×

الكتاب: الحقوق المادية والمعنوية للزوجة

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1437 هـ

عدد الصفحات: 472

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-620-2-34237-7

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

يتناول هذا الكتاب ستة مواضيع كبرى، تعطي بمجموعها صورة عن عقد الزواج الشرعي بأركانه وشروطه والتفاصيل الضرورية المرتبطه بها، وهذه المواضيع هي:

1. أحكام العقد وشروطه.

2. موانع الزواج

3. الولاية في الزواج.

4. الكفاءة في الزواج.

5. الشروط المقيدة للعقد وأحكامها.

6. أنواع مختلف فيها من عقود الزواج..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (14)

المقدمة

إن أهم ما يجب على المسلم تعلمه من أحكام الأسرة، وأوجب ما يجب على الفقيه تبيينه والاجتهاد فيه، هو ما يحفظ كيان الأسرة المسلمة، وينشر السعادة والاستقرار في جوانبها، لأن المقاصد الشرعية من الزواج لا تتحقق إلا بذلك، فهذا الباب هو أصل الزواج ومقصده، أما ما عداه من الأبواب، فهو إما تأسيس له، أو إنهاء قد تدعو له الضرورة.

وقد لاحظنا، ونحن نأسف لذلك، بعض التقصير في هذا الجانب من الفقه الإسلامي، وربما يكون العذر في ذلك هو أن استقرار الحياة الزوجية مرتبط عموما بالنواحي الخلقية والوجدانية وغيرها مما يبحث في غير أبواب الفقه، فلذلك لم يفصل الفقهاء القول إلا في الجوانب المادية الظاهرة المنضبطة من هذا الجانب، فتحدثوا عن المهر والنفقة والعدل بين الزوجات وحق الميراث وحقوق الأولاد، بينما لم يفصلوا الحديث عن الحقوق المعنوية والنفسية وغيرها مما تبنى على أساسه العشرة الزوجية كما أرادها الله تعالى.

وبناء على هذا حاولنا في هذا الجزء من سلسلة [فقه الأسرة برؤية مقاصدية] أن نسد بعض هذا التقصير، فذكرنا بالإضافة إلى ما ذكره الفقهاء من الجوانب الظاهرة المنضبطة الجوانب المعنوية والنفسية، وحاولنا تصنيفها بحسب التصنيف الفقهي، وعلى طريقة الفقهاء في بيان الأحكام.

ونتيجة لنقص المادة الفقهية في بعض ما أردنا البحث فيه، فقد لجأنا في أكثر الأحيان إلى كتب الحديث نستلهم من سنته صلى الله عليه وآله وسلم كيفية تحقيق الحياة الزوجية المستقرة، وإلى كتب الأخلاق وغيرها لنستنبط منها ما نراه ضروريا في هذا الجانب.

وقد قسمنا الحديث في الكتاب إلى قسمين:

الأول: ويبحث في الحقوق المادية للزوجة، باعتبارها أساس هذه الحقوق، وأهمها، زيادة على أن أكثر كلام الفقهاء فيها، وقد تناولنا الحديث فيه عن حقين كبيرين: المهر، والنفقة..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (15)

الثاني: ويبحث في الحقوق المعنوية للزوجة، باعتبارها أهم الحقوق، وقد ذكرنا فيه كل ما يتعلق بهذه الناحية من حقوق كالحقوق الدينية، والحقوق الاجتماعية والحقوق الاقتصادية، وحق الزوجة في التعليم، وفي العشرة الحسنة، وحق العدل بين الزوجات.. وغيرذلك من الحقوق.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (16)

القسم الأول

الحقوق المادية للزوجة

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (17)

المقدمة

من أهم الحقوق التي تتطلبها الحياة الزوجية كما ورد في النصوص، وكما جاء في التشريعات المختلفة هي الحقوق المادية للزوجة على زوجها، لأن قيام الزوج بتلك الجقوق وسده لمطالب الزوجة دليل على صدق علاقته بها.

فلذلك أول ما تبدأ به الحياة الزوجية هو المهر الذي يقدمه الزوج هدية لزوجته كرمز على انطلاق الحياة الزوجية، وعلى قدرته على الوفاء بما تتطلبه الحياة الزوجية من عناء.

وفي الحياة الزوجية تشترط النفقة حتى في أشد الحالات، بل بعد الطلاق نفسه كما ينص على ذلك القرآن الكريم، دلالة على أهمية النفقة، قال تعالى في شأن المطلقات: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (الطلاق:6)، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6)، وقال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سيجعل الله بعد عسر يسرا} (الطلاق: 7)

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الحق، فقال للذي سأله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) (1)

بل تظل هذه الحقوق المادية تابعة لعلاقة الزوجية، ولو بعد الموت، بالميراث، كما نص على ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ

__________

(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم، قال الحاكم صحيح الإسناد، وألزم الدارقطني الشيخين تخريج هذه الترجمة، خلاصة البدر المنير:2/ 253، وانظر: أبو داود: 2/ 244، النسائي: 5/ 273، البيهقي:7/ 305، أحمد: 4/ 447.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (18)

الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (النساء:12)

انطلاقا من هذا سنتناول في هذا القسم موضوعين مهمين كلاهما يصب في باب (الحقوق المادية للزوجة)، وقد ذكرهما الفقهاء بتفصيل في مواضع مختلفة من كتب الفقه، وقد رأينا لزوم جمعهما في موضع واحد لنتناولهما وفق نظرة مقاصدية كلية واحدة.

وهذان الموضوعان هما:

المهر: والفقهاء يتناولونه عادة في أركان الزواج وشروطه، ولم نر الحاجة إلى وضعه في ذلك الباب، فالزواج أشرف من أن يؤسس على قيم مادية، بل أقرب الأبواب إليه هو باب (الحقوق الزوجية)، والنصوص الشرعية، والآراء الفقهية الكثيرة تدل على هذا.

فأكثر الفقهاء على عدم اشتراط ذكر المهر في العقد، وجواز تأجيل تسليم المهر إلى ما بعد الدخول، وجواز تنازل المرأة عن مهرها بعد تسلمه، وجواز كونه شيئا رمزيا لا قيمة مادية له.. وهكذا.

النفقة: وهي ما تتطلبه الحياة الزوجية من نفقات مادية على الزوجة، من طعام ولباس ومسكن وخادم وعلاج ونحوها، وهي من النواجي المهمة التي تحتاج إلى نظرة مقاصدية تبعد عنها آثار الحرفية التي غرقت فيها بعض الأقوال الفقهية. الفصل الأول

حق الزوجة في المهر

نتناول في هذا الفصل أول حق من حقوق الزوجة على زوجها، والذي اعتبره كثير من الفقهاء من الأسس التي يقوم عليها الزواج سواء باعتباره شرطا أو ركنا، وذلك نظرا لشدة تأكيد الشرع عليه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (19)

ولكنا مع ذلك لم نعتبره من الأسس التي سبق ذكرها لجملة اعتبارات، منها اتفاق أكثر الفقهاء على عدم اشتراط ذكر المهر في العقد، وجواز تأجيل تسليم المهر إلى ما بعد الدخول، وجواز تنازل المرأة عن مهرها بعد تسلمه، وإجازة كثير من الفقهاء لأن يكون شيئا رمزيا لا قيمة مادية له، وغير ذلك من الأقوال التي لا يصح اعتبار المهر بموجبها أساسا من الأسس التي يقوم عليها عقد الزواج، فلذلك ألحقناه بحقوق الحياة الزوجية.

ولهذا، زيادة على ذلك سبب آخر هو ما سنذكره في المهر المؤجل من إمكانية جعل المهر وسيلة لاستقرار الحياة الزوجية والحفاظ عليها أو على آثارها، وهو بذلك يدخل في هذا الباب أكثر من دخوله في الباب السابق.

وقد قسمنا الحديث في هذا الفصل إلى أربعة مباحث هي:

1. أحكام المهر، تناولنا فيه الأحكام الأصلية والعارضة للمهر، وما يتعلق بها.

2. شروط المهر، تناولنا فيه الشروط التي نص عليها الفقهاء لصحة المهر.

3. أنواع المهر، وقد تحدثنا فيه عن أنواع المهر والحالات التي يجب فيها.

4. أحكام تعجيل المهر وتأجيله.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (20)

أولا ـ حقيقة المهر وحكمه

1 ـ حقيقة المهر

عرف بعض الفقهاء المهر بأنه (مال يجب في عقد النكاح على الزوج في مقابلة منافع البضع، إما بالتسمية أو بالعقد) (1)، واعترض بعدم شموله للواجب بالوطء بشبهة، ومن ثم عرفه آخر بأنه: اسم لما تستحقه المرأة بعقد النكاح أو الوطء (2).

وقد اهتم الفقهاء (3) بتعديد المصطلحات الدالة عليه، بل رتبوا على بعضها أحكاما، وقد جمع بعض تلك المصطلحات الناظم في قوله:

صداق ومهر نحلة وفريضة حباء وأجر ثم عقد علائق

وبناء على ذلك وغيره اختلفت آراء الفقهاء في حقيقة المهر على قولين:

القول الأول: أنه عوض عن شيء ملكه الزوج في مقابلته، وهو ملك المتعة، ومن هنا حكموا بفساد العقد إذا تزوجها على ألا مهر لها وقبلت ذلك قياساً له على البيع إذا نفى فيه الثمن (4)، ومن الأدلة على ذلك أن القرآن سماه أجراً في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا

__________

(1) العناية:3/ 315.

(2) رد المحتار:3/ 101.

(3) ذكر ابن قدامة أن للصداق تسعة أسماء هي: الصداق، والصدقة، والمهر، والنحلة، والفريضة، والأجر، والعلائق، والعقر، والحباء. انظر: المغني:7/ 160، الموسوعة الفقهية:29/ 145، تبيين الحقائق: 2/ 135، الإنصاف: 8/ 227،منج الجليل:3/ 415، أسنى المطالب:3/ 200.

(4) قال مالك: النكاح أشبه شيء بالبيوع، لما فيه من أحكام البيوع، وهو وجوب العوض وتعريفه وإبقاؤه ورده بالعيب والقيام فيه بالشفعة إلى غير ذلك من أحكامه، انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 500.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (21)

حَكِيمًا} (النساء:24)،وفي الآية التي بعدها يقول: {وآتوهن أجورهن بالمعروف} (النساء:25)

القول الثاني: أنه هدية لازمة فرضها الشارع من غير مقابلة شيء، وهو قول الظاهرية والإمامية، قال الشيرازي: (وأمّا تفسير البعض لمسألة المهر بنحو خاطئ، واعتبار الصداق أنّه من قبيل ثمن المرأة فلا يرتبط بالقوانين الإِسلامية، لأن الإِسلام لا يعطي للصداق الذي يقدمه الرجل إِلى المرأة صفة الثمن كما لا يعطي المرأة صفة البضاعة القابلة للبيع والشراء، وأفضل دليل على ذلك هو صيغة عقد الزواج الذي يعتبر فيه الرجل والمرأة كركنين أساسيين في الرابطة الزوجية، في حين يقع الصداق والمهر على هامش هذا العقد، ويعتبر أمراً إِضافياً، بدليل صحّة العقد إذا لم يرد في صيغة البيع والشراء وغير ذلك من المعاملات المالية إِذ بدونه تبطل هذه المعاملات) (1)، وقد استدل القائلون بهذا بما يلي:

1. أن القرآن سماه نحلة في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4)، والنحلة تطلق على ما ينحله الإنسان ويعطيه هبة عن طيب نفس بدون مقابلة عوض، قال الجصاص: (نحلة يعني بطيبة أنفسكم، يقول لا تعطوهن مهورهن، وأنتم كارهون ولكن آتوهم ذلك وأنفسكم به طيبة، وإن كان المهر لهن دونكم، فجائز على هذا المعنى أن يكون إنما سماه نحلة، لأن النحلة هي العطية، وليس يكاد يفعلها الناحل إلا متبرعا بها طيبة بها نفسه، فأمروا بإيتاء النساء مهورهن بطيبة من أنفسهم كالعطية التي يفعلها المعطي بطيبة من نفسه) (2)

2. أن البيع بغير ذكر ثمن لا يحل، والزواج بغير ذكر صداق حلال صحيح.

__________

(1) تفسير الأمثل - مكارم الشيرزي: 3/ 103.

(2) أحكام القرآن للجصاص:2/ 349.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (22)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة، والأوفق بمقاصد الشريعة هو القول الثاني، لأن القول الأول يقتضي أن المعاشرة الجنسية حق للرجل وحده، مع أنها حق لكليهما، كما سنرى.

وقد اشتد ابن حزم على أصحاب القول الأول، ومما قاله في الرد عليهم: (وليت شعري، ماذا باع أو ماذا اشترى، أرقبتها؟ فبيع الحر لا يجوز، أم فرجها؟ فهذا أبين في الحرام، وهو قد استحل بكلمة الله تعالى فرجها الذي كان حراما عليه قبل النكاح، كما استحلت بكلمة الله تعالى فرجه الذي كان حراما عليها قبل النكاح، ففرج بفرج، وبشرة ببشرة وأوجب الله تعالى عليه وحده الصداق لها زيادة على استحلالها فرجه، وليس البيع هكذا إنما هو جسم يبادل بجسم، أحدهما ثمن والآخر مبيع مثمون لا زيادة هاهنا لأحدهما على الآخر) (1)

واعتبار المهر معاوضة من المعاوضات منتقض بأن الشرع لم يشترط فيه شروط المعاوضات من نفي الجهالة للمرأة، بل يجوز العقد على المجهولة مطلقا، ولا تعرض لتحديد مدة الانتفاع، وفي ذلك كله وشبهه دليل على عدم قصد الشرع إلى المعاوضة، وأنه إنما جعله شرطا لأصل الإباحة، (وقاعدة الشرط أن يتعين ثبوته عند ثبوت المشروط، فلذا قال في المشهور بعدم التقرر مطلقا إلا بالدخول أو بالموت، لأن الصداق إنما التزم إلى أقصر الزوجين عمرا أو بالفراق ولم يجعله كالثمن) (2)

ثم إن من المقاصد في اعتباره نحلة وهبة للمرأة تعميق معاني المحبة والمودة بين الزوجين بخلاف اعتباره عوضا، فالهدية تنتج المحبة، والتلاحي في المهر باعتباره عوضا ينشئ الشحناء والبغضاء.

__________

(1) المحلى:9/ 90.

(2) أنوار البروق: 3/ 176.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (23)

والتعبير في الآية بلفظ النحلة يشير إلى ذلك، وغيره، ولا بأس هنا أن ننقل كلاما لسيد قطب، يشير إلى بعض المعاني التي يوحي بها اختيار القرآن هذا اللفظ، يقول سيد ـ رحمه الله ـ بتصرف: (وهذه الآية تنشئ للمرأة حقا صريحا، وحقا شخصيا، في صداقها، وتنبى ء بما كان واقعا في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى. واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه؛ وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها! وواحدة منها كانت في أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته، في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر. واحدة بواحدة. صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين، كما تبدل بهيمة ببهيمة! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية؛ وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار، والصداق حقا للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده، لتقبضه المرأة فريضة لها، وواجبا لا تخلف فيه. وأوجب أن يؤديه الزوج (نحلة) - أي هبة خالصة لصاحبتها - وأن يؤديه عن طيب نفس، وارتياح خاطر. كما يؤدي الهبة والمنحة. فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها - كله أو بعضه - فهي صاحبة الشأن في هذا؛ تفعله عن طيب نفس، وراحة خاطر؛ والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه، وأكله حلالا طيبا هنيئا مريئا. فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل، والاختيار المطلق، والسماحة النابعة من القلب، والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك) (1)

ثم ذكر سيد الآثار التي أنشأها هذا التصور لمعنى المهر، والذي يخالف التصورات الجاهلية فقال: (وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها، وحقها في نفسها وفي مالها، وكرامتها ومنزلتها، وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين

__________

(1) في ظلال القرآن: 1/ 585.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (24)

المرأة ورجلها من صلات، ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون؛ بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة، وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة) (1)

2 ـ الحكم التكليفي للمهر

اتفق الفقهاء على أن المهر حق واجب للمرأة على الرجل، وقد دل على ذلك الكتاب والسنةوالإجماع:

أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء: 24)، وقال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4)، وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء:24)

أما السنة: فقد دلت على ذلك الأحاديث الكثيرة، ومنها:

1. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف درع زعفران، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مهيم؟ فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة. فقال: ما أصدقتها؟. قال: وزن نواة من ذهب. فقال: بارك الله لك، أولم ولو بشاة (2).

2. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها (3).

__________

(1) في ظلال القرآن: 1/ 585.

(2) البخاري: 2/ 722، الترمذي:3/ 402، النسائي: 3/ 336، ابن ماجة: 1/ 605، أحمد: 3/ 190.

(3) البخاري:1/ 322، مسلم: 2/ 1045، الترمذيك 3/ 423، أبو داود: 2/ 221، النسائي:3/ 311، ابن ماجة: 1/ 629، الدارمي: 2/ 206.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (25)

الإجماع: أجمع المسلمون على مشروعية الصداق في الزواج، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4): (هذه الآية تدل على وجوب الصداق للمرأة، وهو مجمع عليه، ولا خلاف فيه إلا ما روى عن بعض أهل العلم من أهل العراق أن السيد إذا زوج عبده من أمته أنه لا يجب فيه صداق، وليس بشئ، لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء:4)، فعم، وقال: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 25) (1)

3 ـ الحكم الوضعي للمهر

ذكرنا في الجزء السابق خلاف الفقهاء في اعتبار المهر ركنا أو شرطا، وذكرنا أن الأرجح في المسألة هو اعتبار المهر أثرا من آثارالعقد المترتبة عليه، فليس هو بالشرط ولا بالركن، قال في التاج المذهب: (والمهر لازم للعقد لا شرط، هذا مذهبنا ـ يقصد الزيدية ـ وهو قول أبي حنيفة والشافعي) (2)، فإذا تم العقد بدون ذكر مهر صح باتفاق العلماء، ولكنه مع ذلك يستحب أن لا يعرى الزواج عن تسمية الصداق، وقد اختلف الفقهاء بناء على ذلك في وقت وجوب المهر على قولين:

القول الأول: لا يجب المهر بنفس العقد، وإنما يجب بالفرض على الزوج أو بالدخول حتى لو دخل بها قبل الفرض يجب مهر المثل، ولو طلقها قبل الدخول بها، وقبل الفرض لا

__________

(1) تفسير القرطبي:5/ 23.

(2) التاج المذهب:2/ 145.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (26)

يجب مهر المثل بلا خلاف، وإنما تجب المتعة، ولو مات الزوجان لا يقضى بشيء (1)،وهو قول الشافعية.

وقريب منه قول الإمامية، فقد نصوا على أنه لو وقع العقد بلا مهر فإن المرأة لا تستحقّ قبل الدخول شيئاً إلّا إذا طلقها، فتستحقّ عليه أن يعطيها شيئاً بحسب حاله من الغنى والفقر واليسار والإعسار، ويقال له المتعة، ولو انفسخ العقد قبل الدخول بأمر غير الطلاق أو مات أحدهما قبله لم تستحقّ شيئاً، ولو دخل بها استحقّت عليه بسبب الدخول مهر أمثالها. والأحوط وجوباً في مهر المثل - هنا - التصالح فيما زاد عن مهر السنّة (2).

ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك:

1. قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4) فقد سمى الصداق نحلة، والنحلة هي العطية، والعطية هي الصلة، فدل ذلك على أن المهر صلة زائدة في باب الزواج، فلا يجب بنفس العقد.

2. قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 236)، فإباحة الطلاق قبل المسيس وقبل فرض صداق يدل على جواز عدم تسمية المهر في العقد.

3. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا

4.

__________

(1) وهو قول أبي حنيفة إذا مات الزوجان لأن موتهما معا في زمان واحد نادر، وإنما الغالب موتهما على التعاقب فإذا لم تجز المطالبة بالمهر دل ذلك على الاستيفاء أو على استيفاء البعض والإبراء عن البعض، وقد قيل: إن قول أبي حنيفة محمول على ما إذا تقادم العهد حتى لم يبق من نسائها من يعتبر به مهر مثلها كذا ذكره أبو الحسن الكرخي وأبو بكر الرازي، وعند ذلك يتعذر القضاء بمهر المثل، انظر: المبسوط: 2/ 274.

(2) انظر: الجامع للشرايع - يحيى بن سعيد الحلي (ص: 441)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (27)

5. لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب: 49)، والمراد منه الطلاق في زواج لا تسمية فيه، بدليل أنه أوجب المتعة بقوله تعالى: {فمتعوهن}، والمتعة إنما تجب في زواج لا تسمية فيه، فدل على جواز الزواج من غير تسمية.

6. أن المهر عهدة زائدة في حق الزوج صلة لها، فلا يصير عوضا إلا بالتسمية.

7. أنه متى قام الدليل على أنه لا جواز للزواج بدون مهر كان ذكره ذكرا للمهر ضرورة.

القول الثاني: يثبت بنفس العقد، وهو قول الحنفية، حتى أن من تزوج امرأة، ولم يسم لها مهرا، بأن سكت عن ذكر المهر، أو تزوجها على أن لا مهر لها، ورضيت المرأة بذلك، وجب لها مهر المثل بنفس العقد، ولو ماتت المرأة قبل الدخول يؤخذ مهر المثل من الزوج، ولو مات الزوج قبل الدخول تستحق مهر المثل من تركته، ويجوز الزواج عندهم بدون المهر حتى يثبت لها ولاية المطالبة بالتسليم، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (النساء: 24)، فقد أخبر تعالى أنه أحل ما وراء ذلك بشرط الابتغاء بالمال، فدل على أنه لا جواز للزواج بدون المال.

2. أن المراد من النحلة الدين، فيصير معنى قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4) أي دينا، وذلك يقتضي أن يكون وجوب المهر في الزواج دينا.

3. أن الأصل في الأبضاع والنفوس هو الحرمة، والإباحة تثبت بالمهر، فعند عدم الشرط تبقى الحرمة على الأصل لا حكما للتعليق بالشرط.

4. عن عبد الله بن مسعود أن رجلا كان يختلف إليه شهرا يسأله عن امرأة مات عنها زوجها ولم يكن فرض لها شيئا، وكان يتردد في الجواب فلما تم الشهر، قال للسائل: لم أجد ذلك في كتاب الله ولا فيما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن أجتهد برأيي، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت، فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان أرى لها مثل نسائها لا وكس ولا شطط، فقام رجل يقال له: معقل بن سنان وقال: إني أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في بروع

5.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (28)

6. بنت واشق الأشجعية مثل قضائك هذا، ثم قام أناس من أشجع، وقالوا: إنا نشهد بمثل شهادته ففرح عبد الله فرحا لم يفرح مثله في الإسلام لموافقة قضائه قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (1)

7. أن ملك الزواج لم يشرع لعينه، بل لمقاصد لا حصول لها إلا بالدوام على الزواج والقرار عليه، ولا يدوم إلا بوجوب المهر بنفس العقد لما يجري بين الزوجين من الأسباب التي تحمل الزوج على الطلاق من الوحشة، والخشونة فلو لم يجب المهر بنفس العقد لا يبالي الزوج عن إزالة هذا الملك بأدنى خشونة تحدث بينهما، لأنه لا يشق عليه إزالته لما لم يخف لزوم المهر فلا تحصل المقاصد المطلوبة من الزواج.

8. أن مصالح الزواج ومقاصده لا تحصل إلا بالموافقة، ولا تحصل الموافقة إلا إذا كانت المرأة عزيزة مكرمة عند الزوج ولا عزة إلا بانسداد طريق الوصول إليها إلا بمال له خطر عنده، لأن ما ضاق طريق إصابته يعز في الأعين فيعز به إمساكه، وما يتيسر طريق إصابته يهون في الأعين فيهون إمساكه ومتى هانت في أعين الزوج تلحقها الوحشة فلا تقع الموافقة فلا تحصل مقاصد الزواج.

9. أن الملك ثابت في جانبها إما في نفسها وإما في المتعة، وأحكام الملك في المرأة تشعر بالذل والهوان فلا بد وأن يقابله مال له خطر لينجبر الذل من حيث المعنى.

10. أن الفرض تقدير، ومن المحال وجوب تقدير ما ليس بواجب.

11. أن لها أن تحبس نفسها حتى يفرض لها المهر ويسلم إليها بعد الفرض، وذلك كله دليل الوجوب بنفس العقد.

الترجيح:

__________

(1) قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح، الترمذي: 3/ 450، وانظر: النسائي: 3/ 316، أحمد: 1/ 447..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (29)

نرى أن النتيجة العملية لأكثر مسائل القولين تكاد تكون واحدة، ولو أن القول بثبوته بمجرد العقد يعطي هيبة للعقد، فلا يقدم عليه المتلاعبون الهازلون، وذلك من مقاصد الشرع من العقود حتى لا يتلاعب بها.

حبس الزوج لأجل المهر

اختلف الفقهاء في حكم حبس الزوج إذا لم يدفع المهر الذي حل أجله على قولين (1):

القول الأول: إنه لا يحل حبسه بمجرد قول المرأة: إنه مليء، وإنه غيب ماله، وهو قول جمهور العلماء، وقد انتصر له ابن القيم، وبين البديل عن الحبس بأن يتثبت الحاكم ويتحرى، فإن تبين له مطله وظلمه ضربه إلى أن يوفي أو يحبسه، وإن تبين له بالقرائن والأمارات عجزه لم يحل له أن يحبسه ولو أنكرت الزوجة إعساره، ومن الأدلة التي ساقها لذلك:

1. عن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تصدقوا عليه (فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لغرمائه: (خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك (2)، وهو صريح في أنه ليس لهم إذا أخذوا ما وجدوه إلا ذلك، وليس لهم حبسه ولا ملازمته.

2. أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يحبس طول مدته أحدا في دين قط، وقد كان علي لا يحبس في الدين، ويقول: (إنه ظلم)، وقال: (حبس الرجل في السجن بعد معرفة ما عليه من الحق ظلم)، ويروى أنه كان إذا جاءه الرجل بغريمه، قال: لي عليه كذا. يقول: اقضه فيقول: ما عندي ما أقضيه، فيقول: غريمه: إنه كاذب، وإنه غيب ماله. فيقول: هلم بينة على ماله يقضى لك عليه. فيقول: إنه غيبه. فيقول: استحلفه بالله ما غيب منه شيئا. قال: لا أرضى بيمينه.

3.

__________

(1) انظر: الفروع:4/ 294، الجوهرة النيرة: 1/ 247، الطرق الحكمية:57.

(2) مسلم: 3/ 1191، ابن حبان: 11/ 409، الحاكم 2/ 47، الترمذي: 3/ 44، البيهقي: 6/ 49، أبو داود: 3/ 276، النسائي: 4/ 19، المجتبى: 7/ 265، ابن ماجة: 2/ 789.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (30)

4. فيقول: فما تريد؟ قال: أريد أن تحبسه لي، فيقول: لا أعينك على ظلمه، ولا أحبسه، قال: إذن ألزمه، فيقول: إن لزمته كنت ظالما له، وأنا حائل بينك وبينه)

5. أن الحبس من جنس الضرب، بل قد يكون أشد منه، وقد اتفق الفقهاء على أنه لو قال الغريم للحاكم: اضربه إلى أن يحضر المال، لم يجبه إلى ذلك فكيف يجيبه إلى الحبس الذي هو مثله أو أشد.

6. أن الحبس عقوبة، والعقوبة إنما تسوغ بعد تحقق سببها.

7. أن السجن من جنس الحدود، فلا يجوز إيقاعها بالشبهة.

القول الثاني: تسأل الزوجة عن إعسار الزوج، فإن أقرت بإعساره لم يحبس له، وإن أنكرت إعساره، وسألت حبسه: حبس، لأن الأصل بقاء عوض المهر عنده، والتزامه للقسم الآخر باختياره يدل على قدرته على الوفاء، وهو قول الحنفية.

وقد اختلفوا في وقت سماع البينة بالإعسار، هل تكون قبل الحبس أو بعده، على قولين عندهم، وفي حال عدم السماع، اختلفوا في مدة الحبس، فقال بعضهم: تكون مدة الحبس شهرا، وقيل: اثنان، وقيل: ثلاثة، وقيل: أربعة، وقيل: ستة، والصحيح عندهم أنه لا حد له، وأنه مفوض إلى رأي الحاكم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن حبس المرأة لزوجها من أجل المهر لا خير فيه لكليهما، إلا إذا رأى ولي الأمر في ذلك مصلحة للمرأة، أو ردعا عن المماطلة، فيتخذ هذا الإجراء في أضيق الحدود، وقد يستعيض عنه بتكليفه بعمل تعود بعض أجرته لزوجته، أو يخصم من مرتبه ـ إن كان موظفا ـ ما يسد هذا الحق الذي وجب عليه، وقد رجح هذا القول، كما ذكرنا ابن القيم، فقال في دين المهر وفي سائر الديون: (والذي يدل عليه الكتاب والسنة، وقواعد الشرع: أنه لا

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (31)

يحبس في شيء من ذلك، إلا أن يظهر بقرينة أنه قادر مماطل، سواء كان دينه عن عوض أو عن غير عوض، وسواء لزمه باختياره أو بغير اختياره) (1)

أصحاب الحق في المهر

اتفق الفقهاء على أن المهمر حق شرعي لإبانة خطر العقد وصيانة المرأة عن الابتذال، ولذلك لا يجوز التنازل عنه بحال من الأحوال.

وأنه ـ مع ذلك ـ حق للمرأة: حالة البقاء بعد تمام العقد، ولذلك يجوز لها التنازل عنه لزوجها، بخلاف تنازلها عن عدم اشتراط المهر، فلا يحق لها لأنه حق الشرع.

وأنه مع ذلك جميعا حق للأولياء: فلذلك يجوز لهم الاعتراض إذا زوجت البالغة العاقلة نفسها بأقل من مهر المثل، وقد تحدث الفقهاء هنا على الحلوان (2)، واختلفوا في حكمه، وفي حكم من اشترط عليه في الصداق حباء يحابى به الأب على أربعة أقوال (3):

القول الأول: الشرط لازم والصداق صحيح، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو مذهب الحنابلة، وهو قول مسروق، وقيل: يختص ذلك بالأب دون غيره من الأولياء.

القول الثاني: إذا كان الشرط عند الزواج فهو لابنته، لأنه من جملة المهر، وإن كان بعد الزواج فهو له، إن فارقها زوجها قبل أن يدخل بها فلزوجها نصف الحباء الذي وقع به الزواج لأنه من الصداق وهو يتشطر بالطلاق قبل الدخول (4)، وهو قول عمر بن عبد العزيز والثوري وأبي عبيد، وقول المالكية، ومن الأدلة على ذلك:

1.

2.

__________

(1) الطرق الحكمية:57.

(2) هو الحباء، وهو أخذ الرجل من مهر ابنته، فتح الباري: 9/ 218.

(3) اختلف في عد الأقوال في المسألة، انظر: سبل السلام:3/ 149، نيل الأوطار:6/ 320، بداية المجتهد: 2/ 21، فتح الباري: 9/ 218.

(4) شرح الزرقاني: 3/ 170.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (32)

3. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة نكحت على صداق أو حياء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، فما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم به الرجل ابنته أو أخته) (1) قال الشوكاني: (وفيه دليل على أن المرأة تستحق جميع ما يذكر قبل العقد من صداق أو حباء وهو العطاء أو عدة بوعد ولو كان ذلك الشيء مذكورا لغيرها وما يذكر بعد عقد النكاح، فهو لمن جعل له سواء كان وليا ولي أو المرأة نفسها) (2)

4. سدا للذريعة، للتهمة فيما لو كان الشرط في عقد الزواج، فيكون ذلك الذي اشترطه لنفسه نقصانا من صداق مثلها، ولا توجد التهمة فيما إذا كان بعد انعقاد الزواج والاتفاق على الصداق (3).

وقد ذهب ابن العربي إلى التفصيل في المسألة، فقال: (والذي يصح عندي التقسيم، فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا، فإن كانت ثيبا جاز، لأن نكاحها بيدها، وإنما يكون للولي مباشرة العقد، ولا يمنع أخذ العوض عليه، كما يأخذه الوكيل على عقد البيع، وإن كانت بكرا كان العقد بيده، وكأنه عوض ف 0 ي النكاح لغير الزوج، وذلك باطل، فإن وقع فسخ قبل البناء، وثبت بعده على مشهور الرواية) (4)

القول الثالث: إن وقع في نفس العقد وجب للمرأة مهر مثلها، وإن وقع خارجا عنه لم يجب، وهو قول الشافعية، وقريب منه قول الإمامية، فقد نص السيد علي السيستاني في بعض

__________

(1) البيهقي:7/ 248، أبو داود: 2/ 241، النسائي: 3/ 322، ابن ماجة: 1/ 628، أحمد: 2/ 182، قال الشوكاني: الحديث سكت عنه أبو داود وأشار المنذري إلى أنه من رواية عمرو بن شعيب وفيه مقال معروف ومن دون عمرو بن شعيب ثقات، نيل الأوطار: 6/ 320.

(2) نيل الأوطار:6/ 320.

(3) انظر: بداية المجتهد:2/ 21.

(4) أحكام القرآن:3/ 501، تفسير القرطبي:13/ 279.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (33)

فتاويه على أنه (إذا اشرك اباها مثلاً في المهر بأن جعل مقداراً من المهر لها ومقداراً منه لأبيها، أو جعل مهرها عشرين مثلاً على ان تكون عشرة منها لأبيها، سقط ما سماه للأب فلا يستحق شيئاً. ولو لم يشركه في المهر ولكن اشترط عليها أن تعطيه شيئاً من مهرها صحّ، وكذا لو جعل له شيئاً زائداً على مهرها لشرطها عليه ذلك، وأما لو كان شرطاً ابتدائياً من الزوج له فلا يصحّ)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني من التفريق بين حلوان ما قبل العقد، والهدايا التي تكون بعده، لنص الحديث على ذلك، وهو مع ما قيل فيه أولى من غيره، خاصة وأن كثيرا من المصالح الشرعية تستفاد من هذا القول.

ومنها أن الحلوان قبل المهر أشبه بالرشوة منه بالهدية، فقد يخاف الخاطب أن يرفض من المرأة أو من أوليائها، فيغريهم بهذا الحلوان، أو يستغل حاجتهم للمال فيرشوهم به، فتتحقق مصلحته من غير الطريق الشرعي، وقد يكون في ذلك مفسدة للمرأة، وأقل المفاسد أن هذا الحلوان قد يؤثر في مهره فيزيد من الحلوان بقدر ما ينقص من المهر.

أما ما بعد العقد، فإن المضار تنتفي، بل إن هناك بعض االمصالح المرجوة، مثل الصلة التي تحدثها مثل تلك الهدايا بين الزوج وأهل زوجته، والتي يكون مصدرها الصلة لا الاشتراط، وسنوضح هذا المقصد الشرعي عند الحديث عن حقوق الزوجة الاجتماعية.

وقد ذكر الفقهاء أن سبب الاختلاف في المسألة هو تشبيه الزواج في ذلك بالبيع فمن شبهه بالوكيل يبيع السلعة ويشترط لنفسه حباء قال لا يجوز الزواج كما لا يجوز البيع، ومن جعل الزواج في ذلك مخالفا للبيع قال: يجوز (1)، ونرى أن قياس الصداق على البيع أو أي عقد من عقود المعاوضات قياس مع الفارق، فالمرأة ليست سلعة، والمهر ليس ثمنا.

__________

(1) انظر: بداية المجتهد:2/ 21.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (34)

ثانيا ـ شروط المهر

من الشروط التي نص عليها الفقهاء، والتي لا يعتبر المهر مهرا إلا بتوفرها ـ على اختلاف بينهم في ذلك ـ الشروط التالية:

الشرط الأول ـ كون المهر متقوما

تعريف المال المتقوم

يرد تعبير (المال المتقوم) في عرف الفقهاء على أحد شيئين:

1. ما يباح الانتفاع به شرعا.

2. ما يقابله في عرف الناس.

وسبب هذا الخلاف في التعريف أن الحنفية قسموا المال إلى قسمين: متقوم وغير متقوم، فاعتبروا المتقوم هو ما يحل الانتفاع به شرعا في حال الاختيار، وغير المتقوم: ما لا يحل الانتفاع به شرعا من الأموال.

بينما ذهب سائر الفقهاء إلى اشتراط حل الانتفاع شرعا في ماهية المال، وعلى ذلك لا يتصور عندهم مال لا يحل الانتفاع به شرعا، لانعدام الماهية بانتفاء شرطها، غير أنه يرد على ألسنتهم تعبير المال المتقوم، بمعنى المال الذي تقابله قيمة مادية في عرف الناس.

حكم كون المهر مالا متقوما

اختلف الفقهاء في اشتراط أن يكون المهر مالا متقوما على الأقوال التالية:

القول الأول: اشتراط أن يكون المال متقوما، وهو قول الحنفية والمالكية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (النساء: 24)، فشرطت الآية أن يكون المهر مالا، فما لا يكون مالا لا يكون مهرا، فلا تصح تسميته

2.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (35)

3. مهرا.

4. قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُم} (البقرة: 237)، فقد أمر تعالى بتنصيف المفروض في الطلاق قبل الدخول فيقتضي كون المفروض محتملا للتنصيف، وذلك لا يكون إلا في المال.

5. أن الحديث الذي استدل به المخالفون، حملوه على إرادة: زوجتكها بسبب ما معك من القرآن وبحرمته وبركته، لا أنه كان ذلك الزواج بغير تسمية مال.

القول الثاني: عدم اشتراط التقوم في المال، وأن كل ما جاز أن يتملك بالهبة أو بالميراث جاز أن يكون صداقا، سواء حل بيعه أو لم يحل كالماء، والكلب، والسنور، والثمرة التي لم يبدو صلاحها والسنبل قبل أن يشتد.

قال ابن حزم: وهو قول سفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي والليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وابن وهب صاحب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل وإسحاق، وأبي ثور، وأبي سليمان، وأصحابهم، وجملة أصحاب الحديث ممن سلف وخلف (1).

وهو مذهب الإمامية، فقد نصوا على أنه (يكفي في الصداق ما تراضى به الزوجان من ناحية الكثرة ومن ناحية القلة. كما انه لا يشترط أن يكون مالاً أو يكون عيناً أو يكون منفعة بل كل ما يملكه المسلم يصح أن يجعل صداقاً سواء كان عيناً أو كان ديناً أو منفعة لعين كدار أو عقار أو حيوان كما يصح جعله منفعة كتعليم صنعة أو علم او فن ونحو ذلك من كل عمل محلل، بل الظاهر أيضاً صحة جعل الصداق في الحقوق المالية القابلة للنقل والانتقال كحق التحجير مثلاً، ولذا ورد في الأخبار انه ما ترضى عليه الزوجان قليلاً كان أو كثيراً) (2)

__________

(1) المحلى:9/ 90.

(2) الجامع للشرائع: 439. وجواهر الكلام 31: 4..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (36)

وهو مذهب الظاهرية، فقد أجاز ابن حزم كذلك أن يكون صداقا كل ما له نصف قل أو كثر، ولو أنه حبة بر أو حبة شعير أو غير ذلك، وكذلك كل عمل حلال موصوف، كتعليم شيء من القرآن أو من العلم أو البناء أو الخياطة أو غير ذلك إذا تراضيا بذلك، وقد استدل ابن حزم على ذلك بما يلي (1):

1. إطلاق الآيات الواردة في المهر، كما قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4)، وقال تعالى {وآتوهن أجورهن بالمعروف} وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة: 237)، فلم يذكر الله تعالى في شيء من كتابه الصداق، فجعل فيه حدا بل أجمله إجمالا، مع أنه لو أراد أن يجعل للصداق حدا لا يكون أقل منه لما أهمله، ولا أغفله.

2. أن الله تعالى إنما عظم أمر الصداق في إيجاب أدائه، وتحريم أخذه بغير رضاها، وذلك موجود في كل حق سواء كان كثيرا أو قليلا، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} (الزلزلة: 7، 8)،وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) (2) مع أنه لا عظيم أعظم من اتقاء النار، وصح عنه صلى الله عليه وآله وسلم كذلك قوله: (من حلف على منبري بيمين آثمة وجبت له النار وإن كان قضيبا من أراك) (3)

3. الأحاديث الواردة في المهر بدون اشتراط أن يكون متقوما، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (التمس ولو خاتما من حديد؟)، فالتمس الرجل فلم يجد شيئا، فقال: أمعك من القرآن شيء؟ قال: نعم

4.

__________

(1) انظر: المحلى:9/ 90.

(2) البخاري: 2/ 513، مسلم: 2/ 704، النسائي: 2/ 39، الدارمي: 1/ 478.

(3) قال ابن حجر: رواه أحمد وابن ماجة والحاكم بلفظ: (لا يحلف على هذا المنبر عبد ولا أمة على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار)، تلخيص الحبير: 3/ 229، وانظر: البيهقي:10/ 176، أبو داود: 3/ 221، ابن ماجة: 2/ 779.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (37)

5. سورة كذا وسورة كذا، قال: قد زوجناكها بما معك من القرآن (1)، قال ابن حزم: (والحديث مشهور ومنقول نقل التواتر من طريق الثقات)، ولا بأس أن نذكر هنا قول ابن حزم مع ما فيه من الحدة التي لا نوافقه عليها، ولكن نوافقه على رده على ما تأولوا به الحديث، قال ابن حزم بعد سياقه لروايات الحديث ـ بتصرف ـ: (فاعترضوا في هذا فقال: إنما كلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتما من حديد، مزينا يساوي عشرة دراهم من فضة، أو ثلاثة دراهم من فضة خالصة، فقول يضحك الثكلى ويسيء الظن بقائله، لأنها مجاهرة بما لم يكن قط، ولا خلقه الله عز وجل قط في العالم أن تكون حلقة من حديد وزنها درهمان تساوي ما ذكروا ولا سيما في المدينة، وقد علم كل ذي حظ من التمييز أن مرورهم ومساحيهم لحفير الأرض، وشوافرهم وفؤوسهم لقطع الحطب، ومناجلهم لعمل النخل، وحصاد الزرع، وسككهم للحرث، ومزابرهم للزرجون، ودروعهم ورماحهم، كل ذلك من حديد فمن أين استحلوا أن يخبروا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكذبة السخيفة؟) (2)

6. عن أنس بن مالك أن عبد الرحمن بن عوف، قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تزوجت امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كم سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولم ولو بشاة، قال أنس: وذلك دانقان من ذهب، وقد حدد ابن حزم قيمة ذلك في عصره بأن الدانق: سدس الدرهم الطبري - وهو الأندلسي - فالدانقان، وزن ثلث درهم أندلسي، وهو سدس المثقال من الذهب، وكذب الرواية في ذلك عن قتادة عن أنس في النواة المذكورة أنها قومت بثلاث دراهم، لأن حجاج أحد رواة الحديث ساقط ولا يعارض بروايته رواية عبد الرزاق.

7. أن هذا قول السلف، فعن ابن عباس قال: (لو رضيت بسواك من أراك لكان مهرا)، وعن

8.

__________

(1) سبق تخريجه.

(2) المحلى: 9/ 478.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (38)

9. أبي سعيد الخدري أنه قال: (ليس على أحد جناح أن يتزوج بقليل ماله أو كثيره إذا استشهدوا وتراضوا)، وعن جابر بن عبد الله قال: (من أعطى في صداق امرأة ملء حفنة من سويق أو تمر فقد استحل)،وعن عطاء، أنه قال في الصداق: أدنى ما يكفي: خاتمه، أو ثوب يرسله، وقال عمرو بن دينار: أدنى الصداق ما تراضوا به، وقال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا حلت له، وعن سعيد بن المسيب أنه زوج ابنته ابن أخيه، فقيل له: أصدق؟ فقال: درهمين، وعن الحسن البصري أنه كان يقول في الصداق: هو على ما تراضوا عليه من قليل أو كثير، ولا يؤقت شيئا، وقال: ما تراضوا به عليه فهو صداق، وعن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: يحل المرأة ما رضيت به من قليل أو كثير (1).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لتواتر الآثار الكثيرة في اعتبار المهر هدية رمزية واجبة يقدمها الرجل لزوجه من غير تحديد شرعي لذلك، وسنرى أدلة أكثر لهذا الترجيح في محلها عند ذكر الحد الأدنى للمهر، والقول بهذا يتفق مع مقصد الشريعة من الزواج والتفريق بينه وبين سائر المعاوضات، فالصداق ـ كما ذكرنا سابقا ـ ليس عوضا، بل هو نحلة وعربون مودة يزيد في الصلة بين الرجل وزوجه، وأن العبرة فيه برضا الطرفين، فعن عامر بن ربيعة، أن امرأة من بني فزارة، تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه (2).

حكم اعتبار تحفيظ القرآن الكريم صداقا

__________

(1) انظر هذه الآثار بأسانيدها في المحلى:9/ 450.

(2) قال الترمذي: حديث حسن صحيح، الترمذي:3/ 420، وقد خولف في تصحيحه، نيل الأوطار:6/ 309، وانظر: البيهقي: 7/ 138، أحمد: 3/ 445.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (39)

بناء على ما سبق، اختلف الفقهاء في اعتبار تحفيظ القرآن الكريم صداقا على قولين (1):

القول الأول: عدم جواز جعل تحفيظ القرآن الكريم صداقا، وهو قول الحنفية والمالكية في المشهور عندهم وأحمد في رواية عنه، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن الزوجة لا يمكن استباحتها إلا بالأموال لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (النساء: 24)، وذكر الله الطول في الزواج، والطول المال، والقرآن ليس بمال.

2. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يؤكل بالقرآن، أو يتعوض به شيء من أمور الدنيا، فعن عبادة قال: (كنت أعلم ناسا من أهل الصفة القرآن، فأهدى إلي رجل منهم قوسا، على أن أقبلها في سبيل الله. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال إن أردت أن يطوقك الله بها طوقا من النار، فاقبلها) (2)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرؤوا القرآن ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به) (3)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرؤوا القرآن، واسألوا الله به، فإن من بعدكم قوما يقرؤون القرآن يسألون به الناس) (4)، وعن جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والعجمي، فقال: اقرؤوا فكل حسن، وسيجيء أقوام يقيمونه

3.

__________

(1) شرح معاني الآثار: 3/ 16، المغني:7/ 163.

(2) البيهقي:6/ 125.

(3) قال ابن حجر: رواه الطبراني واللفظ له وأحمد ورجالهما رجال الصحيح، مجمع الزوائد:8/ 36، وانظر: البيهقي: 2/ 17، أحمد: 3/ 428، المعجم الأوسط:8/ 344.

(4) المعجم الكبير:18/ 166، ضعفاء العقيل: 2/ 29.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (40)

4. كما يقام القدح (1)، يتعجلونه ولا يتأجلونه (2) (3)، وعن أبي قال: كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة قد احتبس في بيته أقرئه القرآن، فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة، فحاك في نفسي شيء، فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إن كان ذلك الطعام طعامه وطعم أهله، فكل منه، وإن كان بحقك فلا تأكله) (4)

5. أن تحفيظ القرآن الكريم ليس هو المهر المراد في الحديث، وإنما معناه ببركة ما معك من القرآن، أو بسبب ما معك من القرآن، أو من أجل أنك من أهل القرآن، وليس فيه دلالة على أنه جعله مهرا، ونفس التأويل حملوه على حديث أبي طلحة حين تزوج أم سليم على إسلامه فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحسنه) (5). فلم يعتبروا الإسلام مهرا في الحقيقة، وإنما معناه تزوجها على إسلامه، أي تزوجها لإسلامه (6)، وقد ذكر ابن حزم أنهم استدلوا بما روي عن أبي النعمان الأزدي قال: زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة على سورة من القرآن، ثم قال: لا يكون لأحد بعدك مهرا (7)، وذكر القرطبي زيادة أخرى ظاهرها الضعف، قال

6.

__________

(1) القدح وهو السهم قبل أن يراش، ومعنى الحديث، أنه سيجيء أقوام يقيمونه أي يصلحون ألفاظه وكلماته ويتكلفون في مراعاة مخارجه وصفاته كما يقام القدح أي يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة لأجل الرياء والسمعة، عون المعبود:3/ 42.

(2) يتعجلونه: أي ثوابه في الدنيا، ولا يتأجلونه بطلب الأجر في العقبى، بل يؤثرون العاجلة على الآجلة.

(3) ابو داود: 1/ 220، أحمد: 3/ 397، شعب الإيمان: 2/ 539.

(4) قال الشوكاني: أخرجه الأثرم في سننه، نيل الأوطار:6/ 25.

(5) الحاكم: 2/ 196.

(6) انظر: شرح معاني الآثار:3/ 17، التمهيد:21/ 119.

(7) استدل بالحديث في: الروض المربع: 3/ 107، وقد قال فيه ابن حزم: هذا خبر موضوع، فيه ثلاث عيوب: أولها أنه مرسل، ولا حجة في مرسل، إذ رواه شعبة عن أيوب، والثاني: أن أبا عرفجة الفاشي مجهول لا يدري أحد من هو، والثالث: أن أبا النعمان الأزدي مجهول أيضا لا يعرفه أحد، المحلى:9/ 499..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (41)

7. القرطبي: (وفيه زيادة تبين ما احتج به مالك وغيره، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ينكح هذه؟ فقام ذلك الرجل، فقال: أنا يارسول الله، فقال: ألك مال؟ قال: لا يارسول الله، قال: فهل تقرأ من القرآن شيئا؟ قال: نعم سورة البقرةوسورة المفصل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، وإذا رزقك الله عوضتها، فتزوجها الرجل على ذلك)، قال القرطبي: وهذا نص ـ لو صح ـ في أن التعليم لا يكون صداقا، قال الدارقطني: تفرد به عتبة بن الموطأ وهو متروك الحديث (1).

8. أن تعليم القرآن الكريم فرض كفاية، فكل من علم إنسانا شيئا من القرآن، فإنما قام بفرض، فكيف يجوز أن يجعل عوضا للبضع، ولو جاز ذلك لجاز التزويج على تعليم الإسلام، وهو باطل، لأن ما أوجب الله تعالى على الإنسان فعله، فهو متى فعله فعله فرضا، فلا يستحق أن يأخذ عليه شيئا من أعراض الدنيا، ولو جاز ذلك لجاز للحكام أخذ الرشى على الحكم، وقد جعل الله ذلك سحتا محرما (2).

9. القياس عل عدم صحة الإجارة أو البيع على التعليم، لأن الإجارات لا تجوز إلا لأحد معنيين: إما على عمل بعينه كخياطة ثوب وما أشبهه، وإما على وقت معلوم، وكان إذا استأجره على تعليم سورة فتلك إجارة لا على وقت معلوم، ولا على عمل معلوم، وإنما استأجره على أن يعلم، وقد يفهم بقليل التعليم وكثيره في قليل الأوقات وكثيرها، وكذلك لو باعه داره على أن يعلمه سورة من القرآن، لم يجز للمعاني التي ذكرناها في الإجارات، وإذا كان التعليم لا يملك به المنافع ولاأعيان الأموال، فأولى من ذلك أن لا تملك به الأبضاع (3).

10.

11.

__________

(1) تفسير القرطبي: 5/ 135.

(2) أحكام القرآن للجصاص:3/ 91.

(3) حكى هذا الدليل القرطبي عن الطحاوي: تفسير القرطبي: 5/ 134.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (42)

12. أن تحفيظ القرآن الكريم لا يجوز أن يقع إلا قربة لفاعله.

القول الثاني: جواز جعل تحفيظ القرآن الكريم صداقا للمرأة، وهوقول الشافعية، وهو خلاف المشهور عند بعض المالكية (1)، وأحمد في رواية عنه، قال ابن عبد البر: (وأكثر أهل العلم لا يجيزون ما قال الشافعي) (2)

وهو قول الإمامية، قال في النهاية: (يجوز العقد علي تعليم آية من القرآن أو شي ء من الحکم والآداب لأنّ ذلک له أجر معيّن وقيمة مقدّرة) (3)، ومن الروايات الواردة في هذا عن أبي جعفر ع أنه سئل عن رجل تزوّج امرأة علي أن يعلّمها سورة من کتاب اللّه فقال: (ما أحبّ أن يدخل حتّي يعلّمها السورة، ويعطيها شيئا، قلت: أيجوز أن يعطيها تمرا أو زبيبا؟ فقال: لا بأس بذلك إذا رضيت به كائنا ما كان) (4)

ومن الأدلة على ذلك:

1. أن الحديث الثابت ورد بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوج ذلك الرجل تلك المرأة على تعليمه إياها سورا سماها.

2. أن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه، فجاز أن يكون صداقا.

3. أنه لا وجه لقول من قال: إن ذلك كان من أجل حرمة القرآن، ومن أجل كونه من أهل القرآن، لأن في الحديث ما يبطل هذا التأويل، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: التمس شيئا، ثم قال له التمس

4.

__________

(1) قال الزرقاني: روي عن مالك هذا التفسير) أن يعلمها ما معه من القرآن أو مقدارا ما منه فيكون ذلك صداقها (رواه عنه ابن مضر الأندلسي واحتج شيوخنا العراقيون بهذا الحديث على أن منافع الأعيان يصح أن تكون عوضا عن البضع، انظر: المنتقى:3/ 286.

(2) التمهيد: 21/ 120.

(3) النهاية: 469.

(4) الوسائل: 15 الباب 1 من أبواب المهور، الحديث 2.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (43)

5. ولو خاتما من حديد، ثم قال له: هل معك من القرآن شيء؟ فقال: سورة كذا، فقال: قد زوجتكها بما معك من القرآن، أي بأن تعلمها تلك السورة من القرآن.

6. أن أبا طلحة تزوج أم سليم على أن يسلم، فلم يكن لها مهر غيره، وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين، أحدهما: أن ذلك كان قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمدة، لأن أبا طلحة قديم الإسلام، من أول الأنصار إسلاما، ولم يكن نزل إيجاب إيتاء النساء صدقاتهن به. الثاني: أنه ليس في ذلك الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علم ذلك.

7. أن اعتبار الخصوصية في ذلك يتنافى مع قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21)، فكل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالفضل لنا والأجر والإحسان في أن نفعل كما فعل ائتساء به، والمانع من ذلك مخطئ، إلا أن يأتي نص قرآن أو سنة ثابتة بأنه خصوصي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يحل أن يعمل به حينئذ.

8. أنه لا يصح استدلالهم بنصف الصداق الوارد في الآية، في حال الطلاق قبل الدخول، لأنه إن كان قد علمها السورة التي أصدقها تعليمها فقد استوفت صداقها، ولا سبيل لها إليه، لأنه عرض قد انقضى - وإن كان لم يعلمها إياه فعليه أن يعلمها نصفها فقط، وهذا لا يحرم على أحد - يعني تعليم امرأة أجنبية - وقد كلم أمهات المؤمنين الناس.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما ذكره أصحاب القول الثاني لصحة الحديث الوارد في ذلك، ولكن ذلك يبقى مربتبطا بحال لحاجة والضرورة، وليس مطلقا، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر له القرآن الكريم كمهر يقدمه لها إلا بعد علمه بفاقته الشديدة، أو أن يكون ذلك برغبة منها، فالمهر حقها، ولها الحرية في تحديده، ولكنه مع ذلك، يستحب خروجا من الخلاف، وتأليفا لقلبها أن يقدم لها من الهدايا باسم المهر ما تسر له النساء، لأنه المقصد الأصلي من تشريع المهر.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (44)

أما ما استدل به المخالفون من الآية، فإن تفسير الآية محل نزاع بين العلماء، والأكثر على أنها في زواج المتعة، أو أنها منسوخة، فلذلك لا يصح الاستدلال بها على هذا الوجه، بل لو فرض صحة الاستدلال بها، فإنه يمكن توجيهها على أن المراد من الأموال فيها ما يشترطه الولي أو المرأة، ولا خلاف في وجوبه أما في حال عدم اشتراطه، أو اشتراط المنافع، فإنها تجب بإيجاب الولي أو المرأة.

ثم إن المال ما يمتلك، وله قيمة، ولا حرج في اعتبار القرآن لذلك من باب المجاز نوعا من المال، بل هو أغلى المال، وفي النصوص الشرعية الكثير مما يدل على ذلك.

أما ما ذكروه من النصوص واستدلوا به من النهي عن الأكل بالقرآن الكريم، فنحن نسلم له، ونقول به، ولا نرى تناقضا بينه وبين ما رجح هنا، ولا نرى حاجة لتضعيف الأحاديث، فهي من الكثرة بحيث يقوي بعضها بعضا، وقد حاولنا أن نجمع الكثير منها غير مكتفين بما سرد في كتب الفقه، ولكنا مع ذلك لا نراها متعلقة بهذا الموضوع، لأن المهر ليس ثمنا حتى تعتبر فيه المالية، وليس عوضا كسائر المعاوضات حتى يحرم استغلال القرآن لخدمة تلك المعاوضة، بل هو كما ذكرنا نوع صلة مادية تربط بين المرأة وزوجها، فلذلك كان القرآن أشرف ما يوثق هذه الرابطة.

حتى ولو اعتبر تعليم المرأة القرآن مهرا لها أكلا بالقرآن، فإن ذلك لا يصح تنزيل الأحاديث السابقة عليه، قال ابن حزم: (لو صح لم تكن لهم به حجة، لأن الأكل أكلان: أكل بحق، وأكل بباطل، فالأكل بحق حسن، وقد مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة - كمصعب بن عمير وغيره - يعلمون الأنصار القرآن والدين، وينفق الأنصار عليهم، قال الله تعالى: {هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُون} (المنافقون:7)، فأنكر الله تعالى على من نهاهم عن النفقة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد النكير)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (45)

ولو فرضت صحة تلك الأحاديث فإنها معارضة بنصوص أخرى، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المشهور: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله عز وجل) (1)

أما دعوى الخصوصية، فلا تسلم في هذا الموضع كما لا تسلم في أكثر المواضع، لعدم الدليل عليها، ولو ترك القول بها لمن شاء أن يقول لبطلت السنة، وبطل معها الإسلام جميعا قال ابن عبد البر: (دعوى التعليم على الحديث دعوى باطل لا يصح، وتأويل الشافعي على ما ذكرنا في هذا الباب محتمل، فأما دعوى الخصوص فضعيف لا وجه له، ولا دليل عليه) (2)

أما قياس المهر عل الإجارة والبيع كما ذكره الطحاوي، فلا يصح باعتبار المهر ليس من عقود المعاوضات، بل هو نحلة يقدمها الرجل لزوجه، ولو فرض ذلك، فإنه لا حرج في أن يجعل الرجل مبلغا من المال أو أن يبيع داره، أو يستأجر أجيرا، ثم يوفيه أجره علما ينتفع به، إذا ما تراضيا على ذلك، ولا عبرة في ذلك بطول الوقت وقصره، ولا حرج أن لا نسمي هذا العقد بيعا أو إجارة أو جعالة لأن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني.

أما اعتبار تعليم القرآن فرضا كفائيا، فلذلك لا يصح جعله مهرا، فإن جعله مهرا يحوله من الفرضية الكفائية إلى الفرضية العينية، مع أن الفرضية الكفائية متعلقة بالعموميات أو التفاصيل التي يحتاج إليها دون غيرها، فلم يقل أحد بوجوب تحفيظ الرجل زوجته القرآن الكريم لا بعضه، ولا كله.

أما الغاية المقاصدية من جعل المهر قرآنا، فهي غاية جليلة تؤكد المعاني الروحية التي يريدها الإسلام من الزواج، فليس مقصد الزواج في الإسلام شهوة تنطفئ، أو أجيالا تنشأ، أو

__________

(1) البخاري: 2/ 795، ابن حبان: 11/ 546، البيهقي: 1/ 430، الدارقطني: 3/ 65، شعب الإيمان: 2/ 536.

(2) التمهيد: 21/ 120.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (46)

غير ذلك فقط، بل إن قمتها هي في الترقي الروحي للزوجين، ورحلة الجميع إلى الله، وما أجمل أن يكون عربون تلك الرحلة القرآن الكريم كلام الله.

القدر الواجب من الإصداق بالقرآن

اتفق القائلون بجواز اعتبار القرآن الكريم صداقا على أنه لا بد من تعيين ما يحفظها إياه من السور والآيات، لأن السور والآيات تختلف، كما اتفقوا على وجوب تحفيظها القدر المتفق عليه من السور والآيات (1)، واتفقوا على أنهم إذا شرطوا قراءة معينة يجب عليه أن يحفظها هذه القراءة، فإن خالف وعلمها قراءة أخرى غيرها فمتطوع، ويلزمه تعليمها القراءة المتفق عليها عملا بالشرط، ولكنهم اختلفوا هل يشترط تعيين القراءة التي يعلمها وفقا لها أم لا على قولين:

القول الأول: عدم اشتراط ذلك لأن كل قراءة تنوب مناب القراءة الأخرى، وهو مذهب جمهور الشافعية وهو أحد الوجهين عند الحنابلة، وهو قول الإمامية، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعين للمرأة قراءة معينة، وقد كانوا يختلفون في القراءة أشد من اختلاف القراء اليوم، فيعلمها ما شاء من القراءات المتواترة (2).

القول الثاني: أنه يجب تعيين قراءة بعينها لأن الأغراض تختلف، والقراءات كذلك تختلف، فمنها صعب ومنها سهل، ونقل عن البصريين من الشافعية أنه يعلمها ما غلب على قراءة أهل البلد، وإن لم يكن فيها أغلب علمها ما شاء من القراءات.

الترجيح:

__________

(1) اشترط الشافعية أن يحفظها على الأقل أقصر سورة من القرآن وهي الكوثر ثلاث آيات فصاعدا ليكون قدر ما يختص به الإعجاز فإن كان أقل لم يجز لأنه لا يختص به الإعجاز وتعين القرآن يقتضيه، أسنى المطالب: 3/ 215.

(2) المغني:7/ 164.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (47)

نرى أن الأرجح في المسألة هو تعليمها أي قراءة قرآنية متواترة، ولا حرج في ذلك، لأنه لا يصح التفضيل بين القراءات، أما الأداءات المختلفة، فالمستحب أن يختار لها أيسر الأداءات، وذلك يكون غالبا مما أخذ به أهل البلد.

حكم جعل صداق الكتابية تعليمها القرآن

اتفق الفقهاء على حرمة أن يجعل مهر الكتابية تعليمها من التوراة أو الإنجيل، لأنه منسوخ مبدل محرم (1)، واختلفوا في جواز جعل تعليمها القرآن صداقا على قولين:

القول الأول: جواز ذلك إذا كان يتوقع إسلامها، وهوقول الشافعية، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (التوبة:6)

القول الثاني: عدم جواز ذلك وأن لها مهر المثل، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) (2)، وذلك مخافة أن تناله أيديهم فالتحفيظ أولى أن يمنع منه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، مع مراعاة ما ذكرناه في الجزء السابق من حكم الزواج بالكتابيات، وهو اقتصاره على الضرورة والطمع في إسلامها، أو أن يكون زواجا مؤقتا.

__________

(1) الفروع:5/ 263.

(2) قال في نصب الراية:: رواه الجماعة إلا الترمذي، فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر، وزاد أبو داود وابن ماجة فيه (مخافة أن يناله العدو)، نصب الراية: 3/ 383، وانظر: مسلم:3/ 1491.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (48)

وفي هذه الحالة نرى استحباب تعليمها القرآن الكريم سواء جعل ذلك مهرا أو لم يجعل، أما الاستدلال على النهي عن ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو)، فاستدلال غير صحيح، فقد علل ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مخافة أن يناله العدو)، ويقصد بذلك انتهاك حرمته (1).

ويوافق هذا أن الإجماع ورد على مفهوم هذا الحديث في حال الخوف على المصحف من الانتهاك، قال ابن عبد البر: (وأجمع الفقهاء أن لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه) (2)

أما في غير ذلك، وحال عدم الخوف فقد اختلفوا في جواز ذلك في العسكر الكبير المأمون عليه، فقال مالك: لا يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، ولم يفرق بين العسكر الكبير والصغير، وقال أبو حنيفة: يكره أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو إلا في العسكر العظيم فإنه لا بأس بذلك.

ونرى أن المرأة التي اختارها زوجة، وتألفت بينهما عرى المودة والرحمة ليست جيش عدو يخاف عليها انتهاك حرمة المصحف، وليست دارهما بدار حرب، ولو كانت كذلك لمنع من إدخال المصحف إلى بيته.

ومن هذا الباب اختلاف الفقهاء في جواز تعليم الكافر القرآن، فمذهب أبي حنيفة أنه لا بأس بتعليم الحربي والذمي القرآن والفقه، وقال مالك: لا يعلمون القرآن ولا الكتاب، بل كره رقية أهل الكتاب، وعن الشافعي روايتان أحدهما الكراهة والأخرى الجواز.

ونرى في كلتا المسألتين قرب فقه أبي حنيفة من تحقيق الأمر بالجهاد بالقرآن الذي نص عليه في قوله تعالى: {فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الفرقان:52) وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ

__________

(1) شرح العمدة:1/ 376.

(2) التمهيد:15/ 254.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (49)

قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (التوبة:6)، لأن الغرض من تعليم القرآن وتحفيظه الدعوة إلى ماجاء به، وكيف يؤمن الحربي أو الذمي، أو الزوجة بالقرآن، والحجب تحول بينهم وبينه بحجة قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التوبة:28)، أو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يمس القرآن إلا طاهر) أو أن من تنزيه القرآن وتعظيمه إبعاده عن الأقذار والنجاسات، وفي كونه عند أهل الكفر تعريض له لذلك وإهانة له.

ونرى أن كل هذه الفهوم والاستدلالات تخالف المقاصد الشرعية أولا، وتخالف النصوص الصريحة ثانيا، فقد كتب صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الكتاب المحاربين لا الذميين بكتب فيها قرآن، وكان يكتب في صدر كتبه إلى أهل النواحي بسم الله الرحمن الرحيم، وقد قال ابن عبد البر: (فإن قال قائل أفيجوز أن يكتب المسلم إلى الكافر كتابا فيه آية من كتاب الله، قيل له: أما إذا دعي إلى الإسلام، أو كانت ضرورة إلى ذلك فلا بأس به) (1)

ثم أورد حديث أبي سفيان في قصة هرقل وحديثه، وفيه: فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا فيه: (بسم الله الرحمان الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، و{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران:64) والآية الصريحة المذكورة سابقا تنص على ذلك، قال القرطبي في تفسيرها: (وإن أحد من المشركين، أي من الذين أمرتك بقتالهم، {استجارك} أي سأل جوارك أي أمانك وذمامك، فأعطه إياه ليسمع القرآن، أي يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه، فإن قبل أمرا فحسن، وإن أبى فرده إلى مأ منه وهذا ما لا خلاف فيه) (2)

__________

(1) التمهيد:15/ 254.

(2) القرطبي:8/ 76.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (50)

فإن كان هذا التصرف يجوز، بل نؤمر به مع كافر محارب، فكيف لا يجوز مع الزوجة، ولذلك لا نرى حرجا في عصرنا أن تطبع المصاحف بلغات العالم المختلفة لتنشر في جميع ديار الحرب والذمة، معربة ومترجمة، بل نرى وجوب ذلك لاقتضاء الدعوة هذا السبيل، ولانتفاء محاذير الإهانة، فلا يمكن أن ننشر دين الله، ونحن نستر كتابه في بيوتنا مخافة أن يدنس، وكيف يدنس، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة يقرؤونه بملء أفواههم والأصنام تحيط بهم من كل النواحي.

حكم المهر المتقوم شرعا بمنفعة

اختلف الفقهاء في جعل المنافع صداقا على قولين:

القول الأول: يجوز أن يكون المال المتقوم شرعا بمنفعة مهرا مطلقا، وهو قول الإمامية (1) والشافعية والحنابلة، فيصح عندهم أن يتزوج الرجل المرأة على عمل معلوم كخياطة ثوب معين، وبناء دار وتعليم صنعة وغير ذلك من كل ما هو مباح، ويجوز أخذ الأجرة

__________

(1) قال الطوسي في الخلاف: (يجوز أن يكون منافع الحر مهرا، مثل: تعلىم آية، أو شعر مباح، أو بناء، أو خياطة ثوب وغير ذلك، مما له أجرة. واستثنى أصحابنا من جملة ذلك الاجارة فقالوا: لا يجوز ذلك، لأنه كان يختص بذلك موسى - عليه السلام -) (الخلاف- الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ج 04 (ص: 366)

وقد ورد في الرواية ما يدل على علة ذلك، ما رواه الکليني عن أبي نصر البزنطي، قال: قلت لأبي الحسن ع: قول شعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، أيّ الأجلين قضي؟ قال: (الوفاء منهما أبعدهما عشر سنين) قلت: فدخل بها قبل أن ينقضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: (قبل أن ينقضي)، قلت: فالرجل يتزوّج المرأة ويشترط لأبيها إجارة شهرين يجوز ذلک؟ فقال: (إنّ موسي عليه السّلام قد علم أنّه سيتمّ له شرطه فکيف لهذا بأن يعلم أن سيبقي حتّي يفي؟ وقد کان الرجل علي عهد رسول اللّه ? يتزوّج المرأة علي السورة من القرآن وعلى الدرهم وعلى القبضة من الحنطة) (الوسائل: 15 الباب 22 من أبواب المهور، الحديث 1)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (51)

عليه، بل يصح (أن يصدقها تعليم علم معين من فقه وأدب كنحو وصرف وبيان ولغة ونحوها، وشعر مباح معلوم، ولو أنه يتعلمه ويعلمها، وكذا لو أصدقها تعليم صنعة أو كتابة أو خياطة ثوبها أو رد قنها من محل معين) (1)، فإن تعلمت ما أصدقها تعليمه من غيره، أو تعذر عليه تعليمها، بأن أصدقها تعليم خياطة فتعذر، لزمته أجرة التعليم، لأنه لما تعذر الوفاء بالواجب وجب الرجوع إلى بدله.

فإن علمها ما أصدقها تعليمه ثم نسيت ما علمه إياها، فلا شيء عليه، لأنه قد وفاها، وإن لقنها الجميع، وكلما لقنها شيئا نسيته، لم يعتد بذلك تعليما، لأن العرف لا يعده تعليما، فإن ادعى الزوج أنه علمها، وادعت أن غيره علمها، فالقول قولها، لأن الأصل عدمه، وإن أتاها بغيره يعلمها، لم يلزمها قبوله، لأن المعلمين يختلفون في التعليم، وقد يكون لها غرض في التعليم منه لكونه زوجها.

فإن طلقها قبل الدخول، وقبل تعليمها، فعليه نصف الأجرة، أي نصف أجرة مثل تعليم ما أصدقها تعليمه، لأنها قد صارت أجنبية منه، فلا يؤمن في تعليمها الفتنة، وعليه بطلاقها قبل التعليم، وبعد الدخول كل الأجرة لاستقرار ما أصدقها بالدخول، وإن كان طلقها قبل الدخول بعد تعليمها رجع عليها بنصف الأجرة، لأن الطلاق قبل الدخول يوجب نصف الصداق، وبما أن الرجوع بنصف التعليم متعذر، فإنه يجب الرجوع إلى بدله وهو نصف الأجرة، ولو حصلت الفرقة من جهتها قبل الدخول، وبعد التعليم رجع عليها بالأجرة كاملة لتعذر الرجوع بالتعليم (2).

__________

(1) الروض المربع: 3/ 108.

(2) كشاف القناع:5/ 131، وانظر: الأم:5/ 60.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (52)

وقد نص أصحاب هذا القول ـ كذلك ـ على أنه إن كانت المنفعة التي جعلها صداقا لها مجهولة، كرد آبقها أين كان، وخدمتها فيما شاءت شهرا لم يصح ذلك صداقا، لأنه عوض في عقد معاوضة، فلم يصح مجهولا كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة.

ونصوا على أنه إن تلف الثوب قبل خياطته، فعليه أجرة المثل (1)، وإن عجز عن خياطته مع بقائه، فمات لمرض ونحوه، فعليه أن يقيم مقامه من يخيطه، وإن طلقها قبل خياطته وقبل الدخول فعليه خياطة نصفه، إن أمكن معرفة نصفه، وإلا فنصف الأجرة، إلى أن يبدل خياطة أكثر من نصفه، بحيث يعلم أنه قد خاط النصف يقينا (2).

ومن أدلة أصحاب هذا القول:

1. قوله تعالى حكاية عن شعيب مع موسى عليهما الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ} (القصص:27)

2. أن منفعة الحر يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة فجازت صداقا.

__________

(1) هذا ما نص عليه الحنابلة (انظر: كشاف القناع:5/ 130)، وقد نص الشافعية هنا على أنه إذا مات الصبي الذى استؤجر على إرضاعه، أو تلف الثوب الذى استؤجر على خياطته، ففي الانفساخ بذلك ثلاثة وجوه:

أنه لا ينفسخ لأنه كالمستوفي فأشبه موت العاقدين فإنه لا يوجب الفسخ.

بنفسخ لأنه كموت الأجير لأن الغرض يختلف به، وقد نص الشافعي على أنه لو أصدقها خياطة ثوب فتلف الثوب رجعت إلى مهر المثل وهو حكم بالانفساخ.

أنهما إن لم يتشاحا في الإبدال استمر العقد وإلا ثبت الفسخ، ونرى أن هذا هو أعدل الأقوال في المسألة، انظر: الوسيط:4/ 200، روضة الطالبين: 5/ 244.

(2) كشاف القناع:5/ 130.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (53)

القول الثاني: عدم الجواز، وهو قول الحنفية، وقول عند المالكية (1)، وقد فرق الحنفية بين المنافع المتعلقة بالزوج كأن يصدقها خدمته وهو حر (2) أو على تعليم القرآن، فلم يجيزوها، أما لو تزوجها على منافع سائر الأعيان من سكنى داره وركوب دابته والحمل عليها وزراعة أرضه ونحو ذلك من منافع الأعيان مدة معلومة صحت التسمية، لأن هذه المنافع أموال أو التحقت بالأموال شرعا في سائر العقود لمكان الحاجة، والحاجة في الزواج متحققة، وإمكان الدفع بالتسليم ثابت بتسليم محالها إذ ليس فيه استخدام المرأة زوجها فجعلت أموالا والتحقت بالأعيان فصحت تسميتها.

ومن الأدلة على ذلك:

1. أن ما استدلوا به من قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ} (القصص:27) لا يصح الاستدلال به في هذا المقام، لأنه لم يشرط المنافع للمرأة، وإنما شرطها لشعيب عليه السلام، وما شرط للأب لا يكون مهرا، ولو صح أنها كانت مشروطة لها، وأنه إنما أضافها إلى نفسه، لأنه هو المتولي للعقد، أو لأن مال الولد منسوب إلى الوالد، فهو منسوخ بالنهي عن الشغار، ثم إنه يجوز أن يكون هذا الزواج جائزا في تلك الشريعة بغير بدل تستحقه المرأة، وهو منسوخ بشريعة النبي

2.

__________

(1) اختلف المالكية في جعل المنافع صداقا على ثلاثة أقوال: كرهه مالك، ومنعه ابن القاسم، وقال: يفسخ قبل البناء، ويثبت بعده، وأجازه غيرهما، وقال أصبغ: إن نقد معه شيء ففيه اختلاف، وإن لم ينقد فهو أشد، فإن ترك مضى على كل حال انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 500، بداية المجتهد:2/ 16.

(2) اختلف الحنفية في حال جعله المهر خدمته، فقيل: يجب مهر المثل، وقال محمد: تجب قيمة الخدمة ; لأن المسمى مال إلا أنه عجز عن التسليم لمكان المناقضة فصار كالتزوج على عبد الغير بخلاف تعليم القرآن، وقد روي عنهم في رعي غنمها روايتين، ومنهم من قال: يصح في رعي الغنم بالإجماع، وإنما الخلاف في خدمته لها. انظر تفصيل الخلاف في: تبيين الحقائق: 2/ 145، بدائع الصنائع: 2/ 278..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (54)

3. صلى الله عليه وآله وسلم (1).

4. أن ما جرى من شعيب عليه السلاملم يكن ذكرا لصداق المرأة، وإنما اشتراطا لنفسه على ما يفعله الأعراب، فإنها تشترط صداق بناتها، وتقول لي كذا في خاصة نفسي وترك المهر مفوضا، وزواج التفويض جائز.

5. أن خدمة الزوج الحر ليست بمال حقيقة، إذ لا تستحق فيه أي شيء، وإنما تصير مالا للضرورة والحاجة عند استحقاق عينها والانتفاع بها، فعند عدم استحقاق عينها لا ضرورة إليها، فلا تجعل مالا فصارت كالخمر ونحوها فيجب مهر المثل.

6. أن المنافع ليست بأموال متقومة، ولهذا لم تكن مضمونة بالغصب والإتلاف، وإنما يثبت لها حكم التقوم في سائر العقود شرعا ضرورة، دفعا للحاجة بها، ولا يمكن دفع الحاجة بها ههنا، لأن الحاجة لا تندفع إلا بالتسليم.

7. أن استخدام الحرة زوجها الحر حرام، لكونه استهانة وإذلالا، وهو لا يجوز، ولهذا لا يجوز للابن أن يستأجر أباه للخدمة، فلا تسلم خدمته لها شرعا، فلا يمكن دفع الحاجة بها، فلم يثبت لها التقوم فبقيت على الأصل، فصار كما لو سمى ما لا قيمة له كالخمر والخنزير.

8. أن مبنى الزواج على الاشتراك في القيام بمصالح المعاش، فكان لها في خدمته حق، فإذا جعل خدمته لها مهرها، فكأنه جعل ما هو لها مهرها، فلم يجز كالأب إذا استأجر ابنه بخدمته، فإنه لا يجوز، لأن خدمة الأب مستحقة عليه.

الترجيح:

__________

(1) أحكام القرآن للجصاص:3/ 92، 5/ 215، وانظر: بدائع الصنائع:2/ 260.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (55)

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن العبرة في المهر بالتراضي، والتراضي عادة يكون موافقا للمصالح التي يطلبها كلا الطرفين، فلذلك لا يلزم الشرع طرفا من الأطراف بما لا يرضاه، ما دام في ذلك الرضا تحقيق مصلحة أو درء مفسدة.

ثم إن في الصنعة التي تكتسبها المرأة، أو العلم الذي تنتفع به، أو الخدمات التي يقدمها الزوج ما يفوق الأعيان نفسها، لأن مصير الأعيان إلى التلف أما تلك المنافع فقد تمتد معها طول عمرها، ولعل المرأة تكون مستغنية عن المال العيني لعدم حاجتها إليه أو لغناها، وتكون في نفس الوقت مفتقرة إلى شيء تتعلمه، أو خدمة تؤدى لها، فلماذا نحرمها من هذه الخدمة، وهي تعتقد أنها أصلح لها من المال العيني.

وما لنا نناقش الأمر عقليا، وقد صرحت النصوص التي لا كلام معها بجواز ذلك، فالآية صريحة في جواز جعل المنافع صداقا، أما القول بنسخ الآية، أو تخصيصها بشرع من قبلنا، فلا دليل عليه، ولو كان الأمر كذلك لنص عليه القرآن الكريم، فالسكوت عن البيان وقت الحاجة لا يجوز، أما ما ذكره بعضهم من أن ذلك من الحلوان الذي يأخذه الأب، فقد قال فيه ابن العربي: (هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام (1) لا يليق بالأنبياء) (2)

الشرط الثاني ـ جواز تملكه

__________

(1) الأصح أن في المسألة خلافا للعلماء، فقد اختلفوا فيما يخرجه الزوج من يده، ولا يدخل في يد المرأة على أقوال ذكرناها في محلها من هذا الفصل.

(2) أحكام القرآن:3/ 501.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (56)

اتفق الفقهاء (1) على أنه لا يعتبر مهرا ما لا يجوز تملكه كالخمر والخنزير، فلو تزوج المسلم المسلمة على ميتة أو دم أو خمر أو خنزير لم تصح التسمية، لأن الميتة والدم ليسا بمال في حق أحد، والخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم فلا تصح تسمية ذلك مهرا، ولأجل هذا الشرط حرم زواج الشغار؛ لأن كل واحد منهما جعل بضع كل واحدة منهما مهر الأخرى، والبضع ليس بمال ففسدت التسمية.

وقد اختلف الفقهاء فيما لو سمى في الزواج صداقا محرما، كالخمر والخنزير على قولين:

القول الأول: التسمية فاسدة، والزواج صحيح، وهو قول عامة الفقهاء، منهم الثوري، والأوزاعي، والشافعي، والحنفية، وهو قول الإمامية (2)، وحكي عن مالك (3) أنه إن كان بعد الدخول، ثبت الزواج، وإن كان قبله، فسخ، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أنه عقد لا يفسد بجهالة العوض، فلا يفسد بتحريمه كالخلع.

2. أن فساد العوض لا يزيد على عدمه، فإنه لو عدم المهر كان العقد صحيحا، فكذلك إذا فسد.

__________

(1) الإنصاف:8/ 246، التاج والإكليل:5/ 174،البحر الرائق:3/ 176، مغني المحتاج:4/ 367.

(2) وقد نصوا على أن لها القيمة، قال الطوسي: (إذا قال أصدقتها هذا الخلّ فبان خمرا کان لها قيمتها عند مستحلّيها، وقال الشافعي: ويبطل المسمّي ولها مهر المثل، دليلنا: أنّ العقد وقع علي معين ونقله إلي مهر المثل يحتاج إلي دليل) (الخلاف: 2/ 406)، ومن الأدلة التي استدلوا على ذلك خبر عبيد بن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه ع: النصراني يتزوّج النصرانية علي ثلاثين دنّا خمرا وثلاثين خنزيرا ثمّ أسلما بعد ذلک ولم يکن دخل بها؟ قال: (ينظر کم قيمة الخمر وکم قيمة الخنازير ويرسل بها إليها ثمّ يدخل عليها وهما علي نکاحهما الأوّل) (الوسائل: 15 الباب 3 من أبواب المهور، الحديث 2)

(3) قال مالك في المدونة في هذه المسألة: إذا دخل بها كان لها صداق مثلها، وهو بمنزلة الجنين في بطن أمه أو البعير الشارد أو الثمرة التي لم يبد صلاحها، وإن لم يدخل بها فسخ زواجها ولم يثبتا عليه، انظر: المدونة: 2/ 147.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (57)

القول الثاني: الزواج فاسد، وهو رواية عند الحنابلة (1)، واستدلوا على ذلك بأنه زواج جعل الصداق فيه محرما، فأشبه زواج الشغار.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن المهر جزء مكمل للزواج، وليس ركنا من أركانه، فلا يصح أن يفسد بسببه على أن ما روي عن الإمام أحمد في ذلك أظهر في الدلالة على الاستحباب منه على الوجوب، فقد سئل في رواية المروذي: إذا تزوج على غير طيب، فكرهه، فقلت: ترى استقبال النكاح، فأعجبه، قال ابن قدامة: (وكلام أحمد في رواية المروذي محمول على الاستحباب، فإن مسألة المروذي في المال الذي ليس بطيب، وذلك لا يفسد العقد بتسميته فيه اتفاقا) (2)

ومع ذلك، فإن قول الإمام مالك له قيمته من حيث مراعاة المفاسد التي قد تنجر على التفريق بعد الدخول، فلذلك فرق بين الحالتين، وهو الصحيح، لأن الذي يقدم على تقديم مهر محرم، إما أن يكون فاسقا فاجرا، أو مستهينا بهذا العقد الجليل، فلذلك أفتى مالك بالفسخ قبل الدخول، أما بعد الدخول، فإن الصحيح هو تصحيح الفاسد بإعطاء مهر صحيح لا بالتفريق درءا لمفسدة التفريق.

الشرط الثالث ـ كون المهر معلومأ

__________

(1) المبدع:7/ 89، كشاف القناع:5/ 98.

(2) المغني:7/ 170.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (58)

ويتحقق ذلك (1) بأن يكون خالياً من الجهالة الفاحشة، وتكون الجهالة بالجنس والنوع (2)، مثل أن يسمى لها حيواناً أو بيتاً أو قنطاراً أو ثوباً، وقد اتفق الفقهاء على اشتراط ذكر الجنس والنوع، واختلفوا في ذكر الوصف على قولين:

القول الأول: لا تضر جهالة الوصف لأنها يسيرة لا تؤدي إلى الخلاف، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة والإمامية (3).

وهم يوجبون الوسط من الصفات لا الأعلى ولا الأدنى، ويخير الزوج بين دفع الوسط أو القيمة، لأن الوسط يعرف بالقيمة، ولأن مجهول الوصف لا يثبت في الذمة، بل الذي يثبت فيها هو القيمة، وحينئذ يكون الواجب هو الوسط باعتباره مذكوراً في العقد أو القيمة باعتبار ثبوتها في الذمة، ومن أدلتهم على ذلك:

1. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (العلائق ما تراضى عليه الأهلون) (4)، وهذا قد تراضوا عليه.

2.

3.

__________

(1) المغني:7/ 168، العناية شرح الهداية:3/ 357،التاج والإكليل:5/ 275.

(2) الجنس في اللغة الضرب من كل شيء، وقد عرفه الجرجاني بأنه اسم دال على كثيرين مختلفين بالأنواع، وقال الشربيني: الجنس: كل شيئين أو أشياء جمعها اسم خاص تشترك في ذلك الاسم بالاشتراك المعنوي، أما النوع فهو ما صدق في جواب ما هو على كثيرين متفقين بالحقيقة، الموسوعة الفقهية:16/ 86.

(3) قال السبحاني، بعد ذكره لبعض الروايات الدالة على هذا: (فالحقّ ما ذکرناه، من عدم اشتراط شي ء سوي کونه متموّلا وموردا للرضا فلا يجب تعيين السورة فضلا عن تعيين القراءة..) (نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 197)

(4) قال ابن حجر: رواه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف جدا، ورواه أبو داود في المراسيل، ورواه الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري وإسناده ضعيف أيضا، وأخرجه البيهقي من حديث عمر بإسناد ضعيف أيضا، تلخيص الحبير: قال ابن الجوزي: فيه إسماعيل بن عياش، وقد ضعفوه، قال ابن حبان: خرج عن حد الاحتجاج به، وفيه أبو هارون العبدي، واسمه عمارة بن جوين قال حماد بن زيد: كان كذابا وقال أحمد: ليس بشيء، التحقيق في أحاديث الخلاف:2/ 281، وانظر: البيهقي: 7/ 239، الدارقطني: 3/ 244.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (59)

4. أنه لو فسدت التسمية بجهالة الوصف وجب مهر المثل، وجهالة التسمية أقل من جهالة مهر المثل، لأنه يعتبر بنسائها ممن يساويها في صفاتها وبلدها وزمانها ونسبها.

5. أن المال غير مقصود في عقد الزواج، لأنه يتساهل فيه بخلاف المعاوضات المالية لأنها مبنية على المساومة فجهالة الوصف فيها مفضية إلى النزاع.

القول الثاني: أن جهالة الوصف تفسد التسمية، فلو سمى لها قنطاراً من القطن وبين نوعه ولم يبين درجة جودته فإن التسمية تكون فاسدة ويجب مهر المثل، وهو مذهب الشافعية، واستدلوا على ذلك بالقياس على المعاوضات المالية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الأولى والأورع والأحوط تحديد الجنس والنوع والصفة سواء في المنافع أو الأعيان درءا للخلاف الذي قد يحدث بسبب الجهل بأحد هذه الأمور.

أما القول بأن الجهل بالصفة لا يضر، فإن ذلك لا يصدق على عصرنا الذي أعطيت فيه النوعية قيمة كبرى، بسبب تنافس الشركات فيما بينها، حتى أصبح الشيء الواحد يباع بأسعار مختلفة اختلافا فاحشا، قد يكون أضعافا مضاعفة بسبب نوعيته أو علامته المسجلة، ولهذا نرى الأرجح تحديد الوصف بدقة في الأمور التي تحتاج إلى وصف، أو ترك ذلك للعرف، إن كان في العرف تحديد لذلك، فإن حصل الخلاف حكم لها بمهر أمثالها.

الشرط الرابع ـ ألا يقل المهر عن الحد المقدر له شرعأ

ويتعلق بهذا الشرط المسائل التالية:

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (60)

أدنى المهر

اختلف الفقهاء في الحد الأدنى للمقدار الذي يصلح مهرا على قولين (1):

القول الأول: أن المهر غير مقدر بمقدار شرعي، فلذلك يستوي فيه القليل والكثير، وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى وعطاء، وعمرو بن دينار، وابن أبي ليلى، والثوري، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وداود والطبري وابن حزم، وهو قول الإمامية، ومن الأدلة على ذلك:

1. أن تقدير المقادير يحتاج إلى الدلالة الشرعية، ولم ترد النصوص التي تحدد ذلك، بل وردت النصوص عامة بطلب المهر دون تحديده، كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (النساء: 24)، فإنه يدخل فيه القليل والكثير.

2. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذي زوجه: (هل عندك من شيء تصدقها؟ قال: لا أجد، قال: التمس، ولو خاتما من حديد) (2)

3. عن عامر بن ربيعة، أن امرأة من بني فزارة، تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه (3).

4. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يده طعاما، كانت له حلالا) (4)

5. عن جابر، قال: (كنا ننكح على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القبضة من الطعام) (5)

6.

7.

__________

(1) بدائع الصنائع: 2/ 276،المغني: 7/ 1661،الجوهرة المنيرة:3/ 14،الإنصاف:8/ 229،التاج والإكليل:5/ 187، حاشيتا قليوبي وعميرة:3/ 277.

(2) سبق تخريجه.

(3) سبق تخريجه.

(4) رواه أحمد.

(5) رواه مسلم وغيره.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (61)

8. قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أدوا العلائق قيل: وما العلائق يا رسول الله؟ قال ما تراضى به الأهلون) (1)، قال الشافعي: ولا يقع اسم علق إلا على شيء مما يتمول وإن قل ولا يقع اسم مال ولا علق إلا على ما له قيمة يتبايع بها، ويكون إذا استهلكها مستهلك أدى قيمتها) (2)

9. عن أنس، أنه قال: تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة على وزن نواة من ذهب (3)، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فدل أن التقدير في المهر ليس بلازم.

