.. أو كدراسة نصوصها والقيم التي جاءت بها والأدلة التي تعتمد عليها وغير ذلك، مما سنراه في الفصل الأخير من هذا الكتاب.

وثانيهما: هو بيان عدم إمكانية مساهمة الإلحاد في التنوير والتحضر، وأن الجرائم التي أصابت البشرية إبان حكم الملاحدة لا تقل عن الجرائم التي أصابتها إبان حكم رجال الدين المزيفين، ولذلك، فإن الإلحاد ليس حلا كما يزعم الملاحدة، بل هو يساهم في الظلامية والاستبداد، وكل أنواع الظلم والجور، كما نرى في الواقع.

بناء على هذا، سنحاول في هذا المبحث تطبيق ما ذكرناه على ناحيتين مهمتين ترتكز عليهما كل القيم الحضارية، لنرى مدى صلة الإيمان أو الإلحاد بهما.

وقد اعتمدنا فيهما بالدرجة الأولى على ما كتب من مؤلفات كثيرة حول العلمانية، وتاريخها، وتاريخ المذاهب الفكرية المرتبطة بها (1).

أولا ـ الإلحاد.. والعلم

ربما تكون دعوى [العلمية] أو [المنهج العلمي] هي الأيقونة التي يستعملها الإلحاد في كل عصوره، فمنذ عهد ديموقريطَسْ، ذلك الفيلسوف اليوناني المادي صاحب المذهب الذرّي، والملاحدة يصفون المؤمنون بالجهل وقلة العقل، ويرمونهم بالدجل والخرافة والابتعاد عن العلمية والعقلانية، أو كما عبر عن ذلك توماس جفرسون ـ كما ينقل عنه دوكينز ـ بقوله: (رجال

__________

(1) ومنها: العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، سفر الحوالي، والعلمانيون والإسلام لمحمد قطب، وغيرها من الكتب.

كيف تناظر ملحدا؟ (268)

الدين من مختلف الطوائف يعانون من تقدم العلم كما يعاني السحرة من موعد شروق الشمس، ويعبسون في وجه تلك الإطلالة التي تعلنهم بأن تلك الوهام التي يعتاشون عليها في طريقها للزوال) (1)

وبناء على هذا ظهرت المذاهب المادية والوضعية، والتي تقسم التاريخ العلمي للبشرية لثلاثة أطوار: الطور اللاهوتي، والطور الميتافزيقي، والطور العلمي الوضعي.. ثم تسخَر من كل الأطوار، وتعتبر الطور العلمي هو الوحيد الجدير بالاحترام، وتدعو إلى العزوف عن البحث عن أصل الكون ومصيره أو علله الأولى، وتعتبر البحث في ذلك أو الاهتمام به أوهاما وخرافة.

وهكذا راح فرويد وأشباهه من علماء النفس يفسرون وجود الله تفسيرا نفسيا لا علاقه له بالعلم ولا بالعقل، فالناس في رأي فرويد يميلون إلى الاعتقاد بوجود أب وراء هذا الكون لأنهم، بوصفهم أطفالاً، بحاجة ماسة إلى رعاية أب، وهكذا فإن الإنسان ـ عند فرويد وغيره في ذلك العصر ـ هو الذي يخلق الله، لا العكس (2).

وبناء على هذا اعتبر الدين مرضا من الأمراض النفسية، فقال: (يمكن القول بأن الدين هو عصاب البشرية الوسواسي العام، وبأنه ينبثق، مثله مثل عصاب الطفل، عن عقدة أوديب، عن علاقات الطفل بالأب. وانطلاقاً من هذه التصورات، يمكننا أن نتوقع أن يتم العزوف عن الدين عبر سيرورة النمو المحتومة التي لا راد لها) (3)

__________

(1) وهم الإله، دوكنز، ترجمة بسام البغدادي، دط، دت، ص 113.

(2) علم الأديان مساهمة في التأسيس، ميشال، مسلان، ترجمة: عزالدين عناية، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، ومنشورات كلمة. ص: 143..

(3) قلق في الحضارة، سيغموند فرويد، ترجمة، تحقيق: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، ص 60.

كيف تناظر ملحدا؟ (269)

ومثله برتراند راسل الذي راح يصور الإيمان بالله بكونه مجرد فكرة مستمدة من نظم الطغيان والاستبداد: (الإنسان استمد فكرة الإيمان بالله من نظم الطغيان والجبروت السائدة في الشرق، فعلاقة الإنسان بالله أشبه ما تكون بعلاقة العبد الذليل بالحاكم المستبد، وهي ذلة تأباها كل نفس تشعر بالمعزة والكرامة) (1)

لكن كل المواقف السلبية التي نطق بها دعاة الإلحاد القديم لا تشكل شيئا أمام دعاوى أصحاب الإلحاد الجديد الذين تصوروا أنهم وحدهم أصحاب العلم والعقل والحكمة، وأن من عداهم ليسوا سوى بلهاء وأغبياء، ولا علاقة لهم بالعلم، ولا بالمنطق، ولا بأي أداة من أدوات التفكير.

وقد عبر عن هذه اللغة الساخرة من العقل المؤمن كل من كتب في الإلحاد الجديد، أو قدم حصصا وبرامج تدعو إليه، فكلها مملوءة بالتهكم والسخرية من العقول المؤمنة، وكلها تعتبر العلم ومناهجه بضاعة خاصة بالملاحدة لا يشاركهم فيها غيرهم.

وكل هذا غير صحيح، ومجرد دعاوى، وللرد عليهم نعتمد منهجين:

أولهما: بيان أن كبار العلماء والفلاسفة والباحثين في كل العصور كانوا من المؤمنين، وأن الإيمان لم يحل بينهم وبين العلم ولا البحث ولا التفكير، بل كان داعما لهم، وسندا في الكثير من الأطروحات التي نوروا بها العالم.

ثانيهما: بيان عدم تنافي الدين الصحيح مع العلم، وأن التناقضات التي حصلت بين العلم والدين سببها تحريف الأديان، وليس الدين نفسه.

__________

(1) مُلحدون محدثون ومعاصرون، د. رمسيس عوض، مؤسسة الإنتشار العربي، 1998، ص 56.

كيف تناظر ملحدا؟ (270)

وسنحاول أن نشرح ـ باختصار ـ كلا المعنيين في المطلبين التاليين:

1 ـ العلماء.. والإيمان

مما قد يحتاج إليه المناظر للملاحدة، ليثبت لهم عدم التعارض بين العلم والإيمان، التعرف على أعلام العلماء الكبار في جميع المجالات، والذين لم يحل الإيمان بينهم وبين العلم، وذلك ليثبت لهم أنه لو كان العلم يقتضي الإلحاد، لكل كل أولئك العلماء المؤمنين غير جديرين بتلك الألقاب العلمية الكثيرة التي لقبوا بها.

فمن هؤلاء العلماء (1) الفيزيائي الكبير [جيمس جول] (1818 ـ 1889) الذي بيّن العلاقة بين الحرارة والحركة الميكانيكية، ولذا دعيت وحدة الطاقة باسمه [الجول] بالإضافة الى كونه أحد مؤسسي ما عرف بالطاقة الحرارية، وذلك بفضل تقديمه أساسا اختباريا للقانون الأول المختص بالديناميكا الحرارية، والذي يشير إلى أن الكون عاجز عن خلق نفسه بنفسه.. وقد عبر عن إيمانه بالله بقوله: (بعد التعرف على إرادة الله وطاعتها، يجب أن يكون هدفنا التالي هو الاطلاع على خصائص الحكمة والقدرة والصلاح لديه، كما تبرزها أعماله) (2)

ومنهم [وليم طومسون] (1824 ـ 1907) الذي اشتهر بإرسائه مبادئ الطاقة الحرارية، وبصياغته الدقيقة لكل من قانونها الأول الذي كان العالم جول قد عرضه أولا، ولقانونها الثاني.. بالإضافة إلى ذلك، فهو مكتشف قياس الحرارة المطلقة، والتي أطلق اسمه على وحدتها تكريما له، كما أنه سجل نحو تسعين اختراعا خلال حياته.. وقد عبر عن إيمانه بالله بقوله: (كل ما حولنا يشير بوضوح تام إلى خطة حكيمة وصالحة.. أما فكرة الإلحاد فهي بعيدة كل البعد

__________

(1) من المراجع التي رجعنا إليها في هذا: كتاب [وقال الله]، تأليف الدكتور فريد أبو رحمة، ترجمة ميشال خوري، وهو في موقع [مقدمات ومعاجم] على هذا الرابط:

https://www.kalimatalhayat.com/outlines/300 - and-god-said.html

(2) Crowther، British Scientists of the Nineteenth Century، Routledge كيف تناظر ملحدا؟ ( Kegan Paul، London، 1962،.p. 138.

كيف تناظر ملحدا؟ (271)

عن المنطق السليم بشكل أعجز عن التعبير عنه بالكلمات) (1)

ومنهم [جايمس كلارك ماكسويل] (1831 ـ 1879)، صاحب نظرية الكهرطاسية، مع ما يرافقها من معادلات، والتي مهدت السبيل أمام فيزياء القرن العشرين.. وقد كان من صلواته التي حفظت في وثائقه قوله: (اللهم القادر على كل شئ، يا من خلقت الإنسان، وجعلته نفسا حيا حتى يتسنى له أن يطلب وجهك، كما سلطته على المخلوقات، علمنا أن ندرس أعمال يديك بهدف تسخير الأرض لخدمتنا، وعزز دوافعنا المقدسة لخدمتك)

ومنهم [جوانّس كبلر] (1571 ـ 1630) الذي استحق، بفضل اكتشافاته في علم الفلك، أن يوصف بالرجل الذي باشر العملية التي اعتمدت المنطق بدل الخرافات، فقوانينه الثلاث حول مسار الكواكب، هي التي أرست أسس علم الفلك الحديث، وقد عبر عن إيمانه بقوله: (أنا مسيحي مؤمن، معترفاً بأن الله هو الخالق اللطيف الذي كوّن الطبيعة من لا شيء) (2) وذكر في كتابه [انسجام العالمين]، والذي أصدره في العام 1619 لتدوين مبدأه الثالث المتعلق بمسار الكواكب، هذه الكلمات: (عظيم هو الله ربنا، وعظيمة قدرته، ولا نهاية لحكمته) (3)

ومنهم [روبرت بويل] (1627 ـ 1691) الذي يعتبر بحق رائد الكيمياء الحديثة، والذي كان له دور كبير في تقدم التفكير العلمي، ومن جملة اكتشافاته الشهيرة، جهوده بشأن علاقة ضغط الغازات بحجمها، والتي لا تزال تُعرف في أيامنا بقانون بويل.. فهو لم يكتف بتلك العلوم فقط، بل أضاف إليها تأليفه لبعض الكتب الدينية التي ضمنها مجموعة من

__________

(1) Thomson، W. Journal of the Victoria Institute، Vol. 124، p. 267..

(2) Tiner، J.H. Johannes Kepler- Giant of Faith and Science، Mott Media، Milford (Michigan)، 1977، pp. 195 - 6

(3) المرجع السابق.

كيف تناظر ملحدا؟ (272)

التأملات الروحية التي انطلق فيها من عالم الطبيعة لتوضيح حقائق الدينية (1).

ومنهم [إسحق نيوتن] (1642 ـ 1737)، صاحب الاكتشافات الكثيرة، كقوانين الجاذبية وقوانين الحركة وغيرها، بالإضافة إلى مساهماته في حقول الفيزياء، والرياضيات، وعلم الفلك وغيرها، وقد كتب متحدثا عن كتابه [برينسيبا ماثيماتيكا] الذي يعد من أعظم الكتب العلمية، وأكثرها تأثيرا في مسار التطور العلمي، ولا سيما في الفيزياء: (لقد كتبت هذا الكتاب وأنا أضع نصب عيني أن يكون سبيلا إلى مساعدة الناس على أن يؤمنوا بالله المعبود، ولن يسعدني شيء أكثر من تحقيق هذه الغاية)، ومن أقواله المأثورة: (يكفي أن أنظر لإبهامي حتى أكون مؤمنا بالله)، ومن أقواله: (الإلحاد هو ضربٌ من الغباء. فعندما أنظر إلى النظام الشمسي، أرى أن الأرض تقع على المسافة المناسبة من الشمس، والتي تمكّنها من الحصول على الكميات المناسبة من الحرارة والنور. وهذا بالطبع، لم يحدث من قبيل الصدفة)، ومن أقواله: (إن هذا النظام الرائع الذي يتكوّن من الشمس والكواكب والمذنّبات لا يمكنه أن يصدر إلاّ عن مشورة وسلطان كائن فهيم وفطن... وهذا الكائن الإلهي هو الذي يتحكّم بالكل إذ هو رب الكل) (2)

ومنهم [مايكل فاراداي] (1791 ـ 1867) الذي كان رائداً في حقل الكهرباء، وهو المسؤول عن اختراع كل من المولّد الكهربائي والمحوّل الكهربائي، كما أنه كان من أوائل مصنعي المحركات الكهربائية، ولهذا أطلقت فاراد (Farad) على وحدة المواسعة الكهربائية، ومن أقواله المعبرة عن إيمانه قوله لمن سأله عن تخميناته بشأن ما يحصل بعد الموت: (أنت تحدثني عن تخمينات؟ ليس عندي أية تخمينات. بل أنا مستند إلى أمور يقينية وأكيدة. لأني عالم بمن

__________

(1) More، L. T. The Life and Works of the Hounourable Robert Boyle، oxford University Press، Oxford، 1944، P. 171..

(2) Tiner، J. H. Issac Newton- Inventor، Scientist، and Teacher، Mott Media، Milford (Michigan)، 1975 - inside front cover..

كيف تناظر ملحدا؟ (273)

آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم) (1)

ومنهم [صموئيل مورس] (1791 ـ 1872) مخترع التلغراف، ونظام مورس الذي دُعي باسمه، والذي اختار عبارة [ما فعل الله] الواردة في الكتاب المقدس (2)، لتكون أول رسالة رسمية تم نقلها بواسطة التلغراف، ومن تصريحاته المعبرة عن إيمانه قوله: (أنه عمل الرب... ليس لنا، يا رب، ليس لنا، لكن لاسمك أعطِ مجداً) (3)

ومنهم [متى موري] (1806 ـ 1873) الذي كان رائداً في مجالي علم المحيطات، وعلم وصف المياه، والذي كانت مقالاته وكتبه من أشهر المراجع في هذين الحقلين، ومن كلماته المعبرة عن إيمانه قوله: (لقد لامني العلماء على اقتباسي من الكتاب المقدس لتثبيت مبادئ الجغرافيا المادية. فالكتاب المقدس، في زعمهم، لم يُكتب لأهداف علمية، وبالتالي لا سلطة له في ما يتعلق بالمسائل العلمية. لكن أرجو منكم المعذرة. فالكتاب المقدس هو السلطة بالنسبة إلى كل شيء يأتي على ذكره... إن الكتاب المقدس هو حق وصحيح، كما أن العلوم أيضاً هي حق وصحيحة. وهكذا فإن قراءة كل واحد منهما، على نحوٍ صحيح، لن يعمل إلا على برهان صحة الآخر) (4)

ومنهم [لويس باستور] (1822 ـ 1895)، مؤسس الصنف علم الأحياء المجهري (Microbiology) وعلم الجراثيم (Bacteriology)، والذي اقترح التلقيح، وتحصين المناعة، والبسترة، والتي ساعدت على إنقاذ حياة الملايين من الناس، وصاحب قانون النشوء الإحيائي، داحضاً بذلك فكرة التولّد التلقائي، والتي كانت رائحة في ذلك الحين.. وهو مع كل هذه

__________

(1) Boreham، F. W. A Handful of Stars: Tests that Moved Great Minds، Epworth Press، London، 1933، P. 180.

(2) سفر العدد 23: 23.

(3) Williams، E. L. and Mulfinger، G. Physiacal Science for Christian Schools، Bob Jones University Press، Greenville (South Carolina)، 1974، P. 458.

(4) Corbin، D. F. M. A Life of Matthew Fontain Moaury، USN كيف تناظر ملحدا؟ ( CSN، Sampson كيف تناظر ملحدا؟ ( Low كيف تناظر ملحدا؟ ( Co.، 1888.

كيف تناظر ملحدا؟ (274)

المنجزات العلمية الضخمة، كان مؤمنا، ولم يحل العلم بينه وبين الإيمان، وقد عبر عن إيمانه بقوله: (العلم يعمل على تقريب الناس من الله)، وقال: (كلّما أمعنتُ في دراسة الطبيعة، كلّما ازدادت دهشتي أمام عما الخالق) (1)

ومنهم [البروفسور جون بولكنجهورن] الفيزيائي الشهير الذي تأثر تأثرا شديدا بسبب انحراف الفيزياء النظرية عن مجالها، ودخولها في عوالم ممتلئة بالغموض والغرابة للهروب من الله.. وقد قال معبرا عن نقده الشديد لنظرية الأكوان المتعددة: (إنها ليست فيزياء.. إنها في أحسن الأحوال فكرة ميتافيزيقيه، ولا يوجد سبب علمي واحد للإيمان بمجوعة من الأكوان المتعددة.. إن ماعليه العالم الآن هو نتيجة لإرادة خالق يحدد كيف يجب أن يكون)

ومنهم [جوهانس كبلر] صاحب الاكتشافات العظيمة في علم الفلك، والذي يوصف بالرجل الذي باشر العملية التي اعتمدت المنطق بدل الخرافات، بفضل قوانينه الثلاثة حول مسار الكواكب، والتي أرست أسس علم الفلك الحديث.. والذي لم تمنعه شهرته العلمية من إعلان إيمانه بالله، معترفا بأن الله هو (الخالق اللطيف الذي كوّن الطبيعة من لا شيء).. كما أنه اعترف بأنه قوانينه التي اكتشفها جاءت وليدة إيمانه بأن الله هو إله ترتيب، وليس إله تشويش.. ولهذا فقد أطلق على كتابه عنوان [انسجام العالمين]، الذي وردت فيه هذه العبارات الجميلة: (عظيم هو الله ربنا، وعظيمة قدرته، ولا نهاية لحكمته)

ومنهم [أنطوني فلو] ذلك الفيلسوف والعالم الذي عاش فترة طويلة من حياته في الإلحاد، حتى أنه اشتهر بكونه فيلسوف الإلحاد، لكونه ظل ما يقارب ستين عاماً يدافع عن الفكر الإلحادي في جامعات أكسفورد وأبيردين وكيلي وريدينغ وفي كثيرمن الجامعات الأمريكيه والكنديه التي قام بها بزيارتها، مستخدما لذلك كل الوسائل من مناظرات وكتب ومقالات وغيرها، لكنه لم يجد في

__________

(1) Tiner، J. H. Louis Pasteur- Fouder of Modern Medicine، Mott Media، Michigan (1990)، p. 75..

كيف تناظر ملحدا؟ (275)

الأخير ملاذا إلا في الإيمان، فكتب كتابه الذي ينتقد فيه نفسه، وسماه [للكون إله]، وقد عبر عن سبب اختياره الإيمان، فقال: (لقد أثبتت أبحاث علماء الأحياء في مجال الحمض النووي الوراثي، مع التعقيدات شبه المستحيله المتعلقه بالترتيبات اللازمه لإيجاد الحياة أثبتت أنه لابد حتماً من وجود قوة خارقة وراءها).. وقال لي: (لقد أصبح من الصعوبه البالغه مجرد البدء في التفكير في إيجاد نظرية تنادي بالمذهب الطبيعي لعملية نمو أو تطور ذلك الكائن الحي المبني على مبدأ التوالد والتكاثر)

ومنهم [جورج ايرل دافيز] عالم الطبيعة، ورئيس قسم البحوث الذرية بالبحرية الأمريكية، والأخصائي في الإشعاع الشمسي والبصريات الهندسية والطبيعية، والذي لم يمنعه علمه من أن يصرح بإيمانه بالله، بل يكتب المقالات العلمية في الدعوة إليه، ومن أقواله في ذلك، والتي سجلها في بعض مقالاته: (تعددت الأسباب التي تدفع بالإنسان إلى إعادة النظر في أمور الدين، ولكننا نؤمن أنها ترجع جميعا إلى رغبة البشر رغبة صادقة في الوصول إلى الحقيقة)

ثم راح يفرق بين انتقاد بعض المفاهيم أو الممارسات الدينية وبين الإيمان بالله، فقال: (ينبغي أن نفرق في هذا المقام بين معارضة الدين أو الخروج عليه ويبين الإلحاد، وأن نعترف بأن من يخرج على بعض الأفكار التقليدية التي ينطوي عليها دين من الأديان، لكي يؤمن بوجود إله قوي كبير، لا يجوز أن نعده بسبب ذلك وحده ملحدا.. فمثل هذا الشخص قد يكون غير معتنق لدين من الأديان، ولكنه يؤمن بالله، وقد يكون إيمانه هذا بالله قائما على أساس متين)

ثم راح يفند تلك المقولة التي تجعل العلم حكرا على الملاحدة، فقال: (وليس معنى ذلك أننا ننكر وجود الإلحاد والملحدين بين المشتغلين بدراسة العلوم، إلا أن الاعتقاد الشائع بأن الإلحاد منتشر بين رجال العلوم أكثر من انتشاره بين غيرهم، لا يقوم على صحته دليل، بل إنه يتعارض مع ما نلاحظه فعلا من شيوع الإيمان بين جمهرة المشتغلين بالعلوم)

ومنهم الفيزيائي الشهير [راسل ستانارد] الذي عبر عن رفضه لأمثال تلك الطروحات

كيف تناظر ملحدا؟ (276)

التي لبست لباس العلم والفيزياء لتبتعد الله، وتلغي وجوده، ومن أقواله في ذلك: (إن فلسفة هاوكنج تحديدا ما أعارضه، فهي كما وصلتني مثال واضح على التعالم، فطرح أن العلم هو مصدر المعلومات الوحيد، وأننا لدينا فهم كامل لكل شيء هراء، بل هراء خطير أيضا، فهو يشعر العلماء بالكبر والغرور بشكل مبالغ فيه)

وقال عن [نظرية الأوتار]: (إنها نظرية تحتاج لمصادم هيدروني بحجم مجرة لاختبارها وهذا غير ممكن.. حسنا لو قلنا ـ طبقا للنظرية ـ إن الكون خلق نفسه، فمن أوجد النظرية؟ ومن أوجد القوانين الفيزيائية الخاصة بها؟.. ورغم ذلك فلا توجد لها معادلة فيزيائية حتى الآن.. أطلب منهم أن يكتبوا معادلة فيزيائية.. لن يفعلوا لانهم ببساطة لايمتلكونها)

ومنهم الفيزيائي الألماني الكبير، والحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1932.. وأحد مؤسسي فيزياء الكم، وصاحب أحد أهم مباديء الفيزياء الحديثة، مبدأ عدم اليقين، والقائل: (إنه نظام مبهر تحكمه قوة حكيمة قادرة، لو اختفت من الوجود لاجتاحت الجنس البشرى مصائب رهيبة أسوأ من الانفجارات النووية وحروب الإبادة)

ومنهم [توماس دافيدباركس] ذلك الأستاذ الألمعي في الكيمياء، والأخصائي في النظريات الكهربية والأشعة السينية.. والذي لم يمنعه علمه من أن يؤمن بالله، وينضم إلى الدعاة إليه.

ومنهم [وولز اوسكار لندبرغ] عالم الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية، والقائل: (للعالم المشتغل بالبحوث العلمية ميزة على غيره، وإذا استطاع أن يستخدم هذه الميزة في إدراك الحقيقة حول وجود الله، فالمبادئ الأساسية التي تستند اليها الطريقة العلمية التي يجري بحوثه على مقتضاها هي ذاتها دليل على وجود الله)

ومنهم [ليونارد سسكايند] (من مواليد 1940) أبو نظرية الأوتار الفائقة، وأستاذ الفيزياء النظرية بجامعة ستافورد، والذي كان في بداية أمره مُلحدا، لكن بعد أبحاثه الأخيرة

كيف تناظر ملحدا؟ (277)

أعترف أنه يستحيل أن ينشأ الكون إلا من خلال تصميم ذكي وتَرك الإلحاد جانبا، وهو يدافع الآن بكل قوة عن ضرورة وجود إله، وقد كتب في ذلك كتابه [حرب الثقب الأسود: معركتي مع ستيفن هاوكنج من أجل جعل العالم أكثر أمانا مع ميكانيكا الكم]، والذي انتقد فيه بشدة طروحات ستيفن هاوكنج الإلحادية.

ومنهم [روبرت موريس بيج] (1853 ـ 1924 م) عالم الطبيعة، وأول من اكتشف الرادار في العالم سنة 1934، وسجل عشرات الأبحاث حوله.. والذي لم يمنعه علمه من أن يصرح بالإيمان بالله، بل يدعو إليه، ويبرهن عليه، ومن أقوال في ذلك: (ولابد لنا أن نسلم فوق ذلك بما يسلم به الكثيرون من أن قدرتنا على الملاحظة لا تستطيع أن تمتد لغير جزيء ضئيل نسبياً من الحقيقة الكلية.. فالإله الذي نسلم بوجوده لا ينتمي إلى عالم الماديات، ولا تستطيع حواسنا المحدودة أن تدركه، وعلى ذلك فمن العبث أن نحاول إثبات وجوده باستخدام العلوم الطبيعية لأنه يشغل دائرة غير دائرتها المحدودة الضيقة)

ومنهم [ألكسيس كاريل] (1873 ـ 1944) ذلك الطبيب الجراح، الذي حاز على جائزة نوبل في الطب عام 1912.. والذي لم يححبه علمه عن ربه، فقد كتب كثيرا عن الله وأهمية التواصل معه، ومن أقواله في ذلك: (لعل الصلاة هي أعظم طاقة مولدة للنشاط عرفت إلى يومنا هذا، وقد رأيت بوصفي طبيباً كثيراً من المرضى فشلت العقاقير في علاجهم فلما رفع الطب يديه عجزاً وتسليماً دخلت الصلاة فبرأتهم من عللهم)

وقال: (إن الصلاة كمعدن الراديوم مصدر للإشاعات ومولد للنشاط، وبالصلاة يسعى الناس إلى زيادة نشاطهم المحدود حين يخاطبون القوة التي يغنى نشاطها)

وقال: (إننا نربط أنفسنا حين نصلى بالقوة العظمى التي تهيمن على الكون ونسألها ضارعين أن تمنحنا قبسا منها نستعين به على معاناة الحياة بل أن القراءة وحدها كفيلة بأن تزيد قوتنا ونشاطنا ولن نجد أحدا يضرع إلى الله إلا عادت عليه الضراعة بأحسن النتائج)

كيف تناظر ملحدا؟ (278)

وكان يقول في تواضع شديد، وهو الحائز على جائزة نوبل في العلوم: (لست فيلسوفاً، ولكنني رجل علم فقط، قضيت الشطر الأكبر من حياتي في المعمل أدرس الكائنات الحية، والشطر الباقي في العالم الفسيح أراقب بني الإنسان، وأحاول أن أفهمهم، ومع ذلك فإنني لا أدعي أنني أعالج أموراً خارج نطاق حقل الملاحظة العلمية)

هذه مجرد نماذج عن كبار العلماء الذين لم يحل علمهم بينهم وبين الإيمان، وذلك أكبر دليل على أنه لا علاقة بين العلم والإلحاد، وأن الإلحاد رغبة نفسية، لا نتيجة للأبحاث العلمية.

بل إننا نجد في العصر الحديث كبار المفكرين والفلاسفة والعلماء الذين لم يكتفوا بالإيمان المجرد، وإنما استطاعوا بعد البحث الطويل، والمرور على التيارات الفكرية المختلفة التعرف على الإسلام، والإيمان به، والإذعان له، والكتابة في الدعوة إليه.. وهم كثيرون جدا، وذلك دليل على ما يحمله الإسلام من مفاهيم الدين الصحيح التي تتناسب مع العقل والفطرة، وتحمل مشروعا للبشرية، يدل على كونه رسالة إلهية.

ومن هؤلاء (1) الفيلسوف السويديِّ هوجان لارسون الذي أعلن عن إسلامِه في السويد مؤخرا، والفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، والعالم والطبيب الفرنسي موريس بوكاي، والكاتب النمساوي محمد أسد، والدبلوماسي والسفير الألماني مراد هوفمان، والمغني الإنجليزي كات ستيفنس (يوسف إسلام)، والداعية الإسكتلندي عبد القادر الصوفي، والكاتبة الأمريكية مريم جميلة، والدبلوماسي الانكليزي غي إيتون، والمستشرق الانكليزي مارتن لنغر، والكاتبة الانكليزية عايشة بويلي، والكاتبة الاسترالية جميلة جونز، والأنتروبولوجي الألماني أحمد فون دينفر، وأستاذ الرياضيات الأمريكي جيفري لانغ، وغيرهم كثير..

وقد ذكرنا الكثير منهم، ومواقفهم من الإسلام في كتاب [قلوب مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم]، ويمكن

__________

(1) انظر مقالا تحت عنوان: تحولات المفكرين نحو الإيمان.

كيف تناظر ملحدا؟ (279)

للداعية الرجوع إليه لمعرفة مواقفهم ومواقف الكثير من الغربيين من الحضارة المادية التي أنشأها الفكر الملحد، والتي لم تستطع أن تلبي حاجات البشرية النفسية والروحية والعقلية.. بل كانت وسيلة للصراع بين الأمم، واستغلال المستكبرين للمستضعفين.

بالإضافة إلى ذلك نجد في سير حياتهم كيفية تعرفهم على الإسلام، وسر انجذابهم له، ونقدا عميقا للفكر المادي الإلحادي وللديانة المسيحية أو اليهودية، متفاعلين بعقول ناقدة ويقظة مع منتجات الحضارة الغربية وإشكالات الثقافة الأوروبية في مختلف الأبعاد الفلسفية والتاريخية والفكرية والسياسية.

فمن هؤلاء ـ مثلا ـ[روجيه غارودي] فيلسوف القرن العشرين بفرنسا، والذي مر بتحولات فكرية كثيرة إلى أن وصل إلى الإسلام، (1) فمنذ سنة 1933 انتمى للحزب الشيوعي الفرنسي معتقدا (أن الشيوعية كانت الاختيار الوحيد الذي يطرح بديلا للخروج من أزمة الرأسمالية. كما كانت أفضل جبهة تقاوم هتلر والنازية في هذه الفترة، ففي فرنسا ـ على سبيل المثال ـ كان معظم المشتغلين بالكتابة والفنون وأساتذة الجامعات، وحائزي جائزة نوبل: إما أعضاء في الحزب الشيوعي أو أصدقاء للشيوعيين. وذلك بسبب الحالة السيئة التي نشأت عن أزمة الرأسمالية وتيار المقاومة لنازية هتلر) (2)

وكان غارودي يبحث عن إيديولوجيا توفر السلام والأمن للبشرية، وتمنح الانسجام بين الأخلاق والسياسة، وبين الروح والمادة، وبين الفرد والمجتمع، وبين الثقافات الغربية وغير الغربية؛ أي أيديولوجيا عالمية تضم كل البشر.

كان يبحث عن دين يسمو فوق القومية والوطن واللغة والمستوى الاقتصادي للحياة،

__________

(1) انظر: شاهد من الغرب: ورقات تمهيدية لقراءة فكر جارودي، عبد العتاق مخلص، دار القرويين، الطبعة الأولى 2004.

(2) صلاح عبد الرزاق، نقلا عن مصطفى حلمي، إسلام غارودي بين الحقيقة والافتراء، دار الدعوة، الطبعة الأولى، القاهرة، 1996. ص 17.

كيف تناظر ملحدا؟ (280)

ويمنح الحياة الإنسانية معناها الحقيقي، وقد وجد غارودي في الإسلام النموذج لنوع من الحوار التوفيقي الذي كان مشغولا به طوال ثلاثين عاما.

ولذلك فإنه وفي سنة 1966 أصدر كتابه [ماركسية القرن العشرين]، مؤسسا بذلك موقفا نقديا من مسلمات الماركسية الثابتة، متهما الماركسية بالتحول إلى دين رسمي ذي طقوس وأتباع، ومبرزا أن هذه المقولة مخالفة لقول انجلز: (نظريتنا ليست ناموسا إلهيا، ناموسا يجب حفظه عن ظهر قلب وترديده بصورة آلية، بل هي دليل عمل)، كما انتقد فيه الفهم الخاطئ لمقولة: (الدين أفيون الشعوب)، فالادعاء بأن الدين في كل زمان ومكان يصرف الإنسان عن العمل والكفاح متناقض تناقضا صارخا مع الواقع التاريخي (1).

وقد طرح غارودي في سياق مراجعاته للماركسية الجامدة، مقولة [لا دين أفيون للشعوب، ولا إلحاد وضعي]

ولذلك رأى في تلك الفترة ـ وفي سياق نقده للماركسية ـ أن البديل الحقيقي هو إيمان مناضل وخلاق، لا يقصر الواقع على ما هو كائن فحسب، بل يضمنه أيضا جميع ممكنات مستقبل يبدو على الدوام مستحيلا في نظر من لا يملك قوة التأمل. فالإيمان يعني الأمل، مع ما يحمله من استكشاف الإمكانيات الكامنة وراء الواقع المباشر.

ويبرز ذلك غارودي بعمق وتفصيل أكثر في كتابه: [نحو حرب دينية] في سياقه مراجعته للماركسية، حيث اعتبر أن الإلحاد لم يكن مكوّنا ضروريا من مكونات الاشتراكية. كما أكد أن ماركس لم يقم بنقد فلسفي للدين، بل قام بنقد سياسي، مفسرا ذلك بقوله: (ففي نضاله من أجل الطبقات المستغلَّة والمضطهدة، اصطدم [ماركس] في أوروبا التي سيطرت عليها روح [الحلف المقدس] بين كبار رجال الدين والأمراء ضد كل حركة ديموقراطية أو اشتراكية، بدين

__________

(1) روجي غارودي، ماركسية القرن العشرين، ص 147.

كيف تناظر ملحدا؟ (281)

يلعب، فعلا، دور أفيون الشعب) (1)

وبعد تلك التحولات الكثيرة التي مر بها، تحدث عن نفسه ملخصا رحلة حوالي ثمانين عاما من البحث الفكري والعمل النضالي في قضية [المحاكمة بالذات] والتي انتهت باتهامه بمعاداة السامية، ومما جاء فيها قوله ـ متوجها لقاضيه وللجمهور الحاضر في قاعة المحكمة ـ: (إنني أستاذ جامعي متقاعد، وكاتب ألفت 54 كتابا وترجمت كتبي إلى 29 لغة وقدمت عني 22 أطروحة جامعية، وقد قاومت النازية في أثناء الاحتلال، ونفيت طيلة 33 شهرا في الجزائر، وكنت عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، لكنني فصلت من الحزب عام 1970؛ لأنني قلت إن الاتحاد السوفيتي ليس بلدا اشتراكيا، كما عملت 14 عاما كنائب في الجمعية الوطنية (البرلمان) ثم اعتنقت الإسلام)

وعندما نبحث في كتبه عن أسباب اعتناقه للإسلام بعد كل تلك الرحلة الطويلة من البحث نجد أنها أسباب فكرية بالدرجة الأولى، فالواقع الإسلامي لم يكن يشجع أبدا على الإسلام، ولكنه وعند عودته للمصادر المقدسة للمسلمين، وجد فيها كل ما يهفو إليه.

لقد وجد روجيه أن كل تلك المراحل الفكرية التي مر بها ابتداء من المادية الجدلية، والتفسيرات الأرسطية والهيجلية والماركسية للمجتمع وللاقتصاد والثقافة والفن وللكون بشكل أشمل، وانتهاء ببعض التجارب الدينية من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، كانت مجرد طريق عبد له ليصل من خلاله إلى الإسلام.

وقد قال في بعض حواراته: (الخطيئة الكبرى في الحضارة الغربية أنها اعتمدت صيغة النمو المادي التراكمي.. نمو الإنتاج ونمو الاستهلاك كمعيار أوحد للتقدم وللسعادة وللعمل الإنساني ولكن ماذا بعد؟ ماذا بعد المزيد والمزيد من إنتاج السيارات والماكينات وأجهزة

__________

(1) روجيه غارودي، نحو حرب دينية: جدل العصر، ترجمة: صياح الجهيم، دار عطية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، بيروت، 1997..

كيف تناظر ملحدا؟ (282)

الكومبيوتر؟ ماذا بعد المزيد والمزيد من البنوك والأرباح المالية؟ ماذا بعد المزيد والمزيد من المدن والطرق والمصانع؟ إلى أين سنصل بعد ذلك.. وأين النمو في القيم والأخلاق والمعاملات والسعادة الحقيقية؟) (1)

وفي حوار آخر له مع مجلة الأمة لخص أسباب انجذابه للإسلام قائلا: (إذا حكمت على الأمور في ضوء تجربتي الشخصية فإنني أقول: إن ما كان يشغلني هو البحث عن النقطة التي يلتقي فيها الوجدان بالعقل أو الإبداع الفني والشعري بالعمل السياسي العقيدي، وقد مكنني الإسلام والحمد لله من بلوغ نقطة التوحيد بينهما ففي حين أن الأحداث في عالمنا تبدو عمياء متطاحنة وقائمة على النمو الكمي والعنف يروضنا القرآن الكريم على اعتبار الكون والبشرية وحدة واحدة يكتسب فيها الدور الذي يسهم به الإنسان معنى) (2)

وقال: (أحب أن أقول إن انتمائي للإسلام لم يأت بمحض الصدفة، بل جاء بعد رحلة عناء وبحث، ورحلة طويلة تخللتها منعطفات كثيرة، حتى وصلت إلى مرحلة اليقين الكامل، والخلود إلى العقيدة أو الديانة التي تمثل الاستقرار، والإسلام في نظري هو الاستقرار.. بدا لي الإسلام حامل إجابة على أسئلة حياتي) (3)

هذا مجرد نموذج عن مفكر مر بمراحل فكرية ودينية متعددة إلى أن وصل إلى الإسلام، ويوجد أمثاله الكثير من المفكرين والعلماء، والذين يمكن الاستفادة من طروحاتهم في التفريق بين الدين المزيف والدين الإلهي، لأن مشكلة الملاحدة هي جحودهم للإيمان بالله بسبب مواقفهم من التحريفات الدينية.

2 ـ الدين.. والعلم

__________

(1) مجلة الدوحة ديسمبر 1982.

(2) مجلة الأمة العدد 29 السنة الثالثة ـ فيفري 1983.

(3) غارودي، محاضرة حوار الحضارات، ألقاها في الاسكندرية يوم 21 ـ 03 ـ 1983. نقلا عن روجي غارودي، محمد عثمان الخشت (إعداد) لماذا أسلمت نصف قرن من البحث عن الحقيقة.

كيف تناظر ملحدا؟ (283)

من الطروحات التي يرددها الملاحدة كثيرا في ردودهم على الإيمان بالله، وبيان عدم مصداقيته دعواهم التناقض بين الدين والعلم.. وهذا ـ مع كونه غير مرتبط بالإيمان بالله كما ذكرنا سابقا، لأن الدين قضية، والإيمان بالله قضية أخرى ـ صحيح من بعض الجهات، ولكنه ليس صحيحا من الجهات كلها.

ولذلك كان على الداعية أن يبين بعض مصداقيتهم في هذا الجانب، ولا يجادلهم فيه؛ فالحق أحق أن يتبع، بل إن اتفاقه معهم في هذا الجانب قد يكون مقدمة لتليينهم لمعرفة الحق والإذعان له.

ذلك أن هناك الكثير من رجال الدين الذين ربطوا بين الدين وبين بعض الخرافات، ثم طلبوا من العلماء أن يؤمنوا بها، وقد وقع ذلك في جميع الأديان بما فيها الإسلام نفسه..

ولذلك كان الموقف الصحيح هو مواجهة التحريفات، لا الرد على الدين نفسه.. والأولى أن يقوم أصحاب الدين نفسه بالمواجهة والرد، حتى لا يكون دينهم عقبة وحائلا دون الإيمان.

وسنذكر هنا بعض الأمثلة على ذلك من خلال الديانتين الكبيرتين: المسيحية والإسلام.

أ ـ المسيحية والعلم

لا يمكننا أن ننكر الصراع بين المسيحية كدين أو كنيسة والعلم، فكلاهما يتبنى بعض المعتقدات التي تتناقض مع العلم، ولذلك كان ذلك الصراع سببا في ظهور الكثير من المدارس الإلحادية التي لم تستطع أن تمزج بين منتجات العلم القطعية، وبين ما في الكتاب المقدس، أو ما تتبناه الكنيسة من معارف وعلوم.

وسبب ذلك لا يعود للدين الإلهي نفسه، ذلك الدين النقي الصافي الذي جاء به المسيح عليه السلام، وإنما يعود لخطأين وقعت فيهما الكنسية:

أولهما: تحريف حقائق الوحي الإلهي وخلطها بكلام البشر، ولهذا نجد الكثير من

كيف تناظر ملحدا؟ (284)

الأسفار التي كتبها بشر عاديون، ومع ذلك توصف بالكتب المقدسة، وقد فصلنا الحديث عنها في كتاب [الكلمات المقدسة]

وثانيهما: فرض الوصاية على العلماء الذين يخالفونها في تلك المعتقدات التي تؤمن بها، وقد نشأ هذا عن ضيق صدر الكنيسة بما يخالف تعاليمها المختلطة، وإصرارها على التشبث بها، فكان الامتداد الطبيعي للطغيان الديني طغياناً فكرياً عاماً.

الخطأ الأول

أما الخطأ الأول؛ فهو أنه كما تسربت الوثنيات إلى عقائد المسيحية، وتسربت طقوس الوثنية إلى شعائرها، تسربت الخرافات إلى علومها.. ولم تكتف بقبولها، بل راحت تحتكرها، وتعتبرها عقائد لازمة يحرم من جحدها.

فقد تبنت الكنيسة آراء أرسطو في الفلسفة والطب ونظرية العناصر الأربعة ونظرية بطليموس في أن الأرض مركز الكون.. وما أضاف إلى ذلك كله القديس أوغسطين وكليمان الإسكندري وتوما الاكويني.. واعتبرت هذا المزيج من الآراء البشرية أصولاً من أصول الدين المسيحي وعقائد مقدسة لا يصح أن يتطرق إليها الشك.

وقد كانت هذه العلوم المسيحية تشتمل على معلومات تفصيلية عن الكون.. تذكر بأن الله خلق العالم ابتداء من سنة 4004 ق. م، وتوج ذلك بخلق الإنسان في جنة عدن.. والعجيب أنها ظلت مصرة على هذا الرأي حتى مطلع القرن التاسع عشر، فقد طبع كتاب الأسقف (آشر) الذي يحمل هذه النظرية سنة 1779 م (1).

بالإضافة إلى هذا؛ فقد رأت الكنيسة أن الأرض يجب أن تكون مركز الكون الثابت لأن الأقنوم الثاني.. الذي هو المسيح.. تجسد فيها، وعليها تمت عملية الخلاص والفداء، وفوقها يتناول العشاء الرباني، وأضافوا إلى هذا ما فهموه من قول التوراة: (الأرض قائمة إلى الأبد،

__________

(1) انظر معالم تاريخ الإنسانية: ج 1 ص 16.

كيف تناظر ملحدا؟ (285)

والشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق) (سفر الجامعة:1/ 5 - 6)

أما كروية الأرض وسكنى جانبها الآخر، فنفتها الكنيسة بحجة أن (من خطل الرأي أن يعتقد الإنسان بوجود أناس تعلو مواطئ أقدامهم على رؤوسهم وبوجود نباتات وأشجار تنمو ضاربة إلى أسفل، وقالت إنه لو صح هذا الزعم لوجب أن يمضي المسيح إلى سكان الوجه الآخر من الأرض ويموت مصلوباً هناك من أجل خلاصهم) (1)

أما تاريخ الطوفان فتختلف فيه تقاويم التوراة، لكنه على أقصى آرائها وقع بعد خلق آدم بـ (2262) سنة (2)، ومعنى ذلك أنه كان سنة 1742 ق. م.

ومن الطريف أن مجلساً كنسياً كان قد أعلن في بداية القرن العاشر للميلاد أن القرن الأخير من حياة العالم قد استهل، لأن الله قد جعل المدة بين إنزال ابنه ونهاية العلم ألف سنة فقط (3).

هذه بعض معلوماتها التاريخية.. أما معلوماتها الطبية، فقد كانت أفضل وأنجح الوسائل العلاجية في نظرها إقامة الطقوس لطرد الشياطين التي تجلب المرض، ورسم إشارة لصليب ووضع صور العذراء والقديسين تحت رأس المريض ليشفي.

الخطأ الثاني

وقد برز بعد احتكاك الكثير من الأوروبيين بمراكز الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية وجنوب إيطالية، ونتجت عنه ثورة علمية في أوروبا، وهنا ثارت ثائرة رجال الكنيسة على الذين يتلقون علوم الكفار.. والذين لم يكونوا في نظرهم غير المسلمين..

فلذلك أعلنت حالة الطوارئ ضدهم، وشكلت محاكم التفتيش في كل مكان تتصيدهم

__________

(1) قصة النزاع بين الدين والفلسفة: توفيق الطويل /205 وانظر كذلك تكوين العقل الحديث 3/ 348.

(2) انظر: إظهار الحق:218.

(3) انظر قصة الحضارة:14/ 379.

كيف تناظر ملحدا؟ (286)

وتذيقهم صنوف النكال.. وأصدرت منشورات بابوية جديدة تؤكد العقائد السابقة، وتلعن وتحرم مخالفيها.. وبذلك قامت المعركة بين الكنيسة والعلم، وأخذت تزداد سعاراً بمرور الأيام.

وقد كان من أول النظريات العلمية التي صادمت الكنيسة نظرية كوبرنيق (1543) الفلكية، فقبل هذه النظرية كانت الكنيسة المصدر الوحيد للمعرفة، وكانت فلسفتها تعتنق نظرية بطليموس التي تجعل الأرض مركز الكون، وتقول أن الأجرام السماوية كافة تدور حولها.

فلما ظهر كوبرنيق بنظريته القائلة بعكس ذلك كان جديراً بأن يقع في قبضة محكمة التفتيش، ولم ينج من ذلك لأنه كان قسيساً، بل لأن المنية أدركته بعد طبع كتابه بقليل، فلم تعط المحكمة فرصة لعقوبته، إلا أن الكنيسة حرمت كتابه (حركات الأجرام السماوية)، ومنعت تداوله وذكرت أن ما فيه هو وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل.

وقد ظن رجال الكنيسة أن أمر هذه النظرية قد انتهى، ولكن رجلاً آخر هو (جردانو برونو) بعث النظرية بعد وفاة صاحبها، فقبضت عليه محكمة التفتيش، وزجت به في السجن ست سنوات، فلما أصر على رأيه أحرقته سنة 1600 م وذرت رماده في الهواء.

وبعد موته ببضع سنوات كان (جاليلو) قد توصل إلى صنع المرقب (التلسكوب)، فأيد تجريبياً ما نادى به أسلافه نظرياً، فكان ذلك مبرراً للقبض عليه ومحاكمته، وقضى عليه سبعة من الكرادلة بالسجن مدة من الزمان، وأمر بتلاوة مزامير الندم السبعة مرة كل أسبوع طوال ثلاث سنوات (1)..

ولما خشي على حياته أن تنتهي بالطريق التي انتهى بها برونو أعلن ارتداده عن رأيه، وهو راكع على قدميه أمام رئيس المحكمة قائلاً: (أنا جاليلو.. وقد بلغت السبعين من عمري..

__________

(1) معالم تاريخ الإنسانية:1/ 1008.

كيف تناظر ملحدا؟ (287)

سجين راكع أمام فخامتك، والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الإلحادي الخاطئ بدوران الأرض)

ولم يكتف بهذا التعهد.. بل أضاف إليه التعهد بتبليغ المحكمة عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد هذا الزعم المضلل (1).

لكن الكنيسة لم تستطع أن تستمر في نصرة آرائها بهذه الطريقة، ذلك أنه لم يكد القرن السابع عشر يستهل حتى كان لنظرية كوبرنيق وما أضاف إليها برونو وجاليلو آثار واسعة، ظلت راسخة في الفلسفة الأوروبية عامة، وذلك ما أحدث أثرا خطيرا في ثقة الجماهير بالكنيسة جعلتهم يشكون في سلامة معلوماتها، وهو أثر له أهميته القصوى.

لقد قدم ذلك الصراع إيحاءات فلسفية جديدة، هزت فكرة الثبات المطلق التي كانت مسيطرة على العقلية الأوربية وحطت كذلك من قيمة الإنسان ومكانته في الوجود.

والأخطر من ذلك كله هو ما حصل من ثورة العلماء على الكنيسة كما ثار العامة عليها.. وتولد من تلك الثورة جاهلية جديدة فصلت العلم عن المبادئ والمثل.

وكان في إمكان الكنيسة حينها أن تراجع أطروحاتها، وتميز الإلهي من البشري في دينها، وتبحث عن أي محاولة توفيق تحفظ للعلم حرمته، وتحفظ للدين قداسته، لكنها لم تفعل، بل لجأت إلى سلاح الإرهاب الذي تدربت على استعماله في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش.

فقد كان القرن السابع عشر هو القرن الذهبي لمحاكم التفتيش؛ فقد قاسى العلماء أنواع الاضطهاد، واستخدمت ضدهم أساليب القمع الوحشية وظهرت الفهارس أو (القوائم البابوية) التي تحتوى على أسماء الكتب المحرمة، وكان وجود شيء من هذه الكتب في حوزة إنسان ذريعة لسوقه إلى محكمة التفتيش وتعريضه لأليم عقابها.

وقاومت الكنيسة كل محاولة للتجديد وإن كانت نافعة خيرة، فقد كفرت رئيس بلدية

__________

(1) قصة النزاع بين الدين والفلسفة: توفيق الطويل /205 وانظر كذلك تكوين العقل الحديث 3/ 348.

كيف تناظر ملحدا؟ (288)

في ألمانيا لأنه اخترع غاز الاستصباح بحجة أن الله خلق الليل ليلاً والنهار نهاراً، وهو بمخترعه يريد تغيير مشيئة الخالق فيجعل الليل نهاراً.

واضطرب حبل الكنيسة بظهور الروح الجديدة اضطراباً واضحاً وألقت بكل ثقلها في معركة كانت في غنى عن دخولها أمام الناس، لا سيما المثقفون الذين انتهزوا الفرصة وخيل إليهم أن الأقدار قد لاقت أيهم مفتاحاً سحرياً يخلصهم من سجن الكنيسة وأغلالها ذلك هو مفتاح (العلم والتجربة)

وبدأت خطايا الكنيسة والمسيحية التي كانت تغطى بستار القداسة تفتضح.. وأصبحت للناس ـ وللعلماء على الأقل ـ الجرأة الكافية ليقولوا للكنيسة: لا.

وكان (سبينوزا) ذلك اليهودي المتحرر من هؤلاء.. بل لعله أعنفهم.. فقد طبق المنهج العقلي على الكتاب المقدس نفسه، ووضع الأسس التي قامت عليها (مدرسة النقد التاريخي) التي ترى أنه يجب أن تدرس الكتب الدينية على النمط نفسه الذي تدرس به الأسانيد التاريخية.. أى على أساس أنها تراث بشري، وليست وحياً إلهيا.

وقد استنتج سبينوزا ـ انطلاقا من تطبيق هذا المنهج ـ أن أسفار التوراة لم يكتبها موسى عليه السلام، مستدلاً بما جاء في سفر التثنية من ذكر موت موسى ورثائه، وقول كاتب السفر: (لم يأت نبي مثله من بعده) (1)

واستطاع أن يثبت أن التوراة قد عينت أماكن بأسماء لم (توضع لها إلا بعد موسى بقرون عديدة) (2)

وفي إنجلترا طور جيبون النقد التاريخي للمسيحية في كتابه (سقوط الإمبراطورية الرومانية واضمحلالها).. أما هليوم فقد ابتدع مذهب الشك المطلق الذي كان ثورة نفسية على

__________

(1) انظر: رسالة (الكلمات المقدسة) من سلسلة [حقائق ورقائق]

(2) انظر: رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا، ترجمة: حسن حنفي.

كيف تناظر ملحدا؟ (289)

الإيمان المطلق طوال القرون الماضية.

كما استطاع (باسكال) أن يوجه نقده إلى عقيدة الخطيئة قائلاً: (لا شيء يزحم العقل الإنساني بالألم كعقيدة الخطيئة الأصلية، وأنه ليبدو أبعد ما يكون عن العقل أن يعاقب إنسان من أجل خطيئة اقترفها أحد أسلافه منذ أربعة آلاف سنة)

أما (جون لوك)، فقد خطا خطوة أبعد من ديكارت بأن طالب بإخضاع الوحي للعقل عند التعارض قائلاً: (من استبعد العقل ليفسح للوحي مجالاً، فقد أطفأ نور كليهما وكان مثله كمثل من يقنع إنساناً بأن يفقأ عينيه ويستعيض عنهما بنور خافت يتلقاه بواسطة المرقب من نجم سحيق)

كما دعا إلى تطبيق مبدأ جديد على الحياة الأوربية آنذاك، وهو مبدأ التسامح الديني وإعطاء الحق لكل إنسان في أن يعتنق ما يشاء ويكفر بما يشاء من الأديان والمذاهب.

لكن كل تلك الأصوات ظلت خافتة أمام بطش محاكم التفتيش، وضغط المجتمع الذي كان يدين بالمسيحية ويراها جزءاً من كيانه.. ولذلك لم يحرقوا.. ولكن تراثهم مع ذلك تعرض للحرق والمصادرة كما تعرضوا شخصياً للإيذاء والمضايقة من قبل الكنيسة.. إلى أن تفجر البركان العلمي في كل مكان والخلافات الداخلية بين الطوائف المسيحية شغلتها عن إعطائهم ما يستحقون من الاهتمام.

كما أن النظريات الجديدة عن الكون في ذلك الوقت قد غمرت الأفكار الفلسفية، واستأثرت بالاهتمام البالغ من قبل الأوساط الدينية والعلمية على السواء.

وحينها تجاوز النقد حد الأدب ليفسح الأمر لإله العقل الذي خلف إله الكنيسة.. فظهر فولتير الذي كان أعدى أعداء الكنيسة آنذاك؛ فقد نقد الكنيسة نقدا لاذعا، وكان أول ما انتقده العقيدة المسيحية في التثليث وتجسيم الاله والصور المقدسة وأنحى باللائمة على بولس الذي طمس المسيحية وحرفها، ولذلك كان الإيمان بالمسيحية في نظره هو (الاعتقاد بأشياء مستحيلة

كيف تناظر ملحدا؟ (290)

أو بأشياء تستعصي على الفهم فالحية تتكلم والحمار يتحدث وحوائط أريحا تتساقط بعد سماعها صوت الأبواق، إن الإيمان على هذا النحو هو على ما يقول أرازم هو الجنون)

أما الخطيئة الأولى فيرفضها فولتير، ويعتبرها إهانة لله واتهاماً له بالبربرية والتناقض، وذلك للتجرؤ على القول بأنه خلق الأجيال البشرية وعذبها لأن أباهم الأول قد أكل فاكهة من حديقته (1).

وقد انتقد فولتير الطقوس السبعة نقدا مريرا، وسخر من الكتاب المقدس سخرية لاذعة تتجلى في قوله تعليقا علي معلومات التوراة الجغرافية: (من الواضح أن الله لم يكن قويا في الجغرافيا).. وقوله عن صيام المسيحية (دواء للفقراء لا يتعاطاه الأغنياء)، ويري (أن الطقوس والشعائر والعبادات والاحتفالات الدينية جرائم محلية يعاقب عليها كل من يزاولها لأنها ضارة بالمجتمع خاصة إذا تمت في صورة أضاح وقرابين)

أما آراؤه السياسية، فقد عبر عنها بقوله: (إن التوحيد بين الدين والدولة لهو أبشع نظام لذلك يجب إلغاؤه وإقامة نظام آخر يخضع فيه رجال الدين لنظم الدولة ويخضع فيها الراهب للقاضي)

وقال: (إنه لا يمكن طاعة البشر باسم طاعة الله لابد من طاعة البشر باسم قوانين الدولة) (2)

__________

(1) سلسلة تراث الإنسانية ج 8 ص 78، 80.

(2) وقد كان فولتير صرح ببعض التصريحات ضد الإسلام قبل أن يعرفه، ولكنه بعد معرفته أعلن توبته عن مواقفه من الإسلام، ومن محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن الأضواء لا تسلط إلا على أقواله الأولى، أما أقواله الأخيرة فقد طُمست، فهو يعترف بأنه كان ضحية الأفكار السائدة الخاطئة: (قد هدم محمد الضلال السائد في العالم لبلوغ الحقيقة، ولكن يبدو أنه يوجد دائماً من يعملون على استبقاء الباطل وحماية الخطأ)

ثم يقول في قاموسه الفلسفي: (أيها الأساقفة والرهبان والقسيسون إذا فُرض عليكم قانون يحرم عليكم الطعام والشراب طوال النهار في شهر الصيام.. إذا فرض عليكم الحج في صحراء محرقة.. إذا فُرض عليكم إعطاء 2،5 بالمائة من مالكم للفقراء.. إذا حُرِّم عليكم شرب الخمور ولعب الميسر.. إذا كنتم تتمتعون بزوجات تبلغ ثماني عشرة زوجة أحياناً، فجاء من يحذف أربع عشرة من هذا العدد، هل يمكنكم الإدعاء مخلصين بأن هذه الشريعة شريعة لذّات؟!)

ويقول: (لقد قام الرسول بأعظم دور يمكن لإنسان أن يقوم به على الأرض... إن أقل ما يقال عن محمد أنه قد جاء بكتاب وجاهد، والإسلام لم يتغير قط، أما أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرة)

كيف تناظر ملحدا؟ (291)

وقد جزعت الكنيسة من هذه الانتقادات والآراء جزعا شديدا، ولعنت فولتير وأشياعه وكفرتهم وحرمت قراءة كتبهم.. وتعرض فولتير للمضايقة والاضطهاد من قبل رجال اللاهوت، حتى أنه قال مخاطبا إنسان ذلك العصر: (أنت طائر في قفص محاكم التفتيش.. لقد قصت محاكم التفتيش جناحيك) (1)

وقد نشأت عن هذا ردود فعلية سلبية نحو الدين عموما لا المسيحية وحدها، مع أن الدين ليس محصورا في المسيحية، ولا في الكنيسة، وقد كان في إمكان العقلاء أن ينظروا في الأديان ويدرسوها دراسة موضوعية ليبحثوا عن الحقيقة، ويسلموا لها.

لكنهم لم يفعلوا، بل استبدلوا إله الكنيسة بإله العقل؛ فصار العقل هو الإله الجديد لذلك العصر.. وصار المخبر هو الكنيسة.. وصار البشر هم القرابين التي تقدم لمحرقة كنيسة العلم.

وقد وصف برنتن ذلك العصر الذي ابتدأت فيه عبودية العقل المصارع لإله الكنيسة، فقال: (كان العقل للرجل العادي في عصر التنوير هو كلمة السر الكبرى لعالمه الجديد، العقل هو الذي يسوق الناس إلى فهم الطبيعة.. وهذه هي كلمة السر الثانية الكبرى.. وبفهمه للطبيعة يصوغ سلوكه طبقاً لها، وبذلك يتجنب المحاولات العابثة التي قام بها في ظل لأفكار المسيحية التقليدية الخاطئة، وما يخالفها في الأخلاق والسياسة ممالا يناقض الطبيعة) (2)

وبين أن السبب في هذا يعود إلى المسيحية التي طبعتها الكنيسة بطابعها الخاص، قال:

__________

(1) مقتطفات من سلسة قراءات إنسانية ج 8 ص 80 – 87.

(2) أفكار ورجال: 474، 476.