10. أن دعوى أن هذه الأحاديث مختصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أنها منسوخة أو أن أهل المدينة على خلافها فدعوى لا يقوم عليها دليل والأصل يردها.

11. أن الصداق شرع في الأصل حقا للمرأة تنتفع به، فإن رضيت بالعلم والدين وإسلام الزوج وقراءته للقرآن، كان هذا من أفضل المهور وأجلها، وقد حصل لها انتفاع بذلك، وهذا هو الذي اختارته أم سليم من بإسلام أبي طلحة وبذلها نفسها له إن أسلم وهذا أحب إليها من المال.

12. أن المهر ثبت حقا للعبد وهو حق المرأة بدليل أنها تملك التصرف فيه استيفاء وإسقاطا، فكان التقدير فيه إلى العاقدين.

13. أن المهر بدل منفعتها، فجاز ما تراضيا عليه من المال، كالعشرة وكالأجرة.

القول الثاني: أن له حدا أدنى، وهو قول سعيد بن جبير، والنخعي، وابن شبرمة، ومالك وأبي حنيفة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (النساء: 24)، فشرط

2.

__________

(1) سبق تخريجه.

(2) الأم:5/ 63.

(3) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (62)

3. تعالى أن يكون المهر مالا، والحبة والدانق ونحوهما لا يعدان مالا فلا يصلحان مهرا.

4. أن المهر فيه حق للشرع قصد به إبانة خطر البضع صيانة له عن شبهة الابتذال بإيجاب مال له خطر في الشرع كما في نصاب السرقة.

وقد اختلفوا في تحديد المقدار الأدنى للمهر في قيمة المقدار على الأقوال التالية (1):

الأول: أن أدناه عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قياس الصداق على قطع اليد، واليد عند أبي حنيفة، لا تقطع إلا في دينار ذهبا أو عشرة دراهم كيلا، ولا صداق عنده أقل من ذلك، وعلى ذلك جماعة أصحابه وأهل مذهبه، وهو قول أكثر أهل بلده في قطع اليد لا في أقل الصداق.

2. عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا مهر دون عشرة دراهم) (2)

الثاني: أن المقدار الأدنى هو ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، وهو قول المالكية، قال مالك في الموطأ: (لا أرى أن تنكح المرأة بأقل من ربع دينار، وذلك أدنى ما يجب به القطع) واستدلوا على ذلك كما قال مالك بأدنى ما يجب به القطع، فمن نكح بأقل من أقله أتم الباقي وإلا فسخ قبل الدخول، وإن دخل أتمه جبرا. (3)

__________

(1) انظر هذه الأقوال في: التمهيد: 21/ 119، القرطبي:5/ 128.

(2) أخرجه الدارقطني، وفي سنده مبشر بن عبيد متروك وروى عن داؤد الأودي عن الشعبي عن علي لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم، قال أحمد بن حنبل لقن غياث بن إبراهيم داؤد الأودي عن الشعبي عن علي لا مهر أقل من عشرة دراهم فصار حديثا، تفسير القرطبي:5/ 128، وقال ابن عبد البر: وهو حديث لا يثبت، وروي عن الشعبي عن علي مثله ولا يصح ايضا عن علي، التمهيد: 21/ 119.

(3) التاج والإكليل:5/ 187.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (63)

وقد علل بعض المالكية سبب اختيار مالك أدنى ما يجب به القطع حدا أدنى للمهر بقوله ـ كما حكاه عنه القرطبي ـ: (وكان أشبه الأشياء بذلك قطع اليد، لأن البضع عضو، واليد عضو يستباح بمقدر من المال، وذلك ربع دينار أو ثلاثة دراهم كيلا فرد مالك البضع إليه قياسا على اليد) (1)

وقد كان اختيار مالك لهذه العلة سببا لعتاب الفقهاء من أصحابه وغيرهم عليه، واعتبروه في ذلك متأثرا بأبي حنيفة، قال الدراوردي لمالك إذ قال لا صداق أقل من ربع دينار: تعرقت فيها يا أبا عبدالله، أي سلكت فيها سبيل أهل العراق، وقال ابن عبد البر: قد تقدمه إلى هذا أبو حنيفة فقاس الصداق على قطع اليد.

الثالث: أن أقله خمسون درهما، وهو قول سعيد بن جبير.

الرابع: أن أقله أربعون درهما، وهو قول النخعي، وربما يكون مقصده من ذلك أن يكون المال له قيمة، وليس تحديد الأربعين، فقد روي عنه قوله: (أكره أن يكون مثل مهر البغي، ولكن العشرة والعشرون) (2)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة انطلاقا مما سبق ذكره أن الأساس في المهر هو التراضي بين الطرفين، فلذلك لم تحدد النصوص الشرعية قيمة بعينها، بل رغبت عموما في التيسير في المهر، كما سنرى الأدلة على ذلك في حينها، ولهذا ذهب أكثر المحققين من المالكية وغيرهم إلى هذا، قال القرطبي: (واختلف من قال بذلك في قدر ذلك فتعلق الشافعي بعموم قوله تعالى: {بِأَمْوَالِكُمْ} (النساء: 24)، في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح)، ثم قال: (وهذا قول جمهور أهل العلم، وجماعة أهل الحديث من أهل المدينة وغيرها، كلهم أجازوا الصداق

__________

(1) تفسير القرطبي:5/ 128.

(2) التمهيد:21/ 119.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (64)

بقليل المال وكثيره، وهو قول عبدالله بن وهب صاحب مالك، واختاره ابن المنذر وغيره، قال سعيد بن المسيب: لو أصدقها سوطا حلت به) (1)

وقد اعتبر ابن القيم القول بتحديد الحد الأدنى للمهر من رد السنة الصحيحة الثابتة بالفهوم الخاصة والآثار الضعيفة والقياس الفاسد، فقال: (رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز الزواج بما قل من المهر ولو خاتما من حديد مع موافقتها لعموم القرآن في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (النساء: 24)، وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير، بأثر لا يثبت، وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق، وأين النكاح من اللصوصية؟ وأين استباحة الفرج به من قطع اليد في السرقة؟) (2)

أكثر المهر

اتفق الفقهاء على أنه لا حد لأكثر الصداق، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا (3) فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (النساء:20)، قال القرطبي: الآية دليل على جواز المغالاة في المهور لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح (4).

2. قال عمر بن الخطاب على المنبر: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في

3.

__________

(1) تفسير القرطبي:5/ 128.

(2) إعلام الموقعين:2/ 252.

(3) ذكر المفسرون ما ورد في تحديد القنطار من أقوال كثيرة، حتى أن بعضهم اعتبره ملء مسك ثور من ذهب، وقد روي بعضها عن النبي (قال ابن العربي:) ولا يصح في هذا الباب شيء، والذي يصح في ذلك أنه المال الكثير الوزن، هذا عرف عربي (ولا يقصد بالقنطار ما هو محدد عندنا عرفا، انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 469 تفسير القرطبي:4/ 30.

(4) تفسير القرطبي: 5/ 99.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (65)

4. الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية)، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا أنت؟ أليس الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (النساء:20) فقال عمر: (امرأة أصابت وأمير أخطأ) (1).

5. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل أترضى أن أزوجك فلانة، قال: نعم وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلانا قالت: نعم، فزوج أحدهما صاحبه ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية، وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقا، ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني أعطيتها صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهما فباعته بمائة ألف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خير الصداق أيسره) (2)

حكم تخفيف المهر وتيسيره

اتفق الفقهاء (3) على سنية تحفيف المهر وكراهية المغالاة فيه، ومن الأدلة على ذلك:

1. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أعظم النساء بركة أيسرهن مئونة) (4)، وقد علل بعض العلماء ذلك بأن المرأة إذا قنعت بالقليل من الحلال عن الشهوات وزينة الحياة الدنيا، فخفت عنه كلفتها، ولم يلتجئ بسببها إلى ما فيه حرمة أو شبهة، فيستريح قلبه وبدنه من التعنت والتكلف، فتعظم

2.

__________

(1) فيض القدير: 2/ 7..

(2) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، الحاكم:2/ 198، البيهقي:7/ 232، أبو داود: 2/ 238، ابن أبي شيبة: 3/ 499.

(3) هناك خلاف في المسألة ذكره الإمامية سنعرض له لاحقا.

(4) رواه أحمد والبيهقي عن عائشة مرفوعا، كشف الخفاء:1/ 465، وانظر: الحاكم: 2/ 194، البيهقي: 7/ 235، النسائي: 402.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (66)

3. البركة لذلك (1)، وقد ورد روايات أخرى للحديث تؤكد هذا المعنى، وتفصله، وهي كما أوردها صاحب كشف الخفاء: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خيرهن أيسرهن صداقا) (2)، وفي رواية: (إن من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها) (3)، وفي رواية: (من يمن المرأة تسهيل أمرها وقلة صداقها) (4).

4. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خير النكاح أيسره (5)) (6)

5. عن ابن أبي حدرد الأسلمي أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستفتيه في مهر امرأة، فقال: كم أمهرتها؟ قال: مائتي درهم، فقال: لو كنتم تغرفون من بطحان (7) ما زدتم (8).

6. ورود الآثار في ذلك عن السلف، ومنها قول عمر السابق: ألا لا تغالوا في مهور النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وقال عروة: أول شؤم المرأة كثرة صداقها، وفي أثر آخر: تياسروا في الصداق، إن الرجل ليعطي المرأة حتى يبقى

7.

__________

(1) فيض القدير: 2/ 6.

(2) رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا بسندين ضعيفين، كشف الخفاء:1/ 465.

(3) رواه أحمد والبيهقي والطبراني بسند جيد عنها بلفظ، كشف الخفاء:1/ 465.

(4) رواه ابن حبان، كشف الخفاء:1/ 465.

(5) أي أقله مهرا أو أسهله إجابة للخطبة، عون المعبود:6/ 107.

(6) ابن حبان: 9/ 381، البيهقي:7/ 232، أبو داود: 2/ 238.

(7) اسم واد بالمدينة، سمي به لسعته وانبساطه، من البطيح وهو البسط، وخص بالذكر لأنه أقرب المواضع، فيض القدير: 5/ 330.

(8) أخرجه الإمام أحمد والحاكم عن أبي حدرد الأسلمي وقال الحاكم صحيح تركها الذهبي وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح، البيان والتعريف: 2/ 172، وانظر: الحاكم: 2/ 194، البيهقي:7/ 235، أحمد: 3/ 448.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (67)

8. ذلك في نفسه عليها حسيكة.

وقد ذكر الفقهاء من مستحبات الصداق أن لا يزيد أكثره مع القدرة واليسار على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا بناته، وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة، وذلك نحو تسعة عشر دينارا، قال ابن تيمية: (فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فعل ذلك فقد استن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصداق.. فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة، وهن أفضل نساء العالمين في كل صفة، فهو جاهل أحمق، وكذلك صداق أمهات المؤمنين، وهذا مع القدرة واليسار، فأما الفقر ونحوه فلا ينبغي له أن يصدق المرأة إلا ما يقدر على وفائه من غير مشقة) (1)

وقد ذهب الكثير من علماء الإمامية إلى وجوب رد المهر الكثير إلى السنة، فقد ذكر الشريف المرتضى أنّ (مما انفردت به الإمامية أنّه لا يتجاوز بالمهر خمسمئة درهم جياداً، قيمتها خمسون ديناراً، فما زاد على ذلك ردّ إلى هذه السنّة) (2)

ومثله كل فقهاء الإمامية الذين تشددوا في الاحتراس من تجاوز المهر لـ (500) درهم، والشريف المرتضى يستند إلى إجماع المذهب لإثبات عدم جواز ما زاد عن (500) درهم.

لكن الشيخ جعفر السبحاني يرى غير ذلك، وأن الروايات في ذلك لا تعني التحديد، قال ـ بعد ذكره للأقوال في المسألة: (وعلي کل تقدير، فهذا القول مخالف لظاهر الکتاب والسنّة، قال سبحانه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (النساء:20) وفسر القنطار بوجوه مختلفة يجمعها زيادته علي مهر السنّة کثيرا) (3)

__________

(1) الفتاوى الكبرى:3/ 195.

(2) الانتصار 18: 651..

(3) نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 185.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (68)

وقد نص الفقهاء على حرمة من لم يتوصل إلى أداء المهر إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة، فأما إن كثر وهو مؤخر في ذمته، فيكره لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة، ومن الأدلة على ذلك:

1. روي أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار. فقال: على كم تزوجتها؟ قال: على أربع أوراق. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: على أربع أوراق فكأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك؛ ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه قال: فبعث بعثا إلى بني عبس فبعث ذلك الرجل فيهم (1)، والأوقية هي أربعون درهما، وهي مجموع الصداق، ليس فيه مقدم ومؤخر.

2. أن المهر إذا كان قليلا لم يستصعب الزواج من يريده، فيكثر الزواج المرغب فيه ويقدر عليه الفقراء، ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب الزواج، بخلاف ما إذا كان المهر كثيرا فإنه لا يتمكن منه إلا أرباب الأموال، فيكون الفقراء الذين هم الأكثر في الغالب غير مزوجين فلا تحصل المكاثرة التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2)

ونص العلماء على الكراهية الشديدة بل الحرمة فيما يفعله بعض الناس، من أهل الجفاء والخيلاء والرياء من تكثير المهر للرياء والفخر، وهم لا يقصدون أخذه من الزوج، وهو ينوي أن لا يعطيهم إياه، وإنما غرضهم من ذلك الفخر والخيلاء، وقد أشار ابن تيمية إلى هذه الظاهرة في عصره، وحكم عليها بقوله: (منكر قبيح، مخالف للسنة، خارج عن الشريعة، وإن قصد الزوج أن يؤديه وهو في الغالب لا يطيقه فقد حمل نفسه، وشغل ذمته، وتعرض لنقص حسناته، وارتهانه بالدين، وأهل المرأة قد آذوا صهرهم وضروه) (3)، وأخطر ما ينتج عن مثل هذا

__________

(1) مسلم: 2/ 1040، الحاكم: 2/ 193.

(2) نيل الأوطار:6/ 197.

(3) الفتاوى الكبرى:3/ 195.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (69)

السلوك اللاأخلاقي أن ينتشر التغالي في المهور، بحجة أن فلانا من الناس قدم من المهر كذا وكذا، فيكون بذلك قد سن سنة سيئة في المسلمين، وآذاهم من حيث يشعر أو لا يشعر.

مهر السر والعلانية

اختلف الفقهاء في من تزوج المرأة في السر بمهر، ثم يعقد عليها في العلانية بمهر آخر، في أيهما يطالب، على قولين (1):

القول الأول: أنه يؤخذ بالعلانية، وهو قول الشعبي، وابن أبي ليلى، والثوري والشافعي، وهو ظاهر قول أحمد (2) في رواية الأثرم، وهو رواية عن أبي حنيفة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن المرأة لم تقر بزواج السر فثبت مهر العلانية.

2. أن المهر هو المذكور في العقد، لأنه اسم لما يملك به البضع، والذي يملك به البضع هو المذكور في العقد وأنه يصلح أن يكون مهرا، لأنه مال معلوم فتصح تسميته ويصير مهرا ولا تعتبر المواضعة السابقة.

القول الثاني: أن الواجب هو المهر الذي انعقد به الزواج سرا كان أو علانية، وهو قول شريح، والحسن، والزهري، والحكم بن عتيبة، ومالك، وإسحاق، وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وهو قول الإمامية (3)، وقد استدلوا على ذلك بأن الزيادة

__________

(1) المدونة:2/ 249، الأم:7/ 164، بدائع الصنائع::2/ 287، المغني: 7/ 202.

(2) قال أحمد، في رواية ابن منصور: إذا تزوج امرأة في السر بمهر، وأعلنوا مهرا، ينبغي لهم أن يفوا، ويؤخذ بالعلانية. فاستحب الوفاء بالشرط، لئلا يحصل منهم غرور، ولأن النبي (قال: (المؤمنون على شروطهم، انظر: المغني: 7/ 202.

(3) وقد ذكروا أن للمسألة صورتين:

الأولي: إذا وقع العقد بمهر معيّن سرّا ثمّ عقدا ثانيا بمهر آخر، سواء کان الثاني أکثر أو أقلّ فالثاني لغو بلا کلام، وإليه تشير رواية زرارة عن أبي جعفر ع في رجل أسرّ صداقا وأعلن أکثر منه فقال: (هو الذي أسرّ وکان عليه النکاح)

الثاني: إذا عقدا على ألفين ظاهرا وکان الجد أنّ المهر هو ألف. والظاهر، بطلان کون الألفين مهرا لعدم تعلّق الإرادة الجدّية لهما حسب الفرض. (نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 199)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (70)

منهما كانت من باب السمعة، فقد هزلا بذلك حيث لم يقصدا به مهرا، والمهر مما يدخله الجد والهزل، ففسدت تسميته وبقي العقد على ما اتفقا عليه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، خاصة إذا كان هدفهما من ذلك صالحا، كأن يكون الرجل غنيا، أو المرأة طالبت للحاجة بسبب غناه مهرا غاليا، وخشيا أن يؤثر ذلك في انتشار المغالاة في المهور، فإن هذه النية الطيبة تخول التفريق بين مهر السر ومهر العلانية، ومثله ـ ولكنه أدنى منه، وأقرب إلى الكراهة ـ ما لو طالبت المرأة بمهر مثلها في العلانية، وطالبت بما دونه في السر، والمحرم ما ذكرنا سابقا من التغالي في مهور العلانية من باب الفخر والخيلاء.

الاختلاف في قدر الصداق

اختلف الفقهاء فيما إذا اختلف الزوج والزوجة في القدر المتفق عليه في الصداق بعد العقد، ولا بينة لأحد منهما على قولين:

القول الأول: أن القول قول من يدعي مهر المثل منهما، فإن ادعت المرأة مهر مثلها أو أقل، فالقول قولها (1)، وإن ادعى الزوج مهر المثل أو أكثر، فالقول قوله، وهو قول الحنفية، ورواية عن الحنابلة، وروي عن الحسن والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبي عبيد نحوه، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1.

2.

__________

(1) قال ابن قدامة: كل من قلنا: القول قوله في هذه المسألة، فهو مع يمينه ; لأنه اختلاف فيما يجوز بذله، تشرع فيه اليمين، كسائر الدعاوى في الأموال، انظر: المغني:7/ 180.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (71)

3. أن الظاهر قول من يدعي مهر المثل، فكان القول قوله، قياسا على المنكر في سائر الدعاوى، وعلى المودع إذا ادعى التلف أو الرد.

4. أنه عقد لا ينفسخ بالتحالف فلا يشرع فيه كالعفو عن دم العمد.

5. أن القول بالتحالف ـ وهو القول الثالث ـ يفضي إلى إيجاب أكثر مما يدعيه أو أقل مما يقر لها به، فلو كان مهر مثلها مثلا مائة فادعت ثمانين، وقال: بل هو خمسون أوجب لها عشرين يتفقان على أنها غير واجبة، ولو ادعت مائتين، وقال: بل هو مائة وخمسون ومهر مثلها مائة، فأوجب مائة لأسقط خمسين يتفقان على وجوبها.

6. أن مهر المثل إن لم يوافق دعوى أحدهما، لم يجز إيجابه، لاتفاقهما على أنه غير ما أوجبه العقد، وإن وافق قول أحدهما، فلا حاجة في إيجابه إلى يمين من ينفيه، لأنها لا تؤثر في إيجابه، وفارق البيع، فإنه ينفسخ بالتحالف، ويرجع كل واحد منهما في ماله.

القول الثاني: أن القول قول الزوج بكل حال، وهو قول الشعبي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبي ثور، ورواية عند الحنابلة، وبه قال أبو يوسف، إلا أن يدعي مهرا لا يتزوج بمثله في العادة، لأنه منكر للزيادة، ومدعى عليه، فيدخل تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولكن اليمين على المدعى عليه) (1)

القول الثالث: يتحالفان، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، ثبت ما قاله، وإن حلفا وجب مهر المثل، وهو قول الشافعي والثوري، وقريب منه قول الإمامية (2)، واستدلوا على

__________

(1) سبق تخريجه.

(2) قال الشيخ الطوسي: (إنّ القول قول الزوج بيمينه إذا لم تکن هناک بيّنة معها، ووافقنا جماعة علي ذلک، وقال قوم يتحالفان، وبمن يبدأ؟ فيه أقوال ثلاثة: أحدها يبدأ بيمين الزوج، والثاني بيمين الزوجة، والثالث يبدأ الحاکم بأيّهما شاء- إلي أن قال:- ومتي تحالفا بطل المهر ووجب لها مهر المثل) (الطوسي: المبسوط: 4/ 300)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (72)

ذلك بأنهما اختلفا في العوض المستحق في العقد، ولا بينة، فيتحالفان قياسا على المتبايعين إذا اختلفا في الثمن.

القول الرابع: إن كان الاختلاف قبل الدخول، تحالفا وفسخ الزواج، وإن كان بعده فالقول قول الزوج، وهو قول المالكية واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. القياس على البيع، فإنه يفرق في التحالف فيه بين ما قبل القبض وبعده.

2. أنها إذا أسلمت نفسها بغير إشهاد، فقد رضيت بأمانته.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن هذه المسألة من المسائل القضائية، والقاضي يحكم فيها بعد التحري بما يتناسب مع أحوال كل من الزوجين بعد محاولة التعرف عليهما، ومدى صدق كل منهما، ويمكنه لذلك أن يضع حلا وسطا يرضي الجميع، ويمكنه أن يفصل بينهما بناء على ما يتفرسه منهما ما دامت له أهلية ذلك.

وهذا الرأي هو الذي نعتمده في كل المسائل القضائية، لأن القاضي يحكم بضوابط الشريعة، ثم يترك له بعدها المجال واسعا للتحري والتحقيق، ولا يصح أن نصف له وصفا واحدا لكيفية التحقيق مع مجتمع مختلف متناقض من الناس.

الاختلاف في كون المدفوع مهرا أو هدية

اختلف الفقهاء في اعتبار المدفوع صداقا أو هبة في حال اختلاف الزوجين، بأن قال الزوج: دفعتها إليك صداقا، وقالت الزوجة: بل هبة، ومن الأقوال في المسألة:

القول الأول: اعتبارالنية واللفظ، وهو قول الحنابلة، ولذلك نظروا إلى المسألة على الاعتبارين التالين (1):

__________

(1) هذا إذا كان المدفوع من جنس الواجب عليه، أما إذا كان المدفوع من غير جنس الواجب عليه، كأن أصدقها دراهم، فدفع إليها عوضا، ثم اختلفا، وحلف أنه دفع إليها ذلك من صداقها، فللمرأة رد العرض، ومطالبته بصداقها.. فأما إذا ادعى أنها احتسبت به من الصداق، وادعت هي أنه قال: هو هبة. فينبغي أن يحلف كل واحد منهما، ويتراجعان بما لكل واحد منهما، المغني:7/ 181..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (73)

اختلافهما في نيته: كأن قالت: قصدت الهبة. وقال: قصدت دفع الصداق، فالقول قول الزوج بلا يمين، لأنه أعلم بما نواه، ولا تطلع المرأة على نيته.

اختلفاهما في لفظه: كأن قالت: قد قلت خذي هذا هبة أو هدية، فأنكر ذلك، فالقول قوله مع يمينه، لأنها تدعي عقدا على ملكه، وهو ينكره، فأشبه ما لو ادعت عليه بيع ملكه لها.

واستدلوا على هذا الاعتبار بأنهما اختلفا في صفة انتقال ملكه إلى يدها، فكان القول قول المالك، كما لو قال: أودعتك هذه العين. قالت: بل وهبتها.

وقريب منه قول الإمامية، قال الشيخ الطوسي: (و إن اختلفا فقالت: قلت لي: خذي هذه هدية أو قالت هبة، وقال: بل قلت خذيها مهرا، فالقول قول الزوج بکلّ حال) (1)، وعلق عليه السبحاني بقوله: (و على کلّ تقدير فإنّما يقدّم قول الزوج لو لم تکن هناک قرينة دالّة علي کونه هدية، کالمقنعة والجورب بل الخاتم أحيانا، فإنّ الظاهر المفيد للاطمئنان في هذه الموارد موجب لتقدّم قولها علي ادّعاء الزوج) (2)

القول الثاني: اعتبار العرف، وهو قول المالكية، فإن كان المدفوع مما جرت العادة بهديته، كالثوب والخاتم، فالقول قولها، لأن الظاهر معها، وإلا فالقول قوله (3).

الترجيح:

__________

(1) الطوسي: المبسوط: 4/ 302.

(2) نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 284.

(3) اختلف قول مالك فيما جرى العرف به في الهدايا التي يتهاداها الأزواج عند الأعراس، فمرة رأى القضاء بها لأن العرف كالشرط إلا أنه أبطلها في الموت، ومرة لم ير القضاء بها، انظر: التاج والإكليل:5/ 210.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (74)

نرى أن الأرجح في المسألة في حال إقرار الزوجة بعدم تلفظ الزوج أن القول قوله، لأن القصد المجرد لا يطلع عليه غير صاحبه، أما فيما عدا ذلك فهي مسألة قضائية، ويمكن حلها ـ كما اقترح المالكية ـ باعتبار العرف، أو باعتبار ما ذكره الشيخ السبحاني من النظر في قيمة المختلف فيه، فالهدية عادة تكون أدنى قيمة من المهر.

حكم الزيادة أو الحط في المهر

اتفق الفقهاء (1) على أنه إذا وجب المهر وعلم، فلا بأس أن يقع فيه التراضي بعد ذلك بين الرجال والنساء في تركه كله أو بعضه، أو الزيادة عليه، سواء كان ذلك بين المرأة والرجل إذا كانا مالكين أمرهما أو إلى الولي إن كان منهما من لا يملك أمر نفسه، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:237)، قال القرطبي: والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها، فأذن الله تعالى لهن في إسقاطه بعد وجوبه، إذ جعله خالص حقهن، فيتصرفن فيه بالإمضاء والإسقاط كيف شئن إذا ملكن أمر أنفسهن، وكن بالغات عاقلات راشدات (2).

2. قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء:24)، فقد رفعت الآية الجناح فيما تراضى به الزوجان بعد الفريضة وهو التسمية، وذلك هو الزيادة في المهر أوالحط منه.

حكم هبة المرأة مهرها للزوج

__________

(1) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 500، بدائع الصنائع: 2/ 290.

(2) تفسير القرطبي:3/ 206.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (75)

نص الفقهاء على أنه يجوز للمرأة أن تهب مهرها لزوجها الذي دخل بها أو لم يدخل، وليس لأحد من أوليائها الاعتراض عليها، سواء كان أبا أو غيره، ومن الأدلة على ذلك:

1. قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء:4)

2. أنها وهبت خالص ملكها وليس لأحد في عين المهر حق.

حكم هبة الأب مهر ابنته

اتفق الفقهاء على أنه ليس للأب أن يهب مهر ابنته (1)، ومن الأدلة على ذلك:

1. قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء:4)، فقد علق تعالى الإباحة بطيب أنفسهن، فدل ذلك كله على أن مهرها ملكها وحقها، وليس لأحد أن يهب ملك الإنسان بغير إذنه.

2. قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4)، أضاف المهر إليها، فدل أن المهر حقها وملكها.

3. أن المهر ملك المرأة وحقها، لأنه بدل بضعها، وبضعها حقها وملكها.

ثالثا ـ أنواع المهر

قسم الفقهاء المهر بحسب تحديد المهر وعدم تحديده إلى ثلاثة أنواع نعرض لهما في هذا المبحث، ونتعرض للأنواع الأخرى المتعلقة بالتسليم وعدمه في المبحث الرابع.

النوع الأول ـ المهر المسمى

وهو الذي يتفق عليه الزوجان أو وليهما، سواء ذكر في العقد أو لم يذكر، وسواء كان الاتفاق عليه قبل العقد أو عنده أو بعده، فإنه إذا حصل الاتفاق بينهما على مقدار معين كمهر،

__________

(1) أجاز بعضهم ذلك واستدلوا بقوله تعالى: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) فاعتبروا الأب ممن بيده عقدة الزواج، انظر: بدائع الصنائع: 2/ 290.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (76)

ثبت استحقاق المرأة له بكامله بعد الدخول، أما إذا طلقها قبل الدخول فإنها تستحق نصف المهر المتفق عليه، إلا أن تتنازل عنه، أو يتنازل عنه وليها، والذي يجب أن يراعي مصلحتها في أصل العفو ومقداره.

وقد عرفته مجلة الأحكام العدلية بأنه: المهر المسمى للزوجة حين عقد النكاح، ويكون معجلا ومؤجلا (1).

وقد ذكر الفقهاء لوجوبه الأسباب التالية:

العقد الصحيح

اتفق الفقهاء على أنه مما يترتب على العقد الصحبح وجوب المهر المسمى للزوجة، ومن الأدلة على ذلك:

1. قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4)

2. أنه إحداث الملك، والمهر يجب بمقابلة إحداث الملك.

3. أنه عقد معاوضة، على القول بذلك، وهو معاوضة البضع بالمهر فيقتضي وجوب العوض كالبيع.

واختلفوا هل تستحق المرأة المهر كاملا بمجرد العقد أم أنها تستحق نصفه فقط على قولين:

القول الأول: إذا أصدقها صداقا ملکته بالعقد، وکان من ضمانه إن تلف قبل القبض، ومن ضمانها إن تلف بعد القبض. فإن دخل بها استقرّ، وإن طلّقها قبل الدخول بها رجع بنصف المهر المعيّن دون نمائه. وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، والشافعي وهو قول الإمامية، ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء:

__________

(1) درر الحكام:2/ 783، وانظر: شرح حدود ابن عرفة:171.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (77)

4)، ففيه دلالة من وجهين (1):

أحدهما: أنّه أضاف الصدقات إليهن، والظاهر أنّه لهنّ، ولم يفرق بين قبل الدخول وبعده.

والثاني: أنّه لمّا أمر بايتائهنّ ذلک کلّه، ثبت أنّ الکل لهنّ.

القول الثاني: لا تملك المرأة بالعقد إلا نصف المهر، فيکون الصداق بينهما نصفين، فإذا قبضته کان لها نصفه بالملک، والآخر أمانة في يدها لزوجها. فإن هلک من غير تفريط هلک منهما. فإن طلّقها قبل الدخول کان له أخذ النصف، لأنّه ملکه لم يزل عنه، وهو قول المالكية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة القول الأول بناء على أن الأصل هو أن استحقاق المرأة للمرأة بسبب موافقتها على الزواج والذي يتم بمجرد الإيجاب والقبول، أما التطليق قبل الدخول فمسألة طارئة، وهي لا تخرق الأصل، ولهذا إذا توفي عنها قبل الدخول استلمت المهر كاملا كما سنرى.

الدخول بالزوجة

لا خلاف بين الفقهاء في أن من سمى مهرا لزوجته قبل الدخول لزمه بالدخول، لأنه تحقق به تسليم المبدل، وإن طلقها قبل الدخول لزمه نصفه، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة: 237)

الخلوة بالزوجة

اختلف الفقهاء في تأثير الخلوة في استحقاق الزوجة المهر كاملا على قولين (2):

__________

(1) نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 260.

(2) القرطبي:5/ 102، الجصاص:2/ 147، فتح القدير: 1/ 253، المبدع: 7/ 93، الفروع 5/ 223، الإنصاف للمرداوي 8/ 283، منار السبيل:2/ 180، المغني: 7/ 191، المهذب: 2/ 57، الوسيط: 5/ 236، حاشية البجيرمي: 3/ 402، روضة الطالبين:7/ 263، المبسوط: 5/ 150، مختصر اختلاف العلماء:2/ 348، التاج والإكليل:3/ 507.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (78)

القول الأول: إن الخلوة بين الزوجين البالغين المسلمين وراء ستر أو باب مغلق يوجب المهر والعدة، وهو قديم قولي الشافعي، وهو قول الحنفية (1)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء:20، 21) فقد نهى تعالى في هذه الآية الزوج عن أخذ شيء مما ساق إليها من المهر عند الطلاق، وعلل النهي بوجود الإفضاء، وهو الخلوة دخل بها أو لم يدخل، ومأخذ اللفظ دليل على أن المراد منه الخلوة الصحيحة، لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض، وهو الموضع الذي لا نبات فيه، ولا بناء، ولا حاجز يمنع عن إدراك ما فيه، فكان المراد منه الخلوة على هذا الوجه، وهي التي لا حائل فيها ولا مانع من الاستمتاع عملا بمقتضى اللفظ، فظاهر النص يقتضي أن لا يسقط شيء منه بالطلاق.

2. قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4) فأوجب إيفاء الجميع، فلا يجوز إسقاط شيء منه إلا بدليل.

3. قوله تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:25)، وقوله تعالى {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (النساء: 24)، يعني

4.

__________

(1) المبسوط:5/ 149، المغني: 7/ 191، وللمالكية أربعة أقوال في المسألة، هي: أن المهر كاملا يستقر بمجرد الخلوة، وقيل لا يستقر إلا بالوطء، وقيل يستقر بالخلوة في بيت الإهداء، وقيل بالتفرقة بين بيته وبيتها، قال القرطبي: والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا، تفسير القرطبي:5/ 102، وانظر: المدونة:2/ 229، مواهب الجليل:4/ 105.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (79)

5. مهورهن، وظاهره يقتضي وجوب الإيتاء في جميع الأحوال إلا ما قام دليله.

6. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل) (1)

7. أنها لو حملت بعد تلك الخلوة لحق به الولد، وقد روي أن الحارث بن الحكم تزوج امرأة، فأغلق عليها الباب، ثم خرج فطلقها، وقال: لم أطأها، وقالت المرأة: قد وطئني، فاختصموا إلى مروان، فدعا زيد بن ثابت، فقال: كيف ترى، فإن الحارث عندنا مصدق، فقال زيد: أكنت راجمها لو حبلت قال: لا قال: فكذلك تصدق المرأة في مثل هذا.

8. أن المهر متى صار ملكا لها بنفس العقد، فالملك الثابت لها لا يجوز أن يزول إلا بإزالة المالك، أو بعجزه عن الانتفاع بالمملوك حقيقة، إما لمعنى يرجع إلى المالك، أو لمعنى يرجع إلى المحل، ولم يوجد شيء من ذلك، فلا يزول إلا عند الطلاق قبل الدخول، وقبل الخلوة سقط النصف بإسقاط الشرع، وهو غير معقول المعنى إلا بالطلاق، لأن الطلاق فعل الزوج، والمهر ملكها، والإنسان لا يملك إسقاط حق الغير عن نفسه.

9. أنها سلمت المبدل إلى زوجها فيجب على زوجها تسليم البدل إليها، كما في البيع والإجارة، والدليل على أنها سلمت المبدل أن المبدل هو ما يستوفى بالوطء، وهو المنافع، إلا أن المنافع قبل الاستيفاء معدومة، فلا يتصور تسليمها لكن لها محل موجود وهو العين، وأنها متصور التسليم حقيقة، فيقام تسليم العين مقام تسليم المنفعة، كما في الإجارة، وقد وجد تسليم المحل.

10. أن التسليم هو جعل الشيء سالما للمسلم إليه، وذلك برفع الموانع، وقد وجد، لأن الكلام في الخلوة الصحيحة، وهي عبارة عن التمكن من الانتفاع، ولا يتحقق التمكن إلا بعد ارتفاع

11.

__________

(1) البيهقي:7/ 256، الدارقطني:3/ 307، والحديث مرسل، وفيه ابن لهيغة، انظر: التحقيق في أحاديث الخلاف:2/ 284.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (80)

12. الموانع كلها، فثبت أنه وجد منها تسليم المبدل، فيجب على الزوج تسليم البدل، لأن هذا عقد معاوضة وأنه يقتضي تسليما بإزاء التسليم كما يقتضي ملكا بإزاء ملك تحقيقا بحكم المعاوضة.

13. أن المستحق من قبلها هو التسليم، ووقوع الوطء إنما هو من قبل الزوج، فعجزه وامتناعه لا يمنع من صحة استحقاق المهر، ولذلك قال عمر في المخلو بها: (لها المهر كامل، ا ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم)، ومثله ما لو استأجر دار أو خلى بينها وبينه استحق الأجر لوجود التسليم، فكذلك الخلوة في الزواج.

14. أن الاستدلال بأن مجرد الخلوة لا يحلها لزوجها الأول خطأ، لأن التسليم إنما هو علة لاستحقاق كمال المهر، وليس بعلة لإحلالها للزوج الأول، فالزوج لو مات عنها قبل الدخول استحقت كمال المهر، وكان الموت بمنزلة الدخول، ومع ذلك لا يحلها ذلك للزوج الأول.

15. أن قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (البقرة:237) الذي استدل به المخالفون لا يصح استدلالهم به من الوجهين التاليين:

الوجه الأول: أن الصحابة اختلفوا فيه، فتأوله علي وعمر وابن عباس وزيد وابن عمر على الخلوة، وهذا التأويل إلا أن يكون مصدره اللغة أو أنه اسم له في الشرع، فإن كان مصدر ذلك اللغة، فهم حجة فيها لأنهم أعلم باللغة ممن جاء بعدهم، وإن كان مصدره الشرع، فأسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا، فيصير تقدير الآية بذلك: (وإن طلقتموهن من قبل الخلوة فنصف ما فرضتم)

الوجه الثاني: أنهم لما اتفقوا على أنه لم يرد به حقيقة المس باليد، وتأوله بعضهم على الجماع، وبعضهم على الخلوة، ومتى كان مرادا به الجماع كان كناية عنه، وجائز أن يكون حكمه كذلك، وإذا أريد به الخلوة سقط اعتبار ظاهر اللفظ، لاتفاق الجميع على أنه لم يرد حقيقة معناه،

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (81)

وهو المس باليد، ووجب طلب الدليل على الحكم من غيره، وما ذكر من الدلالة يقتضي أن مراد الآية هو الخلوة دون الجماع، فأقل أحواله أن لا يخص به ما ذكر من ظاهر الآي والسنة.

القول الثاني: إن الخلوة لا توجب المهر كاملا، ما لم يحصل مسيس، وهو قول شريح، والشعبي، وطاوس، وابن سيرين، والشافعي في الجديد، وحكي ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وروي نحو ذلك عن أحمد، وهو القول المشهور عند الإمامية (1).

وقد بالغ في القول بهذا ابن حزم حتى نص على أنه (من طلق قبل أن يدخل بها، فلها نصف الصداق الذى سمى لو دخل بها، ولم يطأها طال مقامه معها أو لم يطل) (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة: 237)، وقوله تعالى في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:49)، فعلق تعالى استحقاق كمال المهر ووجوب العدة بوجود المسيس، وهو الوطء، لأنه من المعلوم أنه لم يرد به وجود المس باليد، وإنما أراد به الجماع، كما قال ابن عباس: (إن الله تعالى يكني القبيح بالحسن، كما كنى بالمس عن

2.

__________

(1) ذكر السبحاني أن للمسألة عند الإمامية أربعة أقوال:

1 - لا يجب بالخلوة وإن کانت تامة وهو المشهور.

2 - يجب بالخلوة بما أنّها سبب تام، حکاه الشيخ في الخلاف عن بعض أصحابنا وهو بعد غير محقق عندنا.

3 - يجب علي ظاهر الحال، بمعني أنّ الخلوة أمارة الدخول وأنّ اتّفاقهما علي عدمه، للفرار من العدّة من جانبها والمهر من جانبه.

4 - إنّ مقدّمات الوطء مطلقا، کالتقبيل وسائر الاستمتاعات تقوم مقام الدخول نسب إلي ابن الجنيد.. (انظر: نظام النکاح في الشريعة الإسلامية الغراء، ج 2، ص: 229)

(2) المحلى:9/ 485.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (82)

3. الجماع)، فقد أوجب الله تعالى على ذلك نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول في زواج فيه تسمية، ولم يفصل بين وجود الخلوة، وعدمها فمن أوجب كل المفروض فقد خالف النص.

4. أنه قد اختلف في معنى الإفضاء في قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (النساء:21)، فقال بعضهم: الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد، جامع أو لم يجامع، وقيل: أن يخلو الرجل والمرأة وأن يجامعها، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم: الإفضاء في هذه الآية الجماع، مع أن أصل الإفضاء في اللغة المخالطة، فيقال للشئ المختلط فضا، فلذلك لا يصح استدلال المخالفين بهذه الآية.

5. قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:236) أي في حال لم تفرضوا لهن فريضة فمتعوهن، فأوجب تعالى لهن المتعة في الطلاق في زواج لا تسمية فيه مطلقا من غير فصل بين حال وجود الخلوة وعدمها.

6. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:49) فدلت الآية الشريفة على نفي وجوب العدة ووجوب المتعة قبل الدخول من غير فصل.

7. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل لها المهر بما استحل من فرجها، يعني أصاب، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) (1)

8. أن هذه خلوة خلت عن الإصابة، فلا توجب المهر والعدة كالخلوة الفاسدة، وهذا لأن تقرر البدل في عقود المعاوضات بقبض المعقود عليه، والمعقود عليه معنى في باطنها لا

9.

__________

(1) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (83)

10. يصير مستوفى إلا بالآلة التي تصل إلى ذلك الموضع، فلا تكون الخلوة فيها قبضا كالقصاص، فإن حق من له القصاص في الباطن لا يصير مستوفى إلا بالآلة الجارحة فلم تكن الخلوة فيه قبضا.

11. أنه لو كان التسليم قائما مقام الوطء لوجب أن يحلها للزوج الأول كما يحلها الوطء.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الزوجين إذا اختليا بالشروط التي نص عليها الفقهاء، ولم يحصل مسيس بالمعنى القرآني الذي هو الجماع أو المباشرة التي تقرب من الجماع، فإنه لا حق لها ديانة إلا في نصف المهر إلا إذا تنازل الزوج بإعطائها النصف الثاني تورعا واحتياطا.

النوع الثاني ـ مهر المثل

اختلف الفقهاء في تعريفه بناء عل اختلافهم في اعتبارات الكفاءة، فعرفه المالكية بأنه ما يرغب به مثله فيها: باعتبار دين، وجمال، وحسب، ومال، وبلد، وأخت شقيقة أو لأب؛ لا الأم، والعمة (1).

وعرفه الحنفية بأنه المهر الذي أعطي مثله لمن تساويها في بلدها وعصرها على مالها وجمالها وسنها وعقلها ودينها.

وعرفه الشافعية بأنه ما يرغب به في مثلها، وركنه الأعظم النسب،، ويعتبر سن وعقل ويسار وبكارة وثيوبة وما اختلف به غرض، فإن اختصت بفضل أو نقص زيد أو نقص لائق في الحال، ولو سامحت واحدة لم تجب موافقتها، ولو خفضن للعشيرة فقط اعتبر (2).

الاعتبارات المقدمة في مهر المثل

__________

(1) منح الجليل: 3/ 467.

(2) مغني المحتاج:4/ 387، الأم:8/ 273.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (84)

اتفق الفقهاء على كثير من الاعتبارات المحددة لمهر المثل، ولكنهم اختلفوا في تقديم بعضها على بعض، بناء على اختلافهم في خصال الكفاءة على قولين:

القول الأول: تقديم اعتبار النسب على غيره، وهو قول الجمهور من الشافعية والحنابلة والحنفية، وقد اختلفوا في النسب المعتبر في ذلك:

فذهب الحنفية إلى اعتبار مثل نسائها من أخواتها لأبيها وأمها أو لأبيها وعماتها وبنات أعمامها، ولا يعتبر مهرها بمهر أمها ولا بمهر خالتها إلا أن تكون من قبيلتها من بنات أعمامها، لأن المهر ـ عند القائلين باعتبار الكفاءة في النسب ـ يختلف بشرف النسب، والنسب من الآباء لا من الأمهات فإنما يحصل لها شرف النسب من قبيل أبيها أو قبيلته لا من قبل أمها وعشيرتها (1).

ونص الشافعية على أنه ما يرغب به في مثلها من نساء عصباتها، وهن المنسوبات إلى من تنسب هي إليه، كالأخت وبنت الأخ والعمة وبنت العم، وإن متن فتراعى القربى فالقربى فتقدم، الأخوات من الأبوين ثم من الأب ثم بنات الأخ لأبوين ثم لأب ثم العمات على ترتيب الإرث في الأقربية، فإن فقدن، أو لم ينكحن، أو جهل مهرهن، فنساء الأرحام فتقدم القربى فالقربى من الجهات، وكذا من الجهة الواحدة كالجدات والخالات، وإن تعذرت نساء الأرحام اعتبرت الأجنبيات (2).

وقال ابن أبي ليلى: يعتبر بذوات الأرحام (3).

واعتبار النسب عندهم لا يلغي سائر الاعتبارات ولكن يقدم عليها، قال الشافعي: ومتى قلت: لها مهر نسائها، فإنما أعني نساء عصبتها، وليس أمها من نسائها، وأعني نساء

__________

(1) رد المحتار:3/ 139.

(2) مغني المحتاج:4/ 387، أسنى المطالب:3/ 206.

(3) المنتقى:3/ 282.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (85)

بلدها، ومهر من هو في مثل سنها وعقلها وحمقها وجمالها وقبحها ويسرها وعسرها وأدبها وصراحتها وبكرا كانت أو ثيبا، لأن المهور بذلك تختلف) (1).

ونص الحنفيه على أنه يعتبر في مهر المثل أن تتساوى المرأتان في السن والجمال والمال والعقل والدين والبلد والعصر، لأن مهر المثل يختلف باختلاف هذه الأوصاف، وكذا يختلف باختلاف الدار والعصر، ويعتبر التساوي أيضا في البكارة، لأنه يختلف بالبكارة والثيوبة (2).

ومن الاعتبارات التي اتفق عل القول بها جميع الفقهاء بما فيهم أصحاب القول الثاني اعتبار البلاد لاختلاف أعرافها في المهور، ومثلها العصور، وقد علل ذلك بأن البلدين تختلف عادة أهلهما في المهر في غلائه ورخصه، فلو زوجت في غير البلد الذي زوج فيه أقاربها لا يعتبر بمهورهن (3).

القول الثاني: اعتبار صفات الزوجة التي يرغب فيها من أجلها كالدين والأدب والعقل والتعليم والجمال والسن والبكارة والثيوبة، وكونها ولوداً أو عقيماً، وقد اعتبرها المالكية الركن الأعظم في تحديد مهر المثل، بناء عل قولهم في الكفاءة، قال الباجي: (ما يعتبر في مهر المثل، فإنه أربع صفات: الدين والجمال والمال والحسب، ومن شرط التساوي مع ذلك الأزمنة والبلاد، فمن ساواها في هذه الصفات ردت إليها في مهر المثل، وإن لم تكن من أقاربها) (4)، وقريب منه قول الإمامية، فقد نصوا على أن (المرأة التي يتم زواجها دون مهر معين، فإن الشرع يوجب الرجوع حينئذٍ إلى العرف الاجتماعي لتحديد صداقها، حسب المتداول لأمثالها، مع ملاحظة

__________

(1) الأم:8/ 283.

(2) فتح القدير: 3/ 368.

(3) فتح القدير:3/ 368.

(4) المنتقى: 3/ 282، شرح حدود ابن عرفة:175.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (86)

حال المرأة وصفاتها، وكل ماله دخل في العرف والعادة في ارتفاع المهر ونقصانه، حماية وحفظاً لحقها) (1) واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ينكح النساء لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك). فوجه الدين من الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم فأخبر أن المقصود من النساء في الزواج هذه الصفات فوجب أن يزيد المهر وينقص بحسب هذه المعاني المقصودة ولا يقصر ذلك على الحسب دون غيره.

2. أنه صلى الله عليه وآله وسلم حض على ذات الدين فوجب أن يكون الاعتبار بهذه الصفات أولى.

3. من جهة القياس أن هذه زوجة فوجب أن يعتبر في مهر مثلها من كان على مثل حالها وإن لم تكن من قومها كالتي لا عشيرة لها (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على ما سبق ذكره في الكفاءة، وبناء على الواقع، وتقربا من المقاصد الشرعية في الزواج وغيره القول الثاني.

لأن من مقاصد الشرع الجليلة في جميع أحكامه إزالة كل السبل التي قد تعيد نخوة الجاهلية وتزرع الفرقة بين الناس بسبب أنسابهم وعشائرهم، ومثل هذه الأحكام، ولو تصورناها بسيطة أو لا أثر لها إلا أنها مقدمة من المقدمات الخطيرة لهذا السلوك الجاهلي، وفي مجتمعاتنا نسمع كثيرا هذا التعبير: (كيف تسوي فلانا بفلان، وهل تساوي بنت فلان بنت فلان)، وهي تعابير جاهلية محضة، ولكنها للأسف ترجع أو تستغل بعض أقوال الفقهاء التي أشرنا إليها في فصل الكفاءة، وتهمل كل النصوص القرآنية والنبوية التي تشنع على مثل هذه الاعتبارات.

__________

(1) الشيخ حسن الصفار، فقه الأسرة، ص 236.

(2) المنتقى:3/ 282.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (87)

ولكن الخطورة هنا أشد منها في الكفاءة، لأن الحاكم في الكفاءة هو الولي، وهو فرد من المسلمين، لكن الحاكم في مهر المثل قد يكون ولي أمر المسلمين، ومن الخطورة أن يشجع ولي أمر المسلمين على مثل هذا، فيأتي لامرأة قد تتوافر فيها كل الصفات التي يرغب بها في مثلها، فيفضل عليها امرأة أدنى منها علما وخلقا ودينا لأن قريبتها قدم لها المهر الفلاني، فما ذنب المرأة الصالحة أن لا يكون قد قدم لقريبتها مثلما قدم لقريبة صاحبتها.

حكم التزوج بأقل من مهر المثل

اختلف الفقهاء في جواز تزويج الولي لموليته بأقل من مهر المثل على قولين:

القول الأول: أن للأب تزويج ابنته بدون صداق مثلها، بكرا كانت أو ثيبا، صغيرة كانت أو كبيرة، وهو قول الحنفية والمالكية ورواية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي (1):

1. أنه ليس المقصود من الزواج العوض، وإنما المقصود السكن والازدواج، ووضع المرأة في منصب عند من يكفيها، ويصونها، ويحسن عشرتها.

2. أن الزواج يشتمل على مصالح وأغراض ومقاصد جمة، والأب وافر الشفقة ينظر لولده فوق ما ينظر لنفسه، فالظاهر أنه إنما قصر في الكفاءة والصداق ليوفر سائر المقاصد عليها، وذلك أنفع لها من الصداق والكفاءة فكان تصرفه واقعا بصفة النظر فيجوز كالوصي إذا صانع في مال اليتيم جاز ذلك لحصول النظر في تصرفه، وإن كان هو في الظاهر يعطي مالا غير واجب، وهذا بخلاف تصرف الأب في المال إذ لا مقصود هناك سوى المالية، فإذا قصر في المالية فليس بإزاء هذا النقصان ما يجبره.

3. أن الزواج يفارق سائر عقود المعاوضات، فإن المقصود فيها العوض، فلم يجز تفويته، بخلاف الزواج.

القول الثاني: أنه ليس له ذلك، فإن فعل فلها مهر مثلها، وهو قول الشافعية والظاهرية، وقول

__________

(1) المبسوط:4/ 225، بدائع الصنائع:2/ 290،أحكام القرآن لا بن العربي:1/ 1/407.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (88)

أبي سليمان، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، واستدلوا على ذلك بما يلي (1):

1. أنه حق لها بقول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4)،فهو حق لها، ومن جملة مالها.

2. أنه لا حكم لأبيها في مالها، لقول الله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام:164)

3. أنه لا يجوز أن يقضى بتمام مهر مثلها على أبيها إلا أن يضمنه مختارا لذلك في ماله، لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (النساء:29)

4. أن الصداق - بنص القرآن - على الزوج لا على الأب، فالقضاء به على الأب في ماله قضاء ظلم وجور، وأكل مال بالباطل لا يحل.

5. أن المهر من خالص حقها فإنه بدل ما هو مملوك لها لأن الاستيفاء والإبراء إليها والتصرف فيه كيف شاءت، وتصرفها فيما هو خالص حقها صحيح فلا يكون للأولياء حق الاعتراض.

6. أنه عقد معاوضة فلم يجز أن ينقص فيه عن قيمة المعوض كالبيع.

7. أنه تفريط في مالها، وليس له ذلك.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن للأب حق تحديد المهر، ولو كان ذلك دون مهر المثل، مع بقاء حق الاعتراض من البنت، وذلك لسببين:

1. أن الأعراف تجري من قديم على أن الولي هو الذي يحدد المهر، فلذلك كان من حسن خلق البنت رضاها بما يفرضه أبوها من صداق، لأن العادة فيه النظر لما يصلحها.

2.

3.

__________

(1) المحلى:9/ 51.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (89)

4. أن لها حق الاعتراض في حالة إساءة أبيها لها بذلك درءا للمفسدة، فقد يتقدم لها الكفء الذي ترغب فيه، ولكن والدها بناء عل عدم فهمه لحاجتها يصرفه عنها بتحديد قيمة للمهر قد تكون أقل من مهر المثل، ولكنها تصرفه عنها، فكان لها، احتياطا لذلك، حق الاعتراض في حال إساءة الوالد التصرف، أو أن تكون المرأة مثلا امرأة صالحة مستغنية تريد أن يكون مهرها قرآنا تحفظه أو علما تتعلمه، فكان لها لذلك حق التحديد والاعتراض.

وانطلاقا من ذلك لا نرى صحة ما ذهب إليه الحنفية من أن للأولياء حق الاعتراض إن زوجت المرأة نفسها أو رضيت أن تزوج بأقل من مهر المثل لأن ذلك حقها تستطيع أن تأخذه أو تتنازل عنه، وهذا الاعتراض ليس على الحكم، وإنما على التوجيه الذي وجه به هذا الحكم، والاستدلال الذي بني عليه، فقد ذكروا أن (لهم حق الاعتراض كما لو زوجت نفسها من غير كفء، لأن الأولياء يتفاخرون بكمال مهرها، ويعيرون بنقصان مهرها، فإن ذلك مهر المومسات الزانيات عادة)، وبدل أن يستندوا في ذلك إلى آية أو حديث استندوا إلى قول الشاعر:

وما علي أن تكون جاريه تمشط رأسي وتكون فاليه

حتى ما إذا بلغت ثمانيه زوجتها مروان أو معاويه

أختان صدق ومهور غاليه

أما الضرر الثاني الذي ذكروه، فهو لحوق العار بالأولياء، لأن فيه إلحاق الضرر بنساء العشيرة، لأن من تزوج منهن بعد هذا بغير مهر فإنما يقدر مهرها بمهر هذه فيكون في ذلك ضررا عليهن، وإنما يذب عن نساء العشيرة رجالها، فكان لهم حق الاعتراض (1).

__________

(1) المبسوط:5/ 13.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (90)

والقول بهذا يتنافى تماما مع الغاية التي من أجلها شرع المهر، والتي تتضح من خلال النصوص القرآنية والسنة المطهرة، لا من خلال قصائد الشعر وخطب النثر التي تستوحي الجاهلية فكرا وسلوكا.

ثم ـ بعد هذا ـ ماذا نقول لامرأة صالحة أرادت أن تحيي سنة الزواج بالقرآن الكريم، أو أن تكون مباركة بتيسير مهرها، أو أن تتقرب إلى زوجها بعدم إرهاقه بما لا يطيق، أنلغي كل هذه المصالح من أجل أن تفتخر عشيرتها بمهرها الغالي، ألا يمكن لهذه العشيرة أن تفتخر بإحياء سنة عدم التغالي، وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما التغالي سنة المتكبرين والمتعالين.

حالات استحقاق المرأة لمهر المثل

اختلف الفقهاء اختلافا شديدا في الحالات التي تستحق فيها المرأة مهر مثلها، وسنذكر هنا بعض الحالات كنماذج عن غيرها مما لم نذكره، سواء اتفق عليها أو اختلف فيها:

عدم التسمية

وذلك إذا ما صدرت الصيغة مجردة من ذكره أو نفيه، فيكون للزوجة حينذاك الحق في مطالبة زوجها بعد العقد بتقدير مهر لها، فإن فعل وتراضيا وجب ما تراضيا عليه، وإن لم يجبها إلى طلبها كان لها أن ترفع الأمر للقاضي ليأمره بالفرض، فإن لم يمتثل قضى لها بمهر المثل.

وإن سكتت عن المطالبة بالفرض حتى دخل بها، فلها مهر المثل، لأنه وجب بالعقد، وتأكد بالدخول، ومن الأدلة على ذلك (1):

1. أنه قد ملك عليها أمرها بالعقد، واستحق عليها تسليم نفسها إليه، فعليه لها مثل ملكه عليها، وهو مهر المثل.

2. قوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة:194)، فقد عقل به وجوب قيمة ما يستملكه

3.

__________

(1) أحكام القرآن للجصاص: 1/ 512.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (91)

4. عليه بما لا مثل له من جنسه، وكذلك مثل تملك الحق في الزوجة هو مهر المثل.

5. قوله صلى الله عليه وآله وسلم في المتوفى عنها زوجها، ولم يسم لها مهرا ولم يدخل بها: (لها مهر مثل نسائها ولا وكس ولا شطط) (1) وقوله: (أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثل نسائها ولا وكس ولا شطط) (2)

موت أحد الزوجين قبل التسمية

اختلف الفقهاء في وجوب مهر المثل عند موت أحد الزوجين قبل التسمية على قولين (3):

القول الأول: أنه يتأكد مهر المثل بموته، وبه قال ابن مسعود وابن سيرين وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق وأحمد، وهو قول الإمامية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في بروع بنت واشق - وقد مات عنها زوجها قبل أن يدخل بها - بمهر المثل، ولا بأس من ذكر قصة ورود الحديث هنا لقيمتها الاستدلالية، فعن علقمة، قال جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إن رجلا منا تزوج امرأة، ولم يفرض لها ولم يجامعها حتى مات، فقال ابن مسعود: ما سئلت عن شيء منذ فارقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد علي من هذا، سلوا غيري، فترددوا فيها شهرا، قال: فقال: من اسأل، وأنتم أجله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا البلد؟ فقال: سأقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أرى أن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط، ولها الميراث وعليها عدة المتوفى عنها

2.

__________

(1) سبق تخريجه.

(2) سبق تخريجه.

(3) بدائع الصنائع: 2/ 295، القرطبي:3/ 198، شرح الزرقاني:3/ 170، عون المعبود:6/ 104، تحفة الأحوذي:4/ 253، سبل السلام: 3/ 150، المغني:7/ 182، اختلاف العلماء: 143، بداية المجتهد:2/ 20، نيل الأوطار:6/ 318.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (92)

3. زوجها، فقال ناس من أشجع: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى مثل الذي قضيت في امرأة منا، يقال لها بروع ابنة واشق، قال: فما رأيت ابن مسعود فرح بشيء ما فرح يومئذ (1).

4. أن المعنى الذي له وجب كل المسمى بعد موت أحد الزوجين في زواج فيه تسمية موجود في زواج لا تسمية فيه.

5. أن الآية التي استدل بها المخالفون فيها إيجاب المتعة في الطلاق لا في الموت، فمن ادعى إلحاق الموت بالطلاق فإنه يحتاج إلى دليل آخر.

القول الثاني: أن لها المتعة، ومتعتها ما استحقت من الميراث لا غير، وقد روي عن علي وابن عباس وابن عمر، وهو قول ومالك والأوزاعي والليث وأحد قولي الشافعي وإحدى الروايتين عن القاسم، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:236)

2. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (الأحزاب:49)، فأمر تعالى بالمتعة من غير فصل بين حال الموت وغيرها، والنص وإن ورد في الطلاق لكنه يكون واردا في الموت.

الترجيح:

__________

(1) مصنف ابن أبي شيبة:3/ 556، وقد قال البيهقي في الحديث مجيبا على اعتراض الشافعي: هذا إسناد صحيح، وقد سمي فيه معقل بن سنان وهو صحابي مشهور، ورواه يزيد بن هارون وهو أحد حفاظ الحديث مع عبد الرحمن بن مهدي وغيره بإسناد آخر صحيح كذلك، البيهقي:7/ 244، وانظر: صحيح ابن حبان:9/ 408، الحاكم:2/ 196، الترمذي: 3/ 450.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (93)

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول، لأن المهر حقها، ولا يسقط عنها بحال، أما الميراث فحق ثان، والحق الثاني لا يلغي الحق الأول، وما كان لنا ولا للمخالفين من أصحاب القول الثاني أن يذكروا أي دليل مع ورود نص خاص بالمسألة، فكيف يفتى فيما قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

التسمية غير الصحيحة للمهر

وهو تسمية ما لا يصلح أن يكون مهراً شرعاً، ومن أمثلة ذلك:

1. تسمية ما ليس بمال كالطير في الهواء والسمك في الماء.

2. الأشياء التالفة التي لا ينتفع بها ولو كانت في أصلها مالا.

3. المال غير المتقوم كالخمر والخنزير في زواج المسلم سواء كانت الزوجة مسلمة أو كتابية.

4. تسمية مال مجهول جهالة فاحشة، كمجهول الجنس والنوع كأن يجعل مهرها حيواناً أو بيتاً أو حلياً مع عدم بيان نوعه.

وقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الزواج على قولين (1):

القول الأول: أن التسمية فاسدة، والزواج صحيح، وهو قول جمهور الفقهاء، ومنهم الثوري، والأوزاعي، والشافعي، والحنفية وهو قول الإمامية، ومن الأدلة على ذلك:

1. أنه عقد لا يفسد بجهالة العوض، فلا يفسد بتحريمه.

2. أن فساد العوض لا يزيد على عدمه، ولو عدم كان العقد صحيحا، فكذلك إذا فسد.

__________

(1) المغني:7/ 170، الأم:6/ 139، المبسوط:5/ 92، الفواكه الدواني:2/ 11.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (94)

القول الثاني: أن الزواج فاسد، وهو رواية عند الحنابلة، وروي عن مالك أنه إن كان بعد الدخول، ثبت الزواج، وإن كان قبله فسخ، وذهب ابن حزم إلى أن الزواج فاسد مطلقا (1)، واستدلوا على ذلك بأنه زواج جعل الصداق فيه محرما، فأشبه زواج الشغار.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على الاعتبارات التي ذكرناها في حقيقة المهر، وأنه ليس ركنا من أركان الزواج التي ينهدم بفقدها.

المتزوجة زوجا فاسدا

ويختلف حكمها بحسب حصول الدخول وعدم حصوله، كما يلي:

قبل الدخول

اتفق الفقهاء على أنه لا تستحق الزوجة المهر في الزواج الفاسد مطلقا، سواء اتفق على فساده أم لا، إذا حصل التفريق قبل الدخول والخلوة، قال ابن قدامة: (ولا يجب لها بالخلوة شيء. في قول أكثر أهل العلم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل لها المهر بما استحل من فرجها (2)

__________

(1) يقول ابن حزم:) كل نكاح عقد على صداق فاسد، أو على شرط فاسد، مثل أن يؤجل إلى أجل مسمى أو غير مسمى، أو بعضه إلى أجل كذلك، أو على خمر، أو على خنزير، أو على ما يحل ملكه، أو على شيء بعينه في ملك غيره... فهو نكاح فاسد مفسوخ أبدا وإن ولدت له الأولاد، ولا يتوارثان ولا يجب فيه نفقة، ولا صداق ولا عدة. وهكذا كل نكاح فاسد، حاشا التي تزوجت بغير إذن وليها جاهلة فوطئها، فإن كان سمى لها مهرا فلها الذي سمي لها، وإن كان لم يسم لها مهرا فلها عليه مهر مثلها، فإن لم يكن وطئها فلا شيء لها. فإن كان الصداق الفاسد، الشروط الفاسدة إنما تعاقداها بعد صحة عقد النكاح خاليا من كل ذلك فالنكاح صحيح تام، ويفسخ الصداق، ويقضى لها بمهر مثلها، إلا أن يتراضيا بأقل أو أكثر، فذلك جائز، وتبطل الشروط كلها) المحلى:9/ 86.

(2) المغني:7/ 9.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (95)

وقد ذكرنا لخلاف سابقا في حكم الخلوة في الزواج الصحيح، ويختلف قول الحنفية هنا عن قولهم هناك، فقد نصوا على أنه) إذا فرق القاضي بين الزوجين في الزواج الفاسد قبل الدخول فلا مهر لها، لأن المهر لا يجب فيه بمجرد العقد وإنما يجب باستيفاء منافعه.. ولا يجب فيه بالخلوة، وكذا لو لمسها أو قبلها أو جامعها في الدبر، لأن الخلوة غير صحيحة كالخلوة بالحائض، وهو معنى قول المشايخ الخلوة الصحيحة في النكاح الفاسد كالخلوة الفاسدة في النكاح الصحيح (1)

أما الحنابلة فالمنصوص عن أحمد أن المهر يستقر بالخلوة، قياسا على العقد الصحيح، وبناء على أن الواجب المسمى بالعقد.

هذا مع استثناء بعض المسائل التي يثبت فيها نصف المهر قبل الدخول، ومن ذلك ما يقوله المالكية من أن سبب الفساد إذا لم يؤثر خللا في المهر، كزواج المحرم بالحج، ففيه نصف الصداق بالطلاق، وجميعه بالموت، وكذلك الزواج الفاسد عند المالكية لوقوع صداقه أقل من الصداق الشرعي، وامتنع الزوج من إتمامه، وهو ما يسمى بزواج الدرهمين، لأنهما أقل من الصداق الشرعي، ففيه نصف الدرهمين بفسخه قبل الدخول، ومن ذلك ما إذا ادعى الزوج قبل الدخول رضاعا محرما بلا بينة، وكذبته الزوجة، فإنه يفسخ، وعليه نصف الصداق كما يقول المالكية والحنابلة (2).

بعد الدخول

اتفق الفقهاء على وجوب المهر في الزواج الفاسد مطلقا بالدخول، لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها مهر مثلها)،

__________

(1) الجوهرة النيرة:2/ 19.

(2) انظر: القواعد لابن رجب:334.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (96)

فقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها مهر المثل فيما له حكم الزواج الفاسد، وعلقه بالدخول، فدل أن وجوبه متعلق به.

وقد اختلف الفقهاء في المقدار الواجب من المهر بعد الدخول على الأقوال التالية:

القول الأول: لها الأقل من مهر مثلها ومن المسمى، وهو قول الحنفية غير زفر، وقد عللوا ذلك بأن العاقدين ما قوما المنافع بأكثر من المسمى، فلا تتقوم بأكثر من المسمى، فحصلت الزيادة مستوفاة من غير عقد، فلم تكن لها قيمة إلا أن مهر المثل إذا كان أقل من المسمى لا يبلغ به المسمى، لأنها رضيت بذلك القدر لرضاها بمهر مثلها (1).

القول الثاني: لها المسمى، وإن لم يكن مسمى - كزواج الشغار - فلها مهر المثل، وهو قول المالكية والإمامية، والرواية الصحيحة عند الحنابلة (2)، قال ابن القيم: (ووجوب المهر المسمى في النكاح الفاسد، وهذا هو الصحيح من الأقوال) (3)

ومن أمثلة قول مالك في ذلك ما قاله فيما لو تزوج امرأة فلم يبن بها حتى تزوج أختها فبنى بها، فأفتى بزواج الأولى ويفرق بينه وبين الثانية،) قلت: ويكون للأخت المدخول بها مهر مثلها أو المهر الذي سمى؟ قال: قال مالك: المهر الذي سمي لها، قال مالك: وكذلك إن تزوج أخته من الرضاعة ففرق بينهما بعد البناء، فإن لها المهر الذي سمى (4)

__________

(1) بدائع الصنائع:2/ 335.

(2) ذكر ابن رجب أن خلاف هذه الرواية هي المشهورة عن احمد، قال:) النكاح الفاسد يستقر بالدخول فيه وجوب المهر المسمى في الرواية المشهورة عن أحمد، وهي المذهب عند أبي بكر وابن أبي موسى واختارها القاضي وأكثر أصحابه في كتب الخلاف (، القواعد لابن رجب:68..

(3) زاد المعاد: 5/ 105.

(4) المدونة:2/ 198.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (97)

القول الثالث: لها مهر المثل، وهو قول الشافعية ورواية للحنابلة، وزفر من الحنفية، ومن أمثلة ذلك قول الشافعي: (ولو نكح المريض امرأة نكاحا فاسدا ثم مات لم ترثه، ولم يكن لها مهر إن لم يكن أصابها فإن كان أصابها فلها مهر مثلها كان أقل مما سمي لها، أو أكثر (1)، وقال ابن قدامة: (والواجب لها مهر مثلها، أومأ إليه أحمد، فإنه قال في العبد يتزوج بغير إذن سيده: يعطي شيئا قال القاضي: يعني مهر المثل. وهو ظاهر قول الخرقي، لقوله: (وإذا زوج الوليان فالنكاح للأول منهما، فإن دخل بها الثاني فلها مهر مثلها (2)، ومن الأدلة على ذلك:

1. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فلها المهر بما استحل من فرجها (، فجعل لها المهر المميز بالإصابة، والإصابة إنما توجب مهر المثل.

2. أن العقد ليس بموجب، بدليل الخبر، وأنه لو طلقها قبل مسها لم يكن لها شيء، وإذا لم يكن موجبا كان وجوده كعدمه، وبقي الوطء موجبا بمفرده، فأوجب مهر المثل، كوطء الشبهة.

3. أن التسمية لو فسدت لوجب مهر المثل، فإذا فسد العقد من أصله كان أولى.

4. أن المنافع تتقوم بالعقد الصحيح والفاسد جميعا كالأعيان، فيلزم إظهار أثر التقوم، وذلك بإيجاب مهر المثل بالغا ما بلغ، لأنه قيمة منافع البضع، وإنما العدول إلى المسمى عند صحة التسمية، ولم تصح، لهذا المعنى أوجبنا كمال القيمة في العقد الفاسد كذا ههنا (3).

5. ما قاله الحنفية بأنها رضيت بدون صداقها، إنما يصح إذا كان العقد هو الموجب، وقد بينا أنه إنما يجب بالإصابة، فيجب مهر المثل كاملا، كوطء الشبهة.

__________

(1) الأم: 4/ 109.

(2) المغني: 7/ 9..

(3) بدائع الصنائع:2/ 335.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (98)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن لها المهر المسمى كما ذكرنا سابقا علل ذلك.

المكرهة على الزنى

اختلف الفقهاء في استحقاق المكرهة على الزنى لمهر المثل على قولين:

القول الأول: وجوب المهر لها، وهو قول الحنابلة (1) والشافعية (2)،والمالكية، والإمامية، ومن الأدلة على ذلك (3):

1. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فلها المهر بما استحل من فرجها)، لأن المكره مستحل لفرجها، فإن الاستحلال هو الفعل في غير موضع الحل، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما آمن بالقرآن من استحل محارمه.

2. أن الحد والصداق حقان أحدهما لله والثاني للمخلوق فجاز أن يجتمعا كالقطع في السرقة وردها

القول الثاني: أنه لا مهر للمكرهة على الزنى، وهو قول الحنفية، واستدلوا على ذلك بما يلي (4):

1. أنه قد تعلق بالزنا من إيجاب الرجم أو الجلد ما هو أغلظ من إيجاب المال.

2. أن المال والحد يتعاقبان على الوطء، فمتى وجب الحد لم يجب المهر، ومتى وجب المهر

3.

__________

(1) وعن أحمد، رواية أخرى: أنه لا مهر لها إن كانت ثيبا. واختاره أبو بكر. ولا يجب مع ذلك أرش البكارة. وذكر القاضي، أن أحمد قد قال في رواية أبي طالب، في حق الأجنبية إذا أكرهها على الزنى، وهي بكر: فعليه المهر، وأرش البكارة، انظر: المغني:7/ 209.

(2) قول الشافعية مقتصر على الأجنبية إذا أكرهها على الزنى، وهي بكر.

(3) المنتقى:5/ 269.

(4) أحكام القرآن للجصاص:2/ 165، المبسوط:9/ 53.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (99)

4. لم يجب الحد، فكل واحد منهما يخلف الآخر، فإذا وجب الحد فذلك قائم مقام المال فيما تعلق بالوطء من الحكم، فلا فرق بينهما.

5. أن القاعدة الشرعية في مثل هذا هي أنه إذا وجب الحد سقط ضمان حقوق الآدميين في المال والنفس والجراحات، وذلك لأن وجوب الحد بهذا الفعل يسقط ما تعلق به من حق الآدمي، كالسارق إذا سرق وقطع لم يضمن السرقة، وكالقاتل إذا وجب عليه القود لم يلزمه ضمان المال، والمحاربون إذا وجب عليهم الحد سقطت عنهم حقوق الآدميين، فمثلهم الزاني إذا وجب عليه الحد لم يلزمه المهر، فإذا سقط الحد عن هؤلاء وجب ضمان ما تناولوه من مال أو نفس، كالسارق إذا درئ عنه الحد وجب عليه ضمان المال، وكالزاني إذا سقط عنه الحد لزمه المهر كما في الزواج الفاسد.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على الأضرار التي حصلت للمكرهة على الزنى هو وجوب كل من المهر وأرش البكارة (1)، بدون تفريق في ذلك بين المحارم وغيرهم، وقد سئل ابن الصلاح عن صبي افترع صبية دون البلوغ، فأذهب بكارتها، فأجاب: (يجب في ذمة الصبي مهر مثلها على المذهب الأصح، ويجب أرش بكارتها، ولا يندرج على الرأي الأظهر في المهر، ويكون ذلك على عاقلة الصبي، فإن لم يكن له عاقلة فعليه في ماله) (2)

والعلة في هذا هو التشديد فيما ينجر عن الزنا من عواقب، لأن من الناس من لا تردعه عقوبة الجلد، بقدر ما تردعه عقوبة المال، فكان الأصلح في حقه الجمع بين العقوبتين، بل إن

__________

(1) أرش البكارة هو التفاوت بين قيمتها بكرا وثيبا قاله ابن قتيبة وغيره، الأرش مأخوذ من قول العرب لكفايته بين الرجلين تأريشا إذا أغريت أحدهما وصله، وواقعت بينهما الخصومة فسمي نقص السلعة أرشا، لكونه سببا للتأريش وهو الخصومة، تحرير ألفاظ التنبيه:178.

(2) فتاوى ابن الصلاح:2/ 465..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (100)

عقوبة الاغتصاب ليست كعقوبة الزاني، بل هي أشبه بعقوبة المحارب لأدلة لا بمكن بسطها هنا.

ثم إن القول بالاقتصار على العقوبة الجسدية فقط قد يخدم المجتمع فيسد فيه منافذ الفساد، ولكنه لا يخدم المرأة المتضررة، وإن كان قد يشفي غليلها، ومع ذلك فإن من مناهج الشرع في مثل هذا، التعويض وإزالة كل أنواع الأضرار، وتعويضها بالمهر وأرش البكارة ربما يرغب فيها الخطاب، ويزيل عنها الضرر، وقد ذكر القرافي عند بيانه لمقاصد العقوبات الشرعية من الزجر والجبرهذا النهج الشرعي، ومثل له بالأمثلة الكثيرة، قال (أما المنافع فالمحرم منها لا يجبر احتقارا لها كالمزمار ونحوه، كما لم تجبر النجاسات من الأعيان، واستثني من ذلك مهر المزني بها كرها تغليبا لجانب المرأة، فإنها لم تأت محرما والظالم أحق أن يحمل عليه، ولأنه كالغاصب لسكنى دار) (1)

وهذا الحق للمرأة لا يقتصر على الإكراه على الزنى فقط، بل يتعداه لكل وسيلة تعرض المرأة لمثل هذا، وقد نص الحنابلة على أنه إذا دفع رجل أجنبية فأذهب عذرتها، أو أزالها بأصبع أو غيرها فعليه أرش بكارتها، (لأنه إتلاف جزء لم يرد الشرع بتقدير ديته، فرجح فيها إلى الحكومة كسائر مالم يقدر، ولأنه إذا لم يكمل الصداق به في حق الزوجة ففي حق الأجنبي أولى) (2)

بل إن هذا الحق يجب لها حتى لو لم يكن الفاعل رجلا، فقد روي أن رجلا كانت عنده يتيمة، فخافت امرأته أن يتزوجها، فاستعانت بنسوة فأذهبن عذرتها، وقالت لزوجها: فجرت، فأخبر علي بذلك، فأرسل إلى امرأته والنسوة، فلما أتين لم يلبثن أن اعترفن بما صنعن، فقال للحسن بن علي: اقض فيها، فقال: الحد على من قذفها، والعقر عليها وعلى الممسكات)

__________

(1) أنوار البروق:1/ 213.

(2) المبدع:7/ 174.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (101)

ونقل ـ كذلك ـ فيمن تزوج بكرا، فدفعها هو وأخوه، فأذهبا عذرتها، ثم طلقها قبل الدخول: إن على الزوج نصف الصداق، وعلى الأخ نصف العقر، وقد روى ذلك عن علي والحسن وعبد الله بن معقل، قال ابن مفلح: (وهذه قصص مشتهرة ولم تنكر، فكانت كالإجماع) (1)

ونرى في عصرنا الحاضر الذي عطلت فيه الحدود أن على الحنفية أن يفتوا بهذا القول بناء على قاعدتهم في عدم اجتماع الحد مع المهر، فتعطيل الحدود لا يلغي وجوب المهر، لأن الحد فعل ولي الأمر، بينما تسليم المهر ممكن لكل مسلم.

ونرى كذلك أن من علامات صدق التائب الذي ارتكب هذه الجريمة، ولم يكتشف أمره، أو لم يحد بالحد الشرعي إبراءا لذمته وتصديقا لتوبته أن يعطي المرأة المغتصبة حقها من المهر، وتعويضها عن الضرر اللاحق بها، ولا تتم توبته ولا تصدق إلا بذلك، لأن حقوق العباد لا تتم التوبة منها إلا بتسليمها لأصحابها.

زواج الشغار

وهو من أنواع الزواج التي كانت تمارس في الجاهلية، قال في النهاية: کان الرجل يقول للرجل: شاغر منّي أي زوّجني اختک أو بنتک، أو من تلي أمرها حتّى أزوّجک أختي أو بنتي أو من إليّ أمرها. ولا يکون بينهما مهر، ويکون بضع کلّ واحد منهما في مقابلة بضع الأخرى، وقيل له: شغار، لارتفاع المهر بينهما)

وقريب منه ما جاء في صحاح الجوهري والقاموس والمصباح المنير، حيث فسّروه بقول الرجل للآخر: زوّجني ابنتک أو أختک على أنّ أزوّجک ابنتي أو أختي على أنّ صداق کلّ منهما بضع الأخرى.

وقد اختلف الفقهاء في تعريفه على القولين التاليين:

__________

(1) المبدع:7/ 174.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (102)

القول الأول: هو أن يزوج الرجل وليته على أن يزوجه الآخر وليته على أن مهر كل منهما بضع الأخرى، وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية (1).

القول الثاني: هو أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، سواء جعلا مهر كل منهما بضع الأخرى أو سكتا عن المهر أو شرطا نفيه، وهو للحنابلة (2)

وقد اتفق الفقهاء على حرمة زواج الشغار، بل نقل الإجماع على ذلك، قال ابن عبد البر: (أجمع العلماء على أن زواج الشغار لا يجوز) (3)، ومن الأدلة على ذلك زيادة على الإجماع:

1. ما روي في الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشغار، وفسر (4): بأن

2.

__________

(1) وقد قسم المالكية الشغار إلى ثلاثة أقسام:

صريح الشغار: وهو أن يقول زوجتك موليتي على أن تزوجني موليتك ولا يذكران مهرا.

وجه الشغار: وهو أن يقول: زوجتك موليتي بكذا مهرا على أن تزوجني وليتك بكذا، وسمي بذلك لأنه شغار من وجه دون وجه، فمن حيث إنه سمى لكل واحدة مهرا فليس بشغار، ومن حيث إنه شرط تزوج إحداهما بالأخرى فهو شغار.

مركب الشغار: وهو أن يسمي لواحدة منهما مهرا دون الأخرى كأن يقول: زوجني بنتك بمائة من الدنانير مثلا على أن أزوجك بنتي. منح الجليل:3/ 447، شرح حدود ابن عرفة:175.

(2) المبدع: 7/ 83.

(3) انظر نقل الإجماع في ذلك: التمهيد:14/ 71، شرح النووي على مسلم:9/ 201.

(4) اختلف في هذا التفسير هل هو من الراوي أو من النبي (، قال ابن حجر: تفسير الشغار من قول نافع، ولفظه قال عبيد الله بن عمر، قلت لنافع: ما الشغار؟ فذكره، فلعل مالكا أيضا نقله عن نافع، وقال أبو الوليد الباجي: الظاهر أنه من جملة الحديث، وعليه يحمل، حتى يتبين أنه من قول الراوي، وهو نافع، قال ابن حجر: قد تبين ذلك ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه أن لا يكون في نفس الأمر مرفوعا، فتح الباري:9/ 162، وعن الشافعي أنه قال: تفسير الشغار ما أدري هل هو من النبي (أو من قول إبن عمر أو من نافع أو من مالك، مجموعة رسائل في الحديث:29، والظاهر من خلال نص الحديث أنه من تفسير الراوي.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (103)

3. يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق (1).

4. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا شغار في الإسلام) (2)

5. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا جلب ولا جنب، ولا شغار في الإسلام ومن انتهب فليس منا (3).

6. عن أبي ريحانة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المشاغرة، والمشاغرة أن يقول زوج هذا من هذه وهذه من هذا بلا مهر (4).

7. عن أبي بن كعب مرفوعا: لا شغار، قالوا: يا رسول الله، وما الشغار، قال: إنكاح المرأة بالمرأة لا صداق بينهما (5).

ومع هذه الأدلة اختلف الفقهاء في تأثير الشغار على صحة الزواج بعد اتفاقهم على حرمته التكليفية على قولين:

القول الأول: صحة الزواج ووجوب مهر المثل، وهو قول الزهري ومكحول والثوري والليث ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو مذهب الحنفية الذي اشتهروا به، واستدلوا على ذلك بما يلي (6):

1.

2.

__________

(1) البخاري:5/ 1966، مسلم:2/ 1034، الترمذي: 3/ 431، البيهقي:7/ 199، الموطأ:2/ 535.

(2) مسلم:2/ 1035، ابن حبان:7/ 416، الترمذي:3/ 431، البيهقي:7/ 200، الدارقطني:4/ 303، النسائي: 3/ 309، ابن ماجة:1/ 606.

(3) قال الترمذي: حديث حسن صحيح،، الترمذي:3/ 431، وانظر: ابن حبان: 7/ 416،، البيهقي:10/ 21، الدارقطني:4/ 305، النسائي:3/ 309، أحمد:4/ 439.

(4) أخرجه أبو الشيخ من حديث أبي ريحانة، نيل الأوطار:6/ 278.

(5) أخرجه الطبراني، قال الحافظ: وإسناده وإن كان ضعيفا لكنه يستأنس به في هذا المقام، نيل الأوطار:6/ 278.

(6) رد المحتار:3/ 106،نيل الأوطار:6/ 169، مجمع الأنهر:1/ 438،الفتاوى الهندية:1/ 303، فتح القدير:3/ 338.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (104)

3. أن الزواج لا تبطله الشروط الفاسدة، كما إذا تزوجها على أن يطلقها أو نحو ذلك، وتكون التسمية فاسدة لأن البضع ليس بمال، فلا يصلح أن يكون مهرا، بل يجب لكل منهما مهر المثل، كما لو تزوجها على خمر أو خنزير.

4. أن علة النهي مسمى الشغار الدال على خلوه عن المهر وكون البضع صداقا، ونحن قائلون بنفي هذه الماهية وما يصدق عليها شرعا، فلا نثبت الزواج بل نبطله، فيبقى زواجا مسمى فيه ما لا يصلح مهرا، فينعقد بمهر المثل، كالمسمى فيه خمر أو خنزير، فما هو متعلق النهي لم نثبته، وما أثبتناه لم يتعلق به، بل اقتضت العمومات صحته.

القول الثاني: فساد الزواج، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة، لكنهم اختلفوا في حكم فسخه والآثار الناتجة عنه على المذاهب التالية:

مذهب المالكية: يختلف حكم الشغار عند المالكية (1) بحسب نوع ما تقدم في التعريف:

صريح الشغار: وحكمه الفسخ مطلقا ولو ولدت الأولاد، ولا شيء للمرأة قبل الدخول، ولها بعده صداق المثل، وهذا مما لا خلاف فيه عندهم، وإنما الخلاف في كون فسخه بطلاق، وبه قال مالك مرة أو بغيره، وهو الذي قاله سحنون قائلا: عليه أكثر الرواة، وتظهر ثمرة هذا الخلاف فيما إذا تزوجها بعد ذلك، فإنها تكون على الأول على طلقتين وعلى الثاني على عصمة كاملة، ويظهر أيضا فيما لو خالعها على شيء، فعلى أن الفسخ بطلاق لا ترجع به، وعلى أن الفسخ بغير طلاق ترجع به (2).

مركب الشغار: وحكمه أن يفسخ زواج كل منهما قبل الدخول، وأما بعده فيفسخ زواج من لم يسم لها، ولها صداق مثلها، ويثبت زواج المسمى لها بالأكثر من المسمى ومن صداق مثلها.

__________

(1) المدونة:2/ 98،حاشية الصاوي:2/ 446، حاشية الدسوقي: 2/ 307، حاشية العدوي:2/ 52.

(2) سنرى تفاصيل أكثر للمسألة في محلها من هذه السلسلة.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (105)

وجه الشغار: وحكمه أنه يفسخ قبله ولا شيء فيه للمرأة، ويثبت بعده بالأكثر من المسمى وصداق المثل.

مذهب الشافعية: نص الشافعية (1) على أن هذا الزواج باطل، وقد اختلفوا في علة بطلانه على الأقوال التالية:

1. معنى الاشتراك في البضع حيث جعله مورد الزواج وصداقا لأخرى فأشبه تزويج واحدة من اثنين، ولهذا لو سميا مالا مع جعل البضع صداقا كأن يقول: زوجتك ابنتي بألف من الدنانير مثلا على أن تزوجني بنتك بألف كذلك وبضع كل واحدة منهما صداق للأخرى، أو يقول: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك ويكون بضع كل واحدة منهما وألف درهم صداقا للأخرى، فالأصح بطلان هذا الزواج لوجود التشريك فيه. وكذا إذا سميا لإحداهما مهرا دون الأخرى كأن يقول: زوجتك بنتي بألف درهم على أن تزوجني بنتك وبضع كل واحدة منهما صداق للأخرى فالأصح بطلانه أيضا لوجود معنى التشريك فيه.

2. خلوه من المهر، وعلى هذا التعليل يصح الزواج في الصور السابقة لأنه لم يخل من المهر، وكذلك لو لم يجعل البضع صداقا بأن سكت عنه كقوله: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك، ولو قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك وبضع ابنتك صداق لابنتي صح الزواج الأول وبطل الزواج الثاني، ولو قال: وبضع ابنتي صداق لابنتك بطل الأول وصح الثاني.

3. التعليق والتوقف الموجود في هذا الزواج، ولهذا لا يصح الزواج في الصور المذكورة سابقا لما فيها من معنى التعليق والتوقف.

__________

(1) الأم: 8/ 276،حاشية البجيرمي:3/ 334، حاشية الجمل:4/ 135.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (106)

ومن صور الشغار عند الشافعية أن يقول: زوجتك ابنتي على أن تزوج ابني ابنتك وبضع كل واحدة منهما صداق الأخرى، أو طلق امرأته على أن يزوجه زيد مثلا ابنته وصداق البنت بضع المطلقة فزوجه على ذلك صح التزويج بمهر المثل، لفساد المسمى ووقع الطلاق على المطلقة.

مذهب الحنابلة: وقد نصوا على أنه زواج فاسد (1)، لأنه جعل كل واحد من العقدين سلفا في الآخر فلم يصح، ولا فرق عندهم بين أن يقول: على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، أو لم يقل ذلك بأن سكتا عنه أو شرطا نفيه، وكذا لو جعلا بضع كل واحدة منهما ودراهم معلومة مهرا للأخرى لأن فساد زواج الشغار لم ينشأ من قبل التسمية الفاسدة، بل من جهة أنه وقفه على شرط فاسد، أو لأنه شرط تمليك البضع لغير الزوج، فإنه جعل تزويجه إياها مهرا للأخرى فكأنه ملكه إياها بشرط انتزاعها منه.

مذهب الظاهرية: وهو أكثر المذاهب تشددا في ذلك، قال ابن حزم: (لا يحل زواج الشغار، وهو أن يتزوج هذا ولية هذا على أن يزوجه الآخر وليته أيضا، سواء ذكرا في كل ذلك صداقا لكل واحدة منهما أو لإحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا في شيء من ذلك صداقا، كل ذلك سواء يفسخ أبدا، ولا نفقة فيه، ولا ميراث، ولا صداق ولا شيء من أحكام الزوجية، ولا عدة، فإن كان عالما فعليه الحد كاملا، ولا يلحق به الولد، وإن كان جاهلا فلا حد عليه، والولد له لاحق، وإن كانت هي عالمة بتحريم ذلك فعليها الحد، وإن كانت جاهلة فلا شيء عليها) (2)

مذهب الإمامية: وقد اتفقوا على بطلانه وعدم صحّته، قال الشيخ الطوسي في الخلاف: (نکاح الشغار باطل عندنا، وبه قال مالک والشافعي وأحمد وإسحاق، غير أنّ مالکا أفسده

__________

(1) مطالب اولي النهى:5/ 124،كشف القناع:5/ 92، الإنصاف:8/ 159، المغني:7/ 135.

(2) المحلى:9/ 118.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (107)

من حيث فساد المهر، وأفسده الشافعي من حيث إنّه ملک لبضع کلّ واحد من شخصين (الزوج باعتبار کونه زوجا لها، وزوجه الآخر باعتبار کونه مهرا لها)، وذهب الزهري والثوري وأبو حنيفة وأصحابه إلي أنّ نکاح الشغار صحيح وإنّما فسد فيه المهر فلا يفسد بفساده) (1)

ومن الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول (2):

1. الأحاديث الواردة في النهي عن زواج الشغار، والتي ذكرنا بعضها عند بيان الحكم التكليفي.