كيف تناظر ملحدا؟ (292)

(إن المسيحية التقليدية لم تعد قادرة على أن تمد المستنيرين بنظرية كونية فقد بدأ الناس يعرفون ما يكفي من الجيولوجيا لكي يبين أن تاريخ الخليقة الذي حدده الأسقف (آشر) بعام 4004 ق م وتاريخ قصة الطوفان بعيدا الاحتمال.. ولكن مبدأ التثليث في المسيحية مثلاً: إن الرياضة كانت ضد هذا المبدأ فإن أي نظام رياضي محترم لا يسمح بأن يكون الثلاثة ثلاثة وواحداً في آن واحد، أما عن المعجزات فلماذا توقفت؟ إذا أمكن إحياء الميت في القرن الأول، فلماذا لا يحيا في القرن الثامن عشر) (1)

وبعد تخلص الإنسان في هذا العصر من القيود التي كانت تربطه بالكنيسة، راح يتمرد عليها في كل شيء، وراح يطلق العقل من أغلاله، ولم يعد مقيداً بأغلال الثنائية الديكارتية، بل بدأ يبحث عن ذاته، ويسلك طريقه لكي يتصرف كما لو كان (إلها) بالفعل، وتعالت أصوات الباحثين والفلاسفة منادية بأن العقل هو الحكم الوحيد والعقل هو كل شيء وما عداه فوهم وخرافة، ابتداء بالوحي وانتهاء بالفداء والصلب والرهبانية.. فكلها أباطيل مضللة وعقائد مرذولة لأنها لا تتسق مع العقل.

ومع أن العقل والمنطق العقلي يقتضي وجود الله بل وجود كمالات الله إلا أن رد فعل العقلانيين على الكنيسة جعلهم ينفرون من الإله نفورا كليا، واستبدلوه بالطبيعة، التي حلت محل الإله، كما يقول (سول): (صار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ووجدوه في الطبيعة) (2)

وكتب الفكر الغربي تسمي ذلك العصر عصر (تأليه الطبيعة)، أو عبادة الطبيعة، وليست هذه العبارات مجازاً، بل هي مستعملة على الحقيقة تماماً، فكل صفات الله التي عرفها الناس عن المسيحية نقلها فلاسفة الطبيعة إلى إلههم الجديد، مع فارق كبير بين الإلهين في نظرهم.

__________

(1) أفكار ورجال: 476.

(2) جورج سول: المذاهب الاقتصادية الكبرى:51.

كيف تناظر ملحدا؟ (293)

فإله الكنيسة حقود يعذب السلالة البشرية ويقتل ابنه لأن الإنسان الأول أكل فاكهة من حديقته.. وهو إله متعنت يضع القيود الاعتباطية على حرية الإنسان ويقيده بالالتزامات ويفرض عليه الرهبانية والخضوع المذل لممثليه على الأرض.

أما الطبيعة فإله جذاب رحب الصدر ليس له كنيس ولا التزامات ولا يستدعي طقوساً ولا صلوات، وكل ما يطالب به الإنسان أن يكون إنساناً طبيعياً يلبي مطالبه الطبيعية في وضوح وصراحة.

وميزة الإله الجديد أنه ليس له رجال دين ـ كما للكنيسة ـ يستعبدون الناس لأنفسهم.. ولا كتاب مقدس متناقض.. ولا أسرار علياً مقدسة.. بل له دعاة من أمثال روسو وفولتير وديدرو.. وله كتب علمية هي (دائرة المعارف) و(العقد الاجتماعي) و(روح القوانين)

والقانون الطبيعي يجعل الكون مترابطاً متناسقاً لا اضطراب فيه ولا خلل، وبالمقابل جعلت الطبيعة للإنسان قانوناً يكفل له السعادة التامة ولكن النظم الإنسانية والأديان طمست هذا القانون فشقي الإنسان وتعذب.

تلك هي المبادئ الأولى للمذهب الطبيعي الذي تبلور ليصبح ديناً إنسانياً عند (كومت) في القرن التاسع عشر، وعنه انبثقت الماديات المتعددة التي تفسر الكون تفسيراً آلياً حسب القوانين التي سميت (قوانين الطبيعة)

ولم يبدأ ذلك دفعة واحدة بطبيعة الحال.. فقد انفصلت الفلسفة عن الدين بادئ ذى بدء ونبذت البحث فيما وراء الطبيعة كما كانوا يطلقون على أمور الغيب المتعلقة بالله وخلقه لهذا الكون، والغاية من هذا الخلق، والوحى الربانى المتضمن للقيم الدينية التى ينبغى أن يتبعها الإنسان من أجل الخلاص فى الآخرة.

واتجهت الفلسفة إلى دراسة الطبيعة والكون المادى، والإنسان باعتباره كائنا موجودا فى الطبيعة، لا بوصفه كائنا قد خلقه الله لغاية معينة وهدف يؤديه.

كيف تناظر ملحدا؟ (294)

وكان التقدم العلمى الذى حدث منذ بدء النهضة أحد العوامل الهامة التى ساعدت على اتجاه الفكر الأوربى ذلك الاتجاه من خلال المذهب العقلى والتجريبى.

وعلى سبيل المثال، فقد كانت اكتشافات نيوتن ونظرياته خطوة دافعة على طريق الإلحاد عن الكثير من أهل ذلك العصر، بحجة أن نيوتن اكتشف بعض ما سمى عندهم (قوانين الطبيعة) التى يجرى الكون المادى بمقتضاها.. وكشف عما يسمى عندهم (قانون السببية) أى القانون الذى يفسر ظواهر الطبيعة بردها إلى أسبابها الظاهرة، وقد كان هذا فى أوروبا ذريعة لنفى الأسباب غير الظاهرة وغير المحسوسة، أى نفى الأسباب الغيبية.

يقول برينتون: (إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الخاطئة فى هذا العالم)

ويقول: (الإله فى عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة، ولكن صانع هذه الساعة الكونية – ونعنى بها الكون – لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد، أما الرجال على هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها، وإنه ليبدو أن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذا الساعة الكونية الضخمة، الذى لا يستطيع إذا ما أراد التدخل فى شئون عمله) (1)

ويقول: (ولكن ثمة أناس ذهبوا إلى أبعد من ذلك، واعتبروا فكرة الإله فكرة شريرة، وخاصة إذا ما كان إله الكنيسة الكاثوليكية، وأطلقوا على أنفسهم بكل فخر اسم الملحدين، وهم يعتقدون أن ليس ثمة وجود لمسيح أو لإله المسيحية، ويقولون إن الكون ليس إلا مجموعة متحركة ذات نظام معين يمكن فهمه باللجوء إلى السببية المعتمدة على أساس العلوم الطبيعية) (2)

__________

(1) منشأ الفكر الحديث ص 151.

(2) منشأ الفكر الحديث ص 152.

كيف تناظر ملحدا؟ (295)

هكذا سار الاتجاه المادى المادى الملحد بخطوات حثيثة حتى جاء القرن التاسع عشر، فظهرت الفلسفة الوضعية التى تقول بسيادة الطبيعة على الدين والعقل، واعتبارها هى الأصل الذى ينبثق عنه كل شئ.. والذى يبعث الأفكار فى العقل البشرى، وكان من أهم فلاسفتها (أوجست كومت) و(فرباخ)

وقد ظهر بعد هؤلاء، ونتيجة لهم فلاسفة ومفكرون ماديون كثيرون؛ فقد ظهر ماركس فرعون الإلحاد ليبشر بالجدلية المادية.. والتفسير المادي للكون.. وظهر قبله (فيشته) و(هيجل) ليؤسسا لأقواله..

لقد جاء هذان بالتفكير الجدلى الذي يبحث عن تصور فلسفى يسمح بوجود المتناقضات فى الكون والحياة ويفسرها.. ذلك أن المنطق اليونانى القديم (الذى يسمى المنطق الصورى) ينفى وجود التناقض فى الكون والحياة، ويقيم تفكيره على أساس أن الشئ ونقيضه لا يمكن أن يجتمعا، فوجود أى شئ هو ذاته نفى قاطع لوجود نقيضه.

ولكن الفكر الأوروبى منذ عصر النهضة – وإن كان قد رجع إلى الفكر الإغريقى يستمد منه ـ كانت له التفاتات مختلفة عنه فى مجالات متعددة. حتى إذا كان النصف الثانى من القرن الثامن عشر الميلادى ـ عصر سيادة العقل فى الفكر الأوربى قام فلاسفة يشيرون إلى وجود التناقض فى الكون والحياة ويحاولون تفسيره، من أبرزهم (فيشته) و(هيجل)

فأما فيشته (17621814 م)، فقد استخدم مبدأ النقيض كى يدعم سيادة العقل كمصدر للمعرفة مقابل الدين والطبيعة.

وأما هيجل (17701831)، فيستخدم مبدأ النقيض لتأكيد قيمة العقل من جهة، ثم لدعم فكرة الألوهية من جديد، وتأكيد الوحى كمصدر أخير للمعرفة، وهو يعتبر الله عقلا (1).

__________

(1) عن الفكر الإسلامى الحديث ص 289 بتصرف.

كيف تناظر ملحدا؟ (296)

وهذا العقل المجرد يتمثل فى القانون والأخلاق، وفى الفن والدين والدولة والجماعة والفلسفة.. إذن فالعقل المجرد الذى يتحقق فى أى وحدة من هذه القيم العاملة المذكورة جامع للمتقابلين: جامع للفكرة فى العقل المطلق وهو الله، وللفكرة فى العقل المقيد وهو الطبيعة.. ذلك أنه ليس له إطلاق العقل المطلق ولا تحديد عقل الطبيعة، بل فيه إطلاق بالنسبة إلى الطبيعة وتقييد بالنسبة للعقل المطلق، ولذا يعتبر جامع الدعوى ومقابل الدعوى.

بالإضافة إلى هذين، فقد استلهم ماركس نظرية التطور.. فقد جاء دارون يؤله الطبيعة ويقول عنها إنها تخلق كل شئ ولا حد لقدرتها على الخلق.. ويؤكد أن الإنسان هو نهاية سلسلة التطور الحيوانية.. وأن التطور ذاته – الذى أنشأ الحياة المادية الميتة أول مرة، ثم تدرج بها من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان – هو نتيجة أسباب مادية بحتة، وأنه يتم مستقلا عن إرادة الكائن الحى، وبصورة حتمية لا يملك الكائن الحى الخروج عليها ولا معارضتها ولا الوقوف فى طريقها.

ب ـ الإسلام والعلم

يمكننا أن نقول بكثير من التحفظ أن الصراع الذي حصل بين المسيحية والعلم، وعلى المستويات المختلفة النظرية والواقعية، كما شرحنا ذلك في العنوان السابق، حصل مثله بين بعض الجهات في الإسلام وبين العلم، ولذلك ليس على الداعية أن يدافع عن المتهمين، أو يكذب الواقع، أو يبرئ ساحة المسلمين من أمثال تلك التهم.

وكيف يبرئهم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه اتهمهم، وأخبر أن من أمته من سيسير مثل سيرهم، ففي الحديث المتفق على صحته: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟) (1)

والفرق بين الإسلام والمسيحية في هذا، هو أن الإسلام ليس لديه كنيسة تتحدث باسمه،

__________

(1) رواه البخاري 13/ 255، ومسلم رقم (2669).

كيف تناظر ملحدا؟ (297)

وإنما هناك مسلمون، ومدارس إسلامية مختلفة، بل متناقضة أحيانا، ولذلك كان على المحقق والباحث أن ينظر في مواقف تلك المدارس من العلم، ولا يصح أن يرميها جميعا بما وقع فيه بعضها.

ومن خلال استقراء واقع المدارس الإسلامية وموقفها من العلوم الكونية، ومنهج البحث فيها، نجد اتجاهين كبيرين:

الاتجاه الأول: وهو الاتجاه الذي ينطلق من المصادر المقدسة للإسلام من غير أن يخلطها بغيرها، وهو ما يسمى بالإسلام المحمدي الأصيل، وهو اتجاه يميز بين الفهم البشري للدين، وبين حقيقته.. فالدين لله، أما الفهم؛ فبشري، ويمكن مراجعته ورفضه، واستبداله بغيره.. وبناء على هذا لا يُضم للإسلام إلا القطعي من الدين، والذي وردت به المصادر المقدسة.

وهذا الاتجاه لا يتنافى مع العلم، ولا يتصارع معه، بل يقبله ويدعو إليه، ويقبل منتجاته جميعا إذا ما تحققت بالمصداقية العلمية، بل إنه فوق ذلك كله كان منتجا للمعرفة بجميع أنواعها.

الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي يخلط بين المصادر المقدسة، والفهم البشري لها، ويجمع بينها جميعا في بوتقة واحدة، وقد حصل لهذا الاتجاه ما حصل للكنيسة نفسها من تبني بعض الفهوم البشرية، أو الثقافات السائدة لدى بعض الشعوب، ليعطيها من القداسة ما لا تستحقه، وبناء على هذا حصل الإنكار من هذا الاتجاه للكثير من منتجات العلم، وإن كان لم يحصل له استبداد نحو أصحابها لعدم وجود سلطة زمنية لهؤلاء بخلاف الكنيسة.

وسنتحدث عن كلا الاتجاهين في العنوانين التاليين:

الاتجاه الأول

وهو الاتجاه الذي يؤمن بأن الإسلام دين العلم والعقل والتجربة والمنطق.. وكل ما

كيف تناظر ملحدا؟ (298)

توصلت إليه البشرية من مناهج البحث عن الحقيقة (1).. وهو يعتمدها جميعا، ولا ينكر عليها إلا أذا استعملت المغالطات، أو الخدع العلمية، ولذلك فإن إنكاره لنظرية التطور وغيرها من النظريات التي يستعملها الملاحدة، ينطلق من كونها لم تصل إلى مرحلة العلمية، بل هي مجرد افتراضات للهروب من الإيمان.

وهو ينطلق في ذلك من المصادر المقدسة التي تعتبر العلم ركنا من أركان الدين لا يقل عن الإيمان والشعائر التعبدية: فالتعرف على الله الذي هو جوهر الدين وأصله وغايته وموضوعه يحتاج إلى العلم، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (محمد:19)

ولهذا كان أول أمر من أوامر هذا الدين هو: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1)، ثم كرر هذا الأمر في قوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (العلق:3)

والقرآن يعتبر وظيفة الرسل هي وظيفة المعلمين: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (آل عمران:164)

وأخبر أن كل الأنبياء جاءوا أقوامهم بالبينات، وهي العلوم الواضحات التي قويت أدلتها.. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (ابراهيم:9)

بل إن القرآن فوق ذلك كله أخبر عن مزية الإنسان التي أهلته للخلافة في الأرض، وأهلته للتكريم الرباني، فقال يقص قصة بداية خلق الإنسان: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ

__________

(1) تحدثنا عن هذا بتفصيل في كتاب (سلام للعالمين) من سلسلة [حقائق ورقائق].

كيف تناظر ملحدا؟ (299)

لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة:31 ـ 33)

انطلاقا من هذا وردت النصوص الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحض على العلم والترغيب فيه ورفع مكانة أهله؛ فقد أخبر بأن العلم نوع من أنواع العبادة، بل هو من أفضلها، فقال: (أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع) (1)

وصرح بذلك فقال: (فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع) (2)، وقال: (قليل العلم خير من كثير العبادة، وكفى بالمرء فقها إذا عبد الله، وكفى بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه) (3)، وقال: (ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه) (4)

وقايس بين بعض النوافل وبين طلب العلم، فقال لأبي ذر، وقد رأى حرصه على النوافل: (يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة) (5)

وأخبر أن تعليم العلم لا يختلف عن الصدقات، فقال: (أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم) (6)

ويروى أنه ذكر له رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)، ثم قال: (إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرض حتى النملة في

__________

(1) رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة.

(2) الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد حسن.

(3) الطبراني في الأوسط.

(4) الدارقطني والبيهقي.

(5) ابن ماجه بإسناد حسن.

(6) رواه ابن ماجه بإسناد حسن.

كيف تناظر ملحدا؟ (300)

جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) (1)

وطلب العلم لذلك دليل على خيرية العبد الطالب للعلم، بل دليل على اجتباء الله له، قال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) (2)، وقال: (يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، و{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]) (3)

وهذا الاجتباء هو الذي يؤهله للجنة ولهذا التكريم الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه، ففي الحديث الذي ورد في فضل طالب العلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) (4)

وقال: (ما من رجل تعلم كلمة، أو كلمتين، أو ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا مما فرض الله عز وجل فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة) (5)

ويخبر عن بعض صور التكريم التي يقابل بها الملأ الأعلى أهل العلم، فعن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد متكاء على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله إني جئت أطلب العلم، فقال: (مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم تحفه الملائكة

__________

(1) الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

(2) البخاري ومسلم وابن ماجه.

(3) الطبراني في الكبير.

(4) أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي.

(5) أبو نعيم.

كيف تناظر ملحدا؟ (301)

بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب) (1)

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع درجة أهل إلى درجة الأنبياء، فيقول: (من جاءه أجله وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النبيين إلا درجة النبوة) (2)

أما الأجور المعدة لأهل العلم، فإنها أضعاف مضاعفة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من طلب علما فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر، ومن طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا من الأجر) (3)

ومن أكبر ميزات أجر العلم أن أجره غير منقطع، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (4)

وفي حديث آخر مفصل، قال محمد: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) (5)

وقد ورد وصف مفصل لفضل العلم وفضل أهله، ففي الحديث: (تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة لانه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر

__________

(1) أحمد والطبراني بإسناد جيد واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.

(2) الطبراني في الأوسط.

(3) الطبراني في الكبير.

(4) مسلم وغيره.

(5) ابن ماجه بإسناد حسن والبيهقي، ورواه ابن خزيمة في صحيحه مثله.

كيف تناظر ملحدا؟ (302)

لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء) (1).

وقد كانت هذه النصوص وغيرها كثير هي السبب في ظهور أكبر نهضة علمية عرفتها البشرية، والتي تمثلت في الحضارة الإسلامية، والتي ولجت كل العلوم والمعارف، وساهمت في خدمة البشرية فيها.

فمنذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك النصوص هرعت كل أمته تنهل من العلم صغارها وكبارها ورجالها ونساؤها.. حتى الشيوخ الكبار كانوا يحتضرون، وهم يطلبون العلم.

وقد فهم هذا الاتجاه، أن العلم الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشمل كل شيء، ولذلك انفتح على جميع الثقافات الأجنبية، واستفاد منها، وتعامل معها بإيجابية تامة.. يأخذ منها ما يراه مفيدا، ويرد ما لا يراه صالحا.. لعلم المسلمين أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها، فهو أحق بها.

ولذلك كان فقهاء المسلمين يقرؤون الفلسفة اليونانية والثقافة الهندية وجميع أنواع الثقافات، ولكنهم لا يتعاملون معها تعامل الخاضع الذليل.. بل يتعاملون تعامل الند للند.. ويناقشونها مناقشة موضوعية علمية.

وقد صحح أصحاب هذا الاتجاه أغلاط أرسطو وجالينوس وأفلاطون في الفلسفة والعلوم والكثير من أخطاء الفلسفة اليونانية، وأبطلوا صناعة التنجيم، وعللوا ذلك بأن اليونان أخذوه من غير برهان ولا قياس..

وأبان علماء المسلمون ضعف نظام بطليموس ونقط القصور فيه، وقد عكف (التباني)

__________

(1) رواه ابن عبد البر في كتاب العلم قال المنذري: ورفعه غريب جدًّا.

كيف تناظر ملحدا؟ (303)

على دراسة بطليموس، وحقق مواقع كثير من النجوم، وصحح حركات القمر والكواكب السيارة، وخالف بطليموس في ثبات الأوج الشمسي.

وأنكر الغزالي ما قاله فلاسفة اليونان من أن بالسماء حيوانًا وأن له نفسًا، ونقد الأطباء المسلمون طب اليونان، ورفضوا الأخذ ببعض نظرات أبقراط وجالينوس، ومن طريق التجربة والاختبارات الشخصية، ورفض ابن النفيس قبول نظرية جالينوس عن الدور الذي تلعبه الرئتان في نقل الدم من تجويفة القلب الواحدة إلى الأخرى، وأعلن أنها خاطئة.

أما الخواجة نصير الدين الطوسي، فقد كان علامة في علوم كثيرة جدا؛ فله مؤلفات في علوم الأخلاق، والمنطق، والفلسفة، والكلام، والرياضيّات والنجوم، من أمثال: أخلاق ناصري، أوصاف الأشراف، أساس الاقتباس، شرح الإشارات، تجريد الاعتقاد، جامع الحساب وكتابه المشهور بـ زيج الإيلخاني وتذكرة في علم الهيئة في مجال علم النجوم. كما أسس مرصد مراغة ومكتبتها التي توفر فيها أكثر من 400.000 كتاب.

الاتجاه الثاني

وهو اتجاه يشبه ما قامت به الكنيسة، نتيجة تأثره بالفكر اليهودي، واعتماده على المصادر اليهودية في تفسير القرآن الكريم، وهذا الاتجاه لا يمكن إنكاره، أو التكتم عليه، وكيف يمكن ذلك، ومنتجاته في هذا المجال واضحة، ولعلها السبب الأكبر في صرف الناس عن الدين الإلهي.

ولذلك كان على الداعية المواجه للإلحاد أن يبادر بالإنكار على هذا الاتجاه، وقد قلت في مقدمة سلسلة [الإلحاد والدجل] أشير إلى هذا المعنى: (وقد رأينا أنه لا يمكن لأحد من الناس أن يواجه هذين النوعين من الإلحاد [التنويري والجديد] من دون أن يعترف بوجود الدجل الديني، فلا يمكن لمن يظل محتفظا بالخرافات والضلالات المتسربة للدين أن يواجه الحقائق العلمية والعقلية التي يدل عليها كل شيئا.. ولذلك كتبنا سلسلة [الدين.. والدجل] قبل أن

كيف تناظر ملحدا؟ (304)

نكتب هذه السلسلة الجديدة، لنحطم بذلك أكبر الأسس التي تقوم عليها البراهين الإلحادية، والمعتمدة على نقد التراث الديني، واستغلال أخطائه وضلالاته ودجله، ولكي لا نلتزم بكل ما يريد دعاة الإلحاد التنويري أو الجديد من إلزامنا به، فدين الله أعظم من أن يمثله البشر، وإنما يدل على نفسه بنفسه من خلال مصادره المقدسة) (1)

وبناء على هذا؛ فإن هذا الاتجاه الذي لا يختلف عما قامت به الكنيسة إلا في كونها لم يقم بإعدام العلماء، ولا حرقهم، اتجاه غريب عن الإسلام، ولا يمثل مصادره المقدسة، بل يمثل سلفه الذي يعود إليه، والذين يتشكل أكثرهم من اليهود، أو من الذين لم يستوعبوا الإسلام، وخلطوه بآرائهم وأهوائهم.

ومن الأمثلة على هذا الاتجاه مقبل بن هادي الوادعي (2) (توفي 1422 هـ)، وهو من كبار أعلام السلفية المعاصرين، وقد كتب في كتبه المختلفة الرد الشديد على المهتمين بالعلوم الكونية، والتي يطلق عليها تسميات مختلفة كعلوم الملاحدة، وغيرها.

ومن كتبه في هذا المجال ما كتبه ردا على التفسيرات العلمية لأسباب الزلازل، حيث ألف رسالة في ذلك بعنوان (إيضاح المقال في أسباب الزلزال والرد على الملاحدة الضلال)، وقد رد فيها بشدة على ما تقوم به مدارس المسلمين من تعليم تلاميذها علوم الكفار، فقال: (نحن نأسف لبعض الملاحدة المخذولين الذين منّ الله عليهم وجعلهم من ذوي اللسان العربي ثم لا يشكرون الله على هذه النعمة، ويتّبعون أناسًا كالأنعام بل هم أضل، ذاك كوبي، وذاك روسي، أعاجم لا يفهمون الإسلام على حقيقته ولا يفهمون قول الله ولا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،

__________

(1) ما قاله الملاحدة ولم يسجله التاريخ، ص 7.

(2) يعتبر من كبار علماء السلفية باليمن وأحد رواد الحديث، قام بالدعوة السلفية في اليمن، وأنشأ مدرسة علمية سلفية بدماج سماها بدار الحديث يفد إليها الطلاب من أنحاء اليمن، ومن بلدان أخرى، وتخرج على يديه شيوخ أنشئوا مدارس في عدد من مناطق اليمن.

كيف تناظر ملحدا؟ (305)

ولعل بعضهم لم يبلغه الإسلام على حقيقته.. جدير بأبناء اليمن أن لا يودّعوا عقولهم لماركس ولينين ومن جرى مجراهم من أئمة الضلال، فأنتم أيها اليمنيون لكم مواقف طيّبة في الدفاع عن الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي الفتوحات الإسلامية، ثم بعد هذا تلحقون بأنفسكم الخزي وتحرمون نعيم الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. أي خير تحرمونه أيها الملاحدة؟ وأي خطر تعرّضون له أنفسكم؟ إنّها النار التي وقودها الناس والحجارة، وهناك لا تنفع المكابرة ولا ينفعك ماركس ولينين، بل يكونان أمامك في النار) (1)

ومن تلاميذ مدرسته النجباء، المدعو أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري، والذي ألف كتابا في الرد على الاستدلال بما ورد في العلوم الكونية في القضايا العقدية، سماه (الصبح الشارق على ضلالات عبد المجيد الزندني في كتابه توحيد الخالق)

والذي قرضه شيخه الوادعي بالإضافة لشيخ سلفي آخر هو أحمد بن يحيى النَّجمي، والذي قال في مقدمته للكتاب مبينا بعض الضلالات الواردة في كتاب [توحيد الخالق]: (.. ومنها استدلاله بأقوال الفلاسفة من اليهود والنصارى من فلكيين وطبائعيين وغيرهم على صدق القرآن وهل القرآن بحاجةٍ إلى شهادة هؤلاء الضلال؟!. ومنها تقريره أنَّ الأرض كوكبٌ من المجموعة الشمسية ثم انفصلت عنها وتبردت كما قرر ذلك سيد قطب في تفسيره، والله تعالى يقول: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] وصدِّق بعد ذلك من شئت.. ومنها زعمه أنَّ السماوات السبع كانت طبقةً واحدة وأنَّها فتقت فيما بعد، يفسر بذلك قوله تعالى في سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الفاتحة: 30]، وقد ردَّ عليه الشيخ يحيى الحجوري جزاه الله خيرًا في هذه الفقرات، وغيرها ردًا مفحمًا بالأدلة القاطعة الساطعة من الكتاب وصحيح السنة، فجزاه الله خيرًا وبارك فيه وكثَّر الله من أمثاله الذابين عن الحق

__________

(1) إيضاح المقال في أسباب الزلزال والرد على الملاحدة الضلال (ص: 17)

كيف تناظر ملحدا؟ (306)

الناصرين للتوحيد الذائدين عن حياضه) (1)

ومن النماذج التي يمكن من خلالها التعرف على التراث السلفي، وموقفه من أبسط المعارف العلمية الحديثة ما ذكره الشيخ الحجوري من انتقادات لما ورد في كتاب توحيد الخالق حول سرعة الرياح، وأنها لو بلغت 200 ميل في الساعة لما أبقت شيئًا على وجه الأرض إلا دمرته (2)، فقد قال الشيخ ردا على هذه المعلومة البسيطة: (هذا القول ينطوي على لحن شديد في التوحيد فقوله: عن الريح لما أبقت شيئًا على وجه الأرض إلا دمرته. هذا غير صحيح لأن الريح مأمورة من الله لا يمكن أن تدمر شيئًا إلا بأمر ربِّها سبحانه، وقد وصف الله عز وجل ريح عاد بالعتو والشدة.. وعن ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يَجِدُ عَبدٌ حَلاوَةَ الإيمَانِ حَتَّى يَعلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَم يَكُن لِيُخطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخطَأَهُ لَم يَكُن لِيُصِيبَه)، فلو أن الله عز وجل أرسل الريح بِهذا القدر الذي ذكر أو أكثر ولم يرد تدمير الأرض ومن فيها لحفظهم منها كما جعل النار على إبراهيم عليه السلام بردًا وسلامًا، وكما نجى نوحًا عليه السلام ومن معه من الغرق وأمر الماء أن يغشى من سواهم على وجه الأرض) (3)

ومنها رده على هذه العبارة التي وردت في كتاب توحيد الخالق: (من الذي قضى بِهذه السنن والقوانين المنظمة الدقيقة) (4) فمع بساطتها ووضوحها إلا أن الشيخ جعل منها قصة كبيرة، فقال ردا عليها: (قلت: اللفظ المشروع أن يُقال: من الذي قضى بالسنن والأحكام، أما لفظة القانون فليست موجودة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الصحيحة فيما نعلم واستعمالها غير فصيح.. وذكر هذه اللفظة الشيخ بكر أبوزيد في) معجم المناهي اللفظية) فراجعها إن شئت،

__________

(1) الصبح الشارق، ص 6.

(2) توحيد الخالق، ص (41)

(3) الصبح الشارق، ص 48.

(4) توحيد الخالق، ص (44)

كيف تناظر ملحدا؟ (307)

فعلم أنه لا يجوز أن نسمي أحكام الله عز وجل وأقداره قوانين، ونعرض عن اللفظ الشرعي: قضاء، قدر، حكم، إرادة، مشيئة. فإن تسمية هذه المسميات الشرعية قانونًا يعتبر تحريفًا للكلم عن مواضعه) (1)

ثم يبين أن اعتبار العلماء بالعلوم الحديثة علماء كون نوع من الاحتقار للسلف، فقال: (ألم تر أن هذا إزراء بجانب السلف وعلومهم غاية الإزراء وهو إطراء لليهود والنصارى والزنادقة إيما إطراء، لأنه إذا كان هؤلاء هم علماء الكون فلا حاجة لما عداهم من علماء الشريعة الإسلامية، وأنت لو قرأت تراجم جهابذة علوم الكتاب والسنة كلهم لا تكاد تجد أنه قيل في واحد منهم هو عالم الكون بل لو قرأت في مناقب الأنبياء ودلائل نبواتِهم لا تكاد تجد أن واحدًا منهم وصف بعالم الكون بل إن الملائكة الذين يقول الله عنهم: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5] لا تجد أنَّهم وصفوا بعلماء الكون، لكن الطبائعيين من أساتذة الزنداني يصفهم بذلك ولا يدري الجاهل أنه أشرك الملاحدة في شيء من خصوصيات رب العالمين) (2)

ثم رد اعتبار صاحب الكتاب الإسلام مبنيا على العقل، وأنه لا يطالب معتنقيه أبدًا بتجميد طاقاتِهم الفكرية، فقال: (وقول الزنداني: أن الإسلام مبني على العقل. هذا غير صحيح فالإسلام مبني على الكتاب والسنة لا على العقل.. ووظيفة العقل في هذه الأدلة فهمها وتعقلها، فإذا كان مفقودًا ولم يفهمها ولم يعقلها وصار صاحبه في حيز المجانين فهنا يصير غير مكلف، أما أن يقال إن من مفاخر الإسلام أنه مبني على العقل فباطل لما علمت من الأدلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير فإن العامي يمكنه أن يصير عالمًا ولا يمكن للعاقل أن يصير نبيًا رسولاً) (3)، ومعنى ذلك

__________

(1) الصبح الشارق، ص 51.

(2) الصبح الشارق، ص 124.

(3) درء تعارض العقل والنقل (ج 1 ص 78)

كيف تناظر ملحدا؟ (308)

أن العقل الصحيح يقبل النقل الصريح فهو متبع له يفهمه ويعمل به فعلاً أو تركًا) (1)

هذه نماذج عن مدرسة الوادعي السلفية، وموقفها من العلوم الكونية، ومن شاء المزيد، فيمكنه مطالعة مؤلفاتها الكثيرة، والمنتشرة في المواقع المختلفة، والتي يعتبرها السلفية ممثلا حقيقيا للإسلام نتيجة صراحتها وعدم استعمالها أي تقية أو دبلوماسية.

ومن النماذج على هذا الاتجاه كذلك الشيخ حمود بن عبد الله التويجري (1334 - 1413 هـ)، وهو من كبار السلفية المتأخرين بسبب إنتاجه الكثير، والذي أشاد به كبار السلفية كابن باز وغيره، وله كسلفه الكثير من كتب الردود على الجهات المختلفة، ومنها ردوده على أصحاب العلوم الكونية الحديثة.

ومن كتبه في هذا المجال كتابه (الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة)، والذي استعمل فيه كل السيوف السلفية للإجهاز على العلوم الحديثة.

ومن تلك الأدلة القاطعة التي حاول من خلالها أن يضرب هذه العلوم في مقاتلها نسبتها إلى الكفار والمشركين، يقول في ذلك: (وأول من قال إن الشمس هي المركز الثابت الذي تدور عليه السيارات من الكواكب وإن الأرض من جملة الكواكب السيارة التي تدور على الشمس هو فيثاغورس الفيلسوف اليوناني وكان زمانه قبل زمان المسيح بنحو من خمسمائة سنة. وقيل ستمائة. وذهب كبير الفلاسفة ومقدمهم بطليموس - وكان زمانه قبل المسيح بنحو مائة وخمسين سنة - إلى أن الأرض هي المركز الثابت وإن الشمس والقمر وسائر الكواكب تدور على الأرض. وأهل الهيئة القديمة يقولون بهذا القول وهو الحق الذي تدل عليه الآيات والأحاديث الصحيحة وأقوال المفسرين من الصحابة والتابعين وأئمة العلم والهدى من بعدهم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما قول فيثاغورس فكان مهجوراً نحو من ألف وثمانمائة سنة حتى ظهر الفلكي البولوني (كوبرنيك) في القرن العاشر من الهجرة فقرر رأي فيثاغورس وأيده

__________

(1) الصبح الشارق، ص 124.

كيف تناظر ملحدا؟ (309)

بالأدلة الرياضية. ولما كان في أثناء القرن الثاني عشر من الهجرة ظهر هرشل الإنكليزي وأتباعه من فلاسفة الإفرنج أصحاب الرصد والزيج الجديد فنصروا قول فيثاغورس وردوا ما خالفه وشاع قولهم منذ زمانهم إلى زماننا هذا وتلقاه كثير من المسلمين بالقبول تقليداً لأعداء الله تعالى. وذلك بسبب سيطرة الإنجليز وبعض الدول الأوربية على كثير من بلاد الإسلام في آخر القرن الثالث عشر من الهجرة وأكثر القرن الرابع عشر. فامتزج أهل تلك البلاد بأعداء الله تعالى امتزاجاً تاماً، وظهر النشء منهم متثقفين بالثقافة الإفرنجية يحذون حذو أعداء الله تعالى في هيئاتهم وأنظمتهم وقوانينهم ويسارعون إلى قبول آرائهم وظنونهم وتخرصاتهم. ويتمسكون بها أعظم مما يتمسكون بنصوص الكتاب والسنة. وكثير منهم كانوا يسافرون إلى الجامعات الأوربية ويتروون من تعاليمها الآجنة المسمومة عللاً بعد نهل حتى فشت فيهم الزندقة والإلحاد والاستخفاف بشأن القرآن العظيم فكان كثير منهم يحملونه على ما يوافق آراء الإفرنج وأقوالهم الباطلة كما هو موجود في كثير من مصنفاتهم فأدخلوا بذلك على المسلمين شراً كثيراً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (1)

وقد أورد للدلالة على بطلان هذه العلوم الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وعقبها بفهم السلف الصالح لها، وتفسيرهم العلمي لما ورد فيها، ثم قال: (فهذا ما يسره الله تعالى من الآيات والأحاديث الدالة على أن الشمس تسير وتدور على الأرض وأن الأرض قارة ثابتة بخلاف ما يزعمه أهل الهيئة الجديدة من أن الشمس قارة ثابتة وأن الأرض تدور عليها. وحقيقة قولهم تكذيب الآيات والأحاديث التي ذكرنا واطراحها بالكلية وذلك هو الضلال البعيد. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68] وقول أهل الهيئة الجديدة في الشمس والأرض

__________

(1) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 7)

كيف تناظر ملحدا؟ (310)

دائر بين افتراء الكذب والتكذيب بالحق) (1)

وهو يعتب بشدة على تدريس هذه العلوم الحديثة، فيقول: (ومن أعجب العجب أنه قد جعل في زماننا من الفنون المهمة التي تدرس في كثير من المدارس ويعتنى بها في كثير من الأقطار الإسلامية أكثر مما يعتنى بالعلوم الشرعية. وهذا مصداق ما جاء في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل).. وقال الشعبي: (لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلا والجهل علماً)، رواه ابن أبي شيبة، وله حكم المرفوع لأنه إخبار عن أمر غيبي ومثله لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف، ومن أقبح الجهل وأظلم الظلم تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومعارضة الآيات والأحاديث الصحيحة بأقوال أعداء الله تعالى وتخرصاتهم الكاذبة وآرائهم الفاسدة وتوهماتهم الخاطئة وتعلم ذلك وتعليمه) (2)

وقد لاحظ التويجري أنه مع الهجمة الشرسة التي شنتها صواعقه الشديدة على علم الهيئة الجديدة إلا أنها مع ذلك لم تؤثر تأثيرها المطلوب، فأعقبها بكتاب آخر سماه: (ذيل الصواعق لمحو الأباطيل والمخارق)، والذي رد به على الأستاذ محمد محمود الصواف في كتابه (المسلمون وعلم الفلك)

وقد بدأ رده عليه من العنوان نفسه، فقال: (قال الصواف: (المسلمون وعلم الفلك)، والجواب أن يقال إن هذا العنوان خطأ ظاهر لأن غالب ما في الرسالة من الكلام في الأرض والسموات والشمس والقمر والكواكب ليس من أقوال المسلمين وعلومهم، وإنما هو من تخرصات أهل الهيئة الجديدة وتوهماتهم، وأهل الهيئة الجديدة ليسوا من المسلمين، وإنما هم من فلاسفة الإفرنج، وهم كوبرنيك البولوني وأتباعه في القرن العاشر والقرن الحادي عشر من

__________

(1) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 44)

(2) الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة (ص: 44)

كيف تناظر ملحدا؟ (311)

الهجرة، وهرشل الإنجليزي وأتباعه في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر من الهجرة، وغالب ما نقله الصواف عن الألوسي، فهو مما نقله الألوسي عن أهل الهيئة الجديدة كما صرح بذلك في مواضع كثيرة من كتابه الذي سماه (ما دل عليه أهل الهيئة الجديدة) وتخرصات أتباعهم فنسبة ذلك إلى المسلمين فرية عليهم، وتسمية الرسالة بهذا العنوان لا تطابق المسمى، وإنما المطابق له أن يقال (الإفرنج والتخرص في علم الفلك) (1)

ثم ذكر قول الصواف في مقدمة رسالته: (وحرصا مني على نشر العلم وبيان فضل علماء المسلمين الذين كان لهم الفضل الأكبر في تشجيع علم الفلك وبناء المراصد في مختلف البلدان رأيت أن أطبع هذا الرد في كتيب؛ ليطلع شبابنا على مفاخر أجدادهم وسبقهم للعالم في مختلف الميادين العلمية) (2)

ورد عليه بقوله على طريقة سلفه، فقال: (والجواب عن هذا من وجوه: أحدها أن يقال: ليس ما نشره الصواف في رسالته بعلم، وإنما هي تخرصات وظنون كاذبة أوحاها الشيطان إلى أوليائه من فلاسفة اليونان وأتباعهم من فلاسفة الإفرنج المتأخرين، فاغتر بها أتباعهم ومقلدوهم من جهلة المسلمين، وظنوها علما صحيحا، وهي في الحقيقة جهل صرف لا يروج إلا على جاهل لا يميز بين العلم والجهل.. الوجه الثاني: أن علماء المسلمين منزهون عن تشجيع علم الفلك وبناء المراصد كما سيأتي بيان ذلك في الفصل الذي بعد هذا الفصل، وما زعمه الصواف ههنا فهو من الافتراء على علماء المسلمين.. الوجه الثالث: أن الذي نشره الصواف في رسالته كله من تخرصات فيثاغورس اليوناني وأتباعه من فلاسفة الإفرنج المتأخرين.. وهؤلاء كلهم من أعداء المسلمين، وليسوا من المسلمين فضلا عن أن يكونوا من أجداد المسلمين، كما توهمه الصواف، ومن زعم أن هؤلاء الفلاسفة من أجداد المسلمين فهو من أكذب الكاذبين..

__________

(1) ذيل الصواعق، ص 7.

(2) المسلمون وعلم الفلك، ص 11.

كيف تناظر ملحدا؟ (312)

الوجه الرابع: أن المفاخر كل المفاخر للذين حملوا علم الكتاب والسنة ونشروه في هذه الأمة وهم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، وأئمة العلم والهدى من بعدهم، فأما تخرصات أعداء الله وظنونهم الكاذبة فليست بمفاخر كما قد توهمه الصواف، وإنما هي معائب وجهالات وضلالات تزري بمن تعلق بها غاية الأزراء.. الوجه الخامس: أن بناء المراصد من أفعال المنجمين من اليونان والصائبين، ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من المنحرفين عن الدين من هذه الأمة، وما كان هكذا فليس فيه فضل البتة، وليس هو من المفاخر كما قد توهمه الصواف، وإنما هو من المثالب والمعائب واتباع غير سبيل المؤمنين) (1)

ثم ذكر قول الصواف: (إن ما جمعه في رسالته فهو مما تركه العلماء الأعلام والخلفاء العظام) (2)

وأجاب على ذلك بقوله: (ليس هذا بصحيح، فإن الخلفاء العظام على الحقيقة هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه تكلم في علم الفلك بشيء فضلا عن القول بسكون الشمس ودوران الأرض عليها، وكذلك ما ذكره الصواف من الهذيان الكثير في الأرض والشمس والقمر والكواكب فإن هذا مما ينزه عنه أحاد العقلاء فضلا عن الخلفاء الراشدين.. ولا عبرة بمن حاد عن منهاج هؤلاء الخلفاء الراشدين من الملوك كالمأمون، فإنه قد اعتنى بتعريب كتب الأوائل وعمل الأرصاد، ففتح بذلك على الأمة باب شر عريض، وقد ذكر السفاريني عن الصلاح الصفدي أنه قال: (حدثني من أثق به أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقول: ما أظن أن الله يغفل عن المأمون ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخال العلوم الفلسفية بين أهلها) (3)

__________

(1) ذيل الصواعق، ص 10.

(2) المسلمون وعلم الفلك، ص 12.

(3) ذيل الصواعق، ص 14.

كيف تناظر ملحدا؟ (313)

ثم أخذ يذكر بهستيرية ما فعله المأمون، وينقل لذلك ما ذكره سلفه من فتح أبواب الضلال، بسبب ترجمة العلوم اليونانية، فقال ـ ناقلا عن الذهبي في (تذكرة الحفاظ) ـ مؤيدا له: (إن من البلاء أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وتقدم عقول الفلاسفة، ويعزل منقول اتباع الرسل ويماري في القرآن ويتبرم بالسنن والآثار وتقع في الحيرة. فالفرار قبل حلول الدمار وإياك ومضلات الأهواء ومحارات العقول، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) (1)

ونقل عن المقريزي قوله في كتاب الخطط: (وقد كان المأمون لما شغف بالعلوم القديمة بعث إلى بلاد الروم من عَرَّبَ له كتب الفلاسفة، وأتاه بها في أعوام بضع عشرة ومائتين من الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجرَّ على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة مالا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلاسفة ضلال أهل البدع، وزادتهم كفرا إلى كفرهم) (2)

وعلق على ذلك بقوله: (وقد سار على منهاج المأمون في عمل الأرصاد كثير من الملوك المنحرفين مثل الحاكم العبيدي، وبعض بني بويه والسلاجقة، وهولاكو وتيمورلنك وأولغ بك. فهؤلاء خلفاء الصواف الذين تركوا له ولأشباهه من علم الفلك وعمل الأرصاد ما تركوا، ومع ما كانوا عليه من الاعتناء بالأرصاد وعلم الفلك فقد كانوا على مذهب أهل الهيئة القديمة في القول بسكون الأرض وجريان الشمس، ولم يذكر عن أحد منهم أنه قال بتعدد الشموس والأقمار، ولا بغير ذلك مما يهذو به أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم في أبعاد الكواكب ومقاديرها، وغير ذلك مما أودعه الصواف في رسالته، وزعم أنه مما تركه الخلفاء العظام، وهو

__________

(1) ذيل الصواعق، ص 14.

(2) ذيل الصواعق، ص 14.

كيف تناظر ملحدا؟ (314)

بذلك قد افترى عليهم ونسب إليهم ما لم يؤثر عنهم، وإنما هو مأثور عن أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم) (1)

ثانيا ـ الإلحاد.. وحقوق الإنسان

مثلما استثمر الإلحاد تلك المواقف السلبية التي وقفها بعض رجال الدين من العلم، ليلغي بها وجود الله، وليدعو من خلالها إلى الإلحاد نجده، وبنفس المنهج، يستثمر بعض الأخطاء التاريخية المرتبطة بالأديان ليجعلها وسيلة لذلك أيضا.

والمواجهة لهؤلاء تكون عبر مرحلتين:

أولاهما: نفي علاقة الاستبداد والظلم بدين الله الأصيل، وإثبات أن ما حصل من ذلك سلوكات بشرية، واستغلال خاطئ للدين، ولا علاقة له به.

ثانيهما: إثبات أن الإلحاد نفسه لا يحمل أي قيم أخلاقية تجعله يلتزم القيم التي تتطلبها حقوق الإنسان، ولذلك حوى حكمه من الظلم والاستعمار والاستبداد والتفرقة العنصرية عشرات بل مئات أضعاف ما وقع من الحكم الاستبدادي الناشئ عن الفهم الخاطئ للدين.

وسنشرح كلا الأمرين في العنوانين التاليين:

1 ـ موقف الدين من حقوق الإنسان

عندما نطالع النصوص المقدسة في جميع الأديان، نجدها تخبر بوقوع التحريف في الأديان، وبتسلط رجال الدين وظلمهم، وتعاونهم مع المستبدين والظلمة، وفي نفس الوقت تبين أن ذلك ليس عاما، بل ستظل فئة من الناس تتمسك بالدين الأصيل، حتى تكون مثابة يهتدي بها المهتدون، وسفينة نجاة يركبونها حتى يهتدوا إلى دين الله الأصيل.

ولذلك كان على الداعية المواجه للإلحاد أن يقر بوجود الظلم الذي يلبس لباس الدين،

__________

(1) ذيل الصواعق، ص 14.

كيف تناظر ملحدا؟ (315)

بل يساهم في التحذير منه، وفي نفس الوقت يحمي الدين والإيمان من تبعة الظلمة، ويشرح الدين الأصيل الذي لا يمكن فهمه من دون تمييزه عن الدين المزيف.. وسنشرح ذلك باختصار في العنوانين التاليين:

أ ـ الدين الإصيل وحقوق الإنسان

عندما نعود للمصادر المقدسة، ومن يمثلها من الأنبياء والأولياء، نجد كل القيم النبيلة الطاهرة التي لا يمكن تحققها من دون الإيمان، ذلك أنها تعتمد على التضحية والإيثار والوفاء وكل القيم النبيلة التي لا يستطيع الإلحاد فهمها ولا تفسيرها ولا تنفيذها.

وبناء على هذا نحاول أن نذكر هنا باختصار بعض القيم النبيلة التي يتشدق الملاحدة بأنهم دعاتها وأصحابها بينما هم أبعد الناس عنها، وهو ما وضعوه في ذلك الشعار الذي رفع إبان الثورة على الكنيسة، وهو [الحرية والأخوة والمساواة]، وسنرى في المطلب المتعلق بالإلحاد مدى صدق الملاحدة في تطبيق هذا الشعار.

الدين الأصيل والحرية

عندما نعود للمصادر المقدسة للإسلام الأصيل باعتباره رسالة الله الخاتمة التي جمعت كل الرسائل السابقة وصححتها نجد مفهوما للحرية يختلف عن تلك المفاهيم التي يطرحها الملاحدة، والمبنية على إتاحة المجال للغرائز البهيمية لتعبث بالإنسان وكرامته وقيمه.

فمفهوم الحرية في الإسلام الأصيل تختلف عن ذلك تماما، ذلك مؤسس على أسس تخدم الفرد، وتخدم المجتمع وتقيم عمارة الأرض التي لا تستقيم إلا بالحرية المنضبطة بضوابط المسؤولية.

ولذلك فإن الحرية في الإسلام تنطلق من الخصائص التي عرف بها الإسلام الإنسان، وأولها العبودية لله، وهي تعني الانقياد التام والطاعة الكاملة لله؛ فهي التي تحرر الإنسان من كافة العبوديات والانقيادات والتبعات لأية جهة أخرى.

كيف تناظر ملحدا؟ (316)

فالعبودية لله تعني أسمى أنواع الحرية التي لم يحلم بها الإنسان، ولم يتصورها أبداً، وهو يصارع ألوان العبوديات التي سلبت منه نعمة الحرية والحياة الآمنة والعيش الهاناء.

وهي تحرر الإنسان من كل القيود.. لا من قيود الظلم والامتهان والاستعباد والآلهة المزورة فحسب، وانما من قيود النفس وأهوائها الجامحة ونزعاتها الجنونية.

وذلك ما يتيح للانسان شق طريقه بشكل أفضل وأداء دوره بالصورة المطلوبة.

ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والأغلال، فإن الحرية الرحيبة في الإسلام على العكس.. لأنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى لتنتهي إلى التحرر من كل اشكال العبودية المهينة (1).

فالإسلام يأمر بالعبودية التي تتوجه لله وحده من دون أي وسائط.. ولذلك فإن هذه العبودية هي عين الحرية.. فهي تحرره من أي قيد فكري أو سياسي أواجتماعي أونفسي.. وغيرها من القيود التي تحاول فرضها عليه الافكار والعقائد والتقاليد والقوى التي لاتمت إلى الله بصلة، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64)

وانطلاقا من هذه العبودية الجميلة التي يعيشها الفرد المؤمن كما تعيشها الجماعة المؤمنة يتحرك المؤمن في الحياة طبقاً لمرضاة من توجه إليه بالعبودية.. فالمسلم مطالب بتحقيق مرضاة الله، والبحث عنها في التكاليف التي كلف بها..

وليس في هذا أي قيد للحرية، ذلك أن الطيب الذي ينهى مريضه عما يضره، أو يأمره بما ينفعه، ثم يفعل المريض ما طلبه منه طبيبه عن رضا تام.. وطواعية محبة.. فإن ذلك لا يمكن اعتباره قيدا.. فالطواعية تتنافى مع القيد.

__________

(1) الاضواء، العدد 2، مقالة للشهيد آية الله الصدر.

كيف تناظر ملحدا؟ (317)

وهكذا العبودية التي أمر بها الإسلام، والتي يقوم بها المؤمن، ففيها وصفان يزيلان عنها ما نتوهمه من قيود:

أما أولهما، فكونها لا يمكن أن تتحقق إلا بالرضى التام والطواعية التامة.. ولهذا يربط الإسلام بين العبادة والمحبة.. فالعبادة التزام من قلب ممتلئ بحب الله.. قلب يشعر أنه ليس في الوجود من هو أجدر من الله بأن يحب، والإسلام بمصادره المقدسة يعمق في المؤمنين هذه المحبة.. فهو يصف الله بأنه صاحب الفضل والإحسان، الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا، وخلق له ما في الأرض جميعا، وأسبع عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وخلقه في أحسن تقويم، وصوره فأحسن صورته، وكرمه وفضله على كثير من خلقه، ورزقه من الطيبات، وعلمه البيان، واستخلفه في الأرض، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.

فإذا امتلأ المؤمن بهذه المحبة مارس العبودية ـ بجميع أنواعها ـ برضا وتلذذ وطواعية..

وأما الثاني.. فهو أن هذه العبودية التي يمارسها المؤمن عن طواعية تامة لم يقصد منها إلا مصالحه.. والمصالح بالمفهوم الإسلامي تشمل مصالح الدنيا، ومصالح الآخرة، ولهذا نرى النصوص المقدسة تربط بين طاعة الله والمصالح..

أما الحرية التي يتصور الملاحدة أنهم جاءوا بها، وهي حرية الرأي، أو الديمقراطية الحديثة، فهي ليست سوى ديمقراطية المشاغبين.

ذلك أنه لو كان هناك معلم.. وكان له تلاميذ.. وكان أكثرهم مشاغبين لا علاقة لهم بالعلم، ولا اهتمام لهم به.. وراحوا يطالبونه بانتخابات تحدد لهم الدروس التي يقرؤونها، والمنهج الذي يدرسهم به.. فإن هذا الأسلوب لن يكون نافعا لهم، ولا مجديا معهم.. فهم سيرمون جميع الدروس في سلة المهملات.. وسيجعلون من المدرسة ملعبا لأهوائهم وشغبهم.

وهكذا هذه الديمقراطية المزيفة.. فهي تتيح للص والمجرم والقاتل والمنحرف من الأصوات ما تتيحه للمفكر والعالم والعبقري، وهي مع ذلك لا تتيح لهم إلا حرية محدودة في

كيف تناظر ملحدا؟ (318)

أطر رسمتها (1).. فالمتتبع لواقع حرية الرأي في الفكر الغربي يجدها قد قيدت بقيدين: أولهما سيطرة الاحتكارات الرأسمالية الكبرى على وسائل الإعلام، وقدرتها على توجيه الإعلام، والتحكم في مصادر الأخبار والمعلومات.. وثانيهما تلك القيود المثيرة التي تفرضها الدولة، بحجة عدم الاعتداء على حريات الآخرين، والمحافظة على الأمن الداخلي، والتي غالباً ما تستخدم كذريعة للحد من قدرة الأفراد على التعبير عن آرائهم.

أما الإسلام، فهو يكبت حرية الرأي الذي يريد أن يخرب المجتمع، أو يفتت وحدته، أو يحول وجهته عن الله الذي خلقه، أما الرأي الذي يكون نصحا أو نقدا بناء.. فإن الإسلام لا يكتفي باعتباره حقا.. بل يعتبره واجبا على الكل.. وهو لا يسميه رأيا.. بل يسميه نصيحة، ويشرع له من الأخلاق ما يضعه في قمة قمم الأدب.

وهكذا نرى الإسلام ينهى عن الإكراه في الدين، ولا يجيز لأحد أن يكره أحد على أي اعتقاد، وحتى المرتد (2)، فإن النصوص المقدسة للمسلمين لم تذكر قتل المرتدين.. فليس في القرآن الكريم آية واحدة تأمر بقتل المرتد.. بل إنا لا نجد فيه إلا التحذير من مصيره في الآخرة.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)} [آل عمران: 90 - 91]، فهي واضحة في كونها لا تفرض أي عقوبة على المرتد إلا العقوبة الأخروية.

وقد مارس بعض اليهود هذا في عهد النبوة، كما ذكر القرآن: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

__________

(1) انظر: د. محمد مفتي، د. سامي الوكيل، الحرية السياسية الغربية وحق إبداء الرأي في التصور الإسلامي.

(2) رددنا على هذه الشبهة في (عدالة للعالمين) من سلسلة [حقائق ورقائق].

كيف تناظر ملحدا؟ (319)

(72)}(آل عمران)، ومع ذلك لم يقتل محمد واحدا منهم بسبب ذلك.

بل إن الإسلام لا يتوجه بالعقوبة إلا للمحارب المفسد الذي لا هدف له إلا تخريب المجتمع، وتفتيت وحدة المسلمين، وخرق صفوفهم.. أما المرتد الذي يحتفظ بردته لنفسه، ويحتفظ بكفره لنفسه، فلا يتدخل الإسلام في اختياره.. بل إن محمدا كان يرى المنافقين ويعلم أسماءهم.. ولم يقتل واحدا منهم.

الدين الأصيل والأخوة

عند استقراء الأديان المختلفة لا نجد دينا أعطى الأخوة وكل العلاقات الإنسانية من القيم ما أعطاه الإسلام في نسخته الأصلية التي تعتمد بالدرجة الأولى على المصادر المقدسة ولا تخلط معها أي مصادر أخرى مبنية على الهوى، ومتأثرة بالبيئة والثقافات السائدة.

فقد اعتبر القرآن الكريم البشر جميعا إخوة، مهما اختلفت أعراقهم وألوانهم وأديانهم. وهذا ما لا نجده في أي دين من الأديان، ولا في شريعة من الشرائع السماوية أو الوضعية.. ولهذا نجده ينادي البشر بهذا الوصف: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (لأعراف:26).. {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (لأعراف:27)..: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الاسراء:70)

بل إنه اعتبر الأنبياء الكرام إخوة لأعدائهم الذين كانوا يسومونهم الخسف فقد اعتبر قوم نوح إخوانا لنوح: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء:106).. واعتبر قوم هود إخوانا لهود: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء:124).. واعتبر ثمود إخوانا لصالح: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} (الشعراء:142)

كيف تناظر ملحدا؟ (320)

وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول دبر كل صلاة: (اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك.. اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه، أنا شهيد أن محمداً عبدك ورسولك.. اللهم ربنا ورب كل شئ ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة) (1)

فقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إقرار مبدأ (الأخوة) بعد الشهادة لله تعالى بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعبودية والرسالة.

وبالإضافة إلى هذه الأخوة العامة، فإن القرآن الكريم يدعو إلى نوع آخر من الأخوة، وهي الأخوة الخاصة بين المسلمين، وأو تلك التي سماها [أخوة الدين]، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (التوبة:11)، وقال: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (الأحزاب:5)، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات:10)

فالإسلام يعتبر المسلمين جميعا ـ مهما تعددت أوطانهم وأعراقهم وألوانهم ـ أسرة واحدة لها أب روحي واحد هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ولها دين واحد هو الإسلام.

وهذه مرتبة من مراتب العلاقات مرتبة ضرورية، ذلك أن الناس جميعا يمارسون في علاقاتهم هذا الأسلوب؛ فيفرقون بين إخوانهم وأصدقائهم وأقاربهم وأهل بلدهم وسائر الناس.. وهي لا تلغي غيرها من المراتب، كما لا تلغي الصداقة ولا القرابة غيرها من العلاقات.

وهذه الأخوة هي العلاقة الوحيدة التي تحكم بين المسلمين جميعا.. فليس في المسلمين أي عنصرية كتلك العنصرية التي تمتلئ بها شعوب الأرض.

وقد زخر التراث الإسلامي بجميل الأخلاق وعظيم الآداب التي طبعت علاقات

__________

(1) رواه أحمد.

كيف تناظر ملحدا؟ (321)

المسلمين بعضهم ببعض.. والتي استوحت معانيها من نصوص القرآن ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال معبرا عن أصل أصول ذلك: (: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (1)

الدين الأصيل والمساواة

عندما نقوم بعملية مسح علمية منهجية لكل الأديان السماوية والوضعية، لنبحث عن موقفها من المساواة بين البشر لا نجد دينا يحفل بذلك الكم الكبير من النصوص المقدسة حولها، فالإسلام يعتبر البشر جميعا عبادا لله.. وأفضلهم أقربهم لله، وأكثرهم نفعا لعباده (2).

لقد نص القرآن على هذا في مواضع كثيرة.. فهو يرد على اليهود والمسيحيين الذين اعتبروا أنفسهم أبناء لله، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (المائدة:18)

وبين عدالة الجزاء الإلهي الذي يتعامل مع العباد بحسب أعمالهم لا بحسب أمانيهم، فقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (النساء:123)

وقد رسخ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسلوكه وهديه هذه المعاني.. حيث كان يصحبه العرب والعجم، والبيض والسود، والأحرار والرقيق، ولم يكن يميز أحدهم عن الآخر.

وقد ورد في الحديث: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: (يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي

__________

(1) البخاري:1/ 10.

(2) في الحديث سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أي الناس أحب إلى الله؟) قال: (أنفع الناس للناس) رواه الطبراني وغيره بألفاظ متقاربة، وهذا لفظ الطبراني، انظر: المقاصد الحسنة ص (200 – 201)

كيف تناظر ملحدا؟ (322)

على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13)، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فليبلغ الشاهد الغائب) (1)

وفي حديث آخر، قال: (إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي ألا إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا فلان ابن فلان خير من فلان بن فلان فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون) (2)

وفي حديث آخر قال: (إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون برجال إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها) (3)

وفي حديث آخر: (أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحدكم، كلكم بنو آدم ليس لأحد على أحد فضل الا بالدين أو تقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا) (4)

ولتعميق الإسلام لقيمة المساواة في نفوس المسلمين، قام ـ بمصادره المقدسة ـ بتربيتهم على التواضع لله، ولخلق الله..

فقد اعتبر القرآن الكريم الكبر الحجاب الأكبر بين العباد ومعرفة ربهم والاتصال به، فقال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (لأعراف:146)

بل أخبر أن المتكبرين لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي

__________

(1) المعجم الكبير للطبراني.

(2) رواه الطبراني في الأوسط والصغير والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال المحفوظ الموقوف.

(3) أحمد.

(4) أحمد.

كيف تناظر ملحدا؟ (323)

سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (لأعراف:40)، وقال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:83)

وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه هذا الخلق العظيم.. فكان يحثهم عليه بكل الأساليب، ففي الحديث القدسي: (إن الله تعالى أوحى إلي أن توضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا ينبغي أحد على أحد) (1)

وفي حديث آخر: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد إلا رفعه الله) (2)

وفي حديث آخر: (طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسألة) (3)

وفي حديث آخر: (من مات وهو برئ من الكبر والعلو والدين دخل الجنة) (4)

وفي حديث آخر: (من تواضع لأخيه المسلم رفعه الله، ومن ارتفع عليه وضعه الله) (5)، وفي رواية: (من تواضع تعظيما يحفظه الله، ومن تواضع خشية يرفعه الله)

أما العزة التي دعا إليها الإسلام، فليست كبرا، ويستحيل أن تكون كبرا، ذلك أنها امتلاء النفس تعظيما للحق الذي هداها الله إليه، فلا تتشوف لغيره، والمعتز بالحق هو الذي يسعى لإيصاله لغيره من غير أن يستعلي عليهم به.

لقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ فاني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك) (6)

__________

(1) رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه.

(2) رواه مسلم والترمذي.

(3) رواه مسلم والترمذي.

(4) رواه الترمذي والنسائي وغيرهما.

(5) رواه الطبراني.

(6) مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة عن جندب باب النهي عن تقنيط الانسان من رحمة الله وبرقم (2621).

كيف تناظر ملحدا؟ (324)

وفي حديث آخر: (ألا أحدثكم حديث رجلين من بني إسرائيل؟ كان أحدهما يسرف على نفسه، وكان الآخر يراه بنو إسرائيل أنه أفضلهم في الدين والعلم والخلق، فذكر عنده صاحبه، فقال: لن يغفر الله له، فقال الله لملائكته: (ألم يعلم أني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ فاني أوجبت لهذا الرحمة، وأوجبت على هذا العذاب، فذا تتألوا على الله) (1)

وفي حديث آخر: (قال رجل لا يغفر الله لفلان، فأوحى الله إلى نبي من الانبياء أنها خطيئة، فليستقبل العمل) (2)

وفي حديث آخر ورد ما هو أعظم من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كان رجل يصلي، فلما سجد أتاه رجل فوطئ على رقبته، فقال الذي تحته: والله لا يغفر لك الله أبدا، فقال الله عزوجل: تألى عبدي أن لا أغفر لعبدي، فاني قد غفرت له) (3)

وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الذين زعموا لأنفسهم امتلاك خزائن الجنان (المتألين) (4)، فقال: (ويل للمتألين من أمتي، الذين يقولون: فلان في الجنة، وفلان في النار) (5)

بل أخبر عن هلاك هذا النوع من الناس، فقال: (إذا سمعت الرجل يقول: هلك الناس فهو أهلكهم) (6)، وقال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم) (7)

ب ـ الدين المحرف وحقوق الإنسان

__________

(1) أبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن أبي قتادة.

(2) الطبراني في الكبير عن جندب.

(3) الطبراني في الكبير.

(4) معنى يتألى: يحلف والالية اليمين.

(5) البخاري في التاريخ.

(6) مالك وأحمد ومسلم وأبو داود.

(7) أحمد ومسلم وأبو داود.

كيف تناظر ملحدا؟ (325)

ولا نقصد بالدين المحرف هنا المسيحية أو اليهودية أو غيرها من الديانات فقط، بل نقصد به الإسلام أيضا، فقد أصاب هذا الجانب فيه الكثير من التحريف، سواء من رجال الدين، أو من السلطات الزمنية التي حكمت طيلة التاريخ الإسلامي.

وقد نبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك، وأخبر أن هناك ظلما واستبدادا كثيرا سيصيب الأمة، وتنحرف به عن دينها، حتى لا يتحمل الدين تبعات ذلك الاستبداد والتحريف، بل أخبر أن ذلك سيتم في العصور الأولى منه، بل أشار القرآن الكريم إلى إمكانية أن يحصل ذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يتحمل دين الله الأصيل أي تبعات يقوم بها أتباعه، فقد قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]

وأخبر أن ذلك سنة في المجتمعات جميعا، والتي تسيء خلافة الرسل، ويتحقق بسببها تحريف الدين، كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169]

وأشار في آية أخرى إلى بعض المظالم التي تحصل بسبب البغي وسوء فهم الدين، فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]

والآية الكريمة تشير إلى أنه كان في إمكان الله تعالى أن يمنع كل ذلك، ولكن تركه، لأنه أراد من خلقه أن يمارسوا تكاليفهم بكل حرية حتى يتميز الخبيث من الطيب، والمصلح من المفسد.

وهكذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما يحصل في أمته من انحرافات عن الدين الأصيل، وهي

كيف تناظر ملحدا؟ (326)

كثيرة جدا لا يمكن استيعابها هنا، وكلها تفيد أنه لا علاقة للدين بالمآسي التاريخية التي حصلت باسمه.. فالدين تمثله مصادره المقدسة، لا سلوكات أتباعه، وفهومهم له.

ومن النصوص الواردة في ذلك هذا التحذير الشديد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أن تترك الأمة للسياسة ورجالها المجال للتأثير عليها في دينها، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه، يمنعكم من ذلك المخافة والفقر، ألا وان رحى الايمان دائرة، وان رحى الا سلام دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث يدور، ألا وان السلطان والكتاب سيفترقان ألا فلا تفارقوا الكتاب، ألا انه سيكون عليكم أمراء ان أطعتموهم أضلوكم، وان عصيتموهم قتلوكم)، قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله؟ قال: (كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم حملوا على الخشب ونشروا بالمناشير، موت في طاعة الله، خير من حياة في معصية الله) (1)

فهل يمكن اعتبار هذه الأوامر التي تدعو إلى التضحية في سبيل تحقيق العدالة والقيم الحضارية النبيلة أفيونا للشعوب؟

وقد أخبر في حديث آخر ما يبين قرب ذلك، فعن أبي سعيد قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال في خطبته: (ألا اني أوشك أن أدعى فأجيب، فيليكم عمال من بعدي يعملون بما تعملون ويعملون ما تعرفون، وطاعة أولئك طاعة، فتلبثون كذلك زمانا، ثم يليكم عمال من بعدهم يعملون بما لا تعملون، ويعملون بما لا تعرفون فمن قادهم، وناصحهم، فأولئك قد هلكوا، وأهلكوا خالطوهم بأجسادكم، وذايلوهم بأعمالكم، واشهدوا على المحسن أنه محسن وعلى المسئ أنه مسئ) (2)

وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم خوفه على ما يحصل بعده من تسلط الأئمة الظلمة، ومن يعينهم من علماء

__________

(1) رواه احمد بن منيع برجال ثقات واسحاق، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (5/ 228)

(2) رواه الطبراني في الأوسط، انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (5/ 237)

كيف تناظر ملحدا؟ (327)

السلاطين، ففي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلون) (1)

وقد نبه صلى الله عليه وآله وسلم الأمة إلى كيفية التعامل مع هؤلاء الأمراء المستبدين، فقال: (اسمعوا، إنه سيكون عليكم أمراء، فلا تعينوهم على ظلمهم، ولا تصدقوهم بكذبهم، فإنه من أعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم، فلن يرد علي الحوض) (2)

وبناء على هذا؛ فإن كل ما حصل في الواقع الديني من مآس تمس بحقوق الإنسان لا علاقة لها بالدين، وهي سلوك بشري مبني على الهوى، ولذلك لا يتحمل الدين الصحيح ذلك، لأنه تبرأ من أصحابها.

بل إن المتدين الحقيقي يجب عليه قبل الملحد أن ينكر ذلك، حتى يبقى دين الله صافيا سليما بعيدا عن تأثيرات متبعيه وأهوائهم.. ولذلك نرى القرآن الكريم يحمل حملة شديدة على هؤلاء، ويرد عليهم، ويعتبرهم أبعد الناس عن الدين، بل يشبههم بالحمير، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]

وشبه عالم الدين الذين يركن إلى هواه، ويفسر الدين بمزاجه بالكلب، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 175 - 177]

2 ـ موقف الإلحاد من حقوق الإنسان

من المغالطات الكبرى التي يمارسها الملاحدة في هذا الجانب تصويرهم للمجتمع الملحد

__________

(1) رواه أحمد (1/ 42، رقم 293)، قال الهيثمى في مجمع الزوائد: (5/ 239): رجاله ثقات.

(2) رواه أحمد (5/ 111، رقم 21111)، وابن حبان من طريق أبى يعلى (1/ 518، رقم 284)

كيف تناظر ملحدا؟ (328)

بكونه المجتمع الذي يمثل جميع القيم الحضارية التي حال الدين دون تحقيقها، ويستدلون لذلك بما وقع في التاريخ من انحرافات رجال الدين، والتي نقرهم فيها، بل ننكرها مثلما ينكرونها، بل إن المصادر المقدسة للأديان نفسها نبهت إليها وحذرت منها.

ونحن سنعاملهم هنا بنفس طريقتهم في تعاملهم مع الأديان، فقد أتيحت لهم فترة طويلة حكموا فيها البشرية، ولا يزالون يحكمونها، ورفعوا حينها الكثير من الشعارات، والتي توهموا أنهم جاءوا بها في مواجهة الدين الذي جاء بنقيضها.

ومن أهم تلك الشعارات، ذلك الشعار الذي رفع إبان الثورة على الكنيسة، وهو [الحرية والأخوة والمساواة]، وسنرى مدى تطبيقهم لهذه الثلاثية.

أ ـ الحرية والإلحاد

لقد كان أول ما فعلته الثورة الفرنسية التي أعلنت الحرية هي أن بترت الإنسان عن الإنسان، لأنها تصورته قيدا يكبت حرية الإنسان.. وقد بدأت ذلك بتحريره من الله.. أو بعزل الله عن حياته.

ثم كان الانقلاب الصناعى (1) الذى أتى على بقية ما كان من بنيان، فقد أحدث هذا الانقلاب تغيراً كاملاً فى صورة المجتمع فى كل شاء فيه، وكان عاملاً من أهم العوامل فى التركيز على (فردية) الإنسان..

وقد ذاق هؤلاء جميعاً فرديتهم المستقلة (المتحررة) من غير طريقها السوى، الذى كان يضمن لهم ـ مع الإحساس بالذاتية المتميزة ـ توازناً فى الإحساس بالحقوق والتبعات، والحرية والالتزام.

فسكان المدينة الجدد كانوا ـ رويداً رويداً ـ قوماً يتحللون من الدين والأخلاق والتقاليد، بتأثير الانتقال من الكبت العنيف فى الريف إلى (حرية) المدينة وبحبحتها، وبتأثير الانسلاخ

__________

(1) انظر كتب سيد قطب ومحمد قطب، خصوصا (مذاهب فكرية معاصرة).

كيف تناظر ملحدا؟ (329)

التدريجى الدائم من الدين، وبتأثير التفسير الحيوانى للإنسان الذى بثته الداروينية فى النفوس؛ وبتأثير التفسير الجنسى للسلوك الذى بثه فرويد؛ وبتأثير وجود الشباب الفاره القوة بلا أسر تعصمه من الخطيئة، فيلجأ إلى الحل الرخيص الذى تقدمه المدينة فى صورة بغاء..

والمرأة ـ وهى تحس رويداً رويداً بفرديتها ـ كانت تستقى هذه الفردية على انحراف، فهى خارجة من حالة انعدام الكيان.. فى كل شاء.

فلما أحست بذاتيتها أخذت تناضل لتحطيم كل قيد.. لازماً أو غير لازم.. وأخذت بالذات تسعى إلى تحطيم الدين والأخلاق والتقاليد لأنها استخدمت ضدها فى معركة (التحرر).. استخدمها الرجل ليصدها عن منافسته، بينما كان هو فى واقع حياته متحللاً من الدين والأخلاق والتقاليد.

وحدث عند هذا انحلال مدمر شنيع؛ فقد تحطمت روابط المجتمع، وروابط الأسرة، وفسد كيان الرجل والمرأة كليهما.. فلم يعودا رجلاً وامرأة كما خلقهما الله.

أما الرجل ـ وقد فقد روابطه الاجتماعية وضعفت فى نفسه روابط الأسرة وروابط الرجولة ذاتها ـ فقد أصبح شيئاً أقرب إلى الآلة منه إلى الإنسان.. آلة منتجة، ولكنها لا تكاد تفكر أو تحس.. وإنما تعيش الحياة لحظة لحظة، بلا هدف شامل ولا وعى بإنسانية الإنسان.. ثم إذا فرغ من الإنتاج المادى الذى يكبت كيانه الحى ويطمس إشعاعه الروح فيه ـ بسبب الأسلوب الآلى الذى يؤدى به العمل ـ انطلق فى حيوانية هابطة يشبع دوافع الحيوان، وتتحول فى نظره إلى هذين الهدفين القريبين: إنتاج كالآلة.. وانطلاق كالحيوان.

ب ـ الأخوة والإلحاد

لقد كان أول مظهر من مظاهر الإخاء الذي مارسه الإلحاد إبان الفتة الطويلة التي حكم فيها ابتداء من الثورة الفرنسية إلى اليوم هو الاستعمار والنهب والسيطرة على حقوق المستضعفين، ثم قتلهم بعد ذلك.

كيف تناظر ملحدا؟ (330)

فلم يكتف تلاميذ الثورة الفرنسية النجباء بإعلان أخوتهم للعالم بهذا الأسلوب، وإنما ساروا إلى الأرض يقسمونها كما يحلو لهم، وكأنها تركة لأبيهم الذي مات، فهم يرثونها عنه.. أما أهل الأرض من البسطاء والمستضعفين، فلهم مصيران لا ثالث لهما: إما الموت.. وإما السخرة.

أما السخرة، فهي تلك الوظائف القاسية والمهينة التي قام بها أبناء الشعوب المستعمرة، وأما الموت.. فإن جرائم الإبادة التي نالت البشر في الفترة التي أعلنت فيها حقوق الإنسان، والأخوة الإنسانية لا تعدلها جرائم البشر في جميع فترات تاريخهم.

لقد بلغ عدد الذين أبادتهم بريطانيا العظمى من أجل إخضاع الصين لتاجها أكثر من عشرين مليون إنسان.

وكانت فرنسا تستعمر الجزائر رغم إرادة شعبها الذين قاوموا الاستعمار بعنف، ولم تستجب فرنسا لنداء الحرية المدوي في صفوف الشعب الجزائري، إلا بعد أن قتلت من ذلك الشعب المضطهد ما يقارب المليونين نسمة، وبصورة بشعة قاسية.

وفي أثناء حرب الجزائر طلب حكام فرنسا من القائد العام للجيش أن يحول أجمل مسجد في الجزائر إلى كنيسة، فوقع اختياره على مسجد الحي الأورلي في القشارة فتقدمت مجموعة من آلية الهندسة للسلاح الفرنسي إلى المسجد، وكان الوقت وقت صلاة المغرب، وكان المسجد غاصاً بالمصلين الذي قدر عددهم بـ (1400) مصلٍّ، فدخلوا عليهم وقتلوا فيهم إلى منتصف الليل، حيث أبادوهم جميعاً.

وقد أحصي عدد القنابل التي ألقاها الطيران الأميركي من سنة 1961 إلى سنة 1972 م زهاء ستة ملايين وسبعمائة وسبعة وعشرين ألف طن من القنابل على منطقة الهند الصينية وحدها.

وألقت الطائرات الأميركية واحد وسبعين مليون لتراً، من المواد الكيمياوية السامة على

كيف تناظر ملحدا؟ (331)

منطقة في جنوب فيتنام توازي مساحة إيرلندا الشمالية.

أما ما فعله تلميذ نيتشة وغيره من الملاحدة [هتلر]، فهو لا يكاد يوصف أو يعبر عنه، والكثير للأسف يقصر مواقفه مع اليهود، وينسى مواقفه الأخطر مع الغجر (1)، فقد نال الغجر المستضعفين من الإبادة ما نالهم.. فقد وصفت إحدى منشورات اليونسكو ما حصل لهم، ومما جاء فيها من مآس (2):

أن الدكتور هانز جلوبكه ـ أحد المساهمين في صياغة قوانين نورمبرج ـ عام 1936 ـ ذكر أن الدم الذي يجري في عروق الغجر (دم أجنبي). ثم صنَّفهم الأستاذ هانز ف. حينثر في فئة مستقلة تمثل مزيجاً عرْقياً غير محدَّد (إذ لم يستطع نفي أصلهم الآري). وبلغت الخصائص العرْقية لدى الغجر من الأهمية درجة أهلتها لأن تصلح موضوعاً لرسالة دكتوراه، ومما قالته إيفا جوستين مساعدة الدكتور ريتّر في قسم الأبحاث العِرقية بوزارة الصحة (عند مناقشة رسالتها) إن الدم الغجري (يُشكِّل خطراً بالغاً على صفاء الجنس الألماني)

ووجَّه طبيب يُدعَى الدكتور بورتشي مذكرة إلى هتلر يقترح فيها فرض الأشغال الشاقة على الغجر وتعقيمهم بالجملة نظراً لأنهم (يُشكِّلون خطراً على نقاء دم الفلاحين الألمان)

وفي 14 ديسمبر عام 1936، صدر قرار أدى إلى تفاقم أوضاع الغجر، إذ وصمهم بأنهم (مجرمون معتادون على الإجرام)

وفي نهاية عام 1937 وخلال عام 1938 شُنت حملات اعتقال جماعية عديدة ضد الغجر، وخُصِّص لهم جناح في معتقل بوخنولد.

__________

(1) ارتبطت الإبادة النازية بـ (اليهود) بحيث استقر في الأذهان أن النازيين لم يبيدوا سوى اليهود، وقد ساعد الإعلام الغربي والصهيوني على ترسيخ هذه الفكرة حتى أصبح دور الضحية حكراً على اليهود.. بل تطور الأمر إلى حد أنه إذا ما أراد باحث أن يبيِّن أن الإبادة النازية لم تكن مقصورة على اليهود، وإنما هي ظاهرة شاملة ممتدة تشمل الغجر والسلاف والبولنديين وغيرهم، فإنه يصبح هدفاً لهجوم شرس (انظر: الموسوعة اليهودية للمسيري)

(2) نقلا عن الموسوعة اليهودية للمسيري.

كيف تناظر ملحدا؟ (332)

وفي عام 1938، أصدر هملر بنفسه أمراً بنقل مقر المركز الوطني لشئون الغجر إلى برلين.. وفي السنة نفسها اعتُقل ثلاثمائة غجري كان قد استقر بهم المقام في قرية مانفويرت حيث كانوا يملكون الحقول والكروم.

وقد أمر هملر بتصنيف الغجر في الفئات التالية: غجري صرف (Z)، وخلاسي يغلب عليه العرْق الغجري (ZM+)، وخلاسي يغلب عليه العرْق الآري (ZM-)، وخلاسي يتساوى فيه العرْقان الغجري والآري (ZM).

ويميِّز المؤرخ ح. بلِّنج في كتابه (ألمانيا وإبادة الجنس) بين أساليب مختلفة لإبادة الجنس تتمثل في الإبادة عن طريق إزالة القدرة على الإنجاب واختطاف الأطفال، والإبادة عن طريق الزج في المعتقلات، والإبادة عن طريق الإفناء.

وهذا مجرد مثال واحد عن بعض جرائم الإبادة التي تهدف إلى تنقية العرق.. أما جرائم الإبادة التي تهدف إلى نشر ديمقراطية الدماء.. فهي كثيرة جدا، تشهد عليها أفغانستان والعراق وفلسطين.. بل جميع عوالم المستضعفين.

وبعد كل هذه المآسي التي تدل عليها كل الوثائق التاريخية يأتي الملاحدة، وبناء على حوادث بسيطة قام بها المنحرفون عن الدين الأصيل، ليعتبروا الدين هو وسيلة العنف الكبرى، وأن الحل الذي يحمي البشرية من العنف هو الإلحاد.

ويذكر الملاحدة الجدد منهم خصوصا (1) أنه لولا الدين لما شهدنا هجمات 11 سبتمبر أو النزاع الفلسطيني الإسرائيلي أو مشاكل ايرلندا الشمالية أو أية نزاعات عنيفة بسبب كلمات في كتب مقدسة.. بل ولا حتى الدولة الإسلامية.

ويحاجج أكثر الملحدين البريطانيين شهرة [ريتشارد دوكنز] بأن الدين كان سبباً رئيسياً

__________

(1) استفدنا المادة العلمية الواردة هنا من مقال مترجم بعنوان: هل الدين مسبب حقيقي للحروب؟ وهل يخلو تاريخ الملحدين منها؟، موقع السوري الجديد، ترجمة ديمة الغزي.

كيف تناظر ملحدا؟ (333)

للعنف والحروب عبر التاريخ حيث قال في مذكراته التي كتبها عام 2013: (الدين هو العلامة الرئيسية والأخطر التي بموجبها نقسم أنفسنا إلى طرفين: نحن وهم)

وأضاف أنه لو ألغي الدين لأصبحت الفرصة أكبر بكثير لعالم بلا حروب، كما كنا لاحظنا انخفاضاً في منسوب الكراهية لأن الكثير منها يعود للطائفية كما في ايرلندا الشمالية والهند وباكستان على حد تعبيره.

لكن الدراسات الأكاديمية تدحض تلك النظرية التي تربط ما بين الحروب والدين؛ ففي بحث نشره معهد نيويورك وسيدني للاقتصاد والسلام تبين أنه عموماً لا توجد علاقة بين الدين والنزاعات في أي من الحروب التي اندلعت في 2013.. ومن بين خمسة وثلاثين نزاعا مسلحا خمسة فقط (14 بالمائة) كانت أسبابها المباشرة مرتبطة بالدين، في حين غاب العامل الديني تماماً في أربع عشرة حالة أخرى (40 بالمائة)، واشتركت جميع الحالات قيد الدراسة في تعدد مسبباتها، وكانت أكثر الأسباب شيوعاً هي ما تعلق بمعارضة الحكومة أو النظام الاقتصادي أو الايديولوجي أو السياسي أو الاجتماعي للدولة حيث برزت في ثلثي الحالات التي تمت دراستها.

كما نجد في موسوعة الحروب ـ وهي دراسة شاملة لكافة الحروب الألف وسبعمائة وست وثلاثين عبر تاريخ الإنسانية ـ أن الحروب الدينية في طبيعتها لم تتجاوز المئة وثلاثة وعشرين حرباً.. أي أقل من 7 بالمائة.

من ناحية أخرى أسفر تقرير معهد الاقتصاد والسلام عن نتيجة مفادها أن انحسار الدين في دولة ما لا يجعلها تلقائياً تتمتع بالسلم أكثر، ونسبة الملحدين في الدولة لا علاقة لها بمستوى السلم فيها، فالدول التي تعلو فيها نسبة الملحدين ـ بالأخص الدول الشيوعية أو التي كانت شيوعية مثل روسيا والتشيك ـ لم تنعم بالسلام.

وبحسب التقرير أيضاً كانت كوريا الشمالية ضمن لائحة الدول العشر الأقل سلاماً

كيف تناظر ملحدا؟ (334)

رغم أنها الأقل نسبة من حيث عدد السكان المنتمين إلى ديانة ما.

وقد فسر [جون وولف] سبب كون الدين بارزا في أغلب النزاعات، بأنه عندما يكون الواقع معقداً يتم توصيف الصراعات بأنها دينية كوصف مقتضب لها، ويضيف: (حتى عندما نرجع بالتاريخ إلى ما يعرف بالحروب الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر فيما بعد حركة الإصلاح البروتستانتي في غرب وشمال أوروبا نجد أن العامل الديني كان مهماً، ولكن يتبين أنه كان هناك أيضاً تأُثير الأسر الحاكمة والسلطة والاقتصاد التي كان من شأنها تحريك الحروب)

ويختم جون بقوله: (لعلني أتفق مع الطرح القائل بأنه تم توريط الدين في معظم الحروب، لكن القول بأن الدين هو المسؤول عنها هو تحريف للأدلة)

وهكذا ذكرت الكاتبة الأسترالية المسلمة [ريتشل وودكوك] أن الانقسامات الدينية أصبحت واضحة أكثر في الحروب الحديثة. وتقول في كتابها [لفهم الإله]: (إن أهمية الدين قد تصاعدت اليوم بسبب العولمة التي تتحدى وتغير كل شيء، وأن الهوية الدينية لا تتأثر عندما تنهار التحالفات السياسية والقومية لا بل تزداد أهمية كما رأينا في يوغوسلافيا سابقاً في أوائل التسعينات عندما انقسم الصربيون والكرواتيون والبوسنيون إلى أورثودوكس وكاثوليك ومسلمين)

كما أشارت وودكوك إلى الديكتاتور صدام حسين الذي استخدم السلاح الكيماوي ضد الأكراد بينما ظهر على شاشات التلفاز وهو يصلي لله، وقالت في الكتاب: (للأسف يوفر الدين غطاء مناسباً ومحركاً قوياً لأصحاب النوايا السيئة. في الحقيقة يكون الدين مختلفاً تماماً عندما يمارسه المتعطشون للسلطة عما يبدو عليه عند الأتقياء والصالحين، وهذا يدل على نفسية الإنسان أكثر مما يدل على الدين. ولذلك نرى الكثير من النزاعات الإنسانية تحوم حول الدين)

وفي ايرلندا الشمالية نلاحظ أنه يتم توظيف الخطاب الديني من قبل الطرفين وبالأخص

كيف تناظر ملحدا؟ (335)

في حالة القس البروتستانتي [إيان بيزلي] الذي اعتبره البابا عدوا المسيح.

وقد ذكر [وولف] أنه قد تم تضخيم دور العوامل الدينية في النزاع الدائر في ايرلندا الشمالية (التوصيفات الشائعة هي كاثوليك وبروتستانت بدلاً من قومي واتحادي مما يساهم في خلط الأمور، وكان هناك الكثير مما يجري خلف الكواليس مما لم يتطرق له الإعلام من مصالحات وما إلى ذلك، لقد كان بيزلي شخصاً واضحاً ومؤثراً في طرف البروتستانت وبنى مواقفه على أسس دينية، لكني أعتقد أنه لم يكن ممثلاً جيداً لتلك الشريحة بشكل عام)

بالإضافة إلى ذلك، فقد أشارت الدراسات الكثيرة إلى الدور الإيجابي الذي يلعبه الدين في تحقيق السلام، وهي للأسف لا تنال التغطية المناسبة في الإعلام ـ بحسب معهد الاقتصاد والسلام ـ فقد وجد المعهد أن الانخراط في أي مجموعة ـ دينية أو رياضية مثلاً ـ من شأنه أن يقوي العلاقات بين المواطنين في الدولة، ويرتبط عادة بالمناطق التي تنعم بسلم أكثر. وقد عرف التاريخ أناساً متدينين جداً وهم من أشهر دعاة السلام مثل مارتن لوثر كينج جونيور والمهاتما غاندي والمطران ديزموند توتو.

ويذكر [جون وولف] ذلك، فيقول: (يجب علينا أن نتمعن في الحالات التي يعمل فيها الناس المتدينون بكد لإحلال السلام.. وهو جانب نادراً ما يحظى بالتغطية الإعلامية على عكس الجانب الآخر)

وبالنظر إلى الحروب الكبرى في المئة عام الأخيرة كالحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة وحرب فيتنام.. نرى بوضوح كيف يمكن للدوافع غير الدينية أن تكون مدمرة تماماً كالدوافع الدينية. مما يطرح السؤال عما إذا كان الإلحاد المتشدد مسؤولاً القدر بنفسه عن الدمار والعنف كما الدين.

وبحسب ما تقول [ريتشل وودكوك]، فإنه (لا يقع اللوم على الايديولوجية الدينية فقط في نشوب النزاعات، بل إن الإلحاد المفروض من قبل الدولة كان علامة فارقة في الأنظمة

كيف تناظر ملحدا؟ (336)

الفاشية في القرن العشرين كنظام ستالين وتيتو وماو تسي تونج وبول بوت وغيرهم.. مما نتج عنه مصرع ومعاناة الملايين، كما أعدم الملحدون عشرات الآلاف من الروس المسيحيين بسبب معتقداتهم بهدف إفراغ الدولة من الدين)

ج ـ المساواة والإلحاد

لا يصطدم الإلحاد بشيء كما يصطدم بالمساواة، ذلك أنه يعتقد بنظرية التطور، ويعتقد معها بما يطلق عليه [الداروينية الاجتماعية]، وهي ذلك التبرير العلمي لكل أنواع العنصرية.

وهي نظرية تدعو إلى ممارسة كل أنواع التجبر والطغيان لإلغاء المستضعفين من الوجود حتى لا يبقى في العالم إلا الأقوياء.. فالبقاء لهم وحدهم.. ولذلك لهم أن ينتهبوا ثروات الفقراء المستضعفين.. ولهم أن يبيدوهم.. حتى لا يبقى في الأرض إلا الأصلح والأقوى.. وهو بالتأكيد ليس سوى (الإنسان الأبيض)، والأوروبي على وجه التحديد.

لقد كان هذا المعيار هو الذي فتح المجال للرأسمالية البشعة.. والتي تعني عدم تدخل الدولة في الأعمال والسوق التجارية نهائيًا، بل تترك الباب مفتوحًا للمنافسة، ومن يستطع التنافس يبقَى في الحلبة، ومن لا يجاري الأقوياء عليه مغادرة حلبة الصراع، فلا مكان للضعفاء! وليس الضعفاء إلا أولئك الذين لا يملكون من رأس المال ما يمكنهم من منافسة المليارديرات والمليونيرات.

وكان هذا المعيار هو الذي دعا إلى التخلص من دولة الرفاه.. وهي الدولة التي تقدم التعليم والتأمين الصحي ومعاشات التقاعد والمساعدة في تأمين السكن وغيرها مجانا للمستضعفين.. لأن ذلك سيترك لهم الفرصة البقاء مع استضعافهم.. وهذا مناف للقوانين التي وضعناها.

وكان هذا المعيار هو الذي دعا المستكبرين الأقوياء إلى استعمار الشعوب المستضعفة.. فتلك الشعوب لا تستحق الحياة.. لأن الحياة لا تكون إلا للأقوى.

كيف تناظر ملحدا؟ (337)

ولم يتوقف تأثير تلك الأفكار على المجال الاقتصادي، والمآسي التي أحدثها.. بل راحت تستعمل كل الوسائل لإبادة المستضعفين، فقد كان الفلاسفة الماديون يؤمنون بتوريث الصفات.. أي أن الوراثة هي التي تلعب دورًا مهمًا في تحديد طبيعة الإنسان، والسمات الفردية له كالذكاء والهوية الشخصية.. وكانوا لذلك يعتقدون أن الجينات الوراثية تستطيع تفسير خصائص الشخصية البشرية وحل المشكلات الإنسانية سواء كانت اجتماعية أو سياسية.. وكانوا يكذبون كل مقولة تذكر أن البيئة هي التي تؤثر في سلوك الإنسان وسماته الشخصية (1)، وبناء على هذه الاعتقادات راحوا يدعون إلى ممارسة كل الوسائل حتى لا يبقى على الأرض إلا العناصر الصالحة القوية، والتي تجعل الإنسان أكثر تطورا ورقيا.

ولأجل تحقيق هذا قام الكثير من الباحثين في المجالات المختلفة ليميزوا بين العناصر الإنسانية الصالحة القوية، وبين العناصر التي لم تصل بعد إلى المرتبة الإنسانية.

ومن النتائج التي وصلوا إليها ما عبر عنه بعضهم بقوله: (إن للبالغين السود جماجم طويلة، وبشرة داكنة، وفكان بارزان بقوة إلى الامام، فى حين أن لدى البالغين البيض ولأطفال السود جماجم قصيرة، وبشرة فاتحة، وفكان صغيران، ومن ذلك فإن العرق الأبيض هو الأكثر رقيا وتطورا بإعتباره الأكثر احتفاظا بسمات الحدث)

وقال [هافلوك إيليس]: (قلما يكون أطفال العديد من الأعراق الإفريقية أقل ذكاءا من الطفل الاوروبي، ولكن فى الوقت الذي يكبر فيه الإفريقي يصبح غبيا وبليدا، ويحتفظ الاوروبي بالكثير من حيويته الطفولية)

وكانت التفرقة تجري بين البشر كالتفرقة بين الغنم هي الأساس لكل فكر مادي، فقد ميَّز [إرنست رينان] بين الآريين والساميين على أساس لغوي، ثم انتقل من الحديث عن اللغات

__________

(1) ذكر ذلك بتفصيل السير فرانسيس غالتون في كتابه (العبقري الوراثي) عام 1869. وهو عالم بريطاني وأحد أقرباء تشارلز دارون..

كيف تناظر ملحدا؟ (338)

السامية إلى الحديث عن الروح السامية والعبقرية السامية مقابل الروح الآرية والعبقرية الآرية التي هي أيضاً الروح الهيلينية أو النابعة منها (1).

ثم سادت الفكرة العضوية الخاصة بالفولك أو الشعب العضوي، ومفادها أن لكل أمة عبقريتها الخاصة بها ولكل فرد في هذه الأمة سمات أزلية يحملها عن طريق الوراثة، وانتهى الأمر إلى الحديث عن تفوُّق الآريين على (الساميين)، هذا العنصر الآسيوي المغروس في وسط أوربا، كما دار الحديث عن خطر الروح السامية على المجتمعات الآرية.. مما دفع إلى استعمال كل الوسائل لمحاربتهم.

وكان هذا النوع من العداء يستند إلى نظريات ذات ديباجات ومسوغات علمية عن الأعراق عامة، وعن السمات السلبية الافتراضية (الاقتصادية والثقافية) الثابتة والحتمية للشعوب التي يراد تصنيفها عرقيا.

وقد كانت هذه الداروينية الاجتماعية من أهم مصادر الفكر المادي الإلحادي الذي انتشر في العالم الغربي (2).. وبناء عليه كان يتم تبرير إبادة الملايين في أفريقيا واستعبادهم في آسيا على أساس أن هذا جزء من عبء الرجل الأبيض ومهمته الحضارية؛ فهو يبيد الملايين ليؤسس مجتمعات متقدمة متحضرة!

وبمناسبة الحديث عن الرجل الأبيض.. فقد قسم الكونت جوبينو البشر إلى أعراق: أبيض (آري)، وأصفر، وأسود.. وذهب إلى أن الجنس الآري الأبيض هو مؤسس الحضارة، وأن السمات المتفوقة لهذا العرْق لايمكن الحفاظ عليها إلا عن طريق النقاء العنصري.. وأكد أن التيوتونيين هم أرقى العناصر الآرية لأنهم وحدهم الذين احتفظوا بنقائهم.

__________

(1) هذه النصوص مقتبسة من [موسوعة اليهودية].

(2) هذه النصوص مقتبسة من [موسوعة اليهودية].

كيف تناظر ملحدا؟ (339)

الإلحاد.. والقيم الإخلاقية

من الأسلحة المهمة التي يحتاج الداعية إلى الله المقاوم للإلحاد إلى استعمالها، سلاح [القيم الأخلاقية]، وخاصة تلك التي تعارفت عليها البشرية، ودانت بها فطرتها، ذلك أنه لا يمكن أن يكون للملحد أي جواب حولها؛ فالفلسفة المادية التي تختصر الإنسان في كيانه البيولوجي لا تستطيع أن تفسر أي قيمة من القيم الخلقية، ولا تستطيع كذلك أن توفر لأتباعها أي حافز يدفعهم للسلوك الأخلاقي، وخاصة إن كان يحمل معاني التضحية والإيثار والبذل.

وكيف يمكن ذلك لمن يرى الحياة الدنيا فرصته الوحيدة؛ فلذلك يسرع لاستعمال كل وسيلة لنيل ملذاتها وشهواتها قبل أن يطبق عليه العدم ـ كما يتصور ـ ولا يمكن لمثل هذا أن يؤدي أي وظيفة أو خدمة للبشرية تكون على حساب مصالحه، وإن فعل ذلك قوض جميع فكره ومذهبه الذي يؤمن به.

وقد أشار إلى هذا السلاح الذي يمتلكه المؤمنون، ولا يمتلكه الملاحدة [بوخينسكي] أستاذ الفلسفة بجامعة [فريبورج] بسويسرا تعليقا على تلك الآراء الوجودية الممتلئة بالشذوذ بقوله: (ليس في وسعنا هنا سوى الاقتصار على ذكر النتائج الأخلاقية التي تربت على هذه الفلسفة، والتي تمثلت في نكران كل القيم، وكل القوانين الموضوعية، وفي ادعاء استحالة وعدم جدوى الحياة الإنسانية، بل إن الوجودية قد أرغت حتى ظاهرة الموت نفسها من معناها على يدي سارتر.. ومن نتائج الوجودية أيضًا، دعوتها إلى التشكيك في جدوى قيام كل ما يتسمم بروح الجد وطابعه، فهي فلسفة انحلالية عدمية تمامًا) (1)

وقد أشار إلى هذا بعضهم بما سماه [الدليل الخُلُقي على وجود الله] (2)، ويقصد به القيم

__________

(1) في كتابه (تاريخ الفلسفة المعاصرة في أوروبا) ترجمة (محمد عبدالكريم الوافي).

(2) انظر: الفيزياء ووجود الخالق: مناقشة عقلانية إسلامية لبعض الفيزيائيين والفلاسفة الغربيين، أبو القاسم حاج حمد.

كيف تناظر ملحدا؟ (340)

الخلقية، باعتبارها قيما ضرورية لوجود المجتمعات البشرية، بل لا يمكن أن يكون بدونها المجتمع، وهذه الأخلاق تعتمد على وجود إله، لانه إذا لم يكن هنالك خالق يرى ويسمع ما يفعل البشر، ولم تكن هناك دار أخرى يثيب الله فيها المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وكان الكسب المادي في هذه الحياة الدنيوية هو وحده الكسب المعتبر؛ لكان كل ما نراه لغوا وعبثا.

وبناء على هذا؛ فإننا عندما نقارن بين معايير الأخلاق عند المؤمن ـ وخاصة في الدين الأصيل الذي لم يحرف، ولم تتلاعب به الأهواء ـ مع المعايير التي يعتمدها الملحد نجد فرقا كبيرا جدا، فالمؤمن يمتلك معايير دقيقة ومضبوطة للأخلاق، وهي تتناسب مع الكرامة الإنسانية والنبل الإنساني، بينما الملحد يعجز أن يصف أي معيار، لأنه سيصطدم لا محالة بتصوراته المادية للكون والحياة.

ومثل ذلك نجد المؤمن يمتلك دوافع حقيقية للالتزام بالأخلاق، بخلاف الملحد الذي لا يجد أي دوافع، لأنه ـ في تصوره ـ ليس سوى كائن بيولوجي، جاء صدفة، وسيعدم بعد فترة قصيرة، ولا شيء غير ذلك.

انطلاقا من هذا سنحاول هنا باختصار أن نقارن بين معايير الأخلاق بين المؤمنين والملاحدة والدوافع التي تحفز للالتزام بها ليكون ذلك وحده كافيا في تهافت الرؤية الإلحادية، وعدم قدرتها على تأسيس أي مجتمع أو أي حياة نبيلة وفق قيم واضحة مضبوطة.

أولا ـ معايير الأخلاق عند الملحد ودوافعها

من التعبيرات التي قد تختصر لنا تصور المعايير التي يستند إليها الملاحدة في تحديدهم للأخلاق ما ورد في المناظرة المشهورة، والتي سُئل فيها الفيزيائي الشهير الملحد [لورنس

كيف تناظر ملحدا؟ (341)

كراوس] عن موقفه من زنا المحارم، فردّ قائلا: (ليس من الواضح بالنسبة إليّ أنه خطأ) (1)

ومثله [ريتشارد دوكنز] الذي صرّح في تغريدة له على موقع تويتر بأن الإجهاض فعل أخلاقي ومشروع طالما ليس هناك ألم، وبرّر ذلك قائلا: (لأن الجنين في بطن أمّه هو أقل إنسانية من أي خنزير بالغ)

أما الملحد الأسترالي وأستاذ الفلسفة الأخلاقية [بيتر سنجر]، بصرح بأن ممارسة البشر للجنس مع الحيوانات والبهائم طالما لا تتضمّن أذيّة من أي نوع للحيوان هو أمر طبيعي ومقبول في إطار حميمية العلاقة بين الحيوانات والإنسان، وبالنسبة إليه: (فلا خطأ في ذلك على الإطلاق، بل إنه أمر محمود طالما يؤدي إلى استمتاع الطرفين: الحيوان والإنسان)

هذه التعابير كلها تدل على المعايير التي يستند إليها الملاحدة في تفسير الأخلاق وتحديدها، وهو كونها ذاتية لا موضوعية، فليس هناك شيء اسمه أخلاق عندهم، وما نراه من أخلاق في تصرفاتهم، لا ينطلق من كونهم ملاحدة، وإنما من تأثير البيئة التي يعيشون فيها أو غيرها، أما لو ترك الأمر للملحد وعقله المجرد؛ فإن كل شيء بالنسبة له مباح، أو كما عبر [فرانك توريك] بقوله: (لا أقول بأن الملاحدة لا يعرفون الأخلاق، وإنما أقول إنهم لا يمكنهم تبرير الأخلاق. نعم يمكنهم التصرّف بخُلق ويمكنهم الحكم على بعض الأفعال بأنها أخلاقية أو لاأخلاقية، لكنهم لا يستطيعون توفير قاعدة موضوعية لأحكامهم الأخلاقية.. وأيا ما كان الأمر: الهولوكوست، الاغتصاب، ذبح الأطفال، أو أكل الأطفال، فلا يوجد لدى الملحدين معيار موضوعي للحكم على أي منهم)

وعبر عن ذلك علي عزت بيجوفيتش قائلا: (يوجد ملحدون على خلق، ولكن لا يوجد

__________

(1) انظر هذه النصوص ومصادرها في مقال بعنوان: هل يمكن بناء منظومة أخلاقية أساسها الإلحاد، إسماعيل عرفة، موقع ميدان.

كيف تناظر ملحدا؟ (342)

إلحاد أخلاقي) (1)

ولا يصعب على أي عاقل أن يعرف سبب خلو الإلحاد من الرؤية الأخلاقية، ذلك أن الإلحاد لا يؤمن إلا بالحس والمادة وما ينشأ عنهما، وبما أن الأخلاق أمور معنوية، ويصعب عليه تفسيرها وفق رؤيته المادية، ولذلك ينكرها.

وقد عبر الفيلسوف الأميركي اللاأدري [توماس نيجل] في كتابه [العقل والكون: لماذا يكاد يكون التصوّر المادّي الدارويني خطأ قطعا؟] عن هذا المعنى بذكره (أن هناك ثلاثة عناصر تعجز الرؤية الكونية المادّية أن تقدّم تفسيرا لها، وهي: الوعي، والإدراك، والقيم الأخلاقية)

لكن إلحاحات المؤمنين على الملاحدة في هذا الجانب الذي لا تكاد تخلو مناظرة منه، جعلهم يفكرون في حل ينقذون به أنفسهم، والإلحاد الذي يؤمنون به، والذي لا يوفر لهم، ولا للبشرية أي غطاء أخلاقي يمكن أن يفيدهم.

ومن تلك الحلول وأكثرها رواجا (2) محاولة الملحد الشهير سام هاريس في كتابه [المشهد الأخلاقي: كيف يمكن للعلم أن يحدّد القيم الإنسانية؟]، والذي حاول أن يبرّر فيه ما هو أخلاقي بما يحقق للبشرية الرفاه والسعادة والرخاء.

وما ذكره هو تكرار لما ذكره الكثير من الملاحدة في عصورهم المختلفة، فهم يعتبرون (3) معيار الأخلاق تحقيق المنفعة أو الرفاه الاجتماعي، وكذلك دفع الألم والضرر، فهذا هو الذي يحدد مصير كون الفعل أخلاقيا من عدمه، فهو أخلاقي إذا حقق المنفعة والرفاه أو الرخاء الاجتماعي، وهو غير أخلاقي إذا أدى إلى ألم أو ضرر.

وأما كيف يتم تحديد المنفعة والضرر وعلى أي أساس؛ فيرى هؤلاء أن ذلك يتم من

__________

(1) الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ص 175.

(2) ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان، عبد الله الشهري، ص 280.

(3) انظر مقالا مهما في الموضوع بعنوان: الملحدون والمسألة الأخلاقية.. تحليل نقدي من خلال المقارنة بين الإلحاد والأديان، أ. سلمان عبد الأعلى، مجلة نصوص معاصرة، 6 سبتمبر 2016، وقد حاولنا أن نلخص الكثير مما ذكره هنا.

كيف تناظر ملحدا؟ (343)

خلال ما يُبينه العلم، فالعلم هو المؤهل الوحيد لديهم لإثبات ذلك من عدمه، ولذلك يُعلنون رفضهم الاعتماد على النصوص الدينية في مسألة الأخلاق، بل ويشترط بعضهم أن لا تكون الفلسفة الأخلاقية معتمدةً على نصوص دينية.

ويمكننا تلخيص الرد عليهم في الوجوه التالية (1):

1 ـ الخداع اللفظي

ذلك أن ما ذكروه لا يمثل معياراً حقيقياً للأخلاق، لأنه لم يبين كيفية تمييز الأخلاق من عدم الأخلاق أو الخير من الشر، فالتعبير بالرفاه أو الرخاء الاجتماعي أو الألم والضرر لن يحل المسألة، لأن تبديل الألفاظ لا يُغير من حقيقة الأمر، وسيبقى السؤال: ما الذي يجعل زيادة الرفاه أو الرخاء الاجتماعي أمراً أخلاقياً؟ وما الذي يجعل إلحاق الضرر أو الألم أمراً غير أخلاقي؟! فهذا السؤال تم الالتفاف عليه، لأن كل ما ذكره هؤلاء هو إعادة تعريف لمسألة الخير (الرفاه أو الرخاء الاجتماعي)، وكذلك لمسألة الشر (الألم والضرر) من جديد، وهذا الأمر لا يمكن أن يُعتبر معياراً حقيقياً للتمييز بين الأخلاق وغير الأخلاق أو الخير والشر.

وهذا ما أشار إليه ويليام لان كريغ (2) في مناظرته مع سام هاريس (3) حول المسألة

__________

(1) المرجع السابق.

(2) ويليام لين كرايغ (بالإنجليزية: William Lane Craig) وهو فيلسوف تحليلي ولاهوتي مسيحي أمريكي ولد في يوم 23 أغسطس 1949 في مدينة بيوريا في ولاية إلينوي في الولايات المتحدة وهو من أشهر اللاهوتيين الدفاعيين في العالم وهو خريجي جامعة بيرمنغهام وجامعة لودفيش ماكسيميليان في ميونخ وقد قام بمُناظرة عدة مروجي للإلحاد منهم ريتشارد دوكينز وسام هاريس وقد أنشأ عدة كُتُب منها الايمان المنطقي (ويكيبيديا الموسوعة الحرة).

(3) سام هاريس (المولود 9 أبريل، 1967) هو مؤلف وفيلسوف ومفكر وعالم أعصاب أمريكي وهو أحد مؤسسي مشروع إدراك ومديره التنفيذي- مؤلف كتاب (نهاية الإيمان) الذي صدر عام 2004 والذي ظهر في لائحة النيويورك تايمز لأفضل المبيعات 33 أسبوعًا على التوالي. – مؤلف كتاب (رسالة إلى أمة مسيحية) ردّا على انتقادات لكتاب (نهاية الإيمان). تَبِع هذا العمل كتابه (المشهد الأخلاقي)، الذي صدر سنة 2010، ليتبعه بمقاله من الطراز الطويل (أنْ تكذب) سنة 2012، لتتم سلسلة مؤلفاته مع كتاب (الإستيقاظ: دليل إلى الروحانية الخالية من التدين) (ويكيبيديا الموسوعة الحرة).

كيف تناظر ملحدا؟ (344)

الأخلاقية، إذ يقول قاصداً الأخير: (فهو يعيد تعريف كلمة (خير) لتصبح (رخاء الكائنات الواعية)، ولذلك فإن تسأل: (لماذا تعتبر زيادة رخاء الكائنات أمراً خيراً؟) يعادل وفق تعريفه الجديد سؤال: (لماذا تعتبر زيادة رخاء الكائنات زيادة في رخاء الكائنات؟) إنه مجرد حشو، إنه مجرد الحديث في دوائر مفرغة! وهكذا (حل) الدكتور هاريس مشكلة القيم بإعادة تعريف مصطلحاته فقط، وهذا مجرد تلاعب بالألفاظ) (1)

وبناء على هذا، فإن القول بأن الأخلاق وعدم الأخلاق يُحدد بالمنفعة أو الرفاه الاجتماعي أو باجتناب الألم والضرر، لا يُمكن أبداً أن يُعتبر معياراً حقيقياً لتمييز المسألة الأخلاقية من غيرها.

2 ـ عدم التفريق بين الأفعال الأخلاقية وغيرهأ

يحاول الملاحدة ـ تجنبا لأن يوصفوا بالاضطراب الفكري ـ الملاءمة بين الإلحاد والفلسفة المادية التي يؤمنون بها، ولذا تجدهم يعتمدون معايير مادية تنسجم مع هذه الفلسفة مثل المنفعة أو الرفاه، أو الألم والضرر؛ فهم يحاولون أن يصوروا كل المسائل بصورة مادية بحتة حتى مسألة الأخلاق والقيم.

وكل هذا غير صحيح، لأن القيم الأخلاقية لا يمكن أن تعتمد على المعايير المادية، أو كما عبر الشيخ مطهري بقوله: (والفرق بين الفعل الأخلاقي وسائر الأفعال هو أن الفعل الأخلاقي قابل للثناء والمدح، ويضفي الناس قيمة على مثل هذا الفعل، لكن هذه القيمة ليست من نوع القيمة التي يقيم بها عمل أحد العمال، وذلك لأن العامل يوجد قيمة مادية يستحق مبلغاً من المال أو شيئاً من السلع في مقابل عمله، بينما الفعل الأخلاقي يتميز بقيمة تفوق هذه القيم بحيث لا يمكن تقويمها بالمال ولا بالسلع المادية. فالجندي الذي يضحي بروحه من أجل

__________

(1) عبدالله الشهري. ص 25، الطبعة الأولى 1437 هـ، مركز دلائل، الرياض-المملكة العربية السعودية.

كيف تناظر ملحدا؟ (345)

الآخرين يقوم بفعل ذي قيمة، لكن هذه القيمة ليست من لون القيم المادية) (1)

لذلك لا يمكننا قياس القيم الأخلاقية بالمعايير الإلحادية (المادية)، لأنه يصعب عليها تفسيرها وتبريرها، وكلامنا هذا ليس عن الملحدين وإنما عن الفلسفة المادية الإلحادية، فهناك فرق بين الأمرين كما وضحنا ذلك سابقا، وكما سنوضحه في الوجه التالي.

3 ـ عدم التفريق بين الفلسفة الأخلاقية والواقع الأخلاقي

من المغالطات التي يمارسها الملاحدة في هذا المجال هروبهم من فلسفة الأخلاق إلى واقع الأخلاق، وهذه مغالطة كبيرة، ذلك أن الواقع الأخلاقي قد يكون له مصادر أخرى غير الإلحاد؛ فلذلك لا يمكن اعتباره.

ومن أجل ذلك ينبغي أن يكون الحوار مع الملاحدة حول الفلسفة الأخلاقية للدين، وليس عن الواقع الأخلاقي العملي للمتدينين، وهذا الخلط يقع فيه بعض الملاحدة فيركز مثلاً على سلوكيات الجماعات الدينية المتطرفة لإثبات بأن الأديان تخلو من فلسفة أخلاقية، ولإثبات بأنهم يعتمدون على النصوص الدينية لتبرير تصرفاتهم وممارساتهم، وهذا الأمر بالتأكيد مجانب للصواب، لأن الفلسفة الأخلاقية تختلف عن الواقع الأخلاقي سواءً عند المتدينين أو عند الملاحدة.

وهكذا؛ فإن الأخلاق في الواقع العملي عند المؤمنين لا تعني بالضرورة أنها تمثل الفلسفة الأخلاقية الدينية، وكذلك العكس، فالأخلاق في الواقع العملي عند الملحدين لا تعني بالضرورة بأنها نتاج الفلسفة الأخلاقية عندهم، ولذا فعندما نجد ملحدون وقفوا مع المظلومين ضد الظالمين بل وضحوا بأرواحهم في سبيل تحقيق العدالة، ونجد في المقابل أشخاصاً يدعون

__________

(1) فلسفة الأخلاق للشيخ الشهيد مرتضى المطهري ص 5 - 6، منشور ضمن كتاب سلوك وأخلاق الإسلام، الطبعة الأولى 1432 هـ-2011 م.

كيف تناظر ملحدا؟ (346)

الإيمان بالله سبحانه ولكنهم يقفون مع الظالمين في سحق المظلومين، فلا نحيل ذلك مباشرة إلى الفلسفة الأخلاقية عند الطرفين، لأن هناك من الطرفين من يفعل عكس ذلك، وكشاهد على ذلك نجد أمثال جماعة داعش من المسلمين، وأمثال جوزيف ستالين من جانب الملحدين.

لذا فالسؤال المهم المتعلق بالمثال المتقدم هو: ما هي الفلسفة الأخلاقية للإلحاد التي تجعل الملحد يضحي بنفسه وهو لا يؤمن بالحياة الأخروية ولا بالجزاء الأخروي؟ فالفلسفة الأخلاقية عند المتدين في حال تضحيته بنفسه في مناصرته للمظلومين واضحة ومعروفة وأما الملحدين فلا، إذ لا يوجد مبرر من الناحية الفلسفية يتوافق مع الفلسفة المادية التي يتبعونها.

وهذا ما جعل الدكتور جون لينكس (1) يبين بأن الملحد ليس بعاجز عن أن يكون خيراً ولكن الإلحاد لا يدعم أي أسس فكرية للأخلاق، لأن فرضية الإلحاد –كما يقول- ليس لديها تأسيس لمبادئ الخير والشر (2).

4 ـ اعتبارهم المنفعة والضرر معيارا أخلاقي

وهذا معيار لا يمكن قبوله، لأنه يتنافى مع الأخلاق، ذلك لأنه من الممكن تحقيق منفعة في أفعال غير أخلاقية، كما يمكن إلحاق الضرر في بعض الأفعال، ومع ذلك تكون أفعالاً

__________

(1) جون كارسون لينكس (بالإنجليزية: John Carson Lennox) عالم بريطاني في الرياضيات وفلسفة العلوم ومناظر مؤيد للمسيحية ويعمل كبرفسور في الرياضيات في جامعة أكسفورد. وهو عضو في زمالة في الرياضيات وفلسفة العلوم في كلية تمبلتون الخضراء، جامعة أكسفورد. وهو أيضا مستشار الرعوي في كلية تمبلتون الأخضر وقاعة يكليف، ومحاور وكاتب معروف في قضية العلاقة بين العلم والإيمان (ويكيبيديا الموسوعة الحرة).

(2) أقوى براهين د. جون لينكس في تفنيد مغالطات منكري الدين، جمعه وعلق عليه م. أحمد حسن، ص 509، الطبعة الأولى 1437 هـ مركز دلائل الرياض- المملكة العربية السعودية.

كيف تناظر ملحدا؟ (347)

أخلاقية، ومن الأمثلة على ذلك الكذب، إذ قد يترتب عليه منفعة رغم كونه غير أخلاقي، وكالتضحية بالنفس من أجل الآخرين، فهو بالتأكيد يؤدي إلى الضرر رغم كونه يُعد من الأفعال الأخلاقية، ولذلك نستطيع القول أن المعايير التي اتخذها الملاحدة للأخلاق غير صحيحة (1).

بالإضافة إلى ذلك، فإن تحقق الرفاه الاجتماعي وانتفاء الضرر والألم ليست من المسائل الأخلاقية أصلاً، وإنما هي تعبير عن صور الحياة السعيدة (بالمفهوم المادي)، وهناك فرق كبير بين الحياة الأخلاقية والحياة السعيدة.

وهذا ما ذكره [ويليام لان كريغ] رداً على [سام هاريس]، حيث قال: (ومقارنة الدكتور هاريس بين الحياة الحسنة والحياة السيئة ليست مقارنة أخلاقية بين الحياة الخيرة أخلاقياً والحياة الآثمة أخلاقياً، بل هي مقارنة بين الحياة السعيدة والحياة البائسة، وليس هناك أي سبب للمساواة بين (السرور والبؤس) و(الخير والشر)، وخصوصاً ضمن النظرة الإلحادية. وهكذا فلا يوجد مطلقاً أي سبب في الرؤية الإلحادية يدفع للاعتقاد بأن ازدهار الكائنات الواعية هو خير موضوعي) (2)

وعندما سئل الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي؛ فقيل له: (على أي فعل من أفعالنا الاختيارية يطلق (الخير) وما هو معيار خيريته؟)، أجاب بقوله: (إن العمل الذي له دور ايجابي

__________

(1) نلاحظ أن بعض الملاحدة يتكلمون عن الضرر والمنفعة ولكنهم لا يبينون إن كان مرادهم من كون الضرر أو تحقيق المنفعة مرهون بالأمور الفردية أو الجماعية أو إن كان القيمة لهذه المنفعة مادية أو معنوية، فهذا الأمر مهم ولا ينبغي التغافل عنه، كذلك لم يحددوا الحالة إذا كانت النتائج العلمية مختلفة أو إذا لم يستطع العلم التوصل إلى نتيجة تفضي لذلك.

(2) الإلحاد بين قصورين، ص 52.

كيف تناظر ملحدا؟ (348)

في تحقيق كمال الإنسان، أي العمل الذي يسعى الإنسان بأدائه للوصول إلى مقصودة وغايته النهائية سيكون خيراً بسبب تأثيره في ضوء ذلك المطلوب بالذات والغاية النهائية، أي لكونه سبباً وواسطة للوصول الى الغاية النهائية والخير بالذات فهو خير بالواسطة ومطلوب بالغير اصطلاحاً ومنه ينتزع معنى (القيمة الأخلاقية) (1)

وأضاف قائلاً: (ومما ذكر نستنتج أن (الخير) ليس ـ في ذاته ومطلقاً ـ معياراً للقيمة الأخلاقية، بل يكون أخلاقياً مع ملاحظة القيود المذكورة، كما أن (الشر) يكون أخلاقياً فيما لو أطلق على الفعل الاختياري، والفعل الذي له دور سلبي في تحقق كمال الإنسان يكون (شراً). فالشر أيضاً يكون بملاحظة هذه القيود مفهوماً أخلاقياً وذا قيمة أخلاقية سلبية وبكمة أخرى: اللاقيمة) (2)

5 ـ عدم التفريق بين المصلحة والمنفعة

حيث يخلط الملاحدة بين المصلحة والمنفعة، وقد رد على هذا الخلط الشيخ مطهري بقوله: (وفي هذا المجال لا ينبغي أن يختلط علينا الأمر فهناك فرق كبير بين الكذب ذي المصلحة والكذب ذي المنفعة، وكثير من الناس يشتبه عليه أمرهما أو يتظاهر بذلك، والواقع أن الكذب ذا المصلحة يعني ذلك الكذب الذي انسلخ عن فلسفته واكتسب فلسفة الصدق، فالإنسان بهذا الكذب ينقد حقيقة ما، بخلاف الكذب ذي المنفعة وهو الكذب الذي يتورط فيه الإنسان

__________

(1) الأخلاق في القرآن الكريم، محاضرات للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، ج 1، ص 57، تدوين وتحقيق: محمد حسين اسكندري، ترجمة الشيخ كاظم الصالحي، دار التعارف للمطبوعات لبنان، 1425 هـ-2004 م.