2. أن النهي يدل على الفساد والنفي لنفي الحقيقة الشرعية.

الترجيح

نرى أن الأرجح في المسألة بناء على تحريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أن النهي عن ذلك يقتضي الفساد لأن الشرع قصد من النهي عنه مراعاة مصلحة المرأة، بينما القول بالتحريم مع عدم الفساد لا ينتج عنه إلا الإثم المتعلق بمن فعل ذلك من الأولياء، وهي مسألة أخروية، لا علاقة لها بمصالح المرأة الدنيوية، والتي جاء هذا الحكم الشرعي لتقريرها.

والمصلحة التي نقصدها هنا ليست فقط في الإضرار بالمرأة ومنعها حقها من المهر الذي جعله الشرع لها، وإنما أن يصبح ذلك التبادل وسيلة استغلال من الأولياء، فيجبرون مولياتهم على الزواج بمن لا يرغبن فيهم حتى تتحقق مقاصدهم من الزواج بمن يرغبون.

ولكن هذا الفساد لا يمكن تعميمه في حال حصول الدخول، لأنا قد ندرأ مفسدة عدم المهر بمفسدة الفسخ، فلذلك الأصلح للمرأة باعتبارها صاحبة الحق في المهر أن نخيرها بين أن تبقى على زواجها مع استحقاقها مهر المثل، وبين التفريق، والغرض من هذا التخيير أمرين:

1.

2.

__________

(1) الخلاف: 2/ کتاب النکاح، المسألة 118..

(2) المبدع: 7/ 83، منار السبيل:2/ 58، المغني:7/ 134، كشاف القناع:5/ 93.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (108)

3. التأكد من رغبة المرأة في استمرار الزواج بمن رضيه لها وليها، وذلك درءا لمفسدة استغلالها، كما ذكرنا.

4. إعطاءها حقها من المهر، لأنه حق لا يفوت بالدخول، بل يتأكد به، ويصبح حكم زواج الشغار في هذه الحالة كحكم التسمية الفاسدة في المهر، فـ (الشريعة قد نهت عن صداق الخمر والخنزير والغرر والمجهول، والنكاح في ذلك كله يصح بمهر المثل) (1)

أما قبل الدخول، فيفسخ مطلقا لإمكان تصليحه بدون حصول أي مفسدة لأي طرف من الأطراف.

ونرى أنا بهذا القول قد جمعنا بين القولين، وراعينا مصلحة صاحبة الشأن بتخييرها، فلم نفرق بينها وبين زوج قد تكون راغبة فيه، ولا جمعنا بينهما إن كانت راغبة عنه، ولم يضع مع ذلك حقها من المهر.

رابعا ـ أحكام تعجيل المهر وتأجيله

سنتحدث في هذا المبحث عن ثلاثة أنواع من المهور، وهي: المهر المعجل، والمهر المؤجل أو المؤخر، والمهر المفوض.

1 ـ تعجيل المهر

يقصد بالمهر المعجل في عرف الفقهاء تقديم المهركاملا قبل الدخول، أو عدم ارتباط المهر بطلاق او موت.

__________

(1) التمهيد:14/ 73.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (109)

وقد اتفق الفقهاء على استحباب تعجيل الصداق، لورود الأمر العام في الشريعة بتسليم أصحاب الحقوق حقوقهم، وكراهية التأخير لغير الحاجة، واختلفوا في جواز الدخول بالمرأة قبل إعطائها شيئا، سواء كانت مفوضة أو مسمى لها على قولين (1):

القول الأول: إنه يستحب أن يعطيها شيئا، وهو قول جمهور العلماء، قال الزهري: مضت السنة أن لا يدخل بها حتى يعطيها شيئا، وقال ابن عباس: يخلع إحدى نعليه، ويلقيها إليها، ويروي الإمامية في هذا عن أبي جعفر ع في عن رجل تزوج امرأة على أن يعلمها سورة من كتاب الله عزوجل فقال: (ما أحب أن يدخل بها حتى يعلمها السورة ويعطيها شيئا)، قلت: أيجوز أن يعطيها تمرا أو زبيبا؟ فقال: (لا بأس بذلك إذا رضيت به كائنا ما كان) (2)، ومن الأدلة على ذلك:

1. حديث عقبة بن عامر، في الذي زوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخل بها ولم يعطها شيئا، وقد سبق ذكره (3).

2. عن عائشة، قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أدخل امرأة على زوجها، قبل أن يعطيها شيئا (4).

3. أنه عوض في عقد معاوضة، فلم يقف جواز تسليم المعوض على قبض شيء منه،

4.

__________

(1) ذكر ابن قدامة في المسألة قولين، ولكنه عاد ورجح رواية قول واحد وحمل القول الثاني على الاستحباب، يقول في المغني:) وأما الأخبار فمحمولة على الاستحباب، فإنه يستحب أن يعطيها قبل الدخول شيئا، موافقة للأخبار، ولعادة الناس فيما بينهم، ولتخرج المفوضة عن شبه الموهوبة، وليكون ذلك أقطع للخصومة. ويمكن حمل قول ابن عباس ومن وافقه على الاستحباب فلا يكون بين القولين فرق (المغني:7/ 188.

(2) الكافي ج 5 ص 380.

(3) سبق تخريجه.

(4) أبو داود:2/ 241.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (110)

5. كالثمن في البيع، والأجرة في الإجارة.

6. أن سبب الاستحباب هو الخروج من الخلاف اعتبارا لمن أوجبه من أوجبه (1).

القول الثاني: وجوب إعطائها شيئا، وهو قول بعض الصحابة، وقد روي عن المالكية (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن عليا لما تزوج فاطمة، أراد أن يدخل بها، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يعطيها شيئا، فقال: يا رسول الله، ليس لي شيء. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعطها درعك. فأعطاها درعه، ثم دخل بها (3).

2. استدل في المنتقى بحديث (التمس ولو خامتا من حديد) على وجوب ذلك، يقول الباجي: (مطالبته بذلك في الحين تقتضي أن من حكمه تعجيله أو تعجيل ما يصح أن يكون مهرا منه ولو شرع تأخير جميعه لسأله هل يرجو أن يتكسب في المستقبل قدر الخاتم من الحديد بل الغالب تجويز ذلك كله فكان يقول له زوجتكها على أن يكون لها هذا في ذمتك ويضرب لذلك أجلا يغلب على الظن تكسبه لهذا ولما نقله عن وجود المهر إلى المنافع دون واسطة

3.

__________

(1) وبهذا الأصل قال الشافعية باستحباب أن لا ينقص عن عشرة دراهم خروجا من خلاف أبي حنيفة، وبهذا الأصل نرى اتفاق الواقع في أكثر المسائل الخلافية، انظر: أسنى المطالب: 3/ 200.

(2) للمالكية في ذلك روايات مختلفة ذكرها الحطاب منها: أنه يكره الدخول قبل تقديم ربع دينار، ومنها أنه ليس لها أن تمكنه من الدخول قبل أن تقبض ربع دينار، ومنها أن للمرأة أن تمنع نفسها من الزوج حتى يقدم لها ربع دينار ولو لم يكن حالا ولو رضيت له بالدخول بلا شيء فلها أن تمنعه ; لأن الكراهة في ذلك حق لله فلا تسقط عنه بإذنها وهذا ما لم يدخل بها وإن دخل بها فلا يكره له وطؤها ثانية قبل أن يعطيها ربع دينار ولا لها أن تمنعه. أما الدخول بالهدية بدل الصداق فقد كرهه ابن القاسم ; لأنها ليست من الصداق ; لأنه لو طلقها لم يكن له فيها شيء انظر: مواهب الجليل:3/ 503.

(3) ابن حبان: 15/ 396، البيهقي:7/ 252، أبو داود: 2/ 240، النسائي: 3/ 332..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (111)

4. ثبت أن من حكم المهر أن يتعجل منه قبل البناء ما يصح أن يكون مهرا) (1)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول بالوجوب تحميلا للنصوص على ظاهرها، ولتيسر أداء ذلك بدون مشقة، ولأنه إذا أعطاها جزءا من المهر أو هدية باسم المهر لا يكون في ذلك أي مشقة عليه، ويكون في نفس الوقت قد خرج من الخلاف، هذا إن كان الزوج ورعا عن حق زوجته في مهرها.

وقد روى الإمامية في هذا عن أبي عبد الله ع قال: (إذا تزوج الرجل المرأة فلا يحل له فرجها حتى يسوق إليها شيئا درهما فما فوقه أو هدية من سويق أو غيره) (2)

أما إن كان غير ذلك، بأن عرفت منه المماطلة، فإن الأولى في حقه القول بوجوب إعطاء المهر كاملا، خشية مماطلة المرأة أو غصب حقها، إلا إذا سامحت المرأة في ذك مع علمها بحاله.

التأخر عن أداء الصداق المعجل

اختلف الفقهاء فيما إذا ثبت إعسار الزوج بمعجل الصداق وطالبته الزوجة به، هل يفسخ الزواج، أم يعذر الزوج، أم يؤجل الدخول على الأقوال الثلاثة التالية:

القول الأول: إنه يطلق عليه لكن بعد الإعذار، وهو قول المالكية، وقد ذهبوا إلى أن الزوجة إن طالبت الزوج بالصداق الواجب، ولم يجده فإنه لا يعجل بالطلاق أو الفسخ إلا بعد التأجيل والنظر، وخطوات التأجيل تجري قضائيا كما يلي:

1. إن ادعى العدم، ولم تصدقه، ولا أقام بينة على صدقه، ولا مال له ظاهر، ولم يغلب على الظن عسره أجله القاضي لإثبات عسره، فإن أعطى كفيلا بالوجه، وإلا حبسه كسائر الديون، ومدة التأجيل متروكة للقاضي.

2.

3.

__________

(1) المنتقى:3/ 275.

(2) ظظ.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (112)

4. إذا ثبت عسره بالبينة أو صدقته يؤجل للنظر.

5. إذا لم يثبت عسره في مدة التأجيل ولم تصدقه، فالظاهر عندهم أنه يحبس إن جهل حاله ليستبين أمره، ولو غلب على الظن عسره تلوم له ابتداء، فأما ظاهر الغنى فيحبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بعسره، إلا أن يحصل لها ضرر بطول المدة فلها طلب التطليق.

القول الثاني: لا يطلق بسببه، وهو قول الحنفية، وذهبوا إلى أنه يترتب على عدم قبض الزوجة معجل مهرها أنها تملك أن تمنع نفسها إذا أراد الزوج أن يسافر بها أو يبني بها حتى تأخذ مهرها منه، ولو سلمت نفسها ووطئها برضاها تعين حقها في البدل كما تعين حق الزوج في المبدل لقياسهم المهر بالبيع.

ونصوا على أنه ليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله حتى يوفيها مهرها، لأن حق الحبس لاستيفاء المستحق، وليس له حق الاستيفاء قبل الإيفاء، ويعتبر الحنفية في هذا أمرين:

العرف: فليس لها أن تحبس نفسها فيما تعورف تأجيله إلى الميسرة أو الموت أو الطلاق ولو كان حالا، لأن المتعارف كالمشروط وذلك يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأشخاص.

التصريح: إذا نصا على تعجيل جميع المهر أو تأجيله فهو على ما شرطا حتى كان لها أن تحبس نفسها إلى أن تستوفي كله فيما إذا شرط تعجيل كله، وليس لها أن تحبس نفسها فيما إذا كان كله مؤجلا (1)، لأن التصريح أقوى من الدلالة فكان أولى.

__________

(1) ولأبي يوسف رأي آخر قيل: إته رجع إليه وهو أن لها أن تمنع نفسها إذا كان كله مؤجلا استحسانا ; لأن الاستمتاع في مقابلة تسليم المهر فإذا طلب تأجيل المهر فقد رضي بإسقاط حقه في الاستمتاع، تبيين الحقائق: 2/ 155، العناية شرح الهداية:3/ 370..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (113)

وإذا أوفاها مهرها أو كان كله مؤجلا ينقلها حيث شاء لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (الطلاق:6)، وكذلك إذا دخل بها برضاها عندهما لسقوط حق الحبس.

وقريب من هذا قول الإمامية، فقد نصوا على أنه (إذا كان المهر حالاً فللزوجة الامتناع من التمكين قبل قبضه سواء كان الزوج متمكناً من الأداء أم لا، ولو مكنته من نفسها فليس لها الامتناع بعد ذلك لأجل أن تقبضه، واما لو كان المهر كله أو بعضه مؤجلاً ـ وقد اخذت بعضه الحال ـ فليس لها الامتناع من التمكين وإن حلّ الاَجل ولم تقبض المهر بعد)

ونصوا على أنه (إنما يسقط حق امتناعها عن التمكين فيما إذا وطئها بتمكينه من نفسها اختياراً، فلو وطئها جبراً أو في حال النوم ونحوه أو كان تمكينها عن اكراه من جانب الزوج أوغيره لم يسقط حقها في ذلك.

القول الثالث: يفسخ بدون إعذار، وهو قول بعض الشافعية والحنابلة، حيث قالوا: يثبت لها الفسخ بالإعسار، ولم يذكروا إعذارا، لكنهم قالوا: إن الفسخ لا يكون إلا من الحاكم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو تخيير الزوجة بين الفسخ أو انتظار تسليمه للمهر، وللحاكم أن يتخذ الإجراءات المناسبة لتسليمه المهر، أما القول بالفسخ وعدمه من غير اختيار المرأة صاحبة الحق في المهر، فإن في ذلك مضرة بالغة لها.

والأولى كما ذكرنا سابقا تجنبا لمثل هذا أن يدفع المهر كاملا قبل البناء.

من يتسلم المهر

اتفق الفقهاء (1) على أن الزوج لا تبرأ ذمته إلا بتسليم المهر إلى المرأة أو وكيلها، واختلفوا في تسليمه لأبيها، هل تبرا ذمته بذلك أم لا على قولين:

__________

(1) المغني: 7/ 199، المبسوط:5/ 2، الفتاوى الهندية:1/ 319، مطالب أولي النهى:5/ 189.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (114)

القول الأول: أنه ليس للأب قبض صداق البكر ولا الثبيب، وهو قول الشافعية والحنابلة، قال أحمد: إذا أخذ مهر ابنته، وأنكرت، فذاك لها، ترجع على زوجها بالمهر، ويرجع الزوج على أبيها، فقيل له: أليس قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (: أنت ومالك لأبيك) (1)؟ قال: نعم ولكن هذا لم يأخذ منها، إنما أخذ من زوجها، واستدلوا على ذلك بأنها رشيدة، فلم يكن لغيرها قبض صداقها، كالثيب.

وقريب منه قول الإمامية، فقد نصوا على أن (الرجل إذا قبض صداق ابنته، وكانت صبية غير بالغ، في حجره، برئت ذمة الزوج من المهر، على كل حال، لأنه القابض عنها، والوالي عليها، ولم تكن للبنت مطالبته بالمهر بعد البلوغ، وإن كانت البنت بالغة، فإن كانت وكلته في قبض صداقها، فقد برأ أيضا ذمة الزوج، وإن لم تكن وكلته على ذلك، لم تبرأ ذمة الزوج، وكان لها مطالبته بالمهر، وللزوج الرجوع على الأب في مطالبته بالمهر، فإن كان الأب قد مات، كان له الرجوع على الورثة، إن كان خلف في أيديهم شيئا، ومطالبتهم بالمهر، كما كان له مطالبته في حال حياته، وهذا إذا لم يصدقه الزوج على وكالته، فأما إن ادعى الأب الوكالة من البنت بقبض المهر، وصدقه الزوج على ذلك، فليس للزوج الرجوع عليه، سواء كان حيا أو قد مات) (2)

القول الثاني: أن للأب قبض صداق البكر دون الثيب، وهو قول الحنفية والمالكية (3)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1.

2.

__________

(1) سبق تخريجه.

(2) السرائر - محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي ج 02 ص: 97.

(3) ذهب المالكية إلى ان للأب أن يقبض مهر البكر وإن عنست والثيب إن صغرت، وللوصي قبض الصداق، ولو لم يجبر، ونصوا على أن الولي إذا قبض الصداق لوليته التي في حجره لا يجوز له أن يدفع لها ذلك عينا فإن فعل ذلك فإنه يضمنه للزوج ليشتري له به جهازا وإنما يبرئه من ذلك أحد أمور ثلاثة:

ـ أن يشتري به جهازا يصلح لها وتشهد البينة بدفعه لها ومعاينة قبضها له ولا يحتاج لإقرارها بالقبض.

ـ أن يشتري الجهاز ويحضره لوليته ببيت البناء وتعاينه البينة أنه وصل إليه.

ـ أن يشتري الجهاز ويوجهه إلى بيت البناء بعد تقويمه ومعاينته ولا تفارقه البينة حتى يوجه إلى بيت البناء وإن لم تصحبه الشهود إلى البيت ولا تسمع دعوى الزوج أنه لم يصل إلى بيته، انظر: الخرشي:3/ 293..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (115)

3. اعتبارا للعرف.

4. أن البكر تستحي، فقام أبوها مقامها، كما قام مقامها في تزويجها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو تسليم المهر لأبيها في حال الوثوق بأنه سيسلمه لها كما هو جار في العرف، مع توثيق ذلك بالشهود أو الكتابة ما أمكن.

أما إن كان الأب غير ثقة، ويخشى أن لا يسلمها حقها من المهر، أو يتخذه حلوانا، فإن الأرجح في هذا هو تسليمه للمرأة، أو للثقة الذي يسلمه لها، مع التوثيق كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

ولا نرى أن المسألة تحتاج إلى التفريق بين البكر والثيب، لأن لكليهما الحق في المهر، أما التفريق فينبغي أن يكون بين الولي الثقة والولي غير الثقة والولي الورع، والولي الذي لا يبالي ما دخل في جيبه أمن حقه أم من غير حقه.

2 ـ تأجيل المهر

اختلف الفقهاء في حكم المهر المؤجل ومدة التأجيل على الأقوال التالية (1):

القول الأول: يبطل الآجل لجهالة محله، ويكون حالا، وهو قول الحسن وحماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وسفيان الثوري وأبي عبيدة وابن حزم، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النساء: 4)، فمن شرط أن لا يؤتيها صداقها

2.

__________

(1) الفتاوى الكبرى:5/ 470، تبيين الحقائق: 2/ 156، العناية شرح الهداية:3/ 372، التاج والإكليل:5/ 194، مغني المحتاج:4/ 327، كشاف القناع:5/ 134.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (116)

3. أو بعضه - مدة ما - فقد اشترط خلاف ما أمر الله تعالى به في القرآن، وهو مخالف لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) (1)

4. أن المرأة بالتأجيل رضيت بإسقاط حق نفسها، فلا يسقط حق الزوج، كالبائع إذا أجل الثمن أنه يسقط حق حبس المبيع بخلاف ما إذا كان التأجيل إلى مدة مجهولة جهالة متفاحشة، لأن التأجيل ثمة لم يصح فلم يثبت الأجل فبقي المهر حالا.

القول الثاني: تفسد التسمية ويجب مهر المثل، وهو قول الشافعي وأبي الخطاب ومالك إلا أن مالكا قال: (إذا دخل بها أجزت النكاح، وجعلت لها صداق مثلها، ولم أنظر إلى الذي سمي من الصداق إلا أن يكون صداق مثلها أقل مما جعل لها فلا ينقص منه شيء) (2) واستدلوا على ذلك بأنه عوض مجهول المحل، ففسد كالثمن في البيع، لجهالة العوض بجهالة أجله رجع إلى مهر المثل.

القول الثالث: يصح الآجل مع تحديده إلى فترة محددة، وهو قول إياس بن معاوية ومكحول والأوزاعي، وقول عند المالكية، وقد اختلفوا في تحديد الأجل على ما يلي:

1. أن يفارقها أو يتزوج عليها أو يخرجها من بلدها، فلها حينئذ المطالبة به، وهو قول إياس بن معاوية.

2. يحل بعد سنة من وقت الدخول، وهو قول مكحول والأوزاعي.

أما عند القائلين بذلك من المالكية فقد اختلف في مقدار التأخير، فحكى عن ابن القاسم تأخيره إلى السنتين والأربع، وعن ابن وهب إلى السنة، وعنه إن زاد الأجل على أكثر من عشرين سنة فسخ، وعن ابن القاسم إذا جاوز الأربعين فسخ، وعنه إلى الخمسين والستين، وقال عبد

__________

(1) سبق تخريجه.

(2) المدونة:2/ 131.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (117)

الملك: وما قصر من الأجل فهو أفضل، وإن بعد لم أفسخه إلا أن يجاوز ما قال ابن القاسم، وإن كانت الأربعون في ذلك كثيرة جدا (1).

القول الرابع: الإلزام بالصداق الذي اتفق الزوجان على تأخير المطالبة به، وإن لم يسميا أجلا، فإن المؤخر لا يستحق المطالبة به إلا بموت أو الفرقة، وهو قول النخعي والشعبي والليث بن سعد (2)، وهو المنصوص عن أحمد، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم،

وهو قول الإمامية، فقد نصوا على أنه (يجوز أن يجعل المهر كله حالاً أي بلا أجل ومؤجلا أن يجعل بعضه حالاً وبعضه مؤجلاً، وذلك لأن الحق بينهما فلهما أن يتراضيا بكل ما شاءا وأرادا مضافاً إلى الأصل والإجماع والإطلاق وما روي عن الصادق ع في معتبرة رياض بن إبراهيم في الرجل يتزوج بعاجل وآجل قال: (الآجل إلى موت أو فرقة)

ومن الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول:

1. أن المطلق من العقود ينصرف إلى العرف والعادة عند المتعاقدين كما في النقد والسكة والصفة والوزن، والعادة جارية بين الأزواج بترك المطالبة بالصداق إلا بالموت أو الفراق، فجرت العادة مجرى الشرط

2. أن عقد الزواج يخالف سائر العقود، ولهذا نافاه التوقيت المشترط في غيره من العقود على المنافع، بل كانت جهالة مدة بقائه غير مؤثرة في صحته، والصداق عوضه

3.

__________

(1) انظر: مواهب الجليل:3/ 510.

(2) وله فيه رسالة كتبها إلى مالك ينكر عليه خلاف هذا القول، ومما جاء فيها: (ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر، ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله (ولا من بعدهم لامرأة بصداقها المؤخر إلا أن يفرق بينهما موت أو طلاق فتقوم على حقها. (نص الرسالة بطولها في: إعلام الموقعين:3/ 69.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (118)

4. ومقابله، فكانت جهالة مدته غير مؤثرة في صحته

5. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا) وهذا لا يتضمن واحدا من الأمرين، فإن ما أحل الحرام وحرم الحلال لو فعلاه بدون الشرط لما جاز.

6. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أحق الشرط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) (1)

7. أن تلك التقديرات المذكورة، والتي ذكرها أصحاب القول الثالث، يكفي في عدم اعتبارها عدم دليل واحد يدل عليها، ثم ليس تقدير منها بأولى من تقدير أزيد عليه أو أنقص منه، وما كان هذا سبيله فهو غير معتبر.

8. أنه عوض في معاوضة، فجاز ذلك فيه كالثمن.

9. أن المطلق يحمل على العرف، والعادة في الصداق الآجل ترك المطالبة به إلى حين الفرقة، فحمل عليه، فيصير حينئذ معلوما بذلك.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الرابع، إذا ما تراضى الأطراف على ذلك أو دل العرف عليه، بشرط أن يسلم للمرأة مهرها المعجل الذي تستحل به، أما المهر المؤجل الذي اتفقا عليه، فلا جناح في تأخيره إما إلى مدة محددة ارتضياها، أو إلى غير مدة، وحينذاك يستقر على الفرقة أو الموت، أو يمكن أن يجعل أقساطا تأخذها الزوجة في مدد محددة، ويمكن بعد ذلك أن تتنازل عنه كما تتنازل عن سائر أنواع المهور.

ونرى ـ مع عدم الدليل على استحباب أو كراهة هذا النوع من المهر ـ خضوعه استحبابا أو كراهة لمصلحة المرأة من غير ابتزازه للرجل، فإن مثل هذا النوع من المهور قد يصلح مع

__________

(1) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (119)

رجل متلاعب ذواقة يستغل عدم غلاء المهور، فيتزوج كيف يشاء ويطلق متى شاء، فيكون في هذا النوع من المهر رادعا له.

ويمكن مع هذا النوع من المهر أن تحيا سنة تيسير المهور، لأن الكثير من الأولياء يغالي في المهور خوفا على ابنته من الطلاق، فيمكن لهذه المغالاة أن ترتبط بالمهر المؤجل، بينما يقتصر المهر المعجل على الحد الأدنى الذي يصح به الزواج، فنكون بذلك قد أحيينا السنة وقطعنا الطريق على المتلاعبين.

ويمكن لهذا النوع من المهر كذلك أن يحفظ حقوق المرأة وأولادها بعد الطلاق، فلا تضيع ولا تشرد، وذلك إذا ما شرطت عليه دارها كمهر مؤجل يتم استيفاؤه بالموت أو الطلاق، وليس في ذلك أي حرج شرعي كما قد يتصور البعض، لأن تشرد الرجل في الشارع أولى وأقل مفسدة من تشرد المرأة وأولادها.

والمصالح في ذلك كثيرة، قصدها الشرع بإطلاق القول في مثل هذا وعدم تحريمه، وقد يقال بعد هذا: فلماذا مع كل هذه المصالح لم يرد دليل واحد على الاستحباب، والإجابة على ذلك: أن النص على الاستحباب عادة يكون على المصالح المحضة، أما المصالح التي قد تختلط بالمفاسد، فإن أمر التمييز يبقى خاضعا للظروف والأعراف والأحوال، فما ذكرناه من مصالح ينسجم مع واقعنا البعيد في كثيرمن أخلاقياته عن المجتمع المسلم المثالي، أما في عهده صلى الله عليه وآله وسلم فكان الأمر مختلفا.

أما المفاسد التي قد تكتنف ما ذكرنا من مصالح، فهو استغلال المرأة تقييدها الرجل بالمهر المؤجل، فتتخلى عما طلب منها من أمور الزوجية وحقوقها، لأن الزوج صار في عصمتها، وقد ذكر ابن القيم بعض عيوب هذا النوع من الصداق، وخاصة على القول بحبس الزوج في حال عدم الوفاء بما شرط عليه، وهو يشير بذلك إلى التطبيق السيئ لهذا النوع من الصداق: (ومن حين سلط النساء على المطالبة بالصدقات المؤخرة، وحبس الأزواج عليها،

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (120)

حدث من الشرور والفساد ما الله به عليم، وصارت المرأة إذا أحست من زوجها بصيانتها في البيت، ومنعها من البروز، والخروج من منزله والذهاب حيث شاءت تدعي بصداقها، وتحبس الزوج عليه، وتنطلق حيث شاءت، فيبيت الزوج ويظل يتلوى في الحبس، وتبيت المرأة فيما تبيت فيه) (1)

وهذا الخطر يشير إلى ضرورة التوثيق الصحيح لمثل هذا النوع من المهر، لأن ابن القيم أشار بهذا إلى ما يكون التحديد فيه مفوضا للزوجة بدون تقييد.

ولكنه مع ذلك، فإن لهذه المفسدة حلولها الشرعية التي أشرنا إليها في الشروط المقيدة للعقد، فيمكن لتلك الشروط أن تضمن مصالح الرجل كما تضمن مصالح المرأة.

3 ـ تفويض المهر

يقصد بالتفويض في الزواج أمران:

تفويض البضع: وهو الذي ينصرف إليه إطلاق التفويض في الزواج، والمراد منه تفويض أمر زواجها.

تفويض المهر: وهو أن يجعل الصداق إلى رأي أحدهما، أو رأي أجنبي، فيقول: زوجتك على ما شئت، أو على حكمك أو على حكمي، أو حكمها، أو حكم أجنبي، ونحوه.

أو هو السكوت عن تعيين الصداق حين العقد، ويفوض ذلك إلى أحد الزوجين أو إلى غيرهما.

وعرفه ابن عرفة بأنه: عقد دون تسمية مهر ولا إسقاطه ولا صرفه لحكم أحد (2).

__________

(1) الطرق الحكمية:58.

(2) شرح حدود ابن عرفة:171.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (121)

وقد فرق في هذا بين التفويض والتحكيم، فالقدر المشترك بينهما وهو عدم ذكر المهر، أما في التفويض فلا يصرف تعيينه لحكم أحد، وفي التحكيم يصرف تعيينه لحكم أحد كما إذا تزوج امرأة على حكم فلان فيما يعينه من مهرها (1).

وقد أجمع العلماء على جواز زواج التفويض، واستدلوا على ذلك بما يلي (2):

1. قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (البقرة:236)

2. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في بروع بنت واشق، وكان زوجها مات، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها صداقا، فجعل لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط (3).

3. أن القصد من الزواج الوصلة والاستمتاع دون الصداق، فصح من غير ذكره.

__________

(1) حاشية الدسوقي:2/ 313.

(2) الأم:8/ 273، المغني:/7/ 173، مطالب أولي النهى:5/ 200، منح الجليل: 3/ 459، الموسوعة الفقهية:13/ 107.

(3) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (122)

الفصل الثاني

حق الزوجة في النفقة

إن أحكام النفقة كما نص عليها الفقهاء تستلزم الحديث عن النواحي التالية:

1. أحكام النفقة، والحديث فيها عن الحكم الشرعي للنفقة مع أدلته التفصيلية، ثم بعض ما يتعلق بهذا الحكم من أحكام وآثار.

2. شروط وجوب النفقة على المنفق وموانعها، لأن حكم الوجوب متعلق بالمكلف، وليس كل مكلف صالح بأن تجب عليه النفقة، ولا كل امرأة بصالحة لأن ينفق عليها.

3. أنواع النفقة ومقاديرها المختلفة، باعتبارها مادة النفقة، حتى لا يتلاعب بها، ويتحول الوجوب صوريا بعدم مراعاتها.

وهي نواح يتضمنها تساؤل يطرحه كل من يريد أن يبحث عن النفقة، فيتساءل عن حكم النفقة؟ وعلى من تجب؟ وفيم تجب؟

وهذه الأسئلة الثلاث، هي التي أفرزت هذا الفصل، وقد خصصنا للإجابة عن كل واحد منها مبحثا خاصا، ونعتذر لطول الفصل، لأن معظم المسائل فيه من المسائل المعاصرة المهمة التي يكثر السؤال عنها، وتعم بها البلوى، فلذلك كان لزاما أن لا تتركها مراعاة لقصر الفصل.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (123)

أولا ـ أحكام النفقة

ما تحتاج إليه الزوجة في معيشتها من طعام وكسوة ومسكن وخدمة وكل ما يلزم لها حسبما تعارفه الناس.

وعرفها بعض الحنفية بأنه الإدرار على شيء بما فيه بقاؤه (1).

وعرفها ابن عرفة بأنها: ما به قوام معتاد حال آدمي دون سرف (2)

1 ـ حكم النفقة على الزوجة

اتفق الفقهاء على وجوب إنفاق الزوج على زوجته، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى في شأن المطلقات: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (الطلاق:6)، قال الطبري في معنى الآية: (يقول تعالى ذكره أسكنوا مطلقات نسائكم من الموضع الذي سكنتم من وجدكم، يقول: من سعتكم التي تجدون، وإنما أمر الرجال أن يعطوهن مسكنا يسكنه مما يجدونه حتى يقضين عددهن) (3)، ودلالة الآية على وجوب النفقة وتحديدا نوعا منها، وهو السكن واضحة، لأن المطلقة قبل البينونة في حكم الزوجة، بل إنه إذا استحقت المطلقة هذا النوع من النفقة فالزوجة أولى منها بها.

2. قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6)، ووجه الاستدلال بالآية، أن النفقة إن كانت واجبة على المطلقة الحامل، فأولى من ذلك

3.

__________

(1) رد المحتار:3/ 572.

(2) خرج بالتعريف ما به قوام معتاد غير آدمي، وما ليس معتادا في حال الآدمي، لأنه ليس بنفقة شرعا، انظر: شرح ميارة:1/ 249..

(3) الطبري:28/ 145، ابن كثير:4/ 384.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (124)

4. الزوجة، وبما أن المطلقة تجب لها النفقة إجماعا، فأولى الزوجة، قال القرطبي: (أجمع أهل العلم على أن نفقة المطلقة ثلاثا أو مطلقة للزوج عليها رجعة وهي حامل واجبة) (1)

5. قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سيجعل الله بعد عسر يسرا} (الطلاق: 7) في هذه الآية نلاحظ الأمر الصريح بالإنفاق، وإلزام الزوج به، ولكنه يحيط هذا الأمر بما يوحي بيسر هذا الدين وحنيفيته، وأن الزوج لا يكلف إلا بحدود طاقته، فإذا ما رزقه الله، فلا ينبغي أن يبخل على نفسه وأهله.

6. عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة) (2)، فقد نص صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث على أنه إذا أنفق الرجل على أهله أي زوجته وأقاربه، أو زوجته ومن هم ملحقون بها، وهو يحتسبها، أي والحال أنه يقصد بها الاحتساب، وهو طلب الثواب من الله تعالى كانت له صدقة، أي يثاب عليها كما يثاب على الصدقة، والملاحظ في الحديث كما في أكثر أحاديث الترغيب ربط الجزاء بالاحتساب، وذلك يدل على أن الغافل عن نية التقرب لا تكون له صدقة، ومثله نفقته على نفسه ودابته، فإن نوى بها وجه الله تعالىأثيب، وإلا لم يثب.

7. عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: (فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتن فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن

8.

__________

(1) القرطبي:3/ 185.

(2) البخاري: 1/ 30، ابن حبان: 10/ 50، البيهقي:4/ 178، مجتبى النسائي: 5/ 69.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (125)

9. وكسوتهن بالمعروف) (1)،في هذا الحديث جمع صلى الله عليه وآله وسلم حقوق الزوجية الواجبة، ومن بينها حق الزوجة في النفقة، وفيه تصريح بالوجوب، وتعليل لسببه.

10. عن معاوية القشيري قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) (2)، وفي هذا الحديث عد لما يجب على الرجل نحو زوجته، وقد ذكر منها نفقة الطعام والكسوة، وفيه دليل على أنه لا يكلف في ذلك إلا بطاقته، فلا يطعمها إلا كما يطعم، ولا يكسوا إلا كما اكتسى، وللحديث تفاصيل أخرى نراها في محلها من هذا الجزء.

11. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك) (3)، في هذا الحديث تقديم لنفقة الأهل على كل النفقات الأخرى، وهو دليل على فضل النفقة ووجوبها، قال المناوي: (والنفقة على الأهل أعم من كون نفقتهم واجبة أو مندوبة، فهي أكثر الكل ثوابا، واستدل به على أن فرض العين أفضل من الكفاية، لأن النفقة على الأهل التي هي فرض عين أفضل من النفقة في سبيل الله، وهو الجهاد الذي هو

12.

__________

(1) مسلم:2/ 889، ابن خزيمة:4/ 251، ابن حبان: 4/ 311، الدارمي:2/ 69، البيهقي:5/ 8، أبو داود: 2/ 185، النسائي:2/ 421، ابن ماجة: 2/ 1025، أحمد: 5/ 72.

(2) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم، قال الحاكم صحيح الإسناد، وألزم الدارقطني الشيخين تخريج هذه الترجمة، خلاصة البدر المنير:2/ 253، وانظر: أبو داود: 2/ 244، النسائي: 5/ 273، البيهقي:7/ 305، أحمد: 4/ 447.

(3) مسلم: 2/ 692، البيهقي:7/ 467، أحمد: 2/ 473.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (126)

13. فرض كفاية) (1)

14. عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا) (2)، في هذا الحديث دليل على وجوب النفقة لأنه رتبها مباشرة بعد الإنفاق على النفس، مما يدل على توكيدها، قال النووي: (في هذا الحديث فوائد منها الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب، ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد، ومنها أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة ولا ينحصر في جهة بعينها) (3) ويوضح الجانب من هذا الحديث الحديث التالي:

15. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تصدقوا، قال: رجل عندي دينار، قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على زوجتك قال: عندي دينار آخر، قال: تصدق به على ولدك قال: عندي دينار آخر قال تصدق به على خادمك، قال عندي دينار آخر قال: أنت أبصر به (4)، وفي هذا الحديث تعليم منه صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه لكيفية تنظيم المصاريف حتى لا يطغى جانب عل جانب.

16.

17.

__________

(1) فيض القدير:3/ 536.

(2) مسلم: 2/ 692، ابن حبان:8/ 128، البيهقي:4/ 178، النسائي:2/ 37.

(3) شرح النووي على مسلم:7/ 83.

(4) ابن حبان: 8/ 126، النسائي: 2/ 34، مجتبى النسائي: 5/ 62، أحمد: 2/ 251.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (127)

18. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت (1)) (2)، ودلالة هذا الحديث واضحة على وجوب النفقة لربطه صلى الله عليه وآله وسلم الإثم العظيم الذي يكتفى به جراء التفريط، قال المناوي: وهذا صريح في وجوب نفقة من يقوت لتعليقه الإثم على تركه، لكن إنما يتصور ذلك في موسر لا معسر، فعلى القادر السعي على عياله لئلا يضيعهم، فمع الخوف على ضياعهم، هو مضطر إلى الطلب لهم، لكن لا يطلب لهم إلا قدر الكفاية (3).

2 ـ وقت تسليم النفقة

ويختلف ذلك باختلاف نوع النفقة، وقد اتفق الفقهاء على أن الكسوة تقدم للزوجة بحسب وقتها من صيف أو شتاء كما سيأتي، واختلفوا في غير ذلك من النفقات على أقوال منها:

القول الأول: أن تسلم النفقة للزوجة يوميا، وهو قول الظاهرية، وبمثله قال الشافعية والإمامية، وقد ذهب ابن حزم إلى أنه إن تعدى من أجل ذلك وأخر عنها الغداء، أو العشاء أدب على ذلك.

ونص الشافعية على أن نفقة الزوجة وخادمها تجب بطلوع الفجر كل يوم، لأنها تستحقها يوما فيوما لكونها في مقابلة التمكين الحاصل في اليوم، فلها المطالبة بها عند طلوع الفجر، وقد نصوا على أنها تجب به وجوبا موسعا كالصلاة، أو أنه إن قدر وجب عليه التسليم لكن لا يحبس ولا يخاصم، وإذا أراد سفرا طويلا فلها مطالبته بنفقتها لمدة ذهابه ورجوعه كما

__________

(1) قاته يقوته إذا أطعمه قوتا ورجل مقوت ومقيت وأقات عليه أقاته فهو مقيت إذا حافظ عليه وهيمن ومنه وكان الله على كل شيء مقيتا، فيض القدير:4/ 552.

(2) الحاكم: 1/ 575، ابن حبان:10/ 51، البيهقي:9/ 25، أبو داود: 2/ 132، النسائي: 5/ 374، أحمد: 2/ 160.

(3) فيض القدير:4/ 552.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (128)

لا يخرج إلى الحج حتى يترك لها هذا القدر، ولو أنه هيأ ذلك إلى نائبه ليدفعه إليها يوما بيوم كفى، ولا يكلف إعطاءه لها دفعة واحدة.

ونص الإمامية ـ كما يذكر الشيخ الطوسي ـ على أن (عليه تسليمها في أول النهار من كل يوم، لئلا يضربها التأخير، وربما تجوع. فان اتفقا على أن يسلفها نفقة أكثر من ذلك بشهر أو شهرين جاز، لانه عجل الحق قبل محله كالدين، فاذا حصل ذلك نظرت فان أقامت معه حتى انقضت المدة فلا كلام، وإن بانت منه بموت أو طلاق أو غيره في التقدير في اليوم الاول لم يسترد ما قبضت ليومها لأنها قبضت ما وجب لها، بلى عليها رد ما قبضت لما بعد اليوم، لأنها قبضت ما لم تستحقه على أن يقع موقعها، فإذا لم يقع موقعها كان عليها الرد كما لو عجل الزكاة، فبان كافرا فانه يرد. وأما الكسوة فلا يمكنه أن يعطيها يوما بيوم، فاذا أعطاها لمدة ثم بانت بموت أو غيره قال قوم عليها رد الكسوة، وقال آخرون لا يسترد لانها أخذته باستحقاق بدليل أنه لو امتنع منها طولب بها، فعلم أنه باستحقاق، والاول أقوى) (1)

وقد استدل ابن حزم لهذا القول بما يلي:

1. أن من قضى لها بأكثر من نفقة المياومة، فقد قضى بالظلم الذي لم يوجبه الله تعالى، وأي حد حد - من جمعة أو شهر أو سنة - كلف البرهان على ذلك من القرآن، أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجده.

2. أن ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم، أو ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطي أزواجه كل سنة ثمانين وسقا من تمر وعشرين وسقا من شعير، فليس في هذا بيان أنه كان يدفعه إليهن مقدما.

__________

(1) المبسوط- الشيخ الطوسي (6/ 9)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (129)

القول الثاني: أن ذلك يقدر بحاله من يوم، أو جمعة، أو شهر، أو سنة، بحسب الزوج، وبحسب الوقت الذي ينال فيه أجرته، وهو قول المالكية، وقد أجاز ابن القاسم أن يفرض سنة، وقال سحنون: لا يفرض سنة، لأن الأسواق تتحول، والأسعار تتغير (1).

القول الثالث: أن وقت تسليم النفقة مهما كان نوعها هو أول وقت الحاجة، فإن اتفقا على تأخيرها جاز، لأن الحق لها في ذلك، فإذا رضيت بتأخيره جاز، وإن اتفقا على تعجيل نفقة عام أو شهر، أو أقل من ذلك أو أكثر، أو تأخيره، جاز، لأن الحق لهما، لا يخرج عنهما، فجاز من تعجيله وتأخيره ما اتفقا عليه، قال ابن قدامة: (وليس بين أهل العلم في هذا خلاف علمناه) (2)، لكن ما ذكرناه من الأقوال السابقة يشير إلى الخلاف في المسألة خاصة قول الظاهرية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن ذلك يخضع في الحالة العادية للعرف الذي تعارفوا عليه، أما في حال الخصومة في النفقة، فالعبرة بحاجتها، وبقدرة الزوج، وبنوع النفقة، وسنفصل كيفية ذلك في الأحكام القضائية المتعلقة بالنفقة.

فالقوت الأساسي تكون الحاجة إليه يومية، وهناك أقوات تحتمل التعجيل كمؤونة البيت، وهناك نفقات قد تكون سنوية كالكسوة.

وقول الإمامية والظاهرية بالمياومة مع ذلك له ناحية مصلحية معتبرة، فقد نص على أنه لو تطوع الزوج بتعجيل النفقة قبل موعدها دون قضاء قاض، فتلف بغير عدوان منها، فإن عليه نفقتها ثانية، وكسوتها ثانية، لأنها لم تتعد، فلا شيء عليها وحقها باق قبله، إذ لم يعطه إياها بعد.

__________

(1) منح الجليل:4/ 396.

(2) المغني: 8/ 161.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (130)

وهي ناحية مهمة، فالعبرة بتوفير حاجة الزوجة اليومية، أما أن تكلف بضمان التالف وحراسته، ثم عقوبتها بالحرمان من النفقة في حال التلف، فإن فيه مضرة بالغة عليها.

3 ـ حكم رد النفقة المعجلة عند زوال الموجب

اختلف الفقهاء فيما لو عجل لها نفقة شهر أو عام، ثم طلقها، أو ماتت قبل انقضائه، أو بانت بفسخ أو إسلام أحدهما أو ردته، فهل له أن يسترجع نفقة سائر الشهر أم لا؟ على قولين:

القول الأول: له أن يسترجع نفقة سائر الشهر، وهو قول الإمامية والشافعية والحنابلة بشرط أن يعلمها أنها نفقة الشهر، فإن لم يعلمها لا يسترجع نفقته، لأنه تبرع بدفع ما لا يلزمه من غير إعلام الآخذ بتعجيله، فلم يرجع به، كمعجل الزكاة، بل ذهب ابن حزم إلى أنه (إن أعطاها أكثر من حقها، فماتت، أو طلقها ثلاثا، أو طلقها قبل المسيس، أو أتمت عدتها وعندها فضل يوم أو غداء أو عشاء قضي عليها برده إليه، لأنه ليس من حقها قبله، وإنما جعله عندها عدة لوقت مجيء استحقاقها إياه، فإذا لم يأت ذلك الوقت ولها عليه نفقة فهو عندها أمانة، ولا ظلم أكثر من أن لا يقضى عليها برد ما لم تستحقه قبله) (1)

واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أنه سلم إليها النفقة سلفا عما يجب في الثاني، فإذا وجد ما يمنع الوجوب، ثبت الرجوع، كما لو أسلفها إياها فنشزت، أو عجل الزكاة إلى الساعي فتلف ماله قبل الحول.

2. أنها عوض عن التمكين، وقد فات التمكين.

القول الثاني: ليس له أن يسترجع نفقة سائر الشهر، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، واستدلوا على ذلك بأنها صلة، فإذا قبضتها، لم يكن له الرجوع فيها، كصدقة التطوع.

__________

(1) المحلى: 10/ 90.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (131)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن حكم المسألة يتغير بحسب حال المنفق، وحال المنفق عليها، والسبب المفرق بينهما والذي قيل بموجبه بلزوم الرد، ونوع النفقة التي يطالب الزوج بردها، ولكنه في الأحوال العادية العامة نرى أن المرأة إذا كان لها مسكن خاص، أي ليست مرتبطة في نفقها بغيرها من أهل الزوج، ثم قيل لها هذه نفقتك مثلا، فإنه من الحرج الشديد مطالبتها بها بعد حصول الفراق، لأن النفقة وإن كان ظاهرها معاوضة منفعة المرأة بها، فتزول بزوال المنفعة إلا أنها أقرب إلى الصلة منها إلى المعاوضة، بل نرى من الخطأ التعامل مع حقوق الزوجية بمثل التعامل مع المعاوضات المالية، فلا جامع بينهما أصلا حتى يصح القياس بينهما.

4 ـ صفة وجوب النفقة

اتفق الفقهاء على أن المسكن إمتاع للزوجة وليس تمليكا لها، واختلفوا في سائر أنواع النفقات، هل هي تمليك للزوجة أم إمتاع لها على قولين:

القول الأول: أنها إمتاع للمرأة، وليست تمليكا، ولا يجب أن يفرض لها شيئا، بل يطعمها ويكسوها بالمعروف، وهو آراء وتوجيهات في المذاهب الفقهية المختلفة، وبحسب نوع النفقة:

فالشافعية ـ مثلا ـ نصوا في الشراب على أنه إمتاع لا تمليك، قال في أسنى المطالب: (يكون إمتاعا لا تمليكا، حتى لو مضت عليه مدة، ولم تشربه لم تملكه، وإذا شرب غالب أهل البلد ماء ملحا وخواصها عذبا وجب ما يليق بالزوج) (1)، ثم قال (ومقتضى كلام الشيخين وغيرهما أنه تمليك)

وهو قول ابن حزم في مستلزمات الفراش، واستدل على ذلك بأن عليه إسكانها، وذلك يقتضي أن عليه من الفرش والغطاء ما يكون دافعا لضرر الأرض عن الساكن فهو له، لأن ذلك

__________

(1) أسنى المطالب:3/ 427.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (132)

لا يسمى كسوتها، ثم استدل لذلك بنص صريح في المسألة وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهونه) (1)، فنسب صلى الله عليه وآله وسلم الفرش إلى الزوج فواجب عليه أن يقوم لها به، وهو للزوج لا تملكه هي.

وقد ورد مثل هذا الخلاف في بعض المسائل عند الحنابلة (2)، وقد رجحه ابن تيمية (3)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن هذه عادة المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفائه، لا يعلم قط أن رجلا فرض لزوجته نفقة، بل يطعمها ويكسوها، وإذا كان كذلك كان له ولاية الإنفاق عليها، كما له ولاية الإنفاق على سائر من تجب نفقته.

2. النصوص الدالة على سيادة الزوج، ومنها قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء:34)، ولهذا أباح الله للرجل بنص القرآن أن يضربها، وإنما يؤدب غيره من له عليه ولاية، قال زيد بن ثابت: (الزوج سيد في كتاب الله وقرأ قوله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (يوسف:25)، وقال عمر بن الخطاب: (النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته)، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، وإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) (4) فقد أخبر أن المرأة عانية عند الرجل، والعاني الأسير وأن الرجل أخذها بأمانة الله، فهو مؤتمن عليها.

3.

4.

__________

(1) سبق تخريجه.

(2) الإنصاف:9/ 373.

(3) الفتاوى الكبرى:3/ 379.

(4) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (133)

5. النصوص التي قرنت نفقة الزوجة بالمماليك، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، ومثله قال المملوك: (وكسوته بالمعروف)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (حقها أن تطعمها إذ طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت) كما قال في المماليك: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس) (1)

القول الثاني: أنها تمليك لها بحسب الحاجة إليها، وهو ظاهر قول جمهور العلماء، قال في أسنى المطالب: (كيفية الإنفاق في هذه الواجبات وكل ما يستهلك كطعام وأدم وطيب يستحق تمليكه لها بأن يسلمه له بقصد أداء ما لزمه، كسائر الديون من غير افتقار إلى لفظ وكذا الكسوة والفرش والآلة أي آلة الطعام والشراب والتنظيف كمشط ودهن واعتبر في ذلك التمليك) (2)

وبمثله قال الإمامية، فقد قسموا النفقة إلى أقسام ثلاثة، وهي:

الأول ـ ما يكون على وجه التمليك بلا خلاف، مثل: الطعام والصابون ونحوهما مما يتوقف الانتفاع به على استهلاكه وإتلافه.

الثاني ـ ما يكون على وجه الإمتاع بلا خلاف أيضاً، مثل: المسكن والخادم ونحوهما مما علم من الأدلة عدم اعتبار كونها ملكاً في إنفاقهن، بل الواجب إنما هو إسكان الزوجة وإن لم يكن ملكاً لها، بل ولا ملكاً للزوج، كما إذا استأجر لها مسكناً.

الثالث ـ ما وقع الخلاف فيه بين الفقهاء في كونه من التمليك أو الإمتاع، مثل الكسوة وآلات الطبخ والتنظيف، كالمشط ونحوه مما لا يستهلك بمجرد الا نتفاع به، بل يبقى إلى مدة ثم يستهلك، فهم بين قائل بالتمليك، وقائل بالامتاع، أو متوقف فيه (3).

__________

(1) البخاري: 1/ 20، أحمد: 5/ 161، شعب الإيمان: 6/ 371.

(2) أسنى المطالب:3/ 430.

(3) الروضةالبهية، ج 5، ص 472.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (134)

وهو ظاهر قول ابن حزم في الكسوة، فقد قال فيها: (أما الكسوة - فإنها إذا وجبت لها فهي حقها، وإذ هو حقها فهو لها، فسواء ماتت إثر ذلك أو طلقها ثلاثا، أو أتمت عدتها، أو طلقها قبل أن يطأها: ليس عليها ردها، لأنه لو وجب عليها ردها لكانت غير مالكة لها حين تجب لها - وهذا باطل. وكذلك لو أخلقت ثيابها أو أصابتها وليست من مالها فهي لها، فإذا جاء الوقت الذي يعهد في مثله إخلاق تلك الكسوة فهي لها، ويقضى لها عليه بأخرى - فلو امتهنتها ضرارا أو فسادا حتى أخلقت قبل الوقت الذي يعهد فيه إخلاق مثلها فلا شيء لها عليه، إنما عليه رزقها وكسوتها بالمعروف والمعروف هو الذي قلنا)

واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أنه من المعاشرة بالمعروف.

2. القياس على الكسوة في الكفارة، لأن الله تعالى جعل كسوة الأهل أصلا للكسوة في الكفارة كالطعام، والكسوة تمليك منها فوجب هنا مثله بخلاف المسكن فإنه إمتاع، لأنه لمجرد الانتفاع كالخادم، ولأن الزوج يسكنه بخلاف تلك الأشياء فإنها تدفع إليها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة الجمع بين القولين، فكلاهما له ناحية حق يرجح على أساسها، ففي الحالة العادية التي لا تقع فيها الخصومة بين الزوجين بسبب النفقة، وهو معظم أحوال الناس لا حق للمرأة بالمطالبة بتمليك النفقة لأنها تتمكن منها كلما احتاجت إليها.

أما في حال الخصومة، أو حال شح الزوج على زوجته بالنفقة أو مضارته لها بذلك، فإن الأرجح في هذه الحال هو تمليكها النفقة بمقاديرها التي نص عليها العلماء، والتي سنتكلم عنها عند الحديث عن أنواع النفقة ومقاديرها.

ولعل كلا الفريقين نظر إلى المسألة من ناحية من النواحي فقال بقوله نتيجة له، ويكون الخلاف بذلك صوريا.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (135)

وقد نص على هذا الجمع بين التمكين والتمليك السرخسي في قوله: (طريق إيصال النفقة إليها شيئان التمكين أو التمليك، حتى إذا كان الرجل صاحب مائدة وطعام كثير، تتمكن هي من تناول مقدار كفايتها، فليس لها أن تطالب الزوج بفرض النفقة، فإن لم يكن بهذه الصفة فخاصمته في النفقة، فرض لها عليه من النفقة كل شهر ما يكفيها بالمعروف، لأن النفقة مشروعة للكفاية. فإنما يفرض بمقدار ما يعلم أنه تقع به الكفاية. ويعتبر المعروف في ذلك، وهو فوق التقتير ودون الإسراف، لأنه مأمور بالنظر من الجانبين وذلك في المعروف، وكذلك يفرض لها من الكسوة ما يصلح لها للشتاء والصيف فإن بقاء النفس بهما وكما لا تبقى النفس بدون المأكول عادة لا تبقى بدون الملبوس عادة والحاجة إلى ذلك تختلف باختلاف الأوقات والأمكنة فيعتبر المعروف في ذلك.) (1)

ومع ذلك فإن الخلاف له بعض الثمار العملية كاختلافهم في الكسوة إذا انقضت السنة، وهي صحيحة فهل عليه كسوة السنة أم لا يلزمه، قال المرداوي نقلا عن الرعاية: (إن قلنا هي تمليك: لزمه. وإن قلنا إمتاع: فلا، كالمسكن وأوعية الطعام والماعون والمشط) (2)، وقال السرخسي: (إن أخذت الكسوة ورمت بها حتى جاء الوقت وقد بقيت تلك الكسوة عندها يفرض لها كسوة أخرى، لأنها لو لبست لتخرق ذلك فبأن لم تلبس لا يسقط حقها، ويجعل تجدد الوقت كتجدد الحاجة) (3)

ونفس الخلاف يجري في عكس هذه المسألة، وهو ما لو بليت قبل ذلك، لكثرة استعمالها، فإنه على القول بالتمليك لا يلزمه إبدالها، لأنه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في العرف (4

__________

(1) المبسوط:5/ 181.

(2) الإنصاف:9/ 373.

(3) المبسوط:5/ 183.

(4) انظر: المغني:8/ 162.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (136)

وقد علل ذلك السرخسي بقوله: (ذا أعطاها كسوة فعجلت تمزيقها، أو هلكت منها لم يكن عليه أن يكسوها حتى يأتي الوقت، لما بينا أن أحوال الناس تختلف في صيانة الثياب وتمزيقها فيتعذر تعليق الحكم بحقيقة تجدد الحاجة فيقام الوقت مقامه تيسيرا فما لم يأت الوقت لا تتجدد الحاجة فلا يتجدد سبب الوجوب لها، فلم يكن لها أن تطالبه بشيء.) (1)

ومثل ذلك في سائر أنواع النفقات، والقائلون بالتمليك يوجبون على الزوجة نفقة جديدة ـ خلافا للقائلين بالتمكين ـ إذا أخذت المرأة نفقة شهر فلم تنفقها، ثم جاء الشهر الثاني وهي معها، فلها أن تطالبه بنفقة الشهر الثاني، وهذا خلافا لقولهم في نفقة الأقارب، وقد بين الكرابيسي الفرق بينهما بقوله: (والفرق أنها استغنت بما عندها عن مال الزوج، ونفقة الزوجة تجب مع الغنى، فجاز أن تجب، وليس كذلك نفقة ذوي الأرحام، لأنه استغنى بما عنده عن مال القريب، ونفقة ذوي الأرحام لا تجب مع الغنى، كما لو كان غنيا في الأصل) (2)

والأرجح في هذه الحالة القول بالتمكين إلا أن يكون ميسور الحال فيستحب الإحسان إلى زوجته بالتوسيع في النفقة، بغض النظر عن الحاجة التي قد تدعو إلى ذلك، أما الأخذ بقول من يرى التمليك فإن فيه مشقة كبيرة، لأن الزوج ملزم بكسوة كاملة للشتاء، وكسوة مثلها للصيف كل سنة، ومثل ذلك قد لا يطيقه الكثير من الناس في كثير من المجتمعات.

5 ـ كيفية تفادي التقصير في النفقة

__________

(1) المبسوط:5/ 196.

(2) الفروق:1/ 135.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (137)

اختلف الفقهاء فيمن ترك الإنفاق الواجب لزوجته مدة، هل يسقط بذلك، أو يبقى ذلك التقصير دينا في ذمته على قولين (1):

القول الأول: أنه لا يسقط بذلك، بل يبقى دينا في ذمته سواء ترك النفقة لعذر أو غير عذر، ودين النفقة يتغير بتغير حال الزوج من اليسر والإعسار، فإن ترك الإنفاق عليها مع يساره، فعليه النفقة بكمالها، وإن تركها لإعساره، لم يلزمه إلا نفقة المعسر، لأن الزائد سقط بإعساره، وهو قول الحسن ومالك، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر ورواية عند الحنابلة، وهو قول الإمامية (2)، ومن الأدلة ذلك:

1. أنها حق يجب مع اليسار والإعسار، فلم يسقط بمضي الزمان، كأجرة العقار والديون.

2. أنه لا يوجد دليل يضاهي الأدلة التي ثبتت بها النفقة، قال ابن المنذر: (هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع، ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها) (3)

3. أنه لا يصح قياسها على نفقة الأقارب، لأنها عوض واجب فأشبهت الأجرة، واختلفت عن نفقة الأقارب لأنها صلة يعتبر فيها اليسار من المنفق والإعسار ممن تجب

4.

__________

(1) انظر: المغني: 8/ 166، فتح القدير: 4/ 394، أسنى المطالب:3/ 42، مواهب الجليل: 4/ 202، تحفة المحتاج 8/ 335.

(2) فقد نصوا على أنه إذا لم تحصل الزوجة على النفقة الواجبة لها كلاً أو بعضاً كماً أو كيفاً؛ لفقر الزوج أو امتناعه بقي ما لم تحصله منها ديناً في ذمته، فلو مات أخرج من أصل تركته كسائر ديونه، ولو ماتت انتقل الى ورثتها كسائر تركتها، سواء طالبته بالنفقة في حينه أو سكتت عنها وسواء قدرها الحاكم وحكم بها أم لا، وسواء عاشت بالعسر أو أنفقت هي على نفسها ـ باقتراض أو بدونه ـ أو انفق الغير عليها تبرعاً من نفسه، ولو انفق الغير عليها ديناً على ذمّة زوجها مع الاِستيذان في ذلك من الحاكم الشرعي اشتغلت له ذمّة الزوج بما انفق، ولو انفق عليها تبرعاً عن زوجها لم تشتغل ذمّة الزوج له ولا للزوجة. [منهاج الصالحين للسيد السيستاني، ج 3]

(3) المغني: 8/ 166.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (138)

5. له، وهي وقتية فإذا مضى زمنها استغنى عنها بخلاف النفقة على الزوجة.

القول الثاني: تسقط نفقتها إلا إذا كان الحاكم قد فرضها لها، وهو قول أبي حنيفة ورواية عند الحنابلة وروي عن مالك (1)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعذر عليه نفقة أهله أياما حتى سألنه إياها، ولم يقل لهن: هي باقية في ذمتي حتى يوسع الله وأقضيكن، ولما وسع الله عليه لم يقض لامرأة منهن ذلك، ولا قال لها: هذا عوض عما فاتك من الإنفاق.

2. أن مثال هذه المرأة كرجل حاز دارا متصرفا فيها مدة طويلة، وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، ثم جاء بعد تلك المدة إنسان كان حاضرا يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، دون أن يعارضه فيها، ولا مانع يمنعه من خوف أو شركة في ميراث، ونحو ذلك، فادعاها لنفسه، فدعواه غير مسموعة فضلا عن إقامة بينته، فكذلك إذا كانت المرأة مع الزوج مدة سنين يشاهده الناس والجيران داخلا بيته بأنواع النفقة، ثم ادعت بعد ذلك أنه لم ينفق عليها في هذه المدة، فدعواها غير مسموعة، فضلا عن أن يحلف لها، أو يسمع لها بينة.

3. أن نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها، فتسقط، كنفقة الأقارب.

4. أن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة مرفوضة غير مسموعة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التفصيل بين الحالة العادية، حين تدعي الزوجة نفقة ماضية على زوجها المعسر، وتطالبه بالوفاء بها مع إعساره، فإن الأرجح في هذه الحالة هو القول بعدم وجوب الوفاء بذلك.

__________

(1) وهو الأصل عنده لأنه لا يسمع الدعوى التي يكذبها العرف والعادة، ولا يحلف عنده فيها، ولا يقبل فيها بينة، انظر: إعلام الموقعين:3/ 273.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (139)

أما إن كان الزوج ميسور الحال، ومنعها حقها من النفقة مع قدرته على ذلك، فإن حق الماضي لا يسقط بالتقادم إلا إذا سمحت فيه الزوجة.

وقد قال بهذا التفصيل، وجمع به بين القولين ابن القيم، فقال: (إن الأزواج إذا امتنعوا من الواجب عليهم مع قدرتهم عليه لم يسقط بالامتناع ولزمهم ذلك، وأما المعذور العاجز فلا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه جعل النفقة دينا في ذمته أبدا)، وعقب على ذلك بقوله: (وهذا التفصيل هو أحسن ما يقال في هذه المسألة) (1)

6 ـ من يعتبر في النفقة

اختلف الفقهاء في من يراعى في النفقة، هل الزوج أو الزوجة أو هما جميعا على الأقوال التالية (2):

القول الأول: الاعتبار بحال الزوج وحده من يسره وعسره، ولا يعتبر بحالها وكفايتها، فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس، فإن كان الزوج موسرا لزمه مدان وإن كان متوسطا فمد ونصف، وإن كان معسرا فمد، وهو قول الشافعية، وبمثله قال الإمامية، قال الشيخ الطوسي: (نفقة الزوجات معتبرة بحال الزوج لا بحالها فان كان موسرا فعليه مدان في كل يوم وان كان متوسطا متجملا فعليه مد ونصف وإن كان معسرا فقدر المد) (3)

واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قول الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق:7)، فجعل الاعتبار بالزوج في

2.

__________

(1) إعلام الموقعين: 3/ 274.

(2) المغني: 8/ 156.

(3) المبسوط- الشيخ الطوسي: 6/ 5.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (140)

3. اليسر والعسر دونها.

4. قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 236)

5. أن الاعتبار بكفايتها، لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره، فيؤدي إلى الخصومة لأن الزوج يدعي أنها تلتمس فوق كفايتها، وهي تزعم أن الذي تطلب تطلبه قدر كفايتها، فلذلك كان الأصلح تقديرها قطعا للخصومة.

القول الثاني: يعتبر حال المرأة على قدر كفايتها، وهو قول أبي حنيفة ومالك، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة:233)، والمعروف الكفاية، ولأنه سوى بين النفقة والكسوة، والكسوة على قدر حالها، فكذلك النفقة.

2. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). فاعتبر كفايتها دون حال زوجها.

3. أن ما استدل به المخالفون من الآيات التي تجعل النفقة بحسب حال الزوج لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغني والفقير، وأنها تختلف بعسر الزوج ويسره، وهو مسلم، أما أنه لا اعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيها ذلك.

4. أن الشرع علق ذلك بالمعروف في حقهما، وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة.

5. أن ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف والآية لا تقتضيه.

6. أن نفقتها واجبة لدفع حاجتها، فكان الاعتبار بما تندفع به حاجتها، دون حال من وجبت عليه، كنفقة المماليك، ولأنه واجب للمرأة على زوجها بحكم الزوجية لم يقدر، فكان معتبرا بها، كمهرها وكسوتها.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (141)

القول الثالث: أن نفقتها معتبرة بحال الزوجين جميعا؛ فإن كانا موسرين، فعليه لها نفقة الموسرين، وإن كانا معسرين، فعليه نفقة المعسرين، وإن كانا متوسطين، فلها عليه نفقة المتوسطين، وإن كان أحدهما موسرا، والآخر معسرا، فعليه نفقة المتوسطين، أيهما كان الموسر، وهو قول الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. الجمع بين الأدلة السابقة من حيث رعاية الدليل النقلي.

2. رعاية كلا الجانبين من حيث المصلحة الشرعية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن العبرة بحال الزوج يسرا وعسرا لصراحة النصوص الدالة على ذلك، وهو مقتضى جميع الأحكام الشرعية لأنها مناطة بالقدرة {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق:7)

أما اعتبار حال الزوجة، فإنه قد ينتح عنه تفرقة نهى عنها الشرع، وهو يعني أن المرأة الفقيرة في بيت والديها تبقى فقيرة دائما، ولو زوجت بميسور الحال، والغنية غنية أبدا، ولو زوجت بفقير، بل يفرض على الفقير أن يقدم فوق طاقته ليحافظ لها على مستوى معيشتها التي ربيت عليها، فإن أخل في ذلك حاكمته عند القاضي الذي يسأل عن حالها قبل الزواج ليفرض لها ما تمليه طبقتها الاجتماعية.

إن في هذا وأمثاله من الأحكام تكريس للطبقية التي نهى عنها الإسلام، لا في فروعه التشريعية، بل حتى في أصوله العقدية.

ولنقرأ هذا النص الذي يتردد مثله في كتب الفقه والتفسير وغيرها، وكأنه حقيقة مسلمة، والأدهى من ذلك أن يستدل لها بالقرآن الكريم مع أن القرآن كله رد عليها، جاء في القرطبي عن بعض الفقهاء قولهم: (لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية، ثم طلقها قبل المسيس ولم يسم لهما يكونان متساويتين في المتعة،

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (142)

فيجب للدنية ما يجب للشريفة، وهذا خلاف ما قاله الله تعالى: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:236) ويلزم منه أن الموسر العظيم اليسار إذا تزوج امرأة دنية أن يكون مثلها) (1)

وقد رد ابن حزم على هذا التفريق بين المؤمنين، بحدة وغضب، وكأننا نبصرهما يفوحان من كل كلمة من كلماته، فقال: (ما علمنا الدناءة إلا معاصي الله تعالى، وأما السوداء، والمولاة فقد كانت أم أيمن سوداء ومولاة، ووالله ما بعد أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأمة امرأة أعلى قدرا عند الله تعالى وعند أهل الإسلام كلهم منها، وأما الفقيرة، فما الفقر دناءة، فقد كان في الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الفقير الذي أهلكه الفقر، وهم أهل الشرف والرفعة حقا، وقد كان قارون، وفرعون، وهامان من الغنى بحيث عرف - وهم أهل الدناءة والرذالة حقا - وأما النبطية، فرب نبطية لا يطمع فيها كثير من قريش ليسارها، وعلو حالها في الدنيا، ورب بنت خليفة هلكت فاقة وجهدا وضياعا) (2)

ويكفي للرد على مثل هذا القول أن يقال: لو أن رجلا تزوج نسوة مختلفات في أحوالهن يسارا وعسرا، فكيف ينفق عليهن، أيطعم بعضهن القمح والشعير كما هو فرض الفقيرة، بينما تتمتع الموسرات بأصناف الطعام، ويلبس بعضهن الوبر والصوف، وتلبس الأخريات الديباج والحرير، وللأسف نرى أن مثل هذا قد قيل ـ كما سنرى في الفصول القادمة إن شاء الله ـ وهو يتنافى تماما مع العدل الذي فرضه الله تعالى بين الزوجات، ويحتج هؤلاء بأن هذا هو المعروف الذي نص عليه في القرآن الكريم، ولسنا ندري ما المعروف، هل هو المعروف عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أم المعروف عند من قصر في دين الله وفرط.

__________

(1) القرطبي:3/ 202.

(2) المحلى:9/ 34.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (143)

ثم إن المرأة التي تزوجت بالرجل، وهي تعلم حاله من العسر يفرض عليها وفقا لموافقتها ورضاها بالزواج به أن تصبر معه على إعساره، فإن طرأ عليه الإعسار فذلك أشد في طلب الصبر، وهو ما يدعو إليه الشرع بجانبيه التوجيهي والتشريعي.

أما القول الثالث، فهو كالقول الأول يحمل عنصرية بالنسبة للمرأة، وتكليفا بالنسبة للرجل، وكلاهما نهى عنه الشرع.

7 ـ الآثار العملية لوجوب النفقة على الزوجة

من الآثار التي تنتج عن القول بوجوب النفقة للزوجة ما نتحدث عنه في المسائل التالية:

أ ـ أخذ المرأة من مال زوجها عند تقصيره في النفقة

اتفق الفقهاء على أنه إذا لم يدفع الزوج إلى امرأته ما يجب لها عليه من النفقة والكسوة، أو دفع لها أقل من كفايتها، فلها أن تأخذ من ماله الواجب أو تمامه، بإذنه وبغير إذنه واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. ما روي في الحديث أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) (1) والحديث دليل على أنه يجوز لمن وجبت له النفقة شرعا على شخص أن يأخذ من ماله ما يكفيه إذا لم يقع منه الامتثال وأصر على التمرد (2).

2. أنه موضع حاجة، فإن النفقة لا غنى عنها، ولا قوام إلا بها، فإذا لم يدفعها الزوج ولم

3.

__________

(1) البخاري:2/ 769، 5/ 2052، البيهقي:7/ 466، النسائي:5/ 378، المجتبى:8/ 246، ابن ماجة:2/ 769، أحمد:6/ 39..

(2) نيل الأوطار:7/ 131، وفي الحديث فوائد كثيرة تتعلق بالنفقات، ولهذا سيكثر الاستدلال به في هذا الفصل، انظر في عد فوائده: فتح الباري:9/ 510، 13/ 139، تحفة الأحوذي:4/ 400.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (144)

4. تأخذها، أفضى إلى ضياعها وهلاكها.

5. أن النفقة تتجدد بتجدد الزمان شيئا فشيئا، فتشق المرافعة إلى الحاكم، والمطالبة بها في كل الأوقات.

6. أن نفقة الزوجة تسقط بفوات وقتها عند بعض العلماء، ما لم يكن الحاكم فرضها لها، فلو لم تأخذ حقها أفضى إلى سقوطها، والإضرار بها.

ب ـ إنفاق الزوجة الغنية على زوجها المعسر

اختلف الفقهاء في وجوب إنفاق الزوجة الغنية على زوجها في حال إعساره على قولين:

القول الأول: لا يجب عليها ذلك، فإن فعلت وجب عليه أن يرد ما أنفقت عليه في حال يساره إلا إذا تطوعت به، وهو قول جماهير العلماء، خلافا لابن حزم، فقد نص المالكية ـ مثلا ـ على أن المرأة لا يلزمها أن تنسج ولا أن تغزل ولا أن تخيط للناس بأجرة وتدفعها لزوجها ينفقها، لأن هذه الأشياء ليست من أنواع الخدمة، وإنما هي من أنواع التكسب، وليس عليها أن تتكسب له إلا أن تتطوع بذلك، ولو كانت عادة نساء بلدها جارية بالنسج والغزل (1)

قال المتيطي: لم يختلف قول مالك إن الرجل إذا أكل مال زوجته وهي تنظر ولا تغير، أو أنفقت عليه ثم طلبته بذلك، أن ذلك لها، وإن كان عديما في حال الإنفاق، ويقضى لها عليه بعد يمينها أنها لم تنفق، ولا تتركه يأكل إلا لترجع عليه بحقها، ومن المدونة: إن أنفقت عليه في ذاته وهو حاضر مليء أو معدم، فلها اتباعه بذلك إلا أن يرى أن ذلك معنى الصلة (2).

والدليل على ذلك ما ذكر سابقا من أن النفقة حق على الزوج لزوجته، وهو وجوب عام يشمل الزوج معسرا أو موسرا، للزوجة غنية أو فقيرة.

__________

(1) حاشية الدسوقي:2/ 510.

(2) التاج والإكليل:5/ 560.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (145)

القول الثاني: أن على الزوجة الإنفاق على زوجها في حال إعساره إذا كانت غنية، ولا ترجع عليه بشيء من ذلك إن أيسر، وقد انفرد بهذا القول ابن حزم على ما نص عليه الصنعاني والشوكاني (1)، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (البقرة:233)، ووجه استدلاله بالآية أن الزوجة وارثة فلذلك عليها نفقته بنص القرآن الكريم (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن النفقة واجبة على الزوج لزوجته، لأن له حق القوامة عليها، ومع ذلك يستحب للزوجة أن تنفق على زوجها في حال حاجته، من دون أن تطالبه بعد ذلك بإرجاع ما أنفقته عليه، لأن بيت الزوجية مشترك بينهما، فلا مال لأحدهما ينفرد به عن الآخر.

وفي نفس الوقت يستحب للزوج أن يعف عن مال زوجته، فإن احتاج إليه وأنفق منه لضرورة من الضرورات، فإن حسن العشرة تدعوه إلى أن يرجع لها حقها إما في صورته المالية التي أخذها، أو على الأقل في صورة هدايا يصلها بها، إن علم عدم مطالبتها بما أنفقته عليه.

ج ـ سجن من لم ينفق على زوجته

اختلف الفقهاء في سجن القاضي للزوج في حال عدم الوفاء بنفقة زوجته على قولين (3):

__________

(1) سبل السلام:2/ 328، نيل الوطار:6/ 384.

(2) المحلى:9/ 254.

(3) المدونة: 4/ 60، المنتقى: 5/ 81، الفتاوى الكبرى: 5/ 397، الطرق الحكمية: 58، الفروع: 4/ 293، الجوهرة النيرة: 1/ 246، التاج والإكليل: 6/ 616.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (146)

القول الأول: حبس الرجل في نفقة زوجته، وهو قول الحنفية، فقد نصوا على أن للقاضي أن يحبسه شهرين، أو ثلاثة ليسأل عن حاله فإن لم ينكشف له مال خلى سبيله، وقيل: ما بين أربعة أشهر إلى ستة أشهر، والأصح عندهم أن هذا ليس بتقدير وإنما هو على حال المحبوس، فمن الناس من يضجره الحبس القليل، ومنهم من لا يضجره الكثير فوقف ذلك على رأي الحاكم فيه، فإذا لم يتبين للحاكم أن له مالا بأن قامت البينة، أو سأل جيرانه العارفين به فلم يوجد له شيء أخرجه ولا يقبل قول البينة إنه لا مال له قبل حبسه، لأن البينة (1) لا تطلع على إعساره ولا يساره لجواز أن يكون له مال مخبوء لا يطلع عليه فلا بد من سجنه ليضجر بذلك.

وقال بمثله الإمامية، قال الشيخ حسين آل عصفور: (المشهور بين الأصحاب حتى كاد أن يكون إجماعياً في أن نفقة الزوجة مقدمة على نفقة الأقارب وإن اشتركا في الوجوب لأنها لازمة مع الإعسار واليسار، ولصيرورتها ديناً في رقبته، ولوجوب قضائها وإن لم يتعمد الإخلال بها. فما فضل عن قوت نفسه صرفه إليها، وما فضل عن واجبها صرفه إليهم؛ لأنها نفقة معاوضة في مقابلة البضع كالمهر، وتثبت في الذمة ويحبس فيها الزوج لو أخل بها، ولأنها أقوى من نفقتهم، ولهذا لاتسقط لغناها ولا بمضي الزمان بخلاف نفقتهم) (2)

وقد نص أصحاب هذا القول على أن السجن الذي يكون سببه الخلافات المالية بين الزوجين كالنفقة وغيرها ليس كالسجون العادية، بل هو سجن صوري، الغاية منه تعويقه عن الخروج، ليؤدي ما عليه لا عقوبته المجدة، وقد ذكر الباجي في الفرق بين السجن العادي، وسجن المحبوس في حقوق زوجته، فقال: (أما تمكين مثل هذا يعني الممتنع عن الوفاء ظلما من

__________

(1) اختلف الحنفية فيما لو أقام البينة قبل الحبس على إفلاسه، فقيل: تقبل، وفي الرواية الأخرى: لا تقبل، وعلى الثانية عامة المشايخ، وأما بعد الحبس فهي تقبل رواية واحدة، الجوهرة النيرة:1/ 247.

(2) الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع، الشيخ حسين آل عصفور البحراني، مجمع البحوث العلمية، ج 10، ص 109.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (147)

فضل الأكل والنكاح فهذا محل اجتهاد، فإنه من نوع التعزير.. ولكن المحبوسون على حقوق النساء ليسوا من هذا الضرب، فإن لم يحصل المقصود بحبسهما جميعا إما لعجز أحدهما عن حفظ الآخر أو لشر يحدث بينهما ونحو ذلك، وأمكن أن تسكن في موضع لا تخرج منه، وهو ينفق عليها، مثل أن يسكنها في رباط نساء أو بين نسوة مأمونات فعل ذلك) (1)

وقد نص الحنابلة في هذا على أنه لا يجب حبسه في مكان معين، فيجوز حبسه في دار ولو في دار نفسه، بحيث لا يمكن من الخروج، ويجوز أن يحبس وترسم هي عليه إذا حصل المقصود بذلك بحيث يمنعه من الخروج، فإذا لم يكن للزوج من يحفظ امرأته غير نفسه، وأمكن أن يحبسهما في بيت واحد، فتمنعه هي من الخروج، ويمنعها هو من الخروج، فعل ذلك، فإن له عليها حبسها في منزله، ولها عليه حبسه في دينها، وحقه عليها أوكد، فإن حق نفسه في المبيت ثابت ظاهرا وباطنا، بخلاف حبسها له فإنه بتقدير إعساره، لا يكون حبسه مستحقا في نفس الأمر إذ حبس العاجز لا يجوز (2).

بل ذهبوا إلى جواز معاشرتها، وهو سجين، ووجوب تمكينه من نفسها (3)، وحفظ جميع حقوقه عليها، قال ابن تيمية: (لو ادعت امرأة على زوجها بحقها وحبسته لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس، بل يستحقها عليها بعد الحبس كحبسه في دين غيرها فله إلزامها ملازمة

__________

(1) المنتقى: 5/ 81.

(2) الفروع:4/ 294.

(3) وقد خالف في ذلك بعض المالكية، فقد نص في المنتقى على أن المسجون في دين امرأته أو غيرها ليس له أن تكون معه امرأته، ولا أن تدخل عليه لأنه سجن للتضييق عليه فإذا لم تمنع لذته لم يضيق عليه قاله سحنون، ولو سجن الزوجان في حق لم يمنعا أن يجتمعا إذا كان السجن خاليا، ولو كان فيه رجال ونساء حبس الزوج مع الرجال، وحبست المرأة مع النساء، ووجه ذلك أنهما مسجونان فلم يقصد لكونها معه إدخال الراحة عليه والرفق به، وإنما قصد بذلك استيفاء حق على كل واحد منهما فإذا وجب السجن عليهما لم يمنعا الاجتماع لأن التفريق ليس بمشروع، انظر: المنتقى:5/ 81.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (148)

بيته، ولا يدخل عليها أحد بلا إذنه ولو خاف خروجها من منزله بلا إذنه أسكنها حيث شاء، ولا يجب حبسه بمكان معين فيجوز حبسه في دار نفسه، بحيث لا يمكن من الخروج، ولو كان قادرا على أداء الدين وامتنع ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح فله ذلك، إذ التعزير لا يختص بنوع معين، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله)، وقد استدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الغريم بملازمة غريمه وقال له: (ما فعل أسيرك)

2. أن في هذا من المصالح التي لا يجوز إهمالها، ومنها أن في حبسه خارج منزله تمكين لامرأته من الخروج من منزله، وإسقاط حقه عليها، وذلك لا يجوز لا سيما، وأنه مظنة لمضارتها له أو فعلها للفواحش.

3. أن تعويقه عن التصرف هو الحبس، وهو كاف في المقصود إذا لم يظهر امتناعه عن أداء الواجبات.

4. أن حبسها له عقوبة حتى يؤدي الواجب عليه، وحبسه لها حق يثبت بموجب العقد، وليس بعقوبة، بل حقه عليها كحق المالك على المملوك، ولهذا كان النكاح بمنزلة الرق والأسر للمرأة.

القول الثاني: إنه لا يحل حبسه بمجرد قول المرأة: إنه مليء، وإنه غيب ماله، وهو قول جمهور العلماء، فيما إذا كان عليه دين عن غير عوض مالي، أما البديل لذلك، فهو أن يتثبت الحاكم ويتحرى، فإن تبين له مطله وظلمه ضربه إلى أن يوفي أو يحبسه، وإن تبين له بالقرائن والأمارات عجزه لم يحل له أن يحبسه ولو أنكرت الزوجة إعساره، وقد سبق ذكر أدلة هذا القول في الفصل السابق عند بيان حكم حبس المرأة لزوجها لماطلته في المهر.

الترجيح:

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (149)

نرى أن الأرجح في المسألة هو تحري القاضي عن يسار الزوج أو إعساره، ثم تكليفه بالنفقة على أساس ذلك، أما السجن، فإنه لا مصلحة فيه لا للمرأة ولا لزوجها، فكيف يمكن أن تستقيم حياة الزوج مع زوجته إن سجن بسببها، ثم كيف يطالب بالإنفاق عليها وهو سجين، ثم ما الفائدة التي تجنيها المرأة بحصول العقوبة لزوجها.

إن هذا وغيره يدعو القاضي إلى البحث عن طرق مثلى لإلزام الرجل بالنفقة، قد تختلف هذه الطرق من شخص لآخر، ولكن السجن مع ذلك يظل أسوأ للجميع.

8 ـ الخلاف بين الزوجين في النفقة وكيفية حله

من المسائل التي تستدعيها الإجراءات القضائية في النفقة معرفة المدعي والمنكر، لأن أحكام الخلاف تنبني عليهما، فالقول قول المنكر، وعلى المدعي البينة أو اليمين، ومن أمثلة مسائل الخلاف بين الزوجين في النفقة، والتي يمكن الاستدلال من خلالها على غيرها من المسائل:

أ ـ الاختلاف في أصل الإنفاق

اختلف الفقهاء (1) فيما لو أنكرت المرأة أصل إنفاق زوجها عليها، هل يصدق قولها أم لا على قولين:

القول الأول: إذا كانت المرأة مقيمة في بيت زوجها، ثم تنازع الزوجان في ذلك، وادعت عدم النفقة وأنكر الزوج، فإن القول قول من يشهد له العرف والعادة، فإذا كانت العادة أن الرجل ينفق على المرأة في بيته ويكسوها، وادعت أنه لم يفعل ذلك فالقول قوله مع يمينه، وهو

__________

(1) المبسوط: 5/ 206، بدائع الصنائع: 4/ 29، المغني: 8/ 167، مواهب الجليل:4/ 205، حاشيتا قليوبي وعميرة:4/ 72.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (150)

قول مالك (1)، وأبي حنيفة وقول للإمامية (2)، وقول في مذهب أحمد، وقد انتصر له ابن تيمية، وابن القيم، ومن الأدلة التي سيقت لذلك:

1. أن الأصل المستقر في الشريعة أن اليمين مشروعة في جانب أقوى المتداعيين، سواء ترجح ذلك البراءة الأصلية، أو اليد الحسية، أو العادة العملية، ولهذا إذا ترجح جانب المدعي كانت اليمين مشروعة في حقه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل البينة على المدعى عليه إذا لم يكن مع المدعي حجة ترجح جانبه.

2. أنه إذا كان الزوج مؤتمنا عليها، وله عليها ولاية: كان القول قوله فيما اؤتمن عليه وولي عليه، كما يقبل قول الولي في الإنفاق على اليتيم، وكما يقبل قول الوكيل والشريك والمضارب والمساقي والمزارع فيما أنفقه على مال الشركة، بل إن قبول قوله في ذلك أولى من قبول قول أحد الشريكين.

3. أن العادة جارية بأن الرجل ينفق على امرأته ويكسوها فإن لم يعلم لها جهة تنفق منها على نفسها أجري الأمر على العادة.

4. أنه لو كان القول قولها لم يقبل قول الرجل إلا ببينة، فكان يحتاج إلى الإشهاد عليها كلما أطعمها وكساها، وكان تركه ذلك تفريطا منه إذا ترك الإشهاد على الدين المؤجل ومعلوم أن هذا لم يفعله مسلم على عهد السلف.

5. أن الإشهاد في هذا متعذر أو متعسر فلا يحتاج إليه، كالإشهاد على الوطء، فإنهما لو تنازعا في الوطء وهي ثيب لم يقبل مجرد قولها في عدم الوطء عند الجمهور، مع أن الأصل عدمه،

6.

__________

(1) فقد نص في المدونة على أن القول قول الزوج إلا أن تكون المرأة رفعت ذلك إلى السلطان، فاستعدت في مغيبه، فإن ذلك يلزم الزوج من يوم رفعت ولا يبرئه إلا أن يأتي بمخرج من ذلك، وإن قال: بعثت إليك لم ينفعه ذلك، المدونة:2/ 181..

(2) المبسوط ج 6 ص 16.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (151)

7. والإنفاق في البيوت بهذه المثابة، ولا يكلف الناس الإشهاد على إعطاء النفقة لما فيه من الحرج والمشقة.

8. أن هذه المرأة لا بد أن تكون أكلت واكتست في الزمان الماضي، وذلك إما أن يكون من الزوج، وإما أن يكون من غيره. والأصل عدم غيره، فيكون منه، لأن الحكم الحادث يضاف إلى السبب المعلوم، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفتى عدي بن حاتم فيما إذا رمى الصيد وغاب عنه ولم يجد فيه أثرا غير سهمه أنه يأكله.

القول الثاني: أن القول قول المرأة، وهو قول أكثر الفقهاء، لأن النفقة وجبت بطريق المعاوضة، فلا تسقط بمضي الزمان، قال الشافعي: (إن اختلفا فقال قد دفعت إليها نفقتها وقالت لم يدفع إلي شيئا فالقول قولها مع يمينها وعليه البينة بدفعه إليها أو إقرارها به والنفقة كالحقوق لا يبرئه منها إلا إقرارها أو بينة تقوم عليها بقبضها) (1)، وقد استدل على ذلك الكاساني بأن الزوج يدعي قضاء دين عليه وهي منكرة فيكون القول قولها مع يمينها كما في سائر الديون (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة في الحالة العادية هو القول الأول، للمضار التي قد تحدث للزوج بسبب القول الثاني، وقد أشار إلى هذه المضار من رجح هذا القول من العلماء، قال ابن تيمية بعد استدلاله لهذا القول: (وهذه المعاني من تدبرها تبين له سر هذه المسألة، فإن قبول قول النساء في عدم النفقة في الماضي فيه من الضرر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، وهو يؤول إلى أن المرأة تقيم مع الزوج خمسين سنة، ثم تدعي نفقة خمسين سنة وكسوتها، وتدعي أن زوجها

__________

(1) الأم:5/ 96.

(2) بدائع الصنائع:4/ 29.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (152)

مع يساره وفقرها لم يطعمها في هذه المدة شيئا، وهذا مما يتبين الناس كذبها فيه قطعا، وشريعة الإسلام منزهة عن أن يحكم فيها بالكذب والبهتان، والظلم والعدوان) (1)

وهو كذلك ما جعل ابن القيم يختار هذا القول وينصره، وقد بين مأخذه في ذلك بقوله: (وهذا المذهب هو الذي ندين الله به، ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة سواه، وكيف يليق بالشريعة أن تسمع مثل هذه الدعوى التي قد علم الله وملائكته والناس أنها كذب وزور؟ وكيف تدعي المرأة أنها أقامت مع الزوج ستين سنة أو أكثر لم ينفق عليها فيها يوما واحدا ولا كساها فيها ثوبا، ويقبل قولها عليه، ويلزم بذلك كله؟ ويقال: الأصل معها وكيف يعتمد على أصل يكذبه العرف والعادة والظاهر الذي بلغ في القوة إلى حد القطع) (2)

ولهذا انتصر له كذلك العز بن عبد السلام مع مخالفته لقول الشافعي، فقد قال في قواعد الأحكام في بيان الفرق بين النفقة وسائر الديون: (إذا اختلف الزوجان في النفقة مع اجتماعهما وتلازمهما ومشاهدة ما ينقله الزوج إلى مسكنهما من الأطعمة والأشربة، فالشافعي يجعل القول قول المرأة، لأن الأصل عدم قبضها كسائر الديون، ومالك يجعل القول قول الزوج، لأنه الغالب في العادة، وقوله ظاهر، والفرق بين النفقة وسائر الديون أن العادة الغالبة مثيرة للظن بصدق الزوج بخلاف الاستصحاب في الديون فإنه لا معارض له، ولو حصل له معارض كالشاهد واليمين لأسقطناه، مع أن الظن المستفاد من الشاهد واليمين أضعف من الظن المستفاد من العادة المطردة في إنفاق الأزواج على نسائهم مع المخالطة الدائمة، نعم لو اختلفنا في نفقة يوم أو يومين لم يبعد ما قاله الشافعي رحمه الله) (3)

__________

(1) الفتاوى الكبرى: 3/ 380.

(2) إعلام الموقعين: 3/ 273.

(3) قواعد الأحكام:2/ 54.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (153)

وقد رجع كثير من علماء المذاهب المتأخرين إلى هذا القول، قال ابن رجب: (إذا ادعت الزوجة بعد طول مقامها مع الزوج أنه لم توصلها النفقة الواجبة ولا الكسوة. فقال الأصحاب: القول قولها مع يمينها، لأن الأصل معها مع أن العادة تبعد ذلك جدا، واختار الشيخ تقي الدين الرجوع إلى العادة) (1)

ب ـ الاختلاف في انتهاء العدة

اتفق الفقهاء (2) على أنه إن اختلفا في انقضاء العدة فالقول قولها مع يمينها، لأنها متمسكة بالأصل والأصل بقاء العدة، واستحقاق النفقة كان ثابتا لها فيبقى ما لم يظهر انقضاء العدة، فإن أقام الزوج البينة على إقرارها بانقضاء العدة برئ من النفقة، لأن ثبوت إقرارها بالبينة كثبوته بالمعاينة.