(2) المصدر السابق، ج 1، ص 57 - 58.

كيف تناظر ملحدا؟ (349)

من أجل الظفر بربح) (1)

ثم أعطى القانون العام للتفريق بينهما؛ فقال: (إذن لا ينبغي الخلط بين موضوع المصلحة وموضوع المنفعة. فالمصلحة تدور مدار الحقيقة، والمصلحة والحقيقة توأمان لا ينفصلان. والمصلحة تعني مراعاة الحقيقة وليس مراعاة الربح الشخصي فهذه هي المنفعة) (2)

لذلك فإن تصوير تحقق المنفعة أو الرفاه مساوياً لتحقق المصلحة كما توحي بذلك بعض عبارات الملاحدة غير دقيق، بل غير صحيح، وبهذا يتضح بطلان الاعتماد عليها كمعيار للأخلاق.

6 ـ الدعوة إلى المفاصلة بين الأخلاق والدين

حيث يُطالب الملاحدة بإثبات وجود معايير أخلاقية غير معتمدة على نصوص دينية، مع أنه لا حاجة إلى ذلك؛ فما الضير في أن تكون الأخلاق معتمدة على ضوابط مستلة من نصوص دينية، فالأخلاق لا تقاس بكونها معتمدة على نصوص أو لا، كما أن عدم الأخلاق أيضاً لا يُقاس بهذا الأمر، إذ لا ملازمة بين الأمرين.

وسبب ذلك هو عدم وجود تناقض في هذا الأمر، ذلك أن النصوص الدينية قد لا تتقاطع بالضرورة مع العقل والمنطق، ولذلك ما الحاجة لرفضها أو الاستغناء عنها؟

وتصوير الأمر على هذه الشاكلة مجازفة على حساب الواقع، فحتى القوانين الوضعية نجدها تعتمد على نصوص مدونة، ومع ذلك لم يقل أحد بأن هذه القوانين غير صحيحة لمجرد

__________

(1) فلسفة الأخلاق المطبوع ضمن كتاب سلوك وأخلاق الإسلام، ص 44.

(2) للمزيد حول علاقة الحسن والقبح العقليين بالأخلاق في الإسلام يمكن الرجوع إلى كتاب تزكية النفس، للسيد كاظم الحسيني الحائري، ص 13 وما بعدها، دار الفقه للطباعة والنشر الطبعة الأولى 1422 هـ.

كيف تناظر ملحدا؟ (350)

كونها معتمدة على نصوص مدونة، علماً بأن بعض القوانين في بعض الدول تتقاطع مع قوانين أخرى في دول أخرى.

ولذلك فإن مطالبة الأديان وأتباعها كالمسلمين بأن تكون لهم فلسفة أخلاقية لا تعتمد على النصوص الدينية شيء، وإنكار وجود هذه الفلسفة من الأساس شيء آخر، ولا يصح أبداً الخلط بين الأمرين.

بالإضافة إلى ذلك، فإن لدى المؤمنين بالدين الأصيل ضوابط عقلية ومنطقية مستقلة عن النصوص الدينية كما يُطالب الملاحدة بالضبط، فهذا هو مفاد مبدأ الحسن والقبح العقليين، ومعنى ذلك بأن العقل يستقل بمعرفة الحسن والقبح بذاته، فهذه ركيزة أساسية في فلسفة الأخلاق الإسلامية، وهو مبدأ مستقل عن النصوص الدينية كما هو واضح، لذلك، فمن غير الصحيح تصوير اعتماد الأخلاق على نصوص دينية بأنه دليل على عدم وجود فلسفة أخلاقية حقيقية، وعلى من يدعي هذا الأمر أن يثبت ذلك.

7 ـ عجز العلم عن تحديد معايير للأخلاق

فالملاحدة يزعمون أو يغالطون بأنهم ـ وبواسطة العلم وحده ـ يمكنهم اكتشاف المنظومة الأخلاقية والمعايير التي تحددها، بناء على كون العلم هو الذي يميز المنفعة من الضرر، لكن هذا غير ممكن في الواقع من نواح كثيرة، ذلك لأن الكون وما فيه، وفقاً للرؤية الإلحادية خاضع لقوانين حتمية كالتطور والانتخاب الطبيعي الذي يحتم مبدأ البقاء للأصلح.

وهذا المبدأ لا يمكن له أن يعرف الخير من الشر، كما عبر عن ذلك الدكتور [جون لينكس] بقوله: (كيف تستطيع في عالم مادي أن تفسر لي عدم السرقة والقتل إن كان فيهما مصلحة (أي منفعة)، وإذا أمنت العقاب (عدم الضرر) أو أن يكشف أمرك أحد؟.. كيف تفسر عدم غواية زوجة جارك أو أخيك أو صديقك واستغلال غيابه عنها إذا تأكدت من عدم الفضيحة؟.. كيف تفسر عدم خيانتك لزوجتك؟.. كيف تفسر أمانتك في العمل؟.. بل ما هو

كيف تناظر ملحدا؟ (351)

الدافع المادي لديك مثلاً للمخاطرة بنفسك لإنقاذ طفل يغرق؟.. هل يمكن (اختراع) أي فكرة مقنعة ساعتها للإجابة عن مثل هذه الأسئلة بالغاً ما بلغت من الخيال؟) (1)

ويقول: (من الصعب جداً أن نرى كيف للعملية التطورية غير الواعية أن تشرح لنا حالة الإيمان بالأخلاق ذات المكانة المتأصلة والشاملة في البشر والتي توجب علينا دعم الناس الذين –في طبيعة الأمور- مسؤولين عن إيقاف أو حتى تهديد (التقدم) التطوري كالضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى والكبار في السن) (2)

ويقول د. عمرو شريف: (إذا كان الدراونة قد عجزوا عن تفسير نشأة التعاطف بين البشر، فلا شك أن تفسير نشأة خلق الإيثار سيكون أصعب، فهو يعمل ضد هدف التطور الرئيسي، وهو المحافظة على النوع، فعلى المستوى الفردي، ما الذي يدفعني للتضحية بذاتي من أجل المجتمع والجنس البشري؟.. ما الذي يدفع جيناتي الأنانية للتضحية بذاتها؟.. وما الذي يدفع جينات كرات الدم البيضاء للتضحية بذاتها في صراعها ضد الميكروبات لدفع المرض عن الجسد؟!.. وعلى المستوى الأكبر، ما الذي يدفع المجتمع للتضحية بموارده وجهد أفراده من أجل العناية بالضعفاء والمرضى والمعوقين والمسنين؟.. أليس ذلك ضد البقاء للأصلح؟ ألا يزيد ذلك من فرص بقاء الأقل صلاحية؟) (3)

ويقول: (يفرض الدراونة إننا نفعل ذلك من أجل أن يفعله معنا الآخرون عندما نمرض أو نهرم، بالرغم من أن هذا التفسير مرفوض داروينياً؛ فالتطور ليس له بصيرة مستقبلية، ومن

__________

(1) أقوى براهين د. جون لينكس في تفنيد مغالطات منكري الدين، ص 507 - 508.

(2) المصدر السابق، ص 532.

(3) خرافة الإلحاد للدكتور عمرو شريف، ص 302، الطبعة الأولى 1435 هـ 2014 م مكتبة الشروق الدولية، القاهرة-جمهورية مصرالعربية.

كيف تناظر ملحدا؟ (352)

ثم لا يفرض علينا التزاماً أخلاقياً تجاه ضعفائنا حتى يساعدنا الآخرون فيما بعد. إن التطور لا يعرف مثلنا الشعبي (من قدم السبت يلقى الحد (يوم الأحد) قدامه) (1)

لذلك، فإنه من المستحيل التوفيق بين الفلسفة المادية ونظرية التطور التي يؤمن بها الملاحدة وبين القيم الأخلاقية.

بالإضافة إلى ذلك كله؛ فإن العلم يخبرنا فقط عما يكون، ولا يخبرنا عما يجب أن يكون، فالكائنات البشرية من وجهة نظر المذهب الطبيعي مجرد حيوانات، وليس على الحيوانات أي واجب أخلاقي تجاه بعضها البعض، فعندما يقتل الأسد الحمار الوحشي فإنه يقتله فقط، ولا يرتكب جريمة قتل.

ولذا لو لم يكن الإله موجوداً، فلماذا نعتقد أن علينا أي واجبات أخلاقية لفعل أي شيء كان؟ من أو ما الذي يفرض علينا هذه الإلزامات؟ من أين تأتي؟.

ومن وجهة النظر الإلحادية قد لا تكون بعض الأفعال كالاغتصاب ونكاح المحارم مفيدة بيولوجياً أو اجتماعياً، ولكنها في سياق تطور الإنسان وتحضره أصبحت من المحرمات، أي أصبحت سلوكاً غير مقبول اجتماعياً، لكن ذلك لا يثبت أبداً أن تلك الأفعال خطأ حقيقي، فمن وجهة النظر الإلحادية؛ فإن المغتصب الذي اختار خرق أخلاقيات القطيع، لا يقوم بفعل أكثر خطراً من ممارسة شيء غير مألوف (2).

إذاً إحدى الأمور المهمة هي معرفة طبيعة العلاقة بين العلم أو عالم المعرفة (ما هو كائن) وبين الأخلاق أو عالم القيم (ما يجب أن يكون)، ومن المستحيل أن تخضع القيم الأخلاقية للعلم، وفي ذلك يقول الدكتور جون لينكس: (فالمعرفة هي وصف للواقع بـ (يكون) والقيم

__________

(1) المصدر السابق، ص 302.

(2) انظر: الإلحاد بين قصورين، ص 26 وما بعدها.

كيف تناظر ملحدا؟ (353)

هي ما يجب أن يكون أي (الحتمية) من (يكون) وهذا مستحيل. فإن كان الأمر صواباً وأن ليس هناك من هدف في الكون، وأن البشر نتاج الصدفة المحضة، فلا يمكنك اشتقاق أي (يتحتم) من (يكون) (1)

بالإضافة إلى ذلك، فإن (الوجوب) في الأخلاق والقيم يقتضي (الاستطاعة)، فالشخص غير مسؤول أخلاقياً عن فعل لا يستطيع اجتنابه، فعلى سبيل المثال إن دفعك أحدهم من الخلف نحو شخص آخر فلن تكون مسؤولاً عن اصطدامك به، إذ ليس لديك خيار.

وهكذا لا يوجد أي أساس للواجبات الأخلاقية الموضوعية لأنه لا يوجد مشرع للقانون الأخلاقي، وليس هناك إمكانية لوجود الواجبات الأخلاقية الموضوعية بسبب غياب الإرادة الحرة.

وينقل الدكتور جون لينكس عن أينشتاين قوله: (إن إحساسنا بالجمال وغرائزنا الدينية ما هي إلا: أشكال مساعدة تدفع القدرة الاستنتاجية باتجاه أعظم الإنجازات. أنت محق في الكلام عن الأسس الأخلاقية للعلم، ولكن لا يمكنك عكس الأمر والكلام عن الأسس العلمية للأخلاق)

ويبين بعدها بأنه وفقاً لأينشتاين، فإنه لا يمكن للعلم أن يشكل أسساً للأخلاق، ويعقب موضحاً بقوله: (يمكن أن تساعدنا معرفة مقدار الألم الذي تحس به الحيوانات في صياغة الأحكام التي تخص القيام بالاختبارات الحيوانية، ولكن يبقى الحكم مقدراً على أساس اقتناع أخلاقي سابق بأن الألم والمعاناة أمر سيء. يمكن للعلم أن يخبرنا أن وضع مادة الستركنين السامة في شاي جدتك سيقتلها، ولكن لا يقدر العلم على إخبارنا إن كان يلزمك أو لا يلزمك

__________

(1) انظر: الإلحاد بين قصورين، ص 28 وما بعدها.

كيف تناظر ملحدا؟ (354)

فعل ذلك لكي تحصل على أملاكها) (1)

8 ـ عدم قدرة الإلحاد على وضع قوانين ثابتة

بناء على كل ما سبق؛ فإن الإلحاد يعجز عن وضع أي منظومة قانونية متفق عليها، ولهذا قال بعض الخبراء في التشريع: (لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون، فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا) (2)

وأما السبب وراء هذا الاختلاف بين خبراء التشريع، فهو عدم توصلهم الى أساس صحيح يمكن اقامة صريح التشريع عليه، ذلك أنهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد، ومثل رجل القانون في محاولته هذه كمثل الرجل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخرى مماثلة؛ فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت الى الماء مرة أخرى.

ولذلك باءت كل الجهود التي استهدفت الحصول على الدستور المثالي بالفشل الذريع، والذي عبر عنه الأستاذ (و. فريدمان) بقوله: (وإنها لحقيقة: أن الحضارة الغربية لم تجد حلا لهذه المشكلة غير أن تنزلق من وقت لآخر، من نهاية الى أخرى)

وبناء على هذا راح [جون آستين] يذكر أن الدستور أي دستور لايصبح نافذ المفعول إلا إذا كانت تسنده قوة من ورائه، ولذلك عرف (القانون)، بأنه (الحكم الذي أصدره رجل رفيع المنزلة سياسيا لمن هو أدنى منه في المرتبة السياسية)، وعرفه آخر بأنه (مرسوم لصاحب السيادة)

وخالف المحدثون ذلك؛ فذكروا أن الشعب بدل الحاكم هو صاحب السيادة، وهو الذي يضع المعايير الأخلاقية والقانوينة، ولهذا أنكروا أي قانون أو دستور لايحرز رضا

__________

(1) أقوى براهين د. جون لينكس في تفنيد مغالطات منكري الدين، ص 513.

(2) هذا النص وما بعده من النصوص مقتبس من: الإسلام يتحدى، ص 155، وما بعدها.

كيف تناظر ملحدا؟ (355)

الجماهير؛ وترتب على ذلك أن ضوابط كثيرة، يجمع على صحتها وإفادتها جميع أهل العلم ومعلمي الأخلاق لايمكن تنفيذها، لأن الشعب لايوافق عليها.

وكمثال على ذلك، وهو أن الأمريكيين لم يتمكنوا من إدخال مشروع قرار يحرم الخمر، لأن الشعب لم يرض عنه، كما اضطر البريطانيون الى إدخال تعديلات هامة في قانون عقوبة القتل، واضطروا الى اباحة أنواع محرمة من العلاقات الجنسية، على الرغم من ضجيج المثقفين، واحتجاج علماء القانون.

بالإضافة إلى هذا، فقد ظهر ما يطلق عليه (القانون الطبيعي) ومؤاده أن الطبيعة البشرية هي المصدر الحقيقي للتشريع، فالطبيعة ـ كما ينص أصحاب هذه النظرة من الملاحدة ـ (تطالب أن يكون حق السيطرة والحكومة لمطالبها الطبيعية ودعائمها الرائدة، وقد أعطت الطبيعة هذه الدعائم للانسان في صورة (العقل)، ولذلك لابد من اقامة حكومة بقوة العقل)

وقد فشل هؤلاء أيضا بسبب اختلاف العقول، وتناقضاتها الكثيرة، وقد البروفيسور [جورج وهيتكروس باتون] معبرا عن هذا: (ما (المصالح) التي لابد للدستور المثالي أن يحافظ عليها؟ انه سؤال يتعلق (بالقيم)، ويدخل في دائرة فلسفة التشريع، وما أكثر ما نرجو من الفلسفة أن تساعدنا؛ ولكن ما أقل ماهي مستعدة لبذله في هذه السبيل. فقد فشلنا في الكشف عن (ميزان للقيم) يمكن قبوله لدى جميع الأطراف، والحقيقة أنه ليس هناك من أساس لشيء من النظم الا للدين؛ ولكن الحقائق الدينية تصلح كعقيدة ووجدان، ولايمكن قبولها على أساس الاستدلال المنطقي)

وقال البروفيسور (باتون): (إن جميع محاولات الدراسة الفلسفية للبحث عن (الأهداف) في فلسفة التشريع قد انتهت الى غير ما نتيجة)

ثم يتساءل قائلا: (أهناك حقا (قيم مثالية) تحدد الأسس عند تطوير التشريعات؟ لم يتمكن المشرعون من التوصل الى هذه القيم حتى الآن، غير أنها لابد منها.. لقد استخرج

كيف تناظر ملحدا؟ (356)

أصحاب نظرية (القانون الطبيعي) القديمة أسسهم من الحقائق الالهامية في الدين. ولكن اذا ما أردنا نحن أن نأتي بتشريع علماني، فاين سنجد أساس القيم المتفق عليها؟)

وعبر عن هذه الحقيقة، وهي عجز البشر عن وضع معايير مثالية يمكنهم التحاكم إليها الدكتور [فرويدمان] بقوله: (يتضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنه لابد من هداية الدين لتقييم المعيار الحقيقي للعدل. والأساس الذي يحمله الدين لاعطاء العدل صورة عملية ينفرد هو به في حقيته وبساطته)

9 ـ عدم قدرة الإلحاد على توفير دوافع للالتزام بالأخلاق

وهذه أكبر مشكلة عويصة تواجه الإلحاد، فهو مع افتقاره لتحديد معايير مضبوطة ودقيقة للأخلاق، يفتقر ـ في حال حصوله عليها ـ على الدافعية للالتزام بها، ذلك أنه لا يوجد أي شيء يمكنه أن يفرض على الملحد التزام الخلق الحسن الذي قد يستدعي منه تضحية وإيثارا وتفريطا في مصالحه.

ولهذا حاول الملاحدة أن يجدوا ذلك ببعض المغالطات اللفظية مثلما عبر بعضهم عن ذلك بقوله: (الملحد إنسان يخاف جداً على حياته من أن يخسرها لأن الموت هو النهاية، وإن الحياة هي الشيء الوحيد الذي لديه، فإنه سيحافظ عليها جيداً ويحرض على أن يعيشها على أفضل وجه؛ فإذا قتل أو سرق فإنه سيدخل السجن وسيضيع عمره مسجونا، ولذلك سيتجنب القتل والسرقة.. الملحد لن يكذب لكي لا يخسر ثقة الناس به، لأن الحياة ستكون صعبة جداً عندما يعيش منعزلا عن الجميع.. الملحد والملحدة ليس لديهم أي مانع من ممارسة الجنس برضى الطرفين لأنه لا يضر أحداً، فما علاقة الناس الآخرين بك عندما يكون برضى الطرفين؟.. الملحد ليس عنده أي مانع من شرب الكحول (الخمر) باعتدال لكي لا يفعل شيئا يخسره حياته.. الملحد شخص مخلص لمعتقداته بشكل كبير، فترى أغلب الملحدين يبحثون ويطالعون ويكتبون المقالات ويناقشون محاولين توعية الناس من خرافات وأوهام الأديان علماً

كيف تناظر ملحدا؟ (357)

بأن الملحد ليس له رب لكي يكافئه، بل يأمل بأن يرى الخير والسلام يغمر العالم كله في الأجيال التي بعده)

ثم لخص هذه الدوافع بقوله: (كخلاصة على ما سبق، فإن الإنسان الملحد لديه أخلاق عالية جداً أكثر من الشخص المؤمن والمتدين، فأهداف الملحدين عديدة، ولكن جميع هذه الأهداف إيجابية تصب في نفس الموضوع، وهو عيش الحياة بأفضل وجه لأنه لا يملك غيرها، مع المحاولة على مساعدة الآخرين للتحرر من وهم الأديان، ومحاولة أن يكون إنسانا جيدا بأخلاق عالية ليتذكره الناس بالحسن بعد أن يموت)

فهذا النص يبين الطريقة التي يفكر بها الملحد، والتي يحاول من خلالها أن يبني لنفسه منظومة أخلاقية، وسنناقش هذه الدوافع وما يرتبط بها في الوجوه التالية (1):

الوجه الأول: ذكره أن (الملحد يخاف على حياته لأنه لا يملك غيرها) مغالطة كبرى، فالمؤمن مع حرصه على جزاء الآخرة، يحرص على الدنيا أيضا، ذلك أنها في نظره مزرعة الآخرة، وأنها تكون جيدة بقدر ما كان عمله خيرا في هذه الحياة.

والفرق بين المؤمن والملحد في هذا هو أن المؤمن إن وجد هدفا أسمى وأبعد من مجرد مصلحته الشخصية؛ فهو مستعد للتضحية بحياته في سبيلها، بينما الملحد لا يملك مثل هذا الدافع.

والملاحدة هنا يستغلون بعض الأخطاء التي وقع فيها الدين المزيف، فهذه لا تمثل الدين، وإنما تمثله التضحيات النبيلة التي لا يشك أحد في عقلانيتها ومصلحتها.

الوجه الثاني: أن ما ذكره ذلك الملحد، وغيره من الملاحدة من قوله: (فإذا قتل أو سرق

__________

(1) استفدنا هذه المناقشات من مقال حول الموضوع بعنوان: أخلاق الملحد وأهدافه في الحياة، وهو موجود في مدونات مختلفة، منها مدونة: المادية والإيمان بالله..

كيف تناظر ملحدا؟ (358)

فإنه سيدخل السجن وسيضيع عمره مسجونا، ولذلك سيتجنب القتل والسرقة)، يدل على أنه لا توجد قيم تمنع الملحد من القيام بأعمال خاطئة إن أمن العقاب.. فهو يترك القتل والسرقة خوفا من العقاب الدنيوي، وهذا يعني أنه إن أمن العقاب لا يتورع من القيام بالجريمة، ولكن المؤمن لديه رادع إضافي، وهو خوفه من الله وعقابه.

وبناء على هذا، وعلى تصورات الملحد بأن القيم المادية ومصالحه الشخصية وحدها من يحدد له صوابية العمل وخطأه يقع في جرائم كثيرة كتلك الجرائم التي قام بها هتلر، الذي كان يعتمد على نظرية دارون أثناء قيامه بمحاولة تحسين النسل، فقام بإعدام ما يقارب الـ 60 إلى 70 معاقا في كل يوم، كل ذلك حتى ينقي المجتمع الألماني من العاهات والعيوب الجسدية.

وهو لم يفعل ذلك إلا بعد اعتقاده بأن إنسانية الإنسان لا قيمة لها وراء هذا الجسد المادي، وكان لديه المبرر العلمي المتمثل بنظرية دارون الشنيعة (1).

وربما يتصور البعض أن هذا الفكر ذهب مع النازية، وهذا غير صحيح، فكل ملحد يمكن أن يتحول في أي لحظة إلى نازي، لأن الفكر المادي الذي كان يفكر به هتلر هو نفسه الفكر الذي يفكر به أي ملحد.

وكمثال على ذلك حركة [اليوجينكس]، وهي حركة تهدف إلى تنقية النسل البشري من كل ما من شأنه إعاقة تحسن النسل، وقد قامت قبل هتلر بحوالي عشرين سنة، أي في عام 1920، بتعقيم ما يزيد عن 50،000 شخص، بداعي أنهم لا يملكون درجة عالية من الذكاء، لكي يمنعونهم من إنجاب أناس أيضا لا يملكون درجة عالية من الذكاء.. ولا تزال هذه الحركة نشطة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى الآن.

الوجه الثالث: اعتباره عدم وجود قانون يحكم الغرائز إلا ما يقره القانون المدني، والذي

__________

(1) انظر: من دارون حتى هتلر، لمؤلفه: رتشارد ولكارت..

كيف تناظر ملحدا؟ (359)

عبر عنه بقوله: (الملحد والملحدة ليس لديهم أي مانع من ممارسة الجنس برضى الطرفين لأنه لا يضر أحداً)

وهذا الأمر ينطبق على كل الفوضى الجنسية التي نشرها الإلحاد باسم الحرية الشخصية، كزواج المثليين، هو أمر شاذ عن الطبيعة البشرية، ولا يرقى لأن يكون فعلا حيوانيا، ولكن مع ذلك أصبح هناك قانون يبيحه في بعض الدول.

بالإضافة إلى ذلك لا نجد رادعا للملحد في الزواج من محارمه، ما دامت بعض الحيوانات تمارسه، والإنسان عندهم ليس سوى حيوان.. فهل يرضى الملحد أن يتزوج ابنه من ابنته مثلا؟.. وهل يرى أن هذا الأمر طبيعي؟

الوجه الرابع: اعتباره لإخلاص الملحد وأخلاقه، وكونه صاحب مثالية عالية، تلاعب بالألفاظ، ذلك أن هذا مثل ادعاء الأطفال: (بابا أقوى واحد في الدنيا!)، فمن يدعي مثل هذا الأمر ينفي عن نفسه صفة العلمية بشكل كبير، فهو قد يأخذ مثالا أو مثالين من أصدقائه الملاحدة، ثم يعممهما على جميع البشرية، وقد ذكرنا الفرق الكبير بين الفلسفة الأخلاقية والواقع الأخلاقي.

الوجه الخامس (1): أن القانون لايستطيع أن يستقل بذاته في أي وقت من الأوقات، بل لابد له أن يقترن بالأخلاق، ذلك أنه لو طرحت قضية أمام القانون، وتعمد الفريقان وشهودهما الكذب، فلم يتبين الصدق أمام القاضي، فسوف يقضي خلاف ما يقتضيه العدل، ولن يتمكن القاضي من الحصول عليه مهما حاول.

ولذلك كان لابد من قانون آخر (وراء القانون)، يحرك الناس، ويحملهم على الإدلاء بالبيانات الصادقة للوصول الى العدل. وقد اعترفت جميع محاكم العالم بهذا المبدأ، حتى أنها تلزم

__________

(1) انظر: الإسلام يتحدى، لوحيد الدين خان، ص 163 فما بعدها.

كيف تناظر ملحدا؟ (360)

كل شاهد (أن يقسم بالله أن يقول الحق) قبل الإدلاء بشهاداته، وهو دليل واضح يؤكد أهمية العقائد الدينية لصون حرمة القانون.

بالإضافة إلى هذا، فإن خوف الشرطة والمحكمة لايكفي لدرء الجرائم، وإنما لابد أن يكون هناك وازع في المجتمع يمنع الناس من ارتكاب الجرائم، لأن الرشاوي، والمحسوبيات، وخدمات المحامين البارعين، وشهود الزور، كل هذه العوامل تكفي لحماية المجرم من أي شرطة أو محكمة انسانية، والمجرم لايرهب عقابا، أي عقاب، لو استطاع أن يفلت من أيدي القانون.

بينما الشرع الالهي يستوفي كل هذه الأمور، فعقيدة (الآخرة)، التي يحملها الشرع الالهي، هي خير وازع عن ارتكاب الجرائم، وهي تكفي لتبقى إحساسا بالجريمة واللوم يعتمل في قرارة ضمير الانسان، لو أدلى بشهادة كاذبة أمام القاضي.

وقد أقيم في فناء محكمة (ويستون سركيت) نصب من حجر، يذكر الناس، بشاهد أدلى بشاهدة زور في فناء الدار، ثم قال: (وان كنت كاذبا، فليمتني الله، هنا، في الحال! ولم تكد هذه العبارة تخرج من فم الشاهد حتى سقط على ساحة الأرض، ومات في الحال)، وهناك وقائع أخرى من هذا النوع حدثت لشدة احساس أصحابها باللوم والذنب.

ثانيا ـ معايير الأخلاق عند المؤمن ودوافعها

على خلاف ما رأينا من اضطراب عند الملاحدة في تحديد الأخلاق ومعايير ضبطها، نجد الأمر واضحا لدى المؤمن، ذلك أنه لا يستند في تحديد الأخلاق إلى الطبيعة العمياء الصماء البكماء، ولا إلى عقله القاصر المضطرب، ولا إلى بيئته المتلونة، وإنما يستند إلى مصدر ثابت لا يتلون ولا يتغير، وهو العالم بكل شيء، وهو الله تعالى..

وهنا يبادر الملحد إلى الضحك على مثل هذا التفكير، وطبعا نحن لن نجادله في ذلك،

كيف تناظر ملحدا؟ (361)

ولكنا ندعوه إلى النظر في النتيجة التي يخلص إليها المؤمن نتيجة هذا الإيمان، والنتيجة التي يخلص إليها الملحد، فالنتائج هي التي تحدد مدى صدق المقدمات.

وسنذكر هنا بعض النتائج التي يصل إليها المؤمن نتيجة هذا، لنرى مدى الفرق بينها وبين الرؤية الإلحادية (1):

1 ـ شمولية النظرة الدينية للأخلاق

لا شك بأن هناك مجموعة من الفضائل الأخلاقية التي يستقل العقل بإدراكها من دون الحاجة للدين كحسن الصدق وقبح الكذب، وكحسن العدل وقبح الظلم وفق مبدأ (الحسن والقبح العقليين)، لكن ليست كل القضايا الأخلاقية على هذه الشاكلة من الوضوح، فهناك بعض الأفعال التي يصعب، بل يستحيل على العقل أن يدرك قبحها، كالعلاقات الجنسية المثلية إذا تمت برضا الطرفين ومن دون مشكلة قانونية كما في بعض الدول التي تسمح قوانينها بذلك (2)، ففي مثل هذه الأمور نجد أن الدين سوف يحسم الأمر بسهولة من خلال تحريمه لمثل هذه الأفعال القبيحة، وإن سمحت بها بعض القوانين الوضعية وكان الطرفان راضيان.

وأما في الفكر الإلحادي فليس هناك أي مانع أخلاقي من هذه الممارسات إذا تمت برضا الطرفين ومن دون أي مشكلة قانونية كما في بعض الدول وفقاً لمعيار (المنفعة الرفاه /الألم الضرر). والغريب أن بعض الملاحدة يقول بأن هذه المسألة ينبغي أن يترك البت فيها للعلم،

__________

(1) انظر: الملحدون والمسألة الأخلاقية.. تحليل نقدي من خلال المقارنة بين الإلحاد والأديان، أ. سلمان عبد الأعلى، مجلة نصوص معاصرة، وقد حاولنا أن نلخص الكثير مما ذكره هنا، ومثله من كتاب: الإسلام يتحدى، لوحيد الدين خان.

(2) [27] راجع كتاب أفي الله شك؟ للشيخ الدكتور مرتضى فرج، ص 123 وما بعدها، الطبعة الأولى 2013 م، مؤسسة الإنتشار العربي، بيروت-لبنان.

كيف تناظر ملحدا؟ (362)

وإذا أكد لنا وجود الضرر فهي غير أخلاقية، وأما إذا لم يكن فيها أي ضرر فلا مشكلة فيها، كما ذهب بعضهم للقول بأن استقباح مثل هذه الممارسات ربما يكون نتيجة برمجة اعتاد عليها الإنسان، كأن يكون قد ربي على ذلك، وليس نتيجة لأمر حقيقي موجود في طبيعتها ويكشف عن قبحها بالفعل، ولذلك لا يمكن الاعتماد على النصوص الدينية في هذا الشأن.

وهذا الكلام يلاحظ عليه أنه أحال الأمر للعلم ـ رغم عدم صحة ذلك كما عرفنا في العنوان السابق ـ إلا أنه كذلك لم يحسم المسألة، لأنه في الكثير من الحالات تختلف النتائج العلمية من بحث لآخر، فعلى فرض صحة كلامهم ـ وهو غير صحيح طبعاً ـ فما هو رأي الملاحدة في حال اختلفت النتائج العلمية حول هذا الأمر؟ وكيف سيكون موقفهم إزاء هذه الاختلافات؟ وعلى أي أساس سيتم الترجيح بين الآراء العلمية المختلفة؟!

وبناء على هذا، كانت القوانين الوضعية التي تحاول ضبط أخلاق المجتمع ضعيفة هزيلة لا يمكنها الإحاطة بالكثير من الأخلاق السيئة، والتي تؤدي إلى دمار كبير في المجتمع، بخلاف فهي تنص مثلا (1) على أن الجريمة هي (كل عمل يضر بالأمن العام، أو نظام الحكم القائم)، والتشريع الانساني لايجد أساسا غير هذا لاعتبار عمل ما جريمة.

وقد دفع هذا الأساس القانون الجديد الى إقرار أن جريمة (الزنا) ليست بجريمة، إلا إذا تمت جبرا أو إكراها لأحد الطرفين، فالجريمة بهذا الاعتبار هي الجبر والاكراه الذي سبق (الزنا)، وليس الزنا في حد ذاته.

مع أن جريمة (الزنا) تفشي فسادا كبيرا في المجتمع، فهي تخلق مشكلات الأطفال (غيرالشرعيين)، وتضعف روابط الزواج، وهي تصدر عن عقلية تفضل اللذات السطحية في الحياة، وتربي عقلا خائنا، وتخلق السرقة واللصوص، وتروج الاغتيالات والانتحار والخطف؛

__________

(1) انظر: الإسلام يتحدى، وحيد الدين خان، ص 162، وما بعدها.

كيف تناظر ملحدا؟ (363)

ومن ثم تفسد المجتمع كله، ولكن القانون ـ رغم ذلك ـ لايستطيع تحريمها، فهو لايجد أساسا لتحريم (الزنا) الذي تم بالرضا المتبادل.

ومثل ذلك الخمر التي لم يستطع القانون أن يجرمها، لأنه يؤمن بأن الأكل والشرب حق من الحقوق الطبيعية للانسان، وهو حر في اقتناء كل ما يريد أن يأكله ويشربه؛ وليس للقانون أن يتدخل في حقوق الطبيعية، ومن ثم لم يكن شرب الخمر والسكر الذي يتبعه جريمة في الواقع، الا اذا اعتدى شارب الخمر على أحد المواطنين في هذه الحالة من السكر؛ أو خرج الى الشارع وهو سكران؛ فالجريمة ليست هي حالة السكر، بل الاعتداء على الآخرين في تلك الحالة.

مع أن الخمر تضر بالصحة، وتبدد أموال الناس، وتؤدي بمدمنيها الى كوارث اقتصادية محققة، وتضعف الشعور الأخلاقي، حتى أن الانسان يتحول إلى حيوان رويدا رويدا، والخمر خير مساعد للمجرمين، فهي تشل الإحساسات اللطيفة، حتى يستطيع الإنسان اقتراف أية جريمة من السرقة والقتل، وهدر العصمة، لكن القانون الانساني رغم هذه المعايب الشنيعة لن يتمكن من تحريم الخمر، لأنه لايجد جوابا يسوغ تدخله في حق من حقوق الانسان الطبيعية.

ولذلك لن نجد حلا لهذه المشكلة إلا في قانون الله، لأن قانونه يبين رضا حاكم الكون؛ فإن كون أي قانون قانون الله يحمل معه أولوية تنفيذه، ولايحتاج بعد ذلك دليلا آخر.. وهكذا يسد القانون الإلهي فجوة عميقة، نتمكن بعدها من إحالة أي عمل الى دائرة القانون.

2 ـ الله هو مصدر الأخلاق ومشرعها

ولهذا لا يجد المؤمنون مشكلة في مصدر الأخلاق، وهل هي الطبيعة أو العقل أو البيئة أو الحاكم، بل إن الأخلاق عندهم تعين وتحدد من طرف الخالق الذي آمنوا به؛ فهو أعلم بما يصلح لهم.

ولهذا يرى المؤمنون أن هناك ارتباطا وثيقا بين إثبات القيم المطلقة ووجود الخالق المطلق

كيف تناظر ملحدا؟ (364)

سبحانه، فمعرفة الخالق تقودنا إلى الأخلاق، وكذلك إثبات وجود الأخلاق والقيم المطلقة يقودنا حتماً إلى إثبات وجود الخالق المطلق سبحانه، بل حتى مسألة الشر التي كثيراً ما يستدل بها الملاحدة لإنكار وجود الخالق يمكن الاستدلال بها بشكل معاكس على إثبات وجوده سبحانه.

وهذا ما أشار إليه [ويليام لان كريغ] في مناظرته مع [سام هريس]، حيث قال: (لاحظوا أن الشر في الحقيقة يثبت وجود الرب، لأن الرب لو لم يكن موجوداً، فإن القيم والواجبات الأخلاقية الموضوعية لن تكون موجودة! وإذا وجد الشر، فذلك يقتضي أن القيم والواجبات الأخلاقية موجودة، وبالتحديد لأن بعض الأشياء شريرة. إذاً فالشر يثبت وجود الرب فعلياً، لأنه بغير الرب لن يوجد الشر والخير كما هما الآن) (1)

وإذا ثبت لدينا وجود الخالق المطلق فيجب علينا عبادته بغض النظر عن الأمور الأخرى كمسألة المثوبة والعقوبة الأخروية، لأن الخالق سبحانه يُعبد لكونه مستحقاً للعبادة، وليس كما يظن بعض الملاحدة بأنه يُعبد فقط من أجل الدخول إلى الجنة واجتناب النار.

وفي ذلك يتحدث [ويليام لان كريغ] رداً على قول [سام هريس] بأن هدف الإيمان بالله عند أصحاب الأديان هو تجنب نار جهنم، حيث يقول: (وبكل أمانة إن هذا يبين ببساطة الفهم القاصر عند سام هاريس للمسيحية (وللأديان عموماً).. أنت لا تؤمن بوجود الرب لمجرد تجنب دخول الجحيم، فالإيمان بالله ليس نوعاً من التأمين ضد الحريق. أنت تؤمن بالرب لأن الرب، بكونه الخير المطلق، هو الخليق بالتعبد والمحبة فهو الخير نفسه، الذي يطلب لذاته لا لشيء آخر. وهكذا فتحقيق وجود الإنسان سيوجد في العلاقة مع الرب. والله حقيق بالعبادة بسبب كينونته وقيمته الأخلاقية. ولا يتعلق الأمر بتاتاً باجتناب النار، ولا بتعزيز رفاهيتك

__________

(1) الإلحاد بين قصورين، ص 68.

كيف تناظر ملحدا؟ (365)

الخاصة) (1)

وحول مهاجمة الملاحدة للأديان لكونها تؤسس لسلوكيات غير أخلاقية بحسب زعمهم، يقول ويليام لان كريغ رداً على سام هريس: (لاحظوا أن د. هاريس ليس لديه أساس أخلاقي ليقول بأن المعتقدات المسيحية (الدينية) بغيضة أخلاقياً، لأنه يفتقد إلى الأساس الذي يبني عليه حكمه هذا. لو كان الإلحاد صحيحاً، فما هو الأساس الموضوعي للجزم بأن نظرة ما بغيضة وأخرى ليست كذلك؟ لأنه لا يوجد ببساط أي أساس لأحكام كهذه) (2)

وقد تناول الشيخ الشهيد مرتضى المطهري مسألة الارتباط بين الأخلاق ووجود الخالق في كتابه فلسفة الأخلاق تحت عنوان (معرفة الله هي أساس الأخلاق) بقوله: (يقول البعض أن للأخلاق أساساً ومرتكزاً، فكما أن (أول الدين معرفته) حيث تشكل معرفة الله سبحانه الحجر الأساسي للدين، فكذا معرفة الله تشكل الحجر الأساسي للإنسانية، ولا معنى للإنسانية ولا للأخلاق من دون معرفة الله تعالى. أي لا معنى لأي شيء معنوي إذا لم يرتبط برأس المعنويات ومنبعها) (3).

ويقول تحت عنوان (ذات الله تعالى هي أساس الفضائل الخلقية): (على أساس أي منطق يمكننا أن نبني الأخلاق؟. أيمكننا أن نجد للأخلاق منطقاً استدلالياً بعيداً عن طريق معرفة الله؟.كلا، إن الخلفية والرصيد لجميع هذه المفاهيم هي معرفة الله. وإن فقد الإيمان أصبحت الأخلاق كقطعة نقود لا رصيد لها. قد يكون البعض غير ملتفت إلى هذا الأمر ولكنه لا يكون

__________

(1) المصدر السابق، ص 66.

(2) المصدر السابق، ص 69.

(3) فلسفة الأخلاق المطبوع ضمن كتاب سلوك وأخلاق الإسلام، ص 154.

كيف تناظر ملحدا؟ (366)

مبنياً على أساس محكم.) (1)

ويبين الشهيد المطهري ذلك بذكر شاهد على كلامه بذكر ما فعله الفرنسيون، حيث أنهم أول من نشر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولكن لم يكن لهذا الإعلان أي أثر في حرب الاستعمار الفرنسي على شعب الجزائر (2).

وعندما نقارن الرؤية الإيمانية لمصدر الأخلاق بنفس الرؤية عند الملاحدة، نجد الفرق الكبير بينهما؛ ذلك أننا لو أننا خولنا هذا الامتياز للإدارة الحاكمة ـ كما تنص بعض النظريات الإلحادية ـ فليس في ذلك أي أساس نظري وعلمي يجيز لها ذلك الامتياز، ثم ان هذا التحويل من ناحية أخرى لايجدي نفعا؛ فإن اطلاق أيدي الحكام ليصدروا أي شيء لتنفيذه بوسيلة القوة أمر لاتطيقه ولاتحتمله الجماهير.

ولو أن هذا الأمر خول لرجال المجتمع ـ كما تقول نظريات أخرى ـ فإننا نجدهم أكثر جهالة وحمقا، لأن المجتمع ـ أي مجتمع ـ اذا نظرنا اليه ككل، لايتمتع بالعلم والعقل والتجربة، وهي أمور لابد منها عند التشريع، فهذا العمل يتطلب مهارة فائقة وعلما وخبرة، وهو مالاتستطيع العامة من الجماهير الحصول عليه؛ كما أنها، وان أرادت، لن تجد الوقت الكافي لدراسة المشكلات المختلفة وفهمها.

وللخروج من هذه المشكلة توصل بعضهم الى حل وسط، وهو أن يقوم البالغون من أفراد المجتمع بانتخاب ممثلين لهم، وهؤلاء بدورهم يصدرون التشريعات المرتبطة بهذا باسم الشعب، ومن الممكن أن ندرك حماقة هذا الحل الوسط، حين نجد أن حزبا سياسيا لايتمتع الا بأغلبية 51 بالمائة من مقاعد البرلمان يحكم على حزب الأقلية، الذي يمثل 49 بالمائة من أفراد

__________

(1) المصدر السابق، ص 159.

(2) راجع المصدر السابق، ص 159.

كيف تناظر ملحدا؟ (367)

المجتمع البالغين.

وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل إن هذا الحل يحتوي على فراغ كبير جدا تنفذ منه (أقلية) لتحكم على أغلبية السكان.

وبناء على هذا كله، فإن الدين وحده من يستجيب لهذا التحدي الخطير، الذي قد يدمر سعادة البشرية كلها، لأنه يرى أن مصدر التشريع هو (الله) وحده، خالق الأرض والكون؛ فالذي أحكم قوانين الطبيعة هو وحده الذي يليق أن يضع دستور حضارة الإنسان ومعيشته، وليس هناك من أحد غيره سبحانه، يمكن تحويله هذا الحق.

3 ـ وجود فلسفة واضحة للأخلاق

بخلاف الإلحاد كما ذكرنا ذلك سابقا، وذلك لأنها تعتمد على الدين، في حين نجد بعض الفلسفات الأخرى تبدأ في تنظيرها -بل وتعتمد- على ما هو الموجود في الواقع، وهذا اختلاف جوهري كبير جداً، فشتان بين فلسفة تدعي بأنها تعتمد على الواقع وفلسفة تستقي من الوحي، وإن كانت تراعي مصلحة الواقع أيضاً.

ومن الطبيعي أن تكون المسألة الأخلاقية لدى الأديان معتمدة على تعاليم السماء، بل من غير المنطقي أساساً أن تكون الفلسفة الأخلاقية عند المسلمين غير مستلهمة من الأصول والمبادئ الدينية، إذ أن هذا لا يتصور أصلاً، لأن الأخلاق لها مدخلية في ضبط سلوك الإنسان في علاقاته بنفسه وبغيره، وهذا موضوع أخلاقي وديني بامتياز، إذ لا بد أن يكون هذا الأمر مبني على ما يؤكد عليه الدين بناءً على الفلسفة الأخلاقية التي يمتلكها، علماً بأنه لا يوجد أصلاً ما يؤكد وجود تقاطع كلي بين الدين والفلسفة الأخلاقية كما ألمحنا لذلك سابقاً.

لذلك يمكننا القول بأن للدين فلسفة أخلاقية. نعم، هذه الفلسفة لها خصوصياتها، فهي تختلف عن الفلسفات الأخرى، ولكن هذا لا يجعلنا ننكر ذلك من أساسه، علماً بأن الفلسفة الأخلاقية تختلف بين الأديان أيضاً، فالفلسفة الأخلاقية عند الديانة الإسلامية مثلاً تختلف عن

كيف تناظر ملحدا؟ (368)

الفلسفة الأخلاقية عند الديانة المسيحية (1)، فلكل منهما بعض الخصوصيات التي تميزها عن غيرها.

والغريب أن بعض الملاحدة ينكر وجود فلسفة أخلاقية للدين، ويُطالب بذكر مصادر كتبت في هذا المجال، ويبدو بأنه غير مطلع على هذا الأمر ومع ذلك ينفيه بضرس قاطع، وهنا تكمن المشكلة، فهو بهذا ينطلق من الجهل لإنكار وجود المسألة الأخلاقية، وشأنه في هذه المسألة كشأنه في مسألة إنكار وجود الخالق سبحانه وتعالى، حيث أنه ينكر وجوده سبحانه وتعالى فقط لعدم تمكنه من الوصول إلى ذلك من خلال معطيات العلم التجريبي!!

وثمة عدة أمور يمكن عدها كمبادئ موضوعية للأخلاق الإسلامية وهي كالتالي (2):

1. حرية الاختيار: أن الإنسان موجود مختار، لأنه إذا كان مجبراً في أعماله، وافتقد إرادته في تقرير مصيره فإن الأمر والنهي المتوجهين إليه سوف يفقدان محتواهما، والالتفات إلى ذلك ذو أهمية بالغةً تربوياً، فإن ظهور لون من الجبر في الإنسان واعتقاده بعدم الاختيار في أعماله، ورضوخه للمؤثرات الخارجية سوف يثبط عزيمته ويجرده من الشعور بالمسؤولية.

2. الغاية النهائية: إذا كان الإنسان مختاراً فهو ينتخب غايةً ثم يباشر أفعاله الاختيارية بغية الوصول إليها، فهناك عدة غايات نقصدها عند انجاز أعمالنا، وبما أن التسلسل في الغايات أمر غير ممكن، فإنا نلاحظ غايةً نهائية لتلك الأعمال، وتزكية النفس وتهذيب الأخلاق يقعان

__________

(1) لمعرفة المزيد راجع كتاب فلسفة الأخلاق للشهيد المطهري المطبوع ضمن كتاب سلوك وأخلاق الإسلام، ص 17 وما بعدها.

(2) ما سوف أورده مأخوذ بكامله من كتاب الأخلاق في القرآن الكريم، للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، ولكن باختصار وبتصرف، ولقراءة البحث كاملاً يمكن مراجعة الكتاب ج 1، ص 17 وما بعدها، طباعة دارة التعارف للمطبوعات، 1425 هـ -2004 م.

كيف تناظر ملحدا؟ (369)

في إطار الأعمال الاختيارية للإنسان، وتنجز بقصد الوصول إلى الغاية والمطلوب النهائي.

3. لابد من السعي للوصول إلى الغاية: على الإنسان أن يعلم بأن لمساعيه دوراً في الوصول إلى غاياته ومقصوده، وأن نتائجها تعود عليه، وذلك لكي يبادر بشوق الى النشاط والسعي. فالإنسان إذا كان له مقصود نهائي ثم ظن أن أعماله ومساعيه لا تأثير لها، أو أن نتائجها تعود الى الغير ولا تقربه من المقصود والغاية النهائية ضعف دافعه للعمل والسعي، فلا يتعب نفسه للوصول اليه. من هنا كان من الضروري الاعتقاد بتأثير أعمال وسلوك الإنسان على مصيره، وذلك لحثه على التحرك والسعي في طريق الأهداف الأخلاقية السامية، وليعلم أن كل حركة أو عمل يقوم به باختياره ستعود نتيجته وما يترتب عليه من نفع أو ضرر على نفسه حتماً (1).

4 ـ توفير الإيمان لجميع دوافع الالتزام بالأخلاق

من خلال مقارنتنا بين الدوافع الأخلاقية التي يجدها المؤمن مع تلك التي يجدها الملحد نجد الفرق الكبير بينهما، وكأننا نتحدث عن عوالم مختلفة تماما.

فالمؤمن يمارس الأخلاق بكل تلقائية وفرح وسعادة، حتى لو كان فيها الكثير من التضحية والإيثار وتلك المعاني السامية التي لا يستطيع الملحد أبدا تفسيرها، ذلك لأن تصوراته لحقائق الوجود والنظام الذي يحكمه يختلف تماما عن تلك التصورات العبثية التي يحملها الملحد.

ومن خلال استقراء النصوص المقدسة للأديان، وخصوصا الإسلام منها، نجد دافعين كبيرين للتحق بالأخلاق الحسنة: أولهما يرتبط بذات الخلق ودوره في تحقيق الكمال الإنساني،

__________

(1) ولمعرفة المزيد عن اختلاف النظام الأخلاقي في الإسلام مع النظم الأخرى يمكن مراجعة المصدر السابق، ج 1، ص 89 وما بعدها.

كيف تناظر ملحدا؟ (370)

وهوما يحاول الملحد أن يتشبه بالمؤمن فيه، والثاني هو الاستفادة من ذلك الكمال الإنساني الذي وفرته الأخلاق في تحصيل السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، وهو ما يفتقر إليه الملحد بسبب إنكاره للحياة الأخرى، وإنكاره لقيم كثيرة تحكم الحياة الدنيا.

وسنشرح كلا المعنيين فيما يلي:

أ ـ التحقق بالكمال الإنساني

فالمؤمن يؤمن من خلال ما تذكره له المصادر المقدسة، أنه يمكنه من خلال المجاهدات والرياضات تقويم سلوكه، وتربية نفسه، والسمو بروحه، حتى يتحقق بما يطيقه من كمال، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]

وذكر تعالى بعض تلك الأخلاق، وصعوبتها، مع تأثيرها الشديد في السمو الإنساني، فقال: {لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]

ولكون الأخلاق هي المقياس الذي يقاس به الكمال الإنساني، فقد أخبر الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تحقق بالدرجة العليا من ذلك المقياس، كما قال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)

ولهذا ـ أيضا ـ وردت النصوص الكثيرة تخبر بأن أرفع المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (خياركم أحاسنكم أخلاقا) (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم) (2)

__________

(1) رواه أحمد.

(2) رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.

كيف تناظر ملحدا؟ (371)

بل ورد ما هو أعظم من ذلك، وهو أن درجة القرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدر حسن الخلق، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون) قالوا: (يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون) قال: (المتكبرون) (1)

ولذلك، فإن الدرجات العليا والأجور العظيمة لا يحوزها إلا من حسن خلقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء) (2)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) (3)، فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حسن الخلق والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب، والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله.

وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: (الفم والفرج) (4)

بل أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن (المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) (5)

ب ـ الاستفادة من الجزاء الدنيوي والأخروي

__________

(1) رواه الترمذي.

(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

(3) رواه الطبراني، وإسناده صحيح.

(4) رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح.

(5) رواه أبو داود.

كيف تناظر ملحدا؟ (372)

وإليه الإشارة بالآيات الكثيرة التي تدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبشر المؤمنين بما أعد الله تعالى لهم من فضل جزاء على أعمالهم الصالحة، كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:25)

ففي هذه الآية الكريمة تبشير لمن جمع بين الإيمان والعمل الصالح بهذا الجزاء العظيم الذي سيلقونه عند الله تعالى.

وقد يرد التبشير بجزاء الله وفضله على أعمال خاصة، تحتاج إلى محفز عظيم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة:155)

فالله تعالى جمع في الآية الكريمة بين الإخبار على ما يعد للمؤمنين من صنوف الاختبار وما أعد لهم بجنبه ـ إن نجحوا ـ من صنوف الجوائز ليكون الجزاء حافزا للعمل ومثبتا عليه وداعيا إليه.

ومثل ذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (البقرة:223)، فالتبشير منصرف في الآية للمؤمنين الذين تحققوا بتقوى الله.

ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:111)، فقد اعتبر الله تعالى ما يقدمه المؤمنون من بذل لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله بضاعة لتجارة رابحة يبشرهم الله بوفور ربحها في الدنيا قبل الآخرة.

ومثل ذلك ختم الله تعالى صفات عباده الصالحين بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبشيرهم، قال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

كيف تناظر ملحدا؟ (373)

وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (التوبة:112)

ولذلك اعتبر الله تعالى التبشير من وظائف الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ، فقال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {أكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم} (يونس:2)

وقال عن موسى عليه السلام: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (يونس:87)

والسر في اعتبار التبشير بما أعد الله لعباده من جزاء على أعمالهم الصالحة حافزا من حوافز العمل وأسلوبا من أساليب الترببية هو ما ينشره التبشير في النفس من انشراح وفرح يمتلئ القلب به طمأنينة والجوارح نشاطا، قال تعالى في بيان تأثير التبشير في النفس: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران:126)، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (لأنفال:10)

ولهذا كان التبشير بما أعد الله للمؤمنين من جزاء هو الجوائز الوحيدة التي يقدمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن اختار سبيله ونصرة دعوته والوقوف أمام جميع الأعاصير التي تتربص به.

وقد كانت سلوى آل ياسر لمواجهة ما أعد لهم الطواغيت من عذاب هو ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وقد رأى عظيم ما يعانونه: (صبرا آل ياسر ان موعدكم الجنة)

وفي معركة بدر، حين اشتدّ البلاء على المسلمين، ورأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضعف أصحابه وقلة عددهم وضعف عتادهم، لم يكن له من الجوائز غير أن قال لهم: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة)

كيف تناظر ملحدا؟ (374)

الإلحاد.. ومعضلة الشر

يمكن اعتبار [معضلة الشر] أو [مشكلة الشر] من أكثر الشبهات الإلحادية تداولا منذ القديم، وإلى عصرنا الحاضر، فهي موجودة في كل كتب الإلحاد، سواء كانت ذات طابع علمي أو فلسفي أو أدبي.. وحتى في المحافل الإلحادية نجدهم يعبرون عنها بصيغ مختلفة.

وهم يتصورون أنها البرهان الأكبر، والدليل الأعظم على نفي وجود الله.. فقد اعتبرها الشاعر الألماني الملحد (جورج بوخنر) بأنها [صخرة الإلحاد]

وقال [رونالد ناش] معبرا عن أهمية المعضلة في الفكر الإلحادي: (الاعتراضات على الإيمان بالله تظهر وتختفي.. لكن كل الفلاسفة الذين أعرفهم، يؤمنون أن أهم تحد جاد للإيمان بالله، كان في الماضي، وكائن في الحاضر، وسيبقى في المستقبل، هو مشكلة الشر) (1)

وذكر [مايكل روس]، أشهر فلاسفة العلوم المنافحين بشراسة عن الداروينية، في بعض مناظراته أنه (لا يرفض الإيمان بوجود الله إلا لسبب واحد، وهو مشكلة الشر) (2)

أما كاهن الإلحاد الجديد الأكبر (ريتشارد دوكنز)، فقد اعتبر هذه المشكلة من أدلته الكبرى على الإلحاد، فقال في كتابه [وهم الإله]: (لا بد من المسير إلى قول بسيط وسهل وهو الإقرار بوجود الشر، ورد وجود الله)

وهكذا نرى الفيلسوف الأمريكي (مايكل تولي) في مناظرته مع (ويليام لين كريغ) (2010 م)، اكتفى ـ تقريبا ـ باستعراض مشكلة الشر لإنكار وجود الخالق، مصرحا أن الحجة المركزية للإلحاد هي حجة الشر، وهو ما فعله أيضا الفيلسوف البريطاني الملحد (ستيفن لاو)، في مناظرته مع كريغ (2011 م)

__________

(1) Ronald H. Nash، Faith and Reason (Grand Rapids، MI: Zondervan، 1988)، p.177..

(2) Randy Alcorn، If God Is Good: Faith in the Midst of Suffering and Evil (Colorado Springs، Colo.: Multnomah Books، 2009)، p.11..

كيف تناظر ملحدا؟ (375)

ومثله الفيلسوف (مايكل مارتن)، فقد قسم في كتابه [الإلحاد: تبرير فلسفي] الذي نشره عام (1990 م)، وهو من أقوى المؤلفات في هذا الباب، الطروحات الإلحادية إلى قسم، قسم خصصه للردّ على ما يستدلّ به المؤلّهة، وقسم كامل خصصه لحجيّة وجود الشرّ، والإستدلال به على نفي وجود الخالق.

ومع الاهتمام بهذه المعضلة في الفكر الإلحادي في جميع فترات التاريخ إلا أنها لاقت استحسانا كبيرا منذ عصر النهضة الأوروبية إلى اليوم لأسباب كثيرة أهمها الاهتمام الزائد بالحياة ومرافقها والانشغال بها عن البحث عن الحقائق الكوينة..

أو ما عبر عنه بعضهم عند وصفه لعصر التنوير بكونه العصر الذي انتقل فيه الإنسان من السؤال [لماذا نعيش؟] إلى سؤال [كيف نعيش؟]، واحتلّت فيه [وسائل الحياة] مكان [أغراض الحياة]، لتصبح الأرض هي منتهى بصر الإنسان، ونهاية طموحاته.

وقد عبر عن هذه الخاصية في الفكر الإنساني الحديث، والغربي خصوصا [س. إس. لويس] بقوله: (المشكلة الجوهريّة للحياة الإنسانية عند الحكماء في القدم هي التوفيق بين الروح والحقيقة الموضوعية، وكان الحلّ متمثّلًا في الحكمة، وترويض النفس، والفضيلة، أمّا العقل الحديث فيرى أنّ المشكلة الجوهرية هي إخضاع الحقيقة لرغائب الإنسان) (1)

وعبر عنها عالم الأعصاب والمحلّل النفسي النمساوي [فكتور فرنكل] بقوله: (للكثير من الناس اليوم وسائل للحياة، غير أنهم يفتقدون معنى يعيشون لأجله) (2)

وذكر أن الإنسان الأمريكي المترف، والذي لا يمثّل من مجموع سكان الأرض غير 5 بالمائة يستهلك 50 بالمائة مما يستهلكه البشر جميعًا من الأدويّة، لكنّه لم يفلح مع ذلك في التعامل

__________

(1) C. S. Lewis، The Abolition of Man (HarperCollins e-Books، 2014)، p.77..

(2) Frankl ، The Unheard Cry for Meaning (New York: Simon كيف تناظر ملحدا؟ ( Schuster، 1978)، pp. 2021..

كيف تناظر ملحدا؟ (376)

مع الألم الذي صار مصدر ذعر وهدم لحياته، وأدّى به إلى إدمان الخمر والمخدرات للهروب من واقع الألم الموجود أو المحتمل.