وفي حال ادعاء المرأة انتهاء العدة في مدة يستحيل انتهاؤها فيها، فإنه لا تصدق المرأة في ذلك إذا أنكر الزوج قولها، وقد اختلف الفقهاء في المدة التي يستحيل فيها انتهاء عدتها على قولين:

القول الأول: أن العبرة ليست بالمدة، وإنما بإقامة المرأة البينة على ذلك، وهي أربع عدول من النساء عالمات، أو بشهادة امرأتين كذلك مع يمينها، وهو قول ابن حزم، ومن الأدلة على ذلك:

1. أن الله تعالى لم يحد في ذلك حدا، ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الباطل المتيقن أن يكون تعالى أراد أن يكون للأقراء مقدار لا يكون أقل منه ثم يسكت عن ذلك.

2. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حكم بالبينة على من ادعى، وهي مدعية بطلان حق ثابت لزوجها في

3.

__________

(1) قواعد ابن رجب:339.

(2) المحلى:10/ 56، الأم: 6/ 173، المدونة: 2/ 53، المبسوط:5/ 204، شرائع الإسلام:3/ 26، الفتاوى الكبرى: 5/ 510، التاج المذهب: 2/ 215.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (154)

4. رجعتها، أحبت أم كرهت - فلا تصدق إلا ببينة عدل.

القول الثاني: تحديد مدة العدة، وهو قول الجمهور، وقد اختلفوا في هذا التحديد بناء على أقوالهم في مدد الحيض والنفاس، ومن الأقوال في ذلك:

1. لا تصدق في انقضاء العدة في أقل من ستين يوما، ولا تصدق النفساء في أقل من خمسة وثمانين يوما، وهو قول أبي حنيفة.

2. لا تصدق في انقضاء العدة في أقل من تسعة وثلاثين يوما، وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وسفيان في أحد قوليه، لأنه يجعلها مطلقة في آخر طهرها، ثم ثلاث حيض، كل حيضة من ثلاثة أيام - وهو أقل الحيض عندهم - وطهران، كل طهر خمسة عشر يوما - وهو أقل الطهر عندهم.

3. لا تصدق المعتدة بالأقراء في أقل من خمسة وأربعين يوما، وهو قول الحسن ابن حي.

4. لا تصدق في أقل من أربعين يوما، وهو قول الأوزاعي.

5. إن لم تأت ببينة لم تصدق في أقل من ثلاثة أشهر، وهو قول أبي عبيد.

6. لا تصدق في أقل من اثنين وثلاثين يوما وبعض يوم، وهو أحد أقوال الشافعي، لأن أقل الحيض عنده في هذا القول يوم،، وأقل الطهر خمسة عشر يوما.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أنها من المسائل التي يستفتى فيها أهل الاختصاص من الأطباء وغيرهم، والظاهر فيها، والله أعلم، أن المدة العادية تقارب ثلاثة أشهر، والدليل على ذلك هو أن الله تعالى جعل عدة اليائس ثلاثة أشهر في مقابل القروء الثلاثة لغيرها، وهو يدل على أن المدتين تتقاربان.

ج ـ الاختلاف في وقت التطليق

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (155)

نص الفقهاء على أنه إن طلق امرأته، وكانت حاملا فوضعت، فقال: طلقتك حاملا، فانقضت عدتك بوضع الحمل، وانقطعت نفقتك ورجعتك، فقالت: بل طلقتني بعد الوضع، فلي النفقة، ولك الرجعة، فالقول قولها، لأن الأصل بقاء النفقة، وعدم المسقط لها، وعليها العدة، ولا رجعة للزوج، لإقراره بعدمها إلا إذا رجع إلى قولها فصدقها، فله الرجعة، لأنها مقرة له بها.

أما لو قال: طلقتك بعد الوضع، فلي الرجعة، ولك النفقة، فقالت: بل طلقتني وأنا حامل. فالقول قوله، لأن الأصل بقاء الرجعة، ولا نفقة لها، ولا عدة عليها، لأنها حق لله تعالى، فالقول قولها فيها. وإن عاد فصدقها، سقطت رجعته، ووجب لها النفقة.

وهذه المسألة غير موجودة عند من يقول بالإشهاد على الطلاق كالإمامية، وسنرى شرعية ذلك وأهميته في محله من الجزء الرابع من هذه السلسلة.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (156)

ثانيا ـ شروط وجوب النفقة وموانعهأ

1 ـ آراء المذاهب الإسلامية في الشروط الموجبة للنفقة

اختلفت المذاهب الإسلامية في الشروط الموجبة للنفقة، وأكثر خلافهم في تصنيفها، وسنعرض هنا آراءهم العامة وبعض الفروع المرتبطة بها، ثم نذكر في تفاصيل الشروط أدلة هذه الأقوال وما نراه من ترجيح بينها، والغرض من هذا المطلب هو إعطاء صورة عامة لمواقف المذاهب الإسلامية من هذه الشروط، لإمكانية الرجوع إليها عند الحاجة لبعض التفريعات:

مذهب الحنفية

اشترط الحنفية (1) لوجوب النفقة على الزوج الشروط التالية:

1. أن يكون العقد صحيحاً، فلو عقد عليها فاسداً أو باطلاً وأنفق عليها، ثم ظهر فساد العقد أو بطلانه فإن له الحق في الرجوع عليها بما أنفقه.

2. أن تكون الزوجة مطيقة للوطء منه أو من غيره، ولا يشترط لذلك سن خاص، فإذا كانت صغيرة تطيق الوطء وسلمت نفسها، فإن النفقة تجب على الزوج، ولو كان صغيراً لا يعرف الوطء، مع وجوبها في مال الصغير لا في مال الأب، فإن لم يكن للصغير مال، فإن الأب لا يلزم بالانفاق على زوجته، ولكن يلزم بالاستدانة والإنفاق، ثم عند بلوغ الصغير ويساره يرجع عليه بما أنفق، ويجب لها النفقة أيضا ـ عندهم ـ إذا كانت تشتهي للمباشرة والتلذذ بها في غير الفرج، ولو لم تطق الجماع في الفرج، كما إذا كانت رتقاء أو قرناء، فإذا لم تطق الوطء ولم تصلح للاستمتاع بها، فإذا كانت تصلح للخدمة والاستئناس بها، وأمسكها في بيته، فإن النفقة تجب لها.

3.

4.

__________

(1) انظر: بداية المبتدي: 88، الهداية: 2/ 42، البحر الرائق: 3/ 142، حاشية ابن عابدين: 3/ 572، 3/ 634، بدائع الصنائع: 4/ 18، لسان الحكيم: 337..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (157)

5. أن تسلم نفسها، فإن كانت ناشزا، فلا تجب لها نفقة، والناشز هي التي تخرج من بيت زوجها بدون إذنه بغير حق، أو تمتنع من تسليم نفسها إليه، فلا تدخل داره، أما إذا لم تطاوعه في الجماع، فإن هذا، وإن كان حراماً عليها، ولكن لا تسقط به نقتها، لأن الحبس الذي تستحق به النفقة موجود، وإذا كانت في منزل مملوك لها ومنعته من الدخول عليها، فإنها تكون ناشزا بذلك، فخرجت بغير إذنه، أو سافرت بغير إذنه، ثم عادت ثانياً، فإن النفقة تعود لها.

6. أن لا تكون مرتدة، فإذا ارتدت سقطت نفقتها، بخلاف ما إذا كانت ذمية تحت مسلم، فها تجب لها النفقة، سواء كانت نفقة زوجية أو عدة فإذا تابت المرتدة وأسلمت، وهي في العدة فإن نفقتها لا تعود بخلاف الناشز، وذلك لأن ردتها ترتب عليها فرقة جاءت من قبلها، فأبطلت نفقتها، ومتى بطلت النفقة بالفرقة فإنها تعود، بخلاف النشوز فإنه أمر عرضي يوقف النفقة ولا يبطلها.

7. أن لا تفعل ما يوجب حرمة المصاهرة فلو طاوعت ابن زوجها، أو أب زوجها، ومكنته من نفسها، أو لمسته بشهوة، فإنها تبين منه ولا نفقة لها عليه، لأنها فعلت ما يوجب الفرقة، فكانت فرقة من قبلها مبطلة للنفقة فإن كانت مطلقة وفعلت ذلك في العدة، فإن كانت معتدة عن طلاق رجعي، فإن نفقتها تسقط، أما إذا كانت معتدة عن طلاق بائن، أو عن فسخ بدون طلاق، فإن لها النفقة والسكنى.

8. أن لا تكون معتدة عدة وفاة.

ونرى من خلال هذه الشروط أن مدارها على حبس المرأة نفسها في منزل زوجها بالفعل أو بالقوة، فلا يشترطون لوجوب النفقة الدخول، كما لا يشترطون مطالبة الزوج بالدخول، إنما الشرط أن لا تخرج إلا بإذنه، ولا يشترطون أن لا يكون بها مانع يمنع الوطء كرتق ونحوه،

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (158)

كما إذا كانت عجوزاً غير صالحة للوطء، ومثلها المجنونة إذا سلمت له نفسها ومنعته من الوطء، كما لا يشترطون كون الزوج بالغاً.

مذهب المالكية

قسم المالكية (1) شروط وجوب النفقة للزوجة على زوجها إلى قسمين: شروط لوجوبها قبل الدخول وشروط لوجوبها بعد الدخول:

شروط الوجوب قبل الدخول: اشترط المالكية لوجوب النفقة قبل الدخول أربعة شروط، هي:

1. أن تدعوه الزوجة أو وليها المجبر إلى الدخول فلم يدخل، فإذا لم تدعه إلى الدخول فلا حق لها في النفقة.

2. أن تكون مطيقة للوطء، فإذا كانت صغيرة لا تطيق الوطء فإنه لا تجب عليها نفقتها إلا إذا دخل بها، ولا يجب عليه الدخول إذا دعته ولا يجبر عليه.

3. أن لا تكون مريضة مرضاً شديداً بحيث أصبحت في حالة النزع أو كان هو مريضاً كذلك، وإلا فلا نفقة لها.

4. أن يكون الزوج بالغاً، فلو كان الزوج صغيراً فإن نفقتها لا تجب عليه ولو كان قاراً على وطئها.

شروط الوجوب بعد الدخول: نص المالكية في هذه الحالة على أنه تجب عليه نفقتها، سواء كانت الزوجة تطيق الوطء أو لا، وسواء كانت مريضة مرض الموت أو لا وسواء كان بالغاً أو لا، وهذا هو الظاهر عندهم، وفي المسألة خلاف، فذهب بعضهم إلى أنها لا تجب على الصغير ولو دخل بها ووطئها، وكما لا تجب على الكبير إذا كانت صغيرة لا تطيق الوطء، ومثل ذلك المريضة التي بلغت حد النزع، فإنه لا نفقة لها في هذه الحالة، ويشترط لوجوبها بعد

__________

(1) حاشية الدسوقي: 2/ 508، الفواكه الدواني: 2/ 23، حاشية العدوي: 2/ 88، القوانين الفقهية: 147.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (159)

الدخول أن تمكنه من الوطء بحيث إذا طلبه منها لا تمتنع، وإلا فلا حق لها في النفقة، وأن تكون سليمة من عيوب النكاح، كالرتق ونحوه، فإذا كانت كذلك فلا حق لها في النفقة، إلا إذا تلذذ بها بغير الوطء وكان عالماً بالعيب. فإن النفقة تجب عليه في هذه الحالة.

مذهب الشافعية

اشترط الشافعية لوجوب النفقة على الزوج الشروط التالية:

1. أن تمكنه من نفسها، ويتحقق ذلك بأن تعرض نفسها عليه، كأن تقول: إني مسلمة نفسي إليك. فإن لم يكن حاضراً عندها بعثت إليه تقول: أنني مسلمة نفسي إليك، فاختر وقتاً أجيء فيه إليك أو تجيء إليّ أو نحو ذلك، فإن لم يكن حاضراً في البلد أنذرته النفقة، فإذا لم تخطره بذلك فإنها لا حق لها في النفقة حتى ولو كانت لا تمتنع إذا طلبها، ويجب أن تمكنه من نفسها في أي وقت يجب، فإذا كان لها عمل بالنهار لا يتمكن منها فيه فإن نفقتها لا تجب عليه، فإذا كانت صغيرة أو مجنونة عرضها وليها.

2. أن تكون مطيقة للوطء، فإذا كانت صغيرة لا تطيق الوطء فإنها لا تستحق النفقة سواء كان زوجها بالغاً يريد الوطء أو صغيراً لا يطأ، وإذا كان صغيراً فإن النفقة لا تجب عليه إلا إذا سلمت الزوجة لوليه، وكذا إذا كان مجنوناً، فإن النفقة لا تجب عليه إلا إذا سلمت زوجته للولي فلو استمتع المجنون بها بدون أن يستلمها وليه، فلا نفقة عليه بذلك وبعضهم يقول: إذا كان الزوج صغيراً لا يطأ مثله، وكانت الزوجة صغيرة لا تطيق الوطء فإن نفقتها تجب، وذلك لأن المانع منهما معاً لا من الزوجة وحدها، بخلاف ما إذا كان الزوج كبيراً وهي صغيرة لا تطيق الوطء فإن المانع من جهتها وحدها فلا تستحق.

3. أن لا تكون ناشزا، أي خارجة عن طاعة زوجها، ومن الصور التي ذكروها لذلك أن تمنعه من الاستمتاع بها من لمس وتقبيل ووطء ونحو ذلك، فإذا منعته سقطت نفقتها في اليوم الذي منعته فيه، ومنها أن تخرج من المسكن بدون إذنه، فإذا خرجت بدون إذنه فلا تجب

4.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (160)

5. عليه نفقتها، إلا إذا خرجت لعذر كخوف من انهدام مسكن أو لعيادة أهلها ونحو ذلك، مما لا يغضب أمثاله عرفاً. ومنها أن تسافر لقضاء حاجة لغير زوجها ولو بإذنه، فإن نفقتها تسقط بذلك أما إذا سافرت لقضاء حاجة له بإذنه فإن نفقتها لا تسقط. ومثل ذلك ما إذا سافرت معه ولو بدون إذنه..

مذهب الحنابلة

اشترط الحنابلة (1) لوجوب نفقة الزوجية على الزوج الشروط التالية:

1. أن تسلم له نفسها تسليماً تاماً في أي بلدة أو مكان يليق بها، فإذا امتنعت عن تسليم نفسها في بلد دون بلد فإن نفقتها تسقط.

2. أن تكون ممن يوطأ مثلها، أي بأن تكون صالحة للوطء، وقيد ذلك بعضهم بشرط أن تكون بنت تسع سنين، فإذا كانت ضخمة تطيق الوطء، وهي دون تسع، فإنها لا نفقة لها على هذا القيد، فإن كانت صغيرة تطيق الوطء فإن على وليها أن يقول لزوجها: تعال استلم زوجتك، فمتى سلمت الزوجة نفسها أو أسلمها وليها، وكانت تطيق الوطء وجبت نفقتها على الزوج، وسواء كان صغيراً أو كبيراً، وسواء كان يمكنه الوطء أو لا، كما إذا كان مجبوباً، أو عنيناً، لأن النفقة تجب في مقابل الاستمتاع، فمتى سلمت نفسها وجبت عليه نفقتها، سواء استمتع بالفعل أو لا، وإذا تعذر وطؤها لمرض أو حيض أو نفاس أو رتق أو قرن، أو هزال، فإنه لا يمنع نفقتها، وإنما لمدار على تسليم نفسها ما دامت بلغت تسع سنين، سواء حدث لها ذلك قبل الدخول، أو حدث لها وهي عنده فإذا كانت صحيحة وبذلت نفسها ليستمتع بها بغير الوطء، فإنها لا حق لها في النفقة، فإذا امتنعت من تسليم نفسها للجماع سقطت نفقتها، فإذا عرض لها عارض يمنع من الوطء سلمت نفسها بعد ذلك فإن نفقتها لا تعود ما دامت مريضة عقوبة لها على منع نفسها وهي صحيحة، وإذا ادعت أن

3.

__________

(1) المبدع: 8/ 201، الكافي في فقه ابن حنبل: 3/ 355، المغني: 7/ 193.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (161)

4. بها آلاماً لا تطيق معها الوطء، فإن قولها يقبل إذا عرضت نفسها على امرأة ثقة وأقرت دعواها، ولا تسقط نفقتها.

5. أن لا تكون ناشزاً، ومن الصور التي ذكروها للنشوز: أن تخرج من منزله بدون إذنه، أو أن لا تمكنه من وطئها، أو أن تسافر بدون إذنه،، أو أن تتطوع بحج أو بصوم نفل أو تحرم بحج منذور في الذمة ولو بإذنه، فإنها إن فعلت ذلك ودعاها للفراش فأبت سقطت نفقتها، فإن له أن يبطل صوم التطوع ونحوه، أو أن لا تبيت معه في فراشه، أو أن تمنعه من الاستمتاع بها بغير الوطء، كالتقبيل ونحوه، أو أن لا تسافر بغير إذنه لحاجته، فإن سافرت لحاجته بإذنه.

6. أن لا تلزمها عدة بوطء غيره، كما إذا وطئها شخص بشبهة فاعتدت منه، فلا نفقة لها عليه، ولا فرق في النشوز بين قدرة الزوج على ردها أو لا، فإن عادت عن النشوز وسلمت له نفسها عادت لها النفقة، وإذا أسلمت المرتدة عادت لها نفقتها، وإذا أطاعته نهاراً وعصته ليلاً كان لها نصف نفقة مثلها.

7. أن لا يحول بينه وبينها حائل، كما إذا حبست ولا يستطيع الوصول إليها، فإن حقها يسقط في النفقة، وكذا إذا حبست الزوج من أجل نفقتها أو صداقها، فإنها لا نفقة لها إلا إذا كان الزوج موسراً مماطلاً وحبسته، فإن نفقتها لا تنقطع، لأنه يكون في هذه الحالة ظالماً.

مذهب الإمامية

نص الإمامية (1) على الشرطين التاليين:

1. أن يكون العقد دائما.

2. التمكين الكامل، وهو التخلية بينها وبينه، بحيث لا تخص موضعا ولا وقتا فلو بذلت نفسها في زمان دون زمان، أو مكان دون آخر، مما يسوغ فيه الاستمتاع لم يحصل التمكين.

__________

(1) شرائع الإسلام:2/ 293.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (162)

ومن فروع التمكين: أن لا تكون صغيرة يحرم وطء مثلها، سواء كان زوجها كبيرا أو صغيرا، ولو أمكن الاستمتاع منها بما دون الوطء، لأنه استمتاع نادر لا يرغب إليه في الغالب، أما لو كانت كبيرة، وزوجها صغيرا، ففيه خلاف بينهم والأشبه عندهم وجوب الإنفاق لحصول التمكين، ولو كانت مريضة أو رتقاء أو قرناء، لم تسقط النفقة، لإمكان الاستمتاع.

ولو سافرت الزوجة بإذن الزوج لم تسقط نفقتها، سواء كان في واجب أو مندوب أو مباح، ومثله ما لو سافرت في واجب بغير إذنه، كالحج الواجب، أما لو سافرت بغير إذنه، في مندوب أو مباح، سقطت نفقتها، ولو صلت أو صامت أو اعتكفت بإذنه، أو في واجب وإن لم يأذن، لم تسقط نفقتها، وكذا لو بادرت إلى شيء من ذلك ندبا، لأن له فسخه، ولو استمرت مخالفة، تحقق النشوز، وسقطت النفقة.

وتثبت النفقة للمطلقة الرجعية، كما تثبت للزوجة، وتسقط نفقة البائن وسكناها، سواء كانت عن طلاق أو فسخ نعم لو كانت المطلقة حاملا، لزم الإنفاق عليها حتى تضع، وكذا السكنى، وفي الحامل المتوفى عنها زوجها، روايتان: أشهرهما أنه لا نفقة لها، والأخرى ينفق عليها من نصيب ولدها، وتثبت النفقة للزوجة مسلمة كانت أو ذمية أو أمة.

مذهب الزيدية

نص الزيدية (1) على أن النفقة تجب للزوجة مطلقا من مال الزوج أو من مال وليه، ولو كان الزوج حملا أو مجنونا، ولو زوج لغير مصلحة، ويبدأ هذا الوجوب من يوم العقد، ويستوي عندهم أن تكون الزوجة كبيرة ولو شيخة، أم صغيرة صالحة للجماع أم لا، دخل بها أم لا، حيث لم يطلب ولا امتنعت، سليمة من العيب أم معيبة، وسلمت تسليما مستداما يوما وليلة فما فوق، مسلمة أم ذمية مع ذمي أو مع مسلم عند من يجيز نكاح الكتابيات، وتجب لها نفقة سفر

__________

(1) التاج المذهب:2/ 277.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (163)

حيث أحرمت بحجة الإسلام ولو بغير إذنه أو نفلا بإذنه، فإن نفقتها واجبة في ذلك كله على الزوج.

وتجب النفقة للمعتدة وتوابعها كالباقية تحت زوجها، سواء كانت معتدة عن موت قبل الدخول أم بعده، أو عن طلاق بعد دخول لا بعد خلوة فقط، أو كانت العدة عن فسخ بعيب فيه أو فساد عقد، فإن النفقة تجب في العدة إلا أن يكون ذلك الفسخ بحكم حاكم، فإذا كان الفسخ بحكم فلا نفقة لها في العدة على الزوج غالبا احترازا من بعض الصور، فإن الفسخ يكون بالحكم وتلزم النفقة، وذلك كالصغيرة إذا بلغت وفسخت النكاح واحتاجت إلى الحكم لأجل التشاجر.

ولو كان الفسخ لأمر يقتضي النشوز من المرأة فإنها لا تستحق نفقة في العدة، وذلك الأمر إما ذنب كأن ترتد عن الإسلام والزوج باق، أو يسلم الزوج أو أحد أبويه وهو صغير وتبقى على الكفر وهي بالغة عاقلة فقد وقع الفسخ لأمر يقتضي النشوز من المرأة فلا نفقة لها في العدة، أما إذا أسلم زوجها وهي صغيرة أو مجنونة فلا تسقط النفقة لعدم النشوز منها، وكذا لو ارتد الزوج وبقيت هي على الإسلام أو أسلمت هي وبقي على الكفر فإنها لا تسقط نفقتها في الوجهين، أو عيب، وذلك مثل أن يفسخها الزوج بعد الدخول بأحد العيوب.

مذهب الإباضية

تجب النفقة عندهم (1) بالدخول أو بالدعاء إلى الدخول، بشرط أن لا يكون أحدهما مريضا مرض السياق والزوج بالغ والزوجة مطيقة، وجعل بعضهم السلامة من المرض والبلوغ في الزوجة وإطاقة الوطء في الزوجة شرطا في الدعاء إلى الدخول، فإذا دعاها وقد اختل أحد هذه الشروط فلا تجب، وإن دخل وجبت بلا شرط، وجعلها بعضهم شرطا في

__________

(1) شرح النيل:14/ 13.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (164)

الدخول، وفي الدعاء إليه فلا تجب نفقة الزوجة ولو دخل بها إلا إذا بلغ الزوج وأطاقت الزوجة الوطء.

مذهب الظاهرية

وهو أشد المذاهب في وجوب النفقة على الزوجة في جميع أحوالها بدون تقييد بأي شرط، قال ابن حزم: (على الزوج كسوة الزوجة - مذ يعقد النكاح - ونفقتها، وما تتوطاه وتتغطاه وتفترشه، وإسكانها كذلك أيضا، صغيرة أو كبيرة، ذات أب أو يتيمة، غنية أو فقيرة، دعي إلى البناء أو لم يدع نشزت أو لم تنشز، حرة كانت أو أمة، بوئت معه بيتا أو لم تبوأ) (1)

2 ـ تفاصيل الشروط الوجبة للنفقة وأدلتهأ

من خلال العرض السابق للشروط التي ذكرها الفقهاء لاستحقاق المرأة النفقة على زوجها، نرى أنه يمكن تلخيصها وحصرها في الشرطين التاليين، ومع استبعاد بعض الشروط التي لا علاقة لها بالنفقة:

الشرط الأول تسليم المرأة نفسها إلى الزوج وقت وجوب التسليم

وذلك بأن تقصر نفسها على زوجها (2)، بحيث يتمكن من الانتفاع بثمرات الزواج، وقد عرف الكاساني التسليم بقوله: (هو أن تخلي بين نفسها وبين زوجها، برفع المانع من وطئها أو الاستمتاع بها حقيقة إذا كان المانع من قبلها، أو من قبل غير الزوج) (3)

__________

(1) المحلى:9/ 112.

(2) اتفق الفقهاء على أن النفقة تشمل المسلمة وغير المسلمة دون تفريق، قال ابن قدامة: (والذمية كالمسلمة في النفقة والمسكن والكسوة، في قول عامة أهل العلم، وبه يقول مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي; لعموم النصوص والمعنى)، المغني: 8/ 162.

(3) بدائع الصنائع:4/ 18.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (165)

وقد اختلف الفقهاء في اشتراط التسليم لوجوب النفقة على الزوج على قولين (1):

القول الأول: لا يشترط التسليم، بل إن الزوجة تستحق النفقة من يوم العقد عليها حتى ولو تأخر الدخول، بل ولو كان العقد من المهد، وهو قول الظاهرية، قال ابن حزم: (وينفق الرجل على امرأته من حين يعقد نكاحها دعي إلى البناء أو لم يدع - ولو أنها في المهد) (2)، واستدل على ذلك بما يلي:

1. قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في النساء: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (3)، وهذا يوجب لهن النفقة من حين العقد.

2. عدم ورود أي دليل يشترط التسليم، قال ابن حزم: (وقال قوم: لا نفقة للمرأة إلا حيث تدعى إلى البناء بها وهذا قول لم يأت به قرآن، ولا سنة، ولا قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي له وجه) (4)

القول الثاني: اشتراط التسليم لوجوب النفقة، وذلك بأن تسلم نفسها له حقيقة أو حكماً بدخولها في طاعته بالفعل، أو باستعدادها لهذا الدخول ما لم يوجد مانع شرعي يمنعها من ذلك، وهو قول جماهير الفقهاء من المذاهب المختلفة، وقد نص بعض الحنفية على أن هذا الشرط ليس بلازم، وأن النفقة واجبة لها وإن لم تنتقل إلى بيت الزوج، لأن الزوج لو لم يطلب انتقالها إلى بيته

__________

(1) انظر: بدائع الصنائع: 4/ 19، العناية شرح الهداية:4/ 378، معين الحكام:150 ن مواهب الجليل:4/ 182.

(2) المحلى:9/ 249.

(3) سبق تخريجه.

(4) المحلى:9/ 249.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (166)

كان لها أن تطالبه بالنفقة، وذلك لأن النفقة حق المرأة، والانتقال حق الزوج، فإذا لم يطالبها بالنقلة فقد ترك حقه، وهذا لا يوجب بطلان حقها (1).

وهو خلاف صوري لأن ما ذكره اتفق الفقهاء على القول به، ولهذا نصوا على أنها لو منعت نفسها أو منعها أولياؤها، أو تساكتا بعد العقد، فلم تبذل ولم يطلب، فلا نفقة لها، وإن أقاما على ذلك زمنا.

ومن الأدلة على عدم وجوب النفقة عليه في هذه الحالة أن النفقة تجب في مقابلة التمكين المستحق بعقد النكاح، فإذا وجد استحقت، وإذا فقد لم تستحق شيئا.

ويتحقق التسليم بانتقالها إلى بيته، فإذا تزوج بالغة صحيحة سليمة ونقلها إلى بيته، فلها النفقة لوجود سبب الوجوب وشرطه، ويستوي في ذلك ما لو تزوجها ولم ينقلها وهي لا تمنع نفسها، وطلبت منه النفقة ولم يطالبها بالانتقال فلها النفقة في كل ذلك، لأنه وجد سبب الوجوب وهو كونها محبوسة له، وشرطه وهو التسليم.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة ارتباط وجوب النفقة بالتسليم، كما هو متعارف عليه، إلا إذا كان التقصير من الزوج، بأن طالت المدة، ولم يطلب المرأة للدخول، فإن عليه النفقة لتأخره، ومثل ذلك ما لو رفضت الزوجة التسليم بسبب مشروع من جهتها، مع مطالبة الزوج بذلك، ولكنها امتنعت بسبب شرعي، فإن لها الحق في النفقة، بشرط أن تكون الأعذار معتبرة.

أما ما استدل به ابن حزم من الحديث، فلا يصح الاستدلال به لأن سياق الحديث يدل على أن الزوجة في بيت زوجها أو قد سلمت نفسها له، ثم إن الشرع اعتبر التفريق بين الزوجية قبل الدخول وبعده، فلهذا فرض للمرأة نصف المهر إن حصل الطلاق قبل الدخول بناء على عدم اكتمال الزوجية بسبب عدم حصول الدخول.

__________

(1) العناية:4/ 378.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (167)

وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسئول عنهم، ألا وان الرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، ألا وإن المرأة راعية على بيت زوجها، وهي مسئولة عنهم ألا والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (1) وجوها من الدلالة على ذلك، منها أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أن الرجل راع على أهل بيته، والمرأة قبل التسليم لا تعتبر من أهل بيته، وإن عقد عليها، ومنها أن المرأة راعية على بيت زوجها، وهو يشير إلى أن حقها في النفقة مرتبط بهذه الرعاية، وهي لا تتحقق إلا بالدخول، أو بالتسليم.

الأعذار المعتبرة لعدم التسليم

من الأعذار المعتبرة التي ذكرها الفقهاء القائلون باشتراط التسليم الأعذار التالية:

طلب استيفاء مهرها العاجل

إذا طلبت الزوجة من زوجها استيفاء مهرها العاجل، فلم يبذله لها، فإن لها الحق في عدم التسليم، ومع ذلك تجب لها النفقة، للأدلة التالية:

1. أنه لا يجب عليها التسليم قبل استيفاء العاجل من مهرها، فلم يوجد منها الامتناع من التسليم وقت وجوب التسليم.

2. أن تسليم نفسها قبل تسليم صداقها يفضي إلى أن يستوفي منفعتها المعقود عليها بالوطء، ثم لا يسلم صداقها، فلا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها، بخلاف المبيع إذا تسلمه المشتري ثم أعسر بالثمن، فإنه يمكنه الرجوع فيه.

أما إن كان الزوج قد أوفاها مهرها أو كان مؤجلا، فلا نفقة لها لانعدام التسليم حال وجوب التسليم، فلم يوجد شرط الوجوب فلا تجب.

عدم قبولها ببيت الدخول

__________

(1) البخاري:5/ 1996، البيهقي:7/ 291.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (168)

ومن الأمثلة التي ذكرها الفقهاء لذلك، والتي نصوا فيها على وجوب النفقة على اختلاف بينهم في بعضها:

1. أن تقول: أسلم إليك نفسي في منزلي دون غيره، أو في الموضع الفلاني دون غيره فإنها تستحق النفقة إذا شرطت ذلك في العقد، بأن شرطت دارها أو بلدها، بناء على القول باعتبار هذا الشرط (1)، أما إذا لم ينص على ذلك في العقد، فإنها إن لم تبذل التسليم الواجب بالعقد، فلا تستحق النفقة.

2. لو طالبها بالانتقال إلى بيته بعد ما أوفاها المهر إلى دار مغصوبة فامتنعت، فلها الحق في النفقة، لأن امتناعها بحق فلم يجب عليها التسليم فلم تمتنع من التسليم حال وجوب التسليم.

3. لو كانت ساكنة منزلها فمنعته من الدخول عليها، لا على سبيل النشوز، بل قالت: حولني إلى منزلك، أو اكتر لي منزلا أنزله، فإني أحتاج إلى منزلي هذا لكرائه، فإن لها الحق في النفقة، لأن امتناعها عن التسليم في بيتها لغرض التحويل إلى منزله أو إلى منزل الكراء امتناع بحق.

عدم الانتقال لأجل المرض

إذا امتنعت من الانتقال إلى بيته بعلة مرضها، فإن ذلك يفوت على الزوج احتباسها وهو المقابل للنفقة، ولذلك نص الفقهاء والحنفية خصوصا على عدم استحقاق النفقة لذلك، والعلة هنا ليس في مرض الزوجة لأن المرض طارئ يمكن زواله، وعقد الزواج عقد للدوام فلا يسقط الحق الدائم بعارض من العوارض لا دخل للزوجة فيه، وإنما هو عدم انتقالها إلى بيت الزوجية أو امتناعها عن الانتقال إليه، فهي بذلك تعتبر ناشزا، فإذا انتفت هذه العلة فالمفتى به في المذهب الحنفي أنه يجب لها النفقة بعد انتقالها بالفعل إلى بيت الزوجية أو عدم ممانعتها في الانتقال وإن لم تنتقل إليه إن كان ذلك في استطاعتها.

__________

(1) انظر تفصيل الخلاف في اعتبار هذا الشرط في فصل: الشروط المقيدة لمقتضى العقد.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (169)

ونرى أن الأرجح في المسألة هو النظر إلى نوع المرض، وإمكانية توفير ما تحتاجه من وسائل الصحة في بيت زوجها، فإن كان يشبه في ذلك بيت أهلها، فإنه لا حق لها في النفقة لعدم تسليم نفسها له، أما إن لم تتوفر في بيت زوجها هذه الوسائل، فإن على الزوج أحد أمرين:

1. إما توفيرها، حتى يقطع العذر عن زوجته في عدم ذهابها لبيته.

2. أو النفقة عليها في بيت أهلها.

ويختلف ذلك بحسب نوع المرض، فمن الأمراض ما تحتاج فيه المرأة إلى خدمة النساء، ولا حرج في اعتبار النواحي النفسية في ذلك.

الشرط الثاني أن تكون مطيقة للمعاشرة الجنسية

ويتحقق ذلك ببلوغها، وعدم الموانع التي تحول بينها وبين المعاشرة، وقد ذكر الفقهاء هنا بعض الحالات التي تمنع من هذه المعاشرة، ومنها:

الصغر

وهو من الموانع التي تحول بينه وبين معاشرتها جنسيا، ولهذا المانع حالتان:

صغر المرأة

اختلف الفقهاء (1) فيما لو كانت المرأة صغيرة غير مطيقة للوطء على الأقوال التالية:

القول الأول: لا نفقة لها إن كانت صغيرة لا تحتمل الوطء، وهو قول الحسن، وبكر ابن عبد الله المزني، والنخعي، وإسحاق، وأبي ثور، والحنفية، وهو المنصوص عن الشافعي، وهو قول للإمامية، ومن الأدلة على ذلك:

1. أن النفقة تجب بالتمكين من الاستمتاع، ولا يتصور ذلك مع تعذر الاستمتاع، فلم تجب

2.

__________

(1) المغني:8/ 182، المبدع:8/ 201، الكافي في فقه ابن حنبل:3/ 355، إعانة الطالبين:3/ 394، حاشية البجيرمي:3/ 369، حواشي الشرواني:7/ 383، الهداية:2/ 40، حاشية ابن عابدين:3/ 574، الفواكه الدواني:3/ 23، حاشية الدسوقي:2/ 508.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (170)

3. نفقتها، كما لو منعه أولياؤها من تسليم نفسها.

4. أن الصغيرة تختلف عن المريضة في أن الاستمتاع بها ممكن، وإنما نقص بالمرض.

5. أنها غير مسلمة نفسها إلى زوجها في منزله فلا تستوجب النفقة عليه كالناشز وهذا، لأن الصغيرة جدا لا تنتقل إلى بيت الزوج بل تنقل إليه، ولا تنقل إليه للقرار في بيته، فتكون كالمكرهة إذا حملت إلى بيت الزوج.

6. أن نفقتها عليه باعتبار تفريغها نفسها لمصالحه، فإذا كانت لا تصلح لذلك لمعنى فيها كان ذلك بمنزلة منع جاء من قبلها، فلا نفقة لها على الزوج.

القول الثاني: لها النفقة مطلقا، وهو قول الثوري، ومذهب الظاهرية، ورواية عن الشافعي، وقول مالك كما في المدونة، فقد سئل ابن القاسم: أرأيت إن كانت صغيرة لا تجامع مثلها لصغرها فقالوا له ادخل على أهلك أو أنفق عليها؟ قال: قال مالك: ينفق عليها ولا يلزمه أن يدفع الصداق حتى تبلغ حد الجماع (1).

وهو قول للإمامية، وقد اختاره ابن إدريس في السرائر، حيث قال بعد أن نقل رأي الشيخ الطوسي بعدم الاستحقاق: (والأولى عندي أن على الكبير النفقة لزوجته الصغيرة؛ لعموم وجوب النفقة على الزوجة، ودخوله مع العلم بحالها، وهذه ليست ناشزة، والإجماع منعقد على وجوب نفقة الزوجات، فليتأمل ذلك) (2)

وقد استدلوا على ذلك بأن تعذر الوطء لم يكن بفعلها، فلم يمنع وجوب النفقة لها، كالمرض.

القول الثالث: لها النفقة، ولكن بشروط تقيدها، وقد اختلف في هذه الشروط، على الآراء التالية:

__________

(1) المدونة:2/ 177.

(2) السرائر، ابن ادريس الحلي، ج 2، ص 655.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (171)

الرأي الأول: بلوغها تسعا، وهو مذهب الحنابلة، فقد سئل أحمد: متى يؤخذ من الرجل نفقة الصغيرة، فقال: إذا كان مثلها يوطأ، كبنت تسع سنين، وقد استدلوا على ذلك بقول عائشة: (إذا بلغت الجارية تسعا فهي امرأة) وقد قيد أصحابه ذلك بأنه لا تجب النفقة عليه إلا بالتسليم، أو بذلت له بذلا يلزمه قبوله لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع وذلك ممكن منه (1).

الرأي الثاني: أنه إذا كانت الصغيرة تخدم الزوج، وينتفع الزوج بها بالخدمة، فسلمت نفسها إليه، فإن شاء ردها وإن شاء أمسكها، فإن أمسكها فلها النفقة، وإن ردها فلا نفقة لها، وهو قول أبي يوسف، ووجه الحنفية قوله بما يلي (2):

1. أنها لم تحتمل الوطء لم يوجد التسليم الذي أوجبه العقد، فكان له أن يمتنع من القبول فإن أمسكها فلها النفقة.

2. أنه حصل له منها نوع منفعة، وضرب من الاستمتاع وقد رضي بالتسليم القاصر، وإن ردها فلا نفقة لها حتى يجيء حال يقدر فيها على جماعها لانعدام التسليم الذي أوجبه العقد وعدم رضاه بالتسليم القاصر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على حصول الدخول واعتبار المرأة زوجة، تنطبق عليها جميع النصوص الخاصة بوجوب النفقة على الزوجات.

ثم إن القول بعدم وجوب النفقة لعدم القدرة على المعاشرة الجنسية يحصر الزواج في هذه الدائرة الضيقة، مع أن المقاصد الشرعية من الزواج أعظم من أن تنحصر فيها، بل إن أكثر النصوص القرآنية والنبوية لم تعتبرها غاية الزواج القصوى، بل نص القرآن الكريم على أن الزواج سكن ومودة، والسكن والمودة قد تتحققان مع وجود المعاشرة وعدمها.

__________

(1) المبدع:8/ 200.

(2) بدائع الصنائع:4/ 19.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (172)

ثم كيف نستجيز أن نحبس المرأة في بيت الزوجية، ثم نقول لها: لسنا مكلفين بالنفقة عليك، إن هذا لو عومل به مجرم سجن، أو محارب أسر لم يكن عملا شرعيا، فكيف بالزوجة، وهي السكن والمودة، وقد أشار إلى ذلك حديث اختلف في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين فيه علة وجوب النفقة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، تقول المرأة: إما أن تنفق علي أو تطلقني، ويقول الابن: إلى من تكلني ويقول: العبد أنفق علي واستعملني) (1)

صغر الزوج

بحيث لا يصلح للمعاشرة الجنسية مع صلاحيتها لذلك، وقد اختلف الفقهاء في وجوب النفقة عليه على قولين (2):

القول الأول: إن على زوجها الصبي نفقتها، وهو قول أحمد، وأحد قولي الإمامية (3)، وأحد قولي الشافعي، وبناء على هذا القول فإن الولي يجبر على نفقتها من مال الصبي، لأن النفقة على الصبي، وإنما الولي ينوب عنه في أداء الواجبات عليه، كما يؤدي أروش جناياته، وقيم متلفاته، وزكواته.

فإن لم يكن له مال، فاختارت فراقه، فرق الحاكم بينهما، فإن كان له مال، وامتنع الولي من الإنفاق، أجبره الحاكم بالحبس، فإن لم ينفق، أخذ الحاكم من مال الصبي، وأنفق عليها،

__________

(1) منشأ الخلاف في رفعه هو قول أبي هريرة عندما سئل: هذا عن النبي (، فقال: لا، هذا من كيسي، النسائي:5/ 384، قال المنذري: ولعل قوله تقول امرأتك إلى آخره من كلام أبي هريرة مدرج، الترغيب والترهيب:2/ 13، وانظر: المنتقى لابن الجارود:188، البيهقي:7/ 466، مسند الشافعي:266.

(2) المدونة:2/ 177، بدائع الصنائع: 4/ 19، الفروع:5/ 484، حاشية البجيرمي على المنهج:4/ 193.

(3) وهو مذهب المحقق الحلي [شرائع الإسلام، المحقق الحلي، ج 2، ص 569]، والعلامة الحلي [القواعد، ج 3، ص 104، والتحرير، العلامة الحلي، ج 4، ص 23]، وغيرهما...

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (173)

فإن لم يمكنه، وصبر الولي على الحبس، وتعذر الإنفاق، فرق الحاكم بينهما، إذا طلبت ذلك، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أنها سلمت نفسها تسليما صحيحا، فوجبت لها النفقة، كما لو كان الزوج كبيرا.

2. أن الاستمتاع بها ممكن، وإنما تعذر من جهة الزوج، كما لو تعذر التسليم لمرضه أو غيبته.

القول الثاني: لا نفقة لها، وهو قول مالك، وقول للشافعي، وأحد قولي الإمامية (1)، واستدلوا على ذلك بأن الزوج لا يتمكن من الاستمتاع بها، فلم تلزمه نفقتها، كما لو كانت غائبة أو صغيرة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة وجوب النفقة على ولي الزوج، لأنه هو الذي تولى هذا الزواج، ولا يجب من مال الصغير ـ إن كان له مال ـ لأنه غير مكلف بالنفقة على غيره، ونرى في مثل هذه المسائل المختلف فيها أن لا تزوج المرأة إلا بعد اشتراط النفقة أو الحقوق التي قد تخاف ضياعها.

وإن بلغ الصغير، فإنه غير مكلف بإعادة ما أنفق على زوجته إلا إذا رضي بذلك من باب التطوع، لأن زواجه وهو صغير، ولو فرض أنه حصل بعد استئذانه، إلا أن قدرته العقلية لا تسمح له بالبت في مثل هذا، فلهذا لا يتحمل تبعات قرار وليه.

الحبس

اختلف الفقهاء (2) في حق المحبوسة في النفقة على قولين:

__________

(1) واختاره الشيخ الطوسي [المبسوط، ج 6، ص 13]، وتبعه عليه جماعة مثل: ابن البراج، وابن إدريس، وابن سعيد، وصاحب المدارك، والأصفهاني، وصاحب الجواهر..

(2) منح الجليل: 4/ 403، رد المحتار: 3/ 578، الموسوعة الفقهية:16/ 324.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (174)

القول الأول:: أنه لا تجب النفقة على الزوج لزوجته المحبوسة في دين ولو ظلما بأن كانت معسرة، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة لفوات الاحتباس وكون الامتناع ليس من جهته.

القول الثاني: أن لها النفقة إن لم تكن مماطلة، سواء كان الحبس في دين الزوج أو غيره، لأن الامتناع ليس من جهتها، وهو قول المالكية وبعض الشافعية. وفرق النووي بين حبس الزوجة المقرة بدين فلا نفقة لها على زوجها وبين حبس من قامت البينة على استدانتها فلها النفقة، وفرق بعضهم بين ما لو حبسها الزوج بغير حق، فلا تسقط نفقتها ولا قسمها، وإن حبسها بحق سقطا كما لو حبسها أجنبي مطلقا بحق أو لا، وحبسها للزوج إن كان بحق لم يسقطا وإلا سقطا، لأن المانع من جهتها (1).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو النظر إلى المتسبب في سجنها، فإن كان الزوج هو السبب، بأن اضطرها لذلك لأمر من الأمور، فإن النفقة واجبة عليه طيلة مدة سجنها، ولو كان السجن يقوم لها بنفقتها، أما إن كان السبب أجنبيا، فلا يجب على الزوج الإنفاق عليها إلا فيما تحتاجه مما لا يوفره لها السجن.

وليس هذا لأجل عدم التمكين، فإن النفقة ـ كما ذكرنا ـ تستحقها الزوجة باسم الزوجية، وإنما لأن السجين عادة تقدم له النفقة الأساسية التي يحتاجها، فإن فرض عدم تقديم السجن لها ذلك، فإنه يجب على الزوج توفيره لها أو التفريق بينه وبينها.

3 ـ موانع النفقة

من الموانع التي ذكرها الفقهاء للنفقة مع اختلاف بينهم في ذلك:

أ ـ المطلقة طلاقا بائنا

__________

(1) حاشية البجيرمي:3/ 436.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (175)

اختلف الفقهاء في حق المطلقة ثلاثا في النفقة والسكنى على الأقوال التالية (1):

القول الأول: أن لها السكنى وليس لها النفقة، وهو قول مالك، والشافعي، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ قول الله تعالى: تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6)، ووجه الاستدلال بالآية كما ذكر ابن العربي أن الله تعالى لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها (2).

وقد استدل الشافعي بسياق الآية، فالله تعالى ذكر المطلقة الرجعية وأحكامها أول الآية إلى قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} (الطلاق:2) ثم ذكر بعد ذلك حكما يعم المطلقات كلهن من تعديد الأشهر وغير ذلك وهو عام في كل مطلقة، فرجع ما بعد ذلك من الأحكام إلى كل مطلقة، قال الشافعي في بيان وجه الاستدلال بالآية: (فكان بينا (والله أعلم) في هذه الآية أنها في المطلقة لا يملك زوجها رجعتها، من قبل أن الله تعالى لما أمر بالسكنى عاما، ثم قال في النفقة: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6) فدل ذلك على أن الصنف الذي أمر بالنفقة على ذوات الأحمال منهن، صنف دل الكتاب على أن لا نفقة على غير ذوات الأحمال منهن، لأنه إذا وجب لمطلقة بصفة، نفقة ففي ذلك، دليل على أنه لا يجب نفقة لمن كانت في غير صفتها من المطلقات، ولما لم أعلم مخالفا من

__________

(1) الأم:5/ 116، المغني: 8/ 185، بداية المجتهد:2/ 71، اختلاف العلماء:147، القرطبي:18/ 166، شرح معاني الآثار:3/ 72، أحكام القرآن للشافعي:261.

(2) تفسير القرطبي:18/ 168.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (176)

أهل العلم في أن المطلقة التي يملك زوجها رجعتها، في معاني الأزواج: كانت الآية على غيرها من المطلقات) (1)

2 ـ واستدلوا لإسقاط النفقة بمفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6)، فإن مفهومه أن الحامل لا نفقة لها، وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر معنى والسياق يفهم أنها الرجعية، لأن نفقة الرجعية واجبة لو لم تكن حاملا.

القول الثاني: لا سكنى لها، ولا نفقة، وهو قول علي، وابن عباس، وجابر، وعطاء، وطاوس، والحسن وعكرمة، وميمون بن مهران، وإسحاق، وأبي ثور، وداود والظاهر عند الحنابلة، وهو قول الإمامية (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ ما روت فاطمة بنت قيس، (أن زوجها طلقها ألبتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة ولا سكنى فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك) (3)،وفي لفظ: (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انظري يا ابنة قيس إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة، فإذا لم يكن له عليها الرجعة، فلا نفقة ولا سكنى)، وهذا الحديث هو المعول عليه عند أصحاب هذا القول، بل هو حجة المسألة، قال ابن القيم: (وأسعد الناس بهذا الخبر من قال به، وأنه لا

__________

(1) أحكام القرآن للشافعي:261.

(2) واستدلوا لذلك بمارواه أبو بصير عن أبي عبدالله ع: أنه سئل عن المطلقة ثلاثاً، ألها سكنى ونفقة؟ قال: حبلى هي؟ قلت: لا، قال: لا [الوسائل، ج 21، ص 521، الباب 8 من أبواب النفقات، رقم 27744]

(3) ورد الحديث بروايات مختلفة، وهذه بعض المراجع التي روي فيها هذا الحديث: مسلم:2/ 1114، فما بعدها، البخاري:5/ 2039، الترمذي:3/ 484، الدارمي:2/ 218، البيهقي:7/ 136، الدارقطني: 4/ 22، أبو داود:2/ 286، النسائي: 3/ 399، ابن ماجة: 1/ 656، الموطأ:2/ 580.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (177)

نفقة لها ولا سكنى، وليس مع رده حجة تقاومه ولا تقاربه) (1)، وقال ابن عبدالبر: (أما من طريق الحجة وما يلزم منها، فقول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأرجح، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصا صريحا، فأي شيء يعارض هذا إلا مثله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو المبين عن الله مراده، ولا شيء يدفع ذلك)

وقد تعرض الحديث للتأويل من طرف أصحاب القولين الأول والثالث، ومن أهم التأويلات ما قاله الشافعي في القديم أنه (إنما أمرت به، لأنها استطالت على أحمائها، فأمرت بالتحول عنهم للشر بينها وبينهم، فكأنهم أحبوا لها ذكر السبب الذي له أخرجت، لئلا يذهب ذاهب إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى أن تعتد المبتوتة حيث شاءت)، وهذا الذي ذكره الشافعي هو تأويل عائشة، وبه أجابت مروان لما احتج عليها بالحديث، وقد أجاب ابن القيم على ذلك التأويل بالوجوه التالية:

الوجه الأول: أنه ليس بمذكور في القصة، ولا علق عليه الحكم قط لا باللفظ ولا بالمفهوم، وإن كان واقعا فتعليق الحكم به تعليق على وصف لم يعتبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا في لفظه قط ما يدل على إسقاط السكنى به، وترك لتعليق الحكم بالوصف الذي اعتبره وعلق به الحكم وهو عدم ثبوت الرجعة.

الوجه الثاني: أن المتأولين للحديث لا يقولون به، فإن المرأة ولو استطالت ولو عصت بما عسى أن تعصى به لا يسقط حقها من السكنى، كما لو كانت حاملا، بل كان يستكري لها من حقها في مال زوجها، وتسكن ناحية.

الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر لها السبب الذي من أجله سقط حقها من السكنى، وهو سقوط حق الزوج من الرجعة، وجعل هذا قضاء عاما لها ولغيرها، فكيف يعدل عن هذا الوصف إلى وصف لو كان واقعا لم يكن له تأثير في الحكم أصلا.

__________

(1) حاشية ابن القيم:6/ 278.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (178)

الوجه الرابع: أن فاطمة ردت على من أنكر عليها وانتصرت لروايتها ومذهبها.

2 ـ أنه لا يصح الاستدلال بالآية، لأن الله تعالى قال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (الطلاق:6) وقال: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (الطلاق:1)، وهذا لو كان كما ظنوه لكان في السكنى خاصة، وأما إيجاب النفقة لها، فليس في القرآن إلا ما يدل على أنه لا نفقة لهن، لأن الله تعالى شرط في وجوب الإنفاق أن يكن من أولات الحمل، وقد قالت فاطمة بنت قيس وهي صاحبة القصة في ردها على مروان حين بلغها إنكاره بقولها: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (الطلاق:1)، قالت: هذا لمن كانت له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث، وإذا لم يكن لها نفقة، وليست حاملا فعلام يحبسونها؟

وقد وافق فاطمة على أن المراد بقوله تعالى يحدث بعد ذلك أمر المراجعة قتادة والحسن والسدي والضحاك ولم يحك عن أحد غيرهم خلافة.

3 ـ أنه لم يصح عن عمر أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، لأن أحمد أنكره وقال أما هذا فلا، ولكن قال لا نقبل في ديننا قول امرأة، وهذا أمر يرده الإجماع على قبول المرأة في الرواية، فأي حجة في شيء يخالفه الإجماع وترده السنة ويخالفه فيه علماء الصحابة (1).

4 ـ أن قول عمر، ومن وافقه من الصحابة خالفه فيه علي وابن عباس، ومن وافقهما، ولو لم يخالفه أحد منهم، لما قبل قوله المخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة على عمر وعلى غيره.

__________

(1) حاشية ابن القيم:6/ 278.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (179)

5 ـ أن رد خبرها لأنها امرأة مما لا يقول به أحد، وقد أخذ الناس برواية من هو دون فاطمة، وبخبر الفريعة وهي امرأة، وبحديث النساء كأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهن من الصحابيات، بل قد احتج العلماء بحديث فاطمة هذا بعينه في أحكام كثيرة (1).

6 ـ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى في المتلاعنين أن لا يبت لها عليه ولا قوت، قال ابن القيم: (ولو لم يكن في المسألة نص لكان القياس يقتضي سقوط النفقة والسكنى، لأنها إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، والبائن قد فقد في حقها ذلك ولهذا وجبت للرجعية لتمكنه من الاستمتاع بها، وأما البائن فلا سبيل له إلى الاستماع بها إلا بما يصل به إلى الأجنبية، وحبسها لعدته لا يوجب نفقة كما لو وطئها اليسرى وكالملاعنة والمتوفى عنها زوجها) (2)

7 ـ أنه لا سكنى إلا للرجعية لقوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (الطلاق:1)، أما قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (الطلاق:6)، فهو راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية.

8 ـ أن السكنى تابعة للنفقة وجارية مجراها، فلما لم تجب للمبتوتة نفقة لم يجب لها سكنى.

القول الثالث: لها السكنى والنفقة، وهو قول ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة وأصحابه، والبتي، والعنبري، وروي عن عمر، وابن مسعود، واستدلوا على ذلك بما يلي (3):

1.

2.

__________

(1) حاشية ابن القيم:6/ 278.

(2) حاشية ابن القيم:6/ 282.

(3) ذكر الشوكاني من الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول بعض الروايات عن عمر أنه قال سمعت رسول الله (يقول: لها السكنى والنفقة، ولم أجد من استدل بذلك من أصحاب هذا القول، وقد قال الإمام أحمد لا يصح ذلك عن عمر، وقال الدارقطني السنة بيد فاطمة قطعا، ثم إن تلك الرواية عن عمر من طريق إبراهيم النخعي ومولده بعد موت عمر بسنتين، قال ابن القيم: ونحن نشهد بالله شهادة نسأل عنها إذا لقيناه أن هذا كذب على عمر، وكذب على رسول الله (،وينبغي أن لا يحمل الإنسان فرط الانتصار للمذاهب والتعصب على معارضة السنن النبوية الصريحة الصحيحة بالكذب البحت، فلو يكون هذا عن عمر عن النبي (لخرست فاطمة وذووها ولم ينبزوا بكلمة ولا دعت فاطمة إلى المناظرة)، انظر: نيل الأوطار:7/ 106.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (180)

3. عن عمر أنه قال في المطلقة ثلاثا: لها السكنى والنفقة ما دامت في العدة، وعنه قال: لا يجوز في دين المسلمين قول امرأة، وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة، وعنه أنه قال: (لا ندع كتاب ربنا وسنة رآه لقول امرأة لها السكنى والنفقة)، وروي عن شريح في المطلقة ثلاثا، قال: لها النفقة والسكنى (1).

4. أن ما احتج به عمر في دفع حديث فاطمة بنت قيس حجة صحيحة، لأن الله تعالى قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (الطلاق:1)،ثم قال: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (الطلاق:1)، وقد أجمعوا أن ذلك الأمر هو المراجعة، ثم قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (الطلاق:6) ثم قال: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (الطلاق:1) يريد في العدة، فكانت المرأة إذا طلقها زوجها اثنتين للسنة، على ما أمره الله تعالى به، ثم راجعها، ثم طلقها أخرى للسنة، حرمت عليه، ووجبت عليها العدة التي جعل الله لها فيها السكنى، أو أمرها فيها أن لا تخرج، وأمر الزوج أن لا يخرجها، ولم يفرق الله عز وجل بين هذه المطلقة للسنة التي لا رجعة عليها، وبين المطلقة للسنة التي عليها الرجعة، فلما جاءت فاطمة بنت قيس، فروت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لها: (إنما السكنى والنفقة لمن كانت عليها الرجعة) خالفت بذلك كتاب الله نصا، لأن كتاب الله تعالى قد جعل السكنى لمن لا رجعة عليها، وخالفت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن عمر قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلاف ما روت، فخرج المعنى الذي منه أنكر عليها عمر ما أنكر

5.

__________

(1) انظر هذه الآثار بأسانيدها ودرجتها في: التمهيد:19/ 142.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (181)

6. خروجا صحيحا، وبطل حديث فاطمة، فلم يجب العمل به أصلا (1).

7. قوله تعالى: وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (الطلاق:6)، وترك النفقة من أكبر الأضرار.

8. أنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية.

9. أنها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة.

10. أنها مطلقة، فوجبت لها النفقة والسكنى، كالرجعية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن النفقة والسكنى، بالنسبة للمطلقة ثلاثا حق وليست واجبا، ومعنى كونها حقا، أن لها الخيار في أن تأخذ النفقة وتسكن السكنى، أو أن تترك ذلك جميعا، وهذا ما يفرقها عن المطلقة الرجعية، ولهذا اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا التفريق، فأخبرها أن ذلك للمطلقة الرجعية، أي على سبل الوجوب، أما المطلقة البائن فهو حق قد تأخذ به للضرورة، وقد تتركه إذا لم تدع الضرورة إلى ذلك، والنساء يختلفن في ذلك، والظروف تختلف كذلك، فلذلك لم يرد نص صريح عام يقطع الخلاف.

فكان الأوفق لمصلحة المرأة هو ما تراه مناسبا لها، ولهذا من الحرج، ومن التضييق على الناس إلزامهم بقول واحد، وقد كانت فاطمة بنت قيس عندما جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترغب في أن لا تعتد في بيت زوجها، فلذلك بلغها رغبتها.

والنصوص المختلفة التي روي بها حديث فاطمة تؤكد هذا المعنى، وقد أخذ البخاري الترجمة من مجموع ما ورد في قصة فاطمة من روايات، فرتب الجواز على أحد الأمرين: إما خشية الاقتحام عليها، وإما أن يقع منها على أهل مطلقها فحش من القول (2).

__________

(1) انظر: شرح معاني الآثار:3/ 72.

(2) فنح الباري:9/ 479.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (182)

قال ابن حجر: (فإذا جمعت ألفاظ الحديث من جميع الإشارة، خرج منها أن سبب استئذانها في الانتقال ما ذكر من الخوف عليها، واستقام الاستدلال حينئذ على أن السكنى لم تسقط لذاتها، وإنما سقطت للسبب المذكور)

وقد روي في بعض روايات الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما أمرها أن تنتقل حين خافت زوجها عليها، فقد روي أنها قالت: يا رسول الله إن زوجي طلقني، وإنه يريد أن يقتحم، قال انتقلي عنه، وقد وجه الطحاوي بعض ما يبدو من تناقض بين هذه الرواية وما روي في هذا الباب أنه طلقها وهو غائب، أو طلقها ثم غاب فخاصمت ابن عمه في نفقتها، فقال: (ما تضادا، لأنه قد يجوز أن تكون فاطمة لما طلقها زوجها، خافت على الهجوم عليها، وسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاها بالنفقة ثم غاب بعد ذلك، ووكل ابن عمه بنفقتها، فخاصمت حينئذ في النفقة وهو غائب، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا سكنى لك ولا نفقة) (1)

ثم نسأل الذين ينكرون هذا بدعوى مخالفته للسنة: بأي حق، أم بأي دين، نقول للمطلقة ثلاثا بمجرد بينونتها من زوجها: اخرجي إلى الشارع، فلا مكان لك هنا ولا نفقة، قد يكون للمرأة أهل تأوي إليهم أو بيت تسكن فيه، فتستغني عن الزوج بذلك، ولكن هناك بجانبها الكثيرات ممن قد لا يجدن أهلا ولا مالا، وقد يطلقن ليلا، فلا يصبح لهن على مقتضى قولهم حق في المبيت، أليس من الأجدى، ومن الأوفق بمقاصد الشرع أن نجعل لهن مدة يتبصرن فيها ما يعملن، وكيف يتصرفن، ويكون للمتسبب في الضرر تكاليف تلك المدة، أم نأمرهن بالخروج ليفسحن المجال لغيرهن، ثم لا نهتم بعد ذلك بمصيرهن.

قد يقال: إن المجتمع سيكفلهن كما وجدت فاطمة بيت ابن أم مكتوم، ولكن، هل في كل المجتمعات من هو كابن مكتوم، وهل شرعت الشرائع للأحوال المثالية أم شرعت لكل الأحوال.

__________

(1) انظر: شرح معاني الآثار: 3/ 72.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (183)

إن نظرة للمسألة ـ وهي ليست مسألة نادرة، بل إنها على اعتبار قول الجمهور الذين يفسخون عقدة الزواج لأتفه الألفاظ والأسباب، مسألة كثيرة الحدوث ـ تحتاج إلى نظرة أكثر واقعية، وبعين الشرع الرحيم، فلا ننظر فقط إلى الزاوية التي ترى أن العدة مرتبطة فقط باحتمال رجوعها لزوجها، بل تراها كذلك فرصة للملمة الجراح، والتفكير المنطقي، فلا تفاجأ المرأة بين عشية وضحاها بنفسها، وهي تجوب أنحاء الشوارع.

وقد يقال بعد هذا، فأين القول الأول، وهو قول وسط، فلماذ لا يكون راجحا؟ والجواب على ذلك عدم انسجام هذا القول مع المقاصد الشرعية من وجوب الإنفاق على من وجب له الإيواء، فكيف نؤويها في بيتها ونحبسها فيه ثم نحرمها من نفقتها، وقد قالت فاطمة بنت قيس في مثل هذا: (فكيف تحبس امرأة بغير نفقة) (1)

بل إن القول الذي حكاه الشوكاني عن الزيدية في هذا وروي عن أحمد من أنها تستحق النفقة دون السكنى (2)، أولى من هذا القول، لأن المرأة بالنسبة للسكنى قد تجد من يؤويها، لكنها لا تجد من يطعمها.

الحامل المطلقة ثلاثا

__________

(1) مصنف عبد الرزاق:7/ 23.

(2) ذكر الشوكاني من أدلتهم على وجوب النفقة قوله - عز وجل -: {وللمطلقات متاع بالمعروف} البقرة الآية، وبقوله - عز وجل -: {لا تضاروهن}، وبأن الزوجة المطلقة بائنا محبوسة بسبب الزوج، واستدلوا على عدم وجوب السكنى بقوله - عز وجل -: {أسكنوهن من حيث سكنتم}،فإنه أوجب أن تكون حيث الزوج وذلك لا يكون في البائنة. انظر: نيل الأوطار:7/ 106.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (184)

أجمع العلماء من المذاهب المختلفة (1) على أن الرجل إذا طلق امرأته طلاقا بائنا سواء كان ثلاثا، أو بخلع، أو بانت منه بفسخ، وكانت حاملا فلها النفقة والسكنى، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قول الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6)، فالآية صريحة في وجوب الإنفاق على الحامل حتى تضع حملها.

2. في بعض أخبار فاطمة بنت قيس: (لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا) (2)

3. أن الحمل ولده، فيلزمه الإنفاق عليه، ولا يمكنه النفقة عليه، إلا بالإنفاق عليها، فوجب، كما وجبت أجرة الرضاع.

علة الإنفاق على الحامل

اختلف الفقهاء في علة الإنفاق على الحامل، هل هي من أجل الحمل، أو للحمل على قولين (3):

القول الأول: تجب للحمل، وهي رواية عند الحنابلة وقول عند الشافعية، وقول للإمامية، لأنها تجب بوجوده، وتسقط عند انفصاله، فدل على أنها له.

__________

(1) انظر حكاية الإجماع في شرح النووي على مسلم:10/ 96، والمسالك، ج 8، ص 450، وحكاه عن المبسوط، ج 6، ص 24.

(2) انظر هذه الرواية من حديث فاطمة بنت قيس في: مسلم:2/ 1117، البيهقي:7/ 472، أبو داود:2/ 287، مصنف عبد الرزاق:7/ 22.

(3) انظر الخلاف في المسألة في: القواعد لابن رجب: 405، الإنصاف: 9/ 365، الأشباه والنظائر:38.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (185)

القول الثاني: أنها تجب لها من أجله، وهو رواية عند الحنابلة وقول عند الشافعية، وقول للإمامية، لأنها تجب مع اليسار والإعسار، فكانت له كنفقة الزوجات، ولأنها لا تسقط بمضي الزمان، فأشبهت نفقتها في حياته.

القول الثالث: أنها تجب لها خصوصا، لا لأجله، وهو قول الحنفية،، وقول للإمامية (1)، وهو قول من يقول بأن للمطلقة ثلاثا النفقة والسكنى، وقد أسهب الطحاوي في بيان الدليل العقلي على ذلك، وهو استدلال مهم مرتبط بالمقاصد الشرعية من النفقات، ولا بأس أن نلخصه هنا، فقد انطلق في استدلاله من أن الإجماع انعقد على أن المطلقة طلاقا بائنا، وهي حامل من زوجها، أن لها النفقة على زوجها، لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6)

وتلك النفقة المأمور بها يحتمل أن تكون جعلت على المطلق، لأنه يكون عنها ما يغذي الصبي في بطن أمه فيجب ذلك عليه لولده، كما يجب عليه أن يغذيه في حال رضاعه بالنفقة على من ترضعه، ويحتمل أن تكون قد جعلت للمطلقة خاصة، لعلة العدة، لا لعلة الولد الذي في بطنها، فإن كانت النفقة على الحامل إنما جعلت لها لمعنى العدة، ثبت قول الذين قالوا (للمبتوتة النفقة والسكنى حاملا كانت أو غير حامل) وإن كانت العلة التي بها وجبت النفقة هي الولد، فإن ذلك لا يدل على أن النفقة واجبة لغير الحامل.

والدليل على ذلك أن الرجل يجب عليه أن ينفق على ابنه الصغير في رضاعه حتى يستغني عن ذلك، وينفق عليه بعد ذلك ما كان الصبي محتاجا إلى ذلك، فإن كان غنيا عنه بمال له لم يجب على أبيه أن ينفق عليه من ماله، ولو أنفق عليه الأب من ماله على أنه فقير إلى ذلك، بحكم

__________

(1) وممن ذهب إلى هذا التفسير صاحب الجواهر في جواهره [جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج 31، ص 324]

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (186)

القاضي عليه، ثم علم أن الصبي قد كان وجب له مال قبل ذلك، بميراث أو غيره، كان للأب أن يرجع بذلك المال الذي أنفقه في مال الصبي الذي وجب له (1).

أما الرجل فإنه إذا طلق امرأته وهي حامل، فحكم القاضي لها عليه بالنفقة، فأنفق عليها حتى وضعت ولدا حيا، وكان لهذا الولد مال من إرث أو غيره، فإنه ليس للأب، في قولهم جميعا، أن يرجع على ابنه بما كان أنفق على أمه بحكم القاضي لها عليه بذلك، إذا كانت حاملا به، فثبت بذلك أن النفقة على المطلقة الحامل، هي لعلة العدة التي هي فيها، من الذي طلقها، لا لعلة ما هي به حامل منه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثالث بناء على أن للمطلقة ثلاثا حق النفقة والسكنى كما مر بيانه في المسألة السابقة.

أما على عدم اعتبار ذلك، فإن الأرجح من القولين هو القول الثاني لعدم انفصال حملها عنها، وإنما اخترنا هذا القول لما ينبي على الخلاف بين القولين الأولين من الآثار التي قد تتضرر بها الزوجة بناء على القول الأول، ومن تلك الآثار:

1. أن الزوجة إن كانت حاملا من نكاح فاسد، أو وطء شبهة، فعلى القول الأول هي على الزوج والواطئ، لأنه ولده، فلزمته نفقته مثلما تلزمه بعد الوضع، أما على القول الثاني فإنه لا نفقة عليه، لأنها ليست زوجة يجب الإنفاق عليها.

2. أنه إن نشزت امرأة، وهي حامل، فعلى القول الأول لم تسقط نفقتها، لأن نفقة ولده لا تسقط بنشوز أمه أما على القول الثاني فلا نفقة لها، لأنها ناشز.

الحامل المتوفى عنها زوجها

__________

(1) انظر: شرح معاني الآثار:3/ 72..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (187)

اختلف الفقهاء في وجوب نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها على الأقوال التالية (1):

القول الأول: لا نفقة لها، وهو قول جابر بن عبد الله وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعبد الملك ابن يعلى ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك وأحمد وإسحاق وحكى أبو عبيد ذلك عن أصحاب الرأي، وهو قول للإمامية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. حديث فاطمة بنت قيس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة) وفي لفظ آخر: (إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة. فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى)، قال الشوكاني: (وهو نص في محل النزاع، والقرآن والسنة إنما دلا على أنه يجب على المتوفى عنها زوجها لزومها لبيتها، وذلك تكليف لها، وحديث الفريعة إنما دل على هذا فهو واضح في أن السكنى والنفقة ليستا من تكليف الزوج، ويؤيد هذا أن الذي في القرآن في سورة الطلاق هو إيجاب النفقة لذات الحمل لا غير، وفي البقرة إيجابها للمطلقات، وقد خرج من عمومهن البائنة بحديث فاطمة بنت قيس إلا أن تكون حاملا، وخرجت أيضا المطلقة قبل الدخول بآية الأحزاب فخرجت المتوفى عنها من ذلك)

2. عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الحامل المتوفى عنها زوجها: (لا نفقة لها) (2)

3. أن الأصل براءة الذمة ووجوب التربص أربعة أشهر وعشرا لا يوجب النفقة.

4. أنه لا يجوز إيجاب النفقة بعد الموت، لأن سبيلها أن يحكم بها الحاكم على الزوج ويثبتها في ذمته وتؤخذ من ماله، وليس للزوج ذمة فتثبت فيها، فلم يجز أخذها من ماله إذا لم تثبت

5.

__________

(1) تفسير القرطبي:3/ 185، شرائع الإسلام، المحقق الحلي، ج 2، ص 570

(2) أخرجه البيهقي ورجاله ثقات لكن قال: المحفوظ وقفه، البيهقي:7/ 430، وانظر: الدارقطني:4/ 22، مصنف عبد الرزاق:7/ 38..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (188)

6. عليه.

7. أن الميراث قد انتقل إلى الورثة بالموت، إذ لم يكن هناك دين عند الموت، فغير جائز إثباتها في مال الورثة ولا في مال الزوج فتؤخذ منه.

8. أنهم أجمعوا على أن نفقة كل من كان يجبر على نفقته وهو حي مثل اولاده الأطفال وزوجته ووالديه تسقط عنه فكذلك تسقط عنه نفقة الحامل من أزواجه.

9. أن نفقة الحمل ليست بدين ثابت فتتعلق بماله بعد موته بدليل أنها تسقط عنه باعسار فبأن تسقط بالموت اولى وأحرى.

10. أجابوا عن استدلال المخالفين بقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} بأنها كانت تجب النفقة بالوصية كما دل لها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (الطلاق:240)، فنسخت الوصية بالمتاع، إما بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة:234)، وإما بآية المواريث، وإما بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا وصية لوارث)، وقد روي من حديث ابن عباس أنها نسخت آية {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (الطلاق:240) بآية الميراث بما فرض الله لهن من الربع والثمن ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا (1)، قال الشافعي: (حفظت عمن أرضى به من أهل العلم أن نفقة المتوفى عنها زوجها وكسوتها حولا منسوختان بآية الميراث، ولم أعلم مخالفا في نسخ نفقة المتوفى عنها وكسوتها سنة أو أقل من سنة)

11. أن قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6)

12.

__________

(1) سبل السلام:2/ 324.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (189)

13. واردة في المطلقات، فلا تتناول المتوفى عنها.

القول الثاني: أن لها النفقة من جميع المال، وروى هذا القول عن علي وعبد الله وبه قال ابن عمر وشريح وابن سيرين والشعبي وأبو العالية والنخعي وجلاس بن عمرو وحماد ابن ابي سليمان وأيوب السختياني وسفيان الثوري وأبو عبيد، وقد حكي الشوكاني القول بوجوب نفقة المتوفى عنها عن ابن عمر والهادي والقاسم والناصر والحسن بن صالح، وهو قول للإمامية (1)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (الطلاق:240)، ووجه الاستدلال بالآية أن نسخ المدة من الآية لا يوجب نسخ النفقة.

2. قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6)، وفيها الأمر بالإنفاق على الحوامل.

3. أنها محبوسة بسببه فتجب نفقتها.

القول الثالث: التفصيل، وقد ذكره الجصاص، قال: روى الحكم عن إبراهيم قال: (كان أصحاب عبد الله يقضون في الحامل المتوفى عنها زوجها إن كان المال كثيرا فنفقتها من نصب ولدها، وإن كان قليلا فمن جميع المال) (2)، وهو قول للإمامية (3).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة القول بالتفصيل الذي ذكره أصحاب القول الثالث بناء على الظروف المختلفة التي تكون عليها الحامل، ومن نصيبها المقدر لها، فإن كان هذا النصيب كثيرا كافيا، فإنها لا تحتاج للأخذ من مال الورثة، أما إن كان النصيب قليلا لا يكفيها لظرفها الطارئ،

__________

(1) انظرمختلف الشيعة، العلامة الحلي، ج 7، ص 493..

(2) أحكام القرآ للجصاص:1/ 574.

(3) الجامع للشرائع، ص 472.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (190)

ووضعها لا يتحمل أي عمل أو مشقة، فإن لها الحق في أن تأخذ من المال جميعا ما يسد هذه الحاجة، والآية بذلك تحتملها، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6)، لأن الإنفاق عليها إما أن يكون من الزوج في حال حياته، أو من ماله في حال موته.

ونرى أن هذا القول لازم عن القول الأول الذي دلت عليه الأدلة الكثيرة، وهو لا يتناقض معه، وإنما هو حالة من حالاته التي أشار إليها القرآن الكريم، ولأجل التوسعة بها وقع الخلاف.

وقت دفع نفقة الحامل

اختلف الفقهاء في الوقت الذي تهدفع فيه نفقة الحامل على قولين:

القول الأول: يلزم الزوج دفع نفقة الحامل المطلقة إليها بحسب حاجتها كزوجته العادية، وهو قول الحنابلة والإمامية وقول عند الشافعية، فمتى ادعت الحمل فصدقها، دفع إليها، فإن كان حملا، فقد استوفت حقها، وإن بان أنها ليست حاملا، أرجعت إليه نفقته، سواء دفع إليها بحكم الحاكم أو بغيره، وسواء شرط أنها نفقة أو لم يشترط، وإن أنكر حملها، نظر النساء الثقات، فرجع إلى قولهن، ويقبل قول المرأة الواحدة إذا كانت من أهل الخبرة والعدالة، لأنها شهادة على ما لا يطلع عليه الرجال، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قول الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6)

2. أنها محكوم لها بالنفقة، فوجب دفعها إليها، كالرجعية.

3. أن الحمل يثبت بالأمارات، وتثبت أحكامه في النكاح، والحد، والقصاص، والمنع من الأخذ في الزكاة، ووجوب الدفع في الدية، فهو كالمتحقق.

4. أن النفقة تجب بمجرد الحمل، ولا تختلف باختلافه، بخلاف الميراث، لأن الميراث لا يثبت بمجرد الحمل، فإنه يشترط له الوضع والاستهلال بعد الوضع.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (191)

القول الثاني: لا يلزمه دفعها إليها حتى تضع، وهو قول عند الشافعية، واستدلوا على ذلك بأن الحمل غير متحقق ولهذا قالوا بوقف الميراث إلى تبين الحمل.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول لأن الأساس في تشريع النفقة هو الحاجة، فإذا تركنا الحامل في فترة حاجتها للجوع والعطش والعري، فما يجديها بعد ذلك إن سلمت وسلم حملها أن ندفع لها حق ولادته، مع أن النص صريح في أن النفقة مأمور بها إلى غاية حددها الشرع بـ {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطلاق:6) ولم يقل النص القرآني (حين يضعن حملهن)

ب ـ الناشز

وقد عرف الفقهاء النشوز بأنه نفور المرأة عن زوجها (بحيث لا تطيعه إذا دعاها للفراش، أو تخرج من منزله بغير إذنه، ونحو ذلك مما فيه امتناع عما يجب عليها من طاعته) (1)

فالنشوز ـ بهذا ـ لا يحصل من الزوجة إلا إذا تمردت على الالتزام بأحد هذين الحقين المطلوبين منها لزوجها، بمقتضى عقد الزوجية، وهما الاستمتاع واستئذانه في الخروج من البيت، أما مخالفتها له في غير ما يرتبط بهما، لا يعتبر نشوزاً، ولا تترتب عليه أحكام النشوز.

قال الشهيد الثاني في المسالك: (ليس من النشوز ولا من مقدماته بذاءة اللسان والشتم، ولكنها تأثم به، وتستحق التأديب عليه، وهل يجوز للزوج تأديبها على ذلك ونحوه مما لا يتعلق بالاستمتاع، أم يرفع أمره إلى الحاكم؟ قولان تقدما في كتاب الأمر بالمعروف، والأقوى: أن الزوج فيما وراء حق المساكنة والاستمتاع كالأجنبي، وإن نغص ذلك عيشه وكدر الاستمتاع.. ولا أثر للامتناع من حوائجه التي لا تتعلق بالاستمتاع، إذ لا يجب عليها ذلك) (2)

وقال السيد الشيرازي: (والظاهر أن النشوز شرعاً حسب الأدلة لا يتحقق بامتناع

__________

(1) الفتاوى الكبرى: 3/ 338.

(2) النجفي: الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام، ج 11 ص 132.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (192)

أحدهما عن المستحب بالنسبة إلى الآخر، وإن كان ذلك موجباً لعدم الملائمة والموافقة، وسبباً لتغير الحالة السابقة، فامتناع المرأة مما لا يجب عليها، من الرضاع والطبخ والكنس والغسل وما أشبه، ليس بنشوز، وتحققه منهما ليس شقاقاً، وكذلك ليس من النشوز والشقاق السب، بل وحتى الضرب والتضارب وما أشبه، مما يعتاد عند بعض العوام) (1)

وقد نص الفقهاء على أن النفقة من الزوج على زوجته تسقط طيلة مدة نشوزها لعدم تحقق شرط التسليم، كما مر بيانه، والكثير يصور المسألة على هذه الصورة، وكأنها محل اتفاق، قال ابن المنذر: (لا أعلم أحدا خالف هؤلاء إلا الحكم، ولعله يحتج بأن نشوزها لا يسقط مهرها، فكذلك نفقتها)، وقال الطحاوي: (لم يختلفوا أن الناشز لا تستحق النفقة ولا الكسوة لعدم التسليم) (2)، وقال في جواهر العقود: (واتفقوا على أن الناشز لا نفقة لها) (3)، لكن المسألة فيها خلاف قديم ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، فقد اختلف الفقهاء في حكم نفقة الناشز على قولين:

القول الأول: سقوط النفقة عليه بسبب نشوزها، وهو القول المتفق عليه عند جمهور الفقهاء، ومن الأدلة التي استدل بها العلماء على سقوط نفقة الناشز:

1. أن النفقة إنما تجب في مقابلة تمكينها، بدليل أنها لا تجب قبل تسليمها إليه، وإذا منعها النفقة كان لها منعه التمكين، فإذا منعته التمكين كان له منعها من النفقة.

2. أنه لا يجب بمجرد العقد بل يالتسليم، ولذلك لو مات أحدهما قبل الدخول وجب المهر دون النفقة.

3. أما إذا كان له منها ولد، فعليه نفقة ولده، لأنها واجبة له، فلا يسقط حقه بنشوزها، فيعطيها

4.

__________

(1) الشيرازي: السيد محمد الحسيني، الفقه ج 67 ص 364.

(2) مختصر اختلاف العلماء:2/ 371.

(3) جواهر العقود:2/ 174.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (193)

5. إياها إذا كانت هي حاضنته أو مرضعته، وكذلك يلزمه تسليمه أجر رضاعها، لأنه أجر ملكته عليه بالإرضاع، لا في مقابلة الاستمتاع، فلا يزول بزواله.

القول الثاني: وجوب النفقة على الزوج في حال نشوز الزوجة، وقد ذكر ابن رشد هذا القول واعتبره شاذا في المسألة (1)، مع أنه قول الظاهرية، وقول كثير من المالكية (2)، فقد اختلف المالكية في وجوب نفقة الناشز على زوجها على رأيين:

1. فعند ابن المواز وهو مذكور عن مالك ورواه عن ابن القاسم ومثله سحنون أن لها النفقة.

2. وقال البغداديون من المالكية: لا نفقة لها لأنها منعته من الوطء الذي هو عوض النفقة، واعتلوا بإيجاب النفقة على الزوج إذا دعي للبناء.

وقد ذكر ابن حزم الأدلة الكثيرة على هذا القول، ومنها:

1. أن الله تعالى بين ما على الناشز فقال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (النساء:34)، فأخبر تعالى أنه ليس على الناشز إلا الهجر والضرب، ولم يسقط عز وجل نفقتها ولا كسوتها.

2. عن حكيم بن معاوية القشيري قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت) (3) فعم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل النساء ولم يخص ناشزا من غيرها، ولا صغيرة ولا كبيرة، ولا أمة مبوأة بيتا من غيرها.

3. أن اعتبار النفقة مقابل الجماع، والطاعة غير صحيح، وأول من يبطله من يستدل به (أما

4.

__________

(1) بداية المجتهد: 2/ 41.

(2) مواهب الجليل:4/ 183، التاج والإكليل:4/ 188، حاشية الدسوقي:2/ 343.

(3) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (194)

5. الحنفيون، والشافعيون فيوجبون النفقة على الزوج الصغير على الكبيرة، ولا جماع هنالك ولا طاعة. والحنفيون، والمالكيون، والشافعيون: يوجبون النفقة على المجبوب والعنين ولا خلاف في وجوب النفقة على المريضة التي لا يمكن جماعها) (1)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لعدم أي دليل نصي صريح يدل على عدم النفقة للناشز مقابل وجود الأدلة الصريحة الكثيرة على استحقاقها النفقة، وقد تقدم ذكر بعضها، بل نرى أنه صلى الله عليه وآله وسلم أشار في خطبته في حجة الوداع إلى هذا إشارة صريحة حين قال: (فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الرزق والكسوة بعد الضرب، وهو لا يكون إلا بعد نشوزها ومعصيتها لزوجها، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يمنعكم تأديبكم لهن من إعطائهن حقهن في النفقة والكسوة، وفي ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكسوة في هذا الموضع إشارة إلى مدى تأثير ذلك في رفع النشوز عن الزوجة وإعادة الأسرة إلى جو السلام العائلي، وهو معروف مجرب واقعيا.

أما استدلال المخالفين فلا يعدو أن يكون أقيسة لا ترتفع لمعارضة النقول، وقد ذكر ابن رشد أن سبب الخلاف معارضة العموم للمفهوم، فعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (2) يقتضي أن الناشز وغير الناشز في ذلك سواء، والمفهوم من أن النفقة هي في مقابلة الاستمتاع يوجب أن لا نفقة للناشز (3).

__________

(1) المحلى: 9/ 510.

(2) سبق تخريجه.

(3) بداية المجتهد: 2/ 41.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (195)

وليس هناك دليل واحد على اعتبار العلة في النفقة الاستمتاع، أو أن العقد هو على مجرد المتعة، أو أن المهر مقابل المتعة، وإلا لارتفعت العلة بارتفاع المعلول، وبطل العقد بانتفاء سببه الموجب له.

أما الاستدلال بكونها ظالمة، فقد بين المنهج الشرعي طريقة التعامل مع ظلمها، مما سنرى تفاصيله في محلها، وليس منها منع النفقة عنها، وقد ذكر ابن حزم أن هذا النهج هو نهج الظلمة من الحكام الذين يمنعون حق الرعية في المال العام إذا أرادوا عقوبتهم، قال ابن حزم: (فإن قالوا: إنها ظالمة بنشوزها؟ قلنا: نعم، وليس كل ظالم يحل منعه من ماله إلا أن يأتي بذلك نص، وإلا فليس هو حكم الله، هذا حكم الشيطان، وظلمة العمال والشرط، والعجب كله أنهم لا يسقطون قرضا أقرضته إياه من أجل نشوزها؟ فما ذنب نفقتها تسقط دون سائر حقوقها إن هذا لعجب عجيب؟) (1)

ثم بعد هذا، ماذا ينتظر من امرأة بلغ بها الغضب حد النشوز، وقد يكون لها سبب شرعي تخفيه أو تظهره، فنأتي بالفتاوى والأقضية لنضرم النار فيها، أو نزيد طينتها بلة، أليس من الأجدى أن نطالب الرجل في حالها تلك بالإحسان إليها بالنفقات والهدايا تأليفا لقلبها، وإصلاحا لسلوكها، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم} (فصلت:34)

والتأمل في القرآن الكريم والسنة المطهرة يدل على هذا وأكثر منه، فكيف يظهر حسن الخلق، أو الخيرية في زوج كلما عصته زوجته جوعها، وكلما رفعت صوتها أمامه تصورها ناشزا وأدبها بما يمليه فهمه الخاطئ للدين، والذي أفرزه تجبره وتعاليه باسم رجولته وحق قوامته.

ولكن هذا الترجيح الذي رأيناه لا نراه قولا لازما في كل حالة، ومن الخطأ أن نحكم في قضايا جميع المجتمعات وجميع النسوة وجميع الأزواج وجميع الظروف حكما واحدا مع ما قد

__________

(1) المحلى:9/ 511.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (196)

يحمله من جور وتعسف، فلذلك قد يخضع هذا الأمر لبعض الاستحسان أو للمصالح المرسلة أو لسد الذرائع في ظروف معينة وأحوال خاصة.

ولا بأس أن نذكر هنا بعض الاستحسانات الفقهية من أئمة من المالكية، لا نذكرها على سبيل صحتها المطلقة، وإنما من باب كونها نماذج للتعامل مع الأحوال الخاصة (1):

قال الشيخ أبو عمران: (وأستحسن في هذا الزمان أن يقال لها إما أن ترجعي إلى بيتك وتحاكمي زوجك وتنصفيه وإلا فلا نفقة لك، لتعذر الأحكام والإنصاف في هذا الوقت، فيكون قول البغداديين حسنا في هذا، ويكون الأمر على ما قاله الآخرون إذا كان الزوج يقدر على محاكمتها، فلم يفعل، فيؤمر بإجراء النفقة، حتى إذا لم تمكنه المحاكمة، ولم يتمكن له حالة تنصفه، ولم تجبه هي إلى الإنصاف، فأستحسن أن لا نفقة لها)

وقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن: (إنما فرق بين المرأة تسكن بيت الزوج أنها لا كراء لها في ذلك، وبين ما إذا هربت منه أن لها أن تطلبه بالنفقة، لأن السكنى حق لها فتركته، وسكنت في موضع آخر، وأما التي هربت منه فقد كان له أن يرجعها إلى الحاكم، ويردها إلى بيتها، فحكم النفقة قائم ساقط عنه، ولو كان لا يعلم أين هربت أو تعذر عليها رفعها للحاكم، ونحو هذا من الأعذار فلا شيء عليه فيستوي حكم ذلك وحكم السكنى)

وقال ابن فرحون: (ولا خلاف أنها إذا خرجت وسكنت في موضع، فلا كراء لها على زوجها، وهذا بخلاف النفقة)

فهذه الأقوال نماذج عن كيفية التعامل مع الأحوال الخاصة، وهي مما يربط القول الأول والثاني بما فيه مصلحة الأسرة، لأن مصلحة الأسرة قد تقتضي تصرفات حاسمة مؤقتة في بعض الأحيان غرضها رأب الصدع لا توسيع الهوة، ولا ينبغي أن تؤخذ بالضرورة بحروفها، بل يلبس لكل حالة لبوسها، ويتعامل مع كل حالة بحسبها.

__________

(1) انظر هذه النصوص وغيرها في: مواهب الجليل:4/ 183.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (197)

نفقة الحامل الناشز

اختلف الفقهاء القائلون بعدم النفقة للناشز في وجوب النفقة للحامل الناشز على قولين:

القول الأول: لا تسقط نفقة الحامل الناشز، وهو قول المالكية، وإحدى الروايتين عند الحنابلة وقول عند الشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن النفقة حيث لم تحمل خاصة لها فتسقط بالنشوز، ومع حملها تجب النفقة لها وللحمل.

2. أن النفقة للحمل نفسه، والحامل طريق وصول النفقة إليه لأنه يتغذى بغذاء أمه.

القول الثاني: أن نفقة الحامل تسقط بنشوزها، وهو القول المعتمد عند الشافعية وهو الرواية الثانية عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن النفقة لها لا للحمل، لأنها لو كانت له لتقدرت بقدر كفايته.

2. أنها تجب على الموسر والمعسر، ولو كانت له لما وجبت على المعسر.

3. أنه إذا كان أصل النفقة لها لا للحمل فتسقط بنشوزها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على ما سبق ذكره من أدلة، ولأن النصوص صريحة في تخصيص الحوامل بالنفقة، وهو يشير إلى حاجتهن الشديدة إليها، وقد أثبت العلم الحديث ذلك، فنقصان معدن واحد من غذائها، أو تخلف فيتامين قد تنتج عنه تشوهات تظل مع المولود طول حياته، أو قد يقضي ذلك الفقر الغذائي عليها وعليه.

أما استدلال أصحاب القول الثاني بأنها لو كانت له لتقدرت بقدر كفايته، فإن كفايته في كفاية أمه وصحته في صحتها، وهل يمكن أن نسقي ورقة من شجرة بغير سقي جذورها.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (198)

ثم إن أصحاب القول الثاني يتفقون على وجوب النفقة على الولد، فكيف يستجيزون عدم النفقة عليه في أشد أوقاته حاجة إلى الغذاء، بل إن نوع غذاءه في تلك الفترة هو الذي يحدد عقله وجسمه، بل سلوكه وشخصيته.

ج ـ سفر الزوجة

يختلف حكم استحقاق المرأة للنفقة بسبب سفرها بحسب نوع السفر مباحا كان أو حراما، وسنفصل الكلام في هذين النوعين من السفر في محلهما، ولكن سنشير هنا إلى ما يتعلق من هذا بالنفقة:

السفر المباح

اتفق الفقهاء على أنها إن سافرت بإذنه، في حاجته، فلها نفقتها، لأنها سافرت في شغله ومراده، أما إن كان في حاجة نفسها، فقد اختلف في ذلك، فقيل بسقوط نفقتها، لأنها فوتت التمكين لحظ نفسها، وقضاء حاجتها، فأشبه ما لو استنظرته قبل الدخول مدة فأنظرها، إلا أن يكون مسافرا معها، متمكنا من الاستمتاع بها، فلا تسقط نفقتها، لأنها لم تفوت التمكين، فأشبهت غير المسافرة.

وقيل بعدم سقوط نفقتها، وإن لم يكن معها، لأنها مسافرة في سفر مباح وبإذنه، فأشبه ما لو سافرت في حاجته، وهو الأرجح لأن اسم الزوجية لم يزل عنها بسفرها، ولم يوجد أي مانع يمنعها من نفقتها، حتى ولو قلنا بتأثير النشوز في النفقة، فإنها تستحقها لأنها خرجت بإذنه (1).

ويستوي في هذا الحكم ما لو سافرت لتجارة، أو حج تطوع، أو زيارة أما إذا سافرت بعد الزفاف لحج الفريضة مع محرم منها غير زوجها فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:

__________

(1) انظر: جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج 31، ص 313.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (199)

القول الأول: أنه لا نفقة لها لتفويتها حق الزوج، أما إذا سافر معها فتجب لها النفقة، وهو مذهب أبي حنيفة.

القول الثاني: إذا أحرمت بالحج الواجب، أو العمرة الواجبة، في الوقت الواجب، من الميقات، فلها النفقة في ذلك كله، وهو قول الحنابلة والإمامية (1)، لأنها فعلت الواجب عليها بأصل الشرع في وقته، فلم تسقط نفقتها، كما لو صامت رمضان، أما لو قدمت الإحرام على الميقات، أو قبل الوقت لم تجب لها النفقة، لأنها فوتت عليه التمكين بشيء مستغنى عنه (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن وجود الرجل مع زوجته في السفر أو عدم وجوده لا علاقة له بالنفقة، لأن النفقة حق الزوجة باسم زوجيتها، وغيابها عنه للحج أو غيره ما دام مباحا كغيابه عنها، سواء بسواء، فكيف نفرض لها النفقة في حال غيابه عنها، ثم نحرمها منها في حال غيابها عنه مع أن في كليهما يتضرر الجانبان بغيبة الآخر.

السفر الحرام

نص أكثر الفقهاء على أنه إذا سافرت الزوجة وحدها أو مع غير محرم منها أو بغير إذنه قبل الزفاف أو بعده مطلق سفر فلا نفقة لها، لأنها فوتت حق الاحتباس على الزوج، ولأنها عاصية بهذا السفر الذي لم يصحبها محرم فيه.

وليس هذا القول على عمومه، لأن في بعض المسائل المذكورة خلاف بين العلماء سنذكره في محله.

__________

(1) مسالك الأفهام، الشهيد الثاني، ج 8، ص 446.

(2) واختار الشهيد الثاني القول بعدم السقوط واستظهره من المحقق الحلي في الشرائع [الشرائع، ج 2، ص 348]، وحكاه صاحب الجواهر عن بعضهم ولم يسمه [جواهر الكلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج 31، ص 314]

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (200)

د ـ حكم نفقة الزوجة العاملة

إذا كانت الزوجة تحترف عملاً يضطرها إلى الخروج من بيت الزوجية طول النهار أو أكثره أو الليل كله أو أكثره ثم ترجع إليه بعد فراغها منه، فإن الحكم فيها يختلف بحسب الأحوال التالية:

الحالة الأولى الخروج إلى العمل برضا الزوج وموافقته

إذا خرجت الزوجة برضا الزوج وموافقته، فإنها لا تسقط نفقتها عليه، ولو أدى ذلك إلى تفريطها في بعض حقوقه الواجبة عليها، والتي بموجبها تستحق النفقة، وذلك لأنه برضاه وموافقته أسقط حقه في تفرغ زوجته التام له، واكتفى منه بالناقص.

ومثل هذه الحالة ما لو شرطت عليه في العقد العمل على أن تكون نفقتها عليه، فوافق على ذلك، ورضي به، فإنه ليس له بعد ذلك أن يمنعها بناء على القول باعتبار الشروط المقيدة لمقتضى العقد، وله أن يمنعها بناء على عدم القول بذلك، وبناء عليه لا تستحق النفقة إذا ما رفضت أمره بلزوم البيت.

الحالة الثانية عدم رضا الزوج عن عملها

إذا خرجت الزوجة إلى العمل بدون رضا الزوج وموافقته، أو شرط عليها ترك عملها عند عقد الزواج ولم توف بهذا الشرط فإنها تسقط نفقتها بذلك، لا لكونها ناشزا، فالنشوز حالة مؤقتة لها علاجها الشرعي الخاص، وإنما لكونها لم تعطه حقه من التفرغ الكامل، فنقص حقها من النفقة بقدر ذلك التفريط.

أما إذا رضي بعملها أول الأمر، ثم طلب منها الامتناع عن العمل لما يترتب عليه من أضرار له ولأسرته، فلم تجبه إلى طلبه، فإن المسألة تحتاج إلى نظر، والأرجح فيها، والله أعلم، سقوط نفقتها، لا لكونها ناشزا كما ذكرنا وإنما جزاء لتفريطها في حق بيتها.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (201)

أما لو كان عملها في بيتها، وكان لا يعطلها عن القيام بواجبات الزوجية، فإنه لا يسقط حقها في النفقة باتفاق العلماء، وسنعود لمزيد من التفاصيل المتعلقة بهذه المسألة في محلها.

رابعا ـ أنواع النفقة ومقاديرهأ

كما تحدث الفقهاء عن الشروط الموجبة للنفقة حتى لا تفرض إلا على من تحققت فيه شرائطها، فإنهم فصلوا الكلام كذلك في أنواع النفقات، درءا للخلاف، فلا تزعم الزوجة أنه قصر في حقها، ولا يتلاعب الزوج بالوجوب المفروض عليه فيجعله وجوبا صوريا، ونلاحظ هنا قبل استعراض أنواع النفقات أن الفقهاء تحدثوا عن هذه النفقات بحسب أعرافهم وبيئاتهم، وذلك لا يمنع من البناء عليها في التعرف على أحكام ما استجد في عصرنا من أنواع النفقات.

النوع الأول ـ الطعام

ويتعلق بهذا النوع من النفقة المسائل التالية:

جنس القوت الواجب في النفقة

اختلف الفقهاء في جنس القوت (1) الواجب في النفقة على قولين (2):

__________

(1) يقصد الفقهاء بالقوت الخبز وحبة من بر وشعير وذرة ودخن ونحوه، ودقيقه وسويقه والفاكهة اليابسة، كتمر وزبيبومشمش وتين وتوت، واللحم واللبن ونحوه، أما الطعام فهو أعم لأنه عبارة عما يؤكل ويشرب من قوت وأدم وحلو وجامد ومائع وما جرت العادة بأكله من نبات الأرض لا ماء ودواء وورق شجر ونشارة خشب وتراب، لأن أهل العرف لا يطلقون اسم الطعام على هذه. انظر: كشاف القناع:6/ 257.

(2) المغني: 8/ 157، الفتاوى الكبرى: 3/ 229، الفروع: 5/ 581، مواهب الجليل: 4/ 123، حاشية الجمل:4/ 488.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (202)

القول الأول: الواجب فيها الحب، حتى لو دفع إليها دقيقا أو سويقا أو خبزا، لم يلزمها قبوله، وهو قول الشافعية (1)، فيما لو كان الحب غالب قوتهم، فإن غلب غير الحب كتمر ولحم وأقط فهو الواجب ليس غير، لكن عليه مؤونة اللحم وما يطبخ به.

فإن نزلت عليه في بلده اعتبر غالب قوت بلده، وإن نزل عليها في بلدها اعتبر غالب قوت بلدها، وإن نزل ببلدة ولم تألف خلاف قوت بلدها قيل لها: هذا حقك فأبدليه قوت بلدك إن شئت، ولو انتقلا عن بلدهما لزمه من غالب قوت ما انتقلا إليه دون ما انتقلا عنه، سواء كان أعلى أم أدنى، فإن كان كل واحد ببلد أو نحوها اعتبر محلها (2)، واستدلوا على ذلك بالقياس على الإطعام في الكفارة، فإنه لا يلزم المسكين ذلك في الكفارة.

القول الثاني: لا يجب فيها جنس بعينه، بل يعتبر في ذلك عرف أهل البلد، وهو قول الجمهور، وبه قال الإمامية (3)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (المائدة:89)،لأن الوسط بمعنى الأعلى والخيار وهو هنا منزلة بين منزلتين ونصفا بين طرفين.

2. عن ابن عباس قال: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة، فنزلت: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (المائدة:89)، والدليل على عدم حصرها في جنس بعينه اختلاف الصحابة في هذا الوسط، فقال ابن عباس: الخبز والزيت. وعن ابن عمر: الخبز والسمن، والخبز والزيت، والخبز والتمر، ومن أفضل ما تطعمونهن

3.

__________

(1) فقد نصوا على أن واجب الزوج لزوجته تمليكها الطعام حبا سليما لأنه أكمل في النفع من الخبز والدقيق فتتصرف فيه كيفشاءت قياسا على الكفارة وزكاة الفطر، انظر: مغني المحتاج:5/ 124.

(2) تحفة المحتاج:8/ 305.

(3) شرائع الإسلام: 2/ 349.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (203)

4. الخبز واللحم. ففسر إطعام الأهل بالخبز مع غيره من الأدم (1).

5. أن الشرع ورد بالإنفاق مطلقا من غير تقييد ولا تقدير، فوجب أن يرد إلى العرف، كما في القبض والإحراز.

6. أن أهل العرف إنما يتعارفون فيما بينهم في الإنفاق على أهليهم الخبز والأدم، دون الحب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته إنما كانوا ينفقون ذلك، دون ما ذكروه، فكان ذلك هو الواجب.

7. أنها نفقة قدرها الشرع بالكفاية، فكان الواجب الخبز.

8. أن الحب تحتاج فيه إلى طحنه وخبزه، فمتى احتاجت إلى تكلف ذلك من مالها لم تحصل الكفاية بنفقته.

9. أن الإطعام في النفقة يفارق الإطعام في الكفارة، لأنها لا تقدر بالكفاية، ولا يجب فيها الأدم، ويفارق الطعام في الكفارة كذلك لأنه حق الله تعالى، وليس هو لآدمي معين، فيرضى بالعوض عنه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم تحديد شيء من ذلك، وتركه للأعراف المختلفة، فعلى أساسها يحدد القاضي ما يجب للمرأة في حال الاختلاف، والدليل على ذلك عدم بيان النصوص الأجناس والمقادير وترك ذلك للعرف، قال ابن تيمية: (والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علما وعملا قديما وحديثا، فإن القرآن قد دل على ذلك، فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف، ولم يقدر لها نوعا ولا قدرا، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع، كما بين فرائض الزكاة والديات) (2)

__________

(1) القرطبي:6/ 276.

(2) كتب ورسائل ابن تيمية في الفقه:34/ 86.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (204)

ثم إن الشرع قد أمر في هذا بالكفاية، وهي تتنوع بحالة الزوجة في حاجتها، ويتنوع الزمان والمكان، ويتنوع حال الزوج في يساره وإعساره، (وليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف، ولا كفاية طعامه كطعامه، ولا طعام البلاد الحارة كالباردة، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير، كالمعروف في بلاد الفاكهة والخمير)

وعندما سأل المستفتي صلى الله عليه وآله وسلم عن حق الزوجة، قال: (تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت)، فلم يأمر في شيء من ذلك بقدر معين، لكن قيد ذلك بالمعروف تارة، وبالمواساة بالزوج أخرى.

الواجب في النفقة

اختلف الفقهاء في مقدار القوت الواجب في النفقة على قولين:

القول الأول: أن النفقة مقدرة بمقدار شرعي، وهو قول الشافعي ورواية عند الحنابلة، واختلفوا في مقدارها الشرعي على رأيين:

الرأي الأول: هي مقدرة بمقدار لا يختلف في القلة والكثرة، والواجب رطلان من الخبز في كل يوم، في حق الموسر والمعسر، وهو قول القاضي واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قياس الإطعام على الكفارت.

2. أن الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول، وفيما تقوم به البنية، وإنما يختلفان في جودته، فكذلك النفقة الواجبة.

الرأي الثاني: التفريق بين الموسر والمعسر، وهو قول الشافعية، فاعتبروا نفقة المقتر مدا بمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستدلوا على ذلك بأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مد، والله تعالى اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل، فقال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (المائدة:89)، أما

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (205)

الموسر فعليه مدان، واستدلوا على ذلك بأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مدين في كفارة الأذى، أما المتوسط فعليه مد ونصف، نصف نفقة الموسر، ونصف نفقة الفقير.

القول الثاني: أن النفقة مقدرة بالكفاية، وتختلف باختلاف من تجب له النفقة في مقدارها، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو قول الإمامية، وقد اعتبره بعضهم إجماعا منهم، قال ابن إدريس: (نفقة الزوجات عندنا غير مقدرة بلا خلاف، إلا من شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه، فإنه ذهب إلى أنها مقدرة، ومبلغها مد، وقدره رطلان وربع، ثم استدل رحمه الله بإجماع الفرقة وأخبارهم، وهذا عجيب منه رضي الله عنه، والسبر بيننا وبينه، فإن أخبارنا لم يرد منها خبر بتقدير نفقة، وأما أصحابنا المصنفون فما يوجد لأحد منهم في تصنيف له تقدير النفقة، إلا من قلده وتابعه أخيراً، والدليل على أصل المسألة قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي بما تعارف الناس، وأيضاً الأصل براءة الذمة من التقدير، فمن ادعى شيئاً بعينه فإنه يحتاج إلى دليل، ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع، والأصل براءة الذمة) (1)

واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. الأدلة السابقة في اعتبار المعروف كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لهند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). فأمرها بأخذ ما يكفيها من غير تقدير، ورد الاجتهاد في ذلك إليها.

2. أن قدر كفايتها لا ينحصر في المدين، بحيث لا يزيد عنهما ولا ينقص، وإيجاب أقل من الكفاية من الرزق ترك للمعروف، وإيجاب قدر الكفاية، وإن كان أقل من مد أو من رطلي خبز، إنفاق بالمعروف، فيكون ذلك هو الواجب بالكتاب والسنة.

3. أن اعتبار النفقة بالكفارة في القدر لا يصح، لأن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار، ولا هي مقدرة بالكفاية، وإنما اعتبرها الشرع بها في الجنس دون القدر، ولهذا لا يجب فيها الأدم.

__________

(1) السرائر: ج 2 ص 655.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (206)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة ـ كما ذكرنا سابقا ـ ترك ذلك للعرف، ولكن مع ملاحظة ينبغي ذكرها هنا هي التعرف في ذلك على رأي المختصين من الأطباء وعلماء التغذية، لمعرفة الغذاء الصحي نوعا وكمية، لأن القول بالعرف المجرد عن نظر المختصين قد يكون فيه إساءة للناحية الصحية للزوجة، لأن بعض الأعراف تتعود غذاء يسيء لصحتها، ويصيبها لأجل ذلك بالعلل، فلا ينبغي أن يتخذ مثل هذا العرف مقياسا لذلك.

والملاحظة الثانية، أن يلاحظ في تقدير القوت كمية ونوعا الحالة الصحية للمرأة، لأن الغذاء يختلف باختلاف حالتها، فقد تكون مرضعا أو حاملا، أو مريضة مرضا يدعو إلى غذاء خاص، وذلك يتطلب أن يوفر لها الغذاء الذي ينصح به الطبيب، لذلك تختلف النفقات بحسب الأحوال أكثر مما تختلف بحسب الأعراف.

الأدم

وهو ما جرت العادة بأكل الخبز به، أي ما يغمس فيه الخبز، ومن الأمثلة التي ذكرها الفقهاء له: الطبيخ والمرق والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن والدبس والعسل أو جامد كالشواء والجبن والباقلاء والزيتون والبيض والملح والتمر والزبيب ونحوه من كل ما جرت العادة بأكل الخبز به (1).

__________

(1) كشاف القناع:6/ 257.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (207)

وقد ورد في الأحاديث النبوية الشريفة بعض أنواع الأدم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (نعم الإدام الخل) (1)، وقال:: (ائتدموا بالزيت وادهنوا به) (2)، وفي الحديث: (سيد إدامكم الملح) (3)، ومضغ صلى الله عليه وآله وسلم تمرة على كسرة وقال: هذه إدام هذه (4).

أنواع الإدام الواجبة على الزوج

ذكرنا سابقا خلاف الفقهاء فيمن يعتبر في النفقة، وهذا الاعتبار يظهر خاصة في الأدم، وسنذكر هنا بعض الأمثلة التي ذكرها الفقهاء لذلك، مع ملاحظة أن ما نرجحه من الرأي هو عدم التفريق بين الموسرة والمعسرة، لا كما سنذكر من آراء، وقد سبق بيان دليل ذلك:

نص الحنابلة على أن الحاكم يفرض للموسرة تحت الموسر من أرفع خبز البلد ودهنه وأدمه الذي جرت عادة أمثالها بأكله من الأرز واللبن وغيرهما مما لا تكره عرفا، وإن تبرمت بأدم نقلها إلى أدم غيره، ويفرض لها لحما عادة الموسرين بذلك الموضع ويفرض لها حطبا وملحا لطبخه، لأنها لا تستغني عنه، وقدر اللحم رطل عراقي، وقيل في الجمعة مرتين (5).

__________

(1) مسلم: 3/ 1621، الترمذي: 4/ 279، الدارمي: 2/ 138، البيهقي: 7/ 179، أبو داود: 3/ 359، ابن ماجة: 2/ 1102..

(2) ابن ماجة: 2/ 1103، مسند البزار: 1/ 397،شعب الإيمان: 5/ 100..

(3) ابن ماجة: 2/ 1102، المعجم الأوسط: 8/ 354 مسند الشهاب: 2/ 265، مسند أبي يعلى: 6/ 377، قال في كشف الخفاء: هو ضعيف لأن في سنده مبهما أثبته بعضهم وحذفه آخرون ورواه بعضهم بلفظ (سيد الادام الملح) ورواه بعض آخر بلفظ (عليكم بالملح فانه شفاء من سبعين داء منها الجنون والجذام والبرص) ولعله موضوع وقال ابن الغرس: وأما حديث عليكم بالملح فان فيه شفاء من سبعين داء فقد نص ابن قيم الجوزية أنه موضوع. كشف الخفاء:1/ 556.

(4) البيهقي: 10/ 63، أبو داود: 3/ 225.

(5) كشاف القناع:5/ 460.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (208)

ويعتبر الأدم عند الشافعية بغالب عادة أهل البلد، كالزيت بالشام، والشيرج بالعراق، ويعتبر قدر الأدم بالقوت، فإذا قيل: إن الرطل تكفيه الأوقية من الدهن. فرض ذلك. وفي كل يوم جمعة رطل لحم، فإن كان في موضع يرخص اللحم، زادها على الرطل شيئا، وقالوا بأن الواجب من جنس قوت البلدة، لا يختلف باليسار والإعسار سوى المقدار.

وقد نصوا على أنه ينبغي أن يجب نحو القهوة إذا اعتيدت، ونحو ما تطلبه المرأة عند الوحم من نحو ما يسمى بالملوحة إذا اعتيد ذلك، وأنه حيث وجبت الفاكهة والقهوة ونحو ما يطلب عند الوحم يكون على وجه التمليك، فلو فوته استقر لها ولها المطالبة به، ولو اعتادت نحو اللبن والبرش بحيث يخشى بتركه محذور من تلف نفس ونحوه لم يلزم الزوج لأن هذا من باب التداوي.

ونصوا على أنه يؤخذ من قاعدة الباب وإناطته بالعادة وجوب ما يعتاد من الكعك في عيد الفطر واللحم في الأضحى، لكن لا يجب عمل الكعك عندها بأن يحضر إليها مؤنة من الدقيق وغيره ليعمل عندها إلا إن اعتيد ذلك لمثله فيجب، فإن لم يعتد ذلك لمثله بل اعتيد لمثله تحصيله لها بأي وجه كان فيكفي تحصيله لها بشراء أو غيره، ولا يجب الذبح عندها حيث لم يعتد ذلك لمثله، بل يكفي أن يأتي لها بلحم بشراء أو غيره على العادة، حتى لو كان له زوجتان فعمل الكعك عند إحداهما لها وذبح عندها واشترى للأخرى كعكا أو لحما كان جائزا بحسب العادة.

قال في نهاية المحتاج بعد ذكر بعض ما سبق من أمثلة: (وقياس ما ذكره في الكعك ولحم الأضحية وجوب ما جرت به العادة في مصرنا من عمل الكشك في اليوم المسمى بأربعاء أيوب، وعمل البيض في الخميس الذي يليه، والطحينة بالسكر في السبت الذي يليه، والبندق الذي يؤخذ في رأس السنة لما ذكر من العادة) (1)

__________

(1) نهاية المحتاج:7/ 192.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (209)

ونص المالكية على أنه يلزم الزوج لزوجته الزيت لأكلها ووقيدها والادهان على العادة، ويلزمه لها أيضا الحطب للطبخ وللخبز، ويلزمه الخل والملح لأنه مصلح، ويلزمه اللحم لمن اعتاده المرة بعد المرة، وقد قدر ذلك في حق القادر ثلاث مرات يوما بعد يوم والمتوسط مرتين والمنحط الحال مرة (1).

ونص الإمامية ـ كما يعبر الشيخ الطوسي ـ على (أن يعطيها مع الطعام ما تأتدم به لقوله عزوجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:233)، وذلك من المعروف، والمرجع في جنسه إلى غالب أدم بلدها من الزيت أو الشيرج أو السمن ومقداره يرجع فيه إلى العادة، فما كان أدما للمد في العادة وجب، ويفرض لخادمها الأدم كما يفرض لها، ويرجع في جنسه ومقداره إلى العرف كالزوجة نفسها، وأما الجودة فمنهم من قال يكون مثل أدم الزوجة، ومنهم من قال دونه، فأما اللحم فإنه يفرض لها كل أسبوع مرة، لأنه هو العرف، ويكون يوم الجمعة لأنه عرف عام، ومقداره يرجع فيه إلى العرف، ومنهم من قدره برطل، ومنهم من زاد عليه بيسير، وكذلك القول في أدم الخادم، فمن قال إنه مثل أدمها في الجودة، قال هي مثلها في اللحم، ومن قال دون ذلك قال في اللحم مثل ذلك) (2)

النوع الثاني الكسوة

اتفق الفقهاء على وجوب كسوة الزوج لزوجته، واختلفوا في مقدارها وميقاتها على قولين:

القول الأول: أنها معتبرة بكفايتها، وليست مقدرة بالشرع، وهو قول عند الحنابلة، قال ابن تيمية: (إذا انقضت السنة والكسوة صحيحة. قال أصحابنا: عليه كسوة السنة الأخرى،

__________

(1) الخرشي:4/ 185..

(2) المبسوط- الشيخ الطوسي (6/ 6).

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (210)

وذكروا احتمالا أنه لا يلزمه شيء وهذا الاحتمال قياس المذهب لأن النفقة والكسوة غير مقدرة عندنا فإذا كفتها الكسوة عدة سنين، لم يجب غير ذلك) (1)

وهو القول المشهور عند الإمامية، فقد ذكروا أن الواجب على الزوج توفير الألبسة التي تكفي المرأة من دون حاجة لثياب أخرى، كما يجب توفير ثياب التجميل والزينة بحسب المتعارف لأمثالها من النساء من دون مبالغة أو إسراف، يقول السيد السيستاني: (وكذا بالنسبة إلى الألبسة ربما تكفيها ثياب بدنها من غير حاجة إلى ثياب أخرى، وربما لابد من الزيادة عليها بثياب التجميل والزينة، نعم ما تعارف عند بعض النساء من تكثير الألبسة النفيسة خارج عن النفقة الزوجية، فضلاً عما تعارف عند جمع منهن من لبس بعض الألبسة مرة أو مرتين في بعض المناسبات، ثم استبداله بآخر مختلف عنه نوعاً أو هيئة في المناسبات الآخرى) (2)

ومن الأدلة على ذلك:

1. قول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة:233)

2. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (3). والكسوة بالمعروف هي الكسوة التي جرت عادة أمثالها بلبسه.

3. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن حقها عليك أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت) (4)

القول الثاني: أنها مقدرة، وهو قول الجمهور، وقد اختلفوا في وقت هذا التقدير، وفيما يقدر، ولا يمكن حصر ذلك في أقوال بعينها، فذلك يطول، ولا حاجة إليه لتغير الأعراف، فنكتفي بهذه الأمثلة عن بعض الآراء الفقهية:

__________

(1) الفتاوى الكبرى:5/ 516.

(2) منهاج الصالحين، ج 3، مسألة 420.

(3) سبق تخريجه.

(4) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (211)

فقد نص الحنفية على أنها تفرض في السنة مرتين في كل ستة أشهر مرة، فإن فعل ذلك لم يجدد لها الكسوة حتى يبلغ ذلك الوقت، إلا أن تكون لبست لبسا معتادا فتخرق قبل مجيء ذلك الوقت، فحينئذ تجدد لها الكسوة.

وقد ذكروا ما يعتبر في الكسوة، بل سموا الثياب التي يجب على الزوج تمليكها لزوجته، بناء على أعرافهم فعلى المعسر في الشتاء درع وملحفة زطية وخمار سابوري وكساء كأرخص ما يكون كفايتها مما يدفئها، وفي الصيف درع وملحفة وخمار، وإن كان موسرا فالكسوة للمرأة في الشتاء درع يهودي أو هروي وملحفة دينورية وخمار إبريسم وكساء أذربيجاني، وفي الصيف درع سابوري وملحفة كتان وخمار إبريسم.

قال السرخسي بعد ذكره لذلك: (وما ذكر من الثياب فهو بناء على عادتهم أيضا وذلك يختلف باختلاف الأمكنة في شدة الحر والبرد، وباختلاف العادات فيما يلبسه الناس في كل وقت، فيعتبر المعروف من ذلك فيما يفرض) (1)

ونص الحنابلة على أن عليه دفع الكسوة إليها في كل عام مرة، لأنها العادة، ويكون الدفع إليها في أوله، لأنه أول وقت الوجوب. فإن بليت الكسوة في الوقت الذي يبلى فيه مثلها، لزمه أن يدفع إليها كسوة أخرى، لأن ذلك وقت الحاجة إليها، وإن بليت قبل ذلك، لكثرة دخولها وخروجها أو استعمالها، لم يلزمه إبدالها، لأنه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة، وقد سبق ذكر الخلاف في المسألة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن ذلك يختلف باختلاف حال الزوج يسرا وعسرا، وباختلاف الزوجة قناعة وحرصا، فإن كان الزوج موسرا كان الأولى أن ينفق عليها احتاجت أو لم تحتج بشرط عدم الإسراف لتحريمه على كل حال، والمستحب للزوجة في هذه الحالة

__________

(1) المبسوط:5/ 183.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (212)

الترفع والرضا بما يكفيها عن الفضول الذي قد تحاسب عليه، أما إن كان معسرا، فإن الشرع لم يكلف المعسر فوق طاقته.

أما أن نكلف المعسر بالإنفاق مما لا يجده، فإن فيه دعوة إلى أحد أمرين: إما سلوك سبيل التكسب المحرم، أو أن يمد يده للناس سائلا، وفي كليهما المضرة والمذلة الدائمة في الدنيا والآخرة.

الفراش ومستلزماته

ألحق الفقهاء بالكسوة ما تحتاج إليه المرأة للنوم، من الفراش واللحاف والوسادة، وغيرها على حسب العادة في ذلك، وقد اختلفوا هنا كما اختلفوا سابقا في تمليك ذلك أو كونه على سبيل المنفعة، فنص ابن حزم خلافا لقوله في الكسوة على أن الفراش من ملحقات السكن، واستدل لذلك بديل صريح قوي، قال ابن حزم: (أما الوطاء والغطاء - فبخلاف ذلك، لأن عليه إسكانها، فإذ عليه إسكانها فعليه من الفرش والغطاء ما يكون دافعا لضرر الأرض عن الساكن فهو له، لأن ذلك لا يسمى كسوتها - وبين ذلك الخبر الذي أوردناه مسندا من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهونه)، فنسب صلى الله عليه وآله وسلم الفرش إلى الزوج فواجب عليه أن يقوم لها به، وهو للزوج لا تملكه هي) (1)

ونص الإمامية على حقها في هذا بالمعروف، يقول يقول صاحب الجواهر: (يجب لها حصير في الصيف والشتاء، فإن كانت متجملة بالزينة والبساط وجب لها ذلك ليلاونهارا، ويجب لها ملحفة ولحاف في الشتاء، ومضربة ومخدة، ويرجع في جنس ذلك إلى عادة أمثالها في البلد..)، ثم عقب على هذا بقوله: (لايخفى عليك أن إحالة ذلك كله إلى العادة في القدر والجنس والوصف ونحو ذلك أولى، بل هو المتعين، ضرورة عدم دليل على الخصوصيات) (2)

__________

(1) المحلى: 9/ 252.

(2) جواهر الكلام (33/ 349)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (213)

وسائل التنظيف والزينة

مما يلحق بالكسوة وسائل التنظيف والزينة، وقد نص الفقهاء عليها على اختلاف بينهم في بعضها مع التنبيه إلى أن لكل بيئة وعصر الوسائل الخاصة بذلك.

فنص الشافعية على أنه يجب لها آلة تنظيف، وإن غاب عنها غيبة طويلة، ومن الأمثلة التي ضربوها، وفصلوا أحكامها: المشط، والسواك، والدهن ولو لجميع بدنها ويتبع في الدهن عرف بلدها، فإن ادهن أهله بزيت كالشام أو شيرج كالعراق أو سمن كالحجاز أو زيت مطيب ببنفسج أو ورد وجب ويرجع في مقداره إلى كفايتها كل أسبوع، ويجب لها أجرة حمام بحسب العادة إن كان عادتها دخوله للحاجة إليه عملا بالعرف، وذلك في كل شهر مرة على الأقل، وقيل: ينبغي أن ينظر في ذلك لعادة مثلها، ويختلف باختلاف البلاد حرا وبردا، ويجب لهما ثمن ماء غسل جماع ونفاس من الزوج إن احتاجت لشرائه، ويجب لها ما يغسل به الرأس.

أما ما تتزين به كما جرت به العادة من استعمال الورد ونحوه في الأصداغ ونحوها للنساء، فلا يجب على الزوج، لكن إذا أحضره لها وجب عليها استعماله إذا طلب تزينها به (1).

ونص المالكية على أنه يفرض لها منها ما يزيل الشعث كالمشط والمكحلة والنضوح ودهنها وحناء رأسها، وليس عليه صبغ ثيابها، ولا طيب ولا زعفران ولا خضاب يديها ورجليها، وليس عليه نضوح ولا صباغ ولا المشط ولا المكحلة.

قال الباجي: معنى هذا عندي أن ليس عليه من زينتها إلا ما تستضر بتركها كالكحل والمشط بالحناء والدهن لمن اعتاد ذلك. والذي نفى ابن القاسم إنما هو المكحلة لا الكحل نفسه، فتضمن القولان أن الكحل يلزمه لا المكحلة، وعليه يلزمه ما تمتشط به من الدهن والحناء لا آلة المشط (2).

__________

(1) انظر: حاشية البجيرمي:4/ 93.

(2) انظر: التاج والإكليل:5/ 544.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (214)

ونص الإمامية على أنه يجب على الزوج توفير آلات التنظيف التي يحتاج إليها في تنظيف البدن، كالصابون والمشط ومزيل الشعر وغيرها من الحاجات الرئيسة في التنظيف، والمرجع فيه العرف والعادة بحسب كل زمان (1).

النوع الثالث المسكن

اتفق الفقهاء على أنه يجب على الزوج أن يوفر لزوجته المسكن اللائق بها بالمعروف، بل وقع الإجماع على ذلك، وننبه هنا إلى أن كل الفقهاء متفقون على أن ذلك على سبيل التمكين لا التمليك، ولم نر من قال بخلاف ذلك، قال زكريا الأنصاري: (اعلم أن المسكن والخادم إمتاع يفوتان بمضي الزمن بخلاف غيرهما، فإنه تمليك لا يفوت به) (2)

وقال الشهيد الثاني: (ولا يشترط في المسكن أن يكون ملكاً له، بل يجوز إسكانها في المستعار والمستأجر اتفاقاً، لأنه إمتاع لا تمليك، ولايخفى أن لها المطالبة بالتفرد بالمسكن، والمراد به ما يليق بحالها من دار وحجرة وبيت فرد، فالتي يليق بها الدار والحجرة لا يسكن معها غيرها في دار واحدة بدون رضاها، لكن لو كان في الدار حجرة مفردة المرافق فله أن يسكن فيها، وكذا لو أسكن واحدة في العلو وواحدة في السفل والمرافق متميزة، والتي يليق بها البيوت المفردة له أن يسكنها في بيت من دار واحدة، ولا يجمع بين الضرتين، ولا بين المرأة وغيرها في بيت واحد مطلقاً إلا بالرضا) (3)

ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك:

1. قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (الطلاق:6)، فإذا وجبت

2.

__________

(1) جواهر الكلام (33/ 351)

(2) شرح البهجة:4/ 391.

(3) مسالك الأفهام الشهيد الثاني (9/ 457)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (215)

3. السكنى للمطلقة، فللتي في صلب النكاح أولى.

4. قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:19)، ومن المعروف أن يسكنها في مسكن.

5. أنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون، وفي التصرف، والاستمتاع، وحفظ المتاع.

6. أنه واجب لها لمصلحتها في الدوام، فجرى مجرى النفقة والكسوة.

ويمكن حصر الصفات التي تحدث عنها الفقهاء حول صفة بيت الزوجية في الصفتين التاليتين على اختلاف بينهم في بعض فروعهما:

1 ـ أن تكون بحسب حال الزوج

اختلف الفقهاء في اعتبار حال الزوج في النفقة على قولين:

القول الأول: أن المعتبر في المسكن الشرعي للزوجة هو سعة الزوج وحال الزوجة، وهو قول المالكية والحنابلة والإمامية وأكثر الحنفية، وهو قول الشيرازي من الشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (الطلاق:6)،وقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق:7) وهاتان الآيتان في المطلقة، فالزوجة أولى.

2. القياس على سائر النفقات باعتبار أن كلا منهما حق مترتب على عقد الزواج، ولما كان من المعتبر في النفقة هو حال الزوجين، فكذلك السكنى.

القول الثاني: أن المعتبر في المسكن الشرعي هو حال الزوجة فقط، وهو قول الشافعية، لأن الزوجة ملزمة بملازمة المسكن، فلا يمكنها إبداله، فإذا لم يعتبر حالها فذلك إضرار بها، والضرر منهي عنه شرعا، أما النفقة فيمكنها إبدالها، قال الشربيني: (ولا بد أن يكون المسكن يليق بها عادة، لأنها لا تملك الانتقال منه، فروعي فيه جانبها، بخلاف النفقة والكسوة حيث روعي فيهما حال الزوج، لأنها

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (216)

تملك إبدالهما، فإن لم تكن ممن يسكن الخان أسكنت دارا أو حجرة، وينظر إلى ما يليق بها من سعة أو ضيق، قال تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (الطلاق:6)) (1)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة ـ كما ذكرنا سابقا ـ هو اعتبار حال الزوج، وهو ما نصت عليه الآيات السالفة صراحة، وهو ما تفرضه كذلك القواعد الشرعية التي تأبى التفريق بين المسلمين بأي سبب من الأسباب إلا سبب التقوى.

2 ـ انفراد الزوجة بالسكنى

تحدث الفقهاء عن حق المرأة في انفرادها بالسكن، وهو أن يكون لها مطلق التصرف فيه، ويمكن أن نحصر الحالات التي يمكن أن يشترك مع الزوجة فيها غيرها في الحالات التالية (2):

الحالة الأولى الجمع بين الزوجة ووالدي الزوج

اختلف الفقهاء في حكم الجمع بين الزوجة ووالدي الزوجة على قولين:

القول الأول: لا يجوز الجمع بين الأبوين والزوجة في مسكن واحد، وهو مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والإمامية، ولذلك يكون للزوجة الامتناع عن السكنى مع واحد منهما، لأن الانفراد بمسكن تأمن فيه على نفسها ومالها حقها، وليس لأحد جبرها على ذلك.

ونص الحنفية على أنه لو كان في الدار بيوت، ففرغ لها بيتا، وجعل لبيتها غلقا على حدة، فليس لها أن تطالبه ببيت آخر (3).

__________

(1) مغني المحتاج:5/ 161.

(2) بدائع الصنائع:4/ 23، العناية:4/ 397، الجوهرة النيرة:2/ 86، فتح القدير:4/ 397،رد المحتار:3/ 599، التاج والإكليل:5/ 548، فتاوى السبكي:4/ 214، شرح ميارة:1/ 275، الخرشي:4/ 189، منح الجليل:4/ 395.

(3) بدائع الصنائع:4/ 23.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (217)

وقد عللوا ذلك كما قال الزيلعي بأن (السكنى من كفايتها فتجب لها كالنفقة، وقد أوجبه الله تعالى مقرونا بالنفقة، وإذا أوجب حقا لها ليس له أن يشرك غيرها فيه، لأنها تتضرر به فإنها لا تأمن على متاعها، ويمنعها ذلك عن المعاشرة مع زوجها ومن الاستمتاع إلا أن تختار، لأنها رضيت بانتقاص حقها) (1)

القول الثاني: التفريق بين الزوجة الشريفة والوضيعة، وهو قول المالكية، فقد نصوا على عدم جواز الجمع بين الزوجة الشريفة والوالدين، وبجواز ذلك مع الزوجة الوضيعة، إلا إذا كان في الجمع بين الوضيعة والوالدين ضرر عليها، قال عبد الملك بن الماجشون في المرأة تكون هي وأهل زوجها في دار واحدة، فتقول إن أهلك يؤذونني فأخرجهم عني أو أخرجني عنهم: (رب امرأة لا يكون لها ذلك، لكون صداقها قليلا، وتكون وضيعة القدر، ولعله أن يكون على ذلك تزوجها، وفي المنزل سعة، فأما ذات القدر فلا بد له أن يعزلها، فإن حلف عن ذلك حمل على الحق أبره أو أحنثه) (2)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن هذا الحق ثابت للمرأة بغض النظر عن نظر المجتمع لشرفها أو دناءتها، لأن الحقوق الزوجية تقتضي العدالة، وهي تستلزم المعاملة الواحدة لكل الزوجات، إلا إذا رضيت الزوجة بإسقاط حقها.

أما كون هذا حقا للمرأة، فلا شك فيه، بل نراه في ظروف كثيرة واجبا، لأن معظم المشاكل العائلية سببها تدخل الأهل في حياة الزوجين، فلذلك من سد الذريعة إغلاق هذا الباب، وتوفير الحرية الكافية للزوجة في بيت زوجها، لأن العشرة الحسنة تقتضي ذلك، فالمرأة قد تحتاج للتزين لزوجها، وسكنها مع أهله في بيت واحد يحرمها من حقها في التزين، بل يحرم الزوج أيضا من حقه في ذلك.

__________

(1) نصب الراية:3/ 560 وانظر: العناية:4/ 397.

(2) انظر: الخرشي: 4/ 188، التاج والإكليل: 5/ 549، حاشية الدسوقي:2/ 513.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (218)

أما اعتبار الأعراف ذلك عقوقا، فهو من سوء الفهم لمعنى الإحسان للوالدين، فالإحسان لا يقتضي صيرورة الولد رقيقا لرغبات والديه، بل هو مضبوط بضابط الطاعة في المعروف.

ولكنا مع ذلك نستثني ما لو كان للزوج والدان كبيران يحتاجان للخدمة، وليس لديهما غيره، فإن الواجب عليه في هذه الحالة أن يحسن لهما بخدمتهما، ولا يحق للمرأة أن تطالبه بالانفراد بالسكن لما قد يؤدي إليه من ضياع حقهما، وفي هذه الحالة يجب على الزوج قبل الزواج أن يخبر زوجته بحالته حتى يكون زواجها منه عن بينة.

وقد اشتد في هذا ابن حزم، واستدل لذلك بالنصوص الكثيرة، قال ابن حزم: (إن كان الأب والأم محتاجين إلى رحمة الابن، أو الابنة الناكح، لم يجز للابن ولا للابنة الرحيل، ولا تضييع الأبوين أصلا، وحقهما أوجب من حق الزوج والزوجة، فإن لم يكن بالأب والأم ضرورة إلى ذلك، فللزوج إرحال امرأته حيث شاء مما لا ضرر عليهما فيه) (1)

ونلاحظ أن ابن حزم لم يخص بذلك الابن المتزوج وحده،، بل قال بفرضيته على المرأة المتزوجة نفسها، وقد استدل لذلك بالآيات الحاثة على طاعة الوالدين، كقوله تعالى: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير} (لقمان:14)، قال ابن حزم: فقد قرن تعالى الشكر لهما بالشكر له عز وجل، فافترض الله عز وجل أن يصحب الأبوين بالمعروف، وإن كانا كافرين يدعوانه إلى الكفر، ومن ضيعهما فلم يصحبهما في الدنيا معروفا)

وهنا تعرض مسألة واقعية وهي أن المرأة عادة ترضى عند العقد بشرط الزوج السكنى مع الأبوين، لكنها بعد الزواج تطالب بالانفراد بمسكن خاص بها (2)، ونرى أن الأرجح في هذه الحالة

__________

(1) المحلى:10/ 331.

(2) اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: ليس لها ذلك، وهو قول المالكية، إلا إذا أثبتت الضرر من السكن مع الوالدين.

القول الثاني: إن كان عاجزا لا يلزمه إجابة طلبها، وإن كان قادرا يلزمه، وهو قول الحنابلة، وقيل لا يلزمه غير ما شرطته عليه..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (219)

أن يبحث الزوجان عن حل وسط، يرضيهما جميعا، ولا يضيع حق أهله كما ذكرنا سابقا، ولكن إن أبت الزوجة، أو لم يجد الزوج لعسره، فإن القواعد الشرعية تلزم الزوجة بالصبر، مع ثبوت حقها في الخلع إن أرادت ذلك، لأن الخطأ جاء من جهتها، أما مطالبتها بالتفريق بدون عوض للزوج ففيه مضرة بالغة له.

وقد سئل ابن تيمية عن هذه المسألة، فأجاب: (لا يجب عليه ما هو عاجز عنه، لا سيما إذا شرطت الرضا بذلك، بل كان قادرا على مسكن آخر لم يكن لها عند كثير من أهل العلم كمالك، وأحد القولين في مذهب أحمد وغيرهما، غير ما شرط لها، فكيف إذا كان عاجزا، وليس لها أن تفسخ النكاح عند هؤلاء، وإن كان قادرا، فأما إذا كان ذلك للسكن ويصلح لسكنى الفقير وهو عاجز عن غيره، فليس لها أن تفسخ بلا نزاع بين الفقهاء) (1)

الحالة الثانية الجمع بين الزوجة وأهلها

اتفق الفقهاء على أنه ليس للزوجة أن تسكن أحدا من الأهل غير ولدها من غير الزوج، وللزوج منعها من ذلك، لأن المنزل إما ملكه، أو له حق الانتفاع به، وحق الزوج في زوجته من إسكان أقاربها معها يسقط برضاه، فإذا رضي الزوج بسكنى أحد من أهلها معها فلا شيء في ذلك.

أما إذا كان المسكن ملكا لهما، أو كان لها خاصة، فلا يجوز للزوج منع أهلها من السكنى معها إذا أرادت ذلك.

واختلفوا فيما لو كانت تريد إسكان ولدها من غير الزوج على قولين:

القول الأول: لا يجوز لها إسكانه إلا برضا الزوج، فإن لم يرض فلا يجوز لها إسكانه معهما، وهو قول الحنفية، والشافعية والحنابلة، ولم يفرقوا بين علم الزوج بوجود ولد لها وقت البناء، وعدم علمه، أو بين وجود حاضنة للولد أم لا.

__________

(1) الفتاوى الكبرى:3/ 97.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (220)

بل نص الشافعية على أنه يجوز للزوج منع ولد الزوجة من الدخول إليها، إذا كانت ساكنة بمحل يستحق منفعته، دون ما إذا كانت ساكنة بملكها، إن تبرعت له بالسكنى فيه، ويستوي في الحالة الأولى ما لو كان الزوج المانع غائبا أم حاضرا، فإن أدخلته بغير رضاه أثمت، ولا تكون ناشزة، أما إن كان إخراجه لغير المميز يضره، فإنه يلزمه رفع الأمر للقاضي، فإن تعدى وأخرجه فكسره، أو قتله جان آخر أثم الزوج والضمان على الجاني أو مالكه المقصر لأنه المباشر (1).

القول الثاني: لا يجوز للزوج أن يمنعها من إسكان ولدها من غيره إن كان يعلم به وقت البناء، أو كان لا يعلم به، ولا حاضن له، وهو قول المالكية، فإن كان لا يعلم به وله حاضن فليس للزوجة أن تسكنه معها عندهم (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو التفصيل الذي ذكره المالكية، لمراعاتهم حق الزوج باشتراط علمه قبل البناء حتى لا يكون زواجه مبنيا على الغرر، وحق الابن باشتراط الحاضن له، وهو تفصيل لا بد منه، ولا يصح معه إطلاق القول كما ذهب الجمهور.

ولا نرى كذلك صحة ما نص عليه الشافعية من عدم إذن الزوج لابن زوجته في الدخول عليها، فأي رعاية لحق الزوجة إذا منع ابنها من زيارتها، وأي مضارة أعظم من هذه المضارة، بل نعجب أن يقول مثل هذا من يعتبر المضارة في إنقاص لقمة من القوت، ثم لا يراها في التفريق بين الأم وابنها.

وسبب هذا القول هو مغالاة بعض الفقهاء في الحقوق المادية مع التغاضي عن الحقوق المعنوية، والنفسية، والتي قد تكون أهم من الحقوق المادية، وقد رأينا مراعاة الشرع لهذه الحقوق في الفصل الخاص بذلك.

__________

(1) الفتاوى الفقهية الكبرى:4/ 214.

(2) شرح ميارة:1/ 275.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (221)

الحالة الثالثة الجمع بين الزوجة وولد الزوج من غيرها في مسكن واحد

اتفق الفقهاء على عدم جواز الجمع بين ولد الزوج من غيرها إذا كان كبيرا يعرف أسرار العلاقات الزوجية، لأن السكنى معه فيها إضرار بالزوجة، وهذا حق للزوجة فيسقط برضاها، أما إن كان الولد صغيرا لا يعرف ذلك، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: أن إسكانه معها جائز، وليس لها الحق في الامتناع من السكنى معه، وهو قول الحنفية.

القول الثاني: أن الزوجة لا يجوز لها الامتناع من السكنى مع ولد زوجها من غيرها إذا كانت تعلم به حال البناء، فإن كانت لا تعلم به عند البناء بها، وكان له حاضنة فللزوجة الحق في الامتناع من السكنى معه، وإن لم يكن لولد زوجها من غيرها حاضنة غير أبيه فليس لها الامتناع عن السكنى معه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لأن الحياة الزوجية ينبغي أن تبنى على الصراحة المطلقة بين الزوجين، فلذلك إن رأت بعد البناء ما تحس فيه بنوع من الغرر كان لها الحق في الرفض.

الحالة الرابعة الجمع بين زوجتين في مسكن واحد لكل واحدة بيت فيه

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الجمع بين امرأتين في مسكن واحد، لأن ذلك ليس من المعاشرة بالمعروف، ولأنه يؤدي إلى الخصومة التي نهى الشارع عنها، قال الكاساني: (لو أراد الزوج أن يسكنها مع ضرتها أو مع أحمائها، كأم الزوج وأخته وبنته من غيرها وأقاربه فأبت ذلك، عليه أن يسكنها في منزل مفرد، لأنهن ربما يؤذينها ويضررن بها في المساكنة وإباؤها دليل الأذى والضرر، ولأنه يحتاج إلى أن يجامعها ويعاشرها في أي وقت يتفق ولا يمكنه ذلك إذا كان معهما ثالث) (1)

وأما الجمع بينهما في دار لكل واحدة من الزوجتين بيت فيها فذهب إلى جواز ذلك جمهور الفقهاء، بشرط أن يكون لكل بيت مرافقه الخاصة به، وغلق يغلق به، ولا يشترط رضاهما في الجمع

__________

(1) بدائع الصنائع:4/ 23.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (222)

بينهما (1).

وقد اختلف الفقهاء في هذا الحكم هل هو حق خالص للمرأة يسقط برضاها، أم أنه واجب شرعي على قولين:

القول الأول: إن منع الجمع بين امرأتين في مسكن واحد حق خالص لهما فيسقط برضاهما، وهو قول الجمهور.

القول الثاني: أن هذا الحق لا يسقط ولو رضيت الزوجة به، وهو قول ابن عبد السلام من المالكية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الجمع بين القولين، مع وضع كل قول لحالة خاصة، ففي الحالة العادية، يكون هذا حقا للمرأة يجوز أن تتنازل عنه، فتسكن مع ضراتها مسكنا واحدا، أما إذا خشي الزوج الفتنة بين ضراته فإن هذا لا يصير حقا قد يتنازلن عنه، بل يصبح واجبا لعدم استقامة الحياة الزوجية بدونه.

النوع الرابع الخادم

ويتعلق به المسائل التالية (2):

حق الزوجة في الخادم

اختلف الفقهاء في اعتبار الخادم من حقوق الزوجة على زوجها، على قولين:

__________

(1) وذهب بعض المالكية، إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في هذه الدار إلا برضاهما، فإن أبين منه أو كرهته إحداهما فلا يصح الجمع بينهما.

(2) التاج والإكليل:5/ 546، شرح ميارة:1/ 266، الخرشي: 4/ 186، حاشية الدسوقيك 2/ 510، فتح العلي المالك: 2/ 84، تخفة المحتاج: 8/ 316، مغني المحتاج: 5/ 162، العناية: 4/ 387، الجوهرة النيرة: 2/ 86، فتح القديرك 4/ 387.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (223)

القول الأول: لا يجب على الزوج أن ينفق على خادم لزوجته، وهو قول ابن حزم، قال في المحلى: (ليس على الزوج أن ينفق على خادم لزوجته، ولو أنه ابن الخليفة وهي بنت خليفة، إنما عليه أن يقوم لها بمن يأتيها بالطعام والماء، مهيأ ممكنا للأكل، غدوة وعشية، وبمن يكفيها جميع العمل من الكنس والفرش، وعليه أن يأتيها بكسوتها كذلك، لأن هذه صفة الرزق والكسوة) (1)

واستدل على ذلك بأنه (لم يأت نص قط بإيجاب نفقة خادمها عليه، فهو ظلم وجور، وأما من كلفها العجين والطبخ، ولم يكلفها حياكة كسوتها وخياطتها فقد تناقض، وظهر خطؤه)

وهو مبني كذلك على قوله بوجوب خدمة الزوجة لنفسها ولزوجها، وهو ما سنراه لاحقا.

القول الثاني: إن الخادم من حقوق الزوجة على زوجها، وأنه من مكملات النفقة، وهو قول جمهور العلماء على اختلاف بينهم في بعض التفاصيل والفروع.

وقد اتفقوا على أنه يجب على الزوج إخدام زوجته التي لا يليق بها خدمة نفسها، بأن كانت تخدم في بيت أبيها، أو كانت من ذوي الأقدار، لكون هذا من حقها في المعاشرة بالمعروف المأمور بها في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:19)، ولأن هذا من كفايتها ومما يحتاج إليه في الدوام فأشبه النفقة.

واتفقوا كذلك على أن الإخدام يجب على الزوج للزوجة المريضة، والمصابة بعاهة لا تستطيع معها خدمة نفسها، وإن كانت ممن لا يخدم مثلها، لأن مثل هذه لا تستغني عن الخدمة.

وقد نص الشافعية على أن الزوج ولو معسرا يلزمه إخدام المريضة مطلقا وغيرها إن خدمت في بيت أبيها، واختلفوا في المجنونة، هل هي كالمريضة أو لا، وحينئذ لو احتيج لإخدام

__________

(1) المحلى:9/ 251.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (224)

المجنونة، ولم تندفع حاجتها إلا بالزوج اتجه أن للسلطان تزويجها لحاجة الخدمة، إن جعلناها كالمريضة، أو إن كانت تخدم لوجوب خدمتها على الزوج (1).

وقد نص الحنفية على أنه إذا امتنعت المرأة عن الطحن والخبز، إن كانت ممن لا يخدم، أو كان بها علة فعليه أن يأتيها بطعام مهيأ، وإلا بأن كانت ممن تخدم نفسها وتقدر على ذلك لا يجب عليه، ولا يجوز لها أخذ الأجرة على ذلك، لوجوبه عليها ديانة ولو شريفة، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قسم الأعمال بين علي وفاطمة، فجعل أعمال الخارج على علي، وأعمال الداخل على فاطمة، مع أنها سيدة نساء العالمين فإن كان لها خادم فعلى الزوج نفقته.

ونص الإمامية على أن النساء صنفين: أحدهما: اللواتي لا يخدمن أنفسهن في عادة البلد، بل يكون لهن من يخدمهن وإن قدرن على الخدمة. فإن كانت الزوجة منهن وجب على الزوج إخدامها، لأنه من المعاشرة بالمعروف المأمور بها. ولا فرق في وجوب الإخدام لهذه بين أن يكون الزوج موسرا ومعسرا، حرا وعبدا. والاعتبار بحال المرأة في بيت أبيها دون أن ترتفع بالانتقال إلى بيت زوجها، ويليق بحالها بسبب الانتقال أن يكون لها خادم. ولا يجب أكثر من خادم واحد، لحصول الكفاية به. ويحتمل اعتبار عادتها في بيت أبيها، فإن كانت ممن تخدم بخادمين وأكثر وجب إخدامها بذلك العدد، لأنه من المعاشرة بالمعروف. ولا يلزمه تمليك الخادم إياها، بل الواجب إخدامها بحرة، أو أمة مستأجرة، أو بنصب مملوكة له تخدمها، أو بالإنفاق على التي حملتها معها من حرة أو أمة. ولا يجوز أن يكون الخادم إلا امرأة أو صبيا أو محرما لها.

والصنف الثاني: اللواتي يخدمن أنفسهن في العادة، فلا يجب إخدامها إلا أن تحتاج إلى الخدمة لمرض أو زمانة، فعلى الزوج إقامة من يخدمها ويمرضها، ولا ينحصر هذا في واحد بل بحسب الحاجة. ولا فرق هاهنا بين أن تكون الزوجة حرة وأمة. وإن لم يكن لها عذر محوج إلى

__________

(1) تحفة المحتاج:7/ 286.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (225)

الخدمة فليس عليه الإخدام. ولو أرادت أن تتخذ خادمأ بمالها فله منعه من دخول داره (1).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو عدم ورود أي دليل صريح في وجوب إخدام الرجل لزوجته، ولا دليل يدل عليه من المصالح الشرعية، بل هو من الرفاهية التي قد يحسن بها الرجل إلى زوجته، وتكون مستحبة بذلك، وقد يكون من الترف الذي تضيع بموجبه الحقوق وتقع الحرمات فيحرم بسبب ذلك.

وما نسمع عنه في الواقع أو ما نراه ربما يوجه القول إلى الحرمة أكثر من توجيهه للاستحباب، فالخادم تهان، وقد يستعلى عليها، وقد تتهم في عرضها، والزوجة تتربع في بيتها، كسلطانة على عرشها، تأمر وتنهى، ولا تنشغل بغير زينتها، وبغير أخلاق الترف التي زاد فيها استخدامها للخدم، فهي رعناء كسول مستعلية متكبرة.

وقد ترمي بأولادها إلى الخادم تطعمهم، وتسقيهم، وتربيهم كما تشاء، فلا يعرفون إذا شبوا أما لهم غير الخادم، أما أمهم فهم منشغلة عنهم بنفسها أو ترفها (2).

__________

(1) مسالك الأفهام الشهيد الثاني (9/ 454)

(2) فللخدم ـ على حسب ما نرى في الواقع، وعلى حسب ما تدل الإحصائيات ـ تأثير كبير على الأبعاد التي جاء الشرع لترسيخها في نفس النش المؤمن الصالح، وكأمثلة على ذلك:

على التربية الإيمانية: أفادت إحدى الدراسات الميدانية في إحدى الدول الخليجية أن (60 - 75%) غير مسلمات، وأن (97.5%) منهن يمارسن طقوسهن الدينية، ونسبة كبيرة منهن وثنيات، كما أن (50%) منهن يقمن بالإشراف الكامل على الأطفال وأن (25%) منهن يكلمن الأولاد في قضايا الدين والعقيدة.

فكيف يتسنى للطفل أن يتربى تربية إيمانية سليمة وقوية، وهو يتعرض لهذه الزوابع العظيمة من دواعي الانحراف.

على التربية الأخلاقية: أثبتت الدراسات الميدانية أن (58.6%) من الخادمات (المربيات) جئن من مجتمعات تحبذ إقامة العلاقات الجنسية قبل الزواج، فلا يتورعن عن الاختلاط بالرجال، ولا مانع لديهن من تناول الخمر والسجائر، والأغرب من ذلك أن (68.3%) منهن لا تزيد أعمارهن عن العشرين، و(42.4%) منهن لم يسبق له الزواج.

وفي دراسة أُخرى دلّت على أن (58.6%) منهن يحبذن ممارسة الجنس قبل الزواج، و(36.2%) منهن جئن من مجتمعات تتناول أطعمة محرمة، و(43%) منهن جئن من مجتمعات تتناول الخمور بصورة عادية، و(14%) منهن يستقبلن أصدقائهن (الرجال) في البيوت التي يعملن بها و(51.18%) منهن يشرحن لأطفالهن عن حياة الأطفال في مجتمعاتهن.

على البعد المعرفي: فالمربية أتت من مجتمعات مختلفة في ثقافتها ولغتها، وهي نفسها قد تكون ضائعة بين ثقافتين، حائرة بين نظامين، فلا هي تجيد اللغة العربية حتى تنقل ثقافتنا العربية الإسلامية للطفل، ولا هي تستطيع نقل ثقافتها الأجنبية والنتيجة عزلة عن ثقافته.

ولا شك أن الخادمات والمربيات يحاولن تنشئة الأبناء حسب قناعاتهم، فهي إن كانت مثقفة - كما هو الحال في الأسر الغنية - فإنها تؤثر في الأطفال أكثر من والديهم لإنشغال الوالدين وتخليهما عن مهمة التربية للخادمة (المربية)، بدعوى أنها مثقفة ومتخصصة في التربية، كما أن لهؤلاء المربيات - في تلك الأسر - مقدرة على الإقناع والتأثير على الوالدين، فضلاً عن الأبناء.

وبالتالي تنقل عدوى المفاهيم غير الإسلامية إلى البيوت المسلمة، فالمربية هي التي تختار ملابس الأطفال وبخاصة البنات، وهي التي تؤثر عليهن في نظرتهن إلى الحجاب والأزياء، وغير ذلك من الآداب والأخلاق.

زيادة على هذا، فإن لها تأثيرها الخطير على اللغة، فمن المعلوم أن المربية تلازم الطفل في مرحلة نموه الأولى والتي يكتسب فيها اللغة، ومن البديهي أن الطفل يلتقط منها ما يسمعه من ألفاظ، فيها من العربية الركيكة، والإنجليزية الركيكة، والأوردو وغير ذلك، مما يعتبر حاجزًا يعوّق نمو الطفل اللغوي، إذ يضطر إلى محاكاتها.

وقد دلّت الدراسات على أن (8%) من مجموعة المربيات في بعض دول الخليج لهن إلمام باللغة العربية، وفي بعض الدول الأخرى (6.2%) فقط، وأن (25%) من أطفال الأسر الغنية يقلدون المربيات في اللهجة، وأكثر من (40%) منهم تشوب لغتهم لغة أجنبية، ويتعرضون لمضايقات من أقرانهم بسبب ذلك.

وبسبب هذه الآثار السلبية السيئة التي يفرزها هذا المرض الداخلي العُضال على المجتمع الخليجي، خاصة، سارع مكتب التربية العربي لدول الخليج إلى توجيه كتاب إلى مجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية في الدول العربية الخليجية في دورته الرابعة بالرياض (يناير 1982 م) والذي نظم بدوره ندوة علمية حول أثر المربيات الأجنبيات على تقاليد الأسرة المسلمة في منطقة الخليج، ناقشت المخاطر الناجمة عن الآثار الاجتماعية والدينية والثقافية والتربوية للمربيات الأجنبيات على المجتمع الإسلامي.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (226)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (227)

وكل هذا وغيره ـ وإن كنا لا نقول بتعميمه ـ يميل بالقول إلى التحريم أكثر مما يميل به إلى الاستحباب.

أما الموضع الوحيد الذي نراه للاستخدام، فهو أن تكون المرأة مريضة أو لها أشغال تحول بينها وبين الأداء الأكمل لوظائف بيتها، فحينئذ يمكن لزوجها أن يحسن إليها بخادم تلبي حاجتها وتصلح شأن بيتها، مع ضرورة بقاء اهتمام المرأة ببيتها اهتماما لا تصرفها عنه الصوراف.

أما ما ذكره المالكية وغيرهم من التفريق في ذلك بين الشريفة والدنية أو الموسرة والمعسرة، أو كونها من قوم يخدمون أنفسهم أولا يخدمون، فكل ذلك توجيهات وتخريجات لا دليل عليها، ربما تتحكم فيها الأعراف أكثر من تحكم النصوص، والأصول الشرعية تنفيها بل تحذر منها، فمن الخطأ العظيم التفريق بين مسلمتين في بيت واحد لأن إحداهما موسرة أو شريفة والأخرى معسرة أو دنية.

إخدام المعسر

الاتفاقات الفقهية السابقة تخص الزوج الموسر، أما إن كان الزوج معسرا، فقد اختلفت آراء الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: إن وجوب الإخدام على الزوج الموسر فقط، أما إذا كان الزوج معسرا فلا يجب عليه الإخدام، وهو قول الحنفية والمالكية والحنابلة، ويجب على الزوجة في هذه الحالة أن تخدم نفسها الخدمة الداخلية، وعلى الزوج أن يكفيها الأعمال الخارجية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ

2.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (228)

3. اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} (الطلاق:7) وهذا معسر لم يؤته شيئا فلا يكلف بشيء.

4. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم الأعمال بين علي، وبين فاطمة ما، فجعل أعمال الخارج على علي، وأعمال الداخل على فاطمة ا.

5. أن الضرر لا يزال بالضرر.

القول الثاني: أنَّه يجب عليه أن يأتيها بخادم إذا كانت ممن لا يخدم نفسها، ولو كان معسراً، وإلا فلا يجب عليه إلا إذا كانت مريضة أو هرمة وإن لم تكن ممن يخدم عادة، وهو قول الشافعية والإمامية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الأول بناء على أن الزوج المعسر لا يكلف من النفقات الضرورية إلا حسب طاقته، فكيف بهذا النوع، وهو من الكماليات التي تستغني عنها المرأة حاليا خاصة مع توفر الكثير من الوسائل التي قد تستخدمها المرأة وتغنيها عن الخادم.

خدمة الزوج لزوجته بدل الخادم

اختلف الفقهاء فيما لو رضي الزوج بخدمة زوجته ليسقط مؤونة الخادم على قولين:

القول الأول: ليس له ذلك، ولا يلزمها قبول ذلك، وهو قول الحنفية والشافعية في الأصح عندهم والحنابلة في الراجح عندهم، لأن في هذا غضاضة عليها لكون زوجها خادما لها وتعير به.

ويرى بعض الشافعية أن للزوج أن يخدم زوجته فيما لا يستحي منه، كغسل الثوب، واستقاء الماء، وكنس البيت والطبخ دون ما يرجع إلى خدمة نفسها كصب الماء على يدها، وحمله إلى المستحم ونحوهما.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (229)

القول الثاني: إن للرجل أن يخدم زوجته بنفسه ويلزمها الرضا به، وهو قول المالكية والإمامية (1) وأحد الأقوال عند الشافعية والحنابلة، لأن الكفاية تحصل بهذا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني، لأن الغاية هو حصول الخدمة التي تحتاجها، بغض النظر عن الطريقة التي حصلت بها، أما اعتبار ذلك مهانة فهو بعد عن السنة المطهرة، ولا ينبغي للفقهاء أن يشجعوا مثل هذه المرأة المتعالية عليه.

فعن الأسود قال سألت عائشة: ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصنع في بيته، قالت: كان يكون في مهنة أهله تعني خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، وأجابت في رواية أخرى بقولها: (كما يصنع أحدكم يخصف نعله ويرقع ثوبه)، وفي وراية أخرى: (كان بشرا من البشر يفلي ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه)، وفي رواية (وكان يعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم) (2)

وهذه الرواية الأخيرة دليل على أن ذلك كان سنة السلف التي تعلموها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أما اتخاذ الخدم والحشم فهو سنة الأكاسرة والقياصرة، وما دب الضعف في هذه الأمة إلا بسبب المبالغة في ذلك.

فلا ينبغي للأعراف أن تتدخل في دين الله بالتغيير والتبديل، فالشرع جاء لإصلاح العرف وتوجيهه، لا ليخضع الشرع ويخضع معه الفقهاء لموروثات الأمم الغابرة بحجة المعروف، واحترام العرف.

طلب الزوجة أجرة الخادم

__________

(1) قال المحقق الحلي: (ويرجع في الإخدام إلى عادتها، فإن كانت من ذوي الإخدام وجب وإلا خدمت نفسها. وإذا وجبت الخدمة، فالزوج بالخيار، بين الإنفاق على خادمها إن كان لها خادم، وبين ابتياع خادم، أو استئجارها، أو الخدمة لها بنفسه. وليس لها التخيير) (شرائع الإسلام: 4/ 18.

(2) انظر روايات الحديث في: البخاري:5/ 2052، أحمد:6/ 106،وغيرهما.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (230)

نص الفقهاء على أن الزوجة لو رضيت بخدمة نفسها، وطلبت الأجرة أو نفقة الخادم لا يلزمه قبول ذلك، لأن في إخدامها توفيرها على حقوقه وترفيهها، وذلك يفوت بخدمتها لنفسها، ولأنها لو أخذت الأجرة على ذلك لأخذتها على عمل واجب عليها فكان فيه معنى الرشوة.

قال العلامة الحلي: (ولو قالت: أنا أخدم نفسي ولي نفقة الخادم لم تجب إجابتها. ولو تبرعت بالخدمة، لم يكن لها المطالبة بالأجرة ولا نفقة الخادم) (1)

وقال الشهيد الثاني معلقاً على كلام المحقق الحلي: (إنما لم يكن لها ذلك؛ لأن تعيين الخادم إليه، لا إليها؛ لأن الحق عليه، فيرجع في تعيينه إليه؛ ولأن ذلك يسقط مرتبتها، وله أن لا يرضى به لأنها تصير مبتذلة، وله في رفعتها حق وغرض صحيح، فله أن لايرضى به وإن رضيت بإسقاط حقها. وحينئذٍ فإن بادرت بالخدمة من غير إذنه كانت متبرعة، فلا أجرة لها ولا نفقة زائدة بسبب الخدمة) (2)

صفات الخادم

نص الفقهاء على أنه يجب أن يكون الخادم إما امرأة مسلمة، أو صبيا مميزا لم يبلغ الحلم، أو محرما للزوجة المخدومة،، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون رجلا كبيرا ممن لا يحل له النظر إليها، لأن الخادم يلزم المخدوم في غالب أحواله فلا يسلم من النظر (3).

ونصوا على جواز خدمة الممسوح الذي لا يقرب النساء، وهي إباحة عجيبة لعدم الدليل عليها، قال ابن عقيل مشيرا إلى ما ذكره الفقهاء في ذلك: (يحرم خلوه النساء بالخصيان والمجبوبين إذ غاية ما تجد فيهم عدم العضو أو ضعفه، ولا يمنع ذلك لإمكان الاستمتاع

__________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 19.

(2) مسالك الأفهام: 9/ 458.

(3) مغني المحتاج:5/ 162.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (231)

بحسبهم من القبلة واللمس والاعتناق، والخصى يقرع قرع الفحل، والمجبوب يساحق، ومعلوم أن النساء لو عرض فيهن حب السحاق، ومنعنا خلوة بعضهن ببعض، فأولى أن يمنع خلوة من هو في الأصل على شهوته للنساء) (1)

وقد اختلف الفقهاء في المرأة الذمية، هل يجوز أن تكون خادما لامرأة مسلمة على قولين (2):

القول الأول: عدم جواز ذلك، وهو قول الحنفية والشافعية والحنابلة في أحد الوجهين، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أنه لا تؤمن عداوتها الدينية.

2. أن نظر الذمية إلى المسلمة حرام، لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} (النور:31)، والعلة في ذلك أنها ربما تحكيها للكافر.

3. أن الذمية لا تتعفف من النجاسة.

القول الثاني: يجوز أن تخدم الذمية المرأة المسلمة، وهو الوجه الآخر عند الحنابلة، لأن نظرها إلى المسلمة عندهم جائز.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة في حال الضرورة هو القول الأول، لا للاعتبارات التي ذكرها أصحابه، وإنما لما نراه في عصرنا من رغبة المسلمين عن استخدام المسلمات الفقيرات واتخاذ خدم أجانب، وهذا كما يقال: أحشفا وسوء كيلة، زيادة على ذلك عدم تورع هؤلاء الأجانب الكافرات عن الحرام.

__________

(1) بدائع الفوائد:3/ 278.

(2) أسنى المطالب:3/ 428.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (232)

ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حث على اختيار الصاحب فقال: (لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي) (1)، وقال: (الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) (2) فكيف يرضى مسلم بعد هذا أن يصاحب لا في الخارج، بل في جوف بيته من يكفر بالله ورسوله، وكيف ترضى مسلمة لولدها أن تربيه من لا تعرف ربها ولا نبيها.

ثم إن الخطر لا يتوقف على الأفراد أو الأسرة وحدها، بل يعم المصلحة العامة، فمن يضمن أن لا يندس بين هؤلاء الخدم من يتجسس على المسلمين، أو يفسد أخلاقهم أو ينشر الأمراض بينهم، وهل ما حصل في التاريخ لا يكفي للاعتبار بذلك؟

أما ما ذكره الفقهاء من اعتبارات فهي ضئيلة جدا بجنب هذه الاعتبارات.

تعدد الخادم

اختلف الفقهاء في إلزام الزوج بأكثر من خادم على قولين:

القول الأول: أنه لا يلزمه أكثر من خادم واحد، وهو قول جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة والإمامية، لأن المستحق خدمتها في نفسها ويحصل ذلك بخادم واحد.

القول الثاني: أنه إذا كان حالها ومنصبها يقتضي، خادمين أو أكثر فلها ذلك، وهو قول المالكية وأبي يوسف من الحنفية.

قال أبو يوسف: إن المرأة إذا كانت غنية وزفت إليه بخدم كثير استحقت نفقة الجميع، وكذلك إذا كانت ممن يجل مقدارها عن خدمة خادم واحد، فعلى الزوج أن ينفق على من لا بد منه من الخدم ممن هو أكثر من الخادم الواحد، أو الاثنين أو أكثر من ذلك (3).

__________

(1) ابن حبان: 2/ 314، أبو داود: 4/ 259، الترمذي:4/ 600.

(2) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، الترمذي:4/ 589، أبو داود:4/ 259، أحمد: 2/ 303، الحاكم:4/ 189.

(3) فتح القدير:4/ 389، العناية شرح الهداية:4/ 389.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (233)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة، وفي حال الضرورة التي تستدعي ذلك الاكتفاء من الخدم بما تمس الحاجة إليه، والخادم الواحدة تكفي لذلك، ولا بأس أن تكون هناك للضرورة ممرضة لعلاجها، أو معلمة لأولادها، وغير ذلك مما تحدد فيه المسؤوليات، ولا يعتبر مؤديها خادما بمعنى الكلمة.

أما ما ذكره المالكية وأبو يوسف، ففيه بعد، لأن الغرض من هذا الكم من الخدم الكثير ليس الحاجة وإنما الفخر والتعالي، ويكفي في النهي عليه ما ورد من النصوص في ذلك، ولسنا ندري كيف أصبح العرف سائدا في مثل هذا والشرع معزولا، مع أن القرآن الكريم نص على أن ذلك شأن أهل الترف من الدنيا كقارون الذي ذمه الله تعالى بقوله: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (القصص:79)، وكان من زينته كما يذكر ابن كثير: أنه كان راكبا على البغال الشهب، وعليه وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة (1)، فأي فارق بين هذا وبني ما قال أبو يوسف، رحمه الله.

أما الأدلة على تحريم الخيلاء والفخر، فهي مما لا يمكن استيعابه هنا، ولا نرى مقصدا من كل ذلك الخدم الذي ذكره أصحاب القول الثاني إلا الفخر والخيلاء، فأي فرق في الحاجات أو في الخدمات بين ذات المنصب الرفيع، وذات المنصب الوضيع إن صحت هذه التفرقة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

تبديل الخادم

اختلف الفقهاء في جواز تبديل الزوج خادمها الذي حملته معها، أو أخدمها إياه بعد إلفها إياه على قولين:

__________

(1) ابن كثير:3/ 402.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (234)

القول الأول: عدم جواز ذلك له، إلا إن ظهرت منه ريبة، أو خيانة، أو تضرر بوجوده، وهو قول جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والشافعية، أما إذا ظهرت منه ريبة، أو خيانة، أو تضرر منه بأن كان يختلس من ثمن ما يشتريه أو أمتعة بيته فله الإبدال، والإتيان بخادم أمين، ولا يتوقف هذا على رضاها إلا أن الحنفية يرون أن هذا إذا لم تستبدل غيره به، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. تضررها بقطع المألوف.

2. أنها قد لا تتهيأ لها الخدمة بالخادم الذي يجيء به الزوج بدل خادمها.

القول الثاني: أن للزوج إبدال خادم آخر بخادمها إذا أتاها بمن يصلح للخدمة، وهو قول الحنابلة، لأن تعيين الخادم إليه وليس إليها.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو قول بين القولين، فلا يحق لأحدهما التصرف في مثل هذا دون مشورة الآخر، أما كلا القولين فقد راعيا مصلحة طرف من الأطراف وأهملا مصلحة الطرف الآخر، والشرع إنما جاء ليراعي كل المصالح.

فمن المفاسد التي قد تحدث على الأخذ بالقول الثاني ما ذكره أصحاب القول الأول، وهي مفاسد حقيقية مراعاة لحقوق المرأة النفسية التي دل عليها النهي عن المضارة، فمن الضرر الكبير تبديل امرأة تألفها بامرأة قد تؤذيها ولو بمجرد وجودها.

أما المفاسد التي قد ينتجها القول الأول، فإن الرجل قد يرى في الخادم ما يدعوه إلى تبديلها، ثم لا يستطيع أن يفصح بذلك، وتلزمه الزوجة بقبولها، فيقع الحرج للزوج في هذا القول كما وقع مع المرأة في القول الآخر.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (235)

وسبب هذا هو قصر النظر على اعتبار الخادم حقا للزوجة أو للزوج، مع أنه ما دام في البيت يكون حقا لكليهما، فكلاهما تصله منافعه وتصيبه مضاره، لذلك كان تعيينه مرتبطا بهما جميعا.

حق المرأة في المؤنسة

مما قد يلحق بحق المرأة في الخادم، حقها في المؤنسة، وقد اختلف الفقهاء (1) في وجوب إتيان الرجل بمؤنسة لزوجته إذا دعت الحاجة إلى ذلك، كخوف مكانها، أو خوفها على نفسها من عدو يتربص بها على قولين:

القول الأول: إن المؤنسة واجبة للزوجة على زوجها عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، وهو قول الحنفية في المشهور عندهم والحنابلة (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن إلزام الزوجة بالإقامة بمكان لا تأمن فيه على نفسها، ولا يوجد معها فيه مؤنس من المضارة المنهي عنها، لقوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (الطلاق:6

2. أن ترك الزوجة كذلك ليس معه المعاشرة بالمعروف المأمور بها بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:19)

القول الثاني: إن المؤنسة ليست بلازمة على الزوج، وهو قول الشافعية، وبه قال بعض الحنفية (3).

__________

(1) المراد منها في عرف الفقهاء من تؤنس الزوجة إذا خرج الزوج ولم يكن عندها أحد.

(2) مطالب أولي النهى:5/ 622.

(3) وقد حمل قول من قال ذلك من الحنفية على ما إذا أسكنها بين جيران صالحين، وعلى عدم الاستيحاش. قال الشرنبلالي: قال في النهر: لم نجد من كلامهم ذكر المؤنسة، إلا أنه يسكنها بين قوم صالحين، بحيث لا تستوحش. وهذا ظاهر من وجوبها فيما إذا كان البيت خاليا من الجيران، ولا سيما إذا كانت تخشى على عقلها من سعته، انظر: رد المحتار:3/ 602، البحر الرائق:4/ 211.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (236)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن الحاجة للمؤنسة تختلف باختلاف السكن والمرأة، فمن السكن ما يكون منفردا، ومع ذلك تكون المرأة قوية، لا تحتاج إلى مؤنسة، وفي هذه الحالة لا لزوم لها، وقد تكون المرأة بين جيران ومع ذلك تخاف لطبيعة فيها، أو لسبب يدعوها إلى ذلك، وفي هذه الحالة يجب على الزوجة أن يؤنسها هو أو يحضر لها من تؤنسها، سواء من الأقارب، أو غيرهم ولو بالأجرة.

قال ابن عابدين: (لا يلزم من كون المسكن بين جيران عدم لزوم المؤنسة إذا استوحشت بأن كان المسكن متسعا كالدار وإن كان لها جيران، فعدم الإتيان بالمؤنسة في هذه الحالة لا شك أنه من المضارة، لا سيما إذا خشيت على عقله، فتحصل أنه مختلف باختلاف المساكن ولو مع وجود الجيران، فإن كان المسكن بحال لو استغاثت بجيرانها أغاثوها سريعا لما بينهم من القرب لا تلزمه المؤنسة وإلا لزمته) (1)

ثم ذكر الاعتبار الآخر، وهو اعتبار الأشخاص، فقال: (وينبغي أن يكون مختلفا أيضا باختلاف الأشخاص، فإن بعض الناس حتى من الرجال لا يمكنه أن يبيت وحده في بيت خال ولو صغيرا بين جيران، فإن كان زوجها يبيت في بيت ضرتها مثلا، وكانت تخشى على عقلها من البيتوتة وحدها، ينبغي أن يؤمر بالمؤنسة في ليلة ضرتها، ولا سيما إذا كانت الزوجة صغيرة نفيا للمضارة المنهي عنها بنص القرآن العزيز) (2)

أما القول بعدم لزوم المؤنسة، ففيه بعد، لأن نفقة المرأة لا تقتصر على جانبها المادي، بل تمتد لتشمل جانبها النفسي، فكيف نرضى لامرأة يرميها زوجها بين كثبان الرمال، أو في قمم

__________

(1) تنقيح الفتاوى الحامدية:1/ 23.

(2) تنقيح الفتاوى الحامدية:1/ 23.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (237)

الجبال، ثم يغيب عنها ما شاء، ثم لا نكلفه بما يوفر للمرأة من أسباب الأنس إذا ما احتاجت لذلك.

النوع الخامس التداوي

اختلفت أقوال العلماء في تكليف الزوج بمصاريف علاج الزوجة على قولين:

القول الأول: أنها لا تجب عليه لأنها ليست من النفقة، بل تجب في مالها إن كانت غنية وفي مال من تلزمه نفقتها إن كانت فقيرة إذا لم تكن متزوجة، وهو مذهب أكثر العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية في المشهور عندهم.

حتى أنهم نصوا على أن هذا النوع من النفقة يجب للعبد ولا يجب للزوجة، (فالسيد أحق بنفقته ومؤنته، ولهذا النفقة المختصة بالمرض تلزمه من الدواء وأجرة الطبيب بخلاف الزوجة) (1)

ونصوا على أنه (ولا دواء مرض، ومنه ما تحتاج إليه المرأة بعد الولادة لما يزيل ما يصيبها من الوجع الحاصل ونحوه، فإنه لا يجب عليه لأنه من الدواء) (2)

ونص الحنفية على (وإنما لم يجب الدواء لأنه من العوارض، كدواء المرأة فإنه لا يجب على الزوج) (3)

ونص المالكية على أنه (لا يلزمه لها الدواء لمرضها ولا أجرة نحو الحجامة ولا المعالجة في المرض) (4)

__________

(1) كشاف القناع: 5/ 490.

(2) حاشية البجيرمي:4/ 110.

(3) البحر الرائق: 7/ 270، وانظر: المبسوط: 21/ 105.

(4) الفواكه الدواني: 2/ 23.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (238)

ونص المتقدمون من الإمامية على أن المرأة (لا تستحق عليه ـ أي الزوج ـ الدواء للمرض، ولا أجرة الحمام إلا مع البرد) (1)

القول الثاني: أنه يجب عليه علاجها، وقد ذكره الشوكاني، قال: (أما إيجاب الدواء فوجهه أن وجوب النفقة عليه هي لحفظ صحتها والدواء من جملة ما يحفظ به صحتها) (2)، وذهب بعض علماء المالكية إلى أنه يفترض عليه أن يعالجها بقيمة النفقة التي تفترض لها، وهي سليمة من المرض.

ومن الإمامية المتأخرين الذين ذهبوا إلى هذا السيد الخوئي، فقد قال: (والظاهر أن النفقة الواجبة على الزوج أجرة الحمام عند حاجة الزوجة إلى التنظيف إذا لم تتهيأ لها مقدمات التنظيف في البيت، أو كان ذلك عسراً عليها لبرد أو غيره، كما أن منها أجرة مصاريف الولادة والفصد والحجامة عند الاحتياج إليها، وكذلك أجرة الطبيب والأدوية المتعارفة التي يكثر الاحتياج إليها عادة، بل لا يبعد أن يكون منها ما يصرف في سبيل علاج الأمراض الصعبة التي يكون الابتلاء بها اتفاقياً ولو احتاج إلى بذل مال خطير، مالم يكن حرجياً)

ومثله السيد السيستاني، الذي يرى أن علاج الأمراض الصعبة من النفقة فضلاً عن العلاج والتداوي بالأدوية المتعارفة، يقول في ذلك: (من النفقة الواجبة على الزوج أجرة الحمام عند حاجة الزوجة إليه سواء أكان للاغتسال أو للتنظيف إذا لم تتهيأ لها مقدمات الاستحمام في البيت أو كان ذلك عسيراً عليها لبرد أو غيره، كما أن منها مصاريف الولادة وأجرة الطبيب والأدوية المتعارفة التي يكثر الا حتياج إليها عادة، بل لا يبعد أن يكون منها ما يصرف في سبيل علاج الأمراض الصعبة التي يتفق الا بتلاء بها وإن احتاج إلى بذل مال كثير مالم يكن ذلك حرجياً على الزوج)

__________

(1) قواعد الأحكام العلامة الحلي (4/ 102)

(2) السيل الجرار:2/ 448.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (239)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة إلزام الزوج بنفقات زوجته العلاجية، لعدم الفرق بينها، وبين سائر النفقات، بل قد تكون نفقتها العلاجية أعظم خطرا من سائر النفقات، ونعجب كيف يفرض الفقهاء على الزوج أنواع النفقات المرهقة من مأكل وملبس ومسكن وخادم، والكثير منها مما تتطلبه الرفاهية، فإذا ما أتوا إلى نفقات العلاج قصروا فيها، أو اعتبروها ترفا لا داعي له.

ونحن لا نستعجل بالإنكار على الفقهاء القائلين بهذا قبل أن نعرف عذرهم في ذلك، فمن التجني الحكم عليهم قبل معرفته، ونرى من خلال موقفهم من التداوي عامة أن لهم في ذلك ثلاثة أعذار:

أما العذر الأول، وهو وجه حق دعاهم لتلك المقالة، وهو أن الطب في عهدهم يختلط فيه الحق والباطل، ويمارسه المحق والمبطل، وكان بالنسبة لكثير من الأمراض توهم وتخريص، فلذلك بنوا رأيهم في هذا على هذا الأساس.

أما العذر الثاني الذي دفعهم إلى ذلك، وهو عذر خاطئ ناتج عن سوء الفهم لبعض النصوص، فهو تصورهم أن التداوي مكروه لمنافاته التوكل، كما هو مذهب جمهور الحنابلة، ونص عليه أحمد.

أما العذر الثالث، وهو ناتج عن العذرين السابقين، فهو موقفهم من الحكم الشرعي من التداوي، فجمهورهم على كونه مباحا، وذهب الشافعية، والقاضي وابن عقيل وابن الجوزي من الحنابلة إلى استحبابه.

فهذه الأمور الثلاثة، والتي اعتبرناها أعذارا هي التي فرضت على الفقهاء القول بعدم لزوم نفقة العلاج للمرأة، ونعيذهم، وهم من هم، أن يكون مقصدهم حرمان المرأة من حق وجب لها.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (240)

ولذلك، فإن انتفاء الأعذار الثلاثة يعيد الأمر إلى نصابه، ويلزم الرجل بعلاج المرأة كما يلزمه بسائر نفقاتها، لأن القول بوجوب التداوي وعدم منافاته التوكل، وتيقن نتيجته أو حصول الظن الغالب فيها، يجعله ضرورة من الضرورات التي تتطلبها حياة المرأة، وبالتالي لا تستقيم حياتها ولا حياة زوجها معها إلا بوجودها.

أما العذر الأول فإن الطب في هذا العصر علم من العلوم له أصوله القطعية ونتائجه الحتمية التي لا ينكرها إلا مكابر، فلذلك لو رأى الفقهاء الضرورات التي تحتم اللجوء إلى الأطباء في عصرنا لذهبوا إلى القول بوجوبها على الزوج، ولقد ذكر الشافعية عند بيان محل استحباب التداوي عدم القطع بإفادته، أما لو قطع بإفادته كعصب محل الفصد فإنه واجب.

أما العذر الثاني، فقد رد عليه ابن القيم بقوله:: (في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا، ولا توكله عجزا)

أما العذر الثالث، فتنفيه النصوص الصحيحة التي تأمر بالتداوي من غير أن تكون فيها قرينة تصرفها إلى الإباحة أو الاستحباب.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (241)

ومن النصوص التي تدل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بالحرام) (1)، وفي حديث أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: نعم عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدا. قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: الهرم (2).

فهذه النصوص وغيرها تدل على وجوب التداوي، ولا تعارض بغيرها، فلكل حديث دلالته الخاصة.

فإذا انتفت هذه الأعذار الثلاثة، وأصبح القول بوجوب علاج الشخص لنفسه واجبا صار القول بوجوب علاج الزوجة واجبا بذلك، لأن ما وجب للفرد في نفسه وجب على وليه أو القيم عليه في حال عجزه، فعلاج الصبي الصغير والشيخ الكبير والمرأة على من يتكلف بحوائجهن سواء كان أبا أو ابنا أو زوجا.

ولو فرض غير هذا القول، فإلى من تلتجئ الزوجة إن لم يعالجها زوجها، أما أبوها إن كان حيا، فسيقول: زوجتكها سليمة صحيحة، فلما أنهكتها وأسقمتها أرسلتها إلي، وله الحق في ذلك، لأن الضمان على من أتلف، والأب لم يتلف شيئا حتى يكلف بضمانه، فلماذا لا يصح هذا القياس مع أن الفقهاء يستخدمونه كثيرا في العلاقات الزوجية.

والخلاصة أن حق التداوي واجب للزوجة على زوجها، ولا نظن أن هناك من المعاصرين من يخالف في ذلك إلا من يتناول نصوص الفقهاء كما يتناول القرآن الكريم.

__________

(1) الترمذي: 4/ 383، مصباح الزجاجة: 4/ 49، البيهقي: 9/ 343، النسائي: 4/ 194، ابن ماجة:2/ 1137.

(2) أحمد: 4/ 278، المعجم الكبير: 1/ 183، الترمذي: 4/ 383.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (242)

القسم الثاني

الحقوق المعنوية للزوجة

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (243)

المقدمة

مثلما أولت النصوص الأهمية البالغة بحقوق الزوجة المادية وما يرتبط بها، كما رأينا تفاصيل ذلك في القسم السابق، فإنها، وربما بقدر أكبر، أولت الحقوق المعنوية، فلذلك رأينا أن نتحدث في هذا الجزء عن هذا النوع من الحقوق.

وقد حاولنا أن نحصر الحقوق المعنوية للزوجة في الحقوق التالية:

الحقوق الدينية: ونريد بها حق الزوجة في حرية التدين والاعتقاد وفق الضوابط الشرعية، دون تدخل من الزوج، ونقصد به كذلك المسؤولية المناطة بالزوج في توفير ما يلزم لتحقيق هذه الحقوق.

الحقوق الاجتماعية: ونريد بها حق الزوجة في صلة رحمها وصلتهم لها، وإقامة العلاقات الاجتماعية مع أفراد المجتمع من دون أن تحد حريتها في ذلك إلا وفق ما تمليه الضوابط الشرعية.

الحقوق الاقتصادية: ونريد بها حرية الزوجة في التصرف في مالها باعتبار أن لها ذمة مالية مستقلة كالرجل، ونريد بها كذلك الحدود الشرعية لتصرفات المرأة في مال زوجها، وحدود تصرف الزوج في مال زوجته.

حق الزوجة في التعليم: ونريد به الحقوق المتعلقة بالنواحي العلمية والتربوية.