وعبر عنه الدكتور [بول براند]ـ وهو جراح تقويم الأعضاء لمرضى الجذام، والذي أمضى نصف تاريخه العلمي الأول، في الهند، ونصفه الثاني في الولايات المتحدة الأمريكية ـ بقوله: (لقد واجهت في الولايات المتحدة مجتمعًا يبحث بكلّ ثمن عن تفادي الألم.. لقد كان المرضى يعيشون في درجة رفاه أعلى من كل من سبق لي معالجتهم، لكنّهم كانوا أدنى استعدادًا بمراحل لتحمّل الألم، وأبلغ تأثرًا به) (1)

ومن التقريرات التي صيغت بها معضلة الشر قول أحدهم: (هل يريد الله أن يمنع الشر، لكنه لا يقدر؟ حينئذ هو ليس كلّي القدرة!.. هل يقدر لكنه لا يريد؟ حينئذ هو شرير!.. هل يقدر ويريد؟.. فمن أين يأتي الشر إذن؟.. هل هو لا يقدر ولا يريد؟ فلماذا نطلق عليه الله إذن؟)

ومنها قول بعضهم: (كيف يسكت الله عن كل هذه الانتهاكات في حق الأطفال كل يوم؟ كيف يرضى الله عن كل هذا الشر، وكل هذا الدم؟ لماذا يخلق أطفالًا مُشوّهين إذا كان قادرًا على خلقهم في صورة سويّة؟.. هل الإله عاجز، فهو لا يستطيع أن يوقف كل هذا السوء والشر في العالم؟.. أم أنه شرير، فهو يتغنّى بصراخ الأطفال، ويتلذذ بإهراق الدماء، ويستمتع بقتل العزل والأبرياء؟)

ومنها ما عبر عنه استبيان جرى في أمريكا، وكان السؤال فيه: (لو أتيح لك أن تسأل الله سؤالًا واحدًا تعلم أنّه سيجيبك عنه، ماذا سيكون هذا السؤال؟)، وكانت الإجابة الأكبر نسبة هي: (لماذا هناك ألم ومعاناة في هذا العالم؟) (2)

__________

(1) Paul Brand and Philip Yancey، The Gift of Pain: Why we hurt and what we can do about it (Grand Rapids، MI: Zondervan/HarperCollins، 1997)، p 12

(2) Lee Strobel، The Case for Faith (Michigan: Zondervan، 2000، EPub Format، 2000).

كيف تناظر ملحدا؟ (377)

انطلاقا من هذا سنذكر هنا وجوها للإجابة يمكن استعمالها جميعا، أو استعمال بعضها فقط، بحسب الحاجة إلى ذلك، لأن بعضها يدخل ضمن الإلزام الجدلي، ولا يدل في البراهين الحقيقية..

ولمن يريد التفصيل في علاج هذه المشكلة والتخصص فيها يمكنه أن يبحث فيها من خلال كتب الفلسفة وعلم الكلام وعلم الأخلاق وغيرها (1)، حيث نجد فيها جميعا مباحث تتعلق بأصل الشر، وكيف ينشأ؟ ومن المسؤول عنه؟.. وفي طبيعة الشر، وحقيقة وجوده؟.. وكيف يوجد؟.. وفي مشكلة الشر.. وكيف يشكّل الشر مشكلة لاهوتية متعلّقة بوجود الله وصفاته؟.. وبسبب الشر، ولماذا يسمح الله بوجوده.. وهل هناك سبب أخلاقي ومعقول لذلك؟؟ وبنهاية الشر.. وكيف سينهي الله الشر، أو كيف سيستخرج في ختام الأمر من الشر خيرًا؟

ونحب أن ننبه إلى أننا اعتمدنا في هذه الإجابات التي نذكرها، بل في هذا الموضوع جميعا على كتاب متخصص جامع للمسألة من كل أبوابها، وهو دراسة علمية جادة ومحترمة بعنوان [مشكلة الشر ووجود الله: الرد على أبرز شبهات الملاحدة] (2)، فقد استفدنا من المعلومات والتحليلات والاقتباسات الوادرة فيه، لكنا أعدنا صياغته، وبسطنا الكثير من القضايا المطروحة فيه، بالإضافة إلى حذفنا لكل ما فيه من أمور طائفية تتعلق بانتصاره لجهة من جهات المسلمين على غيرها، فمناظرة الملاحدة تستدعي من المسلم الخطاب الوحدوي، لا الخطاب

__________

(1) لأهمية هذه المعضلة في الفكر الإلحادي، فقد ألفت فيها الكثير من المؤلفات، وقد نشر (باري وتني) دراسة ببليوغرافية عن المؤلفات الفلسفية واللاهوتية التي نشرت عن مشكلة الشر في ثلاثة عقود فقط، من (1960 - 1990)، فإذا هي تبلغ 4200 دراسة

(2) تأليف د. سامي عامري، ونشر مركز تكوين للدراسات والأبحاث، عام 2016.

كيف تناظر ملحدا؟ (378)

الطائفي.

بالإضافة إلى ذلك اعتمدنا على ما ذكرناه بصفة خاصة في كتابنا [أسرار الأقدار]، وهو الكتاب الذي خصصناه للإجابة على كل التساؤلات المرتبطة بالقدر، وقد وضعنا في الباب الأخير منه، وهو [الرحمة] كل الشبهات المرتبطة بذلك، وأجبنا عليها بتفصيل، بالإضافة إلى ما ذكرناه في سائر أقسام الكتاب من شبهات.

بالإضافة إلى ذلك جميعا أشرنا إلى بعض ما ذكرناه في كتابنا [ابتسامة الأنين] من رحمات أودعها الله في طيات البلاء.. وهي كثيرة جدا، اكتفينا هنا بالإشارة لبعضها فقط.

وعلى العموم، فكل رسائل السلام كان غرضها الإجابة عن التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذه المعضلة.. فـ[كنوز الفقراء] يجيب عن الآلام المودعة في طيات الفقر، و[مفاتيح المدائن] يجيب عن الآلام المودعة في طيات التخلف، و[سوق الخطايا] يجيب عن الآلام التي يتسبب فيها الإنسان لنفسه عندما يترك مواضع البركات، وينزل إلى مهاوي المحق ودركاتها.. وهكذا فإن كل السلسلة تحاول أن تجيب عن التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذه المعضلة.

أولا ـ الأجوبة الإلزامية الجدلية

وهي أجوبة كثيرة جدا، منها ما يمكن اعتباره والاستفادة منه عند مناظرة الملاحدة، ومنها ما لا يمكن اعتباره، ولا الاستفادة منه، ولها علاقة بالثنائية المشكلة للمعضلة، وهي [الله]، و[الشر] والمفاهيم المرتبطة بها.

1 ـ الجواب المرتبط بالله وصفاته

وهو أن هناك فرقا بين وجود الله وبين نوع صفاته.. فما دام العقل قد أثبت وجود الله بالأدلة الكثيرة، فإنه لا يصح له أن يفرض عليه الصفات التي يريد، فوجود الشرّ لا يستلزم نفي وجود الله، وإنما قد يستلزم نفي بعض صفاته، وحينها تتحول المناظرة من البحث في وجود

كيف تناظر ملحدا؟ (379)

الله إلى البحث عن مدى اتصافه بالعلم والقدرة والرحمة مثلا، وفرق كبير بين الأمرين.

وهذا الجواب يدخل ضمن الإلزام الجدلي، ولا يعبر عن حقيقة الحال، فهناك فرق بين كون الله موجودا، وبين إلزامه بفعل الخير المجرد.. فنحن نرى الملوك الظلمة، والطغاة المستبدين.. فهل ينفي طغيانهم حقيقة وجودهم؟

ويمكن صياغة هذا الجواب كما يلي:

المقدمة الأولى: الدلائل الفطرية والعقلية والعلمية تدل على أنّ لهذا العالم خالقًا.

المقدمة الثانية: لا يوجد برهان منطقي يلزم عقولنا على الاعتقاد أنّ صفة العدل ضرورية في هذا الخالق الذي دلّ الكون والعقل على أنه واجب الوجود.

النتيجة: وجود الشرّ لا تعلّق له بمسألة وجود الخالق، وإنما له تعلّق بصفاته.

وانطلاقا من هذه النتيجة يلزم الملحد بالبحث عن تفسير لوجود الشر في العالم مع الإقرار بوجود إله.. وذلك ما يلزمه بالبحث عن الدين الأمثل الذي أعطى التفسير الصحيح لهذه المعضلة.. وطبعا إن كان صادقا، فسيجد الحقيقة في الإسلام وحده، ذلك أنه مع إقراره بوجود الشر في العالم إلا أنه بين مبرراته بكل دقة وعلمية وموضوعية كما سنرى في الأجوبة التالية.

وقد أقر الملاحدة أنفسهم بضحالة الاستدلال بمعضلة الشر على نفي الإله، حيث أن الفيلسوف الملحد [ج. ماكي]، والذي يُعدّ من أشرس الملاحدة استدلالًا بمشكلة الشرّ، وانتصارًا للإلحاد، يذكر أنّ مشكلة وجود الشر هي (مشكلة فقط لمن يؤمن أنّ هناك إلهًا قديرًا كامل الخيريّة، وهي مشكلة منطقية تتمثّل في توضيح عدد من الاعتقادات والتوفيق بينها.. إذا كنت مستعدًا للقول إنّ الله غير كامل الخيرية، وليس تام القدرة.. فعندها لن تواجهك مشكلة

كيف تناظر ملحدا؟ (380)

الشر) (1)

ومثله ذكر الفيلسوف [دانيال هاورد سنايدر] الذي عبر عن عجز الملاحدة عن الاستدلال بمعضلة الشر على نفي وجود الله، فقال: (إنّ مشكلة الشر هي مشكلةٌ للملحد، أو لمن وجد مقدّمات المشكلة واستنتاجاتها مقنعة، وكانت أسباب قناعته بوجود الله هشّة. أمّا إذا كان للمؤمن بالربّ حجّة صلبة، فإنّ وجود الشر ليس مشكلة) (2)

وبهذا الإلزام الجدلي رد (أنتوني فلو) بعد تراجعه عن إلحاده على هذه المعضلة بقوله: (من المؤكد أنّه لا بدّ من مواجهة وجود الشر والألم، ولكن، فلسفيًا، يُعتبر هذا الموضوع منفصلًا عن السؤال عن وجود الله، فمن وجود الطبيعة نفسها نحن نصل إلى أصل إيجادها.. ربما للطبيعة عيوب، ولكن ذلك لا يدلّ البتّة إن كان لها مصدر نهائي أم لا.. وبالتالي فوجود الله لا يرتبط بوجود الشر السائغ أو غير السائغ) (3)

بل إن [ريتشارد دوكنز] نفسه أقر في في كتابه [وهم الإله] بإمكانية الإجابة على هذه المعضلة بمثل هذا الجواب، حيث قال ساخرا: (في الحقيقة، أصحاب الميول الدينية لديهم أيضًا عدم تمييز مزمن بين الحقيقة والأمر الذي يرغبون أن يكون هو الحقيقة، بالنسبة للمؤمن بنوع من الذكاء الكوني الخارق، من السهل جدًا التغلّب على مشكلة الشر. يكفي أن تفترض وجود إله قذر، مثل ذاك المتفشّي في كلّ صفحة من صفحات العهد القديم، أو إذا لم يعجبك ذلك، اخترع إلهًا شريرًا مستقلًا بذاته، وسمّهِ الشيطان، وانسب الشر الذي في العالم إلى صراعه الكوني مع الإله الخيّر، وإن شئت هناك حلّ أكثر تطوّرًا؛ افترض وجود إله له اهتمامات أعظم من أن

__________

(1) J. L. Mackie، “Evil and Omnipotence،” in Mind 64، no. 254 (1955): 200، 201..

(2) Daniel Howard-Snyder، “Introduction،” in Daniel Howard-Snyder، ed. The Evidential Argument from Evil (Bloomington: Indiana University Press، 1996)، p.xi..

(3) Antony Flew، There is a God، p.156..

كيف تناظر ملحدا؟ (381)

يأبه لكروب الإنسان، أو إلهًا ليس سلبيًا أمام الآلام التي تصيب البشر، لكنّه يراها ثمنًا لا بدّ أن يدفع مقابل نعمة حريّة الإرادة البشريّة في كون منظّم وخاضع للنواميس. كثير من اللاهوتيين يعمدون إلى تبنّي مثل هذه التعقلنات) (1)

وما ذكره دوكينز ساخرا تعبير حقيقي عن أن الملاحدة أنفسهم يجدون مشكلة في هذه المعضلة، وعدم قدرتها على حل المشكلة من أساسها، ذلك أن وجود الشر لا ينفي وجود الله، وإنما يدعو إلى البحث عن سببه.. ولماذا جمع الصانع العظيم الذي أبدع كل هذا الكون في كونه بين الخير والشر، واللذة والألم.. وهذا التساؤل يدعو إلى التأمل العقلي، والبحث في الأديان، لا التسرع بنفي الإله.

وبناء على هذا الجواب الإلزامي، نشأت الكثير من الرؤى والمدارس الفلسفية التي حاولت أن تفسرها وفق رؤية كونية شاملة.. فالمدارس الشرقية أو الغربية التي تبنت [وحدة الوجود] بمفهومها الفلسفي، راحت تفسر الشر بما يتناسب مع هذه الرؤية، باعتبار الوجود واحدا، فلا صانع ولا مصنوع، وبذلك تنتفي المشكلة عندهم أصلا.. أما المدارس أو الأديان الثنوية، فراحت تثبت وجود الشر، وتنسبه إلى إله غير إله الخير.. وهكذا راحت كل مدرسة تحل المشكلة بطريقتها الخاصة.

وبناء على ذلك ذلك أيضا ظهرت بعض المدارس التي تتبنى تصورا عن الله ينفي كمال علمه وقدرته، وتصور أن ما يحصل من شرور في الكون مفروض عليه، ولا طاقة له به، ولذلك تسلل الشر إلى عالمنا، ولا يملك الله له دفعًا.

وقد عبّر [فيليب يانسي] عن هذا بقوله: (إنّ الثيوديسيين القدماء كـ (أوغسطين) و(الأكويني) و(كالفن) تقبلوا وجود الشر لكنهم حاولوا تبريره، في حين تذهب كتابات

__________

(1) Richard Dawkins، The God Delusion (London: Bantam Press، 2006)، p.108..

كيف تناظر ملحدا؟ (382)

المعاصرين إلى قبول إشكالية الشر، ولكن مع مراجعة الفهم التقليدي الألوهي لصورة الخالق؛ فالأوائل رأوا الإشكال في فهم مغزى الشر، وبعض الأواخر رأوا الإشكال في فهم حقيقة الله) (1)

وبهذا الجواب أجاب الحبر اليهودي [هارولد س. كوشنر] في كتابه الذي حقّق عددًا كبيرًا من المبيعات [عندما تحدث الأمور السيئة لأناس طيبين]، والذي نشره عام (1981 م) وقرر فيه (أنّه وإن كان الله كامل الخيريّة إلا أنّه ليس كاملًا في قدرته)

وبهذا الجواب أيضا أجابت مدرسة [Process theism]، والتي ترى محدودية السلطان الإلهي في الكون، وهي تصوره شبيها بصانع الساعات الذي يلفّ زرّها الجانبي، ثم يترك الساعة تعمل وحدها.. أو هو أشبه ما يكون بإله (أرسطو)، غير أنّ إله (أرسطو) ينصرف عن العالم لأنه أدنى من أن يكون محلّ اهتمامه، في حين أنّ إله هذه الطائفة من اللاهوتيين يمعنه عجزه عن أن يفعل فعله الكامل في العالم.

ومما ساعد على ظهور هذه النزعة، أو هذا النوع من الأجوبة، ما نجده في الكتاب المقدس من نسبة الكثير من صفات النقص والعجز لله تعالى، مثلما ورد في [سِفر التكوين 6/ 6]: (فَحَزِن الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإنسان فِي الأرض، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ) تعليقا على ما ورد بعد ذكر انتشار الشّر والفساد بين الناس في حقبة من التاريخ السحيق.

ومن هذا الباب أيضا ما وقع فيه بعض المسلمين أيضا حين فسروا العدل الإلهي تفسيرا يجوز له الظلم باعتباره يفعل ما يشاء، وكل ما يفعله داخل في سلطانه، ولذلك لا يصح أن يطلق عليه ظلما، ذلك أنهم عرفوا الظلم بكونه (ليس بممكن الوجود.. لأنه إمّا التصرّف في ملك الغير أو مخالفة الآمر، وكلاهما ممتنع في حق الله؛ إذ هو المالك لكلّ شيء، وليس فوقه آمر)

__________

(1) Philip Yancey، Where Is God When It Hurts? (Grand Rapids، Mich.: Zondervan، 1990)، pp.9 - 10.

كيف تناظر ملحدا؟ (383)

وهذا غير صحيح، فالنصوص القرآنية الكثيرة تنص على امتناع الظلم عن الله بمفهومه الحقيقي، وليس بذلك المفهوم الذي ذكره المتكلمون، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (آل عمران:182)، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} (غافر: 31)، وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت:46)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (يونس:44)، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (النساء:40)، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} (طه:112)، والهضم أن ينقص من جزاء حسناته والظلم أن يعاقب بذنوب غيره.

ومثل هذا كثير في القرآن، وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم ولكن لا يفعله فضلا منه وجودا وكرما وإحسانا إلى عباده، كما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) (1) أي أنه تعالى منع نفسه من ظلم عباده.

2 ـ الجواب المرتبط بحقيقة الشر

وهي أجوبة كثيرة نجدها في المؤلفات التي اهتمت بحل هذه المعضلة، ولا يمكن اعتبارها جميعا أجوبة حقيقية، لأن فيها ما هو حقيقي، ومعتبر، وفيها ما يمكن اعتباره من باب الإلزامات الجدلية، وليس من باب الحقائق البرهانية القطعية، ومن تلك الأجوبة:

1. مواجهة العقل الملحد بطبيعته وحقيقته، وهو أنه عقل عبثي لا يعرف غاية للوجود، ولذلك فإنه من المستغرب أن يطرح مثل هذا السؤال، بل إنه من المستغرب عليه أن يشعر بقيم الخير والشر، والمعاني المجردة المرتبطة بها.

إضافة إلى ذلك، فإن هذا العقل يؤمن بالكثير من الفلسفات المادية التي تبرر التفوّق

__________

(1) رواه مسلم.

كيف تناظر ملحدا؟ (384)

العرقي، والبقاء للأقوى، وهو بذلك يعتبر مثل هذه السلوكات شريرة سلوكات طبيعية، لا يصح له اعتبارها شرا مطلقا..

2 ـ محاولة التنصل من الشر نفسه باعتباره غير موجود، وأن ما نراه منه هو مجرّد وهم، أو تصوّر ذهني لشيء غير موجود، أو ـ كما عبر برتراند راسل ـ عن ذلك بقوله: (الشر هو العالم السفلي للأوهام التي يجب أن نحرّر حواسنا منها)، وقد تبنى هذه الرؤية أتباع الديانة الهندوسية، باعتبارهم أن الشر مجرّد (مايا) أي وهم.. وهو قول بعض متصوفة الأديان المختلفة، بما فيهم الإسلام نفسه (1).

ولا يمكن الاعتماد على هذا الجواب باعتباره منتقضا بالبداهة العقليّة والحسيّة، بالإضافة إلى أنه لا يحل المشكلة، فوهم الشرّ نفسه شرٌّ.. وهو يستدعي البحث عن حل وجواب.

وفي مقابل هذا الجواب نجد جوابا آخر يعتبر الوجود كله شر، وأن الخير ليس إلا وهم.. وهو يعتبر أن سبب الشر هو رغبتنا في الوجود، ولذلك نحتاج لمواجهة الشر إلا الفناء في [النرفانا].. وهي ـ مثل سابقتها ـ دعوى تصادم ما نعيشه في واقعنا العقلي والحسي من أنواع الفرح والخير والسعادة.

3 ـ محاولة التنصل من الإجابة التفصيليه عن الشر، باعتباره سرا محضا.. وقد أجاب بهذا بعض فلاسفة الصوفية خصوصا عند اعتبارهم أن ما يبدو شرًّا في الكون ليس سوى أسرار غامضة، سدت عن وعينا المنافذ لفهمها، ولذلك لا يجوز لنا أن نتجرأ على وصفها شرا (2)..

__________

(1) Wendy Doniger O’Flaherty، The Origins of Evil in Hindu Mythology)Berkeley: University of California Press، 1976)..

(2) وفي مقابل هذا المقولة نجد مقولة [الكون الشفّاف]، وهو اعتبار الكون يشفّ عن كلّ ما وراءه من خير وشرّ، فكلّ فعلٍ في الكون مردّه إلى أعيان مخصوصة من الحِكم التي من الممكن للبشر إدراكها (وهذا قول بعض المؤلّهة)، أو أنّ الكون ليس إلّا مجرّد تفاعلات مادية يتيح لنا العلم معرفتها، وإن على مراحل، بتقدّم معارفنا العلميّة (وهذا قول عامة الملاحدة)

كيف تناظر ملحدا؟ (385)

ذلك أن العلم بحقيقتها متعذرٌ لجهلنا المطبق بأغراض الخلق الإلهي، ولذلك فإنّه علينا أن نسلّم أننا أعجز من أن نصم شيئًا ما في وجودنا بأنّه شرٌّ لأننا على عماية تامة بالحكمة الإلهية الخارقة.

وهذا الجواب مع ما يحمله من كثير من المصداقية ـ كما سنرى ـ إلا أنه لا يمكن اعتباره مطلقا، ذلك أن القرآن الكريم، وهو المعبر عن حقائق الوجود، أخبرنا أنّ الشرّ حقيقة كونية لا يمكن إنكارها، كما قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83]، وقال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51]

ومثله حكى عن أيوب عليه السلام قوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84]

بل أخبر القرآن الكريم أن الله تعالى يبتلي عباده بالآلام، فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة: 155، 156]

ومع ذلك فإن هذا الجواب ـ كما سنرى ـ فيه الكثير من المصداقية، فالعقل البشري يعجز عن معرفة تفاصيل الحكم المخبأة وراء ما يراه من مظاهر، وليس في هذا دعوة للكسل عن البحث، وإنما هو دعوة للتواضع، والكف عن الغرور..

ثانيا ـ الأجوبة العلمية الحقيقية

وهي الأجوبة المنطلقة من الجمع بين ما تنص عليه المصادر المقدسة الإسلامية

كيف تناظر ملحدا؟ (386)

خصوصا، وما لم يحرف في كتب الديانات الأخرى، وبين ما ينص عليه العقل السليم والفطرة الطاهرة النقية وما دل عليه العلم وخصوصا الحديث منه بعد ذلك.

وهي تبدأ بالتعريف بالله ـ بحسب ما يدل عليه العقل والنقل ـ وبيان تنزهه عن أنواع النقص والقصور والظلم والجور وغيرها، وبيان كونه يتصف بكل صفات الجمال والجلال والكمال، لينبني عن كل ذلك تشكل معرفة في النفس تفيد أن خالقا بهذا الكمال يستحيل أن يبدو منه أي شيء يتناقض مع قدوسيته وكماله..

وهو ما يدعونا بعد ذلك إلى البحث في ضوء هذه المعرفة المقدسة عن حقيقة ما نتوهمه شرا، وعن حقيقة الحياة التي ارتبط بها ذلك الشر، وهل هو غاية مقصودة لذاتها، أم هو حالة عارضة..

وكون الشر مقصودا لذاته، أو مخلوقا بالأصالة، مستحيل بحسب صفات الخالق العظيمة.. وكونه حالة عارضة يدعونا إلى البحث عن أسرارها بحسب ما تنص عليه المصادر المقدسة، وبحسب ما يدل عليه العقل الذي يثبت وجود الله، ويبقى الإشكال في وجود الشر، وقد ذكرنا في مقدمة هذا الفصل أن الملاحدة أنفسهم يقرون بأنه لا تعارض بين وجود الله وبين معضلة الشر، وإنما التعارض في وصفه بالرحمة أو القدرة أو العلم مع وجود الشر.

1 ـ الجواب المرتبط بصفات الله

تضعنا معضلة الشر بين أمرين تتوهم أننا إن قبلنا أحدهما، نفينا الآخر، فهي تخيرنا بأن نقبل إلها قاسيا ظالما لا يبالي بعباده، وبما يصيبهم من آلام، وبين أن نعتبره رحيما، ولكنه في نفس الوقت إما جاهل لا يعرف المعاناة التي يعانونها، أو عاجز عن حل ما ينزل بهم..

ولا تضع في حسابها أن هناك احتمالات أخرى، تتناسب مع كون الإله رحيما، وفي نفس الوقت عالما وقديرا.. وهذه الاحتمالات تنطلق من وصف الله بالحكمة، وهي أن توضع الأمور في مواضعها المناسبة لها، بحسب ما تقتضه أسماء الله الحسنى.

كيف تناظر ملحدا؟ (387)

ولذلك فإن المعرفة التي تزيل هذه الشبهة من جذورها هي المعرفة التي تتبنى رؤيتين: الرؤية التنزيهية: واعتبار الله منزها عن كل ما لا يليق به من صفات لا تتناسب مع عظمته ولطفه وعلمه وقدرته ورحمته.. والرؤية التعظيمية والتي تثبت لله كل صفات الحمد والجمال والإحسان والرحمة والفضل.

وحتى نقرب هذا للقارئ نذكر أنه إذا عرفنا أن طبييا ما منزه عن الجهل والحقد والظلم، وفي نفس الوقت ممتلئ بكل صفات الرحمة والحكمة واللطف، نصحنا باستعمال دواء مر، أو حمية قاسية، فإن هذا لا يجعلنا ننظر إلى ذلك الطبيب بحقد أو قسوة، وإنما ننظر إليه بتقدير واحترام، لأنه لم ينطلق من تلك النصيحة إلا من خلال رحمته ولطفه.

وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا المثال حين رأى امرأة قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبياً أخذته فألصقته بصدرها وهي تبحث على ولدها، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه؟)، قالوا: (لا يا رسول اللّه)، قال: (فواللّهِ، للُّه أرحمُ بعباده من هذه بولدها) (1)

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا بأن هذه الرحمة التي وقفتها هذه الأم ليست سوى تجل من تجليات رحمة الله، فقال: (جعل اللّه الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) (2)

ولذلك كان أكثر أسماء الله الحسنى يصب في بحر الرحمة، فتوبة الله على عباده، وتجاوزه عنهم من رحمته بهم، وقد أخبر القرآن الكريم أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه:5)، وفي

__________

(1) رواه البخاري.

(2) رواه البخاري ومسلم.

كيف تناظر ملحدا؟ (388)

ذلك إشارة إلى أن مملكة هذا الكون الواسعة مبنية على أساس الرحمة الإلهية ومنتهية إليها.

فالله تعالى في تلك الآية الكريمة لم يختر من أسمائه إلا هذا الاسم الجليل الذي يجمع بين الدلالة على منتهى الرحمة وكمالها والعلمية على الذات ليدل على هذا المعنى، فإنه إذا قيل: (حكم الملك الشجاع) دل ذلك على ان أكبر منجزات هذا الملك مؤسسة على شجاعته، وإن قيل: (حكم الملك العادل) دل ذلك على أن أبرز ما يظهر في مملكته هو عدله، وهكذا.

وهذا ما نفهمه من الآية الكريمة، فهي لم تقرر معنى الاستواء بقدر ما قررت معنى الرحمة التي على أساسها يحكم الكون، ولكن التحريف اهتم بالاستواء وأوغل فيه مع دقة مسلكه، وكاد يعرض عن معنى الرحمة التي هي المقصود الأول من البيان في هذه الآية، أو كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان:59)

ولهذا يربط القرآن الكريم بين ملك الله الذي يعني تدبير الله للأشياء وبين رحمته تعالى، كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} (الفرقان:26)

ولذلك ورد في القرآن الكريم الإخبار عن سعة الرحمة الإلهية وشمولها باعتبار الكون مؤسسا عليها إنشاء وتدبيرا، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156)، وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام:147)، فالآيتان الكريمتان صريحتان في سعة الرحمة الإلهية وشمولها لكل شيء، ولم يرد في القرآن الكريم اقتران السعة بشيء من صفات الله إلا في صفتي الرحمة والعلم.

وقد جمع الله تعالى بينهما، مع اقترانهما بالسعة في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (غافر:7)

لكن هذا الجواب قد يعارض بما نراه في الواقع فكيف يمكن وصف الله تعالى بالرحمة

كيف تناظر ملحدا؟ (389)

التي لا حدود لها في نفس الوقت الذي نرى فيه أنواع الآلام والمصائب؟

والجواب على ذلك من وجوه نفصلها في العناوين التالية:

أ ـ خصوصيات الرحمة الإلهية

فالرحمة الإلهية تختلف في حقيقتها عن رحمتنا البسيطة، ذلك أن أحدنا إذا رحم غيره رق قلبه، وانهمرت دموعه، وشعر بمشاعر هي أدل على الضعف منها على الكمال.. والله تعالى الكبير المتعال الذي ليس كمثله شيء يتعالى عن النقص، فهو السلام الذي سلم من كل الآفات، بل من كل ما نتوهمه كمالا، بل نحن ـ لضعفنا وقصورنا ـ لا نعرف من حقائق الأسماء إلا بعض مظاهرها، أما حقائقها فلا حدود لها.

ولذلك تتفق رحمته تعالى مع ما نفهمه من الرحمة في بعض الأمور، وتختلف في بعضها.. فالرحمة في منطقنا تستدعي مرحوما، وتشترط في المرحوم أن يكون محتاجا، وتشترط في الراحم أن يفيض عنايته على المرحوم بما يسد حاجاته، قاصدا بذلك العناية بالمرحوم، فإن قصر ـ مع القدرة ـ لم تعتبره رحيما، فإن عجز اكتفت منه بما يظهر عليه من أمارات الرقة وعلاماتها، فتكون رحمة قاصرة لا يصيب المرحوم منها إلا امتنانه لمن رحمه.

وتتفق الرحمة الإلهية مع هذه المعاني جميعا إلا في المعنى الأخير، والذي لا يعتبر شرطا في الرحمة، بل هو دليل العجز والنقص، وعدم احتواء الرحمة الإلهية على هذا المعنى مظهر من مظاهر كمالها، لأن الرحيم الذي يفيض عنايته بسبب ما اعتراه من الرقة، هو في حقيقته يعالج رقته، ويعتني بالضعف الذي أصابه لا بالمرحوم، ولذلك تجده يضطر المرحوم للتوسل إليه بفاقته وعجزه ليرحمه.

يقول الغزالي: (الرحمة لا تخلو عن رقة مؤلمة تعتري الرحيم فتحركه إلى قضاء حاجة المرحوم والرب سبحانه وتعالى منزة عنها، فلعلك تظن أن ذلك نقصان في معنى الرحمة، فاعلم أن ذلك كمال وليس بنقصان في معنى الرحمة، أما أنه ليس بنقصان فمن حيث أن كمال الرحمة

كيف تناظر ملحدا؟ (390)

بكمال ثمرتها ومهما قضيت حاجة المحتاج بكمالها لم يكن للمرحوم حظ في تألم الراحم وتفجعه، وإنما تألم الراحم لضعف نفسه ونقصانها ولا يزيد ضعفها في غرض المحتاج شيئا بعد أن قضيت كمال حاجته، وأما أنه كمال في معنى الرحمة فهو أن الرحيم عن رقة وتألم يكاد يقصد بفعله دفع ألم الرقة عن نفسه فيكون قد نظر لنفسه وسعى في غرض نفسه، وذلك ينقص عن كمال معنى الرحمة بل كمال الرحمة أن يكون نظره إلى المرحوم لأجل المرحوم لا لأجل الاستراحة من ألم الرقة) (1)

وحتى نبسط هذا المعنى نعود إلى مثال الطبيب الجراح، فلا شك أننا قد نبدو أكثر رحمة ورقة في التألم لحال المريض، لكن الطبيب الناصح أكثر رحمة منا حين يحرمه من بعض ما يشتهيه، لأن نظره بعيد، وغايته أسمى، أما غايتنا فهي محدودة بالتخلص من ذلك الألم الذي يعترينا وهو مصلحة لنا لا للمريض.

ب ـ تعارض الرحمة مع العدل والحكمة

فالرحمة قد تتعارض مع مقتضيات أسماء حسنى أخرى كالعدل مثلا، وحينها تقتضي الحكمة الإلهية تقديم العدل على الرحمة، كما في قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الحجر:49)، وقال بعدها: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (الحجر:50)، ومثل ذلك قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة:98)

فالله تعالى هو الرحيم الذي خلق كل شيء، وجعل لكل شيء من الحكم ما يصب في بحر الرحمة التي هي منفعة محضة، ولكن هذه الرحمة قد يعترضها ما يحيلها إلى ألم، ولا يكون ذلك الاعتراض إلا من نفس الإنسان.

وكمثال على ذلك هذه الأرض التي نعيش عليها، فإن الله تعالى جعلها رحمة صرفة، بكل

__________

(1) المقصد الأسنى:62.

كيف تناظر ملحدا؟ (391)

ما فيها، لكن فعل الإنسان الذي استغل ما وهب من عقل، وما عرف من قوانين، جعله يمزج هذه الرحمة بأنواع الكدر والتلوث والآلام، بحيث قد تتحول بفعله إلى آلام محضة.

ولذلك قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41)، فقد نسب الله تعالى الفساد إلى كسب الناس.

وأخبر عن الكفرة أنهم: {أَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} (الفجر:12)، وأخبر عن المجرم الذي {إِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة:205)

ولهذا أخبر تعالى أن كل ما يحصل في الأرض من مشاق هو نتيجة حتمية للذنوب، على حسب ما يقتضيه العدل الإلهي والحكمة الإلهية، التي رتبت المشقة على المعصية، كما رتبت الراحة على الطاعة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرض وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (لأعراف:96)

وقال تعالى عن أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة:65 ـ 66)، أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث اللّه به محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة.

وهو ما أشار إليه سقوط آدم عليه السلام من الجنة، حيث كان يجد كل شيء في غاية الجمال والمتعة واليسر، حيث خوطب من الحق تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} (طه)

ولكنه مباشرة بعد شرب كأس اللذة، أصابه شؤمها فسقط عنه لباس الرخاء ليلبس

كيف تناظر ملحدا؟ (392)

لباس التعب والعناء، قال تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه:121)

وأخبر تعالى عن جزائه للذين: {أَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} (الفجر: 12)} بأنه: {صَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} (الفجر: 13)

وهذه النصوص تشير إشارة صريحة إلى الفساد الذي حصل في البر والبحر والجو بفعل معاصي المدنية الحديثة، التي أرادت أن توفر الترف لثلة قليلة تمتص أموالها على حساب صحة الأرض وجمالها وصلاحيتها للحياة.

وكما كان كسب الإنسان هو السبب فيما حصل للأرض من مصائب، وما حصل لأهلها نتيجة لذلك من بلاء تخبرنا النصوص أن كل المعاصي صغرت أو كبرت هي الحائل بين الإنسان والرحمة الصرفة، أو هي المزيج المؤلم الذي يكدر الرحمة، ويظهرها بمظهر العقوبة والألم.

ولذلك قال تعالى مخبرا عن مقالة الملائكة المقربين من حملة العرش، ومن حوله: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (غافر:9)

ولهذا كان لكل مخالفة شرعية من الآلام ما يكدر صفو الرحمة النازلة مع ذلك الأمر التشريعي، قال تعالى مشيرا إلى هذا المعنى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (المائدة:49)

وسر ذلك هو أن التكاليف الشرعية هي نفسها رحمة، فلذلك كان مجرد مخالفتها ألما قد يشعر به الإنسان الحساس في حينه، وقد يغفل عنه إلى أن تتراكم الآلام، فيهتز ميزان الرحمة في نفسه.

فالمعصية بذلك تشبه وضع الإنسان نفسه في مواضع العطب، فإنه في حينها قد يغفل عن جراحه لحرارة ما هو فيه من معصية، فإذا ما انطفأت تلك الحرارة في نفسه عادت الآلام

كيف تناظر ملحدا؟ (393)

لتشعره بجروحه الكثيرة.

ولذلك فإن المصائب تتوالى بتوالي الكفر، وتنمو بنمو المعصية، قال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (الرعد: 31)

ولهذا أخبر تعالى أن المؤمنين المستقرين في طاعة الله لا يرون إلا الرحمة الخالصة، والتي قد يتيه عنها بسبب الغفلة الغافلون، ولهذا قال تعالى آمرا المؤمنين بأن يخاطبوا المنافقين قائلين: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (التوبة:52

ولكن رحمة الله مع ذلك قد تعفو عن بعض الذنوب، فتمحوها، أو تجعل من ذلك البلاء كفارة لها، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30)، وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} (فاطر:45)

والقرآن الكريم يضرب لنا الأمثلة الكثيرة عن آثار المعاصي المتمكنة من النفوس، لينبهنا إلى أن الشر الذي كانت تنطوي عليه تلك النفوس هو السر الواقف وراء ما حاق بها من عذاب، فلهذا كانت تلك العقوبات ـ والتي هي في حقيقتها نوع من التطهير كما سنرى ـ متناسبة مع جرائمهم:

فالله تعالى قال عن أهل سبأ: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} (سبأ:16)

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحذر قومه مثل هذا المصير، قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13)

ج ـ صفات الله أعظم من أن تنحصر في ثلاث

كيف تناظر ملحدا؟ (394)

كما رأينا عند عرضنا للشبهة التي تقوم عليها هذه المعضلة هو قيامها على (أنّ وجود الشّر يتعارض مع وجود الإله ذي الصفات الثلاث، القدرة والعلم والرحمة، ويحاول الملحد من خلال حصر الصفات الإلهية في هذه الثلاث أن يقيم دعواه في التعارض الذي يمنع وجود الإله، مستغنيًا بذلك عن النظرة الكليّة التي لا تهمل من صفات الربّ شيئًا، والتي تتوّصّل بأفقها الواسع إلى إدراك التآلف الوجودي بين وجود الله الكامل ووجود الشر)

وهذا ما يخالف التصورات الإسلامية وما لم يحرف من الأديان عن الله تعالى، فالله تعالى في التصوّر الإسلامي هو مالك الملك الذي له الكون كلّه، وهو صاحب الكبرياء بعظمته التي لا تدانى وسلطانه الذي لا يضاهى، وهو بمنطق العدل والحق، حتّى بمعاييرنا الأرضية، له أن يفعل في ملكه ما شاء.

وذلك لا يعني الظلم كما ذكرنا، فالله منزه عنه، وإنّما نقول إنّ حقوق المالك العادل أوسع من حقوق المملوك في ميزان العدل، وسلطان المالك العادل أعظم من سلطان المملوك، وبذلك تتّسع الآفاق في فهم أنّ لله أن يوجّه الخلق لأمر، ويضعهم في اختبار، ويعاقبهم على العصيان، فليسوا هم هملًا في الدنيا، وإنّما خلقوا لأمر، ووضعوا على الأرض لغاية، وواجبهم الطاعة، وذلك عند النظر في العدل الإلهي يوجب ألا يكون للإنسان أن يستأثر بالحكم، ولا أن يكون مركز الكون، فحقيقة العدل أن يكون لله أعظم حقّ.

وقد وضح ابن القيم عند إجابته على هذه المعضلة، فقال: (الحكمة إنما تتم بخلق المتضادات والمتقابلات، كالليل والنهار، والعلو والسفل، والطيب والخبيث، والخفيف والثقيل، والحلو والمر، والبرد والحرّ، والألم واللذة، والحياة والموت، والداء والدواء، فخلق هذه المتقابلات هو محل ظهور الحكمة الباهرة، ومحل ظهور القدرة القاهرة، والمشيئة النافذة، والملك الكامل التام. فتوهم تعطيل خلق هذه المتضادات تعطيل لمقتضيات تلك الصفات وأحكامها وآثارها، وذلك عين المحال. فإنّ لكل صفة من الصفات العليا حكمًا ومقتضيات

كيف تناظر ملحدا؟ (395)

وأثرًا هو مظهر كمالها، وإن كانت كاملة في نفسها، لكن ظهور آثارها وأحكامها من كمالها، فلا يجوز تعطيله، فإن صفة القادر تستدعي مقدورًا وصفة الخالق تستدعي مخلوقًا، وصفة الوهاب الرازق المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر المعز المذل العفو الرؤوف تستدعي آثارها وأحكامها. فلو عطلت تلك الصفات عن المخلوق المرزوق المغفور له المرحوم المعفو عنه لم يظهر كمالها، وكانت معطلة عن مقتضياتها وموجباتها. فلو كان الخلق كلهم مطيعون عابدون حامدون لتعطل أثر كثير من الصفات العلى والأسماء الحسنى. وكيف كان يظهر أثر صفة العفو والمغفرة والصفح والتجاوز والانتقام والعز والقهر والعدل والحكمة التي تنزل الأشياء منازلها وتضعها مواضعها؟ فلو كان الخلق كلهم أمة واحدة لفاتت الحكم والآيات والعبر والغايات المحمودة في خلقهم على هذا الوجه، وفات كمال الملك والتصرف، فإن الملك إذا اقتصر تصرفه على مقدور واحد من مقدوراته فإما أن يكون عاجزا عن غيره فيتركه عجزًا، أو جاهلا بما في تصرفه في غيره من المصلحة فيتركه جهلاً.. وأما أقدر القادرين وأعلم العالمين وأحكم الحاكمين فتصرفه في مملكته لا يقف على مقدور واحد، لأن ذلك نقص في ملكه. فالكمال كل الكمال في العطاء والمنع والخفض والرفع والثواب والعقاب والإكرام والإهانة والإعزاز والإذلال والتقديم والتأخير والضر والنفع، وتخصيص هذا على هذا، وإيثار هذا على هذا. ولو فعل هذا كله بنوع واحد متماثل الأفراد لكان ذلك منافيًا لحكمته. وحكمته تأباه كل الإباء، فإنه لا يفرق بين متماثلين، ولا يسوّي بين مختلفين. وقد عاب على من يفعل ذلك، وأنكر على من نسبه إليه. والقرآن مملوء من عيبه على من يفعل ذلك. فكيف يجعل له العبيد ما يكرهون، ويضربون له مثل السوء وقد فطر الله عباده على إنكار ذلك من بعضهم على بعض وطعنهم على من يفعله، وكيف يعيب الرب سبحانه من عباده شيئا ويتصف به، وهو سبحانه إنما عابه لأنه نقص فهو أولى أن يتنزه عنه. وإذا كان لا بد من ظهور آثار الأسماء والصفات ولا يمكن ظهور آثارها إلا في المتقابلات والمتضادات لم يكن في الحكمة بد من إيجادها، إذ لو فقدت لتعطلت

كيف تناظر ملحدا؟ (396)

الأحكام بتلك الصفات وهو محال) (1)

وبهذه العقيدة التي تتوافق مع العقل والنقل، والتي تجعل لله ـ باعتباره صاحب الكمال المطلق ـ كامل الحق في إدارة مملكته بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته وأسماؤه الحسنى تنتفي الكثير من الطروحات الإلحادية المرتبطة بهذا الجانب.

ذلك أن الكثير من الملاحدة عندما يواجهون بالقول بأن الشر حقيقة نسبيّة، وأنّ ما يبدو شرًا من وجه، هو خير من وجه أو وجوه أخرى، يردون على ذلك بقولهم: (لماذا لم يخلق الربّ عالما من دون شر أصلًا، أليس ذلك دليلًا على عجزه؟)

وهنا ينتقل المخالف من شبهة تعارض الشر والحكمة، بعد أن عجز عن الرد، إلى شبهة تعارض الشر والقدرة.. والأصل ـ إن كان الملحد منصفًا ـ أن يسلّم بعدم وجود تعارض بين الشر والحكمة. ثم يفتح الباب لشبهة جديدة، وهي: تعارض الشر والقدرة، ولِمَ لَمْ يخلق الله عالما آخر بلا شر؟

2 ـ الجواب المرتبط بحقيقة الشر

وهي أجوبة كثيرة بحسب نوع الشر ومصدره وهيئته، ولذلك كان للتفصيل دوره الكبير في الإجابة على ذلك.. وسنقتصر هنا على الشرور الكبرى التي يطرحها الملاحدة، ونجيب عنها، بحسب ما ذكرته الدراسات الكثيرة التي اهتمت بهذا الجانب، بالإضافة إلى معارفنا القطعية التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، ونحب أن نبين أن الكثير منها متداخل يصعب تمييز بعضه عن بعض، فالقضايا متشابكة، ولذلك قد يختلط بعضها ببعض.

أ ـ حقيقة الشر وعلاقته بالوجود

وهذا من التساؤلات المهمة جدا، والتي اختلفت المدارس الإسلامية وغيرها في الإجابة

__________

(1) ابن القيم، شفاء العليل، ص 439 - 440.

كيف تناظر ملحدا؟ (397)

عنها، فهل الشر الذي نراه مقصود بالأصالة، أم أنه عارض.. أو بعبارة أخرى: هل هو حقيقة ذاتية لها وجود استقلالي، أم هو عرض انتزاعي لا يستقلّ لنفسه بكيان؟.. أو بعبارة أكثر تبسيطًا: هل يوجد ما يمكن أن نقول إنّه شر بذاته، لا أنّه شر في ظرف من الظروف ووجه من الأوجه؟

والإجابات على هذا الإشكال تتراوح بين رؤيتين: رؤية ترى أنّ الشرّ حقيقة موضوعيّة.. وأخرى ترى أن الشرّ ليس إلّا غيابًا للخير.

أما الرؤية الأولى، فليست إلا نوعًا من أنواع المغالطات المنطقية؛ أي مغالطة التشييء أو التجسيم؛ إذ يتمّ التعامل مع الأشياء المجرّدة على أنّها ذوات متحيّزة أو أحداث واقعيّة.. فليس الشرّ في واقع الناس مادة تُحسّ، وإنّما هو أثر لفعل أو حال ما، إذ لا وجود لشر مطلق، ولذلك فهو أمر نسبيّ أو جزئيّ. وبصورة أدقّ، علينا أن نعتبر الشرّ صفة لا ذاتًا، وأنه لا يُعامل معاملة الاسم إلّا إذا كان في صيغة التجريد (1).

وهذا ما يدعونا إلى التساؤل عن إمكانية تصور وجود عالمٍ شرير من كلّ وجه.. أي وجودٌ كلّ ما فيه شر لا يخالطه خير في مبناه أو مآله.. والجواب على هذا ما ذكره [جون جوردون ستاكهاوس] بقوله: (لا يمكنني تصوّر ذلك، ولم أشهد أيّ وصف لذلك العالم في العلم أو الفلسفة أو الأدب) (2)

وبناء على هذا، فإن الشرّ ليس سوى حال وصفي، أو بعبارة [كورنليوس بلنتنجا]: (غير ما يجب أن يكون عليه الشيء) (3)

__________

(1) ohn Gordon Stackhouse، Can God be trusted?: faith and the challenge of evil (New York: Oxford University Press، 1998)، 30..

(2) المرجع السابق، ص 50.

(3) Cornelius Plantinga Jr.، Not the Way It’s Supposed to Be: A Breviary of Sin (Grand Rapids، MI: Eerdmans، 1995..

كيف تناظر ملحدا؟ (398)

والدليل على هذا هو أنّ الشرّ واقعيًا ليس إلّا عارض فساد في شيء من أشياء الوجود التي هي في أصل وجودها سليمة من العيب، كالجرح في اليد، والصدأ في الحديد، فلولا اليد، وأصل سلامتها، ما كان الجرح، وما عرفنا أنّه انتقال عن أصل السلامة، ولولا مادة الحديد وأصل براءتها ممّا يخرّبها، ما كان الصدأ، وما علمنا أنّ الصدأ فساد في هذا المعدن، فالجرح كشرّ لا يقوم بنفسه وإنّما يحتاج إلى يدِ، ولم نعرف نحن أنه أذى يصيب اليد حتى علمنا قبل ذلك أنّ الأصل في اليد المعافاة والسلامة منه، وكذلك أمر الحديد وكلّ شرّ في عالمنا.

وبذلك، فإن الشرّ المحض ـ كما يذكر علماء المسلمين ـ (ليس حقيقة ذاتيّة.. فليس في وجودنا ما يمكن أن يُقال إنّه شر خالص، فليس هناك شر في الدنيا إلّا وهو خير من وجه أو أوجه أخرى.. فالمرض مثلًا، مؤذ للجسد من جهة، ومختَبرٌ للصبر وشاحذ للهمة وربما حتى مقو للمناعة من جهة أخرى.. وهكذا الأمور المكروهة عادة، لا يخلو منها نفع للإنسان) (1)

وبعد أن ذكر بعض التقسيمات المرتبطة بالشر، قال: (الشر لم يترتب إلا على عَدَم. وإلا فالموجود من حيث وجوده لا يكون شرًا ولا سببًا للشر.. فالأمور الوجودية ليست شرورًا بالذات بل بالعرض من حيث إنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة)

ثم وضح ذلك بعبارة أخرى، فقال: (الشرّ نسبي إضافيّ وهو وضع هذا التأثير في غير موضعه والعدول به عن المحل اللائق إلى غيره.. وهذا بالنسبة إلى الفاعل، وأمّا بالنسبة إلى المفعول فهو شر إضافيّ أيضًا، وهو ما حصل له من التألّم وفاتَه من الحياة، وقد يكون ذلك خيرًا له من جهة أخرى، وخير لغيره. وكذلك الوطء، فإنّ قوّة الفاعل وقبول المحل كمال، ولكنّ الشر في العدول به عن المحل الذي يليق به إلى محلّ لا يحسن ولا يليق. وهكذا حركة اللسان وحركات الجوارح كلها جارية على هذا المجرى. فظهر أنّ دخول الشر في الأمور الوجودية إنما

__________

(1) انظر ابن القيم، شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص 363.

كيف تناظر ملحدا؟ (399)

هو بالنسبة والإضافة لا أنّها من حيث وجودها وذواتها شر) (1)

وهذا لا يعني أن الشر مجرّد وهم، أو إنه أمر لا حقيقة له، فتلك دعوى غير صحيحة، وإنما قصدنا هو أنّ الشر (مجرّد نِتاج أنطولوجي عَرضي لخلق كائنات محدودة) (2)، فوجوده تابع لوجود كون غير متصف بالكمال، وليس هو أصلٌ لذاته، ومحدوديته في منعه الشيء من بلوغ مرتبة الكمال أو الاستواء والصلاح.

وبناء على هذا لا يصح اعتبار الشر من فعل الخالق، ذلك أنه ليس ذاتًا موضوعيّة وإنّما هو صفة انتزاعيّة، ولذلك لا تصحّ نسبة الشر إلى الله سبحانه، وإنّما هو صفة من صفات مخلوقاته.

وقد يُعترض على هذا بأنّ الشر نتاج عن مخلوقات الله، وبذلك فهو يعود إلى الله خالق هذه المخلوقات، والجواب على ذلك هو أنّ هناك فرقًا بين فعل الله الخالق مباشرة، وفعل مخلوق الخالق؛ فإنّ الله لا يريد لعباده إلّا الخير لكنّ العوارض قد تنحرف بذلك الخلق لتحوله شرا.

ومن الأمثلة على ذلك أن الله خلق لعباده الإرادة الحرة، والتي تجعلهم قد يختارون غير ما رضيه لهم، فالشر الذي يحصل لهم بسبب ذلك هو نتاج إرادتهم، والله سبحانه خلق إمكانية وجود الشرّ لا الشرّ ذاته.

قال ابن القيم معبرا عن هذا المعنى: (والعبد إذا فعل القبيح المنهيّ عنه، كان قد فعل الشر والسوء، والرب سبحانه هو الذي جعله فاعلًا لذلك. وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب؛ فجَعْلُه فاعلًا خيرٌ، والمفعول شر قبيح. فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها. فهو خير وحكمة ومصلحة وإن كان

__________

(1) المرجع السابق، ص 365.

(2) Adam Swenson، Privation theories of pain، Int J Philos Relig (2009) 66:139.

كيف تناظر ملحدا؟ (400)

وقوعه من العبد عيبًا ونقصًا وشرًا. وهذا أمر معقول في الشاهد، فإنّ الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر المكسور واللبنة الناقصة فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه كان ذلك منه عدلًا وصوابًا يمدح به. وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يذم به المحل. ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها، كان ذلك حكمة وعدلًا وصوابًا، وإنما السّفه والظلم أن يضعها في غير موضعها) (1)

ومن الأمثلة على ذلك أن الله تعالى يخلق خلقًا غير عاقل يفعل الشر، لكنّه شر من وجه لا من كل الأوجه؛ فالزلازل والبراكين مثلًا هي نتاج لقوانين فيزيائية بثّها الله في الأرض، وهي ليست شرًا في ذاتها، أولًا لأنّ الزلازل والبراكين قد تقع في منطقة ليس فيها إنسان ولا حيوان، فلا يتضرر منها أحد، وثانيًا، لأنّ هذه الزلازل والبراكين من أسباب تهيئة الأرض للعيش، فهي تنفّس عن الطاقة المخزونة في باطن الأرض، وتخرج الكثير من الثروات المعدنية إلى سطح الأرض ليستفيد منها الإنسان، وغير ذلك مما نعلم ومما لا نعلم. فالآثار السلبيّة لهذه الظواهر الكونيّة هي نتاج لهذا المخلوق في ظروف معيّنة غير دائمة، فالشر وجه لها وليس فعلًا لله، وإن كان الله سبحانه يريد من بعض هذه الظواهر ما يكرهه بعض خلقه لحكمة تربو على الشر الناتج عنها.

وبناء على هذا دلّ الكتاب والسنّة على أن الشرّ لا يضاف إلى الله تعالى لا وصفًا ولا فعلًا، ولا يتسمّى باسمه بوجه من الوجوه، وإنّما يدخل في مفعولاته بطريق العموم.

حتى إبليس نفسه ـ وهو من الإشكالات التي يستشكل بها في هذا الباب ـ فإنه ليس شرا محضا، بل إن النظر في قصته كما وردت في القرآن الكريم تبين أنّ الله تعالى لم يخلق إبليس ليضلّ الناس، وإنّما خُلق كما خلق البشر للعبادة، غير أنّه اختار أن يتكبّر على أمر الله بالسجود لآدم،

__________

(1) ابن القيم، شفاء العليل، ص 361.

كيف تناظر ملحدا؟ (401)

ورضي لنفسه طريق الضلالة والإضلال.

بالإضافة إلى ذلك، فإن لوجود إبليس، على ضلاله، حكمٌ جليلة يصعب استقصاؤها، أشار ابن القيم إلى بعضها بذكره (1):

1. أنّ وجود إبليس يكمل لرسل الله وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه، ومخالفته ومراغمته في الله، وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به منه، والإلجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده، فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه، ومعلوم أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه.

2. خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه، وسقوطه من المرتبة التكريمية إلى المنزلة الإبليسية، يكون أقوى، وأتم.

3. جعل سبحانه إبليس عبرة لمن خالف أمره، وتكبّر عن طاعته، وأصرّ على معصيته، كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه، أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه. فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه، وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه.

4. حال إبليس محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم، كما جعل أنبياءه ورسله محكًا لذلك التمييز، فأرسله الى المكلفين وفيهم الطيب والخبيث، فانضاف الطيب الى الطيب، والخبيث الى الخبيث.. واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان، فإذا صاروا إلى دار القرار، يميز بينهم. وجعل لهؤلاء دارًا على حدة ولهؤلاء دارًا على حدة، حكمة بالغة وقدرة قاهرة.

5. ليظهر الله كمال قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين، وذلك من

__________

(1) ابن القيم، شفاء العليل في مسائل القدر والحكمة والتعليل، ص 467 - 469.

كيف تناظر ملحدا؟ (402)

أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه فهو خالق الأضداد كالسماء والأرض، والضياء والظلام، والجنة والنار، والماء والنار، والحر والبرد، والطيب والخبيث.

6. خلقُ أحد الضدين من كمال حسن ضدّه، فإنّ الضدّ إنما يَظهر حسنه بضده، فلولا القبيح لم تُعرف فضيلة الجميل، ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنى.

ب ـ مصدر الشر ووجوهه

فالكثير من الشرور التي نراها في العالم مصدرها الإنسان نفسه، والحرية التي وهبت له، كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]

وبناء على هذا فإن العالم الذي يريد الملحد من الله أن يصنعه بديلا عن عن هذا العالم عالم غير كامل على الحقيقة، لأنه عالم فقد فيه الإنسان أهم خصيصة، وهي حرية الإرادة، فهو عالم جبري لا يعدو فيه قدر الإنسان ريشة تحرّكها الرياح أين شاءت وأنّى شاءت.

وقد علّق [ج. أس. ويل] على قول الملحد الشهير [هكسلي] بأنه لو عَرَضت عليه قوّةٌ عظمى منحةَ ألّا يفعل إلّا الحق، على شرط أن يتحوّل إلى كيان أشبه بالساعة؛ فسيوافق على هذا العرض لأنّ الحريّة الوحيدة التي لها قيمة، هي حريّة فعل الصواب، بقوله: (إنّ حريّة الساعة هي أبعد ما يكون عن أن تسمّى حريّة، إنّها ضرورة ميكانيكية مطلقة.. وافتراض هكسلي يلغي النتيجة التي أرادها؛ لأنه يهدر الشيء الصميمي في الشخصيّة البشرية، فالكائن غير القادر على أن يفعل الخطأ غير قادر أيضًا على أن يفعل الصواب، إنّه ليس بشرًا البتّة وإنّما هو آلة ميكانيكيّة الحركة. إنّه ليس روحًا حرّة قادرة على أن تتعلّم الرضوخ من آلامها، وإنّما هو روبوت مثل الإشارة الضوئية عند مفترق الطرق) (1)

__________

(1) J. S. Whale، The Problem of Evil (London: SCM Press، 1954)، pp.33 - 34.

كيف تناظر ملحدا؟ (403)

وبناء على هذا يعتبر الفيلسوف الأمريكي [ألفن بلنتنجا] من أبرز المدافعين عن حجّة الإرادة الحرّة في نقض دعوى لامنطقية الشر في عالم أنشأه إله حكيم ورحيم؛ فهو يرى أنّ ملَكة حريّة الإرادة عند الإنسان (مبرّر معقول لنفي عدم تساوق وجود الإله الكامل مع وجود الشر؛ فإنّ الشر الأخلاقي هو نتيحة لممارسة الإنسان الفعل النابع من إرادته الحرّة.. فالشر هنا ضريبة لازمة ومنطقيّة ومرضيّة لنعمة الإرادة الحرّة؛ وبذلك ينتقض الاعتراض على عدل الله أنّه يسمح للشر بالوجود.. إنّه لا معنى عقلًا وواقعًا أن نتحدّث عن كائن حر يملك إرادة الاختيأر ضمن الطبيعة البشريّة المحضة، ثم هو لا يفعل إلّا الخير) (1)

ويذهب إلى أبعد من ذلك، حين يقول: (إن حقيقة أنّ مخلوقات حرّة تزلّ أحيانًا، لا تحسب ضد وجود قدرة الله الكليّة ولا ضد خيريّته؛ لأنّه ليس بالإمكان أن يُمنع وقوع الشر الأخلاقي إلّا بمنع إمكانية الخير الأخلاقي)، أي إنّنا أمام استحالة عقليّة محضة، ملخصها أنّه يمتنع عقلًا الجمع بين وجود إرادة حرّة تفعل ضمن حريّتها، وعجز هذه الإرادة عن أن تفعل غير الشر.. كما أنّ منع هذا الشر يعني إلغاء حريّة الإنسان، وتحوّله إلى كائن موجّه غير مريد، وهو ما يؤول إلى منع تسمية فعله الميكانيكي الصواب، خيرًا؛ لأنّه ليس فعلًا اختياريًا.

ومثله ذهب الفيلسوف [مايكل بترسون] حين قال: (إنّه كلّما كانت الاختيارات أمام الإنسان أوسع، وكانت إرادته قادرة على انتقاء أحدها، كلّما كان الإنسان أقدر على خير أكبر وشر أبلغ، وكلّما ضُيّق على الإنسان في إرادة الفعل عنده؛ كلّما تقلّصت قدرته على فعل كلّ من الخير والشر) (2)

وبناء على هذا كله صاغ بعضهم هذه الأفكار بالصياغة التالية: (خلق الله سبحانه كلّ

__________

(1) Alvin Plantinga، God، Freedom، and Evil (Grand Rapids: Eerdmans، 1977.