حق الزوجة في المعاشرة الحسنة:

حق الزوجات في العدل: وهو مرتبط بحالة تعدد الزوجات، وهو العدل الذي أبيح على أساسه التعدد، وقد تحدثنا فيه بتفصيل كبير على النواحي المقاصدية التي شرع لأجلها التعدد، ردا على الشبهات المثارة في هذا المجال.

وتحدثنا ثانيا عن الضوابط الشرعية التي تحقق المقصد الشرعي من شرعية التعدد.

هذه أهم الحقوق التي تناولناها في هذا القسم.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (244)

الفصل الأول

الحقوق الدينية للزوجة

ونقصد بهذا النوع من الحقوق حق الزوجة في حرية التدين والاعتقاد وفق الضوابط الشرعية، دون تدخل من الزوج، ونقصد به كذلك المسؤولية المناطة بالرجل في توفير ما يلزم لتحقيق هذه الحقوق الدينية.

وقد نص ابن الحاج على هذا الحق، وعاتب على عدم الاهتمام به مقابل الاهتمام الشديد بالحقوق المالية، فقال: (هذا القسم أعني طلب النساء حقوقهن في أمر الدين الذي لم يخلقن إلا لأجله قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي} (الذاريات:56) قد أهمل اليوم وصار متروكا قد دثر مناره، حتى كأنه لم يعرف لعدم الكلام فيه من الزوج، والزوجة في الغالب (1).

ثم ذكر نوع المطالب التي يهتم لها الزوج والزوجة والقضاء في عصره، وهو نفس الحال في عصرنا، وفي جميع عصور الضعف، فقال: (لأن مطالبة الزوجة زوجها في غالب الحال في هذا الزمان إنما هو في النفقة، والكسوة وفيما كان من الأمور الدنيوية، وأما ما كان من أمور الدين فلا يهمهم شأنه غالبا ولا يكترثون به، بل لا يخطر لبعضهم ببال كأنهم لم يدخلوا في الخطاب، فظاهر حالهم كحال من اصطلحوا على تركه فلو طلبت المرأة حقها في أمر دينها من زوجها ورفعته إلى الحاكم وطالبته بالتعليم لأمر دينها، لأن ذلك لها إما بنفسه، أو بواسطة إذنه لها في الخروج إلى ذلك لوجب على الحاكم جبره على ذلك كما يجبره على حقوقها الدنيوية، إذ أن حقوق الدين آكد

__________

(1) المدخل:1/ 276.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (245)

وأولى، وإنما سكت الحاكم عما ذكر، لأن الحاكم لا يحكم إلا بعد طلب صاحب الحق حقه وسواء كان الحاكم قاضيا، أو محتسبا، أو غيرهما ممن ينفذ أمره) (1)

بناء على أهمية هذا النوع من الحق، فقد قسمنا الكلام فيه بحسب دين الزوجة إلى مبحثين، خصصنا أحدهما للحقوق الدينية للزوجة غير المسلمة، وخصصنا الثاني لحقوق الزوجة المسلمة.

أولا ـ الحقوق الدينية للزوجة غير المسلمة

كنا قد تحدثنا في الكتاب السابق عن حكم الزواج بالمخالفة في الدين، وأنواع الأديان في ذلك، وبناء عليه سيكون حديثنا في هذا المطلب:

1 ـ حكم إلزامها أحكام الإسلام

لقد نص القرآن الكريم في أحكامه القطعية على حرية الاعتقاد والتعبد، فلكل ذي دين دينه ومذهبه، لا يُجبر على تركه إلى غيره، ولا يُضغط عليه ليتحول منه إلى الإسلام، ولم تذكر هذه الأحكام من باب التوجيه فقط، بل ورد في النصوص ما يحيلها أمرا عمليا سواء من الناحية النفسية أو من الناحية التشريعية.

فالإكراه لا يجوز مطلقا بأي صفة كانت، بالتأديب أو التقصير في النفقة ونحوها، فلا يجوز له أن يكره زوجته مثلا بالتضييق في الإنفاق عليها طمعا في أن يؤثر ذلك في إسلامها، وقد نص على هذا العلماء في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (البقرة:272)

فقد وردت هذه الآية في سياق ذكر الصدقات ونحوها من أنواع النفقات والصلات، وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن ناسا من الأنصار كانت لهم قرابات من بني قريظة والنضير، وكانوا

__________

(1) المدخل:1/ 276.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (246)

لا يتصدقون عليهم رغبة منهم في أن يسلموا إذا احتاجوا، فنزلت الآية بسبب أولئك (1)، فدل هذا السبب على عدم جواز استخدام التقصير في النفقة أو الشح بها وسيلة للدعوة للإسلام.

وبما أن مثل هذا الأمر لا تكفي فيه التشريعات الدينية، بقدر ما تؤسسه القناعة الإيمانية والتوجيه التربوي، وردت النصوص القرآنية الكثيرة لتخبر أن الإيمان نعمة من الله يهبها لمن شاء من عباده، وأن الإكراه لا ينتج المؤمنين، بل قد ينتج المنافقين.

وسنذكر هنا بعض التصورات العقدية التي ربى بها القرآن الكريم هذه الناحية في نفوس المسلمين، لأن منشأ السماحة الإسلامية ليس مجرد التشريعات القانونية التي قد تجد طريقها للتفلت، والاحتيال، وإنما هي سماحة تنطلق من العقيدة والتربية، قبل التشريع والتقنين، فمن تلك التصورات:

1. أن إكراه الناس على الإيمان تدخل في المشيئة الإلهية التي شاءت هذا الاختلاف، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس:99)، قال ابن عباس: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حريصا على إيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول) (2)

2. أن تبين الحق والضلال والرشد والغي كاف وحده للدلالة على الإيمان، فلا حاجة لوسيلة أخرى، قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256) وكأن هذه الآية تحث المؤمن على أن يكون نموذجا للرشد، فذلك وحده كاف للهداية إلى الحق.

3. أن الهداية نعمة إلهية يهبها لمن يشاء من عباده، فهو الذي يشرح لها الصدور، قال تعالى

4.

__________

(1) انظر أسباب نزول الآية في: القرطبي:3/ 337، فتح القدير:1/ 293.

(2) القرطبي:3/ 337.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (247)

5. {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (النساء:272)، وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (الكهف:56)، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (يونس:100)

6. أن الهداية مصلحة شخصية، والضلال مضرة شخصية، ودور المؤمن هو الدعوة للمصلحة والتنفير من المضرة، لا الإلزام بذلك، قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيل} ٍ (يونس:108) وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} (الزمر:41)

7. أن دور المؤمن هو الدعوة لا السيطرة على من يدعوه أو إكراهه، قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} (عبس:21)

8. أن الإيمان والكفر حرية شخصية تتبع مشيئة صاحبها لا الإلزام الخارجي، قال تعالى: {وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} (الكهف:29)

2 ـ حكم التدخل في حرية الزوجة الدينية

يمكن تقسيم ما يتعلق بالحرية الدينية للزوجة الكتابية إلى ثلاثة أقسام:

التصرفات الدينية المحضة

وهي التصرفات التي لا علاقة لها بالحياة العادية، وتشمل الشعائر التعبدية والطقوس المختلفة، والعقائد ونحوها، فهذا مما لا خلاف في عدم جواز منعها منه، وقد نص الفقهاء في

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (248)

هذا المجال ـ من باب التمثيل لا من باب الحصر ـ على أنه لا يمنعها من أن تدخل منزله الصليب، وليس له منعها من صيامها الذي تعتقد وجوبه وإن فوت عليه الاستمتاع في وقته ولا من صلاتها في بيته، قال أحمد في الرجل تكون له المرأة أو الأمة النصرانية يشتري لها زنارا؟ قال: لا، بل تخرج هي تشتري لنفسها، فقيل له: جاريته تعمل الزنانير؟ قال: لا (1).

وإن كانوا يعتقدون حرمة شيء تدينا، فلا يصح إلزامهم به، فليس له مثلا إلزام اليهودية إذا حاضت بمضاجعته والاستمتاع بما دون الفرج، وليس له حملها على كسر السبت ونحوه مما هو واجب في دينهم، وقد أقررناهم عليه وليس له حملها على أكل الشحوم واللحوم المحرمة عليهم، وليس له منعها من الخلوة بابنها وأبيها وأخيها إذا كانوا مأمونين عليها، وليس له منعها من قراءة كتابها إذا لم ترفع صوتها به.

أما إن مارست عبادة إسلامية مع كونها كتابية كصوم رمضان مثلا، فقد اختلف الفقهاء في حقه في منعها من صومها معه على قولين:

القول الأول: أن له ذلك، لأنه لا يجب عليها، وله منعها منه كما له منع المسلمة من صوم التطوع ترفيها لها.

القول الثاني: ليس له ذلك لأنه لا حق له في الاستمتاع بها في نهار رمضان، وإذا لم يكن له منعها من الصوم المنسوخ الباطل فأن لا يمنعها من صوم رمضان أولى.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة لا مجرد إجازة صومها معه، بل ترغيبها في ذلك وتحبيبه إليها، لأن من مقاصد الزواج الكبرى بأهل الكتاب دعوتهم إلى الإسلام، والدعوة قد تتحقق بالحوار والجدال بالتي هي أحسن والموعظة وغيرها من الوسائل النظرية، وقد تتحقق بالتطبيق والممارسة، فتعلمها صلاة المسلمين مثلا أو قراءتها القرآن الكريم، أو صيامها، وغير ذلك من

__________

(1) المغني:7/ 225، 9/ 291، كشاف القناع:5/ 191.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (249)

الممارسات، قد يحيلها مع الزمن مسلمة، فيدخل الإيمان قلبها بعد أن كست به جوارحها، بل نرى من باب المصلحة أن يدخل بها المسجد، أو تذهب للمسجد لتسمع دروس العلم والوعظ، فقد تجد فيها ما لم يستطع زوجها إقناعها به.

ولعل أصرح دليل على ذلك إدخال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفد نصارى نجران إلى مسجده بل تمكينهم من الصلاة فيه، كما روى ابن إسحق أنه لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوهم)، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم وكانوا ستين راكبا (1).

التصرفات المشتبه فيها

وهي التصرفات التي لها علاقة بالدين من ناحية، وقد يكون لها تأثيرها في عرضه من ناحية أخرى، أي أن لها صلة بدينه وصلة محتملة بعرضه، ومن أمثلتها خروجها للكنيسة ونحوها من دور العبادة، وقد نص الفقهاء في هذا على أنه يحق للزوج المسلم أن يمنع زوجته غير مسلمة من الذهاب إلى الكنيسة ونحوها، وليس له منعها من التعبد.

وفي هذا الحكم حيثيات كثيرة تجعل له قيمة معتبرة، وإن كان البعض قد يأسف لذلك، ويعتبرها متناقضة مع الحرية العقدية، لأن الكثير من الكنائس، وخاصة في عصرنا تقام فيها الحفلات التي يختلط فيها الرجال بالنساء، في جو أقرب إلى المجون منه إلى العبادة، بل إن بعضها خاصة في الكنائس الغربية تعلن عن إقامة الحفلات في مناسبات مختلفة، وكثيرا ما نسمع الفضائح التي تحصل في تلك الدور، والتي قد يتولى كبرها رجال الدين أنفسهم (2).

__________

(1) انظر: زاد المعاد:3/ 629، هداية الحيارى:27.

(2) أوردت وكالات الأنباء خبرا تحت عنوان (الفاتيكان يعترف باغتصاب راهبات من قبل قساوسة)، ونص الخبر على أن بابا الفاتيكان يوحنا بولص الثاني اعترف بصحة تقارير صحفية تحدثت عن انتهاكات أخلاقية في صفوف الكنيسة، وقالت إن قساوسة ورجال دين كبارا أرغموا راهبات على ممارسة الجنس معهم، وتعرضت بعض الراهبات للاغتصاب وأجبرت أخريات على الإجهاض.

وقال الفاتيكان في بيان له إن القضية محدودة ومتعلقة بمنطقة جغرافية محددة، لكنه لم يشر إلى هذه المنطقة الجغرافية، وكانت التقارير أكدت أن هذه الانتهاكات موجودة في 23 بلدا من بينها الولايات المتحدة الأميركية والبرازيل والفلبين والهند وإيرلندا وإيطاليا نفسها.

وأكد البيان أن الكرسي البابوي يتعامل مع القضية بالتعاون مع الأساقفة، والمؤسسات الدينية الكاثولكية الأخرى لمعالجة الموضوع.

وأدانت وكالة الأنباء التبشيرية ميسنا ما أسمته مفاسد المبشرين لكنها في الوقت نفسه دعت إلى تذكر أن هؤلاء القساوسة ورجال الدين يظلون بشرا. لكن المتحدث الرسمي باسم المؤتمر الأميركي للأساقفة الكاثوليك قال إن "أقل ما يمكن قوله عن هذا التقرير هو أنه مروع ومزعج) لكنه أوضح أنه لا علم له بمثل هذه الانتهاكات في الولايات المتحدة.

وقال تقرير نقلته صحيفة لا ريببليكا الإيطالية إن بعض الراهبات أجبرن على أخذ حبوب منع الحمل. وأشار إلى أن معظم حالات الاعتداء الجنسي على الراهبات حدثت في أفريقيا حيث "تعرف الراهبات على أنهن آمنات من الإصابة بفيروس الإيدز" المنتشر في القارة السمراء.

وكانت الاتهامات قد ظهرت للمرة الأولى في التقرير الكاثوليكي القومي الأسبوعي في مدينة كانساس في 16 مارس/ آذار ونقلته وكالة أنباء أديستا -وهي وكالة إيطالية دينية صغيرة- مما أدى إلى وصوله لأجهزة الإعلام العامة.

وقد أعدت التقرير الذي تحدث عن حالات محددة بالأسماء وحالات تورط أصحابها راهبة وطبيبة تدعى ماورا أودونوهو، وقدمت الراهبة تقريرها إلى رئيس مجمع الفاتيكان للأوامر الدينية الكاردينال مارتينز سومالو في فبراير/ شباط عام 1995.

وقد أمر الكاردينال آنذاك بإنشاء فريق عمل من المجمع لدراسة المشكلة مع أودونوهو والتي كانت تعمل منسقة الإيدز في منظمة (كافود) وهي منظمة دينية تابعة لطائفة الروم الكاثوليك تتخذ من لندن مقرا لها.

وأشارت أودونوهو إلى أدلة واضحة على اتهاماتها، وقالت إنه في إحدى الحالات أجبر قسيس راهبة على الإجهاض مما أدى إلى موتها، ثم قام بنفسه بعمل قداس لها.

وبشأن أفريقيا قال تقريرها إن الراهبات لا يستطعن هناك رفض أوامر القساوسة بهذا الشأن، وأكدت أن عددا من القساوسة هناك مارسوا الجنس مع الراهبات خوفا من إصابتهم بالإيدز إذا "مارسوه مع العاهرات"، وترغم الراهبات على تناول حبوب لمنع الحمل، لكنها قالت إن مؤسسة دينية اكتشفت وجود 20 حالة حمل دفعة واحدة بين راهباتها العاملات هناك.

وأشار التقرير إلى أن الأسقف المحلي لإحدى المناطق طرد رئيسة دير عندما اشتكت له من أن 29 راهبة من راهبات الدير حبالى بعد أن أرغمن على ممارسة الجنس مع القساوسة.

المصدر: رويترز - أسوشيتد برس، الأربعاء 26/ 12/1421 هـ الموافق 21/ 3/2001 م، (توقيت النشر) الساعة: 5:38 (مكة المكرمة)،2:38 (غرينيتش).

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (250)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (251)

ونفس الحكم نص عليه الفقهاء في الأعياد، فقد قال أحمد في حق المرأة النصرانية في الخروج في أعيادهم: لا يأذن لها أن تخرج إلى عيد أو تذهب إلى بيعة وله أن يمنعها ذلك (1)، وهو رأي وجيه خاصة إذا علمنا ما يحدث في أعيادهم من هتك للأعراض وعدم مبالاة بالفواحش.

التصرفات العادية المحضة

وهي التصرفات التي لا علاقة لها بالدين، أو أن تكون من مباحات الدين لا من واجباته أو محرماته، ومنها الأطعمة والأشربة واللباس، ونحو ذلك.

وقد نص الفقهاء هنا على أن للزوج الحق في منع زوجته من السكر وإن كانت غير مسلمة، لأنه يحول بينها وبين حقه في الاستمتاع بها، فإنه يزيل عقلها، ولا يأمن أن تجني عليه، أما إن أرادت شرب المحرم الذي لا يسكرها، فليس له منعها منه، لعدم تكليفها بفروع الشريعة، فهي تعتقد إباحته في دينها، وله إجبارها على غسل فمها منه ومن سائر النجاسات ليتمكن من الاستمتاع بفيها، وله الحق في منع المسلمة، لأنهما يعتقدان تحريمه إلا إذا تزوج

__________

(1) المغني:9/ 291.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (252)

مسلمة تعتقد إباحة يسير النبيذ فليس له الحق في منعها (1)، ونفس الحكم في لحم الخنزير ففيه وجهان، ونرى أنها ما دامت عنده، فإنه يكفيها من الأشربة واللحوم من الحلال ما يغنيها عن الحرام أو المشتبه فيه.

وله كذلك إلزامها اللباس المحتشم، لأن له حق القوامة عليها من هذه الناحية، وقد اشترط القرآن الكريم لإباحة الزواج من أهل الكتاب أن يكن محصنات عفيفات، والعفاف لا ينقض بالزنا وحدهن، بل إن التبرج من الزنا غير المباشر، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في المرأة تخرج من بيتها متعطرة: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية) (2)

ومثل هذا المنع لا علاقة له بحرية العبادة، لأن زينة المرأة الخارجية من حق الزوج، بل إن في حثها على الاحتشام والتعفف وترك المسكر ونحوه دعوة لها بما يلزمه إياها دينها، وإنما أجاز الإسلام زواجها لاعتقادهم ذلك، فإذا ما انحرف ذلك الاعتقاد وقالوا بحرية ممارسة الفاحشة، فإنه لا يجوز الزواج منهم كما ذكرنا ذلك في حكم الزواج من أهل الكتاب في الجزء الأول.

ثانيا ـ الحقوق الدينية للزوجة المسلمة

يختلف حكم حق الزوجة في التصرفات الدينية بحسب نوع الحكم الشرعي المرتبط بهذه التصرفات، كما يلي:

1 ـ الأحكام الواجبة

__________

(1) في المسألة قولان عند الشافعية وروايتان عند الحنابلة.

(2) صحيح ابن خزيمة: 3/ 91، ابن حبان: 10/ 270، الحاكم: 2/ 430، الدارمي: 2/ 362، البيهقي: 3/ 246، النسائي: 5/ 430، أحمد: 4/ 413.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (253)

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للزوج منع زوجته من أي حكم من الأحكام الواجبة، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل) (1)

بل إنه يجب على الزوج إذا كانت الزوجة هي المقصرة أن يلزمها أداء هذه الواجبات، فقد نصت الأوامر القرآنية والنبوية على وجوب أمر الأهل بأدائها، وخاصة الصلاة وعبادة الله تعالى، ويلحق عليها فعل سائر الواجبات، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه:132)، بل جاء الأمر مطلقا في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم:6)، وهو يدل على أن للزوج أن يلزم زوجته طاعة الله تعالى فيما يتعلق بهذه الناحية، قال ابن الحاج: (ويتعين عليه أن يعلم عبده وأمته الصلاة والقراءة وما يحتاجان إليه من أمور دينهما، كما يجب ذلك عليه في زوجته وولده إذ لا فرق، لأنهم من رعيته) (2)، وسنعرض للمسألة بتفاصيلها وأدلتها في الفصل القادم إن شاء الله، لعلاقتها بقوامة الرجل.

ولم نر حكما من الأحكام الواجبة وقع الخلاف في حق الزوج في المنع منه غير الحج لعلاقته بحق الزوج في منع الزوجة من الخروج من ناحية، ولكونه على التراخي من ناحية أخرى، وقد اختلف الفقهاء في ثبوت هذا الحق للزوج في الحج الواجب، أو العمرة الواجبة، وهي حجة الإسلام وعمرته، أو المنذور منهما إذا أحرمت به بغير إذنه على ثلاثة أقوال (3):

__________

(1) الترمذي: 4/ 209، مجمع الزوائد: 9/ 177، مصنف ابن أبي شيبة: 6/ 545، مسند البزار: 5/ 357، أحمد: 1/ 131، المعجم الكبير: 18/ 165.

(2) المدخل:1/ 211.

(3) تبيين الحقائق:2/ 305، المنهج القويم:619، روضة الطالبين:9/ 63، مغني المحتاج:468، فتح الباري:4/ 76، فما بعدها، المغني:3/ 99.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (254)

القول الأول: أن له منعها، وهو قول للشافعية (1)، قال الشافعي: (إذا بلغت المرأة قادرة بنفسها ومالها على الحج فأراد وليها منعها من الحج أو أراده زوجها، منعها منه ما لم تهل بالحج، لأنه فرض بغير وقت إلا في العمر كله، فإن أهلت بالحج بإذنه لم يكن له منعها، وإن أهلت بغير إذنه ففيها قولان (2) ومع ذلك فقد عقب على أن المستحب لزوجها أن لا يمنعها، قال: (وأحب لزوجها أن لا يمنعها، فإن كان واجبا عليه أن لا يمنعها كان قد أدى ما عليه وأن له تركه إياها أداء الواجب، وإن كان تطوعا أجر عليه إن شاء الله تعالى)

وقد نصوا على أنه ينبغي للمرأة أن لا تحرم بغير إذن زوجها، وأنه يستحب له أن يحج بها، فإن أرادت حج إسلام أو تطوع فأذن الزوج وأحرمت به لزمه تمكينها من إتمامه بلا خلاف، سواء كان فرضاً أو نفلاً، وكما لا يجوز له تحليلها لا يجوز لها التحلل، فإن تحللت لم يصح تحللها، ولم تخرج من الحج، كما لو نوى غيرها الخروج من الحج بلا إحصار فإنه لا يخرج منه بلا خلاف، ومن الأدلة على ذلك:

1. أن الزعم بأنه لا يمنعها لكونه فرضا فلا يملك تحليلها منه ينتقض بصوم الكفارة

2.

__________

(1) والقول الثاني أنه لا يملك، لأنه فرض فلا يملك تحليلها منه كالصوم والصلاة، وقد نصوا على أن القول المذكور هو الأرجح، قال القاضي أبو الطيب في (تعليقه) المنصوص في باب الحج المرأة والعبد من المناسك الكبير: أن للزوج منعها، ونص الشافعي في باب خروج النساء إلى المساجد ن اختلاف الحديث على أنه ليس له منعها، وقال البندنيجي: نص الشافعي في عامة كتبه أن له منعها، واتفقوا على أن الصحيح من هذين القولين أن له منعها، وبه قطع الشيخ أبو حامد والمحاملي وآخرون، قال القاضي أبو الطيب في كتابه (المجرد) والروياتي وغيرهما: هذا القول هو الصحيح المشهور، انظر: المجموع: 8/ 239.

(2) نص القولين كما ذكر الشافعي:) ومن قال هذا القول لزمه عندي أن يقول: لو تطوعت فأهلت بالحج أن عليه تخليتها من قبل أن من دخل في الحج ممن قدر عليه لم يكن له الخروج منه ولزمه، غير أنها إذا تنفلت بصوم لم يكن له منعها ولزمه عندي في قوله أن يقول ذلك في الاعتكاف والصلاة. والقول الثاني: أن تكون كمن أحصر فتذبح وتقصر وتحل ويكون ذلك لزوجها (، الأم:2/ 128.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (255)

3. والنذر في الذمة والقضاء الذي لم ينتقض، فإن له منعها من كل ذلك في الأصح.

4. أن حق الزوج على الفور والحج على التراخي، فقدم ما كان على الفور، كما تقدم العدة على الحج بلا خلاف.

5. أن النهي عن منع النساء من الخروج للمساجد محمول على أنه نهي تنزيه أو غير المتزوجات، كالبنت والأخت ونحوهما، وأن المراد لا تمنعوهن مساجد الله للصلوات، وهذا هو ظاهر سياق الحديث.

6. أن هناك فرقا بين الحج والصوم والصلاة، لأن مدته طويلة بخلافهما.

القول الثاني: ليس لزوجها منعها، ولا تحليلها، وهو قول جمهور العلماء، ومنهم أحمد والنخعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي، والشافعي في أصح القولين له، وهو قول الإمامية، ومن الأدلة على ذلك:

1. عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: انطلق فاحجج مع امرأتك) (1)

2. أن الحج الواجب يتعين بالشروع فيه، فيصير كالصلاة إذا أحرمت بها في أول وقتها وقضاء رمضان إذا شرعت فيه.

3. أن حق الزوج مستمر على الدوام، فلو ملك منعها في هذا العام لملكه في كل عام، فيفضي إلى إسقاط أحد أركان الإسلام.

4. أن لها أن تسارع إلى براءة ذمتها، كما أن لها أن تصلي أول الوقت وليس له منعها.

5. أن ما ورد عن ابن عمر مرفوعا في امرأة لها زوج ولها مال ولا يأذن لها في الحج: ليس لها أن

6.

__________

(1) البخاري:5/ 2005، مسلم: 2/ 978، البيهقي: 5/ 226.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (256)

7. تنطلق إلا بإذن زوجها (1)، فهو محمول على حج التطوع جمعا بين الحديثين.

القول الثالث: إنه يفرض على الزوج أن يحج معها، فإن لم يفعل فهو عاص لله تعالى وتحج هي دونه، وهو قول الظاهرية، ومن الأدلة على ذلك:

1 ـ حديث ابن عباس السابق، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم للرجل: (انطلق فاحجج مع امرأتك) (2)،وقد ذكر ابن حزم وجوها للاستدلال بالحديث منها:

الوجه الأول: أن نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن أن تسافر امرأة إلا مع ذي محرم وقع، ثم سأله الرجل عن امرأته التي خرجت حاجة لا مع ذي محرم، ولا مع زوج فأمره صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينطلق فيحج معها، ولم يأمر بردها ولا عاب سفرها إلى الحج دونه ودون ذي محرم.

الوجه الثاني: أن في أمره صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينطلق فيحج معها بيان صحيح ونص صريح على أنها كانت ممكنا إدراكها بلا شك، فأقر صلى الله عليه وآله وسلم سفرها كما خرجت فيه، وأثبته ولم ينكره، فصار الفرض على الزوج، فإن حج معها فقد أدى ما عليه من صحبتها، وإن لم يفعل فهو عاص لله تعالى وعليها التمادي في حجها والخروج إليه دونه أو معه أو دون ذي محرم أو معه كما أقرها عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكره عليها.

__________

(1) قال ابن حجر: رواه الدارقطني والطبراني في الصغير والبيهقي كلهم من طريق العباس بن محمد بن مجاشع عن محمد بن أبي يعقوب الكرماني عن حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن نافع عن بن عمر قال الطبراني لم يروه عن إبراهيم إلا حسان وقال البيهقي تفرد به حسان وأعله عبد الحق بجهل حال محمد قال ابن القطان: تبع في ذلك أبا حاتم نصا، تلخيص الحبير:2/ 289، وقال ابن الملقن: رواه الدارقطني والطبراني والبيهقي من رواية ابن عمر وفي إسناده مجهول وهو العباس بن محمد بن شافع، خلاصة البدر المنير:2/ 46، وانظر: مجمع الزوائد: 3/ 215، البيهقي: 5/ 223، الدارقطني:2/ 223، المعجم الصغير:1/ 349.

(2) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (257)

2 ـ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولا تمنعوا إماء الله مساجد الله) (1)،وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن) (2)، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم الأزواج وغيرهم أن لا يمنعوا النساء من المساجد، والمسجد الحرام أجل المساجد قدرا.

3 ـ قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران:97) لا يتنافى مع النصوص الناهية عن سفر المرأة بغير محرم، لأن الأسفار تنقسم قسمين سفرا واجبا، وسفرا غير واجب، والحج من السفر الواجب، فلم يجز أخذ بعض الآثار دون بعض، ووجبت الطاعة لجميعها ولزم استعمالها كلها، ولا سبيل إلى استعمال جميعها إلا بأن يستثنى الأخص منها من الأعم، فكان نهي المرأة عن السفر إلا مع زوج، أو ذي محرم عاما لكل سفر، فوجب استثناء ما جاء به النص من إيجاب بعض الأسفار عليها من جملة النهي، والحج سفر واجب فوجب استثناؤه من جملة النهي.

4 ـ الأحاديث الدالة على أن الطاعة في المعروف، وترك الحج معصية، ولا فرق بين طاعة الزوج في ترك الحج وبين طاعته في ترك الصلاة أو في ترك الزكاة أو في ترك صيام شهر رمضان.

5 ـ أن القول بأن الحج على التراخي يستدعي معرفة وقت التراخي، فإن حدوا في ذلك سنة أو سنتين أو أكثر كانوا متحكمين في الدين بالباطل وشارعين ما لم يأذن به الله تعالى، ولا يقول أحد بطاعتهم في ترك الحج أبدا جملة.

6 ـ أن الزعم بأن إيجاب الحج على النساء عموم، فيخص بحديث النهي عن السفر إلا مع زوج أو ذي محرم خطأ، لأن تلك الأخبار إنما جاءت بالنهي عن كل سفر جملة لا عن الحج خاصة، وإنما يمكن أن يعارضوا بهذا بما لو جاءت في النهي عن أن تحج المرأة إلا مع زوج، أو

__________

(1) مسلم:1/ 327، البخاري: 1/ 305، المنتقى لابن الجارود: 1/ 91، ابن خزيمة:3/ 90، ابن حبان: 5/ 387، الدارمي: 1/ 330.

(2) البخاري: 1/ 295، مسلم: 1/ 327، البيهقي: 3/ 132، أحمد: 2/ 57، أبو يعلى:9/ 333.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (258)

ذي محرم، فحينئذ يكون اعتراضا صحيحا وتخصيصا لأقل الحكمين من أعمهما.

7 ـ أن علة منعها من حج التطوع أن طاعته فرض عليها فيما لا معصية لله تعالى فيه، وليس في ترك الحج التطوع معصية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة النظر في السبب الذي جعل الزوج يمنع زوجته من أداء هذه الفريضة، فإن كان سببا مشروعا، تتحقق فيه مصلحة كلا الزوجين، فإن الأصلح في هذه الحالة الأخذ بالقول الأول، لأن الحج على التراخي، والأولى للمرأة، وهي تريد أن تؤدي عبادة تتعلق بالعمر جميعا أن تؤديها بحالة نفسية طيبة تسمح لها بنيل ثمراتها على التمام.

ولا نرى في الحالة العادية إذا ما ذهبت المرأة، وهي تشعر بغضب زوجها عليها لمخالفته، أنها تتمكن من أداء العبادة بنفسية تسمح لها بالخشوع فيها كما يجب، وليس في هذا الرأي مخالفة للحديث الذي استدل به الجمهور، لأن الرجل ـ كما ورد في الحديث ـ لم يخبر عن نفسه أنه منع زوجته، بل النص يدل على إذنه لها، وأنه رجل صالح، بدليل عزمه على الجهاد، فطلب منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤجل الجهاد ويحج مع زوجته.

أما إن كان قصد الزوج من منعها مجرد الإضرار، أو كان فاسقا لا يهمه أكان الحج واجبا أم غير واجب، أو كان رجلا متجبرا ظالما يعتقد أن له على زوجته السلطة المطلقة، فإن للزوجة في هذه الحالة أن تحج بغير إذنه إلا إذا ترتب على ذلك مفسدة ما، فالأولى تأخير الحج درءا للمفسدة، فالحج وإن كان واجبا إلا أنه محاط بقيد الاستطاعة، وهو على التراخي.

هذا بالنسبة للمرأة، أما الرجل فلا يجوز له أن يمنع زوجته من أداء هذه العبادة العظيمة، بل يجب عليه إن استطاع أن يرافقها كما قال ابن حزم، وتجب عليه نفقتها إذا ما حجت ولو بغير إذنه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (259)

ولكن مع ذلك ـ إذا ما كان هناك ظرف خاص ـ فإن له أن يمنعها من ذلك على سبل التأقيت لا الدوام، ومن الظروف مثلا، أن تكون حاجة الزوجة للمال مثلا في أمر ما أهم من حاجتها إليه في الحج، ولا يمكن حصر الأحوال في ذلك، فمن الخطر الكبير أن يقال قول واحد لكل الأحوال.

وبهذا نرى أن لكل قول من الأقوال الثلاثة في المسألة وجهه الخاص المتعلق بالمصالح المعتبرة شرعا، وقد قال ابن حزم في محل آخر قريبا من هذا، ونص قوله ببعض تصرف: (إن أحرمت من الميقات أو من مكان يجوز الإحرام منه بغير إذن زوجها، فإن كان حج تطوع - كل ذلك - فله منعها وإحلالها، وإن كان حج الفرض نظر فإن كان لا غنى به عنها أو عنه - لمرض أو لضيعته دونه أو دونها أو ضيعة ماله - فله إحلالها، وإن كان لا حاجة به إليها لم يكن له منعها أصلا فإن منعها فهو عاص لله عز وجل وهي في حكم المحصر (، وقد استدل لذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) (1)

والخلاصة أن كل الواجبات الشرعية لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته منها إلا لسبب لا يعود لذلك الواجب، وإنما يرجع لاعتبارات أخرى وفق سلم الأولويات الشرعي.

2 ـ الأحكام المستحبة

خلافا لما ذكر الفقهاء في الأحكام الواجبة، والتي اتفقوا على عدم استحقاق الزواج حق منعها منها، بل يلزمه إلزامها بها، اختلفوا في الأحكام المستحبة، هل يحق له التدخل فيها أم لا في حال تعارضها مع بعض حقوق الزوج، ومن المسائل المختلف فيها:

خروج المسلمة للمسجد

__________

(1) البخاري:2/ 862، مسلم: 4/ 1996، الترمذي:4/ 34، ابن حبان: 2/ 291، البيهقي: 6/ 201، أحمد: 2/ 91، المعجم الكبير: 12/ 287.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (260)

وهي من المسائل المهمة، والتي لها تأثيرها الاجتماعي الكبير، فإن الاعتقاد الغالب عند الناس الآن أن المساجد للرجال، وأن صلاة النساء في المساجد محصورة في أوقات محدودة أو في مناسبات خاصة، وأن الأفضل صلاتهن في بيوتهن، وهذه النظرة لعلاقة النساء بالمساجد لها أسسها الفقهية، والتي سنرى مدى صحتها هنا، فقد اختلف الفقهاء في حق الزوج في منع زوجته من الذهاب إلى المسجد، وفي الأولوية بين صلاتها في بيتها أوفي المسجد على الأقوال التالية:

القول الأول: أن له منعها من الخروج إلى المساجد، وهو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد وقول الإمامية مع كراهة فعل الزوج لذلك، وخلاصة آراء الشافعية في المسألة كما ذكرها النووي هي:

1. أن جماعة النساء في البيوت أفضل من حضورهن المساجد، استدلالا بأدلة القول الثاني.

2. إن أرادت المرأة حضور المسجد للصلاة، فإن كانت شابة أو كبيرة تشتهى كره لها وكره لزوجها ووليها تمكينها منه، وإن كانت عجوزا لا تشتهى لم يكره، وهو وجه جمعهم بين أحاديث الباب، قال النووي: (وقد جاءت أحاديث صحيحة تقتضي هذا التفصيل) (1)

3. يستحب للزوج أن يأذن لها إذا استأذنته إلى المسجد للصلاة إذا كانت عجوزا لا تشتهى وأمن المفسدة عليها وعلى غيرها للأحاديث المذكورة، فإن منعها لم يحرم عليه، قال النووي: (هذا مذهبنا، ونقل عن البيهقي قوله: وبه قال عامة العلماء) (2)

ومن الأدلة على ذلك (3):

1. عن ابن عمر قال: رأيت امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على

2.

__________

(1) المجموع:4/ 94.

(2) المجموع:4/ 94.

(3) المهذب:2/ 66، الوسيط:2/ 66، المجموع:4/ 94.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (261)

3. زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنها الله وملائكة الرحمة وملائكة الغضب حتى تبوب أو ترجع، قالت: يا رسول الله وإن كان لها ظالما قال: وإن كان لها ظالما (1).

4. أن النهي عن منع النساء من المساجد فيه منع خروج المرأة إلا بإذن الزوج لتوجه الأمر إلى الزوج بالإذن، أو أنه نهي تنزيه لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب فلا تتركه للفضيلة (2).

5. عن عائشة، قالت: (لو رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المسجد كما منعت نساء بنى إسرائيل) (3)

6. أن حق الزوج واجب فلا يجوز تركه بما ليس بواجب.

القول الثاني: أنه ليس للزوج منع زوجته من الذهاب إلى المساجد، مع كون صلاتهن في بيوتهن أفضل، وهو قول أبي حنيفة ومالك، وغيرهم، وقد نقل ابن البر أقوال الفقهاء الذين كرهوا صلاتها خارج بيتها، وهي كما يلي (4):

1. قال مالك: لا يمنع النساء الخروج إلى المساجد، فإذا جاء الاستسقاء والعيد، فلا أرى بأسا أن تخرج كل امرأة متجالة هذه رواية ابن القاسم عنه.

2.

3.

__________

(1) استدل به الشيرازي في المهذب:2/ 66، وقد رواه البزار، وفيه حسين بن قيس المعروف بحنش وهو ضعيف وقد وثقه حصين بن نمير وبقية رجاله ثقات، انظرك مجمع الزوائد:4/ 307.

(2) ذكره النووي [المجموع:4/ 94]، ونازعه ابن دقيق العيد بأنه إذا أخذ من المفهوم فهو مفهوم لقب، وهو ضعيف وقواه المناوي بأن منع الرجال نساءهم أمر مقرر معروف، انظر: فيض القدير:1/ 71.

(3) البخاري:1/ 296، مسلم: 1/ 329، الترمذي: 2/ 420، أحمد: 6/ 235، مسند إسحق بن راهويه: 2/ 426.

(4) التمهيد: 23/ 402، وانظر: مواهب الجليل:4/ 186.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (262)

4. وروى عنه أشهب قال: تخرج المرأة المتجالة إلى المسجد، ولا تكثر التردد وتخرج الشابة مرة بعد مرة، وكذلك في الجنائز يختلف في ذلك أمر العجوز والشابة في جنائز أهلها وأقاربها.

5. قال الثوري: ليس للمرأة خير من بيتها وإن كانت عجوزا، أكره اليوم للنساء الخروج إلى العيدين.

6. قال عبد الله: المرأة عورة وأقرب ما تكون إلى الله في قعر بيتها، فإذا خرجت استشرفها الشيطان.

7. قال ابن المبارك: أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطهارها، ولا تتزين، فإن أبت أن تخرج كذلك فللزوج أن يمنعها من ذلك.

8. ذكر محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: كان النساء يرخص لهن في الخروج إلى العيد، فأما اليوم فإني أكرهه قال: وأكره لهن شهود الجمعة والصلاة المكتوبة في الجماعة وأرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر ذلك فلا.

9. روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: خروج النساء في العيدين حسن ولم يكن يرى خروجهن في شيء من الصلوات ما خلا العيدين.

10. قال أبو يوسف: لا بأس أن تخرج العجوز في الصلوات كلها وأكره ذلك للشابة.

ومن الأدلة التي استدلوا بها لذلك زيادة على ما ذكر في الدليل الأول:

1. عن عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني أحب الصلاة معك فقال قد علمت انك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي (فأمرت فبني لها مسجد في أقصى شيء من بيتها وأظلمه

2.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (263)

3. فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل (1).

4. عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها (2) أفضل من صلاتها في بيتها (3)

القول الثالث: إنه لا يجوز له منعها من صلاة الجماعة، وأن صلاتها في الجماعة أفضل من صلاتها منفردة، وهو قول ابن حزم، قال: (ولا يحل لولي المرأة، ولا لسيد الأمة منعهما من حضور الصلاة في جماعة في المسجد، إذا عرف أنهن يردن الصلاة ولا يحل لهن أن يخرجن متطيبات، ولا في ثياب حسان، فإن فعلت فليمنعها، وصلاتهن في الجماعة أفضل من صلاتهن منفردات (4)، ويمكن حصر أدلة هذا القول كما نص عليها ابن حزم في الدليلين التاليين:

الدليل الأول: الإجابة على ما أورده المخالفون: لعل أصح دليل استدل به المخالفون في حق الزوج في منع زوجته من الخروج إلى المسجد هو قول عائشة، السابق ذكره، وقد أجاب عنه ابن حزم بالوجوه التالية:

الوجه الأول: أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يدرك ما أحدثن، فلم يمنعهن، فإذ لم يمنعهن فمنعهن بدعة وخطأ وهو كما قال تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (الأحزاب:30) فما أتين قط بفاحشة ولا ضوعف لهن العذاب، وكقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} (الأعراف:96) فلم يؤمنوا، فلم يفتح عليهم، ولا يصح بالاحتجاج بقول قائل:

__________

(1) ابن حبان: 5/ 595، ابن خزيمة: 3/ 95، أحمد: 6/ 371، مسند الروياني:2/ 233.

(2) مخدعها بضم الميم وتفتح وتكسر مع فتح الدال في الكل، وهو البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير يحفظ فيه الأمتعة النفيسة، من الخدع وهو إخفاء الشيء أي في خزانتها، عون المعبود:2/ 195.

(3) ابن خزيمة: 3/ 95، الحاكم:1/ 328، البيهقي: 3/ 131، ابو داود:1/ 156.

(4) المحلى:2/ 170.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (264)

لو كان كذا: لكان كذا على إيجاب ما لم يكن.

الوجه الثاني: أن الله تعالى قد علم ما يحدث النساء، ومع ذلك لم يوح إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمنعهن من أجل ما استحدثنه، ولا أوحى تعالى إليه: أخبر الناس إذا أحدث النساء فامنعوهن من المساجد.

الوجه الثالث: هو أننا ما ندري ما أحدث النساء، مما لم يحدثن في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا شيء أعظم في إحداثهن من الزنى، فقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجم فيه وجلد، فما منع النساء من أجل ذلك قط، وتحريم الزنى على الرجال كتحريمه على النساء ولا فرق، فما الذي جعل الزنى سببا يمنعهن من المساجد؟ ولم يجعله سببا إلى منع الرجال من المساجد؟

الوجه الرابع: أن الإحداث إنما هو لبعض النساء بلا شك دون بعض، ومن المحال منع الخير عمن لم يحدث من أجل من أحدث، إلا أن يأتي بذلك نص من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع له ويطاع، وقد قال تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام:164)

الوجه الخامس: هو أنه إن كان الإحداث سببا لمنعهن من المسجد، فالأولى أن يكون سببا لمنعهن من السوق، ومن كل طريق بلا شك، فلم خص هؤلاء القوم منعهن من المسجد من أجل إحداثهن، دون منعهن من سائر الطرق؟ بل قد أباح لها أبو حنيفة السفر وحدها، والمسير في الفيافي والفلوات مسافة يومين ونصف، ولم يكره لها ذلك.

الوجه السادس: أن عائشةلم تر منعهن من أجل ذلك، ولا قالت: امنعوهن لما أحدثن، بل أخبرت أنه صلى الله عليه وآله وسلم لو عاش لمنعهن، ونحن نقول: لو منعهن صلى الله عليه وآله وسلم لمنعناهن، فإذ لم يمنعهن فلا نمنعهن.

الدليل الثاني: الأدلة المثبتة: وهي كثيرة جدا سواء من الأدلة النقلية أو العقلية، نذكر منها هنا ما يلي:

1. الإجماع على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنع النساء قط من الصلاة معه في مسجده إلى أن مات صلى الله عليه وآله وسلم، ولو كانت صلاتهن في بيوتهن أفضل لما تركهن صلى الله عليه وآله وسلم يتكلفن الذهاب إلى المساجد بلا منفعة،

2.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (265)

3. بل بمضرة، وذلك يخالف نصحه صلى الله عليه وآله وسلم بل هو أنصح الخلق لأمته، ولو كان ذلك لما افترض صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يمنعهن، ولما أمرهن بالخروج تفلات، وأقل هذا أن يكون أمر ندب وحض.

4. عن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها)، فقال له بلال ابنه: والله لنمنعهن، فأقبل عليه عبد الله بن عمر فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط، قال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: والله لنمنعهن؟) (1)

5. عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تمنعوا النساء من الخروج بالليل إلى المساجد)

6. عن عائشة، قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس) (2)

7. عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مسجدها أفضل من صلاتها في بيتها (3)، قال ابن حزم: يريد بلا شك مسجد محلتها، لا يجوز غير ذلك، لأنه لو أراد صلى الله عليه وآله وسلم مسجد بيتها لكان قائلا: صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في بيتها، وحاشا له صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول المحال.

8. أنه لو قلنا: إن خروجهن إلى المسجد والمصلى عمل زائد على الصلاة لم يخل ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن تكون صلاتها في المسجد والمصلى مساوية لصلاتها في بيتها، فيكون سعيها كله لغوا وباطلا، وتكلفا وعناء، ولا يمكن غير ذلك أصلا، وهم لا يقولون بهذا، أو تكون صلاتها في المساجد والمصلى منحطة الفضل عن صلاتها في بيتها كما يقول

9.

__________

(1) مسلم:1/ 327.

(2) البخاري: 1/ 296،مسلم: 1/ 446، ابن حبان: 4/ 365، الترمذي:1/ 288، البيهقي:1/ 454، مسند الشافعي: 1/ 29، أبو داود: 1/ 115، النسائي:1/ 478، أحمد: 6/ 178.

(3) ذكره ابن حزم في المحلى:3/ 137.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (266)

10. المخالفون، فيكون العمل المذكور كله إثما حاطا من الفضل، ولا بد، إذ لا يحط من الفضل في صلاة ما عن تلك الصلاة بعينها عمل زائد إلا، وهو محرم، ولا يمكن غير هذا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة، والأوفق بمقاصد الشريعة، الجمع بين هذه الأقوال جميعا، فلكل قول منها حاله الخاص، لأن الضرر قد يحدث بالتزام قول واحد منها.

فالاقتصار مثلا على القولين الأولين، ومنع المرأة من الذهاب إلى المسجد بالإلزام أو بالقول بكراهة خروجها، يلزم عنه ما نحن فيه من تقصير كثير من النساء في أمور الدين نتيجة بعدهن عن البيئة الصحيحة التي تربي وتنشئ المعاني الدينية في نفس المسلمة، ثم إن منعهن من المساجد فرصة لأرباب المنتديات المختلفة لجذبهن إليها مع ما تبثه تلك المنتديات من أفكار قد تكون شديدة البعد عن الأحكام الشرعية، ثم إن فيها مخالفة صريحة لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن منع النساء من الخروج للمساجد، وقد جمع الشوكاني الأحاديث الواردة في المسألة وقال: (وقد حصل من الأحاديث المذكورة في هذا الباب أن الإذن للنساء من الرجال إلى المساجد إذا لم يكن في خروجهن ما يدعو إلى الفتنة من طيب أو حلي أو أي زينة واجب على الرجال (1)

والاقتصار على قول ابن حزم، أو تطبيقه تطبيقا سيئا، فتخرج المرأة كل صلاة من الصلوات الخمس، قد ينتج عنه تقصير في البيوت وكثرة اختلاط في الشوارع، وهو ما قد يتسبب في فتن لم يقصدها الشرع.

فلذلك كان الوسط هو الجمع بين هذه الأقوال، وهو أن لا تمنع المرأة منعا كليا، وأن لا تترك للخروج متى شاءت تركا كليا، والأولى في خروجها للمسجد أن لا يكون للصلاة وحدها ترجيحا لما ورد في فضل صلاتها في بيتها، وإنما تجمع معها الاستماع لدروس العلم.

__________

(1) نيل الأوطار:3/ 162.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (267)

ولذلك يستحب إحياء للسنة أن يخصص يوم أو أكثر في الأسبوع لتدريس النساء في المساجد، فيحضرن لشهود الصلاة ولاستماع العلم، سواء كان من الإمام، أو من امرأة منهن، فعن أبي سعيد الخدري قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن، فكان فيما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار) فقالت امرأة واثنتين فقال: واثنتين) (1)

أما التفريق بين المتجالة والشابة وغيرها، سدا لأبواب الفتن، فإن الضوابط التي سنذكرها تسد الفتن دون الحاجة للتفريق بينهن في ذلك، ثم إن الحاجة التربوية للمسجد تدعو إلى الاهتمام بكل منهما، بل بالشابة خصوصا، لأن أرباب الفتن يسرعون إليها، فأيهما أولى: أن تربى في أحضان المسجد، أو أن يتولى تربيتها من لا يعرفون المساجد.

قال الشوكاني: (وفرق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها وفيه نظر لأنها إذا عرت مما ذكر وكانت متسترة حصل الأمن عليها ولا سيما إذا كان ذلك بالليل) (2)، ثم إن مثل هذه الأقوال نشأ عنها ما هو أخطر من الفتن التي أرادوا سدها، فقد ساد الاعتقاد الآن بأن الدين خاص بالشيوخ والعجائز، وأن المرأة ما دامت شابة صغيرة لا ينبغي أن تدفن نفسها في أي مظهر من مظاهر التدين.

ضوابط خروج المرأة للمسجد

اتفق الفقهاء على أن خروج المرأة للمسجد ينبغي أن يكون مضبوطا بالضوابط الشرعية التي تسد باب الفتنة، ومن هذه الضوابط:

اجتناب الطيب: وهذا الشرط مذكور في الحديث، ففي بعض الروايات (وليخرجن

__________

(1) البخاري:1/ 50.

(2) نيل الأوطار:3/ 161.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (268)

تفلات) (1) وفي بعضها (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا) (2) وفي بعضها (إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة) (3) ويلحق بالطيب ما في معناه، لأن الطيب إنما منع منه لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، وربما يكون سببا لتحريك شهوة المرأة أيضا، فما أوجب هذا المعنى التحق به (4).

عدم مزاحمة الرجال: ولهذا يستحب أن يكون لهن بابهن الخاص فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو تركنا هذا الباب للنساء؟ فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات (5)، قال صاحب عون المعبود: فيه دليل أن النساء لا يختلطن في المساجد مع الرجال، بل يعتزلن في جانب المسجد ويصلين هناك بالاقتداء مع إمام، فكان عبد الله بن عمر أشد اتباعا للسنة، فلم يدخل من الباب الذي جعل للنساء حتى مات (6).

توفر الأمن: فإن خشيت على نفسها، فإنه لا يجوز خروجها، ويجب منعها، ولذلك نرى في كثير من المجتمعات المسلمة الآن وجوب منعهن من صلاة الصبح خصوصا لعدم الأمن.

وقد جمع النووي هذه الشروط بقوله: (لا تمنع من المسجد لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث وهي أن لا تكون متطيبة ولا متزينة ذات خلاخل يسمع صوتها ولا

__________

(1) سبق تخريجها، قال المجلسي: (وهذا الخبر وإن كان عاميا لكن ورد المنع من تطيبهن وتزينهن عند الخروج مطلقا)، وقد روى الإمامية في هذا قوله (:: (أيما رجل تتزين امرأته وتخرج من باب دارها فهو ديوث ولا يأثم من يسميه ديوثا، والمرأة إذا خرجت من باب دارها متزينة متعطرة والزوج بذلك راض يبنى لزوجها بكل قدم بيت في النار) (بحار الأنوار: ج 100 ص 249)

(2) مسلم:1/ 328، النسائي:8/ 155، ابن خزيمة:3/ 91.

(3) مسلم:1/ 328.

(4) إحكام الأحكام:1/ 197.

(5) أبو داود: 1/ 126.

(6) عون المعبود:2/ 92.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (269)

ثيابا فاخرة ولا مختلطة بالرجال ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها وأن لا يكون بالطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها) (1)

ويستحب في حال عدم توفر الضوابط صلاة النساء جماعة في البيوت، ولذلك صورتان:

صلاة الرجل بأهل بيته

وسنرى النصوص الدالة على هذا ودورها في إشاعة المودة في البيت المسلم بين الزوج وزوجه عند الحديث عن حق المرأة في العشرة الحسنة.

صلاة النساء فيما بينهن

وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين (2):

القول الأول: يسن لهن الجماعة منفردات عن الرجال، سواء أمهن رجل أم امرأة، وهو قول الإمامية والشافعية والحنابلة، قال أبو حامد: كل صلاة استحب للرجال الجماعة فيها استحب الجماعة فيها للنساء فريضة كانت أو نافلة، وحكاه ابن المنذر عن عائشة وأم سلمة وعطاء والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور.

وروى الإمامية في هذا عن أبي عبدالله ع: إنه سئل عن المرأة تؤم النساء؟ قال: (نعم تقوم وسطا بينهن ولاتتقدمهن) (3)

__________

(1) شرح النووي على مسلم:4/ 161، وانظر: الفتاوى الفقهية الكبرى:1/ 200.

(2) وقد ذهب أبو ثور والطبري إلى جواز إمامتها على الإطلاق للرجال والنساء، وقد رد على ذلك ابن رشد مبينا علة الجمهور بقوله:) وإنما اتفق الجمهور على منعها أن تؤم الرجال، لأنه لو كان جائزا لنقل ذلك عن الصدر الأول، ولأنه أيضا لما كانت سنتهن في الصلاة التأخير عن الرجال علم أنه ليس يجوز لهن التقدم عليهم، لقوله (:) أخروهن حيث أخرهن الله (ولذلك أجاز بعضهم إمامتها النساء إذ كن متساويات في المرتبة في الصلاة مع أنه أيضا نقل ذلك عن بعض الصدر الأول، انظر: بداية المجتهد:1/ 105.

(3) مدارك الاحكام (4/ 326)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (270)

القول الثاني: لا تؤم المرأة أحدا في فرض، ولا نفل، لأن من شروط الإمام أن يكون ذكرا فلا تصح إمامة المرأة لرجال، ولا لنساء مثلها، وهو قول سليمان بن يسار والحسن البصري ومالك، وقال أصحاب الرأي: يكره ويجزيهن، وقال الشعبي والنخعي وقتادة: تؤمهن في النفل دون الفرض (1).

الترجح:

ليس هذا موضع مناقشة هذه المسألة، ولكن المصلحة الشرعية للبيت المسلم تقتضي الأخذ بقول الإمامية والشافعية والحنابلة، فمن أهم المصالح المحافظة على الصلوات، وإشاعة الألفة في البيت، وهي من المقاصد الشرعية الكبرى، ثم إن النصوص الصحيحة وغيرها تدل على صحة هذا القول، فعن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنا كان يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها (2)، وعن ريطة الحنفية قالت: (أمتنا عائشة فقامت بينهن في الصلاة المكتوبة) (3) وعن حجيرة قالت: (أمتنا أم سلمة في صلاة العصر فقامت بيننا) (4)، ثم إن النصوص العامة الدالة على فضل صلاة الجماعة، وهي لا تخص ذكرا دون أنثى، تدل على ذلك.

ولهذا اعتبر ابن القيم هذا من رد السنة الصحيحة المحكمة في استحباب صلاة النساء جماعة لا منفردات بأخبار لا علاقة لها بهذا، قال ابن القيم: (فردت هذه السنن بالمتشابه من قوله

__________

(1) انظر: المجموع:4/ 94.

(2) أبو داود:1/ 161.

(3) قال الزيلعي: رواه الدارقطني والبيهقي في سننهما، قال النووي: سنده صحيح، انظر: نصب الراية:2/ 31، الدارقطني:1/ 404.

(4) رواه الدارقطني في سننه قال النووي سنده صحيح، نصب الراية:2/ 31، تلخيص الحبير:2/ 42، الدارقطني:1/ 405.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (271)

صلى الله عليه وآله وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) (1) وهذا إنما ورد في الولاية والإمامة العظمى والقضاء، وأما الرواية والشهادة والفتيا والإمامة فلا تدخل في هذا، ومن العجب أن من خالف هذه السنة جوز للمرأة أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين، فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم ولم يفلح أخواتها من النساء إذا أمتهن (2

الحج تطوعا

اتفق الفقهاء على أن للزوج منع زوجته من الخروج إلى حج التطوع والإحرام به، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ قوله من أهل العلم، على أن للرجل منع زوجته من الخروج إلى حج التطوع (3)، ومن الأدلة على ذلك أنه تطوع يفوت حق زوجها، فكان لزوجها منعها منه، كالاعتكاف.

أما إن أذن لها فيه، فله الرجوع ما لم تتلبس بإحرامه، فإن تلبست بالإحرام، أو أذن لها، لم يكن له الرجوع فيه، ولا تحليلها منه، لأنه يلزم بالشروع، فصار كالواجب الأصلي. فإن رجع قبل إحرامها، ثم أحرمت به، فهو كمن لم يأذن.

وقد اختلف الفقهاء في حق الزوج في منع زوجته إن أحرمت بتطوع بدون إذنه على قولين:

القول الأول: أن له تحليلها ومنعها منه، وهو قول الجمهور والإمامية، ومن الأدلة على ذلك:

1. أنه تطوع يفوت حق غيرها منها، أحرمت به بغير إذنه، فملك تحليلها منه، كالمدينة تحرم بغير إذن غريمها على وجه يمنعه إيفاء دينه الحال عليها.

2.

3.

__________

(1) البخاري:4/ 1610، الحاكم: 3/ 128، الترمذي:4/ 527، البيهقي:3/ 90، النسائي: 3/ 465.

(2) إعلام الموقعين:2/ 271.

(3) المغني:3/ 283.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (272)

4. أن العدة تمنع المضي في الإحرام لحق الله تعالى، فحق الآدمي أولى، لأن حقه أضيق، لشحه وحاجته، وكرم الله تعالى وغناه.

القول الثاني: ليس له تحليلها، وهو قول القاضي، وحكي عن أحمد، في امرأة تحلف بالصوم أو بالحج، ولها زوج: لها أن تصوم بغير إذن زوجها، ما تصنع، قد ابتليت وابتلي زوجها، واستدلوا على ذلك بأن الحج يلزم بالشروع فيه، فلا يملك الزوج تحليلها، كالحج المنذور.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة النظر إلى السبب الداعي للتحليل، فإن كان سببا شرعيا كافيا، فله منعها وتحليلها، أما إن كان فورة غضب لمخالفته، فالأرجح عدم حقه في المنع، لأن إباحة مثل هذا التصرف للزوج مع التكاليف والمشقة الحاصلة للزوجة بعد الإحرام، تؤثر تأثيرا كبيرا في العشرة الزوجية، فكيف ترجع المرأة لزوجها بعد أن أنفقت مالها، وقد يكون مالا كثيرا لأجل سواد عيون غضب زوجها.

أما الزوجة، فلا يحل لها أن تتصرف مثل هذا التصرف دون إذن زوجها إلا إن كان غائبا غيبة لا يمكن تبليغه، أو كان هناك مانع شرعي يمنعها من إبلاغه.

صوم التطوع

اتفق الفقهاء على أنه ليس للزوجة أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، وللزوج أن يفطرها إذا صامت بغير إذنه، وذلك لأن له حق الاستمتاع بها ولا يمكنه ذلك في حال الصوم، أما إن كان صيامها لا يضره بأن كان صائما أو مريضا لا يقدر على الجماع فليس له أن يمنعها (1)، قال مالك في المرأة تصوم من غير أن تستأذن زوجها: (ذلك يختلف من الرجال من يحتاج إلى أهله،

__________

(1) حمل بعض الشافعية النهي على الكراهة، قال النووي: (ولو صامت بغير إذن زوجها صح باتفاق أصحابنا، وإن كان الصوم حراما ; لأن تحريمه لمعنى آخر لا لمعنى يعود إلى نفس الصوم، فهو كالصلاة في دار مغصوبة) المجموع: 6/ 445.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (273)

وتعلم المرأة أن ذلك شأنه فلا أحب لها أن تصوم إلا أن تستأذنه، ومنهن من تعلم أنه لا حاجة له فيها فلا بأس بأن تصوم) (1)، ومن الأدلة على ذلك:

1. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه) (2)

2. عن أبي سعيد أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن عنده فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال وصفوان عنده، فسأله عما قالت، فقال: يا رسول الله، أما قولها يضربني إذا صليت فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لو كانت سورة واحدة لكفت الناس، وأما قولها يفطرني، فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يومئذ لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها، قال صفوان: وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: فإذا استيقظت فصل (3).

3. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة عن غير أمره فإنه يؤدى إليه شطره) (4)

صوم الواجب غير المعين

اتفق الفقهاء كما ذكرنا سابقا على أنه لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته صوم رمضان، ومثله ما لو فات الأداء بعذر وضاق وقت القضاء بأن لم يبق من شعبان إلا قدر القضاء فهو كأداء رمضان،

__________

(1) المدونة: 1/ 279.

(2) البخاري:5/ 1993، ابن حبان:8/ 339/ البيهقي:4/ 192، أبو داود:2/ 330.

(3) ابن حبان: 4/ 354، الحاكم: 1/ 602، البيهقي: 4/ 303، ابو داود: 2/ 330، أحمد: 3/ 80، أبو يعلى: 2/ 398.

(4) البخاري:5/ 1994، النسائي: 2/ 175.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (274)

ونصوا على أنها لو نذرت المرأة صوم الدهر فللزوج منعها فإن منعها، فلا قضاء ولا فدية، لأنها معذورة، وإن أذن لها أو مات لزمها الصوم، فإن أفطرت بلا عذر أثمت ولزمتها الفدية، واختلفوا في منعها من تعجيل القضاء إن كان الوقت واسعا عل قولين (1):

القول الأول: إن له منعها من المبادرة إليه كصوم التطوع، وهو قول الجمهور، وفي جواز إلزامها الإفطار إذا شرعت فيه وجهان مخرجان من القولين في التحليل من الحج، وفي سقوط النفقة وجهان أحدها تسقط كالحج والثاني لا لقصر الزمان وقدرته على الاستمتاع ليلا، ومن الأدلة على ذلك أن الحقين لله تعالى ولآدمي، فقدم المضيق، ولهذا ليس للزوج منع زوجته من أداء صوم رمضان ومن قضائه، إذا ضاق الوقت، بخلاف ما إذا اتسع الوقت (2).

القول الثاني: ليس له منعها منه، لأنه ليس تطوعا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني إلا إذا كانت له حاجة تدعوه إلى عدم الإذن لها بالتعجيل، وقد قال ابن شد فيما جبر الزوج لزوجته على تأخير القضاء إلى شعبان: (الظاهر عندي أنه ليس له ذلك إلا باختيارها، لأن لها حقا في إبراء ذمتها من الفرض الذي لزمها وأما التنفل فإن له منعها لحاجته إليها) (3)

__________

(1) روضة الطالبين: 9/ 62.

(2) القواعد لابن رجب:1/ 343.

(3) نقلا عن: المنتقى: 2/ 72.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (275)

الفصل الثاني

الحقوق الاجتماعية للزوجة

نقصد بالحقوق الاجتماعية في هذا المبحث حق الزوجة في صلة رحمها وصلتهم لها، وإقامة العلاقات الاجتماعية مع أفراد المجتمع، وقد ورد في النصوص الشرعية الحث على إقامة مثل هذه العلاقات، فقد ورد في الحديث عن إقامة العلاقة مع الجارات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن (1) شاة (2) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أخرى: (يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها ولو كراع شاة محرقا)

ومعنى الحديثين نهيه صلى الله عليه وآله وسلم أن تحتقر المسلمة أن تهدى إلى جارتها شيئا، ولو أنها تهدي لها ما لا ينتفع به في الغالب، ويحتمل أن يكون من باب النهي عن الشيء أمر بضده، وهو كناية عن التحابب والتوادد، فكأنه قال: لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، قال ابن حجر: (وخص النهي بالنساء لأنهن موارد المودة والبغضاء، ولأنهن أسرع انفعالا في كل منهما) (3)

والحديث كما قال الشراح يحتمل أن يكون النهي للمعطية ويحتمل أن يكون للمهدي إليها، بل ويحتمل أن يكون لكليهما، فتنهى المعطية عن عدم الإهداء على سبيل التواد، وتنهى المعطى إليها عن القبول من باب التكبر واستصغار العطية.

والخلاصة أن الحديثين يدلان على فضل إقامة مثل هذه العلاقة، ولو بإهداء أشياء رمزية.

__________

(1) حافر الشاة..

(2) البخاري: 2/ 907، مسلم: 2/ 714، البيهقي:4/ 177، أحمد: 2/ 264.

(3) فتح الباري: 10/ 445.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (276)

وقد ورد ما يرغب في صلة الزوج أهل زوجته على سبيل التودد، فقد قال قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة نكحت على صداق أو حياء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها، فما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه، وأحق ما أكرم به الرجل ابنته أو أخته) (1)، قال الشوكاني تعليقا على الحديث: (فيه دليل على مشروعية صلة أقارب الزوجة وإكرامهم والإحسان إليهم، وأن ذلك حلال لهم، وليس من قبيل الرسوم المحرمة إلا أن يمتنعوا من التزويج إلا به) (2)

ودلت الأحاديث كذلك على أن للزوج أن يرعى أهل مودة زوجته، ولو كانت ميتة، فكيف بما لو كانت حية، فقد روت عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عندي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية فقال: بل أنت حسانة المزنية، كيف كنتم؟ كيف حالكم؟ كيف أنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال فقال: (إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان) (3)، ففي هذا الحديث احترام منه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيم لمن كانت تزور زوجته صلى الله عليه وآله وسلم، وهو دليل على أن من حسن العشرة بالزوجة احترام علاقاتها.

أولا ـ علاقة الزوجة بأهلهأ

اختلف الفقهاء في بعض المسائل نتيجة تعارض الحقوق الشرعية، ويمكن تلخيص ما قاله الفقهاء في هذا الحق في المسائل التالية:

__________

(1) البيهقي:7/ 248، أبو داود: 2/ 241، النسائي: 3/ 322، ابن ماجة: 1/ 628، أحمد: 2/ 182، قال الشوكاني: الحديث سكت عنه أبو داود وأشار المنذري إلى أنه من رواية عمرو بن شعيب وفيه مقال معروف قد تقدم بيانه في أوائل هذا الشرح ومن دون عمرو بن شعيب ثقات، نيل الأوطار: 6/ 320.

(2) نيل الأوطار:6/ 320.

(3) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين على الاحتجاج برواته في أحاديث كثيرة وليس له علة، الحاكم:1/ 62، أحمد: 1/ 134، المعجم الكبير:23/ 14، شعب الإيمان:6/ 517.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (277)

1 ـ حق والديها في الطاعة

اتفق الفقهاء على وجوب طاعة الزوجة والديها في المعروف، وذلك لا يختلف عن حالها قبل الزواج، أما إذا كان في غير المعروف، أو تعارض أمر الزوج بأمر والديها، فقد اتفق الفقهاء على أن المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب، قال ابن تيمية: (فالمرأة عند زوجها تشبه الرقيق والأسير، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه سواء أمرها أبوها أو أمها أو غير أبويها باتفاق الأئمة. وإذا أراد الرجل أن ينتقل بها إلى مكان آخر، مع قيامه بما يجب عليه، وحفظ حدود الله فيها، ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها، فإن الأبوين هما ظالمان، ليس لهما أن ينهياها عن طاعة مثل هذا الزوج، وليس لها أن تطيع أمها فيما تأمرها به من الاختلاع منه أو مضاجرته حتى يطلقها، مثل أن تطالبه من النفقة والكسوة والصداق بما تطلبه ليطلقها، فلا يحل لها أن تطيع واحدا من أبويها في طلاقه إذا كان متقيا لله فيها) (1)

وقد استدل الفقهاء على ذلك بما يلي:

1. قال الله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء:34)، قال ابن عباس وغيره: يعني مطيعات لأزواجهن (2).

2. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) (3).

3.

4.

__________

(1) الفتاوى الكبرى: 3/ 147.

(2) تفسير ابن كثير:1/ 492.

(3) مجمع الزوائد: 4/ 305، المعجم الأوسط:5/ 34، أحمد: 1/ 191، قال الهيثمي: وفيه رواد بن الجراح وثقه أحمد وجمع وضعفه آخرون وقال ابن معين وهم في هذا الحديث وبقية رجاله رجال الصحيح، انظر: فيض القدير:1/ 392.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (278)

5. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة) (1)

6. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عندكم عوان) (2)

لكن يرى فريق آخر من الفقهاء، وخصوصا الإمامية، أن ذلك في حال تعارض خروجها مع مصالح زوجها، أما فيما عدا ذلك، فلها الخروج من غير إذن الزوج، يقول السيد الخوئي: (الروايات الكثيرة الدالة على عدم جواز خروجها عن البيت بدون إذن الزوج فيما إذا كان منافياً لحقه، دون غير المنافي كالخروج اليسير، ولا سيما نهاراً لملاقاة أبيها أو أمها، أو لزيارة الحرم الشريف، ونحو ذلك، فإن المستفاد من تلك الأدلة بمقتضى الفهم العرفي أن المحرم ليس هو الخروج بالمعنى المصدري المتحقق آناً ما؛ أعني فتح الباب ووضع القدم خارج الدار، بل الحرام هو الكون خارج البيت والبقاء في غير هذا المكان، فالمنهي عنه هو المكث خارج الدار عند كونه منافياً لحق الزوج الذي هو القدر المتيقن من الأدلة) (3)

ويقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين: (ليس في آيات الكتاب العزيز ما يمكن أن يكون دليلاً في مسألة وجوب الاستئذان على الزوجة، وسلطة المنع للزوج بشكل مطلق، والمرجع الذي اعتمده الفقهاء في المسألة هو روايات السنة الواردة فيها، وأغلبها غير صحيحة السند، وما صح سنده غير ثابت الدلالة على ذلك، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما تؤكد عليه الآيات القرآنية في العلاقة بين الزوجين، وأنها تخضع لمعيار المعاشرة بالمعروف.. فلا يقتضي حق المساكنة أن يتحول بيت الزوجية إلى سجن للمرأة، لا يشرع لها الخروج منه إلا بإدارة الزوج، فإن الروايات التي ورد فيها النهي عن الخروج إلا بإذن الزوج ليست مطلقة إلى جميع

__________

(1) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، الحاكم: 4/ 191، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، الترمذي: 3/ 466،وانظر: ابن ماجة: 1/ 595، المعجم الكبير:23/ 374، شعب الإيمان:6/ 421.

(2) سبق تخريجه.

(3) مستند العروة الوثقى، ج 2، ص 361.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (279)

الأحوال والحالات، كما أنها لا تدل على أكثر من وجوب الاستئذان عليها، ولكن لا دلالة فيها على أن له حقاً في عدم الإذن. لأن ذلك ينافي المعروف، فالمعاشرة والإمساك في حالة منعها من الخروج في الحالات العرفية السائغة، ليست معاشرة وإمساكاً بالمعروف، ولا وجه للإشكال هنا بأنه إذا كان عليه أن يأذن لها بالخروج، فأمرها بالإستئذان، ونهيها عن الخروج بدون استئذان يكون لغواً. وذلك لأن المقصود هو المحافظة على الاحترام والاعتبار العرفي للزوج، وللاستفادة من رأيه، في تشخيص موارد الخروج الراجحة والمرجوحة والمحرمة، من حيث الوقت والمكان والهيئة والغاية، فالاستئذان في الحقيقة أقرب إلى طلب المشورة والنصيحة) (1)

2 ـ حق الوالدين في الإحسان

نص الفقهاء على أن حق الوالدين في الإحسان والصلة لا يختلف عن حقهما قبل الزواج مع مراعاة التغيرات والظروف الجديدة التي تعيشها الزوجة، وأبلغ من بالغ من الفقهاء في مراعاة هذا الحق ابن حزم، فقد ذهب خلافا للجمهور إلى أن حق والديها مقدم على حق زوجها، قال ابن حزم: (إن كان الأب، والأم محتاجين إلى خدمة الابن أو الابنة - الناكح أو غير الناكح - لم يجز للابن ولا للابنة الرحيل، ولا تضييع الأبوين أصلا، وحقهما أوجب من حق الزوج والزوجة - فإن لم يكن بالأب والأم ضرورة إلى ذلك فللزوج إرحال امرأته حيث شاء مما لا ضرر عليهما فيه) (2)

وسنذكر هنا بعض ما استند إليه من أدلة، وما رد به على آراء المخالفين:

أولا ـ الأدلة المثبتة:

1. قول الله تعالى: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير} (لقمان:14)، فقد قرن تعالى الشكر لهما بالشكر له تعالى.

2.

3.

__________

(1) حقوق الزوجية، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، بتصرف: من صفحة 80 إلى صفحة 91.

(2) البخاري:5/ 2227، مسلم: 4/ 1974، ابن حبان: 2/ 175، أحمد: 2/ 327.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (280)

4. قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان:15)، فافترض الله تعالى أن يصحب الأبوين بالمعروف - وإن كانا كافرين يدعوانه إلى الكفر - ومن ضيعهما فلم يصحبهما في الدنيا معروفا.

5. قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (الإسراء: 23)

6. قول الرجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: أمك ثم أمك ثم أباك) فقد قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هنا الوالدين على غيرهما.

ثانيا ـ الرد على المخالفين: أما ما استدل به المخالفون من أن الزوج أحق بالزوجة من والديها، فقد رد عليه ابن حزم بما يلي:

1. حديث ابن عمر: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حق الرجل على زوجته؟ فقال كلاما منه: أن لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله وملائكة الرحمة وملائكة العذاب حتى ترجع إلى بيتها أو تتوب، قيل: يا رسول الله وإن ظلمها؟ قال: وإن ظلمها) (1)، فإن ليثا ـ راوي الحديث ـ ضعيف، قال ابن حزم: (وحاش لله أن يبيح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظلم، وهي زيادة موضوعة ليست لليث بلا شك) (2)

2. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها تعظيما لحقه) (3) فهو ضعيف بطرقه المختلفة، ولا يصح الاحتجاج به.

3.

4.

__________

(1) ذكره ابن حزم في المحلى بإسناده:10/ 332، قال المناوي: رواه الطيالسي: فيض القدير:3/ 391.

(2) المحلى:1/ 332.

(3) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، الحاكم: 2/ 206، قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه، الترمذي:3/ 465، البيهقي: 7/ 292،النسائي: 5/ 363، ابن حبان: 9/ 479، أحمد: 3/ 158.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (281)

5. عن عائشة قالت: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها قلت: فأي الناس أعظم حقا على الرجل؟ قال: أمه) (1) قال ابن حزم: أبو عتبة مجهول لا يدرى من هو، والقرآن كما أوردنا، والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبطل هذا.

6. عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (حق الزوج على زوجته لو كانت به قرحة فلحستها ما أدت حقه) (2) فيه ربيعة بن عثمان وهو مجهول.

7. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه). قال ابن حزم: هذا حديث حسن، والشكر لكل محسن واجب.

8. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه سئل عن خير النساء؟ فقال: التي تطيع زوجها إذا أمر، وتسره إذا نظر، وتحفظه في نفسها وماله) (3). هذا خبر صحيح، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف) (4).

وما قاله ابن حزم من وجوب إحسان الزوجة لوالديها صحيح تدل عليه النصوص القطعية، ولكن مع مراعاة حق الزوج، فلا نرى تناقضا بين حق أهلها وحق زوجها، فلزوجها عليها حقوق تختلف عن حقوق أهلها عليها، ولكن في حال التعارض لظرف من الظروف يقدم الأولى فالأولى، والأولى أن تحاول الجمع بينها جميعا جمعا بين النصوص.

3 ـ زيارة الزوجة لأهلها ووالديها وزيارتهم لهأ

__________

(1) مجمع الزوائد: 4/ 308، النسائي:5/ 363، أحمد:2/ 207، قال المنذري: رواه البزار والحاكم وإسناد البزار حسن، الترغيب والترهيب:3/ 34.

(2) الحاكم: 2/ 205، مجمع الزوائد: 4/ 307، النسائي: 3/ 283، أحمد: 3/ 158، مصنف ابن أبي شيبة: 3/ 557.

(3) سبق تخريجه.

(4) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (282)

الأصل في مثل هذا، وما تعارف عليه الناس في المجتمع الإسلامي أن يعتبر الصهر كالوالد، فلذلك يتم التواصل والتزاور بينهم كأفراد الأسرة الواحدة، ولكن قد يشذ عن هذا العرف من لا يأذن لزوجته بزيارة أهلها، أو زيارتهم لها، وقد اختلف الفقهاء في هذه الحالة في حق الزوجة في الزيارة دون إذن زوجها على قولين (1):

القول الأول: أن لها الحق في زيارة والديها وأهلها ولو من غير إذن الزوج، وهو قول المالكية وقول للإمامية، وقول الحنفية في القول المفتى به عندهم، وهذا تفصيل أقوالهم في المسألة:

المذهب المالكي: اختلف قول المالكية في المسألة بحسب كون المرأة متجالة أو شابة أو مأمونة كما يلي:

1. اتفقوا على أن المتجالة يقضى لها بزيارة أبيها وأخيها، وليس للرجل أن يمنعها من الخروج لدار أبيها وأخيها ويقضى عليه، واتفقوا على أن الشابة غير المأمونة لا يقضى لها بالخروج بذلك.

2. اختلفوا في الشابة المأمونة، فأجاز معظم المالكية خروجها خلافا لابن حبيب، وإذا منع أخاها من الدخول عليها سئل عن ذلك مالك فقال: ما أرى أن يمنع، وسئل أيضا عن المرأة يغيب عنها زوجها فيمرض أخوها أو أمها أو أختها فتريد أن تأتيهم تعودهم ولم يأذن لها زوجها حين خرج قال: لا بأس بذلك أن تأتيهم وإن لم يأذن لها زوجها حين خرج، وقضي للصغار كل يوم وللكبار في الجمعة.

أما زيارة والديها لها، فيختلف بحسب تأثيرهم في حياة الزوج كما يلي:

__________

(1) الإنصاف للمرداوي:8/ 361، الروض المربع: 3/ 131، إعانة الطالبين:4/ 81، حواشي الشرواني: 7/ 456، مغني المحتاج:3/ 432، حاشية ابن عابدين: 6/ 141، حاشية الدسوقي: 2/ 512، مواهب الجليل: 4/ 186،الموسوعة الفقهية: 24/ 82..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (283)

إن خشي على زوجته منهما، فقد سئل مالك عن الرجل يتهم ختنته بإفساد أهله فيريد أن يمنعها عن الدخول عليها، فقال: ينظر في ذلك فإن كانت متهمة منعت بعض المنع ولا كل ذلك وإن متهمة لم تمنع الدخول على ابنتها (، وإن اشتكى ضرر أبويها فإن كانا صالحين لم يمنعا من زيارتها والدخول عليها وإن كانا مسيئين واتهمهما بإفسادها زاراها في كل جمعة مرة بأمينة تحضر.

أما البنون الصغار الذين ليسوا مع أمهم فإنه يقضى لهم بالدخول على أمهم في كل يوم، وإن كانوا كبارا ففي كل جمعة، وإن حلف بالطلاق أن لا يدخل أولادها عليها أمر الزوج بإخراج أمهم إليهم، فإن حلف على الأمرين أجبره السلطان على دخولهم إليها أو خروجها إليهم ولا يحنث إلا أن يريد بيمينه ولا بالسلطان.

إن حلف أن لا تخرج امرأته إلى أبويها ولا يدخلا عليها حنثه الإمام في دخولهما عليها ولم يحنثه في خروجها.

وقد سئل مالك عن المرأة يغيب عنها زوجها فيمرض أخوها أو أمها أو أختها فتريد أن تأتيهم تعودهم ولم يأذن لها زوجها حين خرج قال لا بأس بذلك أن تأتيهم وإن لم يأذن لها زوجها حين خرج وقضي للصغار كل يوم وللكبار في الجمعة.

مذهب الحنفية: اختلف قول الحنفية في المسألة وقد لخص الخلاف فيها أصحاب الفتاوى الهندية وذكروا القول المفتى به عندهم، وهذا نص قولهم: (إذا أراد الزوج أن يمنع أباها، أو أمها، أو أحدا من أهلها من الدخول عليه في منزله اختلفوا في ذلك قال بعضهم: لا يمنع من الأبوين من الدخول عليها للزيارة في كل جمعة، وإنما يمنعهم من الكينونة عندها، وبه أخذ مشايخنا - رحمهم الله تعالى -، وعليه الفتوى، وقيل: لا يمنعها من الخروج إلى الوالدين في كل جمعة مرة، وعليه الفتوى كذا في غاية السروجي وهل يمنع غير الأبوين عن الزيارة في كل شهر، وقال مشايخ بلخ في كل سنة وعليه الفتوى، وكذا لو أرادت المرأة أن تخرج لزيارة المحارم كالخالة والعمة والأخت فهو على هذه الأقاويل

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (284)

كذا في فتاوى قاضي خان وليس للزوج أن يمنع والديها وولدها من غيره وأهلها من النظر إليها وكلامها في أي وقت اختاروا هكذا في الهداية (1) (

مذهب الحنابلة: ذهب الحنابلة إلى أنه ليس للزوج منع أبويها من زيارتها، لما فيه من قطيعة الرحم، لكن إن عرف بقرائن الحال حدوث ضرر بزيارتهما، أو زيارة أحدهما فله المنع (2).

ومن الأدلة التي استند إليها أصحاب هذا القول الأحاديث الدالة على وجوب صلة الرحم، ومنها قال صلى الله عليه وآله وسلم: (خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال له مه قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى يا رب قال فذاك قال أبو هريرة اقرءوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد:22) (3)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع (، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم (، وعن أسماء بنت أبي بكر ما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت: وهي راغبة أفأصل أمي قال: نعم صلي أمك، فهذه النصوص كلها تفيد الوجوب القطعي زيادة على الأدلة القرآنية في ذلك، ولا يعارض مثل هذه النصوص أي حق للزوج.

القول الثاني: أن للمرأة الخروج من بيت الزوجية لزيارة والديها ومحارمها في غيبة الزوج إن لم ينهها عن الخروج، وجرت العادة بالتسامح بذلك، أما إذا نهاها عن الخروج في غيبته، فليس لها الخروج لزيارة ولا لغيرها، وهو مذهب الشافعية والإمامية وقول للحنفية (4).

الترجيح:

__________

(1) الفتاوى الهندية:1/ 557.

(2) الإنصاف:8/ 361.

(3) البخاري:4/ 1828، الحاكم: 2/ 279.

(4) مجمع الأنهر:1/ 395.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (285)

نرى أن الأرجح في المسألة من حيث النصوص القطعية والمقاصد الشرعية ثبوت هذا الحق للزوجة من غير استئذان زوجها، بشرط الاقتصاد في ذلك حسبما يدل عليه العرف، فلذلك إذا بالغت المرأة في الزيارة ونتج عن ذلك مضرة لزوجها أو لبيتها، فإن له الحق في منعها في هذه الحالة.

أما منعها من غير سبب، بل لمجرد كونه زوجا، فإن حق زوجيته لا يلغي حق رحمها، وخاصة أصولها وفروعها، والزعم بأن أحدهما أحق من الآخر تحكم لا دليل عليه، فلذلك رأينا في المسألة السابقة، أنه لا يصح القول بالتفاضل في الحقوق، بل لكل حق موضعه الخاص به، وللتعارض أحكامه الخاصة المتعلقة بكل حالة فلا يصح التعميم في مثل هذا.

ولذلك فإن من قدم الحق للزوج في المنع من الإذن عمل بما تتطلبه النصوص الدالة على حق الزوج، وأغفل النصوص الدالة عل وجوب صلة الرحم، ومن بالغ في حق الزيارة ولم يقتصد فيها، عمل بنصوص صلة الرحم وفرط في حقوق الزوج.

4 ـ عيادة الزوجة لوالديها

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للزوج أن يمنع زوجته من عيادة والديها في حال مرضهما، ومثله حضور جنازتهما، لأن في ذلك قطيعة لهما وحملا لزوجته على مخالفته، وقد أمر الله تعالى بالمعاشرة بالمعروف، ومنعها من عيادة والد مريض ليس من المعاشرة بالمعروف في شيء.

ومع هذا الاتفاق النظري، اختلفوا في حقها في الخروج من غير إذنه على قولين:

القول الأول: ليس له منعها من عيادة والد زمن ليس له من يقوم عليه، ولا يجب عليها طاعة زوجها إن منعها من ذلك سواء كان الوالد مسلما أو كافرا، وهو قول الحنفية وقول للإمامية، لأن القيام بخدمته فرض عليها في مثل هذه الحالة فيقدم على حق الزوج.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (286)

القول الثاني: ليس لها الخروج لعيادة أبيها المريض إلا بإذن الزوج، وله منعها من ذلك ومن حضور جنازته، وهو قول الشافعية والحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن رجلا خرج وأمر امرأته أن لا تخرج من بيتها، فمرض أبوها، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: أطيعي زوجك فمات أبوها فاستأذنت منه صلى الله عليه وآله وسلم في حضور جنازته فقال لها: أطيعي زوجك فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها) (1)

2. أن طاعة الزوج واجبة، فلا يجوز ترك الواجب بما ليس بواجب.

الترجيح:

نرى أن الترجيح في هذه المسألة يتوقف على بيان الأرجح في مسألة أخرى، وهي حكم عيادة المريض، لأنه بناء على الحكم الشرعي في هذه المسألة يتعرف على حق الزوج في المنع وعدم المنع، ويتعرف كذلك على جواز الخروج من غير إذن وعدم جوازه.

وقد قال جمهور الفقهاء بأن عيادة المريض سنة، بل نقل النووي الإجماع على عدم الوجوب كما ذكر الشوكاني (2)، قال النووي: (عيادة المريض سنة متأكدة والأحاديث الصحيحة مشهورة في ذلك. قال صاحب الحاوي وغيره: ويستحب أن يعم بعيادته الصديق والعدو ومن يعرفه ومن لا يعرفه لعموم الأحاديث (3)

لكن النصوص الكثيرة الحاثة على عيادة المريض قد لا يصح حملها على غير الوجوب، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم مثلا: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك

__________

(1) رواه الطبراني في الأوسط وفيه عصمة بن المتوكل وهو ضعيف، مجمع الزوائد:4/ 313، المعجم الأوسط:7/ 332، مسند الحارث [زوائد الهيثمي]:1/ 553، مسند عبد بن حميد:404.

(2) نيل الأوطار:4/ 22.

(3) المجموع:5/ 103.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (287)

لو عدته لوجدتني عنده؟) (1) لا يصح حمله على غير الوجوب، فالله تعالى في هذا الحديث يعاتب عبده، ويناقشه المسألة، ولا يكون ذلك إلا في أمر ذي بال.

بل قد ورد التصريح بالوجوب سواء بصيغة الحق، أو بصيغة الوجوب نفسها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (حق المسلم على المسلم خمس.. [فذكر منها] عيادة المريض (2).

ونتيجة لهذا فقد رجح بعض العلماء القول بوجوبها عملا بظاهر النصوص، وعلى رأس من قال بذلك من الذين جمعوا بين الفقه والحديث البخاري، فقد ترجم في الصحيح لأحاديث عيادة المريض بقوله: (باب وجوب عيادة المريض) (3)، وقال ابن حزم: (عيادة مرضى المسلمين فرض - ولو مرة - على الجار الذي لا يشق عليه عيادته، ولا نخص مرضا من مرض (4)، وقال ابن تيمية: (واختلف أصحابنا وغيرهم في عيادة المريض، وتشميت العاطس، وابتداء السلام، والذي يدل عليه النص وجوب ذلك، فيقال هو واجب على الكفاية) (5)

انطلاقا من هذا الوجوب الذي دلت عليه النصوص، يمكن معرفة حكم حق الزوج في منعها، وحقها في الخروج من غير إذنه، لأن الطاعة الزوجية كما ذكرنا، وكما سنفصله لاحقا مقيدة بالمعروف، وبما استوى طرفاه أو كان غير واجب ولا حرام، فإن كان واجبا، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

__________

(1) مسلم: 4/ 1990، شعب الإيمان: 6/ 534.

(2) البخاري: 1/ 418، مسلم: 4/ 1704، ابن حبان: 1/ 476، النسائي: 6/ 64، ابن ماجة:1/ 461، أحمد: 2/ 540.

(3) البخاري:5/ 2139.

(4) المحلى:3/ 403.

(5) الفتاوى الكبرى:5/ 359.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (288)

فلهذا لا نرى أن من حق الزوجة عيادة والديها فقط، بل عيادة رحمها جميعا إلا إذا كان في ذلك مشقة شديدة لها أو لزوجها، فيرتفع التكليف للمشقة لا لحق الزوج، لأن الأوامر الشرعية لم تقتصر على صلة الأبوين بل تعدتهما إلى الأرحام، ثم لماذا يصل الزوج أرحامه ويعودهم، بينما إذا تزوجت المرأة قطعت رحمها، فلا تعرف خالها ولا عمها، ولا أحدا من أقاربها؟ مع أن النصوص الموجبة لهذه الصلة لا تقتصر في إيجابها على الرجال دون النساء.

وهذا الوجوب يتأكد في حال حاجة الوالدين خاصة لتعهدها، لأن من الأمراض ما يمكن اعتبار العيادة فيه أمرا استحبابيا، كالأمراض البسيطة أو الأمراض الدائمة التي لا يمكن اعتبار صاحبها مريضا لملازمتها له، وقد قال ابن دقيق العيد: (عيادة المريض عند الأكثرين مستحبة بالإطلاق وقد تجب، حيث يضطر المريض إلى من يتعاهده، وإن لم يعد ضاع) (1)

ومع ذلك، فإن هذا القول يبقى مقيدا بالظروف الخاصة التي قد تفرض على الزوجة طاعة الزوج في عدم إذنها، وتجيز للزوج أن يمنعها لا بالسلطة الزوجية التي يتصورها، وإنما بقيود المصلحة التي اعتبرها الشرع.

أما الحديث الذي أورده بعض أصحاب القول الثاني، فإنه لو لم يضعف سندا لضعف عقلا وشرعا، فإن أي مؤمن يعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما جبل عليه من رحمة حتى سماه ربه رؤوفا رحيما يحيل عليه صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل ذلك، بل تنزيهه من ذلك كتنزيهه من المعاصي وما ينفر مما هو من خصائص الأنبياء ـ عليهم السلام ـ

والعجب أن مثل هذا الحديث يردد على المنابر، ويتناقله العامة الذي لا يحفظون حديثا صحيحا واحدا، مع أن آثاره الواقعية لا يمكن حصر خطرها، فهو كمن ضرب مائة عصفور بحجر واحد، فبهذا الحديث الواحد ضربت سماحة الإسلام وشوهت رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي هي أخص خصائصه ولسان رسالته، وشوهت معها شخصيته صلى الله عليه وآله وسلم، وتمردت المرأة على الرجل،

__________

(1) إحكام الأحكام:2/ 296.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (289)

بل تمردت على الأحكام الشرعية نفسها، وتجبر الرجل، وضاعت الحقوق، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلهذا نرى أن يلزم أولياء الأمور من المسلمين الأئمة وغيرهم تجنب رواية مثل هذه الأحاديث الموضوعة والضعيفة التي لا تخدم الإسلام بقدر ما تخدم الخرافة والجهل وتمكن للضلال والانحراف.

ثانيا ـ علاقة الزوجة بغير أهلهأ

1 ـ عيادة المرأة للرجال

انطلاقا من الأدلة العامة التي وردت في فضل عيادة المريض من غير تحديد فقد أفتى الكثير من العلماء، وخاصة المعاصرين منهم بجواز عيادة المرأة للرجال، وجواز عيادة النساء للرجال، ما دامت مقيدة بالقيود الشرعية.

ويمكن تقسيم الأدلة الدالة على هذا إلى نوعين:

الأدلة العامة: وهي النصوص الواردة في فضل عيادة المريض مطلقا من غير تحديد، ومنها:

1. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (حق المسلم على المسلم ست) قيل: وما هنَّ يا رسول الله؟ قال: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فشمِّته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) (1)

2. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فكوا العاني ـ أي الأسير ـ وأجيبوا الداعي، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض) (2)

3.

4.

__________

(1) رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

(2) رواه أحمد والبخاري.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (290)

5. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (عودوا المرضى واتبعوا الجنائز، تذكركم الآخرة) (1)

6. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من عاد مريضاً ناداه مناد من السماء: طِبتَ وطاب ممشاك. وتبوأت من الجنة منزلا) (2)

7. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع) قيل: يا رسول الله؛ وما خرفة الجنة؟ قال: (جناها) (3) أي ما يُخترف ويُجتنى من ثمرها.

الأدلة الخاصة:

1. أورد الإمام البخاري في كتاب المرضى من صحيحه (باب عيادة النساء للرجال): وعادت أم الدرداء رجلاً من أهل المسجد من الأنصار (4)

2. دخلت أم مبشر بنت البراء بن معرور الأنصارية على كعب بن مالك الأنصاري، لما حضرته الوفاة، وقالت: (يا أبا عبد الرحمن؛ أقرأ على ابني السلام) ـ تعني مبشراً ـ... الحديث (5)

3. عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أُم السائب ـ أو أُم المسيَّب ـ فقال: (مالك يا أُم السائب تزفزفين ـ أي ترتعدين؟) قالت: الحُمَّى لا بارك الله فيها! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسبي الحُمَّى، فإنها تُذهب خطايا بني آدم، كما يُذهب الكير خَبَث الحديد)

4. عن أم العلاء، قالت: عادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا مريضة، فقال: (أبشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة) (6)

5.

6.

__________

(1) رواه أحمد وابن حبَّان في صحيحه والبخاري في الأدب المفرد.

(2) رواه الترمذي وحسَّنه؛، وابن ماجه، وابن حبَّان في صحيحه.

(3) رواه أحمد ومسلم واللفظ له.

(4) رواه في الصحيح معلقاً، ووصله في "الأدب المفرد.

(5) رواه ابن ماجه)، ورواه أحمد في المسند: 3/ 455.

(6) أبو داود: 3/ 184.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (291)

7. عن أبي أمامة قال: مرضت امرأة من أهل العوالي ـ أي عوالي المدينة ـ فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسن شيء عيادة للمريض، فقال: (إذا ماتت فآذنوني)

2 ـ مشروعية الزيارة بين النساء وآدابهأ

لا خلاف بين الفقهاء في جواز التزاور بين النساء، بل استحبابه كاستحباب تزاور الإخوان إذا ما كان في الأطر الشرعية، وخلا من المفاسد.

وقد دلت الأدلة النصية الكثيرة على هذا، ومنها:

1. عن مجاهد قال: (استشهد رجال يوم أحد فجاءت نساؤهم رسول الله وقلن: (يا رسول الله نستوحش بالليل أفنبيت عند إحدانا فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها)

2. عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال: (من هذه؟) قالت فلانة لا تنام) تذكر من صلاتها فقال: (مه عليكم من العمل ما تطيقون فوالله لا يمل الله عز وجل حتى تملوا) (1)

3. عن الشفاء بنت عبد الله، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: (ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة) (2)، وكيف يكون تعليمها إلا بلقائها معها وخروجها إليها.

4. أن الحبس الدائم للمرأة في البيت هو من العقوبات الشرعية التي كانت قبل أن يشرع حد الزنا فنسخت هذه العقوبة بالحد الشرعي كما قال تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} (النساء:15)

__________

(1) البخاري في كتاب الإيمان، والنسائي: 8/ 123.

(2) سنن أبي داود: 4/ 11.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (292)

وقد جمعت بعض الأخوات الفاضلات وهي (أم عبد الرحمن) من واقع التجربة بعض آداب وحدود الزيارة بين النساء، نلخصها فيما يلي:

1. اختيار الوقت المناسب، واليوم المناسب للزيارة، فلا يكون الوقت في الصباح الباكر أو في وقت الظهيرة بعد الغداء، أو في وقت متأخر من الليل؛ فإن وقت الصباح الباكر وقت نوم عند بعض النساء، ووقت عمل عند أخريات (من تنظيف بيت وإعداد طعام..)، ووقت الظهيرة بعد الغداء هو وقت القيلولة، وهو وقت نوم أو استراحة للزوج بعد عودته من العمل. والوقت المتأخر من الليل هو وقت السكون والراحة وهو وقت خاص بأفراد الأسرة.

2. اجتناب الزيارات المفاجئة بدون موعد مسبق أو استئذان، وتلافي ذلك بسؤالك صديقتك التي ترغبين في زيارتها عمَّ إذا كان وقتها يسمح لها باستقبالك إذا لم تكن لديها أية مسؤوليات تجاه أطفالها أو بيتها أو زوجها في ذلك اليوم. وبهذا الاستئذان تكون مهيأة ومستعدة لاستقبالك، بعكس الزيارة المفاجئة التي قد تسبب الضيق والإزعاج لصديقتك، خاصة إذا كانت صديقتك - أو بيتها - في حال أو في هيئة تكره أن يراها أحد عليها.

3. أن لا تطول مدة زيارتك، لأن الزيارة إذا كانت مدتها طويلة قد تُشعر صديقتك بأنك أثقلت عليها وأنك لا تبالين بكثرة مسؤولياتها كزوجة وأم وربة بيت، وبالتالي قد يذهب ودّها لك أو يقل.

4. إذا طالت مدة الزيارة فينبغي استغلال الوقت بما ينفع، وبما يكون فيه لك ولصديقتك الأجر والثواب، وذلك بقراءة أحد الكتب الإسلامية، أو سماع شريط نافع، كي تشعر صديقتك بالسرور؛ لأن زيارتك أفادتها الكثير ولم يذهب وقتها هباءً في الثرثرة من تشدق وغيبة ونميمة.

5. التحفظ وقت الزيارة في الأقوال والأفعال بحيث لا تُظهري لصديقتك شيئاً من الفضول في قولك أو فعلك بكثرة الاستفسار عن أشياء تخصها، أو تخص زوجها - والتي ربما تكون عادية - ولكنها لا تحب البوح بها لك أو لغيرك.

6.

7.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (293)

8. إظهار الرضى والسرور والبشاشة بما تقدمه لك من طعام أو شراب واستكثاره مهما كان قليلاً، وتقديم النصيحة لها بالبعد عن الإسراف والتكلف للضيف في المأكل والمشرب، وعدم التحدث بعيوب الطعام الذي قدمتْه لك مهما كان نوعه.

9. تجنب كثرة المزاح، فإنه إذا تجاوز الحد أورث مقتاً واحتقاراً لصاحبه، وقد يملأ القلوب بالأحقاد إذا كان مزاحاً ثقيلاً وجارحاً لكرامة الشخص ولمشاعره.

10. إصلاح ما قد يتلفه أطفالك من متاع أو أثاث في بيت صديقتك أثناء زيارتك لها إذا كان بالإمكان إصلاحه وقتئذٍ، وتنظيف أو إزالة ما قد يُحدثه أطفالك من فوضى أو قذارة في بيتها؛ حتى لا تشعر صديقتك أنك ضيفة ثقيلة عليها أنتِ وأطفالك.

11. تقديم الشكر لصديقتك عند نهاية الزيارة، والدعاء لها خيرا على استقبالها لك وحسن ضيافتها لك، وقدمي لها الاعتذار إن بدا منك أو من أطفالك أي أذى لها أو لأطفالها أثناء الزيارة؛ فإن هذا الاعتذار قد يُذهب ما في القلوب من كدر أو جفاء أو شحناء إن وجد.

12. عدم تكرار الزيارات في فترات متقاربة من الزمن حتى لا تتولد الجفوة والسآمة بكثرة الخلطة واللقاءات والاجتماعات المتكررة والمتقاربة، وقد قيل: (زُرْ غِباً تزددْ حباً)، وقيل أيضاً: (لا تزرِ القوم قبل أن يشتاقوا إليك، ولا تمكثْ حتى يضجروا منك)

ثالثا ـ حكم ملازمة الزوجة بيت الزوجية

الأصل الشرعي في النساء سواء كن متزوجات أو غير متزوجات هو لزوم البيت (1)، فلا يخرجن إلا لحاجة، ولذلك كان من حقوق الزوج على زوجته ما يسميه الفقهاء بملك الاحتباس، وهو صيرورة الزوجة ممنوعة من الخروج والبروز إلا بإذن الزوج، ومن الأدلة النصية على ذلك:

1.

2.

__________

(1) الموسوعة الفقهية:19/ 107، المغني:7/ 225، الفتاوى الكبرى: 3/ 153، المدخل:2/ 12، الفروع: 5/ 328، الآداب الشرعية:3/ 374، فتح القدير:3/ 437، الإنصاف:2/ 360، التاج والإكليل: 5/ 548.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (294)

3. قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (الطلاق:6)، والأمر بالإسكان نهي عن الخروج، والبروز، والإخراج، إذ الأمر بالفعل نهي عن ضده.

4. قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب:33) قال القرطبي: (معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والإنكفاف على الخروج منها إلا لضرورة، فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بملازمة بيوتهن وخاطبهن بذلك تشريفا لهن) (1)

5. قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (الطلاق:1)

6. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها) (2)

7. عن أنس قال: جئن النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلن: يا رسول الله: ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قعدت – أو كلمة نحوها – منكن في بيتها، فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله) (3)

8. عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (عليكن بالبيت فإنه جهادكن) (4)

9. أنها لو لم تكن ممنوعة عن الخروج والبروز لاختل السكن والنسب، لأن ذلك مما يريب الزوج ويحمله على نفي النسب.

__________

(1) القرطبي:14/ 178.

(2) ابن خزيمة: 3/ 93، ابن حبان: 12/ 412، الترمذي: 3/ 476، مجمع الزوائد: 4/ 314.

(3) المعجم الأوسط: 3/ 163، قال ابن الجوزي: حديث لا يصح قال ابن حبان روح أي أحد رجاله يروي عن الثقات الموضوعات لا تحل الرواية عنه، انظر: فيض القدير: 6/ 248، المجروحين: 1/ 299.

(4) أحمد: 6/ 68.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (295)

وقد نص الفقهاء على أن المرأة إذا امتنعت عن الإقامة في بيت الزوجية بغير حق، سواء أكان بعد خروجها منه، أم امتنعت عن أن تجيء إليه ابتداء بعد إيفائها معجل مهرها، وطلب زوجها الإقامة فيه، فلا نفقة لها ولا سكنى حتى تعود إليه، لأنها بالامتناع قد فوتت حق الزوج في الاحتباس الموجب للنفقة، فتكون ناشزا، وقد سبق ذكر الخلاف في المسألة.

وقد وضع الفقهاء قيودا لجواز خروج المرأة من بيتها أو من بيت زوجها وهي:

1 ـ الخروج للحاجة الضرورية

اتفق الفقهاء على أنه يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية بلا إذن الزوج إن كانت لها نازلة، ولم يغنها الزوج الثقة أو غيره من محارمها، ومثله ما لو ضربها ضربا مبرحا، أو كانت تحتاج إلى الخروج لقاض تطلب عنده حقها، وغيرها مما قد تدعو الضرورة إليه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لزوجه سودة: (قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن) (1)

ومن المواضع الأخرى التي دلت عليها النصوص:

الخروج للدعوة: فقد نصت الأدلة الشرعية على أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مختصا بالرجال، فالرجل والمرأة شريكين، في تحمل أعظم المسؤوليات في الحياة الإسلامية، قال تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم} (التوبة:71)

الخروج مع الجيش: نصت الأدلة على أن للمرأة أن تخرج مع الجيش، لتقوم بأعمال الإسعاف والتمريض وما شابه ذلك من الخدمات الملائمة لفطرتها ولقدراتها، فعن الربيع بنت

__________

(1) البخاري: 5/ 2006، ابن خزيمة: 1/ 32، ابن حبان: 4/ 256، البيهقي: 7/ 88، مسند ابي يعلى: 7/ 409.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (296)

معوذ الأنصارية قالت: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسقي القوم ونخدمه ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة) (1)، وعن أم عطية قالت: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على الزمنى) (2)

فمسؤولية المرأة حسب هذه النصوص تتلاءم مع طبيعة المرأة ووظيفتها، فلذلك لم يرد أنها كانت تحمل السلاح وتقاتل وتقود الكتائب لأن ذلك ليس من شأنها، إلا إذا دعت الضرورة لذلك، فقد اتخذت أم سليم يوم حنين خنجراً، فلما سألها زوجها أبو طلحة عنه قالت: (اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه) (3)، ومثلها أم عمارة الأنصارية التي أبلت بلاءً حسناً في القتال يوم أحد، حتى أثنى عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفى حروب الردة شهدت المعارك بنفسها، حتى إذا قتل مسيلمة الكذاب عادت وبها عشر جراحات.

2 ـ الخروج للعمل

تختلف مواقف الأزواج من عمل المرأة، فهناك الزوج المحافظ الذي لا يجيز لزوجته أي عمل ولو توقفت عليه المصلحة العامة وتقيد بكل القيود الشرعية، وفي مقابله الذي يحرص على عملها بغض النظر عن نوعه وانضباطه، فالمهم عنده أن تكون زوجته ذات مال ليأخذ منه بحق أو غير حق.

ولهذا يحتاج الكلام في هذه المسألة إلى نوع من الضبط يضع الأمور في نصابها، لتبنى الحياة الزوجية على أسس شرعية صحيحة.

وقد اتفق الفقهاء القدامى والمحدثون على جواز عمل المرأة وفق القيود الشرعية التي سنذكرها، بل قد يكون مطلوباً كما لو احتاجت إليه لضرورة من الضرورات، سواء تعلقت بها أو

__________

(1) البخاري: 3/ 1056.

(2) مسلم: 3/ 1447، النسائي: 5/ 278، ابن ماجة: 2/ 952، أحمد: 5/ 84.

(3) مسلم: 3/ 1442، مسند عبد بن حميد: 361.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (297)

بأسرتها.

فقد تكون الأسرة هي التي تحتاج إلى عملها كأن تعاون زوجها، أو تربي أولادها، أو إخوتها الصغار، أو تساعد أباها في شيخوخته، كما في قصة ابنتي الشيخ الكبير التي ذكرها القرآن الكريم في سورة القصص، وكانتا تقومان على غنم أبيهما، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (القصص:23)

وقد يكون المجتمع نفسه في حاجة إلى عمل المرأة، كما في تطبيب النساء وتمريضهن، وتعليم البنات، ونحو ذلك من كل ما يختص بالمرأة، فالأولى أن تتعامل المرأة مع امرأة مثلها، لا مع رجل، وقبول الرجل في بعض الأحوال يكون من باب الضرورة التي ينبغي أن تقدر بقدرها، ولا تصبح قاعدة ثابتة.

ولكن هذا الحكم ليس عاما، بل مقيد بقيود كثيرة ذكرت في محلها، كالالتزام الأخلاقي وعدم التبرج واستئذان الزوج وغيرها مما سبق ذكره، ولكن ما يختص منها بالعمل خصوصا شرطان:

الشرط الأول ـ أن يكون العمل مشروعا

فلا يجوز أن تشتغل وظيفة هي حرام في نفسها أو مفضية إلى حرام، كالتي تعمل خادماً لرجل أعزب، أو سكرتيرة خاصة لمدير تقتضي وظيفتها أن يخلو بها وتخلو به، أو راقصة تثير الشهوات والغرائز الدنيا، أو عاملة في الحانات تقدم الخمر التي لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساقيها وحاملها وبائعها، أو مضيفة في طائرة يوجب عليها عملها التزام زي غير شرعي، وتقديم ما لا يباح شرعاً للركاب، والتعرض للخطر بسبب السفر البعيد بغير محرم، بما يلزمه من المبيت وحدها في بلاد الغربة، وبعضها بلاد غير مأمونة، أو غير ذلك من الأعمال التي حرمها الإسلام على النساء خاصة أو على الرجل والنساء جميعا.

الشرط الثاني ـ تناسب عمل المرأة مع طبيعتها

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (298)

وهو أن يكون العمل متناسبا مع قدرات المرأة الجسمية والعقلية والاجتماعية، فلا يصح إقحامها في عمل الرجال لما ينشأ عن ذلك من مضرة بالغة للمرأة، بل لزوجها وللمجتمع جميعا، وقد ذكر بعض المعاصرين وجوها من تلك المضرة منها:

1. مضرة على المرأة نفسها، لأنها تفقد أنوثتها وخصائصها، وتحرم من بيتها وأولادها، حتى إن كثيراً من النساء أصبن بالعقم. وبعضهم سماهن (الجنس الثالث) أي الذي لا هو رجل ولا هو امرأة.

2. مضرة على الزوج، لأنه يحرم من نبع سخي كان يفيض عليه بالأنس والبهجة، فلم يعد يفيض عليه إلا الجدل، والشكوى من مشكلات العمل، زيادة على أن الرجل يفقد كثيراً من سلطانه وقوامته عليها، لشعورها بأنها مستغنية بعملها عنه، وربما كان راتبها أكبر من راتبه، فتشعر بالاستعلاء عليه، زيادة على ما يشعر به كثير من الأزواج من عذاب الغيرة والشك.

3. مضرة على الأولاد، لأن حنان الأم لا يغني عنه غيره من خادم أو مدرسة، وكيف يستفيد الأولاد من أم تقضي نهارها في عملها، فإذا عادت إلى البيت عادت متعبة مهدودة، متوترة، فلا تسمح حالتها الجسمية ولا النفسية بحسن التربية وسلامة التوجيه.

4. مضرة على جنس الرجال، لأن كل امرأة عاملة، تأخذ مكان رجل صالح للعمل، فما دام في المجتمع رجال متعطلون، فعمل المرأة إضرار بهم.

5. مضرة على العمل نفسه، لأن المرأة كثيرة التخلف والغياب عن العمل، لكثرة العوارض الطبيعية التي لا تملك دفعها، من حيض وحمل ووضع وإرضاع وما شابه ذلك، وهذا كله على حساب انتظام العمل وحسن الإنتاج فيه.

6. مضرة على الحياة الاجتماعية، لأن الخروج على الفطرة، ووضع الشيء في غير موضعه الذي اقتضته هذه الفطرة، يفسد الحياة نفسها، ويصيبها بالخلل والتخبط والاضطراب.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (299)

الفصل الثالث

الحقوق الاقتصادية للزوجة

ونريد بها حق الزوجة في التصرف في مالها بأنواع التصرفات المختلفة، ومدى حق الزوج في التصرف في مال زوجته، أو حق الزوجة في التصرف في مال زوجها، وسنتناول هذه المسائل في المباحث التالية:

أولا حق الزوجة في التصرف في مالها

وهذا الحق إما أن يكون في المعاوضات أو التبرعات، وتفصيل ذلك فيما يلي:

1 ـ المعاوضات

اتفق الفقهاء على أن للزوجة ذمة مالية مستقلة كالرجل، لأن حقها في التصرف في مالها مقرر في الشريعة ما دامت رشيدة، لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء:6) ولها أن تتصرف في مالها كله عن طريق المعاوضة بدون إذن من أحد.

2 ـ التبرعات

اختلف الفقهاء في جواز تصرف المرأة في مالها عن طريق التبرع به وافتقارها في ذلك إلى استئذان زوجها أو توقفه على إذنه على قولين:

القول الأول: الحجر المطلق عل الزوجة، فلا يجوز هبة شيء من مالها، ولا الصدقة به، دون إذن زوجها، لا في الثلث ولا فيما دونه إلا في الشيء التافه، وقد روي عن أنس بن مالك، وهو قول الليث، ومن الأدلة على ذلك:

1. قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ

2.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (300)

3. أَمْوَالِهِمْ} (النساء:34)

4. عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن امرأة أتته فقالت: ما حق الزوج على امرأته فقال: لا تمنعه نفسها وإن كانت على ظهر قتب، ولا تعطي من بيته شيئا إلا بإذنه، فإن فعلت ذلك كان له الأجر، وعليها الوزر (1).

5. عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها) (2) في رواية: (لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها)

6. عن عبد الله بن يحيى الأنصاري عن أبيه عن جده، أن جدته أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحلي لها فقالت: إني تصدقت بهذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لا يجوز للمرأة في مالها أمر، إلا بإذن زوجها، فهل استأذنت زوجك؟ فقالت: نعم. فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هل أذنت لامرأتك أن تتصدق بحليها هذا فقال: نعم. فقبله منها، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (3)

القول الثاني: عدم الحجر مطلقا، فأجازوا أمرها كله في مالها، وجعلوها في مالها، كزوجها في ماله، وهو قول سفيان الثوري، والحنفية والشافعية وابن المنذر ورواية عن الإمام أحمد، وأبي ثور وأبي سليمان، والظاهرية، وهو قول الإمامية مع كراهية عدم استئذانه (4)، ومن أدلتهم على ذلك:

1.

2.

__________

(1) انظر: البيهقي:7/ 292، فيض القدير:3/ 391.

(2) قال الشوكاني: رواه الخمسة إلا الترمذي، والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وقد أخرجه البيهقي والحاكم في المستدرك وفي إسناده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحديثه من قسم الحسن، وقد صحح له الترمذي أحاديث، ومن دون عمرو بن شعيب هم رجال الصحيح عند أبي داود، نيل الأوطار: 6/ 125، وانظر: ابن ماجة: 2/ 798، البيهقي:6/ 60، المعجم الأوسط:3/ 84.

(3) ابن ماجة:2/ 798، المعجم الأوسط: 8/ 293.

(4) يقول الشيخ المفيد في [أحكام النساء، ص: 13]: (و يكره للمرأة أن تتبرع بشي ء من الصدقة إلا بإذن زوجها على ما قدمناه. ويكره لها أن تعتق بغير إذنه وتوقف وتنذر نذرا حتى تستأذنه فيه، فإن فعلت شيئا مما ذكرناه بغير إذن زوجها كانت مسيئة في ذلك، ومضى فعلها ولم يكن للزوج رده وفسخه)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (301)

3. قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} (النساء:19) فبطل بهذا منعها من مالها طمعا في أن يحصل للمانع بالميراث أبا كان أو زوجا.

4. قول الله تعالى: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} (الأحزاب:35)، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُون} (2 البقرة:54)، فلم يفرق تعالى بين الرجال في الحض على الصدقة وبين امرأة ورجل، ولا بين ذات أب بكر، أو غير ذات أب ثيب، ولا بين ذات زوج، ولا أرملة.

5. قول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} (النساء: 4)، فأباح الله للزوج ما طابت له به نفس امرأته.

6. قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} (البقرة: 237)، فأجاز عفوهن عن مالهن، بعد طلاق زوجها إياها بغير استئمار من أحد.

7. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن) (1) وأنهن تصدقن فقبل صدقتهن، ولم يسأل ولم يستفصل، ولهذا جاز لها التصرف بدون إذن لزوجها في مالها، فلم يملك الحجر عليها في التصرف بجميعه.

8. أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه هو وولده أحق من تصدقت عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) (2)، ووجه دلالة الحديث أنه

9.

__________

(1) مسلم: 2/ 694، ابن خزيمة:4/ 107، الحاكم: 2/ 207، الترمذي: 3/ 28، النسائي: 5/ 380، أحمد: 3/ 502.

(2) البخاري: 2/ 531، ابن خزيمة:4/ 107، ابن حبان: 13/ 54.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (302)

10. صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرها باستئماره فيما تصدق به على أيتامه.

11. عن عبد الله بن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم العيد، فصلى، ثم خطب، ثم أتى النساء مع بلال فوعظهن، فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى رقبتها، والمرأة تهوي بيدها إلى أذنها، فتدفعه إلى بلال وبلال يجعله في ثوبه، ثم انطلق به مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزله (1).

12. أن العلماء لا يختلفون في جواز وصية المرأة بثلث مالها، لأن القرآن الكريم صرح به في قول الله تعالى {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (النساء:12)، فإذا كانت وصاياها في ثلث مالها، جائزة بعد وفاتها، فأفعالها في مالها في حياتها، أجوز من ذلك.

13. أن حجة الزوج في مالها كحجة الولد، أو الوالد، أو الأخ، بل ميراث هؤلاء أكثر، لأن الزوج مع الولد ليس له إلا الربع، وللولد ثلاثة الأرباع، والوالد والولد كالزوج في أنهم لا يحجبهم أحد عن الميراث أصلا، وهذا يستدعي منعها من الولد، والوالد، من الصدقة بأكثر من الثلث بهذا الاحتياط، لا سيما وحق الأبوين فيما أوجب، لأن الأبوين إن افتقرا قضوا بنفقتهما وكسوتهما وإسكانهما وخدمتهما عليها في مالها أحبت أم كرهت - ولا يقضون للزوج في مالها بشيء - ولو مات جوعا وبردا - فكيف احتاطوا للأقل حقا ولم يحتاطوا للأكثر حقا.

14. أن قياس المالكية المرأة على المريض قياس بعيد، وقد ذكر ابن حزم وجوه فساد هذا القياس من وجوه منها:

الوجه الأول: أن المرأة صحيحة، وقياس الصحيح على المريض باطل عند كل من يقول بالقياس، لأن الشيء يقاس على مثله لا على ضده.

الوجه الثاني: أنه لا علة تجمع بين المرأة الصحيحة وبين المريض ولا شبه بينهما أصلا، والعلة جامعة بين الحكمين، وإما على شبه بينهما.

__________

(1) مسلم: 2/ 602، البخاري: 1/ 49، أبو داود: 1/ 297.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (303)

الوجه الثالث: أنهم يمضون فعل المريض في الثلث، ويبطلون ما زاد على الثلث، وههنا يبطلون الثلث، وما زاد على الثلث، فقد أبطلوا قياسهم.

الوجه الرابع: أنهم يجيزون للمرأة ثلثا بعد ثلث، ولا يجيزون ذلك للمريض فجمعوا في هذا الوجه مناقضة القياس، وإبطال أصلهم في الحياطة للزوج، لأنها لا تزال تعطي ثلثا بعد ثلث حتى تذهب المال إلا ما لا قدر له.

القول الثالث: الحجر المقيد، وقد اختلفوا في نوع القيد الذي يمنعها من التصرف في مالها على رأيين:

الرأي الأول: يجوز لها التبرع في حدود الثلث، ولا يجوز لها التبرع بزيادة على الثلث إلا بإذن زوجها (1) وللزوج الرد فيما لو زاد على الثلث (2) وهو قول المالكية، وقول طاووس، ومن

__________

(1) اختلف المالكية في نوع الإذن هل هو إجازة أو رد على قولين:

القول الأول: هو على الإجازة حتى يرده، وهو قول أصبغ، لأن ذلك مال للزوجة وهي جائزة الأمر فما أوجبته في مالها فهو جائز.

القول الثاني: هو مردود حتى يجيزه الزوج، وهو قول مطرف وابن الماجشون، لأن ذلك ممنوع لحق الزوج فلم يجز منه شيء إلا بإجازته، المنتقى: 3/ 253، مواهب الجليل:5/ 97، المدونة الكبرى:7/ 224، المدونة:4/ 124.

(2) اختلف المالكية في المقدار الذي يرد، في حال تبرع الزوجة بما زاد على الثلث على قولين:

القول الأول: أن له رد جميعه، وهو المشهور من مذهب مالك وهو قول ابن القاسم، ودليل هذا القول أن الزوجة إذا زادت في هبتها كانت متعدية ولم يختص التعدي بما زاد على الثلث بل اختص بالجميع فوجب أن يرد جميعه لأنها ممنوعة منه لحق الغير مع بقاء المال على ملكها كالمفلس وبهذا فارق الوصية فإن الموصي يمنع من الزيادة على الثلث مع خروج المال عن ملكه فلذلك رد إلى الثلث.

القول الثاني: إنما يرد ما زاد على الثلث إلا في العتق فإنه يرد جميعه لما فيه من عتق البعض من غير تقويم، وهو قول ابن الماجشون ودليله أن كل من له التصرف في ثلثه فإنه يرد ما زاد عليه كالموصي.

قال الباجي عن القول الثاني:) وهو أقيس وأجرى على الأصول (المنتقى:3/ 254

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (304)

الأدلة على ذلك:

1. أن كل حر حجر عليه في الصدقة بماله دون المعارضة فيه لحق غيره، فإنه يجوز تصرفه في ثلثه ولا تجوز له الزيادة على ذلك كالموصي.

2. أنه لا خلاف أن لها أن تتصدق باليسير، وإذا احتجنا إلى الفرق بين اليسير والكثير فالحد في ذلك ما ورد به الشرع من الثلث وما زاد على ذلك فالمرأة ممنوعة منه لتعلق حق الزوج بمالها.

3. أن الشرع اعتبر الزواج لمالها ولم ينفه قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يمينك) (1) فإذا كانت إنما تنكح لمالها لم يكن لها بعد أن زيد في صداقها من أجله أن تتلف جميعه وتهبه غيره.

4. أنها إذا زادت على الثلث فهي متعدية في ذلك على الزوج، فيجب أن يرد تعديها وما كان من الثلث فأقل فليست بمتعدية فيه.

5. عن الزهري قال: جعل عمر بن عبد العزيز للمرأة إذا قالت: أريد أن أصل ما أمر الله به؟ وقال زوجها: هي تضارني؟ فأجاز لها الثلث في حياتها (2).

الرأي الثاني: الحجر على الزوجة إلى أن تلد أو تبقى في بيت زوجها حولا، وقد روي عن عمر وشريح، وهو قول قتادة، والشعبي، وقال إبراهيم: إذا ولدت الجارية أو ولد مثلها جازت هبتها، وهو قول الأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ومن الأدلة على ذلك (3):

6. عن شريح قال: عهد إلي عمر بن الخطاب أن لا أجيز عطية جارية حتى تلد ولدا، أو تحول في بيتها حولا.

7.

8.

__________

(1) سبق تخريجه.

(2) ذكره ابن حزم ضمن أدلة المالكية، المحلى:8/ 310.

(3) ذكر هذه الآثار ابن حزم في المحلى:8/ 310.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (305)

9. عن الشعبي قال: قرأت كتاب عمر إلى شريح بذلك، وذلك أن جارية من قريش قال لها أخوها وهي مملكة: تصدقي علي بميراثك من أبيك؟ ففعلت، ثم طلبت ميراثها فرده عليها.

10. كتب عمر بن الخطاب: لا تجيزوا نحل امرأة بكر حتى تحيل حولا في بيت زوجها أو تلد ولدا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة من القرآن والسنة، وهو أن للمرأة ذمة مالية مستقلة عن الرجل، يباح لها بموجبها أن تتصرف أي تصرف شرعي من المعاوضات والتبرعات من دون حجر عليها، إلا ما استثنته الأدلة الشرعية، قال الطحاوي معقبا على ذلك بعد ذكر الأحاديث السالفة: (فكيف يجوز لأحد ترك آيتين من كتاب الله عز وجل، وسنن ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، متفق على صحة مجيئها إلى حديث شاذ، ولا يثبت مثله؟)

ثم إن القول بالحجر يشبه رفع التكليف عن المرأة في حقوقها المالية، ويجعلها تابعة للرجل، وهو ما يتنافى مع التكاليف الشرعية الموجهة للرجال والنساء على السواء، فالنصوص النبوية الكثيرة التي تحث النساء على الصدقات، تلغى بهذا القول، أو تكاد تلغى، بل إن الأمر عند المالكية ليس قاصرا على التبرعات، فهم لا يبيحون للمرأة إذا نذرت نذرا ماليا إلا ثلثه، وهو يتنافى مع لزوم الوفاء بالنذر.

والأمر الأدهى من ذلك أن يصبح مال المرأة غرضا للرجل مع أن القرآن الكريم بالعبارة الصريحة لم يرخص فيه إلا بطيب النفس، وهو مرتبة فوق الإعطاء العادي، فعن قتادة قال في قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4): (ما طابت به نفسا كره أو هوان فقد أحل الله لك ذلك أن تأكله هنيئا مريئا (1)، وقال الشافعي: (فكان في

__________

(1) تفسير الطبري:4/ 243.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (306)

هذه الآية إباحة أكله إذا طابت به نفسا، ودليل على أنها إذا لم تطب به نفسا لم يحل أكله، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (النساء:20) (1)

ثم إنه لو سلمنا جدلا أن للرجل حقا في مال المرأة، فلماذا يحجر على المرأة ولا يحجر على الرجل مع أن حقها في ماله لا خلاف فيه؟

وقد أشار ابن حزم إلى بعض هذه التناقضات التي يقع فيها من يذهب إلى الحجر سواء كان حجرا مطلقا أو حجرا مقيدا، فقال: (إن الله تعالى افترض في القرآن والسنة التي أجمع أهل الإسلام عليهما إجماعا مقطوعا به متيقنا أن على الأزواج نفقات الزوجات، وكسوتهن، وإسكانهن، وصدقاتهن، وجعل لهن الميراث من الرجال كما جعله للرجال منهن سواء بسواء فصار بيقين من كل ذي مسكة عقل حق المرأة في مال زوجها واجبا لازما، حلالا يوما بيوم، وشهرا بشهر، وعاما بعام، وفي كل ساعة، وكرة الطرف، لا تخلو ذمته من حق لها في ماله، بخلاف منعه من مالها جملة، وتحريمه عليه، إلا ما طابت له نفسها به، ثم ترجو من ميراثه بعد الموت كما يرجو الزوج في ميراثها ولا فرق، فإن كان ذلك موجبا للرجل منعها من مالها فهو للمرأة أوجب، وأحق في منعه من ماله إلا بإذنها، لأن لها شركا واجبا في ماله، وليس له في مالها إلا التب والزجر، فيا للعجب في عكس الأحكام. فإن لم يكن ذلك مطلقا لها منعه من ماله خوف أن يفتقر فيبطل حقها اللازم؟ فأبعد والله وأبطل أن يكون ذلك موجبا له منعها من مال لا حق له فيه، ولا حظ إلا حظ الفيل من الطيران. والعجب كل العجب من إطلاقهم له المنع من مالها أو من شيء منه وهو لو مات جوعا، أو جهدا، أو هزالا، أو بردا، لم يقضوا له في مالها بنواة يزدردها، ولا بجلد يستتر به، فكيف استجازوا هذا؟ إن هذا لعجب؟) (2)

__________

(1) أحكام القرآن للشافعي: 217.

(2) المحلى:7/ 189.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (307)

ثانيا حق الزوجة في التصرف في مال زوجهأ

لم تكتف الشريعة في هذا الجانب من حقوق المرأة بأن أباحت لها التصرف في مالها في حدود المصالح الشرعية، بل سمحت لها في نواح كثيرة بالتصرف في مال زوجها، ولهذا التصرف احتمالان، فهي إما أن تنفق من مال زوجها على نفسها، أو أن تنفق من مال زوجها على غيرها، وسنعرض لحدود هذين النوعين من التصرف فيما يلي:

1 ـ إنفاقها من مال زوجها على نفسها

اتفق الفقهاء على أنه إذا لم يدفع الزوج إلى امرأته ما يجب لها عليه من النفقة والكسوة، أو دفع إليها أقل من كفايتها، فلها أن تأخذ من ماله الواجب أو تمامه، بإذنه وبغير إذنه واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. ما روي أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) (1)، والحديث دليل على أنه يجوز لمن وجبت له النفقة شرعا على شخص أن يأخذ من ماله ما يكفيه إذا لم يقع منه الامتثال وأصر على التمرد (2).

2. أنه موضع حاجة، فإن النفقة لا غنى عنها، ولا قوام إلا بها، فإذا لم يدفعها الزوج ولم تأخذها،

3.

__________

(1) البخاري:2/ 769، 5/ 2052، البيهقي:7/ 466، النسائي:5/ 378، المجتبى:8/ 246، ابن ماجة:2/ 769، أحمد:6/ 39.

(2) نيل الأوطار:7/ 131، وفي الحديث فوائد كثيرة تتعلق بالنفقات، ولهذا سيكثر الاستدلال به في هذا الفصل، انظر في عد فوائده: فتح الباري:9/ 510، 13/ 139، تحفة الأحوذي:4/ 400.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (308)

4. أفضى إلى ضياعها وهلاكها.

5. أن النفقة تتجدد بتجدد الزمان شيئا فشيئا، فتشق المرافعة إلى الحاكم، والمطالبة بها في كل الأوقات.

6. أن نفقة الزوجة تسقط بفوات وقتها عند بعض العلماء، ما لم يكن الحاكم فرضها لها، فلو لم تأخذ حقها أفضى إلى سقوطها، والإضرار بها.

2 ـ إنفاقها من مال زوجها على غيرها

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للزوج أن يتصدق من مال زوجته بشيء أصلا إلا بإذنها، واختلفوا في حكم تصدق المرأة من مال زوجها من غير إذنه على الأقوال التالية:

القول الأول: أن لها أن تتصدق من ماله بغير إذنه، وهو قول ابن حزم، قال في المحلى: (للمرأة حق زائد، وهو أن لها أن تتصدق من مال زوجها أحب أم كره، وبغير إذنه غير مفسدة، وهي مأجورة بذلك، ولا يجوز له أن يتصدق من مالها بشيء أصلا إلا بإذنها) (1)، واستدل على ذلك بما يلي:

7. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها عن غير أمره فله نصف أجره (2)) (3)

8. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها

9.

__________

(1) المحلى: 7/ 192.

(2) قال النووي: (اعلم أن المراد بما جاء في هذه الأحاديث من كون الأجر بينهما نصفين أنه قسمان لكل واحد منهما أجر ولا يلزم أن يكونا سواء فقد يكون أجر صاحب العطاء أكثر وقد يكون أجر المرأة والخازن والمملوك أكثر بحسب قدر الطعام وقدر التعب في إنفاذ الصدقة وإيصالها إلى المساكين) المجموع: 6/ 241.

(3) البخاري:2/ 728،مسلم: 2/ 710، الترمذي:3/ 58، أبو داود: 2/ 131، النسائي: 2/ 35، أحمد: 6/ 44.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (309)

10. أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا) (1)

11. عن أسماء بنت أبي بكر قالت: يا رسول الله ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي؟ فقال: (ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعي الله عليك) (2)

12. وقد رد ما استدل به أصحاب القول الثاني، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تنفق المرأة شيئا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها، قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل أموالنا)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سألته امرأة ما يحل من أموال أزواجهن؟ قال: (الرطب تأكلينه وتهدينه) بأن كلا الحديثين ضعيفين بالإسال، وهما لا يقومان الأحاديث الصحيحة في المسألة، قال ابن حزم: (هذا نقل تواتر يوجب العلم في أعلام مشاهير فلا يقاوم بمثل هذا السقوط والضعف الذي لو انفرد عن معارض لم يحل الأخذ به، والآخران مرسلان) (3)

القول الثاني: يجوز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها للسائل وغيره بما أذن فيه صريحاً، وبما لم يأذن فيه ولم ينه عنه إذا علمت رضاه به، وإن لم تعلم رضاه به فهو حرام، وهو قول جمهور الفقهاء، وقريب منه قول الإمامية (4)، والإذن ضربان: أحدهما: الإذن الصريح في النفقة والصدقة، والثاني: الإذن المفهوم من اطراد العرف والعادة، كإعطاء السائل ونحوه مما جرت العادة به، واطرد العرف فيه، وعلم بالعرف رضا الزوج والمالك به، فإذنه في ذلك حاصل وإن

__________

(1) البخاري: 2/ 522، مسلم:2/ 710، البيهقي: 4/ 192، النسائي: 5/ 379، أحمد: 6/ 44.

(2) البخاري: 2/ 520، مسلم: 714، النسائي: 2/ 38.

(3) المحلى:7/ 194.

(4) وإن كان قد ورد لهم رواية تفيد الجواز المطلق، قال المحقق النراقي: (اختلفت الروايتان في جواز تصدق المرأة عن بيت زوجها بغير إذنه.. ففي رواية جميل: (للمرأة أن تأكل وأن تتصدق، وللصديق أن يأكل من منزل أخيه ويتصدق) وفي رواية علي: المرأة لها أن تعطي من بيت زوجها بغير إذنه؟ قال: (لا، إلا أن يحللها)، ويمكن الجمع بوجوه. والاولى في الجمع ما دلت عليه موثقة ابن بكير: عما يحل للمرأة أن تتصدق به من مال زوجها بغير إذنه، قال: (المأدوم)، فيخصص بالتصدق ومنه بالمأدوم، وعليه الفتوى. والظاهر الاختصاص بما إذا لم يقارب صريح النهي، أو العلم بالكراهة) (انظر: مستند الشيعة (15/ 29)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (310)

لم يتكلم، قال ابن قدامة: (والإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي، فصار كأنه قال لها: افعلي هذا. فإن منعها ذلك، وقال: لا تتصدقي بشيء، ولا تتبرعي من مالي بقليل، ولا كثير لم يجز لها ذلك، لأن المنع الصريح نفي للإذن العرفي (1)، ومن الأدلة على ذلك (2):

1. روي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إنا كل على أزواجنا وآبائنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرطب تأكلينه، وتهدينه (3).

2. أن العادة السماح بذلك، وطيب النفس، فجرى مجرى صريح الإذن، كما أن تقديم الطعام بين يدي الأكلة قام مقام صريح الإذن في أكله.

القول الثالث: لا يجوز أن تنفق شيئا من مال زوجها إلا بإذنه الصريح، وهو رواية عن أحمد، ومن الأدلة على ذلك:

3. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تنفق المرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها. قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟. قال: ذاك أفضل أموالنا (4).

4. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه (5)

5. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله حرم بينكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا (6).

6.

7.

__________

(1) المغني:4/ 301.

(2) المجموع:6/ 240، كشاف القناع:3/ 460، منار السبيل:1/ 363.

(3) البزار:4/ 74، مسند عبد بن حميد: 79.

(4) الدارقطني:3/ 40، أبو داود: 3/ 296، ابن ماجة:2/ 770، أحمد: 5/ 267.

(5) الحاكم: 1/ 171، مجمع الزوائد: 10/ 246، البيهقي: 6/ 100، الدارقطني:3/ 26.

(6) مسلم:2/ 889، البخاري:1/ 37، ابن خزيمة: 4/ 198، ابن حبان: 4/ 311، الحاكم: 3/ 533، الترمذي:4/ 461.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (311)

8. أنه تبرع بمال غيره بغير إذنه، فلم يجز، كغير الزوجة.

9. أن المراد من الأحاديث السابقة نفقة المرأة على نفسها أو على عيال صاحب المال في مصالحه وليس ذلك بأن ينفقوا على الغرباء بغير إذن.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن لكل قول من الأقوال الثلاثة محله الخاص به، والذي يختلف باختلاف حال الزوج والزوجة والحاجة التي استدعت ذلك الإنفاق، وما يترتب عن ذلك كله من مصالح أو مفاسد.

فلو كان الزوج مثلا غنيا شحيحا، وكانت الحاجة الداعية للإنفاق ملحة، وكانت الزوجة مصلحة بذلك لا مفسدة، فإن لها في هذه الحالة أن تأخذ بالقول الأول فتنفق من مال زوجها عل وجوه الخير لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأسماء: (ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعي الله عليك)، إلا إذا ترتب على ذلك مفسدة، كأن تخاف من ضرر يصيبها أو يصيب استقرارها لو علم الزوج.

أما لو كان الزوج فقيرا، أو كانت الحاجة الداعية للإنفاق ليست ضرورية ولا ملحة، فإن الأولى في هذه الحالة، بل الأوجب استئذان الزوج، ويصلح في هذه الحالة الأخذ بالقول الثالث، للأحاديث الكثيرة الصحيحة الدالة عليه.

أما لو كان الزوج متوسط الحال، أو كانت الحاجة متوسطة، وهو الحالة العادية لأغلب الناس وفي أغلب الأوقات، فإن الأرجح هو الأخذ بالقول الثاني، فهو أوسط الأقوال، وأجمعها، فيخص ذلك إما بإذنه، أو بالإنفاق مما يخصها، قال ابن حجر: (والأولى أن يحمل على ما إذا أنفقت من الذي يخصها به إذا تصدقت به بغير استئذانه فإنه يصدق كونه من كسبه فيؤجر عليه، وكونه بغير أمره يحتمل أن يكون إذن لها بطريق الإجمال، لكن المنفى ما كان بطريق

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (312)

التفصيل ولا بد من الحمل على أحد هذين المعنيين وإلا فحيث كان من ماله بغير إذنه لا إجمالا ولا تفصيلا فهي مأزورة بذلك لا مأجورة) (1).

ونرى أنه بهذا التفصيل أمكن الجمع بين النصوص، فلم يقدم أحدها على الآخر، ولعل الروايات المختلفة في ذلك تنطلق من الحوادث المختلفة، فقد كان الزبير غنيا فلهذا أباح لأسماء أن ترضخ من ماله ما تشاء، بخلاف المرأة التي أذن لها في (الرطب تأكليه، وتهديه)

ولهذا قيد صلى الله عليه وآله وسلم إنفاق المرأة من مال زوجها لكونه (غير مفسدة)، قال ابن حزم: (يكفي من هذا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (غير مفسدة)، فهذا يجمع البيان كله)

والمفسدة إما أن تكون في صرف المال في غير مواضعه، أو في صرف المال المحتاج إليه، والأولى مع ذلك هو استئذان الزوج ليشملهما الأجر كاملا، إلا إذا حال دون ذلك بخله أو غيره من الحوائل.

ثالثا حق تصرف الزوج في مال زوجته

لتصرف الزوج في مال زوجته أربعة أحوال، وذلك لأن الزوج إما أن يأخذ من مالها بإذنها، أو أن يأخذه بغير إذنها، أو يطالبها بأن تصرف مالها فيما يطالب به هو، أو ينتفع بمنافعها الخاصة بها، وتفصيل هذه الأحوال فيما يلي:

الحالة الأولى أخذ الزوج مال الزوجة بإذنها

ولهذا النوع من انتفاع الزوج بمال زوجته صورتان، فهو إما أن ينتفع به من باب التبرع صدقة أو هبة، أو من باب التبرع الواجب وهو الزكاة، أو إنفاق الزوجة على زوجها من مالها، وقد تقدم ذلك في فصل النفقة، وهذه بعض تفاصيل هذه الصور:

__________

(1) فتح الباري: 4/ 301.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (313)

1 ـ الانتفاع التطوعي

أجمع العلماء على أن للزوج الأخذ من مال زوجته إن سمحت له بذلك من غير إضرار منه لها، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4)

قال مكارم الشيرزي: (أي لو تنازلت الزوجة عن شيء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له، وإِنّما أقرّ الإِسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئه العائلية والحياة الزوجية ميداناً لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة، بل يكون مسرحاً للتلاقي العاطفي الإِنساني، وتسود في هذه الحياة المحبّة جنباً إِلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية المذكورة) (1)

وبهذا الحكم الشرعي، وهو توقف استفادة الرجل من مال الزوجة سواء كان مهرا أو غيره على إعطاء الزوجة وسماحها استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها، وحقها في نفسها وفي مالها، وكرامتها ومنزلتها، وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات، ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون؛ بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة، وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة (2).

وقد اشترط تعالى أن يكون ذلك عن طب نفس منها، فهو إذن نفسي مصدره المحبة والمودة القلبية، قبل أن يكون إذنا كلاميا، قد تختلف مصادره.

وقد كان السلف لأجل قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4) تفاؤلا بهذا يتداوون بما تهديه الزوجة عن طيب نفس منها، وقد اتفق في رواية ذلك عن علي الشيعة والسنة على السواء، فمن روايات الشيعة

__________

(1) تفسير الأمثل: 3/ 101..

(2) في ظلال القرآن:1/ 585.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (314)

أن رجلا جاء عليا فقال: يا أمير المؤمنين إن في بطني وجعا فقال: ألك زوجة قال: نعم قال: استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا، ثم أسكب عليه من ماء السماء، ثم اشربه فإني سمعت الله تعالى يقول في كتابه: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} (ق:9) وقال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} (النحل:69)، وقال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4)، فإذا أجتمعت البركة والشفاء والهنيء والمريء شفيت إن شاء الله تعالى، ففعل الرجل ذلك فشفى (1).

ومما رواه أهل السنة من ذلك عن علي: إذا أشتكى أحدكم، فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحوها، فليشتر بها عسلا، وليأخذ من ماء السماء فيجمع هنيئا مريئا وشفاء ومباركا (2).

وكانوا يتفاءلون به، ويدعو بعضهم بعضا له يسمونه الهنيء المريء، فعن إبراهيم قال دخل رجل على علقمة وهو يأكل من طعام بين يديه من شيء أعطته امرأته من صداقها أو غيره فقال له علقمة: ادن فكل من الهنيء المريء.

2 ـ انتفاع الزوج بزكاة زوجته

اتفق الفقهاء على عدم جواز دفع الزوج الزكاة إلى زوجته، بل حكي الإجماع على ذلك، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة، واستدلوا على ذلك بأن نفقتها واجبة عليه، فتستغني بها عن أخذ الزكاة، فلم يجز دفعها إليها، كما لو دفعها إليها على سبيل الإنفاق عليها (3).

__________

(1) البحار ج 14: 873.

(2) قال ابن حجر: أخرجه بن أبي حاتم في التفسير بسند حسن، فتح الباري:10/ 170.

(3) المغني:2/ 270.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (315)

وقد استثنى الإمامية من ذلك أن يكون إعطاؤه لها من (سهم الفقراء)، أما إعطاؤها من السهام الأخرى، كالغارمين، أو المؤلفة قلوبهم، أو سبيل الله مثلاً (إذا كانت تنطبق عليهم هذه العناوين) فلا بأس به (1).

واختلفوا في جواز أخذ الزوج الزكاة من زوجته على قولين:

القول الأول: يجوز لها دفع زكاتها إلى زوجها، وهو قول الشافعي والثوري وصاحبي أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد، وابن المنذر، ويرى الإمامية جواز ذلك، بل جواز (أن تعطي المرأة زكاتها لزوجها المستحق، ويجوز له أيضا أن ينفق عليها منها وإن كانت غنية) (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه هو وولده أحق من تصدقت عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) (3)، ووجه دلالة الحديث أن الصدقة الورادة في الحديث محمولة على الزكاة الواجبة لوجهين:

الوجه الأول: قولها: (أتجزئ عني)، لأن المصارف تتعلق بالزكاة، بخلاف الصدقة، فإنها تصح في أي مصرف.

الوجه الثاني: أن ترك الإستفصال منه صلى الله عليه وآله وسلم ينزل منزلة العموم، فلما ذكرت الصدقة، ولم يستفصلها عن تطوع ولا واجب، فكأنه قال: تجزئ عنك فرضا كان أو تطوعا، وأما ولدها فليس في الحديث أنها تعطي ولدها من زكاتها، بل معناه أنها إذا أعطت زوجها فأنفقه على ولدها

__________

(1) جاء في (العروة الوثقى وتكملتها: 2/ 179): (الممنوع إعطاؤه لواجبى النفقة هو ما كان من سهم الفقراء ولاجل الفقر، وأما من غيره من السهام كسهم العاملين إذا كان منهم او الغارمين أو المؤلفة قلوبهم أو سبيل الله أو ابن السبيل أو الرقاب إذا كان من أحد المذكورات فلامانع منه)

(2) أحكام الشريعة (3/ 194)

(3) البخاري: 2/ 531، ابن خزيمة:4/ 107، ابن حبان: 13/ 54.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (316)

كانوا أحق من الأجانب، فالإجزاء يقع بإعطاء للزوج والوصول إلى الولد بعد بلوغ الزكاة محلها (1).

2 ـ أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن علي نذرا أن أتصدق بعشرين درهما، وإن لي زوجا فقيرا، أفيجزئ عني أن أعطيه؟ قال: نعم، لك كفلان من الأجر (2)، فلو صح الحديث فهو دليل على جواز إعطاء الزكاة للزوج قياسا على النذر، لأن كليهما واجب.

3 ـ أنه لا تجب عليها نفقته، وذلك لا يمنع من دفع الزكاة إليه، كالأجنبي، بخلاف الزوجة، فإن نفقتها واجبة عليه.

4 ـ أن الأصل جواز الدفع لدخول الزوج في عموم أصناف المسمين في الزكاة، وليس في المنع نص ولا إجماع، وقياسه على من ثبت المنع في حقه غير صحيح، لوضوح الفرق بينهما، فيبقى جواز الدفع ثابتا.

القول الثاني: لا يجوز دفعها إليه، وهو قول الحنفية، ورواية عند لحنابلة، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1 ـ أنها تنتفع بدفعها إليه، لأنه إن كان عاجزا عن الإنفاق عليها، تمكن بأخذ الزكاة من الإنفاق عليها منها، فيلزمه، وإن لم يكن عاجزا، ولكنه أيسر بها، لزمته نفقة الموسرين، فتنتفع بها في الحالين، فلم يجز لها ذلك، كما لو دفعتها في أجرة دارها.

2 ـ أن الشرع أعطاها الحق بالانتفاع بمال زوجها، فحق الزوجة في النفقة آكد من حق الغريم، بدليل أن نفقة المرأة مقدمة في مال المفلس على أداء دينه، وأنها تملك أخذها من ماله بغير علمه، إذا امتنع من أدائها، وهي تنبسط عادة في مال زوجها، ويعد مال كل واحد منهما مالا للآخر، ولهذا قال ابن مسعود في عبد سرق مرآة امرأة سيده: عبدكم سرق مالكم، ولم

__________

(1) انظر: فتح الباري:3/ 330.

(2) رواه الجوزجاني، والحديث مرسل، انظر: المغني:2/ 270.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (317)

يقطعه، وذلك كله دليله على أن الزكاة لا تجزئ عنها لزوجها لإمكان انتفاعها بها.

3 ـ ضعف دلالة ما استدلوا به من نصوص فالحديث الذي ذكروه لا يصح الاستدلال به من الوجوه التالية:

الوجه الأول: أنه في صدقة التطوع، لقولها: أردت أن أتصدق بحلي لي، ولا تجب الصدقة بالحلي، قال ابن حجر معرض بيان حجتهم من الحديث: (قوله ولو من حليكن، وكون صدقتها كانت من صناعتها، يدلان على التطوع) (1) وقد ورد من طريق رائطة امرأة بن مسعود أنها كانت امرأة صنعاء اليدين، فكانت تنفق عليه وعلى ولده، وذلك يدل على أنها صدقة تطوع.

الوجه الثاني: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم) دليل على أن الصدقة تطوع لأن الولد لا تدفع إليه الزكاة.

الوجه الثالث: قولها: أتجزئ عني، أي في الوقاية من النار كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا تحصل لها المقصود.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن الأدلة تحتمل كلا الوجهين، فلذلك يمكن الجمع بينها، والجمع بذلك بين القولين كما يلي:

10. أن الفقر تختلف درجاته، فإن كان الزوج فقيرا جدا، أو كان فقره شبيها بالفقير الذي تريد أن تدفع له زكاتها، أو كان غارما، فلها أن تدفع له زكاتها على أن تتعفف عنها.

11. أن يستغل الزوج زكاتها في النفقة الضرورية لهما، وأن لا يشتري لها من زكاتها إلا ما يجب عليه، والأولى انتفاعه هو بزكاتها، والإنفاق عليها من ماله.

12. أن تتلطف بالحيل الشرعية في إيصال الزكاة إليه، بحيث لا تعطيه الزكاة مباشرة، وأقترح في ذلك مثلا أن تدفع زكاتها لهيئة خيرية، على أن تخبرهم بحالة زوجها، فتتولى الجمعية إعطاءه الزكاة

13.

__________

(1) فتح الباري:3/ 330.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (318)

14. نيابة عنها، إن كان أهلا لأخذ الزكاة.

أما الحديث الذي استدل به أصحاب القول الأول، فالظاهر فيه، والله أعلم، أن المراد منه صدقة التطوع، كما رجح ذلك ابن حجر وغيره من العلماء، ونحب أن ننبه هنا إلى أن البعض يستغل استحباب الشرع لإعطاء الصدقات والزكوات للأقارب، فيقصرها عليهم، ولو كانوا في درجة من الفقر لا تسمح لهم بأخذ الزكاة، وهذا لا يجوز، لأنه نوع من الفرار من الزكاة.

الحالة الثانية أخذ الزوج مالها بغير إذنها

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من مال زوجته من غير إذنها، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4)، فقد قيدت الآية الأخذ من مال الزوجات بشرط طيب النفس منهن، وهو فوق الإذن العادي كما ذكرنا، ودل على هذا كذلك قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء:20، 21)

وقد بحث الفقهاء هنا مسألة لها صلة بهذا لا نرى مناصا من ذكرها هنا، وهي:

حكم السرقة بين الزوجين

اتفق الفقهاء (1) على عدم إقامة الحد إذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر وكانت السرقة من حرز قد اشتركا في سكناه، لاختلال شرط الحرز، وللانبساط بينهما في الأموال عادة، ولأن بينهما سببا يوجب التوارث بغير حجب، أما إذا كانت السرقة من حرز لم يشتركا في سكناه، أو اشتركا في سكناه ولكن أحدهما منع من الآخر مالا أو حجبه عنه، فقد اختلف الفقهاء في حكم السرقة منه على الأقوال

__________

(1) خلافا لابن حزم الذي يرى الحد مطلقا كما سنرى.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (319)

التالية (1):

القول الأول: لا قطع فيه، وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وقول للشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

15. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولدها وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (2) ووجه الاستدلال أن كل واحد من الزوجين أمين في مال الآخر، فلا قطع عليه كالمودع.

16. قول عمر لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي، حين قال له: إن غلامي سرق مرآة امرأتي: أرسله، لا قطع عليه، خادمكم أخذ متاعكم (3)، فإذا لم يقطع عبده بسرقة مالها، فهو أولى.

17. أن كل واحد منهما يرث صاحبه بغير حجب، ولا تقبل شهادته له، ويتبسط في مال الآخر عادة، فأشبه الوالد والولد.

القول الثاني: يقام عليه الحد، وهو قول الإمامية (4) والمالكية (5)، وأبي ثور، وابن المنذر، وهو رواية عن أحمد، وقول للشافعية، وهو قول ابن حزم، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فحكم بالقطع مطلقا ولو كان من غير حرز، قال: (القطع فرض واجب على الأب والأم إذا سرقا من

__________

(1) انظر: المبسوط: 9/ 188، الأم: 6/ 163، المحلى: 21/ 340، المنتقى: 7/ 184، أحكام القرآن لابن العربي 2/ 110، بدائع الصنائع: 7/ 75، المغني: 9/ 117.

(2) مسلم:3/ 1459، أبو داود: 3/ 130، أحمد:2/ 54.

(3) الموطأ: 2/ 839، مصنف عبد الرزاق:10/ 210.

(4) مسالك الأفهام الشهيد الثاني (21/ 476)

(5) وقد شرط المالكية لذلك أن لا يكون ذلك في بيتها، ففي المدونة: (أرأيت المرأة إذا سرقت من مال زوجها، هل تقطع؟ قال: نعم، إذا سرقت من مال زوجها في غير بيتها الذي تسكن فيه)، المدونة:4/ 535.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (320)

مال ابنهما، وعلى الابن والبنت إذا سرقا من مال أبيهما، وأمهما، ما لم يبح لهما أخذه. وهكذا كل ذي رحم محرمة، أو غير محرمة، إذا سرق من مال ذي رحمه، أو من غير ذي رحمه، ما لم يبح له أخذه. فالقطع على كل واحد من الزوجين إذا سرقا من مال صاحبه ما لم يبح له أخذه كالأجنبي ولا فرق - إذا سرق ما لم يبح - وهو محسن إن أخذ ما أبيح له أخذه من حرز، أو من غير حرز) (1)، ومن الأدلة التي ساقها ابن حزم لذلك:

1. عدم صحة الاحتجاج بالخبر الذي استدل به المخالفون، لأنهم مسئولون عما استرعوا من ذلك، وذلك يدل على أنه لم تبح لهم السرقة، والخيانة، فيما استودعوه وأسلم إليهم، وأنهم في ذلك - إن لم يكونوا كالأجنبيين والأباعد ومن لم يسترع - فهم بلا شك أشد إثما، وأعظم جرما، وأسوأ حالة من الأجنبيين، وأن ذلك كذلك، فأقل أمورهم أن يكون عليهم ما على الأجنبيين ولا بد.

2. أن المودع إذا سرق مما لم يودع عنده لكن من مال لمودع آخر في حرزه، وأن المأذون له في الدخول لو سرق من مال محرز عنه للمدخول عليه الإذن له في الدخول لوجب القطع عليهما عندهم بلا خلاف، فيلزمهم بهذا التشبيه بالضد أن لا يسقطوا القطع عن الزوجين فيما سرق أحدهما من الآخر إلا فيما اؤتمن عليه، ولم يحرز منه، وإن لم يجب القطع على كل واحد منهما فيما لم يأمنه صاحبه عليه، وأحرز عنه، كالمودع والمأذون له في الدخول ولا فرق.

3. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلق يدها على ما لا حق لها فيه من مال زوجها، ولا على أكثر من حقها.

4. أن إباحة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لأخذ الحق والمباح ليس فيه دليل أصلا على إسقاط حدود الله تعالى على من أخذ الحرام غير المباح.

5. أنه لو جاز ذلك لكان شرب العصير الحلال مسقطا للحد عنه، إذا تعدى الحلال منه إلى المسكر الحرام، ولا فرق بين الأمرين، فإذ ذلك كذلك فلها ما أخذت بالحق، وعليها ما افترض الله

6.

__________

(1) المحلى:12/ 340.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (321)

7. تعالى من القطع فيما أخذت بوجه السرقة للحق الواجب حكمه، وللمباح حكمه، وللباطل المحرم حكمه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق:1)

8. أن الله تعالى لم يخص إذ أمر بقطع السارق والسارقة، لا أن تكون زوجة من مال زوجها، ولا يكون زوج من مال زوجته.

القول الثالث: أن الزوج يقطع بسرقة مال الزوجة، لأنه لا حق له فيه، ولا تقطع بسرقة ماله، لأن لها النفقة فيه، وهو قول للشافعية، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أن الرجل لا حق له في مال المرأة أصلا، فوجب القطع عليه إذا سرق منه شيئا، لأنه في ذلك كالأجنبي.

2. أن المرأة لها في ماله حقوقا من: صداق، ونفقة، وكسوة، وإسكان، وخدمة، فكانت بذلك كالشريك.

3. أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهند بنت عتبة إذ أخبرته أن أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها وولدها، فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (1)، فقد أطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدها على مال زوجها تأخذ منه ما يكفيها وولدها، فهي مؤتمنة عليه كالمستودع، ولا فرق.

4. أن الزوج بخلاف ذلك، لأن الله تعالى قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (النساء:20) وقال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4)، فبين الله تعالى تحريم القليل من مالها والكثير عليه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن حصول السرقة بين الزوجين من الكبائر التي لا تقل في جرمها عن سرقة الأجانب إن لم تكن أشد منها، ولكن الحد مع ذلك يمكن أن يدرأ عنهما

__________

(1) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (322)

لوجود الشبهة، وقد ورد في درء الحدود بالشبهات الأدلة الكثيرة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا) (1)

وهو لا يعني عدم العقوبة، ولا تخفيفها، وإنما يعني تغييرها بحسب ما يراه الإمام، لأن عقوبة القطع في هذه الحالة لا يستضر بها الجاني فقط، بل يستضر بها المجني عليه أيضا، فالمرأة تتضرر بقطع يد زوجها، والزوج كذلك، وربما أدى ذلك إلى التفريق بينهما.

والشرع في أحكام القطع العادية لم يجعل الضرر إلا على الجاني فقط، فلذلك وجد الاختلاف بين الحالتين، فلا يصح تعميم الحالة، أما ما ورد من النصوص، فإن النصوص مخصصة بأحوال كثيرة.

لكن مع ذلك للإمام أن يقطع في بعض الأحوال إذا كان المبلغ المسروق عظيما وبدون حاجة، أو رأى التساهل في هذا الأمر بين الناس، فيحتاج إلى ردعهم بإقامة هذا الحد عليهم لأن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة، والأولى كما ذكرنا سابقا الجمع بينهما، بتطبيق عقوبة أخرى رادعة.

الحالة الثالثة تجهيز البيت من مال الزوجة

يقصد بالتجهيز في عرف الفقهاء ما تزف به المرأة إلى بيت الزوجية من متاع، كفراش وغطاء، ولباس أو ما يملكها إياه زوجها، ويطلق عليه أيضا فقها وعرفا [الشورة (2)]، وقد اختلف الفقهاء

__________

(1) ابن ماجة:2/ 850.

(2) الشورة في اللغة: الحسن والجمال، والهيئة، واللباس. وقيل: الشورة بالضم: الهيئة والجمال، والشورة بالفتح: اللباس، ففي الحديث:) أنه أقبل رجل وعليه شورة حسنة (. قال ابن الأثير: الشورة بالضم: الجمال والحسن، كأنه من الشور وهو عرض الشيء وإظهاره. ويقال لها أيضا: الشارة وهي الهيئة، انظر: النهاية في غريب الحديث:2/ 508، لسان العرب:4/ 435.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (323)

في من يجب عليه هذا الجهاز، هل المرأة، أم وليها (1)، أم الزوج وبناء، فإن لهذا الاختلاف علاقة بهذه الحالة، لأنه تصرف في مال الزوجة عن طريق إلزامها بشراء شيء، وإلزام الغير بشيء نوع من التصرف فيه، وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: عدم إجبار المرأة على الجهاز، فلا تجبر هي ولا غيرها على التجهيز، وهو قول الشافعية والحنابلة والإمامية والظاهرية، قال ابن حزم: (ولا يجوز أن تجبر المرأة على أن تتجهز إليه بشيء أصلا، لا من صداقها الذي أصدقها، ولا من غيره من سائر مالها، والصداق كله لها تفعل فيه كله ما شاءت، لا إذن للزوج في ذلك، ولا اعتراض (2)، ومن الأدلة على ذلك:

1. قول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4)،فافترض الله عز وجل على الرجال أن يعطوا النساء صدقاتهن نحلة، ولم يبح للرجال منها شيئا إلا بطيب أنفس النساء.

2.

3.

__________

(1) اختلف الفقهاء في تملك المرأة الجهاز، إذا كان الأب هو الذي قام بالتجهيز على قولين:

القول الأول: اعتبار الصيغة، وهو قول الشافعية، فلا تملك الزوجة الجهاز إلا بتمليك لها بصيغة، كأن يقول: هذا جهاز بنتي فيكون إقرارا بالملك لها، وإلا فهو عارية. ويصدق بيمينه إذا ادعاه في حياتها أو بعد موتها،

القول الثاني:: اعتبار العرف، فإذا جهز الأب ابنته من ماله دون أن يصرح أن هذا منه هبة لها أو عارية منه لها، وادعى بعد نقل الجهاز إلى دار الزوج أنه كان عارية. وادعت أنه كان تمليكا بالهبة فالقول قولها إذا كان العرف يشهد بأن هذا الجهاز المتنازع عليه يقدمه الأب لابنته هبة منه. وإن كان العرف جاريا بأن الأب يقدمه عارية فالقول قول الأب. وإن كان العرف متضاربا فالقول قول الأب إذا كان الجهاز من ماله. أما إذا كان مما قبضه من مهرها فالقول قولها ; لأن الشراء وقع لها حيث كانت راضية بذلك، وهو بمنزلة الإذن منها، وهو قول الحنفية، وقريب منه قول الحنابلة، فقد نصوا على أن تجهيز الأب ابنته أو أخته بجهاز إلى بيت زوجها تمليك، انظر: مواهب الجليل:3/ 523، تحفة المحتاج:8/ 319، مجمع الضمانات:342..

(2) المحلى:9/ 108.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (324)

4. أن الله تعالى قد أوجب للمرأة حقوقا في مال زوجها - أحب أم كره - وهي الصداق، والنفقة، والكسوة، والإسكان، ما دامت في عصمته والمتعة إن طلقها، ولم يجعل للزوج في مالها حقا أصلا، لا ما قل ولا ما كثر.

القول الثاني: لزوم التجهيز، وهو قول المالكية والحنفية، وقد اختلفوا فيمن يلزم بالتجهيز، وفي ذلك بعض التفاصيل، نلخصها فيما يلي:

مذهب المالكية (1): إذا قبضت الحال من صداقها قبل بناء الزوج بها، فإنه يلزمها أن تتجهز به على العادة من حضر أو بدو، حتى لو كان العرف شراء دار لزمها ذلك، ولا يلزمها أن تتجهز بأزيد منه. ومثل حال الصداق ما إذا عجل لها المؤجل وكان نقدا، وإن تأخر القبض عن البناء لم يلزمها التجهيز سواء أكان حالا أم حل، إلا لشرط أو عرف، والأب إذا زوج ابنته البكر وكان متسع الحال، فإنه لا يلزمه تجهيز ابنته من ماله، وإنما يجهزها من صداقها خاصة، كما قال ناظمهم:

والأب لا يقضي اتساع حاله... تجهيزه لابنته من ماله

أما إن كانت ثيبا فإن القاضي لا يلزمها أن تتجهز بغير صداقها، بل بصداقها خاصة، وأما بغيره، فلا يلزم لكن يستحب، وقد قال في ذلك الناظم:

وبسوى الصداق ليس يلزم... تجهز الثيب من يحكم

قال المتيطي: وإذا قبضت المرأة نقدها من زوجها أو قبضه وليها فمن حق الزوجة أن تتجهز به إليه هذا هو المشهور من مذهب مالك وجميع أصحابه حاشا ابن وهب.

وفي المذهب رواية أخرى أطلق عليها ميارة (شاذة غريبة)، وهي أنه ليس على المرأة تجهيز بصداقها، فأحرى بما سواه، ورواية أخرى أنها تتجهز بالصداق خاصة، قال ابن عرفة: المشهور وجوب تجهيز الحرة بنقدها العين.

__________

(1) شرح ميارة:1/ 177، فتح العلي المالك:1/ 413، حاشية الدسوقي:2/ 322، منح الجليل:3/ 485، التاج والإكليل:3/ 425.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (325)

ويشترى من الجهاز عندهم الآكد فالآكد عرفا من فرش ووسائد وثياب وطيب وخادم إن اتسع لها، وما أحله بعد البناء، فلا حق للزوجة في التجهيز به.

مذهب الحنفية (1): أنه لو زفت الزوجة إلى الزوج بلا جهاز يليق به فله مطالبة الأب بالنقد، إلا إذا سكت طويلا فلا خصومة له، ولا يرجع على الأب بشيء، لأن المال في النكاح غير مقصود، وهذا يدل على أن الأب هو الذي يجهز، لكن هذا إذا كان هو الذي قبض المهر، فإن كانت الزوجة هي التي قبضته فهي التي تطالب به على القول بوجوب الجهاز، وهو بحسب العرف والعادة.

ومن الأدلة على ذلك (2):

1. قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء:34)

2. أن الشرع اعتبر الزواج لمالها ولم ينفه قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تنكح المرأة لمالها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يمينك (3)

3. أن رجلا خطب إلى رجل ابنته من امرأة عربية فأنكحها إياه فبعث إليه بابنة له أخرى أمها أعجمية، فلما دخل بها علم بعد ذلك فأتى معاوية فقص عليه؟ فقال: معضلة ولا أبا حسن - وكان علي حربا لمعاوية - فقال الرجل لمعاوية فأذن لي أن آتيه؟ فأذن له معاوية، فأتى الرجل علي بن أبي طالب فقال: السلام عليك يا علي، فرد عليه السلام، فقص عليه القصة؟ فقضى علي على أبي الجارية بأن يجهز ابنته التي أنكحها إياه بمثل الصداق الذي ساق منها لأختها بما أصاب من فرجها، وأمره أن

4.

__________

(1) البحر الرائق:4/ 193.

(2) هذه الأدلة ذكرها ابن حزم نقلا عن بعض المالكية، ولم نجدها في المصادر المعروفة، انظر: المحلى:9/ 508.

(3) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (326)

5. لا يمس امرأته حتى تنقضي عدة أختها.

6. عن إبراهيم النخعي أن رجلا تزوج جارية فأدخل عليه غيرها؟ فقال إبراهيم: للتي دخل بها الصداق الذي ساق، وعلى الذي غره أن يزف إليه امرأته بمثل صداقها.

7. عن أنس في خطبة علي لفاطمة، أن عليا باع درعه بأربعمائة وثمانين قال: فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضعتها في حجره فقبض منها قبضة فقال: يا بلال أبغنا بها طيبا، وأمرهم أن يجهزوها، قال: فجعل لنا سرير مشروط بالشرط ووسادة من أدم حشوها ليف وملء البيت كثيبا.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أنه لا يجوز تكليف الزوجة في مالها بشيء، لصراحة النص القرآنية في ذلك، وهو ما تقدم من قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4)، فلا يجوز أن يؤخذ من مال الزوجة تحت أي اسم ما لم يكن بطيب نفسها، فلذلك تكليفها بما جرى عليه العرف من الجهاز ونحوه والتغالي فيه لا يصح، وهو مخالف للنص القرآني مخالفة ظاهرة، بل مخالف لكل النصوص التي تحرم أكل أموال الناس بالباطل.

والواجب في هذه الحالة أن لا يترك الأمر للعرف، لأن العرف ليس شرعا، وقد يرتكب باسم العرف ما يلغي الشرع، بل إن الكثير من الانتهاكات لحقوق المرأة لا تجري باسم الشرع بقدر ما تجري باسم العرف الذي أريد له أن يصير شرعا، فالشريعة رحمة كلها عدل كلها.

فإذا ما أريد لهذا العرف أن يؤسس تأسيسا صحيحا، فإن المرأة تعرف بحقها في مالها، وبأنه لا حق لأحد في التصرف فيه، وأن ما يسمى الجهاز مسؤولية زوجها، بسبب قوامته عليها، وأنه لا مسؤولية لها في ذلك، وأن مهرها لها، تشتري به ما تشاء، وتتصرف فيه كما تحب، فإذا ما أخبرت بذلك، ثم طابت نفسها، وتنازلت عن بعض مهرها لتشتري به جهازها دون أن ترغم على ذلك لا نفسيا ولا اجتماعيا، فحينذاك يمكن اعتبار جهازها من مالها من الحلال الصرف.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (327)

أما ما ستدل به بعض المالكية من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لحسنها، ومالها، وجمالها، ودينها - فاظفر بذات الدين تربت يداك) (1) فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر أن تنكح لمالها، ولا ندب إلى ذلك، ولا صوبه، بل إنما أورد ذلك إخبارا عن فعل الناس فقط، قال ابن حزم: (وهذه أفعال الطماعين المذموم فعلهم في ذلك بل في الخبر نفسه الإنكار لذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاظفر بذات الدين)، فلم يأمر بأن تنكح بشيء من ذلك إلا للدين خاصة، لكن الواجب أن تنكح المرأة الزوج لماله، لأن الله تعالى أوجب لها الصداق عليه والنفقة والكسوة (2).

الحالة الرابعة ـ انتفاع الزوج بجهاز الزوجة

اختلف الفقهاء في حكم انتفاع الزوج بجهاز الزوجة على قولين:

القول الأول: ليس للزوج الانتفاع بما تملكه الزوجة من متاع كالفراش، والأواني، وغيرها بغير رضاها، سواء ملكها إياه هو، أم ملكته من طريق آخر، وسواء قبضت الصداق، أم لم تقبضه، ولها حق التصرف فيما تملكه بما أحبت من الصدقة، والهبة، والمعاوضة، ما لم يعد ذلك عليها بضرر، وهو قول جمهور الفقهاء، قال ابن نجيم: (إن كان لها أمتعة فلا يلزمها أن تلبس متاعها، ولا أن تنام على فراشها، فبالأولى أن لا يلزمها أن تفرش متاعها لينام عليه أو يجلس عليه، ومنها أن أدوات البيت كالأواني ونحوها على الرجل.. والحاصل أن المرأة ليس عليها إلا تسليم نفسها في بيته وعليه جميع ما يكفيها بحسب حالهما من أكل وشرب ولبس وفرش ولا يلزمها أن تستمتع بما هو ملكها ولا أن تفرش له شيئا من فراشها) (3)

ثم قال معقبا على هذا التشديد على الزوج: (وإنما أكثرنا من هذه المسائل تنبيها للأزواج لما نراه في زماننا من تقصيرهم في حقوقهن، حتى أنه يأمرها بفرش أمتعتها جبرا عليها، وكذلك لأضيافه

__________

(1) سبق تخريجه.

(2) المحلى:9/ 508.

(3) البحر الرائق:4/ 194.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (328)

وبعضهم لا يعطي لها كسوة حتى كانت عند الدخول غنية صارت فقيرة، وهذا كله حرام لا يجوز، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)

القول الثاني: إن قبضت الزوجة صداقها فللزوج التمتع بشورتها فيلبس من الثياب ما يجوز له لبسه، وله النوم على فراشها، والانتفاع بسائر الأدوات التي تملكها، ولو بغير رضاها. سواء تمتع بالشورة معها أو وحده وتمتعه بشورتها حق له، فله منعها من التصرف بها بما يزيل الملك، كالمعاوضة، والهبة والصدقة، لأن ذلك من شأنه أن يفوت عليه حق التمتع بها، أما إذا لم تقبض صداقها، وإنما تجهزت من مالها فليس له عليها إلا الحجر عن التصرف بما يزيل الملك، فله أن يمنعها من بيعها، وهبتها، والتصدق بها، والتبرع بأكثر من الثلث، وهو قول المالكية، وقد سبقت الإشارة إلى نوع أدلتهم في مثل هذه المسائل، وهو أن للزوج نوعا من الحق في مال زوجته.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة ما ذكرناه سابقا من أنه لا يجوز للزوج الانتفاع بشيء من مال زوجته مهما كانت صورته إلا برضا نفسها من غير استشراف منه.

ونرى للزوجة من حسن العشرة أن تتيح لزوجها من متاعها، بحيث لا تفرق بينها وبينه في ذلك، فليس الزوجان إلا شخصا واحدا، ومن القبيح أن يكون لكل منهما متاعه الخاص، فالعشرة الزوجية لا تحكمها القوانين بقدر ما تحكمها المودة والرحمة.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (329)

الفصل الرابع

حق الزوجة في العشرة الحسنة

نتناول في هذا الفصل ما يطلق عليه الفقهاء بالمعاشرة بالمعروف، ويجعلونه ضمن الحقوق المشتركة بين الزوجين، ولا يطيل الفقهاء عادة الحديث عنه، ولكنا رأينا ضرورة الحديث عن هذا الجانب لتوقف كمال الحياة الزوجية عليه، بل لا تصح بدونه.

وسيكون معظم كلامنا في هذا الفصل مسنتبطا من كلام المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وسنته العطرة، ولن نخوض كثيرا في الخلافات الفقهية إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، لأن معظم ما سيرد في هذا الفصل من القطعي المتفق على القول به، ونعتذر مسبقا منه صلى الله عليه وآله وسلم إن أسأنا فهم حديث أو أسأنا عرض صورته صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، فهو أشرف وأجل من أن يعبر عنه لسان أو يحد صفاته قلم.

وقد رأينا انطلاقا من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21) أن العشرة الزوجين تقوم على أساسين هما:

المودة: والتي تربط بين الزوجين، فتملأ حياتهما بالسعادة والسرور، وهو مقصد من مقاصد الزواج الكبرى كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا نظر إليها سرته) (1)

الرحمة: والتي تتعالى على المصالح الشخصية والأهواء الذاتية، فتغلب المصلحة العامة على الأذواق المتقلبة.

وقد أردنا من هذا الفصل أن نبين الأسباب والوسائل التي تؤدي إلى تحقيق ذينك الأساسين في حياة الأسرة المسلمة.

__________

(1) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (330)

وقبل أن ندخل في مباحث هذا الفصل نقدم تمهيدا يعرف العشرة الزوجية، ويبين حكمها، والأسس الأخلاقية العامة التي تقوم عليها:

يراد بالعشرة في الاصطلاح الشرعي: ما يكون بين الزوجين من الألفة والانضمام (1)، أو هي الأخلاق التي تقتضيها المخالطة بين الزوجين.

والمعاني اللغوية والاستعمال الشرعي له يدل على هذا، فقد ورد في القرآن الكريم فقد قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء:19)، قال ابن العربي: (حقيقة [عشر] في العربية الكمال والتمام، ومنه العشيرة، فإنه بذلك كمل أمرهم وصح استبدادهم عن غيرهم، وعشرة تمام العقد في العدد، ويعشر المال لكماله نصابا، فأمر الله سبحانه الأزواج إذا عقدوا على النساء أن يكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على التمام والكمال، فإنه أهدأ للنفس، وأقر للعين، وأهنأ للعيش) (2)

ومع صراحة الأمر القرآني والنصوص النبوية على لزوم المعاشرة بالمعروف إلا أن من الفقهاء من نصوا على أن العشرة بالمعروف بين الزوجين مندوبة ومستحبة، وهو قول حكي عن الحنفية والحنابلة، قال الكاساني: (من أحكام النكاح الصحيح المعاشرة بالمعروف، وأنه مندوب إليه ومستحب، وكذلك من جانبها هي مندوبة إلى المعاشرة الجميلة مع زوجها) (3)

لكنهم مع ذلك، ومن حيث الواقع يقولون بالوجوب، فقد اعتبروا ضررها سببا لتدخل القاضي، قال الكاساني عند ذكره صور سكن المرأة: (ولو كانت في منزل الزوج وليس معها أحد يساكنها، فشكت إلى القاضي أن الزوج يضربها ويؤذيها، سأل القاضي جيرانها فإن أخبروا بما قالت، وهم قوم صالحون فالقاضي يؤدبه ويأمره بأن يحسن إليها ويأمر جيرانه أن يتفحصوا عنها، وإن لم يكن الجيران قوما صالحين أمره القاضي أن يحولها إلى جيران صالحين فإن أخبروا القاضي بخلاف ما قالت،

__________

(1) الموسوعة الفقهية:30/ 119.

(2) أحكام القرآن لابن العربي: 1/ 648.

(3) بتصرف بسيط، انظر: بدائع الصنائع:2/ 334.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (331)

أقرها هناك ولم يحولها) (1)

واستنادا إلى أمر الله تعالى بالمعاشرة بالمعروف، فقد ذكر العلماء كثيرا من مظاهر المعاشرة بالمعروف، منها ما يتعلق بالحقوق المادية للزوجة من المهر والنفقة، ومنها ما يتعلق بالحقوق المعنوية، وقبل أن نحاول حصر الأسس التي تقوم عليها المعاشرة بالمعروف، نعرض بعض كلامهم هنا لنستنبط منه تلك الأسس.

قال الجصاص: ومن المعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم، وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراض عنها، والميل إلى غيرها، وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب، وما جرى مجرى ذلك) (2)

قال الشافعي: وأقل ما يجب في أمره بالعشرة بالمعروف أن يؤدي الزوج إلى زوجته ما فرض الله لها عليه من نفقة وكسوة وترك ميل ظاهر فإنه يقول تعالى: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء:129)، وجماع المعروف إتيان ذلك بما يحسن لك ثوابه وكف المكروه (3).

وقال الشافعي في موضع آخر: وجماع المعروف بين الزوجين كف المكروه، وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته فأيهما مطل بتأخيره فمطل الغني ظلم (4).

وقال مالك: ينبغي للرجل أن يحسن إلى أهل داره حتى يكون أحب الناس إليهم، قال في المختصر: وهو في سعة من أن يأكل من طعام لا يأكل منه عياله، ويلبس ثيابا لا يكسوهم مثلها، ولكن يكسوهم ويطعمهم منه وأكره أن يسأل الرجل عما أدخل داره من الطعام، ولا ينبغي أن يفاحش المرأة

__________

(1) بدائع الصنائع:4/ 23.

(2) الجصاص:2/ 157.

(3) الأم:5/ 114.

(4) أحكام القرآن للشافعي:1/ 204.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (332)

ولا يكثر مراجعتها ولا تردادها (1).

وقال السيد السبزواري: (إن لهن من الحقوق فيما تعارف بين الناس على الرجال مثل ما للرجال عليهن. ولم يذكر سبحانه وتعالى ما هو الثابت على كل واحد منهما، وإنما أوكله إلى ما تعارف عليه الناس، ليشمل جميع ما يتعلق بحسن المعاشرة والخلق الحسن، وما ورد في الشرع وما يحكم به العقل، فإن جميع ذلك من المعروف. وقد كرر سبحانه وتعالى هذا اللفظ في الآيات المتعلقة بالنكاح والطلاق اثنتي عشرة مرة لبيان أن جميع ذلك من سنن الفطرة، وشؤون المجتمع الإنساني، وهي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والمجتمعات) (2)

انطلاقا من هذا، فإن لحسن العشرة ـ إذا ما استثنينا الحقوق المادية التي سبق ذكرها ـ ركنان أساسيان لا نستنبطها فقط من كلام الفقهاء، بل نجدها في القرآن الكريم والسنة صريحة لا تحتمل خلافا، مفصلة لا يشوبها إبهام.

وقد وردت الإشارة إلى هذين الركنين في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمِنْ ءايَتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21)

فقد ذكرت الآية، وهي تعرض نعم الله على عباده أن الله تعالى جعل بين الزوجين المودة والرحمة، وقد قيل في معناهما أقوال كثيرة، ابتعد بعضها حين حصرها فقال (3): مودة بالمجامعة، ورحمة بالولد، واستدل بقوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (مريم: 2)، وهذا القائل إن أراد التمثيل، فلا حرج في ذلك، والمثال صحيح، لكنه إن أراد الحصر، فهو بعيد لا يساعده عليه اللفظان

__________

(1) المنتقى:7/ 212.

(2) السبزواري: السيد عبد الأعلى/ مواهب الرحمن في تفسير القرآن ج 4 ص 10.

(3) روي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقاله الحسن، وروي عن ابن عباس أيضا قوله: المودة حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء، القرطبي:14/ 17، وهذا القول أشمل.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (333)

لا من ناحية اللغة، ولا من ناحية الشرع، وقد قال الألوسي: (وكون المودة بمعنى المحبة، كناية عن النكاح أي الجماع للزومها له ظاهر، وأما كون الرحمة كناية عن الولد للزومها له، فلا يخلو عن بعد) (1)

ومن الأقوال القريبة المحصورة أن المودة للشابة، والرحمة للعجوز، أو المودة للكبير والرحمة للصغير.

ومن أحسن ما قيل في تفسير المودة والرحمة، ما ذكره الفخر الرازي عن بعضهم قال: المحبة حالة حاجة نفسه، ورحمة حالة حاجة صاحبه إليه، وهذا لأن الإنسان يحب مثلاً ولده، فإذا رأى عدوه في شدة من جوع وألم قد يأخذ من ولده ويصلح به حال ذلك، وما ذلك لسبب المحبة وإنما هو لسبب الرحمة.

أو أن الله تعالى ذكر ههنا أمرين أحدهما: يفضي إلى الآخر، فالمودة تكون أولاً، ثم إنها تفضي إلى الرحمة، ولهذا فإن الزوجة قد تخرج عن محل الشهوة بكبر أو مرض ويبقى قيام الزوج بها رحمة بها.

والنص القرآني يحتمل مع هذه التفاسير جميعا التعبير عن الأسس التي تقوم عليها العشرة الزوجية، مع الصغيرة والكبيرة، والولود والعقيم، فالمودة لها جوانبها الخاصة في هذه العشرة والرحمة لها جوانبها كذلك الخاصة بها، فلا ينفي أحدهما الآخر.

وللأسف، فإن هذا العصر الذي ارتدت فيه البشرية على أعقابها إلى الجاهلية الأولى يجري التركيز على الحب، ويعبد كصنم من دون الله، وتعزل الرحمة كليا عن هذا الحب، فيتحول إلى ماخور للانحرافات، فيأتي النص القرآني ليبين حاجة الحب إلى الرحمة، فالحب حظ النفس، والرحمة حظ القلب الحي، ولذة الحب قاصرة على المحب، ونعمة الرحمة متعدية إلى غيره.

يقول سيد قطب مبينا الفرق بين المنهج الإيماني الذي تراعى فيه مصالح المحب والمحبوب، وبين المناهج الأخرى التي تقدم الهوى على المسؤولية، (كثيرون يحسبون أن التقيد بمنهج الله -

__________

(1) روح المعاني:21/ 32.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (334)

وبخاصة في علاقات الجنسين - شاق مجهد. والانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات ميسر مريح وهذا وهم كبير، فإطلاق الشهوات من كل قيد؛ وتحري اللذة - واللذة وحدها - في كل تصرف؛ وإقصاء الواجب الذي لا مكان له إذا كانت اللذة وحدها هي الحكم الأول والأخير؛ وقصر الغاية من التقاء الجنسين في عالم الإنسان على ما يطلب من مثل هذا الالتقاء في عالم البهائم؛ والتجرد في علاقات الجنسين من كل قيد أخلاقي، ومن كل التزام اجتماعي، إن هذه كلها تبدو يسرا وراحة وانطلاقا، ولكنها في حقيقتها مشقة وجهد وثقلة، وعقابيلها في حياة المجتمع - بل في حياة كل فرد - عقابيل مؤذية مدمرة ماحقة) (1)

والواقع خير دليل على ذلك، فإن ما ينتشر الآن من أفكار وما ينطلق منها من سلوكات تحارب الزوجة بالحبيبة، وتحارب المسؤولية بالهوى، وتحارب المصالح العامة بالأهواء شخصية، قد نشأت عنه، وستنشأ من الدمار بالإنسان وبالأسرة التي هي مهد الإنسان ما لا يمكن تصوره.