(2) Michael Peterson، “The Problem of Evil: The Case against God’s Existence،” in Michael L Peterson; et al.، Reason and Religious Belief: an introduction to the philosophy of religion (New York: Oxford University Press، 1998)، pp. 126 - 127.

كيف تناظر ملحدا؟ (404)

أمر حسنٍ + من الأشياء الحسنة التي خلقها الله، الإرادة الحرّة + الإرادة الحرّة سبب لإمكانيّة وقوع الشرّ = إذن، المخلوق الذي خلقه الله خَيِّرًا من الممكن أن يفعل الشرّ) (1)

وعبر عن هذه المعادلة [هوبرت بوكس] بقوله: (يبدو أنّ السماح بوجود الشرّ الأخلاقي، هو أمر قابل للتفسير عندما يُعترف أنّ حياة الإنسان، امتحانٌ.. بما أنّ الله قد جعل الإنسان ينال عاقبة فعله، فإنّ تلك النعمة ينبغي أن تمنح له كجزاء لجهده، فليس هناك إذن مفر من أن يكون للإنسان إمكانية اختيار الخطأ.. فقط عندما نكون معرّضين لإمكانية الهزيمة، نكون مستحقين لجزاء النصر) (2)

ج ـ حقيقة الحياة وعلاقتها بالشر

ينطلق الملاحدة من تصورات مادية محدودة عن حقيقة الحياة، وكونها محصورة فيما نراه من مظاهر وصور، وما نعيشه من زمان محدود، ولذلك يشعرون بما يطلقون عليه [معضلة الشر] شعورا حقيقيا.. ولهم الحق في ذلك الشعور بناء على المعطيات التي يتصورونها عن الحياة..

فليس غريبا أن يطرح تلك المعضلة من يتصور أن الله تعالى خلق الإنسان ليعيش سنوات معدودة، لا تساوي شيئا في حساب الزمن، ثم يبتليه في تلك السنوات المحدودة بألوان من البلاء تضيق بها نفسه، وكل الفضاء المحيط به..

لكنه إن علم أن هذه الحياة ليست هي الحياة الحقيقية، وأن هناك حياة أخرى، أكبر وأوسع، وأنه في حال نجاح الإنسان في الاختبارات التي ابتلي بها، سينال السعادة المطلقة التي لا يعتريه فيها أي ألم أو شر أو مصيبة، فإنه لن يطرح هذه المشكلة أصلا، بل لن تخطر على باله،

__________

(1) Norman L Geisler، If God، Why Evil?، p.29.

(2) Hubert S. Box، The Problem of Evil (London: The Faith Press، 1934)، p.56.

كيف تناظر ملحدا؟ (405)

بل إنه يستهين بكل ما يراه من آلام طمعا في السعادة التي تنتظره، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض) (1)

وقد عبر بعضهم عن هذا المعنى، فكتب ـ تحت عنوان [وماذا بعد الموت!]ـ يذكر تجربته الشخصية، فيقول: (أن يسأل الإنسان نفسه، وهو جالس في بيته بين أهله وأطفاله يأكل طعامًا لذيذًا أو يشاهد برنامجًا مسليًا، أو يستلقي مرتاحًا على سريره الدافئ، أو يتبادل الحوار الشيق مع أصدقائه في ناد أو مقهى.. ومن حولهم تتمخض حركة الحياة الدائمة عن الأمل والبلادة والمتعة والنسيان.. ليس كمن يسأل نفسه، وهو يلتفت فجأة في أعماق الظلام، الى قبر جديد، وحيد، نبت قبل دقائق في قلب الصحراء، وغادره أقرب أصدقائه وأشد محبيه) (2)

ثم راح يطرح تأملاته في ذلك قائلا: (ترى.. لو أن دينًا من السماء لم ينزل.. ودخل في عقول الناس، على مدار التاريخ، خرافة الملحدين والعدميين، من أنه لا حياة بعد هذه الحياة، لا بعثًا ولا حسابًا ولا جزاءً.. وأن نهاية الإنسان المطلقة تجيء عندما يسكت قلبه عن الخفقان ويوارى التراب، لكي ما يلبث أن يأكله الدود ويتحول بعد قليل إلى تراب يستعدّ لاستقبال الحفنات الجديدة من التراب الذي لا يكف عن الانقطاع.. إن أيّ مسلم لا يستطيع بفطرته وبداهته ويقينه وإيمانه أن يتصور موقفًا عدميًا كهذا، إنه بمجرد تصوّره يحس بالاختناق، ويستنفر كل طاقاته النفسية للخلاص من المأزق واستنشاق الهواء الصافي النقي.. إنه لا يفرّق أبدًا بين كابوس لا يرحم يدهمه في المنام وبين إحساس عدمي قاتم يمر بخاطره في المقبرة)

ثم ذكر الآثار الإيجابية لذلك الشعور المؤلم، فقال: (وأكثر من هذا، فإن المسلم يستمد

__________

(1) الترمذي كتاب الزهد رقم (2403) عن جابر وقال هذا حديث غريب.

(2) عماد الدين خليل، آفاق قرآنية، بيروت: دار الكتب العلمية، 1982 م، ص 291 - 295.

كيف تناظر ملحدا؟ (406)

من موقف الفراق هذا ثقة أكبر بعقيدته التي منحته الأمل الكبير بالبعث والنشور والحساب، وبدينه الذي علّمه دائمًا أن الموت ليس سوى نقلة، نقلة فحسب إلى دار أخرى غير هذه الدار وإلى حياة أخرى غير هذه الحياة.. ويتملكه إحساس عميق بالرثاء والاحتقار لكل أولئك الذين سعوا إلى تزييف الحياة وبترها باعتقادهم أن الإنسان يحيا مرة واحد فحسب ثم يأكله الدود ويلفّه التراب، ولا شيء وراء ذلك.. وما أكثر الذين ذهبوا إلى المقابر لتشييع صديق أو قريب، وهم لا يملكون إيمانًا ولا يقينًا، وإذا بنازلة الموت وبمشهد حصر الميت بين جدران الحفرة الأربع، وإهالة التراب عليه، تحرك أفئدتهم الميتة، وتهز عقولهم الكسولة، وتغسل عن نفوسهم الصدئة ما علق بها من رين وغبار.. فيغادرون المكان وهم أشد إيمانًا وأعمق يقينًا.. وفرق وأي فرق بين إنسان مؤمن يرجع من المقبرة وهو يحمل أملًا كبيرًا وبين إنسان ملحد يخنقه المشهد المحزن ويزيده كآبة وضياعًا)

ثم ذكر الدور الذي يقوم به الإيمان للتخفيف من الآلام الناتجة عن ذلك المشهد المؤلم وغيره، فراح يتساءل قائلا: (ثم ماذا عن العدل النهائي المطلق! لقد اغتيل أربعة من الأبرياء.. وليس بمستبعد أن يفلت القتلة من طائلة القصاص.. وما قيمة الحياة.. وما قيمة الإنسان نفسه لو ترك مصيره هكذا معلقًا على عدل أرضي لا يملك في معظم الأحيان الأداة المضمونة لتحققه ونفاذه؟!)

ثم أجاب عن أسئلته بقوله: (إن الإسلام، ذلك الدين القيّم يمنحنا الجواب في كلتا الحالتين.. ولو لم يكن الدين سوى هذا الجواب لكان في ذلك وحده الدافع الأكبر لالتزامه، ومعايشته، وتعشّقه، والتشبث به حتى آخر لحظة من حياتنا التي يعلمنا الإيمان أنها لن تنقطع، ولن تزول، ولن يضيع حق من حقوقها بالصدفة أو العبث أو الفوضى)

ثم راح يخاطب قراءه يطلب منهم أن يعيدوا تجربة ما حصل له، فقال: (جرّبوا بأنفسكم ذلك.. اختبروا صدقه.. ليس في بيوتكم ونواديكم.. ولكن في المقابر.. لحظة مواراة جثة صديق

كيف تناظر ملحدا؟ (407)

أو قريب.. التفتوا إليها بعد دقائق من مغادرتكم المكان.. وحيدة.. مهملة.. منقطعة في الصحراء.. أمن الممكن أن تكون هذه هي نهاية الإنسان؟!)

وما ذكره هذا الباحث في تجربته الشخصية الإيمانية شهد به الملاحدة أنفسهم، وخاصة عندما ارتفعت عنهم كل تلك الكبرياء التي كانت تحول بينهم وبين الاعتراف بالحقيقة..

فهذا زعيم فلاسفة العبثية، وأحد رؤوس الإلحاد في القرن العشرين [جون بول سارتر]، يقول على فراش الموت: (أنا لا أشعر أنني نتاج للصدفة، أو ذرّة غبار في الكون، وإنما شخص متوقّع وجوده، ومجهّز، ومتصوَّر.. باختصار، كائن لا يقدر إلا خالق على أن يضعه هنا) (1)

ولذلك كان الإلحاد سببا من أسباب الآلام الكبرى التي تعتري الإنسان نتيجة عدم وجوده لأي وسيلة من وسائل المواساة والعزاء، أو كما عبر على ذلك النورسي بقوله: (إن في الوحدانية سهولة ويسرًا بدرجة الوجوب، وفي [الإلحاد] صعوبة ومشكلات بدرجة الامتناع) (2)

د ـ ضرورة وجود الشر والمقدار المسموح به

عند مناظرة الملاحد، وتبيين أن الشر له وجوه متعددة، فهو شر وألم من وجه، وخير ونفع من جهة أخرى، يطرح تساؤل جديد عن سر ذلك.. ولماذا لم يخلق الله عالمًا أقلّ شرًا؟

والجواب عن ذلك هو أن الاعتراض على هذا يستدعي إجابتنا على تساؤلات كثيرة، منها التساؤل عن امتلاكنا القدرة على تحديد الحد الأدنى من الشر المقبول.. وهل نحن نعترض على الشر الزائد، أم على كلّ صورة قصوى موجودة للشر؟.. وهل الإزعاج الملازم للألم الناتج عن الشر، بلا حكمة؟

والإجابة على هذه التساؤلات توصلنا إلى أننا واقعون تحت أسر عجز معرفي عن تحديد

__________

(1) Thomas Molnor، National Review، 11 June 1982، p.677..

(2) النورسي، شعاعات، الشعاع الثاني.

كيف تناظر ملحدا؟ (408)

الحد الأدنى المطلوب من الشر في عالمنا؛ أو كما قال الفيلسوف [فان إنواجن]: (التساؤل عن عدد الشر العظيم المسموح به المتوافق مع خطة الله هو أشبه بطرح سؤال يقول: ما هو الحد الأدنى من حبات المطر التي من الممكن أن تنزل في إنجلترا في القرن التاسع عشر بما يتوافق مع طبيعة أنّ إنجلترا كانت بلدًا خصبًا في القرن التاسع عشر؟)، فوقائع الشر كحبّات المطر في عالم واسع، تعجز الحكمة البشرية عن حصر المطلوب منها.

ومثله طرح الفيلسوف [بروس لِتل] إشكالية منطقيّةً حول الاعتراض بقضيّة (الشر المنكر الذي لا يليق بالحياة البشريّة التي تتوافق مع حكمة الربّ)، ويتمثّل هذا الإشكال في: (تعريف الشر الذي يعتقد الإنسان أنّه شديد؛ ولذلك فهو يتعارض مع منطق الرحمة الإلهية)

وقد افترض [بروس لِتل] لبيان ذلك أن نرمز للشرّ بحرف (أ)، فتكون درجات الألم تصاعديًا على الشكل التالي: (أ+1) و(أ+2) و(أ+3).. وكلّما عَظُم الرقم كان الألم أشدّ. ولنفترض أنّ أقصى شرّ يتصوّره الإنسان هو (أ+5). ولذلك يطلب الإنسان أن يتمّ إلغاء (أ+5)، وهنا يتدخّل الربّ لمنع حدوث مثل هذا المستوى من الشّر في حياة الإنسان، وعندها سيكون أقصى الألم (أ+4).. وفي هذه الحال سيعترض نفس المشكّك لأنّه يراه في ذهنه أقصى ألم متصوّر، ويرى أنّ الحكمة الإلهية تقتضي زواله.. ثم يكون سقف الألم (أ+3)، ويعترض المشكّك مرّة أخرى على سقف الألم، لأنّ حسّه العاطفي يراه أكبر منغّص على سعادته.. وهكذا يستمرّ الاعتراض حتّى لا يبقى هناك [شر!].. ومآل اعتراضِ من ضاقت نفسه بالألم الذي ينغّص وجوده هو إلزام الربّ أن يرفعه من [دنيا الامتحان] إلى جنّة الجزاء، ليغيّر خطّة الوجود الإنساني، لمجرّد لجاجة النفس الإنسانيّة الطماعة التي لا تشبع، والتي كلّما منحت خيرًا طلبت المزيد، وكلّما رُفع عنها شر طلبت حطّ غيره عنها.

أما [س. إس. لويس]، فقد تساءل عما يريده المعترض في دخيلة نفسه، ثم أجاب بقوله: (الذي يمكن أن يرضينا حقًا [كبشر] هو إله يقول على أيّ شيء نحب أن نفعله: ماذا يهم، طالما

كيف تناظر ملحدا؟ (409)

أنتم راضون وقانعون؟.. إننا في الحقيقة لا نريد أبًا في السماء قدر ما نريد جدًا في السماء، شيخًا عجوزًا محسنًا، هو كما يقولون (يحب أن يرى الشباب يستمتعون)، وخطته لأجل الكون هي ببساطة أن يُقال فعليًا في نهاية كلّ يوم: (لقد استمتع الجميع بوقت طيب).. إنّ الإنسان حين يضجّ من كلّ ألم وتعب ومسؤولية، هو يبحث في الحقيقة عن إله يوفّر له ملعبًا يمرح فيه، ومَعِينًا للّذات التي لا ترتوي، ثم ينال بركة الإله ورضاه! إنه يبحث عن [خادم] أو [يدٍ مصفقة!])

بالإضافة إلى هذه الأجوبة، فإن النظر العلمي في بنية الإنسان الماديّة يكشف يومًا بعد يوم أنّ الله سبحانه لم يترك من الألم في حياة الإنسان إلّا أقلّ القليل، وأنّه سبحانه قد زوّد الإنسان بموانع بيولوجيّة كثيرة تقيه الألم، وكثير منها، بل كلّها مثيرة للدهشة عند التدبّر، ولو أنّ بعضها تخلّف؛ لتحوّلت حياة الإنسان إلى جحيم متواصل.

ومن الأمثلة على ذلك ما يكشفه مرض [دوار الحركة]، والذي قد يبدو مؤلما وشرا، لكن أشهر الفرضيات التي تشرح لنا سبب حدوثه تذكر أنه آلية دفاعية للجسم ضد سموم عصبية، حيث تقوم الباحة المنخفضة الموجودة في الدماغ بتحفيز عملية التقيؤ عند اكتشاف هذه السموم.

وهكذا، فإن النظر التدبّري في الجهاز العصبي للإنسان حجّة للقول إنّ الله سبحانه قد رفع الكثير من الأذى الذي تقتضيه السنن الكونيّة لو جرت بعفويّة ضمن قوانينها الرتيبة، ذلك أنه يمثّل شبكة اتّصال داخلية تعينه على التواؤم مع البيئة المحيطة به، وهو جهاز حساس، ولذلك جعل الله أهم عناصره وأكثرها حساسيّة داخل الجمجمة، محمية بهذه العظام الصلبة، وداخل العمود الفقري لحمايتها من الصدمات.. وهو فوق ذلك كله آلة صممت ليكون من أهم وظائفها حماية الإنسان من أذى العالم الذي يحيط به.

وقد دلت الكشوفات العلمية المرتبطة بهذا الجهاز على قدرته على إسكات صوت الألم الصارخ عند الحاجة؛ ذلك أن الجهاز العصبي الطرفي قد يرسل رسالة الألم إلى النخاع الشوكي

كيف تناظر ملحدا؟ (410)

الذي يوجهها إلى الدماغ لتفسيرها كألم مزعج، لكنّ الدماغ يقوم بتحريف الرسالة حتى لا تتحوّل إلى مفهوم ألميّ، وهو ما يظهر في أرض المعركة أو عند أهل الرياضات الروحية.

ومن وسائل الرحمة الإلهية المخففة للألم، والتي تدل على علم الله بألمنا، وفي نفس الوقت علمه بكيفية تخفيفه، مادة [الإندروفين] الناقلة للإشارات بين الأعصاب، وهي موجودة في أكثر من موضع في البدن، ويتمّ فرزها تبعًا للمؤثرات الخارجية، وهي تتعامل أساسًا مع المستقبلات في الخلايا الموجودة في الدماغ.. ودورها هو حبس الألم وجعلنا نحس بالمتعة بأنواعها.. بالإضافة إلى إشعارنا أنّنا أخذنا نصيبًا كافيًا من الأمور الممتعة.

أما التساؤل المنجر عن هذا، وهو تلك الآلام الشديدة التي لا تطاق، ولا تخفف، فمع إقرارنا بوجودها إلا أنه ـ كما يقول الطبيب (براند) ـ لا يمثّل غير 1 بالمائة من الآلام التي نشعر بها، أما الآلام الأخرى فمن الممكن علاجها بأكثر من سبيل.

وقد ذكر الفيلسوف [سونبرن] إلى أنّ الله برحمته قد خفّف الألم الشديد على الإنسان بوجهين عظيمين.. أحدهما: أن الألم إذا وصل إلى درجة تفوق طاقة الإنسان على التحمّل؛ يفقد الإنسان وعيه، ويذهب معه شعوره بالألم.. والثاني: أن الموت ينهي آلام الإنسان، خاصة إذا أصاب الإنسان الهرم، وضعفت مناعته عن تحمّل الأمراض والأوجاع.. وبذلك يكون الموت نفسه ـ والذي قد نتصوره شرا محضا ـ رحمة إلهية.

ومن الأجهزة التي أودعها الله فينا لتقوم بدورها في تخفيف الآلام عنا ما أودعه في الجهاز المناعي الذي يمكن اعتباره جيشا شديد التنظيم والتنسيق، ليس له من دور سوى حماية أجسامنا من هجمات الأعداء القادمين مثل البكتريا والفيروسات وغيرها، وهو لا يكتفي بالمواجهة فقط، وإنما يقوم بتخزين معلومات دقيقة عن هذه الأجسام حتّى تكون زادًا لردّ صولتها إذا عادت مرّة أخرى.

وقد ذكر الطبيب الإنجليزي [إدوارد جِنّر] مكتشف التلقيح الذي يراد به تكوين مناعة

كيف تناظر ملحدا؟ (411)

طارئة للبدن من أمراض مخصوصة، هذا المعنى بإعجاب إيماني شديد قائلا: (أنا لست مندهشًا أنّ الناس ليسوا ممتنين لي، وإنما أعجب أنهم غير ممتنين لله لأجل الخير الذي سخّرني كأداة لتبليغه لرفقائي من البشر!)

وهكذا لو نظرنا إلى الظواهر الطبيعية المختلفة، فإننا نجد الرحمة الإلهية تكتنف كل مظهر، لتخفف من الآلام التي قد يتسبب فيها، فالنيازك التي تصيب الأرض بصفة مستمرة منذ زمن بعيد لم تؤثّر في الوجود البشري على الأرض، رغم أنّها كافية وحدها أن تنهي حياتنا في لحظة واحدة لو نزلت في المناطق الآهلة بالسكان، ودون أن يخفف الغلاف الجوي من قوّتها، حجمًا وسرعة.. وهكذا الزلازل، والتي يخبرنا العلم أنّ الجزء الأعظم منها يقع في البحر، فلا يصيب الإنسان منها شيء.

هـ ـ سبب عدم كون الشر الضروري وهميا

وهو تساؤل وجيه، وقد قرره بعضهم بقوله: إذا كان في الشر ضرورة تفيد الإنسان في تنمية شخصيّته وتهذيبها وتحقيق كمال الإنسانيّة فيها؛ فلِمَ لم يخلق الله عالما يكون فيه هذا الشر غير مؤذ؛ وذلك بأن يكون الإنسان، مثلًا، مرتبطًا بآلات التجربة دون علم منه، ويعيش مع هذه الآلات حالات التجربة والاختبار والمعايشات التي نعيشها في عالمنا، دون أن يناله أذى، لأنّ الشر هنا مجرّد وهم برمجي في هذه الآلات؟

وقد أجاب الفيلسوف [سنايدر] على هذا الإشكال بقوله: (إنّ تحويل هذا الشر من وجود موضوعي إلى مجرّد إيحاء آليّ مبرمج، قد ينمّي لنا شخصيتنا في ذاتها، لكنّه سيفقد العالم خيرًا كثيرًا.. ففي ذلك الحين، لن يُعين أحد أحدًا، ولن يُعان أحد من أحد.. ولن يتعاطف أحد مع أحد، ولن يتُعاطف مع أحد.. ولن يغفر أحد لأحد، ولن يُغفر لأحد من أحد.. وحينها سيختفي التعاطف والتآلف بين الناس.. فلن يعوّض أحد أحدًا، ولن يُعوَّض أحد من أحد.. ولن يعجب أو يمجّد أحد أحدًا لأنه يسعى لهدف نبيل، ولن يُمجَّد أحد لذلك.. ولن يهب

كيف تناظر ملحدا؟ (412)

أحد من ماله أو وقته أو موهبته شيئًا للمحتاجين، ولن يُوهب أحد شيئًا من ذلك.. باختصار، إذا أضحت تجربتنا لتنميّة شخصيتنا مجرّد توّهم حتى لا نشعر بوخز الألم؛ فإنّ عالمنا في هذه الحال سيكون ضيقًا جدًا، خُلْوًا من كلّ اتّصال حقيقي مع الغير)

ثم ختم بهذه النتيجة التي عبر عنها بقوله: (يبدو إذن أنّه إذا أراد الله أن ينشئ فينا القدرة على تطوير ذواتنا وتجربتها وتأكيدها في سياق إنشاء البشر علاقات في ما بينهم، فلا بد أن يَسمح بالشر)

ذلك أن العالم الذي يكون في الشر هينًا ليّنًا خفيفًا حتى إنّ الإنسان لا يشعر بوكزه ووخزه، ولا يؤثّر في فعله، هو عالم ليس بإمكان أحد فيه أن يؤذي أحدًا؛ عالم ليس فيه لإرادة أحد أو عمله أثر حقيقي، وجود وهمي، تتحوّل فيه ذواتنا ذاتها إلى وهم.. وطلب شر وهميّ في حياة الإنسان الذي يحمل المواصفات الأرضيّة، هو في الحقيقة طلبٌ لعالمٍ وهمي، وحياة وهميّة.

و ـ دور الألم في التوجيه والتربية وتطوير قدرات الإنسان

فالشر، أو الألم الذي يشعر به الإنسان عند كل حادثة له دور كبير في ترقيته وتطويره وجعله أكثر إنسانية ورحمة، وبذلك يكون الألم آلة من آلات السير بالإنسان للتحقق بإنسانيته في مستوياتها الرفيعة.

وحتى نقرب هذا الأمر، نذكر أن الجهاز العصبي المعقّد الذي لا يزال العلم يسعى لكشف طبيعته وخريطته، يدل على أنّ إحساسنا بالألم ليس مجرّد حدث عبثي ناتج عن ضغط من الداخل أو الخارج، وإنّما هو جرس إنذار ينبّه الإنسان إلى أمر يدبّ على لحمه، أو يجري في دمه.

فضغطة الصدر قد تكون إنذارًا مسبقًا بجلطة، ووجع السن علامة على نخر السوس، وارتخاء المفاصل تنبيه لارتفاع السكر.. واستغناؤنا عن هذه الآلام يعني إطلاق يد المرض تعبث بداخلنا دون أن ندري، وإفساحٌ لميدان أجسادنا تخترقه الفيروسات أنّى شاءت.

كيف تناظر ملحدا؟ (413)

ومن الأمثلة التي يذكرها العلماء في هذا الباب لتقريب هذا المعنى: أنّ فقدان الأصابع بسبب مرض الجذام لا يعود إلى الأثر المباشر لهذا المرض على الأطراف، وإنّما لأنّ المريض يفقد الإحساس في هذه المناطق مما يسمح للأمراض بأن تجد لها مجالًا للتأثير السلبي دون إزعاج من المنظومة العصبيّة التي تزرع الألم لتحصد المعالجة العاجلة.

ولذلك فإن الألم أحيانا كثيرة يكون هو السبب في حفظنا وترقيتنا وتربيتنا، وقد يحتاج أحيانا كثيرة ـ ليؤدي هذا الدور المهم ـ أن يكون فوق قدرتنا الاعتياديّة على التحمّل، ذلك أن الإهمال والاستصغار لكثير من عوارض الأبدان طبعٌ فينا، ولو تُركنا إلى ألم بسيط لا يهزّنا ويزعجنا، لغفلنا عن كثير من فواتك الأمراض التي تثخن في البدن وتزهق الروح.

ولذلك ـ أيضا ـ يحتاج الألم حتى يؤدي دوره في حفظنا وترقيتنا أن يكون خارجًا عن سيطرتنا.. ذلك أن الألم الذي ينغّص علينا نومنا أو يفسد علينا لذّة الأكل، هو رسالة جادة من البدن إلى وعينا حتّى لا نتراخى في الأخذ بأسباب العلاج، ولو أننا استطعنا أن نكف هذا الألم بضغطة زر كما يُكَفُّ صوت جرس المنبّه، لما تمكن الألم من أداء دوره فينا.. فنفوسنا أبلد من أن تُسلم إلى نظام مترف في إدلال الإنسان عند هجمة المرض.

وقد ذكر الدكتور [بول براند] في كتابه [هِبة الألم] هذا المعنى، فقال: (لقد احتاج الأمر إلى سنوات كثيرة من البحث لجمع كامل الصورة.. يَستعمل الألم مجموعة واسعة من نبرات المحاورة. يهمس إلينا في المراحل الأولى: نشعر في اللاوعي بعدم ارتياح بسيط أو حاجة لتغيير الوضعيات على الفراش أو تعديل لطريقة الخطو عند الركض. ثم يتحدّث إلينا الألم بصوت أعلى عند تنامي الخطر: تزداد حساسية اليد بعد فترة من كنس أوراق الشجر، أو تتقرّح الرجل في الحذاء الجديد. ويصرخ الألم عندما يصبح الخطر عظيمًا: يُلزم المرء أن يعرج أو حتى يتوقف تمامًا عن الجري)

والألم بذلك يقوم بدور الطبيب الحكيم الناصح الرفيق، الذي لا يتدرّج إلى الوجع

كيف تناظر ملحدا؟ (414)

الأحدّ إلّا عندما تكون الحاجة أشدّ إلى الانتباه والتفاعل الواعي مع الأذى الداهم للبدن.

وقد ذكر هذا الطبيب تجربته كجراح مع مرضى الجذام ببيان كيف يؤول فقدان المرضى للإحساس إلى أن تتلف أطرافهم بالبتر، وربّما يصابون بالعمى لغياب الحافز الفيزيولوجي لأن يرمشوا، فقال: (طَرْفُ العين اللاإرادي هو عجيبة من عجائب الجسم البشري، لا يوجد جهاز استشعار للألم أكثر حساسية من ذاك الذي على سطح العين)

وهكذا ذكر قيمة السعال ودور الآلام التي تعتيرنا خلاله، فقال: (يكمن الخطر للإنسان الذي لا يشعر بالألم، في كل شيء.. الحنجرة التي لا تشعر البتة بالدغدغة لا تُستثار لتسعل وتخرج البلغم من الرئة إلى الحنجرة، ولذلك فإنّ من لا يسعل أبدًا مهدد بمرض الالتهاب الرئوي)

ويعرض خلاصة تجربته مع الألم وموقعه في حياة الإنسان، فيقول: (لقد تعلّمت أن أميّز بصورة جوهرية بين أمرين: الشخص الذي لا يشعر بالألم هو إنسان توجّهه مهامه في الحياة، أمّا الشخص الذي يتمتع بنظام سليم لاستشعار للألم، فهو مُوَجَّه ذاتيًا.. هذا الذي لا يشعر بالألم من الممكن أن يَعرف بعلامة ما أنّ فعلًا ما هو مؤذٍ، ولكنه إذا أراد ـ حقيقة ـ أن يأتي به، فإنه سيفعل ذلك لا محالة. أمّا الذي يستشعر الألم، فإنه سيمتنع عن الفعل لأجل خوفه من الألم مهما كانت رغبته في أن يأتي بالفعل عظيمة، لأنّه يعلم في أعماق نفسه أنّ حفظ نفسه أجلّ من أيّ شيء يريد أن يفعله)

وما يقال في عالم الجسد يقال في عالم الروح، ذلك أن التنبيهات والآلام التي تعتري الإنسان بسببها لها دور كبير في تنبيهه وتربيته وترقية روحه ليعيش عالمه الحقيقي الذي أراده الله له، لا عالمه المزيف الذي أراده لنفسه.

وقد ذكر العقاد في معرض إجابته على معضلة الشر هذا المعنى، فقال: (لنرجع إلى المقابلة بين هذا العالم وبين الذى يتخيله أولئك المعترضون وافيًا بالقصد أو جديرًا بحكمة الله.. فإن

كيف تناظر ملحدا؟ (415)

كان هو أقرب إلى التصوّر فقد صدقوا وأصابوا، وإن كان العالم الذى نحن فيه هو الأقرب إلى التصوّر فقد سقط الاعتراض.. فما العالم الذى يتخيّل المعترضون أنّه أجدر من عالمنا هذا بحكمة الله وقصد المدبّر المريد؟)

ثم أجاب على هذا السؤال بقوله: (هو عالم لا نقص فيه فلا نمو فيه، ولا آباء ولا أبناء، ولا تفاوت فى السن والتهيؤ والاستعداد، ولا تقابل فى الجنس بين الذكور والإناث، بل جيل واحد خالد على المدى لا يموت ولا يتطلّب الغذاء والدواء.. عالم لا نقصَ فيه فلا حدود فيه، وكيف يُوجد الناس بلا حدود بين واحد منهم وأخيه؟ بل لماذا يُوجد الألوف ومئات الألوف نسخة واحدة لا فرق فيها بين أحد وأحد، ولا محل فيها للاختلاف.. إذ كان الاختلاف يستدعي نقص صفة هنا ووجودها هناك؟.. إذن يُخلق إنسان واحد يُحقق معنى الإنسانية كلّها ولايكون فيه نقصٌ ولا تعدد ولا تكون له بداية ولا نهاية.. فذلك إذن إله آخر مستمتع بكل صفات الكمال والدوام!.. عالمهم المتخيل هو عالم لا حرمان فيه. فلا ينتظر فيه الحي شيئًا يجيء به الغد ولا يشتاق اليوم إلى مجهول.. بل ماذا نقول؟ أنقول الغد واليوم؟ ومن أين يأتي الغد واليوم فى عالم لا تغاير فيه ولا تنوّع فى التراكيب والحركات؟ إنما يأتى اليوم والغد من تغاير الكواكب بالحركة والضخامة والدوران، فإذا بطل التغاير والتركيب فلا شمس ولا أرض ولا قمر ولا أيام ولا أعوام.. هو عالم لا ألم فيه ولا اجتهاد فيه، ولا اتّقاء لمحذور ولا اغتباط بمنشود.. هو عالم لا أمل فيه ولا محبة ولا حنان ولا صبر ولا جزع ولا رهبة ولا اتصال بين مخلوق ومخلوق، لأن الاتصال تكملة ولا حاجة إلى التكملة بأرباب الكمال.. هو عالم لا ظلم فيه، فلا فضيلة ولا رذيلة، لأنّ الفاضل هو الإنسان الذي يعمل الخير ولو شقي به ويتجنب الشر ولو طابَ لهُ مثواه. فإذا ضمن الجزاء العاجل على أعماله أولًا فأولًا فلا فضل له على الشرير. وإذا وجد العالم وفيه أشرار يجزون أبدًا بالعقاب وأخيار يجزون أبدًا بالثواب فذلك ظلمٌ أكبر من هذا الظُلم الذي يأباه المنكرون للقصد والتدبير.. هو عالمٌ لا فرق فيه بين الأبد

كيف تناظر ملحدا؟ (416)

الأبيد واللحظة العابرة، لأنك تريد في كل لحظة عابرة من لحظاته أن تجمع حكمة الآباد، وأن تكون مقاصدها هي مقاصد الكون الذي لا تعرف نهاية طرفيه، فلا انتظار لبقية الزمن ولا مُوجب للانتظار، ولن يحيا المخلوق المحدود بغير انتظار إلّا كانت في حسّهِ لونًا آخر من ألوان الفناء) (1)

وهكذا عبّر الفيلسوف [أوغسط أُوت] في كتابه عن [مشكلة الألم] عن موقع الألم من الحياة العدميّة التي صنعها عقل الملحد، فقال: (إذا كان الله مجرّد اسمٍ عابثٍ، إذا كان كلّ شيء ينتهي بالنسبة لنا بالموت، إذا كان كلّ أمل في وجود أفضل هو وهم، فلنا أن نتساءل إن كانت الحياة تستحق أن نعيشها. نحن نتحدّث عن التطوّر، ونرغب في ازدهار مستمر لشؤون الإنسان، وتكيّفًا كاملًا بين الملكات الإنسانيّة وطبيعة العالم الخارجي، ولكن هل لهذه الآمال البعيدة، وربّما المضلّة، أن تعوّض الآلام الحاضرة؟ وحتّى لو تحقّقت، فهل ثمراتها الموعودة تدوم أكثر من لحظة؟) (2)

ز ـ الآفات الطبيعية وعلاقتها بالعدل والرحمة الإلهية

أو ما يعبر عنه بـ[مشكلة الشر المادي]، وهي تنقسم إلى نوعين: آفات للإنسان فيها يد، مثل تلويث البيئة وإهلاك الحرث.. وأخرى ليس له عليها سلطان، مثل الزلازل والبراكين والمجاعات.

وسيقتصر حديثنا في هذا الوجه عن الآفات الطبيعيّة التي ليس للإنسان فيها يد؛ ذلك أنا قد تعرصنا لغيرها في الوجه السابق.

وقد أشارت النصوص المقدسة إلى الكثير من الحكم المودعة في ضمن هذا النوع من الآفات منها أن الله تعالى جعل بحكمته هذه الدار محلا لاختبار عباده، لينزل كل واحد منهم ـ

__________

(1) العقاد، الله، كتاب في نشأة العقيدة الإلهية، بيروت: المكتبة العصرية، د. ت.، ص 225 - 227.

(2) A. Ott. Le problème du mal (Paris: Fischbacher، 1888)، pp.5 - 6.

كيف تناظر ملحدا؟ (417)

في النشأة الآخرة ـ المحل الذي ينسجم مع طبيعته، وتبرزه أهليته، فلذلك كانت هذه الدار هي دار التمييز التي يتميز فيها المحسن من المفسد، والراضي من الساخط، كما قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (لأنفال:37)، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:142)

وقد أشار بعض الصالحين إلى هذا المعنى حين دخل عليه جماعة يزورونه، فجمع بين يديه حجارة، ثم قال: من أنتم؟ فقالوا: محبوك، فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا فقال: ما بالكم ادعيتم محبتي، إن صدقتم فاصبروا على بلائي.

وقال آخر: كنت نائما عند بعض الصالحين، فانبهني فقال لي: (يا فلان، رأيت كأني قد وقفت بين يدي الله تعالى فقال لي: خلقت الخلق فكلهم ادعى محبتي، وخلقت الدنيا فهرب مني تسعة أعشارهم، وبقي معي العشر، وخلقت الجنة فهرب مني تسعة اعشار العشر، وبقي معي عشر العشر، فسلطت عليهم ذرة من البلاء، فهرب مني تسعة اعشار عشر العشر، فقلت للباقين: معي، لا الدنيا اردتم، ولا الجنة اخذتم ولا من النار هربتم، فماذا تريدون، قالوا: انك تعلم ما نريد، فقلت لهم: فاني مسلط عليكم من البلاء بعدد انفاسكم ما لا تقوم له الجبال الرواسي اتصبرون؟ قالوا: اذا كنت انت المبتلي لنا، فافعل ما شئت فهؤلاء عبادي حقا)

وقال آخر: (الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه)

وبناء على هذا يخبرنا القرآن الكريم عن المواقف المختلفة من أنواع البلاء، وتمييز الخلق على أساسها، ففي موقف الخوف مثلا يخبر تعالى عن صنفين من الناس: أما الأول، وهو الناجح في الاختبار، فيذكر وقوفه كالطود الأشمّ أمام كل المخاوف، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل

كيف تناظر ملحدا؟ (418)

عمران:173).. وأما غيرهم من الجبناء الساقطين في الاختبار فقد قال تعالى في شأنهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} (المائدة:52)

وقد أخبر تعالى عن الناجحين في الاختبار بأنه من المنعم عليهم، قال تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:23)، وهذا في مقابلة الساقطين الجبناء الذين قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (المائدة:22)، وقالوا بكل تبجح: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)

وهكذا في كل المواقف، نجد المؤمنين الصادقين الناجحين فيما أنعم به عليهم من البلاء، ونجد الراسبين الساقطين في الامتحان الذين قال تعالى في شأنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11)

فهذا الخاسر لا يعبد الله في الحقيقة وإنما يعبد أهواءه التي قد تتفق أحيانا مع ما يأمر به الله، فيتوهم الخلق أنه يعبد الله، فلذلك يبتلى بما يظهر حقيقته، ويكشف عن سريرته.

بعد هذا البيان القرآني الذي ليس بعده بيان، نذكر بعض ما أشار إليه العلماء في معرض ردهم على الإشكالات المرتبطة بهذا، ومنها ما عبر عنه [إيونج]، أستاذ الأخلاق في جامعة كامبردج بقوله: (وإنّها لحقيقة واقعة أنّ ثمّة خيرات لا تأتي بغير محصول الشر، فكيف تتسنّى الفضيلة مثلًا بغير المغريات والعوائق ومن ثمّ بغير الشر ولو في صورة الألم والعرقلة؟ وكيف توجد شجاعة بغير ألم أو مشقة أو خطر؟ وكيف يوجد الحب في أرفع حالاته التي نعرفها ما لم يكن هنالك داعية للعطف والإشفاق والتضحية، لا بدّ من شر نغلبه كي نحصل على فضيلة الغلبة عليه، وربّما كان هناك ضروب أخرى من الحب والفضيلة كالتي نتخيّل أنّ الكائنات

كيف تناظر ملحدا؟ (419)

العليا التي تعلو على طوق الإنسان متصفة بها ولا تنطوي على شر من الشرور، ولكنّها ـإذا صحّ تخيّلناـ نوع آخر غير حبّنا وفضيلتنا، وكلّما تعدّدت أنواع الفضائل كان ذلك أفضل وأجمل) (1)

وقال الجاحظ معبرا عن هذا المعنى: (لو كان الشرّ صرفًا هلك الخلق، أو كان الخير محضًا سقطت المحنة وتقطّعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبّت وتوقّف وتعلّم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التبيّن، ولا دفع مضرة، ولا اجتلاب منفعة، ولا صبر على مكروه ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل في بيان، ولا تنافس في درجة، وبطلت فرحة الظّفر وعزّ الغلبة، ولم يكن على ظهرها محقّ يجد عزّ الحق، ومبطل يجد ذلّة الباطل، وموقن يجد برد اليقين، وشاكّ يجد نقص الحيرة وكرب الوجوم؛ ولم تكن للنفوس آمال ولم تتشعّبها الأطماع.. ولو كان الأمر على ما يشتهيه الغرير والجاهل بعواقب الأمور، لبطل النّظر وما يشحذ عليه، وما يدعو إليه، ولتعطّلت الأرواح من معانيها، والعقول من ثمارها، ولعدمت الأشياء حظوظها وحقوقها) (2)

وقال النورسي: (قال أهل العقول والخبرة: إنما تعرف الأشياء بأضدادها، فلولا تجربة الحاجة لما كان في الكسب لذة، ولولا تجربة العجز لما كان في القدرة لذة، ولولا العلّة لكانت العافية بلا لذة. وقد أراد الله أن يجعل تجربة المعاناة وآلامها سببًا لمعرفة الخير ونعيمه، ليعرف العبد فضل الله عليه، وليتذوق بلسان التجربة عذوبة النعمة فلا يزهد في قدرها، ويدرك أنه يَفضُل بقية الخلق بما حظي به من خير) (3)

وقد لخص الطبيب الدكتور [براند] تجربته مع الألم في آخر أيام حياته بقوله: (اعتقدت

__________

(1) عباس العقاد، عقائد المفكرين، المجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد، 11/ 453.

(2) الجاحظ، الحيوان (بيروت: دار الكتب العلمية، 1424 ه) ـ، 1/ 134 - 135.

(3) النورسي، اللمعات، ص 321.

كيف تناظر ملحدا؟ (420)

في فترة من فترات العمر أنّ الألم هو نقيض السعادة. وكنت أرسم رسمًا توضيحيًا للحياة، وهو عبارة عن رسم بياني ذي قمة على كلّ جانب، ومكان منخفض في الوسط. تمثّل القمّة اليسرى خبرات الألم والحزن المؤلم، وتمثّل القمّة اليمنى السعادة والابتهاج، وبين القمتين توجد الحياة العادية الهادئة. وأعتقد أن هدفي من ذلك هو أن أوجّه بحزم نحو السعادة وأبتعد عن الألم. ولكنني الآن أرى الأمور بطريقة مختلفة، فلو رسمت مثل هذا الرسم البياني اليوم، فسوف تكون فيه قمّة واحدة في المنتصف، وما حولها سهول. هذه القمة هي الحياة التي يلتقي فيها الألم والسرور، والسهول المحيطة بها هي النوم واللامبالاة أو الموت) (1)

ويعبر الفيلسوف الأمريكي [فان إنواجن] عن هذا المعنى، فيقول: (إذا ألغى الله ببساطة كلّ غوائل هذا العالم بسلسلة لا تتناهى من الخوارق؛ فسيفسد ذلك خطّته الذاتية لمصالحة الإنسان معه. إنّه لو فعل ذلك؛ فسنكون في حال رضى بقدرنا ولن نرى داعيًا للتعاون معه) (2)

وتذكر بعض الدراسات العلمية أنه أجري استفتاء لمجموعة من كبار السن في لندن، وكان السؤال الموجّه إليهم: (ما هي أسعد فترة في حياتك؟)، وكان جواب 60 بالمائة منهم: (فترة الحرب!)، ففي كلّ ليلة تلقي الطائرات أطنانًا من المتفجّرات على المدينة، وتحوّل المباني الهائلة إلى حطام، والآن يتذكّر الضحايا هذا الوقت باشتياق وحنين؛ فقد اكتسبوا من تلك التجربة صفات الشجاعة والتآزر والتضحية، وعرفوا معاني التآخي والتعاون (3).

وفي مقالة صدرت في مجلة علمية عن حياة ثلاثمائة قائد ممن كان لهم تأثير بالغ على حركة التاريخ، كشف البحث أنهم كلهم يشتركون في أمر واحد، وهو أنهم كانوا أيتامًا، إما أيتام

__________

(1) See John Hick، Evil and the God of love، New York، Harper كيف تناظر ملحدا؟ ( Row، 1966..

(2) Peter van Inwagen، The Problem of Evil (Oxford: Clarendon Press; New York: Oxford University Press، 2006)، p.88...

(3) فيليب يانسي، أين الله في وقت الألم، ص 68.

كيف تناظر ملحدا؟ (421)

بسبب وفاة الوالدين أو بسبب حدوث انفصال بينهما، أو أيتام عاطفيًا بسبب حرمان قاس في طفولتهم (1).

__________

(1) المصدر السابق، ص 175..

كيف تناظر ملحدا؟ (422)

الإلحاد.. والإشكالات الدينية

ربما تكون الإشكالات الكثيرة التي يطرحها الملاحدة حول الدين هي السبب الأكبر في كل ما نراه من مظاهر الإلحاد، ذلك أن أكثر المدارس الإلحادية وفلسفاتها نشأت في ظل الصراع مع رجال الدين، وخصوصا المسيحية منه، باعتبارها وقفت مع السلطات الزمنية المستبدة، أو قامت هي نفسها بالاستبداد، ومثل ذلك تبنيها لبعض المعارف والعلوم التي لم تثبت علميا، وبذلك أصبح رجال الدين يفرضون الخرافة والشعوذة، وكل أصناف الجهل على متابعيهم، أو يتهمونهم في حال رفض ذلك بالزندقة والهرطقة والبدعة، أو يكفرونهم، ويحرمونهم من الجنان التي يعدون بها متابعيهم.

ومثل ذلك تلك المدارس الإلحادية الجديدة التي استثمرت في التطرف والإرهاب وإدارة التوحش التي مارسها المتطرفون من المسلمين، وانطلقوا فيها من منتجات تاريخية أو تراثية يزعمون أنها تمثل الإسلام.

وكان الأصل في هؤلاء الملاحدة، إن كانوا حقا يُعملون عقولهم أن يفرقوا بين الدين والله.. فالله هو خالق الكون الذي دلت عليه كل الأدلة العقلية، بل الذي دلت عليه الفطرة نفسها.. أما الأديان، ففيها ما يقبله العقل، وفيها ما يرفضه.

ولذلك كان الخيار السليم التفريق بين الإيمان بالله كقضية عقلية علمية، والموقف من الأديان كواقع موجود، وهذا الواقع يستدعي البحث والتحري للوصول إلى الدين الحقيقي الذي تثبته الأدلة والبراهين العقلية والعلمية.

لكن ذلك لم يحدث لأن الطابع الثوري هو الذي كان سائدا على تلك الحركات والشخصيات التي واجهت الأديان، والطابع الثوري ـ كما هو معروف ـ ينحو جهة الاستئصال والإلغاء، لا جهة التريث والبحث والتحقيق والتفريق بين ما يقبله العقل وما يرفضه.

كيف تناظر ملحدا؟ (423)

وبناء على هذا نحاول في هذا الفصل بيان الإشكالات التي يطرحها الملاحدة حول الأديان، وتمييز المقبول منها من المرفوض، ومنهج نقد ما يمكن أن يرفض منها.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن المناظر الناجح هو المناظر الذي يعتمد الإسلام المحمدي الأصيل الذي يعتمد بالدرجة الأولى على مصادر الدين المقدسة، وأولها القرآن الكريم، باعتباره الحكم الأكبر عند التنازع، أما الذي يقدس التراث والتاريخ، ويدافع عن الأخطاء التي وقعت فيهما؛ فإنه يستحيل عليه أن ينتصر على هؤلاء الملاحدة، ذلك أن في التراث الديني والتاريخ المرتبط به أخطاء كثيرة كان على المتدينين أن يتخلصوا منها حتى لا تصير عبئا على الدين، وحجابا بين الخلق وربهم.

وبناء على استقراء الإشكالات التي يطرحها الملاحدة في هذا الجانب رأينا أنها تنحصر في أربع مجامع كبرى:

أولها: الإشكالات المرتبطة بمصدر الدين: وهل هو الوحي الإلهي، أم هي الخيالات النفسية، وغيرها.. وفي حال كونه وحيا إلهيا، هل هناك براهين تدل عليه، أم أنه يخلو من تلك البراهين؟

ثانيها: الإشكالات المرتبطة بتاريخ الأديان: وهو التاريخ الذي كان للدين فيه علاقة إما مباشرة بالحكم الديني، أو كان فيه علاقة لرجال الدين برجال السياسة.

ثالثا ـ الإشكالات المرتبطة بالحقائق الدينية: وهي الحقائق الغيبية العقدية التي جاءت الأديان لتقريرها ومدى حظها من العقلانية والعلمية.

رابعا ـ الإشكالات المرتبطة بالقيم الدينية: وهي المعاني السلوكية والأخلاقية التي جاءت الأديان للدعوة إليها، وحظها من القبول والرفض.

وبما أننا أشرنا إلى الإشكال الثاني، وعدم علاقة الدين بكل ما حصل في تاريخه من انحرافات في الفصل الخاص بالإلحاد والتنوير الاجتماعي.

كيف تناظر ملحدا؟ (424)

وأشرنا إلى الإشكال الثالث في الفصول الأولى من الكتاب، تلك التي تقرر مدى علمية وعقلانية الحقائق الغيبية التي جاء بها الدين.

وأشرنا إلى الإشكال الرابع عند حديثنا عن القيم الأخلاقية والتحرر النفسي.

فسنكتفي هنا بالإشكال الأساسي الأكبر، والذي عليه تنبني الأديان، وهو مصدرها، وهل هي رسائل إلهية أعلن الله بها عن نفسه من باب رعايته بخلقه ولطفه بهم، أم أنها نتاج حالات نفسية وبيئة اجتماعية.

ونحب أن ننبه هنا إلى أننا سنخصص جزءا خاصا في التدريب على المناظرة في إثبات نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسنطرح كل هذه الإشكالات بطريقة أكثر تفصيلا ودقة.

بناء على هذا، فسنتناول في هذا الفصل مبحثين: أولهما حول رؤية الملاحدة لمصدر الدين، وثانيهما حول رؤية المؤمنين لمصدره.

أولا ـ الرؤية الإلحادية لمصدر الدين

بناء على مادية النظرة الإلحادية للكون والحياة، فإن التفسير الطبيعي لمصدر الدين عند كل الملاحدة هو الإنسان، والعوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة فيه أو في حياته أو المجتمع الذي يعيش فيه.

وسنحاول أن نلخص باختصار هنا أهم تلك النظريات التي اعتمد عليها الملاحدة في تفسير نشأة الدين، مثلما فعلنا في النظريات المرتبطة بتفسير نشأة الكون والحياة، ونعقب عليها بما يبين تهافتها، والمغالطات التي تعتمد عليها، معتمدين في ذلك على ما كتبه العلامة جعفر الهادي في كتابه القيم [الله خالق الكون: دراسةٌ علميّةٌ حديثة للمناهج والنظريّات المختلفةِ

كيف تناظر ملحدا؟ (425)

حولَ نشأةِ الكونِ ومسألةِ الخالقِ] (1)، فهو كتاب طرح هذه النظريات طرحا علميا مبسطا، وذكر كل ما يرتبط بها من انتقادات، بطريقة مبسطة واضحة.

1 ـ نظرية الخوف من الحوادث الطبيعية

وهي نظرة معتمدة كثيرا لدى الملاحدة الجدد، وهي تعتمد على تفسير نشأة التديّن وتعليل ظهور الاعتقاد بوجود الله بين البشر بعامل نفسي، كما قال [ويل ديورانت] معبرا عن هذا الاتجاه: (الخوف ـ كما قال [لو كريشس]ـ أوّل أُمّهات الآلهة وخصوصاً الخوف من الموت، فقد كانت الحياة البدائية محاطة بمئات الأخطار وقلّما جاءتها المنيّة عن طريق الشيخوخة الطبيعية، فقبل أن تدبّ الشيخوخة في الأجسام بزمن طويل كانت كثرة الناس تقضي بعامل من عوامل الاعتداء العنيف، أو بمرض غريب يفتك بها فتكاً، ومن هنا لم يصدق الإنسان البدائي أنّ الموت ظاهرة طبيعية وعزاه إلى فعل الكائنات الخارقة للطبيعة، وتعاونت عدّة عوامل على خلق العقيدة الدينية، فمنها الخوف من الموت، ومنها كذلك الدهشة لما يسبب الحوادث التي تأتي مصادفة أو الاحداث الّتي ليس في مقدور الإنسان فهمها، ومنها الأمل في معونة الآلهة والشكر على ما يصيب الإنسان من حظ سعيد) (2)

ثم جاء [برتراند راسل]، وتوسّع في هذه النظرية وردّ نشوء العقيدة إلى ثلاثة أسباب هي: (الخوف من القوى الطبيعية القاهرة، كالرعد والبرق والزلازل والسيول الّتي تهدّد حياة الإنسان، بل وتقضي عليها أحياناً.. والأضرار الّتي تلحق به من أبناء جنسه في ميادين القتال، أو حالات الهجوم والغزو.. والخوف الحاصل له بعد الإقدام على بعض الأعمال الجنسية عند فورة الشهوة وهيجان الغريزة الجنسية، وما يتبع ذلك من الاستيحاش ممّا فعل والندم ممّا

__________

(1) الله خالق الكون: دراسةٌ علميّةٌ حديثة للمناهج والنظريّات المختلفةِ حولَ نشأةِ الكونِ ومسألةِ الخالقِ، جعفر الهادي، اشراف جعفر السبحاني، قم: موسسه الامام الصادق عليه السلام، 1424 ق. = 1382، ص 18، فما بعدها.

(2) قصة الحضارة: 1/ 99 ـ 100..

كيف تناظر ملحدا؟ (426)

ارتكب)

فهذه الأُمور ـ في نظر راسل ـ هي التي جعلت الإنسان يلوذ إلى (قوة عليا) اخترعها ليسكن إلى حمايتها، ويرتاح في كنفها.

وما ذكره يوقفنا على ثلاثة إشكالات أساسية في هذه النظرية، وما قيل في تقريرها وتبريرها:

أولها: هو أن أصحاب هذه النظرية اتّفقوا على الغفلة عن أنّ هناك عللاً طبيعية روحية كالفطرة، أو منطقية وعقلية، هي التي دعت العقول والفطر إلى إثبات وجود قوة عليا عندما يواجه هذا النظام البديع، وهذه العلل الّتي تكشف عن أنّ للاعتقاد جذوراً واقعية في النفس والعقل الإنسانيّين غير عامل الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة.

والعقل يدل على أنّ مجال نحت التعليلات الفرضية يختص بالعادات والحالات الّتي لا يوجد لها جذور واقعية في النفس أو العقل الإنسانيّين، كالتشاؤم لرؤية الغراب أو سماع نعيبه، أو الاعتقاد بنحوسة الرقم 13، وغير ذلك من التقاليد والعادات الخرافية السائدة في بعض الأُمم والشعوب على اختلاف مسالكها وعقائدها.

وأمّا ما كان له جذور واقعية في النفس الإنسانية بأن كان له علّة طبيعية، أو سبب منطقي في فطرة الإنسان وعقله، فإنه لا يكون موضعاً للفرضيات المنحوتة والتعليلات الاحتمالية، بل يكون تجاهل تلك العلّة الواقعية الطبيعية والسبب المنطقي ظلماً فضيعاً بحق العلم والفلسفة، وهو ما ارتكبه أصحاب هذه النظرية ومؤيدوها، وذلك عندما رفضوا أوتجاهلوا (فطرية التديّن) أو (الرابطة العقلية بين مشاهدة النظام والاعتقاد بوجود منظم للكون)، وعمدوا إلى اختراع هذه النظرية وتفسير نشوء العقيدة بها.

ثانيا: إنّ هذه التعليلات فرضيات ذهنية لا يدعمها أيُّ دليل يفيد يقيناً، ويوجب اطمئناناً، وهي تبقى كذلك فرضيات ليس لها أيّ قيمة علمية مهما ألبسوا عليها من حلل

كيف تناظر ملحدا؟ (427)

الألفاظ، وأفاضوا عليها من الأصباغ والألوان الزاهية.. فهل يمكن للعقل أن يقتنع بشيء لا يدعمه دليل، ولا يؤيّده برهان.

ولأجل ذلك لا يتّفق أمثال هؤلاء المحلّلين في تحليلهم على أساس واحد، ولا ينطلقون من منطلق واحد، بل يحلّل كل واحد منهم هذه الظاهرة حسب مزاجه ومتأثراً بما يتعاطاه من العلوم ويتبّناه من أفكار، فالعالم النفسي يسنده إلى عامل نفسي، والعالم الاجتماعي يسنده إلى عوامل اجتماعية، وثالث يسنده إلى أسباب اقتصادية، ورابع ينحت له فروضاً جنسية تشمئز منها الطباع السليمة، وهكذا.

ثالثا: أنه من الظلم الفاحش أن ينسب اعتقاد الشخصيات العظيمة من كبار العباقرة وأساطين العلم والفكر الذين برعوا في إلجام الطبيعة، وتسخير بعض قواها، وكبح جماحها ودرء أخطارها عن البشر، إلى عامل الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة؛ أفيصح أن ننسب اعتقاد سقراط وإفلاطون وأرسطو، وغيرهم من كبار الفلاسفة الاغريق، والفارابي وابن سينا والرازي وابن الهيثم ونصير الدين الطوسي وجابر بن حيان وغيرهم من عمالقة الشرق، وغاليلو وديكارت ونيوتن وباستور وغيرهم من رجالات الغرب، إلى عامل الخوف من الحوادث الطبيعية، وهم أهل عقل وفهم، ورجال علم واستدلال؟

فلم لا يكون اعتقاد الإنسان البدائي ـ على غرار اعتقاد هؤلاء العلماء ـ مبنيّاً على الاستدلال العقلي المتناسب مع مداركه، وناشئاً من فطرته النقية.

ثم إنّ المادّيين يتذرّعون ـ أحياناً لتبرير هذه النظرية بما تبعثه العقائد الدينية في النفس من السكون والطمأنينة، وبما يكون لها من أثر في طرد الوحشة والقلق والاضطراب عن الإنسان.

والجواب هو: إنّ العقائد الدينية والإيمان بالله القادر الحكيم العادل الرحيم، تخفّف ـ بلا شك ـ من القلق، وتبعث على الطمأنينة والسكون، إلاّ انّ هذا لا يعني أنّهم اخترعوا فكرة وجود الله لتحقّق لهم مثل هذه الحالة، فهناك فرق بين (دوافع) نشأة العقيدة وبين (آثارها) الطبيعية.

كيف تناظر ملحدا؟ (428)

وقد خلط أصحاب هذه النظرية بين الدوافع والآثار حيث تصوّروا أنّ طلب الطمأنينة والأمن هو الّذي دفع بالبشر إلى اختراع وافتعال فكرة (القوة العليا) ليكتسبوا في ظلّها هذه الحالة، في حين أنّ حصول الطمأنينة وما شاكلها إنّما هو من الآثار المترتّبة على العقيدة لامن دوافع إيجادها، فمن آمن بالله قويت عزيمته وسكنت نفسه، لأنّه ربطها بقدرته المطلقة، وحصول هذه الأُمور إنّما يكون بعد الاعتقاد بوجود ذلك الفاعل القادر لا باعثاً على تصوّره واختراعه.

رابعا: إنّ ادّعاء المادّيين بأنّ الاعتقاد بالله وعبادته والخضوع له جاء نتيجة خوف الإنسان من الحوادث الطبيعية الرهيبة ليس مبنيّاً على أيّ أساس صحيح، إذ لا ملازمة عقلية أو عادية بين (الخوف) (واختراع فكرة الإله) في الذهن، فإنّه لابدّ من وجود ملازمة عقلية أو عرفية بين (المقدّمة) و(النتيجة) حتّى يكون تصوّر المقدّمة موجباً للانتقال إلى النتيجة، وليس هاهنا أيّة ملازمة من هذا النمط بين الخوف من الحوادث الطبيعية المرعبة، وبين تصوّر خالق للكون قادر على دفع البلايا.

فإنّ فكرة (الخالق الإله) ليست هي نفس الخوف من الحوادث المرعبة، ولا تلازم بين وجود الخوف في الذهن الإنساني من تلك الحوادث وهذه الفكرة، فكيف ـ والحال هذه ـ يمكن أن تستنتج فكرة الإله الخالق من حالة الخوف؟!

وذلك لأنّ التداعي بين الأمرين النفسيّين لا يتحقّق إلاّ أن يكون بينهما نوع ملازمة عقلية أو عرفية، والحال انّه لا وجود لمثل هذه الملازمة لدى الإنسان الذي يعيش في العصور الأُولى، الّذي يسند المادّيون اعتقاده بالإله الخالق إلى خوفه من الحوادث الطبيعية الرهيبة.

فلو لم تكن فكرة الخالق الإله أمراً قد فطر عليه الإنسان وحقيقة يميل إليها في أعماق قلبه وضميره، أو لم يكن برهان وجوده مركوزاً في عقله وإدراكه، لاستحال أن ينتقل في (حالة الخوف من الحوادث الطبيعية المخيفة) إلى فكرة الخالق الإله، وهذا بخلاف ما إذا كانت فكرة

كيف تناظر ملحدا؟ (429)

الخالق الإله أمراً ارتكازياً للإنسان أو ثابتاً بالبرهان في ذهنه، فانّ هذا يكون وسيلة للانتقال ـ عند مواجهة الحوادث المخيفة ـ إلى وجود الخالق الاله القادر على دفع الشر عنه.

2 ـ نظرية الجهل بالعلل الطبيعية

وتنص هذه النظرية التي تلقى أيضا رواجا كبيرا لدى الملاحدة الجدد على أن الإنسان البدائي عندما واجه الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول والكسوف والخسوف، الّتي تحيط به ولم يعرف عللها الطبيعية الواقعية لجأ لجهله إلى اختراع فاعل لها، واعتبره العلّة الوحيدة لكلّ شيء مباشرة، وكلّما تكامل فكرياً، واستطاع من خلال اكتشافاته وتحليلاته أن يقف على السبب الطبيعي المادي لكل حادثة، أسند كل ظاهرة إلى عاملها الطبيعي الحقيقي، وتخلّى عن إسنادها إلى تلك (القوة الوحيدة)، وهكذا كان الاعتقاد بوجود الله وليد الجهل بأسباب الحوادث الكونية الطبيعية.

وقد أُطلق مصطلح [إله الفراغات] أو [إله الفجوات] على ما تنص عليه هذه النظرية، وكان أول من أطلقه [هينري دروموند] في القرن التاسع عشر.

وقد قال [ويل ديورانت] معبرا عن هذه النظرية: (تعاونت عدّة عوامل على خلق العقيدة الدينية، منها الدهشة لما يسبب الحوادث الّتي تأتي مصادفة، أو الأحداث الّتي ليس في مقدور الإنسان فهمها) (1)

وقال بعض علماء الاجتماع: (إنّ العلم وإن وقف على جملة من علل الحوادث إلاّ أنّه لازالت هناك حوادث لم تقع في إطار هذا العلم، ولا زالت تعاني من الإبهام والغموض، وهذا هو الّذي سبب نشوء العقيدة الدينية)

ومن هنا نجد الملاحدة ينادون بتنافي العلم والدين، لأنّ (العلم) عندهم يسند الأُمور إلى عللها الطبيعية، ويكشف عن العلاقات المادية بين الظواهر الطبيعية ومناشئها، بينما يسند

__________

(1) قصة الحضارة: 1/ 100.

كيف تناظر ملحدا؟ (430)

(الدين) كلّ تلك الظواهر والحوادث إلى علّة واحدة يقيمها مكان جميع العلل الواقعية.

ولهذا أيضاً ذهبوا إلى أنّ تقدّم العلوم ونجاحها في كشف الموضوعات الطبيعية، والسنن الحاكمة في الكون يزعزع مكانة الدين، ويوجب انحسار الاعتقاد بالخالق، وتراجعه إلى زاوية النسيان.

ومن الانتقادات الموجهة لهذه النظرية:

أولا ـ ما ذكرناه سابقا من أنّ افتعال مثل هذه الفروض والاحتمالات إنّما يصحّ في الأُمور والعادات التي لم يكن لها علّة واقعية ـ روحية أومنطقية ـ عند البشر، أمّا عندما يكون للعادة أو الحالة سبب واضح ـ كما هو الحال في مسألة الاعتقاد بالله ـ فلا مجال لمثل هذه التعليلات، بل هي حينئذ تكون ضربا من الخيال الّذي تأباه العقول السليمة، ويرفضه المنطق السوي.

ثانياً: انّ هذا التحليل ينمّ عن جهل صاحبه باعتقاد الإلهيّين ومنطقهم على اختلاف مسالكهم ومشاربهم؛ فإنّ الاعتقاد بخالق للكون باعتباره العلّة العليا ـ عند الإلهيّين ـ لا يعني تجاهل العلل الطبيعية، وإنكار الروابط المادية بينها وبين معاليلها، ليكون انكشاف العلل والروابط في ضوء العلم سبباً لتزعزع الاعتقاد بوجود الله وانحساره.

ونسبة هذا الإمر إلى الإلهيّين محض كذب وافتراء، وعين الظلم والجفاء، وأيّ ظلم أشد من أن ننسب إلى طائفة كبرى من البشر ما لا يقولون به، بل وما هم بريئون منه، فانّ الاعتقاد بالله ليس ـ عندهم ـ بمعنى إنكار العلل، بل هو بمعنى أنّهم يعتقدون بأنّ النظام العلّي السببي السائد في الكون، يرجع في مآله إلى قوة عليا، وينتهي إلى مبدأ أعلى هو علّة العلل، وهو مسبب الأسباب، وهو موجد ذلك النظام العلّي.

فالإنسان إذا أطلّ على هذا الكون، وشاهد مافيه من أنظمة بسيطة وأُخرى معقدة تنظم ظواهر الطبيعة، وتسير على وفقها جميع الحوادث بانتظام، ودون فوضى أو عبثية جرته هذه النظرة الفاحصة، إلى الاعتقاد بقوة مدبّرة منظمة خالقة وراء هذا الكون العظيم، ونظامه

كيف تناظر ملحدا؟ (431)

البديع، هو الّذي أوجد الكون، وأرسى فيه السنن.

فالاعتقاد بذلك الخالق القادر المدبّر وليد الاعتقاد بالنظام السببي العلّي، والإيمان بالعلل الطبيعية لا إنكارها وتجاهلها كما زعم أوتوهّم أصحاب هذه الفرضية من الماديّين، واتّهموا به الإلهيّين.

وبعبارة أُخرى: انّ الإلهي لا يثبت وجود الله عند عدم العلم بعلل الحوادث وعند المبهمات والغوامض، بل يعتقد به عندما يقف على النظم الكونية السائدة، والأُمور الواضحة السياق، البيّنة النظام، فطريقه إلى الإذعان والإيمان بوجوده هو ما يشاهده من التنسيق والانسجام، والترابط والنظام، لا ما قد يصادفه من الفوضى والعشوائية.

ولذلك نرى المشتغل بدراسة الطبيعة المهتم بعالم الأحياء كلّما ازداد علماً بأسرار الكون، ووعياً وإدراكاً لقوانينه ازداد إيماناً ويقيناً بوجود الخالق، الموجد لتلك القوانين، الخالق لتلك السنن، فتقدّم العلم والإدراك والاكتشاف يخدم هذا الاعتقاد لا أنّه يهدده أو يزعزعه لأنّه كان ولا يزال الطريق المنطقي إلى هذا الإيمان.

ولهذا فليس الإلهي هو من يبحث عن وجود الإله فيما يجهل علله وأسبابه، وهو الّذي لم يزل ـ منذ أوّل الهي وإلى الآن ـ يستدلّ على وجود الخالق المدبّر بالأنظمة السائدة في الكون من دقيقها إلى جليلها، فكيف يعزى إليه أنّه يثبت وجود الله ويعتقد به بما يجهل فيه الأسباب والعلل الطبيعية من الظواهر الكونية؟

ويكفي لمعرفة هذه الحقيقة والتأكد منها الرجوع إلى منطق الإلهيّين واستدلالهم منذ أقدم العصور إلى الآن، فهذا سقراط يستدلّ في محاورته مع اريستوديم بالنظام على وجود الخالق، فمما جاء فيها قول سقراط: (ألا ترى (يا اريستوديم) أنّ من دلائل التدبير والحكمة أن تمتّع العين ـ وهي ضعيفة ـ بجفون تنفتح وتنغلق عند الحاجة وتنطبق عند النّوم طول الليل، وأن توهب تلك العين غربالاً من أهداب لتقيها فعل الرياح الثائرة، وأن تمنح لها تلك الحواجب

كيف تناظر ملحدا؟ (432)

كميزاب يمنع عنها غوائل العرق المتساقط من الرأس، وأن تصنع الأُذن على صورة لا تكلُّ عن سماع الأصوات ولا يعتاض الحس بها، وأن تعطى جميع الحيوانات أسناناً أمامية لقطع الأغذية، وأضراساً جانبية لسحقها، وأن يكون الفم الّذي تدخل منه الحيوانات الأغذية الصالحة لها إلى أجوافها موضوعاً قريباً من العينين والمناخير.. أترى نفسك بازاء كل هذه الأعمال الّتي تدلّ على تدبير وحكمة، لا تزال متردّداً بين عزوها إلى الصدفة والاتّفاق، وبين اسنادها للحكمة والعلم؟)

فأجابه [أريستوديم]: (لا والإله فانّ أقلّ نظر في الكائنات الحية يدلّنا على أنّ هنالك ذات عالم رحيم خلقها وعدّلها) (1)

بل إن القرآن الكريم يستدلّ على وجوده سبحانه بالنظم السائدة في شتّى مجالات الطبيعة، فالله تعالى يقول: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36]، ويقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)} [الروم: 20 - 24]

فهذه الآيات الكريمة وغيرها كثير جعلت النظام السائد في الكون ـ الّذي يوقف الإنسان على الانسجام والترابط والنظام ـ دليلاً على وجود منظم لهذا الكون، وليست (الآية) في هذه الآيات إلاّ بمعنى (العلامة) فهي علامات على دخالة الشعور والعقل في ابتداع هذا

__________

(1) انظر: الإسلام وعصر العلم لفريد وجدي: 163 ـ 164.

كيف تناظر ملحدا؟ (433)

النظام.

ثالثاً: أنّ هذه الفرضية تقوم على أساس كون البشر كانوا يعتقدون بقانون العلّية، وهذا يعني أنّ الإنسان البدائي لمّا كان يجهل العلل الواقعية للظواهر الطبيعية آل به هذا الاعتقاد إلى اختراع فكرة (خالق الكون) وإحلالها محل العلل الطبيعية الّتي كان يجهلها، حتّى يرضي وجدانه الّذي يلحُّ عليه بنسبة كلّ ظاهرة إلى علّة، فلوكان البشر البدائي مدركاً ـ بهذه المنزلة ـ لقانون العلّية فلِمَ لا يكون اعتقاده بالله، ناشئاً عن إذعانه بأنّ النظام الرائع السائد في الكون الّذي لا ينفك عن تأثير بعض أجزائه في بعض، وانسجام بعضه مع بعض، قد وجد بفعل قوّة عالمة، وعارفة بالسنن والقوانين الكونية اللازمة.

رابعا ـ أنهم لو نظروا في المصادر المقدسة للأديان، وخاصة لما لم يحرف منها، فسيجدونها تدعو إلى البحث للتعرف على حقائق الأشياء، ويروا أنّ القرآن الكريم كيف يحارب الجهل أشدّ المحاربة، ويمنع أتباعه من الاعتقاد بشيء بدون علم، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]

بل إنه يضيف إلى ذلك، فيستدلّ على وجوده سبحانه بالنظام السائد في الطبيعة والكون، ويطلب من المؤمنين النظر في الطبيعة واستجلاء أسرارها وفهم قوانينها إذ يقول: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20]

ويخبر عن المؤمنين وتفكرهم في الكون، فيقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164

فكيف يجوز لأصحاب هذه النظرية ـ والحال هذه ـ أن يفتروا على أصحاب الرسالات

كيف تناظر ملحدا؟ (434)

الإلهية بأنّ دعوتهم إلى الله سبحانه لم تكن إلاّ بسبب جهلهم بالعلل الطبيعية، والأسباب الواقعية للظواهر الكونية.

بل إن القرآن الكريم يصرّح بأنّ العلماء هم الذين يخشون الله دون غيرهم، إذ يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، فالآية الكريمة تصف العلماء بالخشية والخوف منه سبحانه، لا الجبن الّذي هو في مقابل الشجاعة، فإنّ الجبن أمر مذموم، لأنّه حالة تسيطر على الإنسان لأجل تجنّبه للأُمور المرعبة غير الواقعية كالخوف من الغول، أو الظلمة الموجودة في قبو مع العلم بعدم وجود ما يخيف حقيقة.

وأمّا الخشية فهي عبارة عن إحساس الإنسان بالعظمة الإلهية الّتي تملأ الصدور والنفوس مهابة عند مشاهدة عظيم خلقه، وجليل فعله.

وهذا الأمر مسبّب عن علم الإنسان بالعظمة الإلهية لا جهله، ووعيه، لا توهّمه وتخيّله، وأمّا الخوف منه سبحانه، فلأجل أنّ الإنسان العاقل يخاف في قرارة نفسه أن لا يقوم بما عليه من وظائف العبودية تجاه ذلك الرب العظيم.

خامسا ـ أنه لو كانت فكرة الإله وعبادته والخضوع له والإيثار في سبيله والاعتقاد بالمسؤولية تجاهه من ولائد الجهل البشري بالأسباب الطبيعية والخوف من الحوادث الكونية المرعبة، فلماذا نجد هذه الفكرة قائمة حتّى في المجتمعات الحاضرة رغم انتفاء دواعيها من الجهل والخوف، حيث لاجهل بسبب ما اكتشفته العلوم من العلل الطبيعية، ولا خوف بسبب تغلب الإنسان الحديث على أكثر حوادث الطبيعة، وتمكّنه من تجنب أضرارها وأخطارها.

فما الّذي يفسّر بقاء فكرة (الإله المعبود المقدّس) بين المجتمعات الحاضرة، والإحساس بالمسؤولية تجاهه والسعي لتحصيل رضاه، وما يلحق كلّ ذلك من الاعتقادات والممارسات العملية الدينية وقد زال الجهل والخوف؟

أليس بقاء هذا الأمر ـ مع زوال ما قيل عن علّته ـ يعدّ دليلاً واضحاً وبرهاناً ساطعاً على

كيف تناظر ملحدا؟ (435)

أنّ هناك عاملاً آخر، غير عامل الجهل والخوف، وراء نشأة فكرة (الإله المعبود) هو الّذي دفع الذهن الإنساني إلى الالتزام بهذه الفكرة والمعتقد إلى اليوم؟

ولو قيل: صحيح انّ العلماء والمفكّرين في هذا العصر تغلّبوا على الطبيعة وكبحوا جماحها، وعرفوا أسرارها وعللها وتحرّروا من الجهل والخوف، ولكنّهم ورثوا فكرة (الإله المعبود) من آبائهم وأسلافهم، ولم يستطيعوا التخلّص منها والتحرر من رواسبها.

فإنّنا نقول: وهل هذا إلاّ ازدراء بمثل هؤلاء العلماء والمفكّرين، واحتقار لشأنهم، وتجاهل لما هم عليه من سداد الفكر، ورشادة العقل، وقوة التحليل الّتي تأبى التقليد الأعمى، وترفض التبعية الجاهلة.

سادسا ـ أن أصحاب هاته الفرضية والتي قبلها لم يميّزوا بين الدافع للعقيدة، وبين ما يترتّب على ذلك الدافع، في القيمة، فلا يمكن أن تكون (الدوافع) لشيء و(ما يترتب عليها من الآثار والنتائج) ذات قيمة واحدة، فقد يكون الدافع نحو الشيء أمراً تافهاً لاقيمة له، بينما تكون النتائج والقضايا الحاصلة من ذلك الدافع ذات قيمة عالية جداً كما في المقام.

فعلاقة الإنسان بالثروة والشهرة هي الّتي تدفع إلى الاكتشاف والاختراع، ومن المعلوم أنّ الدافع هنا أمر رخيص، ولكنّ الأثر الناتج عنه ذو قيمة عالية.

كما أنّ الحرب وراء أكثر الاكتشافات والاختراعات، والحال انّ الحرب ـ كما نعلم ـ دافع رخيص، بينما يكون ما ينشأ على أثرها من التحوّلات العلمية والصناعية ذا قيمة عالية.

ولهذا لابدّ من الفرز والتفريق بين (الدافع) و(الآثار)، وعدم الخلط بينهما في تفسير ظاهرة من الظواهر.

سابعا ـ أنّ هؤلاء المحلّلين قد افترضوا أمراً من عند أنفسهم وهو (انّ الاعتقاد بالله اعتقاد بأمر موهوم وباطل)، وبعد أن اعتبروا ذلك أمراً مسلّماً لا نقاش فيه عمدوا إلى البحث عن أسباب نشوء هذا الأمر الباطل الموهوم فنحتوا ما نحتوا، والحال أنّ هذا نفس المدّعى، إذ

كيف تناظر ملحدا؟ (436)

لو لم يكن نفس الاعتقاد بوجود الله أمراً باطلاً ـ في نظرهم ـ بل كان ممّا يدعمه الدليل الصحيح والبرهان الواضح لما نحتوا هذه الفرضيات لتفسير نشوئه، فإن الإنسان العاقل لا يتحرّى عن أسباب الاعتقاد بالمعادلة الحسابية التالية: 2×2 = 4 مثلاً، لأنّ هذا الاعتقاد بهذه المعادلة يستند إلى أمر واقعي، فلا مجال فيه لاختلاق أسباب، ونحت علل وفرضيات.

ثامنا ـ أن هؤلاء الذين احتقروا الإيمان، واعتبروه مجرد هروب من الحقيقة العلمية، راحوا يكذبون على أنفسهم بإله جديد بدل إله الفراغات، وهو إله لا دليل عليه إلا الهوى، والذي يمكن تسميته [ملايين السنين]، فهم يستخدمون هذه العبارة في في كل المعضلات العلمية الصعبة التي يواجهون بها، حيث نسمع قولهم دائما: (نحتاج فقط إلى ملايين السنين ليخرج نظام حيّ ذكي من عبثية عشوائية غبية)

وقولهم: (تحولت الخلايا البسيطة إلى مخلوقات معقدة بعدملايين السنين وليس بشكل مباشر كما تظنون)

وقولهم: ((الجهاز التناسلي كان بسيط جدًا وبعد ملايين السنين أصبح جهاز كامل الوظائف)

وقولهم: ((الديناصورات لم تتحول إلى طيور فجأة.. بل استغرق ذلك ملايين السنين)

والمشكلة العويصة هو أنّ [ملايين السنين] التي يفرون بها من الله، لا تعني ملايين من السنين المنتظمة وإنما تعني ملايين من السنين العشوائية والعبثية، والتي تخرج في الأخير كونا في منتهى الدقة والإحكام.

مع أنّ العشوائية تزداد فوضويتها وعبثيتها كلما منحناها المزيد من الوقت.. وكلما زاد الوقت ابتعدت العشوائية عن النظام واتجهت إلى الخراب والفوضى أكثر. وليس العكس!

3 ـ نظرية العامل الاقتصادي

وهي النظرية التي تنص على أن العامل اقتصادي هو السبب في ظهور الدين، ومثله كلّ

كيف تناظر ملحدا؟ (437)

ما في المجتمع من علم وفلسفة وفن وثقافة، وآداب وتقاليد وسنن دينية، فالأفكار الدينية والفلسفة الميتافيزيقية ـ حسب تحليلهم ـ ليست إلاّ ردة فعل للأوضاع الاقتصادية السائدة في المجتمع، تماماً مثل بقية الظواهر الاجتماعية المذكورة من غير فرق بين ظاهرة وأُخرى.

ونص بعض أصحاب هذه النظرية على أن الدين والمفاهيم الدينيّة كانت آلة طيّعة بيد المستغِلِّين لإخماد ثورة المستغَلِّين، من الفلاّحين والعمال، ونص آخرون على أنّ الدين بلسم مسكن كان يلجأ إليه المحرومون والمضطهدون أنفسهم للتخفيف من آلامهم، وتبرير أوضاعهم، وعجزهم عن إصلاحها.

وأصحاب هذه النظرية هم الشيوعيون الذين ذهبوا إلى أنّ كلّ ما في المجتمع البشري ينقسم إلى بنية تحتية، وبنية فوقية، والبنية التحتية عبارة عن الوضع الاقتصادي وتطور وسائل الإنتاج وتكاملها، وما ينشأ ـ بتبعها ـ من العلاقات الاقتصادية، والبنية الفوقية عبارة عن الأفكار الاجتماعية والسياسية والثقافية والأدب والفن والدين والفلسفة، فكل هذه الأُمور تتبع في شكلها ونوعيتها الوضع الاقتصادي ونوعيّة العلاقات الاقتصادية الناجمة بدورها عن تطور وسائل الإنتاج وتكاملها.

وقد قال (كونستانيتوف) معبرا عن ذلك: (ينبغي البحث عن منبع الأفكار الاجتماعية والسياسية والحقوقية والدينية في الاقتصاد قبل كل شيء) (1)

هذا هو الأصل الّذي اخترعه الماركسيّون لتعليل جميع الظواهر الاجتماعية، وبذلك أرادوا تقسيم الأشياء إلى نوعين: أصيل، وغير أصيل. والأوّل متبوع والثاني تابع، يتغير بتغيّر الأوّل، ويتكامل بتكامله وتطوّره.

وهكذا فسّروا ظاهرة العقيدة الدينية فزعموا انّها تابعة للظروف والعلاقات الاقتصادية، وانّ المفاهيم الدينية ليست سوى ردة فعل للأوضاع الاقتصادية المتدهورة.

__________

(1) دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع: 4.

كيف تناظر ملحدا؟ (438)

ولأجل ذلك فإنّ أصحاب الرق والاقطاعيّين والرأسماليّين في عهود (الرق والاقطاع والرأسمالية) كلّما خشوا ثورة العبيد والفلاحين والعمال في وجه المستغِلِّين لهم بسبب ما يلاقونه من الضغوط، عمدوا إلى التوسّل بالمفاهيم الدينية والروحية وروّجوها بين المحرومين والكادحين الناقمين بهدف تخديرهم والتخفيف من غضبهم، وصرفهم عن الانتفاضة والثورة، وبهدف تكريس خضوعهم واستسلامهم لإرادة الأسياد والاقطاعيّين والرأسماليّين واستغلالهم، وكان من ذلك الدعوة إلى الصبر، وبأنّ التذرع به يستعقب أجراً عظيماً في اليوم الآخر، ووعدهم بالجنة ونعيمها المقيم.

وهذا التحليل المفتعل هو الّذي قصده ماركس وانجلز بقولهما: (وما القوانين والقواعد الأخلاقية، والأديان بالنسبة إلى العامل إلاّ أوهام برجوازية تستتر خلفها مصالح برجوازية) (1)

ومن الانتقادات الموجهة لهذه النظرية:

أولا ـ أن معلومات هذا الفريق من المادّيين عن الدين ومفاهيمه، وجذوره وأفكاره، يرجع إلى انطباعاتهم عن سلوك آبائهم، أو ما وجدوه في المجتمع من غث وسمين منسوب إلى الدين، ولا شك أنّ الكثير من هذه التصرفات والمواقف والتصوّرات لا تمثّل حقيقة الدين الناصعة، وجوهره الصافي، فقد طرأ على الأُمور الدينية من التشويه والمسخ والاعوجاج ما غيّب تلك النصاعة والصفاء خلف غيوم من الإبهام والانحراف.

ولو أن هؤلاء المادّيين اعتمدوا المنابع الدينية الأصيلة لدراسة الدين، وجعلوا سيرة قادته المخلصين وسلوكهم النقي من الشوائب والانحرافات ملاكاً لحكمهم على العقيدة والأفكار الدينية لقضوا بغير ما قضوا، هذا إن كانوا غير متأثرين بأفكار مسبقة وغير مندفعين بنيّات مبيّتة.

ثانياً: أن هؤلاء تغافلوا عمّا للدين والعقيدة الدينية من الآثار الإيجابية البنّاءة في حياة

__________

(1) النظام الشيوعي: 52.

كيف تناظر ملحدا؟ (439)

الإنسان، وكيف أنّها من أهم عوامل التحرك والتقدّم والرقي والصعود لا الجمود والركود.

فالعقيدة الدينية هي التي تساهم في التقدّم العلمي، ذلك أن المتديّن يسند وجود العالم إلى فعل قوة عليا عالمة قادرة، والمادي يسنده إلى التصادف الأعمى.. ومن الطبيعي أن تكون العقيدة الأُولى هي الباعثة على اكتشاف السنن والأنظمة دون الثانية، لأنّ إقبال العالم على اكتشاف الروابط والنواميس الكونية فرع علمه بوجود سنن قطعية على سبيل الإجمال، وهو لا يحصل إلاّ مع العلم بأنّ الكون من صنع الخالق العالم القادر المدبّر الحكيم، وهذا ممّا لا يتوفّر عند من يقول بوجود الكون عن طريق الصدفة، إذ الصدفة تعني الفوضى واللانظام.

والدين دعامة الأخلاق بخلاف الإلحاد، ذلك أنّ اعتقاد الإنسان بالله سبحانه، وانّه خلقه لغاية وهدف، وانّ الموت ليس نهاية الحياة؛ يولّد في الإنسان رادعاً قوياً، يردعه عن الانسياق وراء شهواته الرخيصة وأهوائه ونزواته، كما أنّه يولّد فيه مثلاً أخلاقية، وتوجب نموّ السجايا الخيّرة في كيانه، فلا يرتكب كل ما تمليه عليه مصالحه الشخصية كما هو دأب المادّي غير المؤمن بالله.

ولذلك فإنّ العالم الكيمياوي إذا اقترح عليه بأن يصنع سلاحاً مدمّراً، أو قنبلة سامة فتّاكة لقاء عرض مادي مغر، لا ينفذ هذا الطلب إذا كان مؤمناً بالله، بخلاف العالم المادّي الّذي لا يعتقد برقابة إلهية ولا بجنة ولا نار.

والدين عامل التحرك والاستمرارية، ذلك أن الإنسان الّذي يعتقد بأنّ وراء هذا الكون قوة عليا قادرة على دفع الشدائد ودرء المصائب عنه، إذا توجه إليه واستعان به فإنّ اعتقاده هذا يساعده على الاستمرارية والاستقامة، بل والتحرك والتقدّم لأنّه يرى نفسه معتمداً على تلك القوة وآملاً بنصرها وتأييدها، بخلاف المادي الّذي لا يركن إلى ركن وثيق، وهذا يعني انّ الدين أكبر محفّز، وأشدّ ما يحتاج إليه الإنسان هي الحوافز.

وفوق ذلك كله، فإن الدين من أكبر الدوافع على الالتزام بالقوانين؛ فالإنسان الّذي

كيف تناظر ملحدا؟ (440)

يرى نفسه في محضر الله سبحانه، ويعتقد بأنّه يحصي عليه حركاته وسكناته، بل ويضبط خطرات قلبه وأوهام فكره، ونوايا ضميره، لن يرتكب أيّة مخالفة قانونية، خاصة إذا عرف بأنّ تطبيقه للقانون يستتبع الثواب الأُخروي الجزيل والأجر الإلهي الجميل وتمرّده عليه يستتبع العقاب الإليم، بخلاف المادي الّذي يتحايل على القانون بألف حيلة وحيلة، ولا يرتدع عن مخالفته والتملّص منه كلّما سنحت له الفرصة، لأنّه لا يؤمن بأيّة نظارة ورقابة، ولا يخشى عقاباً، ولا يرجو ثواباً.

إلى غير ذلك من الآثار الفردية والاجتماعية البنّاءة الّتي لا غنى للفرد والمجتمع عنها؛ فكيف يصف الماركسيّون الدين بأنّه مخدّر وأنّه أُفيون وأنّه يوجب الركود والجمود؟!

ثالثاً: أنّ البحث في علّة نشوء العقيدة انّما هو في نشأتها في العصور الأُولى من حياة الإنسان على الأرض، في حين انّ ما يذكره الشيوعيون ومن يقول بهذه النظرية يرتبط بالأدوار المتأخرة جداً عن تلك العصور، أي قبل أن توجد ظاهرة الرق والاقطاع والرأسمالية، فإنّ ما يذكرونه يرجع إلى عصور الأغارقة أو ما جرى في أُوروبا في القرون الوسطى، فتعليل العقيدة الدينية بهذه الظواهر المتأخّرة عن الحياة البشرية الأُولى جداً، خطأ فضيع، أو تعمّد مفضوح، إذ ما الّذي يفسر نشوء العقيدة الدينية ووجودها في العهود الأُولى من حياة الإنسان على الأرض، وقبل وجود هذه الظواهر (أي الرق والاقطاع والرأسمالية)

رابعاً: أنّ تقسيم الظواهر الاجتماعية إلى بنية تحتية وأُخرى فوقية، وتصوّر أنّ الثقافة والفن والعلم والدين كلّها من البنية الفوقية التابعة للبنية التحتية (أي الاقتصاد) من شأنه إبطال كلّ نظرات الماركسيّين في مجال الفلسفة والتاريخ والاقتصاد، وكلّ تحليلاتهم وآرائهم، فإنّ هذه القاعدة التي اخترعها ماركس تستلزم أن يكون مجموع مناهجها في المجالات المختلفة نابعة من الحالة الاقتصادية وما كانت عليه وسائل الإنتاج يوم أطلق ماركس وانجلز نظريتهما، وعلى ذلك فلو تغيّرت وسائل الإنتاج، وتغيّر الوضع الاقتصادي انتهى دور المناهج الماركسية

كيف تناظر ملحدا؟ (441)

في المجالات المختلفة، فلابدّ أن تتخذ مناهج أُخرى تضادد تلك المناهج، تبعاً لمتغيّرات الاقتصاد، وتطوّر وسائل الإنتاج، والعلاقات الاقتصادية.

وعلى ذلك فنفس ما يقوله الماركسيون، أي: (الدين أُفيون الشعوب، وأنّه عامل الركود)، هو من نتائج الأوضاع الاقتصادية الّتي كانت تسود البيئة التي أطلق فيها ماركس كلمته هذه، فحيث تطوّر الوضع الاقتصادي، وتغيّر إلى وضع آخر تغيّرت النظرية إلى نظرية أُخرى، فربّما يمكن أن تكون النتيجة هي أنّ الدين محفز للعمل، ومحرك للأُمّة، وعامل من عوامل المقاومة والتقدّم، وهذا يعني انّ ماركس قضى على جميع أفكاره بنفسه، وخاصة هذه النظرية حول الدين.

خامساً: أنّ تعليل هذه الظواهر الاجتماعية على سعتها وتنوّعها وتشعّب أطرافها (كالعلم والفلسفة، والدين والثقافة، والفن والآداب) بعامل اقتصادي أشبه ما يكون بتعليل زلزال هائل دمر مدينة عظمى، بانهيار سقف خشبي في إحدى ضواحي تلك المدينة.

صحيح أنّ الاقتصاد يلعب دوراً هامّاً في مجالات الفكر والظواهر الاجتماعية إلاّ أنّ الاقتصاد ليس هو العامل الوحيد الّذي له مثل هذا الدور والتأثير، فليس الاقتصاد هو القوة الوحيدة المحركة للتاريخ، وليست وسائل الإنتاج هي القوة الكبرى الّتي تصنع تاريخ الناس، وتطورهم وتنظمهم، بل هناك عوامل محركة أُخرى للتاريخ، وقد أقر بها كل الباحثين والمفكرين.

فمنها الغرائز التي جبل عليها الإنسان، فإنّ لها دوراً مؤثراً لا يمكن إنكاره في نشوء الحوادث الاجتماعية، فقد أثبت الروحيون أنّ الإنسان ينطوى على غرائز خاصّة تفعل كل واحدة منها أثرها الخاص في الحياة والمجتمع، مثل غريزة طلب العلم، والجاه، والجمال. وغيرها، وما يتولد عنها من تطوّرات اجتماعية.

ومنها تأثير الشخصيات البارزة؛ فإنّ لها أثراً كبيراً في صناعة الظواهر الاجتماعية، لأن

كيف تناظر ملحدا؟ (442)

هذه الشخصيات لا تكتفي بالتفرج على الأوضاع، بل تلعب أدواراً، وتصنع أحداثاً، وتوجد تغييرات، وتاريخ الأُمم بما فيها من صفحات مشرقة خير شاهد على أنّ هذه الشخصيات قد أشعلت شرارة الكثير من الثورات الاجتماعية، وأوجدت الكثير من التحولات، وانّه لولاهم لما حدث مثل تلك التحولات، ولما تفجّرت تلك الثورات.

ومنها الفكرة القومية، فقد كان لها أثرها الخاص في التطوّرات الاجتماعية لدى الامم المختلفة، فهذا هو هتلر الألماني أشعل الحرب العالمية الثانية بفكرة القومية النازية، ولهذا عمد بعض المفكّرين في بعض البلاد إلى التوسّل بالقومية، وإحياء روحها، وإلهاب مشاعر الناس بها، للوقوف في وجه الاعداء أو تحقيق النهضة فيها.

ومع ملاحظة هذا العوامل وغيرها من العوامل المحركة للتاريخ المبحوثة في محلها وتأثيرها البالغ في الظواهر الاجتماعية كيف يصحّ للماركسيّين أن يسندوا كل ما في المجتمع من مظاهر علمية وفلسفية وفنية وثقافية وأدبية ودينية إلى عامل اقتصادي فقط؟!

سادساً: لو لم تكن للعقيدة الدينية جذور فطرية أو لم تكن هناك رابطة بين مشاهدة النظام والاعتقاد بوجود المنظم، فلماذا يتفق المستغَلّون جميعاً على أفكار كثيرة لا قيمة علمية لها، مثل فكرة القومية مع كونها فكرة خاطئة ومرفوضة، لأنّها تستند إلى رفع بعض الشعوب على بعض، وحصر جميع الخدمات بشعب خاص على حساب شعوب أُخرى، والحال انّ الواجب هو صرف الخدمات لصالح الإنسانية جمعاء دون تمييز ولا استثناء.

وهذا يعني أنّ المستغلّين للطبقات المحرومة كانوا يستخدمون الدين في سبيل مصالحهم وهم يعتمدون على واقعية مقبولة لدى المستغلين ذاتياً، فلو لم يكن الديّن والتدين أمراً فطرياً عند المحرومين، أولم يكن أمراً منطقياً لديهم فلماذا لم يرفضوا هذه الآلة الّتي تستخدم ضدهم؟!

ألم يكن بين جماهير الطبقات الفلاحية والعمالية طوال القرون المتمادية من يميز بين ما هو في مصلحتهم وما هو ضد مصلحتهم؟!

كيف تناظر ملحدا؟ (443)

إنّ هذا الأمر يجعلنا لا نثق بهذه النظرية، بل يدفعنا إلى أن نذعن بأنّ للعقيدة الدينية جذوراً وخلفيات أعمق في كيان الإنسان وحياته، غير ما ذكره الماركسيون.

سابعاً: إنّ ما ذكروه يستلزم أن لا يوجد بين الطبقات المرفّهة، وأصحاب الثروة والمكنة أيّ متديّن، لعلمهم بأنّ الدين ليس سوى وسيلة تستخدم لإخماد الثورات وجلب المنافع، والحال أنّنا نجد طول التاريخ أصحاب ثروة وقفوا أعمارهم وثرواتهم في سبيل تحقيق الأهداف الدينية المقدّسة بحيث صار الغني والفقير والظالم والمظلوم، والمضطهِد والمضهَد، في هذه الظاهرة سواء، أي أنّنا نجد متديّنين ليس بين الفقراء والمحرومين فقط بل بين الأغنياء وأصحاب الثروة أيضاً، وهذا يعني أنّ قضية الإيمان بالله ليست ناشئة من عوامل اقتصادية كما ذكروا، بل هي قضية روحية فطرية، ومسألة عقلية يقود إليها الفكر السليم.

ثامناً: أنّ ما استشهدوا به لتبرير نظريتهم (وهو أنّه كلّما انتعش حال الطبقات المحرومة اقتصادياً انحسرت العقيدة عن حياتهم، وكلّما تردّت، راجت العقيدة الدينية) جهل من هؤلاء المحلّلين بمجريات التاريخ.

ذلك أننا نجد في الحضارة اليونانية والإسلامية كيف ازدهرت الحالة الاقتصادية العامة، وتحسّنت جنباً إلى جنب مع ازدهار العقيدة الدينية، وكان لمعرفة الله والإيمان به دور بارز ومكانة كبرى في هذه المدنيات والحضارات.

وهذه حقيقة يقف عليها كلّ من راجع تاريخ هذه الحضارات الكبرى، بل هي من الثبوت والجلاء ما لا نحتاج معه إلى ذكر الشواهد والنماذج.

تاسعاً: أنّ تدهور أمر العقيدة الدينية وانحسارها في بعض المجالات والفترات الّتي نشط فيها الاقتصاد العام وانتشر الرفاه لا يعود إلى ما ذكروه من النسبة التعاكسية بين (انتعاش الحالة الاقتصادية العامة) و(انحسار العقيدة الدينية) بحيث يكون انتعاش الحالة الاقتصادية العامة للكادحين سبباً في الإعراض عن العقيدة والمفاهيم الدينية، وتردّيها سبباً لرواج العقيدة

كيف تناظر ملحدا؟ (444)

الدينية، بل يعود إلى أنّ طغيان غريزة من الغرائز من شأنه أن يغطي على الجوانب الأُخرى في الحياة الإنسانية، وهذا لا يختص بغريزة حب المال والثروة، بل يعمّ غريزة حب الجاه والجنس وغير ذلك من الغرائز، فإذا زادت الاستفادة من غريزة معيّنة كما لو تمادى المرء في غريزة حب المال وجمعه أو الجنس نسي سائر ما عنده من الغرائز، بل وحتّى ما اعتقده من أفكار ثبتت لديه بالأدلّة القاطعة كالدين وماشاكل ذلك.

عاشراً: انّ استخدام المستغِلّين للعقيدة الدينية في سبيل مصالحهم شيء، والدوافع الموجدة للعقيدة الدينية شيء آخر، والبحث انّما هو في الثاني دون الأوّل، وما قاله الماركسيون يرجع إلى الأوّل دون الثاني، فالعقيدة حقيقة موجودة في طبيعة الإنسان ومختمرة بفطرته، وقد استغلّها بعض الأشخاص لمصلحته، وهذا واقع في أشياء أُخرى أيضاً، كما في الطب وأشباهه، فلا يصحّ أن يقال: انّ الطب قضيّة مخترعة لا واقع لها ولا ضرورة، لأنّ بعض الأشخاص أو بعض الأطباء استخدم الطب لاستدرار الأرباح، واستجرار المنافع من ورائها.

أو كما عبر عن ذلك [ويل ديورانت] بقوله: (إنّ الكاهن لم يخلق الدين خلقاً لكن استخدمه لأغراضه فقط كما يستخدم السياسي ما للإنسان من دوافع فطرية وعادات، فلم تنشأ العقيدة الدينية من تلفيقات وألاعيب كهنوتية انّما نشأت عن فطرة الإنسان بما فيها من تساؤل لا ينقطع) (1)

حادي عشر: لو سلّمنا جدلا بما ذكره الماركسيون من أنّ الدين كان يستخدم كوسيلة لمصلحة الأثرياء وإضعاف الفقراء، فإنّ ذلك إنّما يصحّ بالنسبة للمذاهب الّتي طالتها أيدي التحريف، أو الّتي أوجدها الاستعمار، ولا يصلح ذلك دليلاً لتعميم هذا الحكم على كافة الشرائع.

حيث أننا نجد في القرآن الكريم يزخر بتصريحات هامّة وواضحة للأنبياء السابقين ضد

__________

(1) قصة الحضارة: 1/ 177.

كيف تناظر ملحدا؟ (445)

المستغِلّين، ونجد أيضاً كيف أنّ دعواتهم كانت ملجأ للمحرومين والمظلومين وسبيلاً إلى كسر شوكة الظالمين ودحر المستغِلّين، وإعادة الحقوق إلى أصحابها.

حيث نجد فيه عند ذكر الهدف من إرسال موسى عليه السلام قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 4، 5]

ونجد فيه احتجاج موسى (عليه السلام) على فرعون استعباده لبني إسرائيل إذ يقول: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22]

وهكذا نجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يتبعهم بسطاء الناس وفقراءهم، كما قال تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]، وغيرها من الآيات التي تفيد أنّ الدعوات الإلهية كانت موجّهة ضد الطغاة والمستكبرين والظالمين، وضد المعتدين والمستغلين، ولهذا كان المحرومون يبادرون إلى تأييدها قبل أيّ جماعة أُخرى.

كما نجد القرآن الكريم يحثّ أتباعه على الإعداد العسكري لمواجهة أعدائهم من الذين لا ترضيهم تعاليم الإسلام العادلة، إذ يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]

كما هاجم المرابين الذين يستغلون حاجة الناس ويمتصون جهودهم بقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279]

وندد بكانزي الثروة إذ قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ

كيف تناظر ملحدا؟ (446)

وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35]

وغيرها من الآيات الكريمة التي تنهى عن الاستغلال والاستعباد، والّتي تدلّ على أنّ دعوات الأنبياء وجهودهم ركزت اهتماماً كبيراً على استنقاذ حقوق المحرومين وتخليصهم من الحرمان وحتّى باستعمال القوّة في بعض الحالات.

ثاني عشر: انّ الماركسيّين الذين ذهبوا إلى تعليل العقيدة الدينية بأنّها كانت آلة طيّعة لإخماد ثورة المستضعفين والكادحين، لعلّهم قصدوا بعض المفاهيم الخلقية في الدين الّتي ربّما تقع وسيلة بأيدي أصحاب الثروة لإخماد نائرة العمال والفلاحين المحرومين المضطهدين مثل:

أ ـ القضاء والقدر بمعنى الاستسلام والخنوع.

ب ـ الصبر بمعنى السكوت والخضوع للعدو.

ج ـ الزهد بمعنى الرغبة عن الدنيا وترك الفعاليات.

د ـ التوكل بمعنى ترك الأخذ بالأسباب الطبيعية.

غير أنّ تفسير هذه المفاهيم بما ذكروه ينمّ عن جهلهم بمعانيها الحقيقية أو تعاميهم عنها، فانّ لها من المعاني ما يجعلها خير وسيلة للتحرك والانطلاق، والثورة والانعتاق، لا الخمود والركود، والخضوع والعبودية كما زعموا.

4 ـ نظرية استمرار الحالة الطفولية

وهي النظرية التي جاء بها (فرويد) وتنص على أن الإنسان عندما كان طفلاً كان يحس بالحاجة الشديدة إلى الحماية تجاه الأخطار المحيطة به بسبب ضعفه وعجزه، فكان يجد هذه الحماية عند أُمّه، ولمّا أدرك تفوّق الأب لجأ إليه، ولمّا أحسّ بعجز أبيه أيضاً تجاه الأخطار الكبرى مضى يبحث عن قوة أكبر أقدر على حمايته تجاه الحوادث حتّى يحلّه محلّ أبيه، وهكذا نشأت عنده فكرة الإله.

وهي ترى أن المجتمع وإن تخلّص اليوم من بعض ما يعلق بضمير الطفل من الحاجة في

كيف تناظر ملحدا؟ (447)

اللجوء إلى الأُم أو الأب حيث إنّه قد بلغ مرتبة كبيرة من البلوغ العقلي والفكري إلاّ أنّ اعتقاده بالله استمر لاستمرار الحالة الطفولية الّتي كانت تعلق بضمير المجتمعات الغابرة الّتي كانت من حيث العقل والفهم بمنزلة الطفل.

ومن الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية بالإضافة لبعض الانتقادات السابقة التي يمكن أن يستفاد منها هنا:

أوّلاً: انّ صاحب هذا التحليل خلط بين (الدافع) والنتيجة المتحصّلة من ذلك الدافع من حيث القيمة، فلو أنّنا فرضنا صحة هذا التحليل وارتضينا ما يقول من أنّ الحالة الطفولية هي الّتي دفعت البشر إلى اتّخاذ العقيدة الدينية، ولكن ذلك لا يقلّل من أهمية العقيدة الدينية وإن كان الدافع إليها أمراً تافهاً، وذلك لما قلنا من أنّ الدافع وما يندفع إليه ليسا سواء ولا متحدين في القيمة، فربّما يكون الدافع أمراً تافهاً، ولكنّه يدفع الإنسان إلى أمر ذي بال، كما لو دفعت الحرب إلى اختراع أجهزة مفيدة، أو دفعت غريزة طلب الجاه أو الشهرة أو الثروة إلى ابتداع مكتشفات نافعة.

ثانياً: أنّ هذه النظرية وسابقاتها من قبيل التحليل القائم على أمر غير ثابت أبداً، بل ممّا ثبت خلافه، وهو أنّ العقيدة الدينية أمر موهوم لا علّة له من فطرة أو عقل، ولمّا كانت العقيدة عندهم أمراً موهوماً أخذ يشرّق أصحاب هذه النظريات ويغربون، ويحاولون ان ينحتوا لنشوء هذا الأمر الموهوم علّة، وهم يرون بأنّ نشوء العقيدة الدينية من قبيل الاعتقاد بنحوسة العدد 13، ونعيب الغراب، وما شا كل ذلك.

ولكن وصف (العقيدة الدينية) بذلك وجعلها في عداد الأوهام والخرافات من أسوأ المواقف تجاه الحقائق، فإنّ للعقيدة الدينية علّة فطرية، وأُخرى منطقية، ولهذا لا مجال لنحت الفرضيات لتفسير وجودها ونشوئها والسماح للخيال بابتداع التبريرات والعلل.

ثالثاً: أنّ هذا التحليل سيف ذو حدّين، لأنّ الظاهر منه هو أنّ صاحبه يعيد عقائد الناس

كيف تناظر ملحدا؟ (448)

إلى العقد الروحية الّتي تعلق بالنفس الإنسانية في فترات من عمر الإنسان، فلو صحّ ذلك فلماذا لا تصحّ هذه النظرية بالنسبة إلى نفس هذه العقيدة التي اختارها المحلّل تجاه الدين ومفاهيمه، حيث ذكر أن العقيدة الدينية ترجع في ابتدائها إلى عقدة روحية، فلماذا لا يكون إلحاد هذا المحلّل (وهو فرويد) وخصومته مع الله سبحانه راجع إلى عقدة روحية أُصيب بها في فترة معيّنة من فترات عمره؟!

والناظر في أمثال هذه التحليلات لا يشك في أنّ كل واحد من المحلّلين قد نظر إلى العقيدة السائدة في عصره وبيئته فجعلها مقياساً لتحليله، ومعياراً لتقييمه.

ولم يكن أُولئك المحلّلون ذوي خبرة وإلمام بالشرائع والعقائد السماوية حتّى يميّزوا المحرّف عن غيره والصحيح عن السقيم، كما عرفت.

رابعاً: انّ هناك شخصيات بارزة في التاريخ الغابرو كذا في العصر الحاضر يعتقدون بالله سبحانه، ويعبدونه لكونه المثل الأعلى للكمال والجمال، وغير ذلك من الصفات العليا لا لكونه يقوم مقام الأب في إزالة الخوف عنهم، وتوفير الحماية اللازمة لهم.

5 ـ نظرية توارث العقيدة

وهي النظرية التي تفسر وجود العقيدة الدينية في الحياة البشرية بكون العقيدة الدينية أمرا فكريا ورثته الأجيال اللاحقة من الأجيال السابقة حتّى وصلت إلى عصرنا الحاضر، وبهذا أراح أصحاب هذه النظرية أنفسهم، وظنّوا بأنّهم اهتدوا إلى تحليل سليم في هذا المجال.

ومن الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية:

أوّلاً: انّ غاية ما تفيده، وتثبته هذه النظرية ـ على فرض صحّتها ـ هو أنّ علّة انتقال العقيدة من الأجيال السابقة إلى اللاحقة، وتواجدها في جميع العصور هو (التوارث الفكري) وهو أمر لا يرتبط بتفسير (نشوء العقيدة الدينية) أساساً، فما ذكروه يعلّل وجود العقيدة الدينية في الأجيال المتلاحقة، لا نشوء العقيدة ابتداءً.

كيف تناظر ملحدا؟ (449)

ثانياً: أنّ سريان العقيدة الدينية وسيادتها في جميع الأجيال يكشف عن أنّ العقيدة الدينية من الأُمور الملازمة للروح والفكر البشري بحيث لا يعقل انفكاكها عنهما، فهي تماماً مثل الأكل والشرب والملبس وغيرها من الفعاليات والحاجات الجسدية الّتي لا تفارق البشر ولا تنفك عنهم.

ومثل هذا الحضور الدائم للعقيدة الدينية في الفكر البشري والحياة العقلية الإنسانية منذ العصر الحجري وإلى عصر الفضاء هذا يكشف عن واقعية هذا الأمر، إذ لا يمكن أن يكون لشيء ما مثل ذلك الحضور الشامل لولا كونه كذلك.

ثانيا ـ الرؤية الإيمانية لمصدر الدين

على خلاف النظرة الإلحادية التي اضطربت في تفسير سر نشوء الأديان وانتشارها، نرى الرؤية الدينية واضحة في هذا المجال، ومتفق عليها في أكثر الأديان، وهي كونها نتيجة لتواصل الله مع عباده لهدايتهم وتعريفهم بحقيقة الكون الذي يعيشون فيه، وحقيقة الوظائف التي تناط بهم في هذه النشأة، مع تعريفهم بحقائق الوجود ومصيرهم، وكل الأسئلة التي تسألها عقولهم وفطرهم، ولم يستطيعوا الإجابة عنها.

وللاستدلال لهذا المصدر جانبان:

جانب عقلي مجرد: يراد منه إثباب إمكانية النبوة ووجوبها، وأن الله الذي خلق هذا الكون ووفر فيه كل أصناف الحاجات يستحيل أن يترك خلقه من دون هداية، ويبحث هذا عادة فيما يسمى بالنبوة العامة، أي البحث عن مطلق النبوة، من دون تخصيص بنبيٍّ دون نبي.

جانب عقلي واقعي: يراد منه إثبات وجود النبوة واقعا، والاستدلال لها بالأدلة العقلية المثبتة لذلك، مع وضع الضوابط المميزة للنبوة الكاذبة من النبوة الصادقة، ويبحث هذا عادة فيما يسمى النبوة الخاصة، أي إثبات نبي خاص، كنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

كيف تناظر ملحدا؟ (450)

وسنتحدث هنا باختصار بعض ما ذكره المتكلمون في هذه الأنواع من الاستدلالات مع العلم أننا خصصنا لها سلسلة كاملة، وهي سلسلة [حقائق ورقائق] التي وضعنا فيها البراهين المختلفة لإثبات النبوة، والرد على الشبهات المختلفة المرتبطة بها، وذلك في قالب روائي حواري مبسط (1).

وقد اعتمدنا بالدرجة الأولى في هذا المبحث على ما كتبه العلامة الكبير الشيخ جعفر السبحاني في كتابه القيم [الالهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل] (2)، فهو كتاب طرح في جزئه الثالث أصناف الأدلة التي قررها المتكلمون بأحسن طريقة، بالإضافة إلى تبسيطها وربطها بالواقع، وبالقرآن الكريم، كعادته في جميع مؤلفاته القيمة.

1 ـ الأدلة العقلية العامة

وهي الأدلة التي استعملها المتكلمون في مواجهة منكري النبوة، وخصوصا من المؤمنين منهم بالله، أو أولئك الذين يطلق عليهم [الربوبيون (3)]، والذين يتبنون الفلسفة الربوبية،

__________

(1) وسنتحدث عنها بتفصيل في كتاب خاص مثل هذا الكتاب، يعلم كيفية مناظرة منكري النبوة، ويرد على جميع الشبهات المرتبطة بها..

(2) انظر: الالهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، تأليف: الشيخ جعفر السبحاني، بقلم: الشيخ حسن محمد مكي العاملي، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام، الطبعة: السابعة 1388.

(3) برزت الربوبية في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر خصوصاً خلال عصر التنوير، لا سيما في ما يعرف الآن بالمملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة وأيرلندا. معظمهم الربوبيون في ذلك الوقت كانوا قد ولدوا مسيحيين ولكن تركوا المسيحية بسبب عدة قضايا مثيرة للجدل ووجدوا أنهم لا يمكنهم الإيمان بالثالوث أوإلوهية سيد المسيح أو المعجزات ثم انتشروا في العالم، انظر: المسيحية عبر العصور، إيريل كيرنز، ص 441.

كيف تناظر ملحدا؟ (451)

وهي مذهب فكري لا ديني يؤمن بوجود خالق عظيم خلق الكون، وأنه يمكن التعرف عليه باستخدام العقل ومراقبة العالم الطبيعي وحده دون الحاجة إلى أي دين.

ومعظم الربوبيين يميلون إلى رفض فكرة التدخل الإلهي في الشؤون الإنسانية كالمعجزات والوحي، ولذلك لا يؤمنون بالمسيحية واليهودية والإسلام وباقي الديانات التي تستند على المعجزات والوحي، بل يرفضون فكرة أن الاله كشف نفسه للإنسانية عن طريق كتب مقدسة.

وهم يذكرون أن الله أو [الإله] أو [المهندس العظيم الذي بنى الكون] لديه خطة لهذا الكون لا تغيير سواء بتدخل الله في شؤون الحياة البشرية أو من خلال تعليق القوانين الطبيعية للكون.

ولذلك يتفق الربوبيون مع الملاحدة في كون الأديان مجرد تفسيرات صادرة عن البشر بدلا من مصادر موثوقة.

والرد على هؤلاء يستدعي بحوثا كثيرة ذكرها المتكلمون لا علاقة كبيرة لها بما نحن فيه، لأن غرضنا من هذا الكتاب هو الرد على الإلحاد، الذي هو إنكار وجود الله.

ولكنا مع ذلك سنختصر ما ذكره المتكلمون هنا، باعتباره أيضا من الأدلة على وجود الله، فمن أعظم أدلة وجود الله إعلان الله عن نفسه عن طريق أنبيائه وكتبه المقدسة.

وبناء على هذا، فإن المتكلمين ردوا على كل تلك الشبهات الي يثيرها الربوبيون حول الحاجة إلى النبي، ومنها ادعاؤهم أن (الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها. فإن جاء بما يوافق العقول، لم يكن إليه حاجة، ولا فائدة فيه. وإن جاء بما يخالف العقول، وجب ردّ قوله)، أو بعبارة أخرى: (إنّ الّذي يأتي به الرسول لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون معقولاً،

كيف تناظر ملحدا؟ (452)

وإمّا أن لا يكون معقولاً.. فإن كان معقولاً، فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول. وإن لم يكن معقولاً، فلا يكون مقبولاً. إذ قبول ماليس بمعقول، خروجٌ عن حد الإِنسانية ودخولٌ في حريم البهيمية)

والجواب على هذا هو أن حصر ما يأتي به الرسول بموافق العقول ومخالفها، حصر غير حاصر، ذلك أن هنالك شقاً ثالثاً وهو إتيانهم بما لا يصل إليه العقل بالطاقات الميسورة له، فعقل الإنسان وتفكّره قاصر عن نيل الكثير من المسائل.

ومن الشبهات التي ذكرها الربوبيون أيضا ادعاؤهم أن (العقل قد دل على أن الله تعالى حكيم، والحكيم لا يتعبّد الخلق الاّ بما تدل عليه عقولهم، وقد دلّت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً، وأنه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر. فننظر في آيات خلقه بعقولنا، ونشكره بآلائه علينا. وإذا عرفناه وشكرنا له، إستوجبنا ثوابه. وإذا أنكرناه وكفرنا به، إستوجبنا عقابه. فما بالنا نّتبع بشراً مثلنا؟)

والجواب على هذا هو ـ بالإضافة إلى ما ذكر في رد الشبهة الأولى ـ هو أن كثيراً من الناس لا يعرفون كيفية الشكر، فربما يتصورون أن عبادة المقرَّبين نوع شكر لله سبحانه. فلأجل ذلك ترى عبدة الأصنام والأوثان يعتقدون أن عبادتهم للمخلوق شيئاً موجباً للتقرّب.

بالإضافة إلى أن تخصيص برامج الأنبياء بالأمر بالشكر والنهي عن كفران النعمة، غفلة عن أهدافهم السامية، ذلك أنهم جاءوا لإسعاد البشر في حياتهم الفردية والاجتماعية، ولا تختص رسالتهم بالأوراد والأذكار، وإنما لأهداف أخرى أكبر بكثير.

ومن الشبهات التي ذكرها الربوبيون أيضا ادعاؤهم أن (العقل دل على أن للعالم صانعاً حكيماً، والحكيم لا يتعبدّ الخلق بما يَقْبُح في عقولهم، وقد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقول، كالتوجه إلى بيت مخصوص في العبادة، والطواف حوله، والسعي، ورمي الجمار، والإِحرام، والتلبية، وتقبيل الحجر الأصمّ. وكذلك ذبح الحيوان، وتحريم ما يكون غذاءً

كيف تناظر ملحدا؟ (453)

للإنسان، وتحليل ما يُنقص من بنيته)

والجواب على هذا هو ـ بالإضافة إلى ما ذكر في رد الشبهات السابقة ـ هو أن هذا الدليل مبني على الجهل بمصالح الأحكام ومفاسدها، ولذلك فإن زعم هذا المنكر أن ما جاء في شريعة الإسلام من حج بيت الله الحرام بآدابه الكثيرة، أمر على خلاف العقل، ولكن الدارس لفلسفة الحج، يقف على عظيم المصالح والمنافع الّتي يتضمنها، والمجال لا يسمح باستقصائها.

فالتوجه إلى البيت ـ مثلا ـ رمز الوحدة بين المسلمين في جميع أقطار المعمورة، ولو تعددت وجهاتهم في أداء مراسمهم العبادية، لسادت الفوضى فيهم ووقع الإِنشقاق بينهم في القطر الواحد فضلاً عن سائر الأقطار.

وهكذا الحال في بقية المراسم العبادية، والواجبات والمنهيات الشرعية. وقد كشف العلم الحديث عن الفوائد العظيمة الّتي تشتمل عليها بعض الواجبات الشرعية كالصوم. والمضار الكبيرة الّتي تشتمل عليها بعض المنهيات الشرعية كأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وغيرهما.

بناء على هذا، فإن العناية الإلهية التي وفرت لكل شيء حاجاته التي يعتمد عليها، وأضافت إلى ذلك الكثير من الكماليات التي تُسهِّل عليه معيشتَه وتكاملَه في الحياة، تقتضي توفير هذا النوع من الهداية، بل هو أولى من الكثير من الكماليات.. فهل يمكن لخالق الإنسان أن يسهَل له كل طرق التكامل الظاهرية، ثم يترك ما هو دخيل في تكامله الروحي والمعنوي؟.. وهل يمكن لأحد أن ينكر دور الأنبياء في تكامل الإنسان، ولو على وزان دور الخطوط في بواطن الأنامل على الأقل؟.. أو يصح من الخالق الحكيم أن يهب له تلك الأجهزة المُؤَثِّرة في كمالاته المادية، ويترك ما هو مؤثر في تكامل روحه وفكره؟.

وقد أشار إلى هذا البرهان ابن سينا، فقال: (الحاجة إلى هذا (بعث النبي) في أن يبقى نوع الإنسان ويتحصَّل وجوده، أشدّ من الحاجة إلى نبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين، وتقصير الأخمص من القدمين، وأشياء أُخرى من المنافع الّتي لا ضرورة إليها في البقاء... فلا

كيف تناظر ملحدا؟ (454)

يجوز أن تكون العناية الأُولى تقضي تلك المنافع، ولا تقضي هذه الّتي هي أُسُّها) (1)

وأشار إليه صدر المتألهين بقوله: (إن ذاته سبحانه منبع الخيرات ومنشأ الكمالات، فيصدر منه كل ما يصدر على أقصى ما يتصور في حقه من الخير والكمال، والزينة والجمال، سواء أكان ضرورياً له، كوجود العقل للإنسان والنبي للأُمة. وغير ضروري، كإنبات الشعر على الأشفار والحاجبين، وتقصير الأخمص من القدمين) (2)

واستدل القاضي عبد الجبار لهذا بقوله: (إنه تعالى كلّف المكّلف، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب، وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب، واجتنب القبيح، فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل وإلا عاد بالنقض على غرضه، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد أتخذه، وعلم من حاله أنه لا يجيبه، إلا إذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره، فإنه يجب عليه أن يبعث، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه. وكذلك ها هنا) (3)

وقال الفاضل المقداد: (إنا بيَّنّا أنه تعالى مريد للطاعة وكاره للمعصية، فإذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة، أو لا يترك المعصية، أو لا يكون أقرب إلى ذلك إلا عند فعل يفعله به، وذلك الفعل ليس فيه مشقة ولا غضاضة، فإنه يجب في حكمته أن يفعله، إذا لو لم يفعله لكشف ذلك: إما عدم إرادته لذلك الفعل، وهو باطل لما تقدم، أو عن نقض غرضه، إذا كان مريداً له، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.. ويجري ذلك في الشاهد مجرى من أراد حضور

__________

(1) الهيات الشفاء، بحث النبوة، ص 557 طبعة طهران. وأورده بعينه في كتاب النجاة، ص 304، طبعة 1357 هـ.

(2) المبدأ والمعاد، لصدر المتألهين، ص 103، طبعة طهران.

(3) شرح الاصول الخمسة، ص 521.

كيف تناظر ملحدا؟ (455)

شخص إلى وليمة، وعرف أو غلب على ظنه أن ذلك الشخص لا يحضر إلا مع فعل يفعله، من إرسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة أو غير ذلك من الأفعال، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه.. ونقض الغرض باطل، لأنه نقص، والنقص عليه تعالى محال، ولأن العقلاء يعدونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة) (1)

وأشار إليه قبل ذلك كله الإمام علي، فقال: (أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأَن يعرّفهم مالهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي، والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلا بالترغيب، والوعيد لا يكون إلا بالترهيب، والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم، والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك..) (2)

بناء على هذا؛ فإن هناك ثلاث حاجات أساسية لا يمكن تحقيقها من دون تواصل الله تعالى مع خلقه عبر أنبيائه، وهي:

أ ـ الحاجة إلى معرفة حقائق الوجود

فالإنسان رغم التقدم الّذي أحرزه في الكثير من العلوم إلا أن ما أحرزه ضئيل جداً أمام أسرار الكون العظيم، وممّا يوضح قصور العلم البشري في هذا المجال أننا نجد ملايين البشر على مستوى راق في الصناعات والعلوم الطبيعية، إلى حد أوقعوا العالم في إسارة استهلاك مصنوعاتهم، ومع ذلك فهم في الدرجة السفلى في المعارف الالهية.

وقد بلغ الحد في اليابان أن جعلوا لكل حادثة ربّاً، حتى أن هناك رباً باسم (رب الزواج)، يتوسل إليه البنات الذين تأخروا في الزواج، ليؤمن لهم الأزواج المناسبين، وبالهند

__________

(1) ارشاد الطالبين، ص 277 ـ 278.

(2) بحار الانوار، ج 5، ص 316.

كيف تناظر ملحدا؟ (456)

مئات الملايين يقدسون (البقر)

فإذا كان هذا هو حال المعارف الإلهية في عصر الفضاء والذرة، وبعد ما جاءت الرسل تترى لهداية البشر، فما هو حالها لولا الهداية الإلهية عن طريق الرسل؟

نعم، هناك نوابغ في التاريخ عرفوا الحق وتعرفوا عليه عن طريق التفكير والتعقل، كسقراط وأفلاطون وأرسطو، لكنهم أُناس استثنائيون، لا يعدون معياراً في البحث، ولا ميزاناً في نفي لزوم البعثة، وكونهم عارفين بالتوحيد، لا يكون دليلاً على مقدرة الآخرين عليه، على أنه من المحتمل جداً أن يكون وقوفهم على هذه المعارف في ظل ما وصل اليهم من التعاليم السماوية عن طريق رسله سبحانه وأنبيائه.

ب ـ الحاجة إلى معرفة سنن الكون ونواميسه ونظامه

لا يقتصر دور الأنبياء على تعريف البشر بحقائق الوجود، بل من أهدافهم الكبرى تعريفهم بالسنن والنواميس والقوانين التي يسير الكون على أساسها، والتي لا يمكن للعقل المجرد أن يصل إليها بدون سند إلهي.

فالمجتمع الإنساني ـ مع ما بلغه من الغرور العلمي ـ لم يقف بعد على ألفباء الأقتصاد. فقد انقسم العالم الحديث إلى طائفتين: واحدة تزعم أن سعادة البشرية في نظام الرأسمالية والإقتصاد الحر المطلق، وانه هو العامل الوحيد لرفاه المجتمعات وتفجّر الطاقات. والأخرى تدّعي أنّ سعادة البشر في النظام الاشتراكي بدءً والشيوعي غايةً، فالسعادة كلها في سلب الملكية عن أدوات الإنتاج وتفويضها إلى الدولة الحاكمة.

فلو كان الإنسان قادراً بحق على تشخيص المصالح والمفاسد، وما ينفعه وما يضره، لما حصل هذا الإختلاف، الّذي انجر إلى انقسام خطير بين دول العالم.

وكما أن الإنسان لم يصل إلى النظام الاقتصادي النافع له، فهو كذلك لم يصل إلى وفاق في مجال الأخلاق وقد تعددت المناهج الأخلاقية في العصر الأخير إلى حد التضاد فيما بينها.

كيف تناظر ملحدا؟ (457)

وكمثال على ذلك نرى الشيوعية تدعي لنفسها منهجاً أخلاقياً من أُصوله أن الإنسان لا يكون شيوعياً إلا بالتضحية بكل شيء لبناء صرح حكومة العمال في العالم، وكل ما كان يصبّ في هذا المنحى فهو من الأخلاق الفاضلة، وإن كان ذلك إعداماً، وتدميراً وسرقة واختلاساً، كما عبر لينين عن ذلك بقوله: (إن الشيوعي هو من يتحمل كل التضحيات ويلجأ إلى انواع الحيل والأفعال غير المشروعة، ليجد لنفسه موضعاً، وموطيء قدم في الإِتحاديات التجارية) (1)

فإذا كان هذا حال الإنسان في معرفة المسائل الابتدائية في الاقتصاد والأخلاق، فما ظنك بحاله في المسائل المبنية على أُسس تلك العلوم. أفبعد هذا الجهل المطبق يصح لنا أن نقول إن الانسان غني عن الوحي في سلوك طريق الحياة؟

وبناء على هذا، فإن البشر يحتاجون إلى من ينظم لهم حياتهم، ويكشف لهم عن القوانين والنظم التي يسير عليها الكون والحياة، والتي يحققون بموجبها غاية خلقهم، والهدف من إيجادهم.

ج ـ الحاجة إلى الهداية والتزكية

ذلك أنه لا تكتمل ولا تتوازن حياة الإنسان إلا إذا عاش على مقتضى متطلبات الفطرة ومتوخيات الغرائز، بل العيش على خلاف هذه المتقضيات يؤدي بالحياة البشرية إلى الهلاك، وما مثل هذا إلا كالسابح في عكس تيار الماء، لن تكون عاقبته إلا الإرهاق وانهيار القوى فيتوقف عن السباحة ويبتلعه الماء.

ومن جملة الأمور الفطرية المودعة في وجود الإنسان، والّتي تتفجر في أوائل البلوغ والتمييز معرفةُ الله سبحانه، والميل إلى الأمور الحسنة، والانزجار عن الأمور السيئة، ولأجل

__________

(1) موسوعة نيقولاي لينين، ج 17، ص 142، طبعة 1923.

كيف تناظر ملحدا؟ (458)

ذلك لاترى إنساناً ـ لم يقع تحت تأثير الأهواء وعوامل الانحراف ـ يَعُدُّ ردّ الامانة قبيحاً، والخيانة بها كرامة، كما لا يعد العمل بالعهد أمراً سيئاً، ونقضه أمراً حسناً، وهكذا الكثير من الأمور كالميل إلى العفة والعدالة والإنزجار عن الدناسة والخيانة.. وكل ذلك ممّا يلمسه الإنسان في حياته ويعايشه في وجدانه، وقد كشف عنه العلم الحديث وأيّده.

لكن هذه الغرائز ـ وإن كان بها قوام الحياة ـ قد تخرج عن فطريتها، وتحتاج إلى تهذيب وتزكية وتربية، مثلها مثل الثلوج المتراكمة على قمم الجبال إنما يمكن الإنتفاع بها إذا كان هناك جداول وقنوات تمتد من رأس كلّ جبل إلى السهول المحيطة به، فتسيل فيها مياه الثلوج الذائبة بالتدريج. وفي غير تلك الصورة يسيل الماء كيف كان، جارفاً في طريقه الاحجار والصخور، وربما أنقلب إلى سيل جارف يدمّر كلَّ شيء أمامه.

وكذلك الفِضَل المغروسة، أو البذور المنثورة على الأرض، تحمل في ذواتها قوى واستعدادات، إلا أنَّ تفجُّر تلك الطاقات يحتاج إلى من يتعهدها حراسةً وسقايةً وعنايةً على النحو المأنوس، وعندها تصير الفِصل أشجاراً مثمرة، والبذور سنابل ذهبية.

فإذا كانت الإستفادة من الثلوج المتراكمة على الجبال، والفصل المغروسة والبذور المنثورة على الأرض، متوقفاً على هداية خاصّة، حتى تصب في مجراها الصحيح، وتَرْشُدَ على نهجها الطبيعي، فكذلك الأمر في السجايا الإنسانية والغرائز البشرية الكامنة في وجود الإنسان، فإنها لن تعود عليه بالنفع والصلاح إلا في ظل هداية تمنعها من الإفراط والتفريط، وتسيّرها في ما هو صالح البدن والروح.

وكمثال على ذلك غريزة الميل إلى عوالم الغيبية، فان لها جذوراً في عمق وجود الإنسان، ولم يزل كل انسان من صباه إلى كهولته ميّالاً إلى تلك العوالم، شغوفاً بحب الاطلاع عليها، والخضوع لها، لكن هذا الميل إذا لم يقع في إطار الهداية والتوجيه الإلهي، يسفّ بالإنسان إلى الحضيض، ويصنع منه عابداً للحجر والخشب والعجماوات، خاضعاً للشمس والقمر والنار.

كيف تناظر ملحدا؟ (459)

لكنها إذا كانت تحت ظل هداية إلهية، تتجلى بمظهر التوحيد، وأَنّ للعالم بأسره إلها واحداً أحداً عالماً، قادراً، محيطاً بكل شيء، جامعاً لكل صفات الكمال والجمال.

وهكذا الحال مع الميول الطبيعية، كالميل إلى الزواج والتسلط على المناصب والتكاثر في الأموال، فلو تركت هذه الغرائز من غير تهذيب، لتحول الإنسان إلى حيوان ضار، مدمر لكل شيء بغية تحصيل المال والاستبداد بالمناصب.

وأما لو كبح جماحها، وعدّلت ميولها بهداية تحدد مجاريها وتُرشد صاحبها إلى كيفية الإستفادة منها، لصار موجوداً عاقلاً متكاملاً سعيداً في حياته، متآلفاً ومتآزراً مع سائر بني نوعه، لبناء المجتمع الصالح.

وبناء على هاتين المقدمتين احتاجت البشرية إلى من يقوم بهذه المهمة؛ فالعقل، مع الإعتراف بأنه يضيء الطريق أمام الإنسان، ويأخذ بيده في المزلاّت والمزالق، إلا أنه قاصر عن مصارعة الغرائز المتفجرة وكبح ثورانها، فإن كلَّ إِنسان يعلم من نفسه أن غرائزه وميوله الشهوية إذا تفجرت، لم تترك للعقل ضياءً ولا للفكر نوراً، بل كان مثل العقل حينذاك مثل الإنسان المبصر إذا وقع في مهب الرياح والزوابع الرملية، فإنها تَكُفُّ بَصَرَه عن الرؤية وتُعَرْقِل مسيرهُ.

وفي تلك الحالات، لا ينفك العقل عن خداع صاحبه لتبرير عمله، وإيجاد الذرائع لارتكابه، بحيث لوكان هذا الإنسان في موقف عادي خال عن ذلك الثوران في العواطف والغرائز لما اعتنى بشي من تلك التسويلات، ولذلك لا تجد مجرماً يقوم بجناية إلاّ وهو يلقي لنفسه الأعذار والتبريرات حين إقدامه عليها.

وكيثراً ما يستهين الإنسان في تلك الحالات ـ على فرض التفاته إلى خطورة وقبح ما يقوم به ـ بما يترتب عليه من الذم واللوم والعقاب، قضاءً لوَطره منه، وإشباعاً لشهوته ممّا يناله من اللذائذ المادية.

كيف تناظر ملحدا؟ (460)

وأما رجالات الأخلاق والإجتماع، فمع أنّ لهم دوراً في تهذيب النفوس ودفعها إلى الكمال، وكبح جماح غرائزها على الإجمال، إلا أَنّ عملهم لا يخلو عن نقائص ربما تَذْهَبُ بأعمالهم أدراج الرياح.

أما أولاً، فلأنَّ شرط التربية، الوقوف على رموز الخلقة، والتعرف على خصوصيات من ترجى تربيته. وليس لهذه الشخصيات، العلم المحيط بخصوصيات الإنسان، لا لقلة عملهم وضيق أَفكارهم، بل لعظمة الإنسان في روحه ومعنوياته، وغرائزه وفطرياته، وهو أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله، ولا يضاء محيطه. وقد خفيت كثير من جوانب حياته ورموز وجوده، حتى لقُّب بـ (الموجود المجهول)

ويُصدِّق ضالة هذه المعرفة، تزايدُ الفساد وارتفاع نسبته في أقطار العالم عبر نفس المناهج التربوية الّتي تصّوبها تلك الشخصيات المرموقة في عالم التربية.

وأما ثانياً، فَلأن الحجر الأساس لتأثير التربية، أنْ يكون المربي إنساناً كاملاً وموجوداً مثالياً، يتمتع بسمو الأخلاق والملكات، فيجذب بها القلوب، ويشد إليها النفوس.

ومن المعلوم أن واضعي المناهج التربوية في العالم، وإن كانوا خبراء في مجال تخصُّصِّهم، إلا أنّهم فاقدون لهذا الشرط الأساس، فهم يوصون ببسط العدل، وحماية المستضعف، وترك الخمر والقمار، ومع ذلك هم مرتكبون لها، واقعون فيها.

ولا يشذ عنهم إلا من كان مراعياً للدين متمسكاً بأهدابه، ولكن الفضل حيئنذ لا يعود إليه بل إلى صاحب الشريعة الّذي سَنَّ تلك البرامج والمناهج.

وأما ثالثاً، فلأن المناهج التربوية لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت منتسبة إلى الخالق سبحانه، فإنّ هذا يمنحها ضمان الإجراء والتجسّد في المجتمع لارتباطهابعوامل التشويق إلى الثواب والتحذير من العقاب، وإلا فلن تعدو مجموعة نصائح شخصية أو مدرسية، ما أسرع ما تتهاوى أمام ضربات معاول الشهوة الثائرة.

كيف تناظر ملحدا؟ (461)

ومجموع ما ذكرناه يدلنا على أن مهمة هداية الغرائز والفطريات، الّتي تصنع من الإنسان موجوداً عارفاً بالنُّظُام، مؤمناً بالمناهج، مجرياً لها في ليله ونهاره، وسّره وإعلانه، لا تتم إلا بيد رسل مبعوثين من جانب خالق البشر، بمناهج كاملة أنزلها إليهم، وحفّها بدوافع الطاعة من المغريات بالثواب والمحذّرات من العقاب.

2 ـ الأدلة العقلية الخاصة

بناء على ما سبق؛ فقد ظهرت الحاجة إلى البحث عن المصاديق الذين تتوفر فيهم الخصائص الكافية للقيام بهذا الدور، وطبعا فإن أي إنسان لا يمكنه أن يقبل ادعاءات الآخرين بلا دليل يثبتها، وإلا خالف فطرته، كما قال ابن سينا: (من قبل دعوى المدعي بلا بيّنة وبرهان، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية)

وبناء على هذه ظهرت الحاجة إلى وضع ضوابط تحمي هذه الوظيفة الخطيرة التي يتوقف عليها فهم كل حقائق الوجود وأنظمته وقوانينه وقيمه، ثم تطبيقها على جميع من يدعي النبوة، لتمييز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل.

والفرق بين المؤمنين في هذا وبين غيرهم، هو أن المؤمنين التمسوا طرقا علمية للتحقيق، يوافق عليها العقل والفطرة، بينما راح الملاحد والربوبيون يحكمون حكما عاما على كل مدعي النبوة بناء على أخطاء وجدوها، وهذا خلاف ما يقتضيه المنهج العلمي.

ومن الضوابط التي وضعها العلماء لإثبات صحة النبوة:

أ ـ ادعاء النبوة

فلا يكفي أن يكون الشخص مشهورا أو عظيما في عيون الناس حتى نعتبره واسطة هداية من الله لعباده، بل يجب أن يقترن ذلك بادعائه لهذه الوساطة، لننظر بعدها في إمكانية توفره على شروط هذه الوساطة.

وهذا الضابط يخرج أكثر من عرفتهم البشرية من شخصيات عظيمة مشهورة، قد يتوهم

كيف تناظر ملحدا؟ (462)

أن لها دورا في تعريف الخلق بحقائق الوجود، أو هدايتهم إلى سننه ونواميسه.

فيخرج بهذا الضابط كل الملوك الجبابرة، وكل قادة الجيوش، وكل الحكماء والفلاسفة وكل الشعراء والأدباء، ذلك أنهم جميعا لم يدعو النبوة، ولم يذكروا أن ما جاءوا به من عند الله (1).

ب ـ الإتيان بالمعجزة

وهو من الضوابط التي اتفقت عليها الفطر، ودل عليها العقل، وأثبتها القرآن الكريم، فقد ورد فيه النصوص الكثيرة الدالة على أن من معايير وضوابط تمييز النبي عن المتنبي تَجهّز المدّعي بالإعجاز، وإتيانه بخوارق العادة، متحدياً بها غيره على وجه لايقدر أحد على مقاومته، حتى نوابغ البشر.

ولأجل ذلك لمّا ادّعى صالح ـ عليه السَّلام ـ النبوّة، قوبل بجواب قومه: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154]، فأجابهم صالح ـ عليه السَّلام ـ لطلبهم، ولو كان طلبهم غير معقول لما أجابهم، فقد قال تعالى تعقيبا على الآية السابقة: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 155، 156]

وهكذا ذكر القرآن الكريم أن الأنبياء عليهم السلام يخبرون الناس بتجهيزهم بالمعجزات عند طرحهم دعوى النبوة، قبل أن يطلبها الناس منهم، كما قال موسى عليه السلام مخاطباً فرعون: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105]

وقد ورد في القرآن الكريم أن فرعون طالب بالبينة، وهو دليل على أن الفطر والعقول

__________

(1) انظر (الرسالة المحمدية) للسيد سليمان الندوي.

كيف تناظر ملحدا؟ (463)

تقتضي ذلك، قال تعالى: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 106]

وهكذا أخبر الله تعالى عن المسيح ـ عليه السَّلام ـ أنه جاء بالمعجزات الدالة على صدقه، قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49]

والمراد من المعجزة ـ كما عرفها المتكلمون ـ: (أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة) (1).

فالمعجزة ـ حسب هذا التعريف ـ أمر خارق للعادة، وليس خارقاً للعقل، فالمعجزة لا تضاد حكم العقل الباتّ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علّة، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين، لأن هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها، وإنما هي خارقة للقواعد العادية، أي أنّها تعدّ محالاً حسب الأدوات والأجهزة العادية، والمجاري الطبيعية.

وكمثال تقريبي على هذا ما جرت العادة عليه من أنّ حركة جسم من مكان إلى مكان آخر تتحقق في إطار عوامل وأسباب طبيعية بدائية أو وسائل صناعية متحضرة، ولكن لم تعرف العادة أبداً حركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين، بلا تلك الوسائط العادية، ولكن هذا غير ممتنع عقلاً، إذ لا يمتنع أن تكون هناك أسباب

__________

(1) وقد عرّف المحقق الطوسي الإعجاز بقوله: (هو ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد، مع خرق العادة ومطابقة الدعوى)، (كشف المراد ص 218، طبعة صيدا ـ 1353 هـ)

كيف تناظر ملحدا؟ (464)

أخرى لتحريك هذا الجسم الكبير، لم يقف عليها العلم بعد.

ومن الأمثلة على هذا أنّ معالجة الأمراض الصعبة كالسِّل والعَمَى، أمر ممكن لذاته عقلاً، ولكنه كان أمراً محالاً عادة في القرون السالفة، لقصور علم البشر عن الوقوف على الأجهزة والأدوية الّتي تعيد الصحة إلى المسلول، والبصر إلى الأعمى، ومع تقدم العلم تذلّلت الصعاب أمام معالجة هذه الأمراض، فصار بإمكان الطبيب الماهر القيام بالمعالجة عن طريق الأدوية والعمليات الجراحية، وفي المقابل هناك طريقة أخرى للعلاج، وهي الدعاء والتوسّل إلى الخالق تعالى.

والعلاج ـ بكلا الطريقتين ـ يشترك في كونه أمراً ممكناً عقلاً، غير أنّه يختلف في الطريقة الأولى عن الثانية، بالطريق والسبب، فالطبيب الماهر يصل إلى غايته بالأجهزة العادية، فلا يعد عمله معجزة ولا كرامة، والنبي ـ كالمسيح وغيره ـ يصل إلى نفس تلك الغاية عن طريق غير عادي، فيسمى معجزة.

فالعمل في كلتا الصورتين غير خارق لأحكام العقل، إلاّ أنّه موافق للعادة في الأولى دون الثانية، ويقاس على هذا كل معجزات الأنبياء عليهم السلام التي تتميز بكونها خارقة للعادة غير خارقة للعقل.

والقيد الثاني في التعريف هو ارتباط الإعجاز بالدعوى، فإذا لم يرتبط بذلك لم يعتبر صاحبه نبيا، كما ذكرنا ذلك في الضابط الأول، ويخرج بهذا الضابط الكرامات والخوارق التي أجراها الله على لسان أوليائه أو غيرهم.

والقيد الثاني في التعريف هو عجز الناس عن مقابلته، وهو يتحقق بدعوة الناس إلى المقابلة والمعارضة، وطلب القيام بمثله، وعجز الناس كلهم عن الإتيان بمثله.

وإلى كلا الأمرين أشير في التعريف بلفظ (التحدي)، ويترتب على هذا أنّ ما يقومُ به كبارُ الاطباء والمخترعين من الأمور المعجبة، خارجٌ عن إطار الإعجاز، لانتفاء الأمرين فيهما.

كيف تناظر ملحدا؟ (465)

كما أنّ ما يقومُ به السحرة والمرتاضون من الأعمال المدهشة، لا يُعَدّ معجزاً لانتفائهما أيضاً، خصوصاً الأمر الثاني، لقيام المرتاض الثاني بمثل ما قام به المرتاض الأول، بل بأعظم منه.

والقيد الرابع أن يكون عمله مطابقاً لدعواه، فلو خالف ما ادّعاه ما سمّي معجزة، وإن كان أمراً خارقاً للعادة، وذلك كما حصل مع مسيلمة الكذّاب عندما ادّعى أنّه نبي، وآية نبوته أنّه إذا تفل في بئر قليلة الماء، يكثر ماؤها: فتفل فغار جميع مائها، وأمَرَّ يده على رؤوس صبيان بني حنيفة، وحنّكهم، فأصاب القرع كلّ صبيٍّ مَسَحَ على رأسه، ولَثَغَ كُلُّ صبيٍّ حَنَّكَهُ (1).

ومن الشبهات المرتبطة بهذا اعتبار المعجزة دليلا إقناعيا الغرض منه أن يرضي عامة الناس وسوادهم ويجلب اعتقادهم بصدق دعوى المدّعي، لا كونه دليلا عقليا منطقيا.

ويستدلّ هؤلاء على مقالتهم، بأنّ الدليل البرهاني يتوقف على وجود رابطة منطقية بين المّدَّعَي والدليل، وتلك الرابطة غير موجودة في هذا المحل، إذ كيف يكون خرق العادة وعجز الناس عن المقابلة، دليلاً على صدق المدّعي في كونه نبيّاً وحاملاً لشريعة إلهية، إذ لو صحّ ذلك لصحّ أن يقال: إنّ قيام الطبيب بعملية جراحية بديعة، دليلٌ على صدق مقاله في المسائل النجومية والفلكية. أو صدق تخطيطاته السياسية والاجتماعية. ومن المعلوم، انتفاء الرابطة المنطقية بينها.

ومن الانتقادات التي يمكن توجيهها لهذه الشبهة:

أولا ـ أننا عندما نلاحظ الأمور التالية، الّتي يسلمها صاحب الشبهة نصل إلى الدلالة العقلية المنطقية للمعجزة، وهي:

1. أنّ الخالق عادلٌ لا يجور، وحكيمٌ لا يفعل ما يناقض الحكمة.

2. أنّه سبحانه يريد هداية الناس، ولا يرضى بضلالتهم وكفرهم.

__________

(1) لاحظ تفصيل هذه الوقائع في تاريخ الطبري، ج 2، ص 507.

كيف تناظر ملحدا؟ (466)

3. أنّ المعجزة إنّما تعدّ سنداً لصدق دعوى النبوة إذا كان حاملها صاحب سيرة نقية لم يُسَوِّدها شيء من الأعمال المشينة، وأن تكون شريعته مطابقة للعقل، وموافقة للفطرة. أو على الأقل، لا يرى فيها ما يخالف العقل والفطرة.

فلو انتفى الشرط الأول، بأن كانت سوابقه سيئة، لكفى ذلك في تنفر الناس عنه، ومثله لو انتفى الشرط الثاني، بأن كانت شريعته مخالفة للعقل والفطرة، لما تَقَبَّلها أصحاب العقول السليمة.

أمّا لو توفّر الشرطان فيه، فتتطاول إليه الأعناق، وتنقاد له القلوب، ولشرعه العقول، فيسلّمون ما يقول، ويطيعون ما أمر، وهنا نقول: لو كانت دعوة هذا المدّعي، صادقة، فإعطاؤه القدرة على الإتيان بالعجائب والخوارق، مطابق للحكمة الإلهية.

وأمّا لو كانت دعواه كاذبة، فإعطاؤه تلك القدرة، وتسخير عالم التكوين له، في تلك الظروف، على خلاف الحكمة، وعلى خلاف الأصل الثاني المتقدم أعني أنّه تعالى يريد هداية الناس، ولا يرضى بإضلالهم، وذلك لأنّه تعالى يعلم أنّ الظروف تُوجِدُ في الناس خضوعاً لهذا الشخص، فيكون إقداره على الاعجاز، مع كونه كاذباً، إغراءً بالضلالة، وصدّاً عن الهداية، والله تعالى حكيم لا يفعل ما يناقض غرضه وينافي إرادته، فأي دلالة منطقية أوضح من ذلك؟.

ولتقرير هذا في قالب القياس المنطقي، نقول: إنّه سبحانه حكيم، والحكيمُ لا يجعل الكون ولا بعضَه مُسَخَّراً للكاذب، فالله سبحانه لا يجعل الكون ولا بعضه مسخراً للكاذب. ولكن المفروض أنّ هذا المدّعي مُسَخِّر للكون، فينتج أنّه ليس بكاذب بل صادق.

وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّه سبحانه أوجب على نفسه معاقبة النبي وإهلاكه إذا كذب على الله تعالى، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47]

قال المحقق الخوئي ـ معلقا على الآية الكريمة ـ: (المراد من الآية الكريمة أنّ محمداً الّذي

كيف تناظر ملحدا؟ (467)

أثبتنا نبوّته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يَتَقَوَّل علينا بعض الأقاويل ولو صنع ذلك، لأخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإنّ سكوتنا عن هذه الأقاويل، إمضاءٌ منّا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث) (1).

ثانيا ـ أن نَفْي الرابطة المنطقية بين الإتيان بالمعجزة وصدق الدعوى، أمر يحتاج إلى التحليل، فهو باطل على وجه، وصحيح على وجه آخر.

فإن كان المراد من قلب العصا ثعباناً ـ مثلاً ـ أنّه كالأوسط في القياس، دليلٌ على صدق ما يدّعيه النبي من أنّه سبحانه واحدٌ عالمٌ قادرٌ، ليس كمثله شيء.. فلا ريب في عدم صحته. إذ لا يمكن الإستدلال على صحّة هذه الأصول بالتصرف في الكون.

ولأجل ذلك لم يطرح القرآن أصول الإسلام مجردةً عن البرهنة، بل قَرَنَها بلطائف الدلائل والإشارات، يقف عليها كلُّ متدبّر في الذكر الحكيم، فَيَسْتِدلُّ في البرهنة على وجوده سبحانه بقوله: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، وفي البرهنة على وحدة المدبّر، بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وفي البرهنة على إبطال أُلوهيِة الأصنام، بقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان: 3]، وفي إبطال أُلوهية المسيح، بقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75]، وغيرها من الآيات الكريمة.

وإنْ كان الُمرادُ أنّ خرق العادة الملموسة دليلٌ على أنّهم قادرون على خرق عادة أخرى

__________

(1) البيان في تفسير القرآن، ص 36، الطبعة الثامنة، 1401 هـ ـ بيروت.

كيف تناظر ملحدا؟ (468)

غير ملموسة، وهي الإتصال بعالم الوحي وكون إدراكات النبي خارجة عن إطار الإدراكات العادية المتعارفة، فهو صحيح.

ذلك أن الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ كانوا يواجهون في تبليغ رسالاتهم إشكالين عظيمين في أعين الناس:

أولهما: أنّهم كانوا يتخيّلون أنّ النبي المرسل من عالم الغيب، يجب أن يكون من جنس الملائكة، ولا يصحّ أن يكون إنساناً مثلهم، كما قال تعالى يحكي عنهم هذا الاعتراض: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10]

وكان الأنبياء يجيبون سؤالهم بأنّ المماثلة أساس التبليغ، والوحدة النوعية غير مانعة منه، لإمكان أن يتفضل فرد من نوع على فرد من ذاك النوع، فيكون الفاضل مُرْسلاً، والمفضول مُرْسَلاً إليه، كما قال تعالى يحكي عنهم هذا الجواب: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم: 11]

وثانيهما: أنّ الإنبياء ـ عليهم السَّلام ـ كانوا يَدَّعون أنّهم يتلقون الأصول والمعارف والأحكام والفروع من الله سبحانه عن طريق الوحي، وهو إدراك خاص يوجد فيهم ولا يوجد في غيرهم، وليس من قبيل الإدراكات العادية الّتي يجدها كل إنسان في صميم ذاته من طريق الإبصار بالعين، والسمع بالأُذن، والتفكّر والإستدلال بالعقل، وبذلك، فإن ادّعاء الإدراك عن طريق الوحي، إدعاءُ أمر خارق للعادة، لأن الإدراكات الإنسانية لا تخرج عن إطار الحسيّات والخياليات والعقليات.

وهذه الدعوى كانت تدعو أقوامهم إلى طلب شاهد يثبت لهم القدرة على خرق العادة، حتى يماثل ما يدّعون، وحتى يستدلّ بخرق عادة مرئية، على وجود نظيرها في باطن وجودهم،

كيف تناظر ملحدا؟ (469)

وصميم حقيقتهم.

ومن منطلق إجابة هذا الطلب، كان الانبياء يفعلون الخوارق، ويأتون بالمعجزات، حتى يدللوا بذلك على تمكنهم من خرق العادة مطلقاً، سواء أكانت مرئية ـ كقلب العصا إلى الثعبان، وتسبيح الحصى ـ أو غير مرئية ـ كالإدراك غير المشابه للإدراكات العادية، الّذي هو الوحي، أو أنهم كانوا يستدلون بخرق العادة الملموسة، على غير الملموسة منها.

ج ـ النبوءات والبشارات

وهي من الأدلة المعتمدة، التي يقر بها العقل، ذلك أنه إذا ثبتت نبوة نبي بدلائل مفيدة للعلم بنبوته، ثم نصّ هذا النبي على نبوة نبي لاحق يأتي من بعده، كان ذلك حجة قطعية على نبوة اللاحق، لا تقل في دلالتها عن المعجزة.

ذلك لأنّ النبي الأول، إذا ثبتت نبوته، ثبت كونه معصوماً عن الخطأ والزلل، لا يكذب ولا يسهو، فإذا قال ـ والحال هذه ـ: سيأتي بعدي نبي اسمه كذا، وأوصافه كذا وكذا، ثم ادّعى النبوّة بعده شخص يحمل عين تلك الأوصاف والسمات، يحصل القطع بنبوته.

ولا بدّ أن يكون الإستدلال بعد كون التنصيص واصلاً من طريق قطعي، وكون الأمارات والسمات واضحة، منطبقة تمام الإنطباق على النبي اللاحق، وإلا يكون الدليل عقيماً غير منتج.

ومن هذا الباب تنصيص المسيح على نبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]

وقد ذكرت التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في كتابي [أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم]، وفيه النصوص الكثيرة الواردة في الكتاب المقدس، والتي تذكر الأوصاف الدقيقة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتي لا تنطبق إلا عليه، كما عبر عن ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا

كيف تناظر ملحدا؟ (470)

يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] بناءً على رجوع الضمير إلى النبي، المعلوم من القرائن، لا إلى الكتاب.

وقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]

وقد آمن كثير من اليهود والنصارى بنبوة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته، لصراحة التباشير الواردة في العهدين.

ونرى أن هذا النوع من الأدلة له من القوة بحيث يمكن اعتباره من الأدلة الحسية ليس على نبوة النبي فقط، وإنما على وجود الله أيضا، خاصة لأولئك الذين يطلبون أدلة حسية واضحة ودقيقة.

ذلك أن تبشير كتب قديمة لا تزال مخطوطاتها القديمة قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موجودة، وفيها نصوص صريحة واضحة بالتبشير به والدعوة إلى اتباعه، دليل لا يمكن التغاضي عنه.

ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحتجّ على اليهود والنصارى، بأنّه قد بُشِّر به في العهدين، وأنّ الكليم والمسيح بشَّرا برسالته، وأنّ أهل الكتاب لو رجعوا إلى كتبهم ـ حتى بعد التحريف ـ لوجدوا بشائره فيها، وتعرّفوا عليه، كتعرّفهم على أبنائهم.

كان يحتجّ بهذه الكلمات، ولم يكن هناك أيّ ردّ من الأحبار والرهبان في مقابله، بل غاية جوابهم كان السكوت وإخفاء الكتب، وعدم نشرها بين أتباعهم.

ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير صادق ـ والعياذ بالله ـ في هذا الادّعاء، لثارت ثورتهم عليه، ولملأوا الأجواء والطوامير بنقده وردّه، غير أنّ صراحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصموده أمام علمائهم بشدّة، يكشف عن انهزام العدو أمام ذلك الادّعاء.

كيف تناظر ملحدا؟ (471)

ومن تلك البشارات التي لا تزال موجودة في كتبهم الحالية، ما ورد في إنجيل يوحنا في الإصحاحات: الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر.. وهذه نصوصها من الإنجيل الحالي المترجم إلى اللغة العربية:

1 ـ (إِنّ كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد) (1).

2 ـ (وأمّا المُعزِّي، الروح القدس الّذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلّمكم كل شيء، ويذكّركم بكل ما قُلتُه لكم) (2).

3 ـ (وَمتى جاءَ المُعَزِّي الّذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الّذي من عند الأب ينبثق، فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الابتداء) (3).

4 ـ لكني أقول لكم الحق، إنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّي، ولكن إنّ ذهبت أُرسله إليكم ومتى جاء ذاك يُبَكِّتُ العالم على خَطِيَّة وعلى بِرٍّ وعلى دينونة) (4).

5 ـ (وأمّا متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يَسْمَع، يتكلّم به، ويخبركم بأُمور آتية) (5).

ووجه الاستدلال يتوقف على معرفة كون المسيح عليه السَّلام كان يتكلم العبرية، وكان يعظ تلاميذه بهذا اللسان، لأنه وُلِد وشَبّ بين ظهرانيهم، وأُمُّه أيضاً كانت عبرانية، وقد ذكر جميع المُؤَرِّخين أنّ الأناجيل الثلاثة غير متى، كتبت من أوّل يومها باللغة اليونانية، وأمّا إنجيل متى فكان عبرياً من أوّل إنشائه.

__________

(1).إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملتان 15 و16، ط دار الكتاب المقدس.

(2).إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملة 26، ط دار الكتاب المقدس.

(3).إنجيل يوحنا، الأصحاح الخامس عشر: الجملة 26، ط دار الكتاب المقدس.

(4).إنجيل يوحنا، الأصحاح السادس عشر: الجملتان 7 و8، ط دار الكتاب المقدس.

(5).إنجيل يوحنا، الأصحاح السادس عشر: الجملة 13، ط دار الكتاب المقدس.

كيف تناظر ملحدا؟ (472)

وعلى هذا، فالمسيحُ بَشَّر بما بَشَّر باللغة العبرية أولاً، وإنّما نقله إلى اليونانية، كاتب الإنجيل الرابع (يوحنا) وكان عليه التحفّظ على لفظ المسيح في مورد المُبَشَّر به، لأنّ القاعدة الصحيحة، عدم تغيير الأعلام، والإتيان بنصِّها الأَصلي، لا ترجمة معناها. ولكن (يوحنا) لم يراع هذا الأصل، وترجمه إلى اليونانية، فضاع لفظه الأصلي الّذي تكلّم به المسيح، وفي غِبّ ذلك حصل الإختلاف في المراد منه.

وأمّا اللفظ اليوناني الّذي وضعه الكاتب (يوحنا) مكان اللفظ العبري، فهو مردد بين كونه (باراقْلِيطوس) (1) الّذي هو بمعنى المُعَزِّي والمُسَلِّي والمُعين والوكيل، أو (بِرِيقْلِيطوس) (2) الّذي هو بمعنى المحمود، الّذي يرادف أحمد. ولأجل تقارب الكلمتين في الكتابة والتلفظ والسماع، حصل التردد في المُبَشَّر به. ومُفَسِّروا ومترجموا إنجيل يوحنا، يصرّون على الأول، ولأجل ذلك ترجموه إلى العربية بـ (المعزّي)، وإلى اللغات الأُخرى بما يعادله ويرادفه، وادّعوا أنّ المراد منه هو روح القدس، وأنّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقدان المسيح.

ومع ذلك، فهناك قرائن تلقي الضوء على أنّ المُبَشَّر به هو الرسول الأعظم، لا روح القدس، ومنها.

1 ـ إنّ المسيح بدأ خطابه إلى تلاميذه بقوله: (إِن كنتم تحبونني، فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم (معزياً) آخر، ليمكث معكم إلى الأبد)، وهذا الخطاب يناسب أن يكون المُبَشَّر به نبياً، لأنّ المسيح يحتمل ـ في هذا الكلام أن يتخلّف عدّة منهم عن اقتفاء أثره ودينه، ولذلك أثار عواطفهم في هذا المجال لئلا يتخلّفوا. ولو كان المراد منه روح القدس لما احتاج إلى تلك المقدمة، لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني لا يمكن لأحد التخلّف عنه، ولا يبقى في القلوب معه شكٌّ، وهذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثر ببيانه وكلامه في القلوب

__________

(1).في اليونانية هكذا: llAPAKAHTOE. وبالأفرنجية هكذا Paracletos.

(2). في اليونانية هكذا llEPIKAHOTE. وبالأفرنجية هكذا Pericletos.

كيف تناظر ملحدا؟ (473)

والأرواح، وهو يختلف حسب اختلاف طبائع المخاطبين واستعدادهم.

ولأجل ذلك أصرّ على إيمانهم به في بعض خطاباته وقال: (وقلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون) (1).

2 ـ إنّه وصف المُبَشَّر به بلفظ (آخر)، وهذا لا يناسب كون المبشر به نظير روح القدس لعدم تعدده، وانحصاره في واحد، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون واحداً بعد الآخر، في فترة بعد فترة.

3 ـ إنّه ينعت ذلك المبشر به بقوله: (لِيَمْكُثَ معكم إلى الأبد) وهذا يناسب نبوة النبي الخاتم الّتي لا تُنْسخ.

4 ـ إنّه يقول: (وأَمّا (المعزّي الروح القدس) الّذي سيرسله الأب باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكّركم بكل ما قلته لكم) وهذه الجملة تناسب أن يكون المبشر به نبيّاً يأتي بعد فترة من رسالة النبي السابق بعد أن تصير الشريعة السابقة على وشك الاضمحلال والاندثار. فيأتي النبي اللاحق، يذكّر بالمنسيّ ويزيل الصدأ عن الدين.

وأمّا لو كان المراد هو روح القدس فقد نزل على الحواريين بعد خمسين يوماً من فَقْد المسيح، حسب ما ينصّ عليه كتاب أعمال الرسل (2). أفيظن أنّ الحواريين نسوا في هذه المدة اليسيرة معالم المسيح وتعاليمه حتى يكون النازل هو الموعود به؟!

5 ـ ويصف المسيح المبشر به، بقوله: (فهو يشهد لي). وهذه العبارة تناسب أن يكون المبشر به هو النبي الخاتم حيث بُعِثَ مصدِّقاً للشرائع السابقة والكتب السالفة، وقد أمره سبحانه أن يخاطب أهل الكتاب بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا

__________

(1).إنجيل يوحنا، الأصحاح الرابع عشر: الجملة 29، ط دار الكتاب المقدس.

(2).أعمال الرسل، الأصحاح الأول: الجملة 5. والأصحاح الثاني: الجملات 1 ـ 4، ط دار الكتاب المقدس.

كيف تناظر ملحدا؟ (474)

مَعَكُمْ) (1)، وغير ذلك. ومن المعلوم أنّ الرسول الأكرم شهد برسالة المسيح، ونَزَّه أُمَّه وابنها، عن كل عيب وشين، وردّ كلَّ ما أُلصق بهما من جهلة اليهود من التهم التافهة. وهذا بخلاف ما إذا فُسِّر بروح القدس، إذ لم يكن للمسيح يومذاك أي حاجة لشهادته، ودينُه وشريعتُه بَعْدُ غضّانِ طريّان.

6 ـ إنّه يقول: (لأنّه إن لم انطلق، لا يأتيكم (المعزي)، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم). وهذا يناسب أن يكون المُبَشّر به نبياً، حيث علّق مجيئه بذهابه، لأنّه جاء بشريعة عالمية، ولا تصحّ سيادة شريعتين مختلفتين على أُمة واحدة.

ولو كان المُبَشَّر به هو روح القدس، لما كان لهذا التعليق معنى، لأنّ روح القدس حسب تصريح إنجيلَيْ متى ولوقا، نزل على الحواريين عندما بعثهم المسيح للتبشير والتبليغ (2).

7 ـ ويقول: (ومتى جاء ذاك يُبكّت العالم على خَطِيَّة، وعلى بِرّ، وعلى دينونة...). وهذا يؤيّد أن يكون المُبشَّر به نبيّاً، إذ لو كان المراد هو روح القدس، فهو نزل في يوم الدار على الحواريين حسب زعمهم، فما وَبَّخ اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلاً، لعدم رؤيتهم إيّاه. ولم يوبخ الحواريين، لأنّهم كانوا مؤمنين به.

8 ـ ويقول: (ومتى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنّه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأُمور آتية).

وهذا يتناسب مع كون المُبَشَّر به نبيّاً خاتماً، صاحب شريعة متكاملة، لا يتكلم إلاّ بما يوحى إليه، وهذه كلّها صفات الرسول الأكرم محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

فجميع هذه القرائن تشهد بوضوح على أنّ المراد من (المعزِّي) المُبَشّر به، هو النبي الأكرم

__________

(1).سورة النساء: الآية 47.

(2).لاحظ إنجيل متى: الأصحاح العاشر، الجملة الأُولى فما بعدها. وإنجيل لوقا: الأصحاح العاشر، الجملة 11، وفيها: (ولكن إعلموا هذا: إنّه قد اقترب منكم ملكوت الله).

كيف تناظر ملحدا؟ (475)

لا روح القدس، ولو أمعنت النظر في سائر القرائن الّتي ذكرها المحقّقون من المسلمين في تفسير هذا اللفظ، لعالت القرائن.

هذا مجرد نموذج لواحدة من البشارات، وهي كثيرة جدا، وهي موجودة في العهدين، وقد ذكرنا الكثير منها مع أدلتها والشواهد المثبتة لها في كتاب [أنبياء يبشرون بمحمد]

د ـ القرائن والشواهد

وهي من الأدلة المعتمدة، التي يقر بها العقل، وهي مستعملة في المحاكم، ومعتَمَدٌ عليه في حَلّ الدعاوى والنزاعات، يسلكها القضاة في إصدار أحكامهم، ويستند إليها المحامون في إبراء موكليهم خاصة في المحاكم الّتي تفتقد إلى القضاء على الأيمان والبَيّنات.

وهذا الدليل يستدعي جمع كلّ القرائن والشواهد الّتي يمكن أن تؤيّد دعوى المدّعي، أو إنكار المنكر، وضمّها إلى بعضها حتى يحصل القطع بصحة دعواه أو إنكاره.

وقد اعتمد العلماء هذه القرائن في إثبات نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي يشهد لها كل شيء، كما ذكرنا التفاصيل الكثيرة المرتبطة بذلك في سلسلة [حقائق ورقائق]

ومن تلك القرائن المعتمدة، والتي يدل التحقيق فيها على صدق النبي من عدمه دارسة شخصية مدعي النبوة وتحليلها، فإن كان مدّعي النبوة صادقاً أمينا، يتحلى بروحيات كمالية عالية، وأخلاق إنسانية فاضلة، غير منكب على الدنيا وزخرفها، ولا طالب للرئاسة والزعامة، لم ير له في حياته منقصة، ودناسة، بل عرف بكل خلق كريم، واشتهر بالنزاهة والطهارة.. فإن كل هذه الصفات تدلّ على صفائه في روحه وباطنه، وذلك ما يزيد في حظ التأكد من صدقه في دعواه.

ومنها ما يتعلق بالبيئة التي ظهر فيها مدعي النبوة؛ فإن ظهر في مجتمع أُمِّيٍّ، لا يعرف الكتابة، بعيدا عن مظاهر الحضارة والتمدّن، ثم جاء بشريعة تَحْمِلُ الدعوةَ إلى التعلّم ونبذ الأميّة، وتشرّع القوانين الاجتماعية، والاقتصادية بل تحمل في تعاليمها نظام الدولة والتقنين

كيف تناظر ملحدا؟ (476)

والقضاء والروابط السياسية.. ويكون في كل ذلك متناقضا مع البيئة التي عاش فيها، ومع المعارف والنظم التي تؤمن بها.. كل ذلك يرجح دعواه بل يؤكدها.

ومنها ما يتعلق بمضمون الدعوة التي جاء بها؛ فإذا كانت العقيدة الّتي يحملها، والمعارف الّتي يدعو إلى اعتناقها، معارف تبحث في خالق الكون وصفاته وأفعاله، وكانت دعوته العملية مرشدةً إلى التحلّي بالُمُثل الأخلاقية، والفضائل الإنسانية، وناهيةً عن الرذائل النفسية وركوبِ الشهوات المنحرفة والفسقِ والمجونِ كانت هذه قرائن على اتصال دعوته بخالق الكون، ومبدء الخير والجمال.

ومنها ثباته على دعوته، فإن كان لا يبتغي صاحبها شيئاً من الأعراض المادية، والمناصب الدنيوية، وكان ثابتا في طريق دعوته، وتضحيته بنفسه وأعزّ أقربائه في ذاك السبيل، أكد ذلك كونه صادقا في دعواه، فما كان له أن يضحي بكل شيء في سبيل لا شيء.

ومنها منهجه في تبليغ دعوته؛ فإذا كان اعتماده في دعوته على أساليب إنسانية، موافقة للفطرة والطهارة، فإنّ لذلك دلالات على إلهية دعواه.. وأمّا لو اعتمد في نشر وتبليغ ما يدّعيه على وسائل إجرامية، وأساليب وحشية غير إنسانية، كان هذا دليلاً على كون دعواه شخصية محضة، لا صلة لها بالعالم الربوبي.

ومنها دراسة نفسيات المؤمنين به، ذلك أنّ أقرباء المدّعي وبطانته إذا آمنوا به، واتّبعوا دعوته، وبلغوا فيها مراتب عالية من التقوى والورع، كان هذا دلاًّ على صدق المدعي في ظاهره وباطنه، وعدم التوائه وكذبه، لأنّ الباطل لا يمكن أن يخفى عن الأقرباء والبطانة.

ومنها أمور أخرى كثيرة، كالثمار التي أنتجتها دعوته، والعلوم التي خرج بها للناس، وهل تتوافق مع ما جاءت به العصول التالية أم لا.. وهل تأثر بمعارف عصره، ونقلها مع خطئها أم لا.. كل ذلك قرائن يمكن من خلالها التعرف على صدق الدعوى.

وهذه القرائن جميعا وغيرها إذا اجتمعت في مدّعي النبوة، ودعواه الّتي يدّعيها، كانت

كيف تناظر ملحدا؟ (477)

دليلاً قاطعاً على صدقه، فإنّ كلّ واحدة من القرائن، وإن كانت قاصرة عن إفادة اليقين، إلاّ أنّها بمجموعها تفيده.

ولعل أول من استعمل هذا الأسلوب في جمع القرائن قيصر الروم، ذلك أنه عندما كتب إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الّذي أتى به، أخذ ـ بعد استلامه الرسالة ـ يتأمّل في عبارات الرسول، وكيفية الكتابة، حتى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى، فأمر جماعة من حاشيته بالتجول في الشام والبحث عمّن يعرف الرسول عن قرب، ومطّلع على أخلاقه وروحياته، فانتهى البحث إلى العثور على أبي سفيان وعدّة كانوا معه في تجارة إلى الشام، فأحضروا إلى مجلس قيصر، فراح يسألهم قائلا: (أيّكم أقرب نسبا لهذا الرّجل؟ الذي يزعم- أنه نبيّ؟ فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا، فقال: ادنوه مني، وقرّبوا أصحابه، فاجعلوهم خلف ظهره ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذّبوه، قال أبو سفيان: فو الله، لولا أن يؤثر عنّي الكذب لكذبت عليه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه ملك قلت: لا، قال: فأشراف النّاس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتدّ أحد منكم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر قلت: لا، ونحن الآن معه في مدّة لا ندري ما هو فاعل فيها قال: فما كلّمني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما كان يعبد آباؤكم، ويأمرنا بالصّلاة والزّكاة والصّدق والعفاف، والصّلة)

وبعد أن انتهى من أسئلته وتحقيق راح يذكر النتائج التي وصل إليها، فقال لترجمانه:

كيف تناظر ملحدا؟ (478)

(قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنّه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل تأسّى بقول قيل قبله، وسألتك: هل من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك: هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على النّاس، ويكذب على الله، وسألتك: أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أنّ ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرّسل، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنّهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتّى يتمّ، وسألتك: أيرتد أحد منكم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخلط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرّسل لا يغدرون وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنّه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والزكاة والصّدق والعفاف والصلة، فإن كان ما تقول حقّا، فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنّه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه) (1)

__________

(1) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (11/ 353).

كيف تناظر ملحدا؟ (479)

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

كتب الحديث والسنة.

أولا ـ الكتب وهي كثيرة جدا، منها

1. أبجد العلوم، أبو الطيب محمد صديق خان القِنَّوجي، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 1423 هـ 2002 م.

2. الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش.

3. الإسلام في وجه الزحف الأحمر، محمد الغزالي.

4. الاسلام يتحدى مدخل علمي الى الايمان، وحيد الدين خان، تعريب: ظفر الاسلام خان، مكتبة الرسالة.

5. الاقتصاد في الاعتقاد، أبو حامد الغزالي.

6. أقوى براهين د. جون لينكس في تفنيد مغالطات منكري الدين، جمعه وعلق عليه م. أحمد حسن.

7. آلة الموحِّدين لكشفِ خرافات الطبيعيين، أبو الفداء ابن مسعود.

8. الإلحاد في الغرب، د. رمسيس عوض.

9. الإلحاد ووجود الله، أحمد محمد حسن وأحمد دعدوش.

10. الالهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، تأليف: الشيخ جعفر السبحاني، بقلم: الشيخ حسن محمد مكي العاملي، مؤسسة الامام الصادق عليه السلام، الطبعة: السابعة 1388.

11. تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم.

12.

13.

كيف تناظر ملحدا؟ (480)

14. تهافت الفكر الاشتراكي، محمد عزت نصر الله.

15. تهافت الفكر الجدلي، الدكتور عبداللطيف الفرفور.

16. دراسات في علم اللاهوت، القمص بولس عطية بسليوس.

17. رحلة في قلب الإلحاد، أ. حلمي القمص يعقوب.

18. الرد اليقيني على كتاب نقد الفكر الديني، جابر حمزة فراج.

19. الرد على الملحدين العرب: د. هيثم طلعت علي سرور، دط، دت.

20. صانع الساعات الأعمى، لماذا تُظهِر أدلة التطوّر كوناً بلا مصمم، ريتشارد دوكينز،: (نيويورك: نورتون، 1996)

21. الصواعق الشديدة على اتباع الهيئة الجديدة، التويجري.

22. العقيدة الإسلامية في مواجهة التيارات الإلحادية، فرج الله عبد الباري.

23. علم الأديان مساهمة في التأسيس، ميشال، مسلان، ترجمة: عزالدين عناية، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، ومنشورات كلمة.

24. العلم في منظوره الجديد، روبرت م. أغروس وجورج ن. ستانسيو، ترجمة كمال خالايلي، طبع سلسلة عالم المعرفة، ورقمه في السلسلة (134)

25. فمن خلق الله؟: نقد الشبهة الإلحادية [إذا كان لكل شيء خالق، فمن خلق الله؟] في ضوء التحقيق الفلسفي والنقد الكوسمولوجي، د. سامي عامري، مركز تكوين للدراسات والأبحاث، 2016.

26. القرآن والتوراة والإنجيل والعلم، موريس بوكاي.

27. القرآن والملحدون، محمد عزة دروزة.

28. القس أنجيلوس جرجس، وجود الله وصور الإلحاد.

29. قصة الحضارة، ويليام جيمس ديورَانت.

30.

31.

كيف تناظر ملحدا؟ (481)

32. قلق في الحضارة، سيغموند فرويد، ترجمة، تحقيق: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر.

33. الله خالق الكون: دراسةٌ علميّةٌ حديثة للمناهج والنظريّات المختلفةِ حولَ نشأةِ الكونِ ومسألةِ الخالقِ، جعفر الهادي، اشراف جعفر السبحاني، قم: موسسه الامام الصادق عليه السلام، 1424 ق. = 1382.

34. الله خالق الكون: دراسةٌ علميّةٌ حديثة للمناهج والنظريّات المختلفةِ حولَ نشأةِ الكونِ ومسألةِ الخالقِ، جعفر الهادي.

35. مذاهب فكرية معاصرة، عرض ونقد، الدكتور محمود مزروعة.

36. المسلمون تحت السيطرة الشيوعية، محمود شاكر.

37. المسلمون في الإتحاد السوفياتي لكاتبين فرنسيين هما (شانتال كلكجي، الكسندر بينيغسن) تعريب د. إحسان حقي.

38. مشكلة الشر ووجود الله: الرد على أبرز شبهات الملاحدة، د. سامي عامري، ونشر مركز تكوين للدراسات والأبحاث، عام 2016.

39. المعجم الفلسفي، جميل صليبا.

40. ملحدوث محدثون ومعاصرون، د. رمسيس عوض.

41. مُلحدون محدثون ومعاصرون، د. رمسيس عوض، مؤسسة الإنتشار العربي، 1998.

42. مناهج البحث عند مفكري الإسلام، علي سامي النشار.

43. موقف الاتجاه الفلسفي المعاصر من النص الشرعي، حسن بن محمد الأسمري.

44. مؤلفات الشيخ عبد الرحمن الميداني: ومنها صراع مع الملاحدة حتى العظم، وكواشف زيوف.

45.

46.

كيف تناظر ملحدا؟ (482)

47. مؤلفات د. عبد الوهاب المسيري: ومنها الموسوعة اليهودية، والعلمانية الجزئية العلمانية الشاملة.

48. مؤلفات د. نور الدين أبو لحية، وخاصة سلسلة [الإلحاد والدجل]، وسلسلة [حقائق ورقائق]

49. مؤلفات عباس محمود العقاد: ومنها: أفيون الشعوب، وعقائد المفكرين في القرن العشرين.

50. مؤلفات محمد قطب حول العلمانية والمذاهب الفكرية المعاصرة.

51. مؤلفات هارون يحيى: ومنها خديعة التطوُّر، واحتضار منظومة الدجال الدارويني، والدّاروينية في الزّمن القديم، وغيرها.

52. نبوءة أينشتاين تتأكد.. رصد متزامن لموجات الجاذبية بين أميركا وأوروبا تنبأ بها قبل أكثر من 100 عام، هاف بوست عربي، رويترز.

53. نقد العقل الخالص النظري (المشهور بنقد العقل المحض)، عمانويل كانط.

54. هوامش على كتاب نقد الفكر الديني، الشيخ محمد حسن آل ياسين.

55. وجود الله وصور الإلحاد، القس أنجيلوس جرجس.

56. وهم الإله، دوكنز، ترجمة بسام البغدادي، دط، دت.

المقالات

1. آخر حوار مع الدكتور عبدالرحمن بدوي، نعم.. عدت إلى الإسلام بعد اغتراب ستين عاماً، أجرى الحوار: صلاح حسن رشيد، مجلة الحرس الوطني.

2. الأسس اللا عقلية للإلحاد.. مشكلة مبدأ العالم نموذجاً، لعمرو بسيوني.

3. الأسس اللا عملية للإلحاد.. مشكلة معنى الحياة نموذجًا، عمرو بسيوني.

4.

5.

كيف تناظر ملحدا؟ (483)

6. الإلحاد المحض، د. محمد المزوغي، مجلة ذوات: 13 مارس 2017.

7. الإيجابية والسلبية في نقد الفكر الديني، كمال يوسف الحاج ـ مجلة الفكر الإسلامي ـ العدد الرابع.

8. حوار بعنوان [مع الإلحاد من منظور فلسفي] مع الدكتور الطيب بوعزة، حاوره: مركز نماء للبحوث والدراسات، بتاريخ: 7/ 19/2012.

9. الرد على كتاب صانع الساعات الأعمى، والفصل الرابع من كتاب [وهم الإله] لريتشارد دوكنز، الدكتور فؤاد دمشقي.

10. رسالة في النزعة الإنسانية، مارتن هايدغر، ترجمة، مينة جلال، مجلة مدارات فلسفية، العدد السادس، صيف 2001.

11. سام هاريس والإلحاد والإيمان: رد على سام هاريس في كتابه نهاية الإيمان.

12. عالم الفيزياء الملحد ستيفن هاوكنج وأفكاره الإلحادية الخيالية في نظر العلماء والمتخصصين ـ النظرية M والأكوان المتعددة والجاذبية الخالقة ـ إعداد فريق الباحثون المسلمون.

13. عالم فيزيائي بريطاني شهير يجدد نفيه وجود خالق للكون، حميد كعواس، موقع هسبريس.

14. عبدالله القصيمي.. قصة إلحاد وحكاية ملحد، موقع صيد الفوائد، وغيرها.

15. الفراغ الكوني.. القوة التي تحمي العالم، مجلة الثورة، بتاريخ: 13 - 8 - 2013.

16. الكون المتعدد، مجلة العلوم عدد يوليو 2012.

17. هل الدين مسبب حقيقي للحروب؟ وهل يخلو تاريخ الملحدين منها؟، موقع السوري الجديد.

18. هل يمكن للإله أن يكون شريرًا؟ محمود ماهر.

19.

20.

كيف تناظر ملحدا؟ (484)

21. الوجه الآخر للعلم: ريتشارد دوكينز في ميزان العلم والعقل والمنطق والنفس والأخلاق، نشر موقع الباحثون المسلمون.

المواقع

وهي كثيرة متفرقة، وخاصة المواقع والمنتديات الإلحادية، بالإضافة لما ينشر على شبكات التواصل الاجتماعي، والتي لا يمكن توثيقها أو ضبطها، فالمقال الواحد نجده في محال متعددة.