فقد حصل مثل هذا أو قريب منه في المجتمعات الجاهلية الأولى فقد (كانت فوضى العلاقات الجنسية هي المعول الأول الذي حطم الحضارات القديمة، حطم الحضارة الإغريقية وحطم الحضارة الرومانية وحطم الحضارة الفارسية، وهذه الفوضى ذاتها هي التي أخذت تحطم الحضارة الغربية الراهنة) (2)

ولا بأس أن نذكر هنا أمثلة واقعية عن حاجة الحب إلى الرحمة في المجتمعات التي أرهقتها الجاهلية فحرفت كل المعاني النبيلة، فقد كتب بول بيورو يصف الواقع الفرنسي: (من العادة الجارية في طبقة العاملين في فرنسا أن المرأة منهم تأخذ من خدنها ميثاقا قبل أن يعقد بينهما النكاح، أن الرجل سيتخذ ولدها الذي ولدته قبل النكاح ولدا شرعيا له، وجاءت امرأة في محكمة الحقوق بمدينة سين فصرحت: إنني كنت قد آذنت بعلي عن النكاح بأني لا أقصد بالزواج إلا استحلال الأولاد الذين

__________

(1) في ظلال القرآن:1/ 632.

(2) في ظلال القرآن:1/ 632.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (335)

ولدتهم نتيجة اتصالي به قبل النكاح، وأما أن أعاشره وأعيش معه كزوجة، فما كان في نيتي عند ذاك، ولا هو في نيتي الآن، ولذلك اعتزلت زوجي في أصيل اليوم الذي تم فيه زواجنا، ولم ألتق به إلى هذا اليوم، لأني كنت لا أنوي قط أن أعاشره معاشرة زوجية) (1)

وكأن هذا النص يعبر عما مر في تفسير الآية من أن الحب هو الجماع، والرحمة هي الولد، فهؤلاء يرضون بالحب بهذا المعنى الهابط، ويتبرؤون من الرحمة لأنها ترهقهم بالتكاليف.

وقد يقال بعد هذا: إن القرآن الكريم ذكر هذين الركنين في معرض امتنانه على عباده بنعمه (2)، فكيف يصح اعتبارهما ركنين، ثم نكلف العمل على تحقيقهما، والنعمة لا يكلف بها، والجواب على ذلك، أن الرزق نعمة من الله، ومع ذلك نكلف بالسعي في تحصيله، فكذلك المودة والرحمة من الله، وكونهما من الله تعالى لا ينفي على العبد التكليف، لأن تحقيق التكليف مناط بالتوفيق الإلهي.

أولا ـ المودة الزوجية مراتبها وأسبابها

المودة والحب من الأحوال القلبية التي قد لا تسعف العبارة عن التعبير عنها، فلذلك كانت

__________

(1) نقلا عن: في ظلال القرآن:1/ 634.

(2) من التوجيهات التي ذكرت لهذه النعمة ما ذكره الفخر الرازي بقوله: الإنسان يجد بين الزوجين من التراحم ما لا يجده بين ذوي الأرحام، وليس ذلك بمجرد الشهوة، فإنها قد تنتفي وتبقى الرحمة فهو من الله، ولو كان بينهما مجرد الشهوة، والغضب كثير الوقوع، وهو مبطل للشهوة، والشهوة غير دائمة في نفسها، لكان كل ساعة بينهما فراق وطلاق، فالرحمة التي بها يدفع الإنسان المكاره عن حريم حرمه هي من عند الله ولا يعلم ذلك إلا بفكر.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (336)

أكثر التعريفات للحب تغلب عليها الشاعرية أكثر مما تغلب عليها الأجناس والأنواع (1)، ولكن للغزالي مع ذلك نصا مهما يرجع إليه كل من تحدث عن الحب، وهو وإن كان مورده في حب الله، إلا أن التعريف يستقيم مع أي حب.

وسنلخص هنا كلام الغزالي لأهميته، ولافتقار ما سنتحدث عنه في هذا المبحث لهذا التعريف.

قال الغزالي: (أوّل ما ينبغي أن يتحقق؛ أنه لا يتصور محبة إلا بعد معرفة وإدراك، إذ لا يحب الإنسان إلا ما يعرفه، ولذلك لم يتصورّ أن يتصف بالحب جماد، بل هو من خاصية الحي المدرك، ثم المدركات في انقسامها تنقسم إلى ما يوافق طبع المدرك ويلائمه ويلذه، وإلى ما ينافيه وينافره ويؤلمه، وإلى ما لا يؤثر فيه بإيلام وإلذاذ، فكل ما في إدراكه لذة وراحة فهو محبوب عند المدرك، وما في إدراكه ألم هو مبغوض عند المدرك، وما يخلو عن استعقاب ألم ولذة لا يوصف بكونه محبوباً ولا مكروهاً.

فالمحبة إذن نوع من الإدراكات، ولكن ما الذي يميز إدراك المحبة عن غيره، يجيب الغزالي على ذلك بأن المحبة إدراك ما فيه لذة، لأن كل لذيذ محبوب عند الملتذ به، ومعنى كونه محبوباً أن في الطبع ميلاً إليه، ومعنى كونه مبغوضاً أن في الطبع نفرة عنه.

وانطلاقا من هذا أورد الغزالي هذا التعريف للحب، فقال: (الحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ، فإن تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقاً، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب، فإذا قوي سمي مقتاً) (2)

1 ـ مراتب المحبة الزوجية وأحكامهأ

__________

(1) لم نكن بحاجة إلى هذا التعريف الاصطلاحي للمحبة في مفهومنا الإسلامي لولا أن العالم الآن يكاد يجمع على تفسير آخر للحب يجعله تعبيرا عن الممارسة الجنسية مهما كان نوعها، فلذلك أوردنا هذا التعريف حتى ننفي ما قد يرد على الذهن.

(2) الإحياء: 4/ 296.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (337)

تحدثنا في الجزء الأول من هذه السلسلة عن أولوية اختيار من يريد الزواج من تعلق بها قلبه، وشعر بمحبته لها، وقد تحدثنا هناك عن أنواع الحب من تلك الحيثية، وفي هذا المطلب، نتحدث عن الحب، ومراتبه وما يتعلق بها من أحكام بعد حصول الزواج، فالحب في المفهوم الإسلامي إنما يستقر وينمو بعد الزواج، أما قبل الزواج، فقد يكون إعجابا أو حبا مبدئيا غايته الزواج، وقد يكون مرضا يعالج منه إن لم يتم على أساسه الزواج.

أما في المفاهيم غير الإسلامية، أوفي الواقع غير الإسلامي، فينتهي الحب عندهم بالزواج، فالزواج عندهم نعي الحب، ويوم تدخل الزوجة بيت الزوجية يبدأ البحث عن العشيقة والحبيبة والصديقة، ولا ضرر عندهم أن يصيب الحبيبة من القالة ما يشين عرضها لأن الحب في عرفهم يخلو من الرحمة.

أما الحب في المفهوم الإسلامي فيخالف ذلك تماما، بل هو يسمو إلى أن يصل الدرجات الرفيعة من التقرب إلى الله، فيصبح التقرب على أساس ذلك من الزوجة نوعا من التقرب إلى الله.

ويمكننا انطلاقا من هذا أن نصنف الحب المتعلق بالزوجة إلى ثلاثة أنواع، أو ثلاث مراتب تنزل من العلو الساحق لتنزل الحضيض الآسن، وهذه المراتب هي:

المرتبة الأولى الحب الإيماني

إن أساس المحبة الإيمانية هو حب الله تعالى، فمن تمكنت محبة الله في قلبه أوجبت أن يحب ما يحبه الله، فإذا أحب ما أحبه ربه كان ذلك الحب له وفيه، فإذا أحب من الزوجة ما يربطه بربه، ويصله به، فتصير الزوجة وسيلة إلى ذلك، فإن حبه لها حب في الله، قال الغزالي: (بل نزيد عليه ونقول: من نكح امرأة صالحة ليتحصن بها عن وسواس الشيطان ويصون بها دينه أو ليولد منها له ولد صالح يدعو له وأحب زوجته لأنها آلة إلى هذه المقاصد الدينية فهو محب في الله. ولذلك وردت الأخبار بوفور الأجر والثواب على الإِنفاق على العيال حتى اللقمة يضعها الرجل في في امرأته) (1)

__________

(1) الإحياء: 2/ 163.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (338)

وقال ابن القيم: (إن أحبها لله توصلا بها إليه واستعانة على مرضاته وطاعته أثيب عليها، وكانت من قسم الحب لله توصلا بها إليه، ويلتذ بالتمتع بها، وهذا حاله أكمل الخلق الذي حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، وكانت محبته لهما عونا له على محبة الله وتبليغ رسالته والقيام بأمره) (1)

وقد أجمع العلماء على أن هذا النوع من الحب هو أرفع المراتب، وهو حب الصديقين والسابقين، لأن الدين كله يدور على أربع قواعد: حب وبغض، ويترتب عليهما فعل وترك، فمن كان حبه وبغضه وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان، بحيث إذا أحب أحب لله، وإذا أبغض أبغض لله، وإذا فعل فعل لله، وإذا ترك ترك لله، وما نقص من أصنافه هذه الأربعة نقص من إيمانه ودينه بحسبه (2).

وهذا الإجماع يستند إلى النصوص الكثيرة الدالة على فضل الحب في الله، والتي لا تخصص رجلا ولا امرأة، ومن هذه النصوص، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) (3)، ففي هذا الحديث قيد صلى الله عليه وآله وسلم محبة من كمل إيمانهم بأنها لا تكون إلا لله.

قال ابن أبي جمرة معللا سبب جعل هذه الثلاثة علامات لكمال الإيمان: (وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانا لكمال الإيمان لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه، اقتضى ذلك أن

__________

(1) الروح:254.

(2) الروح:254.

(3) البخاري: 1/ 14، مسلم: 1/ 66، ابن حبان: 1/ 473، مجمع الزوائد: 1/ 88، النسائي: 6/ 527، ابن ماجة: 2/ 1338.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (339)

يتوجه بكليته نحوه: فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله. وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينا. ويخيل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار) (1)

وكل ما ورد في فضل الحب في الله لا يخصص رجلا ولا امرأة، ولا الحب بين الرجال فيما بينهم، ولا النساء فيما بينهم، أما ورود ذلك بصيغة المذكر، فهو على ما جرى لسان العرب من التعبير عن كل ما يشترك فيه الرجال والنساء بصيغة التذكير، والدليل على ذلك ما جاء في أحاديث أخرى كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله) (2)، فاعتبره عملا يصلح من الرجال والنساء.

ولا بأس أن نورد هنا للدلالة على فضل هذا الحب الرفيع حديثين إلهيين ذكرا نوعين من الجزاء لأصحابه، أحدهما دنيوي، والآخر أخروي، وكلاهما يعبر عن الدرجة الرفيعة لهذا الحب، أما الأول فقد عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين في) (3)، وأما الثاني، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) (4)

لا تتوقف الآثار العظيمة التي ينتجها هذا الحب على الإيمان، والجزاء الذي أعد الله لأصحابه، بل إنها تتعداه إلى العشرة الزوجية، فمن آثاره وبركاته عليها:

أ ـ الدوام على حسن العشرة

من أهم آثار المودة الزوجية، وهي من مقاصد الشريعة في الزواج، الحفاظ على العلاقة

__________

(1) نقلا عن: فتح الباري: 1/ 61 فيض القدير: 3/ 287.

(2) أبو داود: 4/ 198.

(3) ابن حبان: 2/ 335، الحاكم: 4/ 186، مسند الربيع: 46، الموطأ: 2/ 953.

(4) مسلم: 4/ 1988، ابن حبان: 2/ 334، الدارمي: 2/ 403، البيهقي: 10/ 232، الموطأ: 2/ 952.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (340)

الزوجية إلى انتهاء العمر، ولهذا كان الطلاق مبغوضا عند الله تعالى لما يؤدي إليه من قطع هذه العلاقة، وهذا الحب هو السبب الأكبر في حفظ هذه العلاقة، لأنه غير مرتبط بالمصالح الشخصية والأهواء.

ولهذا نرى المحبين بغير هذا النوع من الحب يشكون الخيانة وعدم الوفاء، وينقلب حبهم في أكثر الأحيان بغضا، وتستبدل الزوجة كما تستبدل الثياب، كلما اشترى ثيابا أجود طرح الثياب البالية، أما المتعالون عن الحظوظ البسيطة، فإن الحب يستقر ويستمر ويحفظ مهما تغيرت الأحوال، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يذكر خديجة ويثني عليها أحسن الثناء، حتى قالت عائشة: غرت يوما فقلت ما أكثر ما تذكر حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيرا منها، قال: (ما أبدلني الله خيرا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس) (1)

وفي هذا النوع من الحب لا يتغير حاله معها، وإن ارتفع شأنه وعظم جاهه، فالترفع بما يتجدد من الأحوال لؤم، وقد قال الشاعر:

إنَّ الكرامَ إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخَشِنِ

ولو نظرنا إلى الواقع لرأينا كيف يغير الكثير من الناس ـ ممن لا حظ لهم في هذا النوع من الحب ـ نساءهم، أو يرمونهن في سلة الإهمال كلما ترقوا في مراتب الدنيا غافلين عن كل لحظات الآمال التي كان يمدها بها صبر الزوجة ووفاؤها.

ومن أهم آثار هذا الحب كذلك، والتي تحفظ له جدته واستمراره أنه لا يرتبط بالأغراض، ولا الأحوال النفسية وتقلباتها، قال ابن القيم: (وعلامة هذا الحب والبغض في الله أنه لا ينقلب بغضه لبغيض الله حبا لإحسانه إليه وخدمته له وقضاء حوائجه، ولا ينقلب حبه لحبيب الله بغضا إذا وصل إليه من جهته ما يكرهه ويؤلمه، إما خطأ وإما عمدا، مطيعا لله فيه أو متأولا أو مجتهدا أو باغيا نازعا

__________

(1) أحمد:6/ 117، المعجم الكبير: 23/ 13، مجمع الزوائد: 9/ 224.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (341)

تائبا) (1)

وقال في موضع آخر: (فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة، وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب الشراب البارد الحلو ويحب الحلواء والعسل ويحب الخيل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله) (2)

ولذلك كان هذا الحب أرفع أنواع الحب في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تتحقق به المقاصد الشرعية من الحفاظ على الأسرة وعلى سعادة أفرادها في وجه كل الأعاصير والعواصف الدنيوية، وفي الآخرة ينال أصحابه الجزاء العظيم.

بل إن المودة الكاملة هي التي تثبت حتى بعد الموت، لأن المودة الزوجية ـ كما ذكرنا ـ نوع جليل من الحب في الله، وهو إنما يراد للآخرة، فإن انقطع قبل الموت حبط العمل وضاع السعي.

ب ـ تعديه إلى الأقارب والمعارف

وهي من مقاصد الشريعة كذلك من الزواج، لأن من مقاصده التواصل بين المسلمين، ولذلك اعتبر الأصهار من المحارم، وأوجب لهم حقوقا، ومثل هذا الحب يحفظ هذه العلاقات، فلا تقع الشحناء بين الزوجين وأهلهما، بل يعيشون في انسجام تام.

وقد عبر الغزالي عن تأثير المحبة في الله في جلب هذا الأثر المتعدي، فقال: (لا يدل على قوة الشفقة والحب إلا تعديهما من المحبوب إلى كل من يتعلق به، حتى الكلب الذي على باب داره، ينبغي أن يميز في القلب عن سائر الكلاب، ومهما انقطع الوفاء بدوام المحبة شمت به الشيطان، فإنه لا يحسد

__________

(1) الروح لابن القيم:254.

(2) إغاثة اللهفان: 2/ 140.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (342)

متعاونين على بر كما يحسد متواخيين في الله ومتحابين فيه، فإنه يجهد نفسه لإِفساد ما بينهما، قال الله تعالى {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} (الإسراء:53) وقال مخبراً عن يوسف عليه السلام: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (يوسف:100)) (1)

وما ذكره الغزالي من قوله (حتى الكلب الذي على باب داره ينبغي أن يميز في القلب عن سائر الكلاب) لا ينبغي أن يستغرب واقعا، فقد قال الشاعر:

رأى المجنون في البيداء كلبا فجر له من الإحسان ذيلا

فلاموه لذاك وعنفوه... وقالوا: لم أنلت الكلب نيلا؟

فقال: دعوا الملامة إن عيني رأته مرة في حي ليلى

المرتبة الثانية الحب الطبعي

عرف ابن القيم هذا النوع من المحبة بقوله: (هو المحبة الناشئة عن الشهوة الطبعية، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء) (2)، وعرفها الغزالي بقوله: (هو حبك الإِنسان لذاته) (3)، وعرف المناوي هذا النوع من العلاقة، فقال: (هو التشاكل المعنوي الموجب لاتحاد الذوق) (4)

وقد ذكر المناوي في هذا التعريف الأخير سبب هذا الحب وموجبه، وهو يتفق مع تعريف الغزالي، لأن كون الشيء في ذاته محبوباً، أي يلتذ برؤيته ومعرفته ومشاهدة أخلاقه لاستحسانه له، فكل جميل لذيذ في حق من أدرك جماله وكل لذيذ محبوب، واللذة تتبع الاستحسان والاستحسان يتبع المناسبة والملاءمة والموافقة بين الطباع.

__________

(1) الإحياء: 2/ 187.

(2) الروح: 254.

(3) الإحياء: 2/ 161.

(4) فيض القدير:1/ 553.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (343)

وأكثر ما يتسبب في هذا النوع من المحبة المناسبة التي توجب الألفة والموافقة، لأن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) (1)

فالتناكر نتيجة التباين والائتلاف نتيجة التناسب الذي عبر عنه بالتعارف، قال الشاعر معبرا عن هذا المعنى:

وقائلٍ كيف تفارقتما... فقلت قولاً فيه إنصافُ

لم يكُ من شكلي ففارقته والنَّاسُ أشكال وأُلاّفُ

وقد كان مالك بن دينار يقول: لا يتفق اثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر، وإن أجناس الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة، قال: فرأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك فقال: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثم طارا فإذا هما أعرجان فقال: من ههنا اتفقا.

ومما لا شك فيه أن هذا النوع من الحب لا يعتبر حبا في الله، بل هو حب بالطبع وشهوة النفس، فلذلك يمكن تصوره ممن لا يؤمن بالله، بخلاف الحب الأول الذي هو نتيجة لحب الله وأثر من آثاره، ولكن مع ذلك، فإنه ـ وإن كان دون الحب الأول ـ فهو حب مباح إلا إذا اتصل به غرض مذموم فإنه يصير مذموما بسببه، أما إن لم يتصل به غرض مذموم فهو مباح لا يوصف بحمد ولا ذم، ومع ذلك فقد قال الغزالي: (وإن أحبها لموافقة طبعه وهواه وإرادته ولم يؤثرها على ما يحبه الله ويرضاه بل نالها بحكم الميل الطبيعي كانت من قسم المباحات ولم يعاقب على ذلك ولكن ينقص من كمال محبته لله والمحبة فيه)

وآثار هذا الحب كثيرة، لعل أقلها فوات الأجر العظيم الذي أعد للمحبين في الله، وانشغال

__________

(1) البخاري:3/ 1213، مسلم:4/ 2031، ابن حبان: 14/ 42، الحاكم: 4/ 466، أحمد: 2/ 295، أبو داود:4/ 260.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (344)

القلب بحب غير الله، ومن الناحية الزوجية، أن هذا الحب يسرع إليه الملل، ويتناوله البغض، وتدب إلى أصحابه الخيانة، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، ومع هذه الآثار هناك آثار أخرى أشد خطرا، منها:

أ ـ التقصير في الواجبات الشرعية

لأن الواجبات الشرعية كثيرة، ومنها الواجبات المتعدية، ومنها فروض الكفاية، ومن هذه الواجبات ما يستلزم تغربا عن الأهل، فلذلك قد يقف مثل هذا الحب ـ بخلاف الحب أول ـ حائلا بينه وبين ذلك، وفي مثل هذا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (التغابن:14)، قال ابن عباس في بيان سبب نزولها: (هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، وهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن: 14) (1)

يقول مكارم الشيرازي معلقا على الآية: (حذر القرآن الكريم من مغبة الوقوع في الحب المفرط للأولاد والأموال، الذي قد يجر إلى عدم الطاعة لله ورسوله.. وهناك مظاهر عديدة لهذه العداوة، فأحيانا يتعلقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة، وأخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم، وما إلى ذلك. وليس كل الأولاد، ولا كل الزوجات كذلك، لهذا جاءت (من) التبعيضية، وتظهر هذه العداوة أحيانا بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة، وحينا آخر تظهر بسوء النية وخبث المقصد، وعلى كل حال فإن الإنسان يصبح على مفترق طريقين، فطريق الله وطريق الأهل والأزواج، ولا ينبغي أن يتردد الإنسان في اتخاذ طريق الله وإيثاره على غيره، ففيه النجاة والصلاح في الدنيا والآخرة) (2)

__________

(1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح الترمذي:5/ 419، وانظر: المعجم الكبير:11/ 175.

(2) تفسير الأمثل - مكارم الشيرزي:18/ 392.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (345)

وقد ورد في الحديث وصف دقيق للأسلوب الذي يتعامل به الشيطان مع الإنسان مستغلا هذا النوع من الحب الطبعي المركب على الشهوة: (إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن، ثم قعد له عن طريق الهجرة فقال له: أتهاجر وتترك مالك وأهلك فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له: أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد، فقتل فحق على الله أن يدخله الجنة) (1)

ب ـ المداهنة

وهي أخطر آثار هذا النوع من الحب، وبسببها انتشرت المحرمات، فهذا النوع من الحب الطبعي قد يؤدي بصاحبه إلى التغاضي عن الحرمات، فيصاب بالدياثة نتيجة تغليبه هواه على عقله، وحبه الطبعي على شرعه، وفي مثل هذا روي أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن عندي امرأة هي من أحب الناس إلي، وهي لا تمنع يد لامس، قال: طلقها، قال: لا أصبر عنها قال: استمتع بها (2).

وقد اختلف العلماء في توجيه هذا الحديث اختلافا شديدا (3)، وهو حديث الباب، يمكن تلخيصه في الوجهين التاليين:

__________

(1) ابن حبان: 10/ 453، النسائي: 3/ 15، المجتبى: 6/ 21، أحمد: 3/ 483، شعب الإيمان:4/ 21.

(2) رواه أبو داود والترمذي والبزار، ورجاله ثقات، وأطلق عليه النووي الصحة، لكنه نقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: لا يثبت عن النبي (في هذا الباب شيء، وليس له أصل فتمسك بهذا ابن الجوزي وعده في الموضوعات مع أنه أورده بإسناد صحيح، انظر: سبل السلام:3/ 195، البيهقي: 7/ 154، النسائي: 3/ 270، ابن أبي شيبة:3/ 490.

(3) انظر تفصيل الخلاف في الحديث: عون المعبود: 6/ 32، تلخيص الحبير:3/ 225، سبل السلام:3/ 195.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (346)

الوجه الأول: أن معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ترد يد لامس) معناه الفجور، وأنها لا تمتنع ممن يطلب منها الفاحشة، وبهذا قال أبو عبيد والخلال والنسائي وابن الأعرابي والخطابي والغزالي والنووي.

الوجه الثاني: أن معناه التبذير، وأنها لا تمنع أحدا طلب منها شيئا من مال زوجها، وبهذا قال أحمد والأصمعي ومحمد بن ناصر، وابن الجوزي، وأنكر على من ذهب إلى القول الأول.

الوجه الثالث: أن معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمسكها) أي عن الزنا أو عن التبذير، إما بمراقبتها أو بالاحتفاظ على المال، وهو قول بعض المتأخرين.

وقد ذكر الصنعاني الوجهين الأولين، ورد عليهما، وذكر ما يراه راجحا بقوله: (الوجه الأول في غاية من البعد، بل لا يصح للآية ولأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يأمر الرجل أن يكون ديوثا، فحمله على هذا لا يصح، والثاني بعيد لأن التبذير إن كان بمالها فمنعها ممكن، وإن كان من مال الزوج فكذلك، ولا يوجب أمره بطلاقها على أنه لم يتعارف في اللغة أن يقال فلان لا يرد يد لامس كناية عن الجود، فالأقرب المراد أنها سهلة الأخلاق ليس فيها نفور وحشمة عن الأجانب لا أنها تأتي الفاحشة، وكثير من النساء والرجال بهذه المثابة مع البعد من الفاحشة، ولو أراد به أنها لا تمنع نفسها عن الوقاع من الأجانب لكان قاذفا لها) (1)

وما ذكره من توجيه في غاية الجودة لولا أن لفظة اللمس لا تساعد عليها، وكذلك سهولة أخلاقها لا تدعو إلى تطليقها، ولذلك نرى أن لفظة اللمس على حقيقتها من المس باليد، وأن المرأة ليست منحرفة، وإلا لأمره صلى الله عليه وآله وسلم بطلاقها، وإنما لم تكن متمنعة في حال اللمس لا الفاحشة الكبرى، وإنما أجاز له صلى الله عليه وآله وسلم أن يمسكها ترجيحا لمصلحته على مفسدتها، فمفسدتها يمكن تلافيها بالمراقبة والتأديب، أما مصلحته فيها، وخوفه عليه بعد تطليقها، وأن تتبعها نفسه، فقد لا يمكن تلافيها، وهو نظر منه صلى الله عليه وآله وسلم إلى خصوص الشخص.

__________

(1) سبل السلام:3/ 195.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (347)

ولهذا لا ينبغي الانسياق مع الهوى واعتبار القلب مغلوبا في الحب والبغض، بل يسعى للبحث عن أسباب ذلك لعلاجها، قال ابن الجوزي في شرح حديث الأرواح السابق: (ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضى لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه) (1)

ج ـ التأثر بالطباع

فيتأثر كل من الزوجين بطبع صاحبه خيرا كان أوشرا، لأن المحب مولع بتقليد المحبوب، يعتقد نقصه كمالا، وفساده صلاحا، كما قيل:

وعينُ السُّخطِ تبصرُ كُلَّ عيبٍ وعين أخي الرضا عن ذاكَ تعْمى

وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحا خبيثة) (2)، وهذا وصفه صلى الله عليه وآله وسلم للجليس الذي قد يستغنى عن مجالسته، وقد لا تطول مجالسته، ومع ذلك قد يحرق ثيابه، أو يجد منه ريحا خبيثة، فكيف بمن لا تفارقه، ثم هي بعد ذلك تحرق أخلاقه ودينه، وتنشر روائح سوء السمعة عنه، ثم هو لا يطيق فراقها.

وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر ما هو أخطر من ذلك، فقال: (الرجل على دين خليله (3) فلينظر أحدكم من يخالل) (4)، والخليل هنا قد يراد به الصاحب، من المخالة وهي المصادقة والإخاء، وقد

__________

(1) نقلا عن: فتح الباري: 6/ 370.

(2) البخاري: 2/ 741، أبو داود: 4/ 259.

(3) الخلة بين الآدميين الصداقة مشتقة من تخلل الأسرار بين المتخالين، وقيل هي من الخلة فكل واحد من الخليلين يسد خلة صاحبه، انظر: القرطبي:5/ 401، عون المعبود:13/ 123، تحفة الأحوذي:7/ 42.

(4) رواه أحمد والترمذي وأبو داود والبيهقي في شعب الإيمان وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال النووي إسناده صحيح انتهى. قال السيوطي: هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح، وقال إنه موضوع، وقال الحافظ ابن حجر في رده عليه: قد حسنه الترمذي وصححه الحاكم، انظر: الحاكم:4/ 189، الترمذي:4/ 589، أبو داود:4/ 259، أحمد: 2/ 303، شعب الإيمان:7/ 55.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (348)

يراد به من تخللت محبته القلب، والدين هنا بمعناه العام الشامل، فالخليل يسرق من خليله أخلاقه وطباعه وتدينه واهتماماته، ومن الخطأ قصر الحديث على الصديق وإهمال شموله للزوجة، بل الزوجة أولى من الصديق في ذلك، فعقد الزواج أخطر من عقد الصداقة.

بل جاء في حديث آخر النهي عمن لا ترضى صحبته، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي) (1)، والزوجة صاحب، وهي تأكل من طعام زوجها، وهو يأكل من طعامها، فلذلك لا يصح عدم اعتبار الحديث شاملا لها، بل هو شامل لها من باب أولى.

فهذه النصوص وغيرها تدل على تأثير هذا النوع من المحبة، والواقع يؤيد كل هذا.

المرتبة الثالثة الحب الشركي

وهو الحب الذي يجعل المرأة معبودا من دون الله، وقد عرفه العلماء بأنه الحب مع الله، وهو نوعان:

1 ـ نوع يقدح في أصل التوحيد، وهو الشرك، كمحبة المشركين لأوثانهم وأندادهم كما قال تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (البقرة:165) وهذا النص عام، لا يصح حمله على محبة الأوثان فقط، فهذه محبة تأله وموالاة يتبعها الخوف والرجاء والعبادة والدعاء، وهذه المحبة هي محض الشرك، وهذا النوع موجود في حب النساء، وكم حصل في التاريخ القديم والحديث من الارتداد بسبب حب امرأة يهودية أو نصرانية، فيتحول إلى دينها لا رغبة فيه، وإنما رغبة فيها، ولا يعبد بذلك ما تعبد، بل يعبدها هي ذاتها، وقد قال

__________

(1) ابن حبان: 2/ 314، الحاكم: 4/ 143، الترمذي: 4/ 600، الدارمي: 2/ 140، أبو داود: 4/ 259، أحمد: 3/ 38.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (349)

صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذا: (تعس (1) عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض) (2)، وقد عبر صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ العبد ولم يعبر بلفظ المالك أو الجامع، لأن هؤلاء لم يملكوا هذه الأشياء وإنما ملكتهم، بل استعبدتهم.

2 ـ ونوع يقدح في كمال الإخلاص ومحبة الله، ولا يخرج من الإسلام، وهو أن تكون هي مقصودة ومراده وسعيه في تحصيلها والظفر بها، ثم يقدمها على ما يحبه الله ويرضاه منه، فيكون ظالما لنفسه متبعا لهواه (3).

ومثل هذا النوع من الحب الذي قد يشغل صاحبه عن ربه، ويبعده عن دينه، ويجعل إلهه زوجته، يأتمر لأمرها، وينتهي لنهيها، ولا يرى الحق إلا في قولها، هو حب محرم، بل يجب أن ينقلب هذا الحب بغضا في الله، لأن من علامات الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وقد روي في الأخبار السالفة أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: يا ابن عمران كن يقظاناً وارتد لنفسك إخواناً، وكل خدن وصاحب لا يؤازرك على مسرتي فهو لك عدوّ، وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال: يا داود ما لي أراك منتبذاً وحيداً؟ قال: إلهي قليت الخلق من أجلك، فقال: يا داود كن يقظاناً وارتد لنفسك أخداناً، وكل خدن لا يوافقك على مسرتي فلا تصاحبه فإنه لك عدوّ يقسي قلبك ويباعدك مني (4).

وهذه المحبة كما يعبر ابن القيم هي محبة الظالمين (5)، ويكفي ذلك لبيان الحذر منها وتحريمها.

__________

(1) تعس ضد سعد تقول: تعس فلان أي شقي، وقيل: معنى التعس الكب على الوجه، قال الخليل: التعس أن يعثر فلا يفيق من عثرته، وقيل التعس الشر، وقيل البعد، وقيل الهلاك وقيل: التعس أن يخر على وجهه، انظر: فتح الباري:6/ 82.

(2) البخاري: 3/ 1057، ابن حبان:8/ 12، البيهقي:9/ 159، ابن ماجة:2/ 1385.

(3) انظر: درء التعارض:9/ 376.

(4) انظر هذه الآثار في: الإحياء: 2/ 168.

(5) الروح:254.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (350)

ومن أخطر آثار هذا الحب هو ما يؤدي إليه من انحرافات تبعد صاحبها عن دين الله، وتجعله هائما في أودية السراب، ثم هو بعد ذلك عذاب لصاحبه، فمن أحب شيئا سوى الله تعالى، ولم تكن محبته له لله تعالى، ولا لكونه معينا له على طاعة الله تعالى، عذب به في الدنيا قبل يوم القيامة، كما قيل:

أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفى

وقال الآخر:

فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق

تراه باكيا في كل حال... مخافة فرقة أو لاشتياق

فيبكي إن نأوا شوقا إليهم... ويبكي إن دنوا حذر الفراق

فتسخن عينه عند التلاقي... وتسخن عينه عند الفراق

أما يوم القيامة، فإن (عاشق الصور إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله تعالى جمع الله بينهما في النار، وعذب كل منهما بصاحبه، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزخرف:67)) (1)

وقد ورد في القرآن الكريم النصوص الكثيرة التي تدل على انفصام هذا الحب وانقلابه عداوة، فقد أخبر تعالى أن الذين توادوا في الدنيا على الشرك يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة ويلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار وما لهم من ناصرين، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} (الفرقان:27 ـ 29)، وقال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصافات: 22 ـ 24)

__________

(1) إغاثة اللهفان:1/ 39.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (351)

2 ـ أسباب المودة الزوجية

المودة ـ كما ذكرنا ـ حال يجدها الإنسان، ولا يفعلها، فلذلك، كيف يكلف الإنسان بها، وتعتبر ركنا من أركان كمال عشرته لزوجته؟

إن الإجابة على هذا هو أن التكليف في مثل هذا لا يتعلق بالحال، وإنما بالدوافع والأسباب والنتائج التي تؤديها تلك الأحوال، ولولا اعتبار ذلك لما حرم الحسد والكبر وكل الأمراض الباطنية، لأنها أحوال، والله تعالى قال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُون} (الأنعام:120)، وترك باطن الإثم يكون بالابتعاد عن أسبابه المؤدية إليه، أو عدم الانتهاء إلى النتائج التي يوصل إليها، ومثل هذا يقال عن المودة الزوجية.

وبما أنا ذكرنا بأن الحب هو نتيجة إدراك الجمال، وأن الجمال ظاهر وباطن، فإن الطريق لتحصيل المودة الزوجية يمكن حصره في توفير هذين النوعين من الجمال، فهما لا محالة طريق الزوجة والزوج إلى قلب صاحبه، وما رؤي التقصير في أحدهما إلا وتبعه مقت من الآخر، وفيما يلي تفصيل لبعض ما يتعلق بهذين السببين:

أ ـ الجمال الباطني

إن العالم الآن نتيجة غلوه في المادية أهمل الجانب الباطني من الإنسان الذي هو حقيقته وجوهره وروحه، فأصبح يقيم المسابقات لملكات جمال العالم، وتاه في أنواع الأزياء، وتفنن في صناعة المساحيق، وتطور في كل أنواع الجراحات التجميلية، ليكذب بذلك ما قاله الشاعر قديما:

عجوزٌ ترجِّي أن تكون فتيةً وقد غارَتِ العينانِ واحدودبَ الظهرُ

تدسُّ إِلى العطارِ سلعةَ أهلِها ولن يصلحَ العطارُ ما أفسدَ الدهرُ

ومع هذا نسي هذا العالم المادي الجمال الباطني، الذي يحيل الدميم مثلا أعلى، ويحول القزم عملاقا بنبله وخلقه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم عن ابن مسعود عندما ضحك الصحابة من دقة ساقيه: (أتضحكون

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (352)

منهما، لهما أثقل في الميزان من جبل أحد) (1)

وكأن الغزالي يعبر عن هذا الواقع عندما قال: (اعلم أن المحبوس في مضيق الخيالات والمحسوسات ربما يظن أنه لا معنى للحسن والجمال إلا تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون، وكون البياض مشرباً بالحمرة وامتداد القامة إلى غير ذلك مما يوصف من جمال شخص الإنسان، فإنّ الحسن الأغلب على الخلق حسن الإبصار، وأكثر التفاتهم إلى صور الأشخاص، فيظن أن ما ليس مبصراً ولا متخيلاً ولا متشكلاً ولا متلوناً مقدّر فلا يتصوّر حسنه، وإذا لم يتصوّر حسنه لم يكن في إدراكه لذة فلم يكن محبوباً) (2)

وقد أجاب على من كان هذا حاله، فلم ير إلا الجمال الظاهري بقوله: (اعلم أنّ الحسن والجمال موجود في غير المحسوسات إذ يقال: هذا خلق حسن وهذا علم حسن وهذه سيرة حسنة، وهذه أخلاق جميلة، وإن الأخلاق الجميلة يراد بها العلم والعقل والعفة والشجاعة والتقوى والكرم والمروءة وسائر خلال الخير، وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس بل يدرك بنور البصيرة الباطنة، وكل هذه الخلال الجميلة محبوبة والموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته، وآية ذلك وأنّ الأمر كذلك أنّ الطباع مجبولة على حب الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى حب الصحابة مع أنهم لم يشاهدوهم، بل على حب أرباب المذاهب مثل الشافعي وأبي حنيفة ومالك وغيرهم؛ حتى أنّ الرجل قد يجاوز به حبه لصاحب مذهبه حدّ العشق فيحمله ذلك على أن ينفق جميع ماله في نصرة مذهبه والذب عنه ويخاطر بروحه في قتال من يطعن في إمامه ومتبوعه)

وسبب هذه المحبة لا يعود للجمال الظاهر، بل (لو شاهده ربما لم يستحسن صورته، فاستحسانه الذي حمله على إفراط الحب هو لصورته الباطنة لا لصورته الظاهرة، فإنّ صورته الظاهرة قد انقلبت تراباً مع التراب، وإنما يحبه لصفاته الباطنة من الدين والتقوى وغزارة العلم والإحاطة

__________

(1) مجمع الزوائد:9/ 289، مسند أبي يعلى:9/ 209، الطبقات الكبرى:3/ 156.

(2) الإحياء: 4/ 298.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (353)

بمدارك الدين وانتهاضه لإفادة علم الشرع ولنشره هذه الخيرات في العالم، وهذه أمور جميلة لا يدرك جمالها إلا بنور البصيرة، فأما الحواس فقاصرة عنها) (1)

ولهذا كان من الأخطاء الكبرى التي تسبب الفراق بين الزوجين أن الرجل يبني حياته مع زوجته على أساس خلقتها لا خلقها، فيغفل عن روحها انشغالا بجسدها، فإذا ما عاشرها، وخبر أخلاقها، أو ذوى جمالها انقلب الحب عداوة، وتحول الزواج طلاقا، وتهدم البيت لأنه كان قائما على شفا جرف هار.

ولا يمكن هنا أن نحصي وسائل تحقيق الجمال الروحي، والتي تحفظ العلاقة الزوجية، ولكن سنشير إلى بعض السلوكيات التي قد لا يرى لها الكثير من الناس قيمة كبيرة، ومع ذلك لها التأثير الكبير في حفظ الحياة الزوجيه، وتعميرها بالمودة والرحمة، ومن هذه السلوكيات:

التخلق بالأخلاق الإسلامية

فالأخلاق العالية المستقاة من منهج النبوة هي الأساس الذي تنشأ منه المودة وتستدام، قال الغزالي: (اعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرّق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر، ومهما كان المثمر محموداً كانت الثمرة محمودة) (2)

وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) (3)، وقد ذكر العلماء من وجوه الفساد (أنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مال أو جاه ربما يبقى أكثر نسائكم بلا أزواج، وأكثر رجالكم بلا نساء، فيكثر الافتتان بالزنا، وربما يلحق

__________

(1) الإحياء: 4/ 298.

(2) الإحياء: 2/ 157.

(3) الترمذي:3/ 394، البيهقي:7/ 82، المعجم الأوسط:1/ 142، المعجم الكبير:22/ 289، شعب الإيمان: 4/ 289.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (354)

الأولياء عار، فتهيج الفتن والفساد ويترتب عليه قطع النسب وقلة الصلاح والعفة) (1)

وهو وجه صحيح، لكن الوجه الأخطر منه والفساد الأعرض أن تزوج المرأة بالفاسق، فيفسد دينها وخلقها، أو تعيش معه، وهي لا تجرؤ على القيام بما يمليه عليها صلاحها، وقد يحصل بعد ذلك الفراق، فتنشأ المفاسد العظيمة، ولهذا ذكرنا في فصل الكفاءة رجحان قول من قال باعتبار الكفاءة في الدين دون المال والنسب والحرفة وغيرها مما يتفاخر بأمثالها الناس.

أما الحض على مراعاة الخلق في جانب المرأة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تنكح المرأة على إحدى خصال ثلاثة: تنكح المرأة على مالها، وتنكح المرأة على جمالها، وتنكح المرأة على دينها، فخذ ذات الدين والخلق تربت يمينك) (2)، فأرشد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مراعاة جانب الدين والخلق أكثر من مراعاة الجوانب الأخرى، وخاصة جانب الجمال، فله اعتباره الشرعي، لأن المودة ـ كما ذكرنا ـ تحصل بنوعي الجمال ظاهره وباطنه.

وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجمع بين هذين النوعين من الجمال بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أخبركم بخير ما يكتنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته) (3)، أي أنه إذا نظر الرجل إليها سرته لجمال صورتها وحسن سيرتها وحصول حفظ الدين بها، وإذا أمرها بأمر شرعي أو عرفي أطاعته وخدمته، وإذا غاب عنها حفظته.

ومع أن هذه النصوص التي أوردناها خاصة بالاختيار، وحديثنا هنا عن الزوجين، فلأن للزوجين إن فاتهما طريق الاختيار إمكان التلافي، فلا تنشغل المرأة بزينتها الظاهرة، ولا ينشغل الرجل بهندامه، ثم يغفلان عن تكميل نفسيهما بالخلق الرفيع، والأدب العالي والسمو الروحي، فتغيير

__________

(1) تحفة الأحوذي: 4/ 173.

(2) ورد الحديث بهذه الرواية في: الحاكم:2/ 174، أحمد: 3/ 80.

(3) قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، الحاكم:1/ 567، مجمع الزوائد:4/ 272، مسند ابي يعلى:4/ 378.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (355)

الأخلاق ممكن، والله هو الهادي سواء السبيل.

أداء العبادات في البيت

فالتزام عبادة الله تعالى من الصلوات التطوعية، والذكر، وقراءة القرآن، من شأنها أن تعمق العلاقة الروحية بين الزوجين، فلا يبقى المجال خصبا للشيطان لإثارة النزاعات، ولهذا كان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم الفعلية والقولية تعمير البيوت بالطاعات حتى يتحول الحب الطبعي بين الزوجين إلى حب إيماني يرتقيان به إلى آفاق الكمال، وفيما يلي بيان لبعض ما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك:

أداء الصلوات التطوعية في البيوت

لما في الصلاة من دور كبير في الوصل بين المؤمنين بعضهم ببعض، جاءت الأحكام الشرعية لتلبي هذا المقصد الشرعي، فخصصت صلاة الفرائض لجمع شمل المجتمع المسلم، وخصصت النوافل لجمع شمل الأسرة، ولهذا نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن هجر الصلاة في البيوت، فقال: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا) (1)

وفي حديث آخر اعتبرها صلى الله عليه وآله وسلم نورا في البيت فقال: (أما صلاة الرجل في بيته فنور فنوروا بيوتكم) (2) والنور هو الذي تنشرح به الصدور، وينطلق منه السرور في أنحاء البيت.

وفي حديث آخر اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة خيرا للبيت، فقال: (إذا قضى أحدكم صلاته فليجعل لبيته منها نصيبا فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا) (3)

__________

(1) البخاري: 1/ 166، مسلم: 1/ 538، ابن خزيمة: 2/ 212، الحاكم: 1/ 457، البيهقي: 2/ 189، أبو داود: 1/ 273، أحمد: 2/ 16.

(2) البيهقي: 1/ 312، ابن ماجة: 1/ 437، مجمع الزوائد: 1/ 270.

(3) مسلم: 1/ 539، ابن خزيمة: 2/ 212، ابن حبان: 6/ 237، البيهقي: 2/ 189، أحمد: 3/ 15، ابن ماجة: 1/ 438.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (356)

ولهذا فضل صلى الله عليه وآله وسلم أداء النوافل في البيوت مطلقا، فقال: (أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة) (1)

وكان ذلك من سنته صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان يخص بيوته بالعبادة، ويطيل فيها أكثر مما يطيل في غيرها، فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءه أصحابه ذات ليلة، فخرج فصلى بهم فخفف، ثم دخل بيته فأطال، ثم خرج فصلى بهم فخفف، ثم دخل بيته فأطال، فلما أصبح قالوا: يا رسول الله صليت فجعلت تطيل إذا دخلت وتخفف إذا خرجت، قال: من أجلكم ما فعلت (2).

بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وزوجته بين يديه تنظر إلى صلته بربه، فعن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح (3).

ولهذا عاتبت عائشة من قال ببطلان الصلاة في حال اعتراض الكلب والحمار والمرأة، فقالت: (أعدلتمونا بالكلب والحمار، لقد رأيتني مضطجعة على السرير، فيجيء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيتوسط السرير، فيصلي فأكره أن أسنحه، فأنسل من قبل رجلي السرير حتى أنسل من لحافي) (4)

وعن عبيد بن عمير أنه قال لعائشة: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي، قال: يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي، قلت: والله إني أحب قربك، وأحب ما يسرك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره،

__________

(1) ابن خزيمة: 2/ 211، ابن حبان: 6/ 270، الترمذي: 2/ 312، البيهقي: 2/ 189، أبو داود: 2/ 69، الموطأ: 1/ 130.

(2) أحمد: 3/ 185، 3/ 291.

(3) البخاري: 1/ 150، مسلم: 1/ 367، ابن حبان: 6/ 110، البيهقي: 1/ 128، النسائي: 1/ 98، الموطأ: 1/ 117، أحمد:6/ 225.

(4) البخاري: 1/ 190.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (357)

قالت: وكان جالسا، فلم يزل يبكي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدا شكورا، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (آل عمران:190) الآية كلها (1).

وفي رواية أخرى عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا قال: قول الشاعر: زر غبا تزدد حبا، فقال ابن عمر: ذرينا، أخبرينا بأعجب ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبكت وقالت: كل أمره كان عجبا، ثم أوردت الحديث (2).

ورواية عائشة مثل هذه الأحاديث لا تقصرها على بيتها، بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك في جميع بيوته، فعن ابن عباس قال: بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله، فصلى أربع ركعات ثم نام ثم قام ثم قال: نام الغليم أو كلمة تشبهها، ثم قام فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه فصلى خمس ركعات ثم صلى ركعتين ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة (3).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشركهم في صلاته بدون تكليف، فعن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت (4)، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول عن صلاة النساء في بيوتهن: (خير مساجد النساء قعر بيوتهن) (5)

__________

(1) ابن حبان: 2/ 386.

(2) تفسير ابن كثير:1/ 441.

(3) البخاري: 1/ 55، البيهقي: 2/ 477.

(4) البخاري: 1/ 192، النسائي: 1/ 273، المجتبى: 2/ 67.

(5) مجمع الزوائد: 2/ 33، البيهقيك 3/ 131، أحمد: 6/ 297.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (358)

بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يحض زوجاته على قيام الليل، بطريقة يمتزج فيها الترغيب والترهيب، وكأنا نلمح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما تحكي أم سلمة ـ وهو يستيقظ ذات ليلة، وهو يقول: (سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحبات الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة) (1)

هذا في الحالة العادية، أما في المناسبات التي تتنزل فيها النفحات الإلهية فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما تخبر عائشة ـ: إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله (2).

ولم يكن يخص بهذا الحض زوجاته، بل كان يذهب إلى بيت ابنته ليلا، لا ليسأل عن حالها، أو ليزيل وحشة من فراقها، وإنما ليحضها وابن عمه على الصلاة (3).

ولم تكن هذه حادثة فردية عابرة، بل كانت دائمة مستمرة، فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر، فيقول: (الصلاة يا أهل البيت، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب:33)) (4)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يرغب أمته في هذا، لا ليربط بين العباد وربهم تعالى فحسب، فتلك الغاية العليا، ويمكن تحقيقها بالعبادة الفردية، ولكن مراده كذلك أن يربط أفراد الأسرة فيما بينهم، ليصلهم بالله جميعا.

ومن أمثلة ما رغب به صلى الله عليه وآله وسلم أمته ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، ثم أيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل،

__________

(1) البخاري: 1/ 54.

(2) البخاري: 2/ 711، ابن خزيمة: 3/ 342.

(3) البخاري: 1/ 379، مسلم: 1/ 537، ابن حبان: 6/ 305، البيهقي: 2/ 500.

(4) أحمد: 3/ 259، مسند أبي يعلى: 7/ 60، المعجم الكبير: 3/ 56.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (359)

فصلت ثم أيقظت زوجها، فصلى فإن أبى نضحت في وجهه الماء) (1) وهو تأكيد على رعاية هذه الفضيلة إلى درجة أن ينضح الزوجان الماء على وجهي بعضهما لأجل العبادة.

وفي حديث آخر ترغيب أكثر منه وأعظم جزاء، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات) (2)

وكانت الصلاة هي التي تطبع علاقاتهم البيتية والاجتماعية، فلذلك انتشرت بينهم الرحمة والمودة، فعن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لطعام صنعته له فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصل لكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فنضحته بماء فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصففت واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين ثم انصرف (3).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم ينكر على الصحابة أحيانا أداءهم بعض الصلوات في المسجد، وورد ذلك خصوصا في نافلة المغرب، فعن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل، فصلى فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال: (هذه صلاة البيوت) (4)، ولعل سر تخصيصه صلى الله عليه وآله وسلم هذه الصلاة بصلاة البيوت بالإضافة إلى قيام الليل، أن الليل وقت خلوة الرجل بأهله، وهو وقت لنزغات الشياطين، فلذلك حث على الصلاة فيه لطرد الشيطان ونزغاته من البيت، وملئه بدل ذلك بالجو الروحاني الذي يملأ البيت بالسكينة والمودة.

وقد كان من سنة الصالحين اتخاذ مكان خاص في البيت للصلاة يكون بمثابة مسجد، ففي

__________

(1) البخاري: 1/ 337، ابن خزيمة: 2/ 183، الحاكم: 1/ 453.

(2) ابن حبان: 6/ 308، البيهقي: 2/ 501، أبو داود: 2/ 70، النسائي: 1/ 413، ابن ماجة: 1/ 423.

(3) البخاري: 1/ 149، مسلم: 1/ 457، ابن حبان: 5/ 582، البيهقي: 3/ 96، أبو داود: 1/ 166، النسائي: 1/ 285.

(4) البيهقي: 2/ 189، أبو داود: 2/ 31.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (360)

الحديث أن رجلا من الأنصار أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تعال فخط لي مسجدا في داري أصلي فيه، وذلك بعد ما عمي فجاء ففعل (1).

فالصلاة إذن وسيلة من الوسائل العظمى التي لا تحفظ بها العلاقة بين العبد وربه فحسب، بل تحفظ بها كذلك العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية، بل العلاقات الأممية العامة.

ولأجل هذا أخبر القرآن الكريم عن الأنبياء أنهم كانوا يأمرون أهليهم بالصلاة، فقال عن إسماعيل عليه السلام كنموذج عنهم: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (مريم:55)

بل أمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر أهله بها، فقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه:132)، وقد ذكر القرطبي كيف استقبل المؤمنون هذا الأمر الإلهي بقوله: (وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدخل في عمومه جميع أمته وأهل بيته على التخصيص وكان صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما، فيقول: الصلاة، ويروى أن عروة بن الزبير كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله، وهو يقرأ: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه:131)، ثم ينادي بالصلاة الصلاة يرحمكم الله) (2)

قراءة القرآن في البيت

لما للقرآن الكريم من التأثير العظيم في النفوس بتربيتها وترقيتها ورفعها عن الهمم الدنيئة والمطالب البسيطة التي تخرب بسببها البيوت جاءت الأوامر النبوية بتخصيص البيوت بقراءة القرآن الكريم فيها، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) (3)

__________

(1) ابن ماجة: 1/ 249.

(2) القرطبي:11/ 263.

(3) مسلم:1/ 33، النسائي: 6/ 240، عمل اليوم والليلة:1/ 535.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (361)

ولعل تخصيص هذه السورة بذلك، وإن كان القرآن كله يطرد الشياطين، لما في السورة من أوامر وتوجيهات مختلفة تتعلق بالأسرة وغيرها تطرد الشياطين الذين يرسلهم إبليس كما ورد في الحديث الذي رواه جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئا، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت قال: فيلتزمه) (1)

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثير قراءة القرآن في البيت، وإنزال السكينة النفسية على أهله، والتي هي التربة الخصبة لكل الفضائل، فعن البراء، قال: قرأ رجل الكهف وفي الدار الدابة فجعلت تنفر فسلم فإذا ضبابة أو سحابة غشيته فذكره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (اقرأ فلان فإنها السكينة نزلت للقرآن أو تنزلت للقرآن) (2)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحض على تعليم الأهل القرآن أو آيات وسور مخصوصة منهن، ومما ورد من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبناءكم، فإنهما صلاة وقرآن ودعاء) (3)

وكان القرآن يصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى في فراشه، فقد كان إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث

__________

(1) مسلم: 4/ 2167، مجمع الزوائد: 1/ 114.

(2) البخاري: 3/ 1323، مسلمك 1/ 548، أحمد: 4/ 281.

(3) الحاكم: 1/ 750، الدارمي: 2/ 542، شعب الإيمان: 2/ 461.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (362)

مرات (1).

فهذه سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيته، وهي سنة كل مسلم صالح يعيش القرآن في نفسه وبيته، لتنصبغ حياته جميعا بنوره وهديه، ومنه تنطلق المحبة الإلهية الخالصة لزوجه وأهل بيته، لا تشوبها الأغراض، ولا يفسدها الطبع.

ونحب أن ننبه هنا إلى أن ما يمارس الآن ـ بدعوى طرد الشياطين من البيوت من حضور الرقاة إليها، ثم قراءة القرآن الكريم بطريقة خاصة، ثم انصرافهم عن البيت، وقد ضمنوا لأهلها طرد الشياطين وحرق الجن ـ أقرب إلى الشعوذة والخرافة منه إلى الدين، فالقرآن أجل أن نتعامل معه بهذه الأسطورية، فهو كتاب هداية وتربية قبل أن يكون تعويذة، ثم إن الشيطان الذي فر من سماع القرآن تلك اللحظة اليتيمة من يحكم بعدم عودته إذا ما دبت الغفلة للبيت، وحكمت الأهواء بدل القرآن، وسمع قرآن الشيطان وهجر قرآن الله.

ذكر الله في البيت

الذكر هو التعبير الشرعي عن الحالة التي يكون فيها الإنسان مع الله، وفي اللحظة التي يكون فيها كذلك تدب إلى قلبه كل مشاعر الخير، وتسرع إلى عقله كل الأفكار الطيبة، وتنتشر في أعضائه قوة عظيمة تجعله جبلا من جبال الأخلاق العالية، فلذلك كان لهذا الذكر تأثيره العظيم في نشر المودة في البيت المسلم، حين يتحد قلب الزوجين على ذكر الله، ولهذا أرشد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن تكون أول العلاقة مع الزوجة قبل التفكير بأي غرض طبعي أو نفسي ذكر الله، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا أفاد أحدكم امرأة فليأخذ بناصيتها وليقل: اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه) (2)

__________

(1) البخاري: 4/ 1916، الترمذي: 5/ 473، أبو داود: 4/ 313، النسائي: 6/ 197، عمل اليوم والليلة: 462.

(2) البيهقي: 7/ 148، ابن ماجة: 1/ 617.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (363)

والذكر كالقرآن والصلاة يطرد الشياطين من البيت، الشياطين التي تنشر الظلمة النفسية، والفرقة العائلية، فلهذا لا يمارس المؤمن أي تصرف في بيته إلا ويبدؤه بذكر الله، وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم كيفية تعامل الشياطين مع هذا الذكر بقوله: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء) (1)

ولعله خص هذين الموضعين لأن الداخل إلى بيته قد يرى ما يزعجه، فيتخذ الشياطين من ذلك مطية لزرع الشقاق بينه وبين أهله، فإذا ذكر الله خنس الشياطين، فإذا ما حضر الأكل حضر الشيطان ليوسوس لأهل البيت، فيريهم عيوب الطعام، أو يفسد عليهم ذوقه، ثم ينطلق ليفسد صفاء المودة بينهم بذلك، فإذا ما ذكروا الله فر الشيطان وحلت السكينة في البيت.

ويرشد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ضرورة حضور هذا الذكر حتى عندما يكون المؤمن في فراشه، لأنه إذا ما استيقظ دبت إله الشياطين، فلذلك يطردهم بذكر الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي أو قال: ثم دعا استجيب له، فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته) (2)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يشغل ليله بذكر الله، فلا يترك فرصة للغفلة لتدب إلى بيته، لأن الغفلة هي غذاء شياطين الإنس والجن، فعن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت عند باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأعطيه وضوءه، فأسمعه الهوي من الليل يقول: سمع الله لمن حمده، وأسمعه الهوي من الليل يقول: الحمد

__________

(1) مسلم: 3/ 1598، ابن حبان: 3/ 100، الحاكم: 2/ 436، البيهقي: 7/ 276، النسائي: 4/ 174، ابن ماجة: 2/ 1279، أحمد: 3/ 346، شعب الإيمان: 5/ 73.

(2) البخاري: 1/ 387، ابن خزيمة: 2/ 175، ابن حبان: 3/ 357، الترمذي: 5/ 480، الدارمي: 2/ 377، البيهقي: 3/ 5، أبو داود: 4/ 314، النسائي: 6/ 215.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (364)

لله رب العالمين (1).

وننبه هنا كذلك إلى أن تلك الدعاوى الطويلة العريضة التي يزعمها أقوام لأنفسهم بالقدرة على طرد الشياطين والسحر وغيرهما من البيوت بأذكار يرددونها، ثم يتركوا أهل البيت بعد ذلك للغفلة والشرود عن الله، وكأن تلك الأذكار طلاسم وأوفاق كطلاسم السحرة والمنجمين، هو تفسير خاطئ لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالقصد من الذكر الحضور مع المذكور، والانشغال به، لا ترديد ألفاظ الذكر والقلب يتيه في أودية الغفلة، فيسلم لسانه لله، ويسلم كيانه وروحه للشيطان والهوى.

مراعاة الآداب الإسلامية في البيت

وذلك بأن يلتزم مع زوجته ما يجب في العلاقات الإسلامية العامة من إلقاء السلام وتشميت العاطس، وغيرها، وهي ليست أمورا هينة بسيطة ـ كما قد يعتقد ـ بل لها تأثير عظيم في إظفاء جو روحاني على البيت، فتنشر المودة والسكينة في قلبي الزوجين وأهل البيت.

وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى دور هذه الآداب في إحياء المحبة في القلوب المؤمنة بقوله: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم) (2)، قال النووي في شرحه لهذا الحديث: (والسلام أول أسباب التألف، ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض، وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل، مع ما فيه من رياضة النفس، ولزوم التواضع، وإعظام حرمات المسلمين) (3)

واعتبر صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بركة في البيت، فعن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بني إذا

__________

(1) مسند الطيالسي: 161، الأدب المفرد: 418.

(2) مسلم: 1/ 74، ابن حبان: 1/ 472، الترمذي: 5/ 52، البيهقي: 10/ 232، أبو داود: 4/ 350، ابن ماجة: 1/ 26، أحمد: 1/ 164.

(3) النووي على مسلم: 2/ 36.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (365)

دخلت على أهلك، فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك) (1)

ويصف المقداد بن الأسود كيفية دخوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته، وكيفية تطبيق هذه السنة بقوله، وهو يذكر حادثة له في بيته صلى الله عليه وآله وسلم مملوءة بالعبر لا يمكن ذكرها هنا جميعا: (وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسلم تسليما يسمع اليقظان ولا يوقظ النائم، فكشف عن قدح اللبن، فلم ير شيئا فرفع رأسه إلى السماء، فقال: اللهم اسق من سقاني وأطعم من أطعمني) (2)، فهذا هو السلوك الإسلامي الذي يجلب المودة، لا الذي يدخل إلى بيته، فإن لم يجد طعاما ملأ الدنيا صراخا وضجيجا.

وقبل السلام أرشد صلى الله عليه وآله وسلم إلى التزام الذكر، فيبدأ بذكر الله قبل تحية الأهل، ففي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ولج الرجل بيته، فليقل اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله) (3)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله إلى بيته يحرص على أدب آخر، فقد سئلت عائشة: بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك (4).

مراعاة السلوك الإسلامي العام

لأن المقصد الشرعي من تلك السلوكيات العامة في الكلام والمجالس والأكل والشرب وغيرها زيادة على وصل القلب بالله تحصيل الألفة الاجتماعية بين المؤمنين، ولا بأس أن نلخص هنا في عجالة بعض ما ورد في سنته من ذلك نقلا عن الغزالي الذي نقله بدوره عن أبي البحتري بدون تخريج الأدلة النصية اكتفاء بما ذكره الحافظ العراقي في هامش الإحياء (5)، قال:

__________

(1) ابن أبي شيبة: 6/ 102، أحمد: 3/ 298، مسند أبي يعلى: 6/ 309، مسند إسحق: 2/ 589.

(2) أحمد: 6/ 2، عمل اليوم والليلة: 283.

(3) أبو داود: 4/ 325، المعجم الكبير: 3/ 296.

(4) مسلم: 1/ 220، ابن خزيمة: 1/ 70، البيهقي: 1/ 34، أبو داود: 1/ 13.

(5) انظر الإحياء: 2/ 364.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (366)

ما شتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من المؤمنين بشتيمة إلا جعل لها كفارة ورحمة، وما لعن امرأة قط ولا خادماً بلعنة، وقيل له وهو في القتال: لو لعنتم يا رسول الله فقال: (إِنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً وَلَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً)، وكان إذا سئل أن يدعو على أحد مسلم أو كافر عام أو خاص عدل عن الدعاء عليه إلى الدعاء له وما ضرب بيده أحداً قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله تعالى، وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله، وما خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم فيكون أبعد الناس من ذلك، وما كان يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته، وقال أنس: والذي بعثه بالحق ما قال لي في شيء قط كرهه: (لم فعلته؟) ولا لامني نساؤه إلا قال: (دعوه إنما كان هذا بكتاب وقدر)، وما عاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مضجعاً إن فرشوا له اضطجع، وإن لم يفرش له اضطجع على الأرض، ومن خلقه أن يبدأ من لقيه بالسلام، ومن قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة، ثم أخذ بيده فشابكه ثم شد قبضته عليها، وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله، وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وأقبل عليه فقال: (أَلَكَ حَاجَةً؟) فقال فرغ من حاجته إلى صلاته، وكان أكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعاً ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة، ولم يكن يعرف مجلسه من مجلس أصحابه، لأنه كان حيث انتهى به المجلس جلس، وما رئي قط مادّاً رجليه بين أصحابه حتى لا يضيق بهما على أحد إلا أن يكون المكان واسعاً لا ضيق فيه، وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة، وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ولا رضاع يجلسه عليه، وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل، وما استصفاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه، حتى يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه حتى كان مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف محاسنه وتوجهه للجالس إليه ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواضع وأمانة، ولقد كان يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالة لقلوبهم، ويكني من لم تكن له كنية فكان يدعى بما كناه به، ويكني أيضاً النساء اللاتي لهن الأولاد واللاتي لم يلدن يبتدئ لهن الكنى ويكني

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (367)

الصبيان فيستلين به قلوبهم، وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضا، وكان أرأف الناس بالناس وخير الناس للناس وأنفع الناس للناس، ولم تكن ترفع في مجلسه الأصوات) (1)

وقد ذكر الغزالي في آداب الأخوة في الله كثيرا من الآداب والحقوق التي يستحسن ذكرها هنا لأن العلاقة بين الزوجين المؤمنين هي علاقة محبة في الله قبل أن تكون علاقة الزوجية، فلذلك تلزمها حقوق الأخوة في الله، وتزيد عليها بحقوق الزوجية.

قال الغزالي في بيان القاعدة الشرعية في التعامل: (فهذا جامع حقوق الصحبة، وقد أجملناه مرّة وفصلناه أخرى، ولا يتم ذلك إلا بأن تكون على نفسك للإخوان، ولا تكون لنفسك عليهم، وأن تنزل نفسك منزلة الخادم لهم فتقيد بحقوقهم جميع جوارحك) (2)

وبعد هذا الإجمال فصل الكلام في كل جارحة بخصوصها، وننبه إلى أن هذا الكلام موجه للزوجين قبل أن يكون للصاحبين، لأن الزوجة أحق باسم الصحبة من الإخوان والأصدقاء (3):

أما البصر؛ فبأن تنظر إليهم نظر مودة يعرفونها منك، وتنظر إلى محاسنهم وتتعامى عن عيوبهم، ولا تصرف بصرك عنهم في وقت إقبالهم عليك وكلامهم معك، روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطي كل من جلس إليه نصيباً من وجهه وما استصغاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه حتى كان مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف مسألته وتوجهه للجالس إليه، وكان مجلسه مجلس حياء وتواضع وأمانة، وكان صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الناس تبسماً وضحكاً في وجوه أصحابه وتعجباً مما يحدثونه به، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم اقتداء منهم بفعله وتوقيراً له صلى الله عليه وآله وسلم

وأما السمع، فبأن تسمع كلامه متلذذاً بسماعه ومصدقاً به ومظهراً للاستبشار به ولا تقطع حديثهم عليهم بمرادّة ولا منازعة ومداخلة واعتراض فإن أرهقك عارض اعتذرت إليهم وتحرس

__________

(1) الإحياء: 2/ 364.

(2) الإحياء: 2/ 191.

(3) انظر: الإحياء: 2/ 191.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (368)

سمعك عن سماع ما يكرهون.

أما اللسان، فبالسكوت مرة وبالنطق أخرى، وله تفاصيل خاصة نتعرض لها في محلها من الفصل السابع من هذا الجزء.

وأما اليدان؛ فأن لا يقبضهما عن معاونتهم في كل ما يتعاطى باليد.

قال الغزالي بعد ذكره لهذه الآداب وغيرها مبينا منشأها وثمرتها: (فإذا تم الاتحاد انطوى بساط التكلف بالكلية، فلا يسلك به إلا مسلك نفسه، لأن هذه الآداب الظاهرة عنوان آداب الباطن وصفاء القلب، ومهما صفت القلوب استغنى عن تكلف إظهار ما فيها، ومن كان نظره إلى صحبة الخلق فتارة يعوج وتارة يستقيم، ومن كان نظره إلى الخالق لزم الاستقامة ظاهراً وباطناً وزين باطنه بالحب لله ولخلقه وزين ظاهره بالعبادة لله والخدمة لعباده، فإنها أعلى أنواع الخدمة لله إذ لا وصول إليها إلا بحسن الخلق) (1)

ب ـ الجمال الظاهري

وهي ناحية معتبرة في الشريعة، لأن الفطرة تتطلبها، وقد ذكرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة أن المستحب اختيار المرأة الجميلة بحسب ذوق صاحبها، لأن للبشر أذواقا مختلفة في ذلك، ولذلك لا نريد بالجمال ما سبق اختياره قبل الزواج، وإنما نريد ناحيتين مهمتين لهما علاقة بالجمال الظاهري، هما التزين، والنظافة، فقد تكون المرأة جميلة، ولكن إهمالها لزينتها أو نظافتها يشوهانها في عين زوجها، ونفس الحال مع الرجل، فلذلك طلبت الشريعة هذين الأمرين وألحت في طلبهما.

وبما أنا تحدثنا عن الأحكام المرتبطة بزينة المرأة في سلسلة مقالاتنا وبحوثنا المقاصدية، فإنا سنكتفي هنا بالحديث عن حق المرأة في تزين زوجها لها، وهو حق شرعي له أدلته الكثيرة.

وقد نص الفقهاء على أن الأصل في التزين الاستحباب، لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ

__________

(1) الإحياء: 2/ 191.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (369)

نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} (الأعراف:32)، ففي هذه الآية دلالة على استحباب لبس الزينة من الثياب، والتجمل بها في الجمع والأعياد وعند لقاء الناس وزيارة الإخوان.

زيادة على هذا الأصل العام فإن هناك ما يشير إلى ضرورة تزين الرجل لزوجته، وهو قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228)، فالمعاشرة بالمعروف حق لكل منهما على الآخر، ومن المعروف أن يتزين كل منهما للآخر، فكما يحب الزوج أن تتزين له زوجته، كذلك الحال بالنسبة لها تحب أن يتزين لها، قال ابن عباس في تفسيرها: (أي لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه الله عليهن لأزواجهن

وقال في تطبيقها: (إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة، لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها لأن الله تعالى يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}) (1)

ومن هنا قال العلماء: (يستحب للرجل أن يهتم بزينة نفسه مع زوجته كما عليها أن تكون كذلك معه، فينظف نفسه، ويزيل عرقه، ويغير الرائحة الكريهة من جسمه وفمه وتحت إبطيه، ويتطيب، ويقلم أظفاره ويلبس خير الملابس المناسبة، ويدهن شعره ويرجله بالمشط ويشذب شعر رأسه ولحيته حتى لا يكون على هيئة منفرة، يفعل ذلك وأمثاله ليكون عند امرأته في زينة تسرها، وليعفها عن الرجال، وكل هذا بما يتفق مع رجولته، مع الحذر من التشبه بالنساء) (2)

ومع ذلك ينبغي مراعاة الزينة التي تتناسب مع حاله وسنه، قال القرطبي موضحا هذا المعنى ضاربا الأمثلة عليه: (قال العلماء أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم فإنهم يعملون ذلك على اللبق والوفاق، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب

__________

(1) مصنف ابن أبي شيبة:4/ 184، البيهقي:7/ 295.

(2) انظر: شرح العمدة:1/ 232.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (370)

وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب، ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حف شاربه في أول ما خرج وجهه سمج، وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه.. وكذلك في شأن الكسوة ففي هذا كله ابتغاء الحقوق فإنما يعمل على اللبق والوفاق ليكون عند امرأته في زينة تسرها ويعفها عن غيره من الرجال، وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق بهم، فأما الطيب والسواك والخلال والرمي بالدرن وفضول الشعر والتطهير وقلم الأظفار فهو بين موافق للجميع والخضاب للشيوخ والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة وهو حلى الرجال (1)

وقد ورد في السنة في هذا النصوص الكثيرة الدالة على وجوب مراعاة هذه الناحية، لا على مجرد استحبابها كما ينص أكثر الفقهاء، فعن جابر بن عبد الله قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى رجلا شعثا قد تفرق شعره، فقال: أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره، ورأى رجلا آخر وعليه ثياب وسخة، فقال: (أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه) (2)

أما إن كان ميسور الحال، فيستحب له أن تظهر نعمة الله عليه، فعن بعضهم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثوب دون، فقال: ألك مال؟ قال: نعم قال: من أي المال؟ قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق قال: (فإذا آتاك الله مالا، فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته) (3)

وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ورد ما هو أكثر من هذا ترغيبا، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أنعم الله على عبد نعمة إلا وهو يحب أن يرى أثرها عليه) (4)

وعندما أساء بعض الصحابة فهم الكبر، فتصوره في المظهر الجمالي الذي فطرت على الحرص

__________

(1) القرطبي:3/ 124.

(2) أبو داود: 4/ 51.

(3) أبو داود 4/ 51، شعب الإيمان: 4/ 136.

(4) البخاري: 4/ 1716، ابن حبان 12/ 235، الحاكم: 1/ 688.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (371)

عليه القلوب، نبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن منبت الكبر القلب، وليس الصورة الظاهرة أو ما يكسوها من ثياب، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر)، فقال رجل: يا رسول الله إني ليعجبني أن يكون ثوبي غسيلا ورأسي دهينا وشراك نعلي جديدا، وذكر أشياء حتى ذكر علاقة سوطه أفمن الكبر ذاك يا رسول الله؟ قال: لا ذاك الجمال إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من سفه الحق وازدرى الناس) (1)

وننبه هنا كما نبهنا سابقا، أن للرجل مراعاة رغبة زوجته في زينته، بشرط تقيدها بالضوابط الشرعية، فلا يجوز التزين المخالف للشريعة، كالأخذ من أطراف الحاجب أو وضع المساحيق على الوجه تشبها بالنساء، وكالتزين بلبس الحرير والذهب والتختم به وما إلى ذلك.

وبناء على هذا سنذكر بعض ما يتخذ من الزينة، مما قد يحتاج إلى معرفته مثلما، وسنخص ناحية مهمة وردت بعض النصوص فيها وهي الزينة المتعلقة بالشعر، وقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان له شعر فليكرمه) (2)

فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه الرسول، كأنه يأمره بإصلاح شعره، ففعل، ثم رجع، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟) (3)، ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا رأسه أشعث، فقال: (أما وجد هذا ما يسكن به شعره؟) (4)

ومن مواضع الزينة التي يكثر السؤال عنها، والمرتبطة بالشعر، ما يتعلق بصبغ الشعر، وقد ورد أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يمتنعون عن صبغ الشيب وتغييره، ظنا منهم أن التجمل

__________

(1) أحمد: 1/ 399، المعجم الكير: 10/ 221.

(2) أبو داود: 4/ 76، المعجم الأوسط:8/ 230، شعب الإيمان: 5/ 224.

(3) الموطأ: 2/ 949.

(4) مسند أبي يعلى: 4/ 23.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (372)

والتزيين ينافي التعبد والتدين، كما هو شأن الرهبان والمتزهدين المغالين في الدين، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن تقليدهم في ذلك ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) (1)، قال ابن حجر: (يقتضي مشروعية الصبغ والمراد به صبغ شيب اللحية والرأس ولا يعارضه ما ورد من النهي عن إزالة الشيب لأن الصبغ لا يقتضي الإزالة) (2)

وقد اختلف الفقهاء في الصبغ بالسواد، وخلاصة الخلاف كما ذكر ابن حجر: (اختار النووي أن الصبغ بالسواد يكره كراهية تحريم، وعن الحليمي أن الكراهة خاصة بالرجال دون النساء، فيجوز ذلك للمرأة لأجل زوجها، وقال مالك الحناء والكتم: واسع والصبغ أحب إلي ويستثني من ذلك المجاهد اتفاقا) (3)، ومع ذلك قد رخص في الصبغ بالسواد طائفة من السلف منهم من الصحابة: سعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغيرهم.

وهو رأي الإمامية، فقد نصوا على جواز ذلك من دون فرق بين الرجال والنساء، بل أفتوا باستحبابه، ومن الأحاديث التي رووها في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (أربع من سنن المرسلين: العطر والنساء والسواك والحناء) (4)، ورووا أن رجلا دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صفر لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أحسن هذا، ثم دخل عليه بعد هذا، وقد أقنى بالحناء، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: هذا أحسن من ذاك، ثم دخل عليه بعد ذلك، وقد خضب بالسواد، فضحك إليه، فقال: (هذا أحسن من ذاك وذاك) (5)

وغير ذلك من الروايات الشريفة عن رسو ل الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآل بيته الطاهرين.

__________

(1) البخاري: 3/ 1275، مسلم: 3/ 1663، ابن حبان: 12/ 284.

(2) فتح الباري: 6/ 499.

(3) فتح الباري: 6/ 499.

(4) الوسائل 1: 346.

(5) الوسائل 1: 405.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (373)

ونرى ـ بعد هذا ـ أن من كره ذلك مراده سد ذريعة التدليس، أما من فعل ذلك من باب التزين لزوجته إن أحبت ذلك بدون تدليس على غيرها، فلا حرج فيه لعدم الدليل على النهي في هذه الحالة خاصة مع ما ورد من ترخيص الصحابة فيه.

ولا يصح قصره على الجهاد فالعلة التي ذكروها في الجهاد أكثر انطباقا على العلة التي قد ترخص هذا للزوج مع زوجته، فقد ذكروا أن الغرض في الجهاد هو إرهاب الأعداء بالبدو في مظهر الشباب، ونفس الحكم ينطبق على الزوجة التي تحب أن يظهر زوجها أمامها بهذا المظهر، فهي أكثر ارتباطا به من ارتباط الأعداء بالمجاهد، زيادة على أن قوة المجاهد لا تتعلق بشيبته أو بشبابه.

ومن المسائل المتعلقة بهذا ما نص عليه الفقهاء من جواز قص الشعر الزائد من الجسم الذي قد يسيء إلى الهيئة، قال النووي: (وأما الأخذ من الحاجبين إذا طالا فلم أر فيه شيئا لأصحابنا، وينبغي أن يكره لأنه تغيير لخلق الله لم يثبت فيه شيء فكره، وذكر بعض أصحاب أحمد أنه لا بأس به، قال: وكان أحمد يفعله وحكي أيضا عن الحسن البصري) (1)

ومما يدخل في هذا الباب قص الشارب، وهو إزالة ما طال منه (2)، وهو من الظواهر المزعجة، فبعض الناس باسم الرجولة يطيل شاربه، ليأكل معه ويشرب، فيؤذي جلاسه بذلك، وإيذاؤه

__________

(1) المجموع:1/ 344.

(2) اختلف الفقهاء في حد ما يقص من الشارب على أقوال منها:

القول الأول: استئصاله وحلقه، وهو قول كثير من السلف وهو قول الكوفيين، لظاهر قوله (: (احفوا وأنهكوا)

القول الثاني: منع الحلق والاستئصال، وهو قول مالك وكان يري تأديب من حلقه، وروى عنه ابن القاسم أنه قال إحفاء الشارب مثله.

وقد اختار النووي أن يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفيه من أصله، قال: وأما رواية احفوا الشوارب فمعناها احفوا ما طال عن الشفتين، وكذلك قال مالك في الموطأ يؤخذ من الشارب حتى يبدو أطراف الشفة. انظر: نيل الأوطار: 1/ 141.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (374)

لزوجته من باب أولى، ولهذا ورد الأمر بحف الشارب ومما يدل على المبالغة في هذه الخصلة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يأخذ شاربه فليس منا) (1)، بل كان ذلك سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبراهيم عليه السلام، فعن ابن عباس قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقص أو يأخذ من شاربه، وكان إبراهيم خليل الرحمن يفعله) (2)، وقد رأى صلى الله عليه وآله وسلم رجلا طويل الشارب، فدعا بسواك وشفرة ووضع السواك تحت شارب الرجل، فقطعه، وفي رواية: فدعا بسواك، فوضعه تحت شاربه، ثم دعا بشفرة فقصه عليه (3).

ومن المسائل المتعلقة بهذا ما يرتبط بالزينة المرتبطة باللحية، وهي ـ في أصل خلقها ـ من زينة الرجل، ومن دلائل رجولته، لا من الشعر الزائد، ولهذا ورد الأمر بإعفائها، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب) (4). والمراد بتوفيرها إعفاؤها كما في رواية أخرى أي تركها وإبقاؤها، وقد بين الحديث علة هذا الأمر وهو مخالفة المشركين.

وهذا الأمر يحتمل ان يكون من باب السنية، ويحتمل أن يكون من باب الوجوب، وليس الأمر بالخطورة التي يتصورها بعض الناس، فيحولها إلى أصل من أصول الدين التي يحكم من خلالها على الناس بالسنة أو البدعة، فالسنة أعظم شأنا من اختصارها في هذه المظاهر.

ونحب أن ننبه إلى ناحية مهمة ـ لها علاقة بهذه الناحية ـ وهي ضرورة الاهتمام بها وتحسينها، وقص الزائد منها، لأن تركها كذلك قد يؤدي إلى طولها طولا فاحشا، يتأذى به صاحبها، وتتأذى به بعد ذلك زوجته.

__________

(1) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، الترمذي: 5/ 93، وانظر: النسائي: 5/ 406، المعجم الأوسط: 1/ 167، أحمد: 4/ 366.

(2) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، الترمذي: 5/ 93.

(3) شعب الإيمان: 5/ 222.

(4) البخاري: 5/ 2209، مسلم: 1/ 222، البيهقي: 1/ 150، شعب الإيمان: 5/ 220.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (375)

ونحب أن نتجرأ ـ هنا ـ فنرى رأيا ـ نستغفر الله من الخطأ فيه ـ وهو أنه يجوز للزوج، بل يندب له أن يحلق اللحية في حال تأذي زوجته منها، وخاصة إن اشتد ذلك الأذى، وكان فتنة لها (1).

__________

(1) وقد رجحنا هذا بناء على القول بجواز حلق اللحية مع الكراهة، وقد قال به كثير من الفقهاء من السنة والإمامية، فالمعتمد في المذهب الشافعي هو الكراهية لا التحريم. وليس للإمام الشافعي نص في المسألة ولا أحد من أصحابه، والفتوى عند الشافعية المتأخرين تكون على ما قرره الرافعي والنووي، وابن حجر والرملي. وقد نقل النووي (676 هـ) في شرح مسلم (3/ 149) عن العلماء، حيث ذكر اثنا عشر خصلة مكروهة في اللحية، منها: (حلقها). ونص صراحة على الكراهية في كتابه "التحقيق" الذي كتبه بعد المجموع والروضة، كما في مقدمته. وكذلك فهم المتأخرون من الشافعية كلامه على الكراهة. ويكفي في ذلك الفقيه ابن حجر الهيتمي إذ هو عمدة المتأخرين، وقال الرملي الشافعي في فتاواه (4/ 69): (حلق لحية الرجل ونتفها مكروه لا حرام. وقول الحليمي في منهاجه: (لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه"، ضعيف). وفي حاشية البجيرمي على الخطيب (كتاب الشهادات)، الكراهية كذلك. وقال زكريا في أسنى المطالب: (قوله "ويكره نتفها" أي اللحية إلخ، ومثله حلقها. فقول الحليمي في منهاجه "لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه" ضعيف) وكذلك قال الدمياطي في "إعانة الطالبين" (2/ 240) عند قول الشارح "ويحرم حلق اللحية" ما نصه: (المعتمد عند الغزالي، وشيخ الإسلام (زكريا الأنصاري) وابن حجر في "التحفة"، والرملي، والخطيب (الشربيني)، وغيرهم: الكراهة)، ثم ضعّف قول الشارح مبينا أن المعتمد هو الكراهة.

وكذلك ليس هناك نص عن مالك ولا وأصحابه، لكن الذي قرره أكثر المتأخرين هو التحريم، وبعضهم قال بالكراهة. قال القاضي المالكي عياض (ت 544 هـ) في "إكمال المعلم بفوائد مسلم" (والنقل من غيره) (2/ 63) عن أحكام اللحية: (يكره حلقها وقصُّها وتحذيفها. وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن. وتكره الشهرة في تعظيمها وتحليتها، كما تكره في قصها وجزها. وقد اختلف السلف: هل في ذلك حد؟ فمنهم من لم يحدد إلا أنه لم يتركها لحد الشهرة، ويأخذ منها، وكره مالك طولها جداً. ومنهم من حدد بما زاد على القبضة فيزال. ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة). والكراهة هنا تنزيهية كما هو واضح، لأن كل الأمور التي كرهها هي غير محرمة.

والكراهة هي الرواية عن أحمد. إذ سأله مُهنّا (كما في المغني 1/ 66) عن حف الوجه، فقال: (ليس به بأس للنساء، وأكرهه للرجال) والحف هو أخذ الشعر من الوجه، والكراهة التنزيهية هي الأصل كما قرره الشيخ بكر في "المدخل) وقال المروذي: قيل لأبي عبد الله: تكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه؟ فقال: (أما أنا فلا أحلق قفاي) وقال صالح بن أحمد في "المسائل": وسألته عن رجل قد بُلِيَ بنتف لحيته، وقطع ظفره بيده، ليس يصبر عنهما؟ قال: (إن صبر على ذلك، فهو أحب إلي)

ومن الذين قالوا بذلك من المدرسة الإمامية: السيد مهدي بحر العلوم (ت 1212 هـ)، والسيد محمد باقر الداماد (ت 1041 هـ) في رسالته المسماة (شارع النجاة)، والشيخ محمد صالح الجزائري (ت 1366 هـ) في كتابه المعنون: (رسالة في كراهة حلق اللحية)، والشيخ عباس الرميثي (ت 1379 هـ) والسيد أبو القاسم الخوئي (ت 1413 هـ)، والسيد محمد باقر الصدر (ت 1400 هـ)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (376)

وذلك لأنه لم يعد للحية ـ كمظهر يظهر به الرجال ـ تلك القدسية التي كانت لمن قبلنا، بحيث كانت مظهرا الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم، وكان حلق اللحية نوعا من التشويه والمثلة، التي كان يرغب عنها الرجال، وتنفر منها النساء، بل صارت شيئا خاصا بثلة قليلة.

فإذا تأذت المرأة منها، لا باعتبارها سنة، بل باعتبارها مظهرا من المظاهر لا يختلف عن سائر المظاهر، فليس على الرجل من حرج في حلقها إذا كان من نيته تحقيق معاشرتها بالمعروف.

ودليل هذا هو ما سماه الفقهاء بـ (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح)، فاللحية مصلحة، ولكن سوء العشرة الذي ينجر عنها مفسدة خطيرة، فلذلك كان الأولى هو الاهتمام بالأهم فالمهم، خاصة مع وقوع الخلاف فيها.

وقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم هذا في أمر أخطر من اللحية، عندما جاءته جميلة بنت سلول فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا! فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتردين عليه حديقته؟) قالت: نعم. فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد (1).

وقد كان يقال: إنها كانت تبغضه أشد البغض، وكان يحبها أشد الحب، ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما بطريق الخلع، فكان أول خلع في الإسلام، وقد روي في رواية أخرى سبب بغضها لها فقد روى

__________

(1) ابن ماجة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، وسيأتي تخريجه مفصلا.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (377)

عكرمة عن ابن عباس قال: أول من خالع في الإسلام أخت عبدالله بن أبي، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: (يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأسه أبدا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة إذ هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها)

فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم هذا القول منها، وأذن لها في خلعه، ونحسب أن الأمر لو لم يكن مرتبطا بأمور لا انفكاك له عنها من لونه وطوله لأذن له صلى الله عليه وآله وسلم فيه حرصا عليها وعليه.

ومثل ذلك قد يقال في امرأة قد تفتن في دينها وفي علاقتها بزوجها إن رأته بصورة لا ترتضيها، أو قارنت غيره من الرجال به، فيكون في ذلك فتنة عظيمة، والله أعلم.

ثانيا ـ الرحمة الزوجية ومتلطباتهأ

انطلاقا من المعنى الاصطلاحي الذي ذكره العلماء لمعنى الرحمة (1)، فإنه يمكن التعرف على الأركان التي تتأسس عليها الرحمة، فهي تبنى على ركنين أساسين:

8. الرقة التي تعتري قلب الإنسان عندما يلاحظ ما يدعو إلى ذلك، فيقال مثلا: رحمت فلانا لما أصابه.

9. الإحسان المجرد عن الرقة أو النابع من الرقة.

ومن هذين الركنين اللذين تتأسس عليهما الرحمة يمكن التعرف على النواحي التي تتطلبها الرحمة الزوجية، فهي تتطلب ناحيتين: ناحية نفسية، وناحية مادية، أو ناحية معنوية وناحية حسية، لأن الإنسان يحتاج كلتا الناحيتين، ووجود إحداهما دون الأخرى نقص فيها أو فساد لها، وقد نص

__________

(1) عرفها المناوي بقوله: الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم (التعاريف:361)، وعرفها الجرجاني بقوله: الرحمة هي إرادة إيصال الخير (التعريفات:146)

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (378)

القرآن الكريم على وجوب الأخذ بكلتا الناحيتين في أوامر شرعية كثيرة، فلا يكفي أن يبني المؤمن الأمر حسيا ويهدمه معنويا:

ففي الصدقات مثلا، وهي موضع من مواضع الرحمة، بل فيها تتجلى الرحمة، ألحت الأوامر القرآنية في الأمر بمراعاة التعامل النفسي مع الفقير، فلا يكفي أن نعطيه عطاء ماديا، ثم نبخل عليه بالعطاء المعنوي النفسي، قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة:263) والقول المعروف هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله، فهو خير من صدقة هي في ظاهرها صدقة، وفي باطنها لاشيء لأن ذكر القول المعروف فيه أجر وهذه لا أجر فيها، قال الشوكاني: (القول المعروف من المسئول للسائل وهو التأنيس والترجية بما عند الله والرد الجميل خير من الصدقة التي يتبعها أذى) (1)

وفي التعامل مع السائل واليتيم قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى:9)، أي كما كنت يتيما فآواك الله، فلا تقهر اليتيم ولا تذله وتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه وتلطف به، قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم، {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (الضحى:10) أي وكما كنت ضالا، فهداك الله فلا تنهر السائل، ولا تكن جبارا ولا متكبرا ولا فحاشا ولا فظا على الضعفاء (2).

وقال تعالى في الأقارب آمرا بمراعاة هذه الناحية: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} (الإسراء:28) أي إذا سألك أقاربك، ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء وأعرضت عنهم لفقد النفقة، فقل لهم قولا ميسورا، أي عدهم وعدا بسهولة ولين (3).

وعندما ذكر الله تعالى وجوب تحكيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بوجوب تنفيذه فقط، بل أوجب

__________

(1) فتح القدير:1/ 284.

(2) ابن كثير:4/ 524.

(3) انظر: القرطبي:10/ 249، الطبري:15/ 74.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (379)

القبول النفسي كذلك، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:65)

وقد ضرب الله تعالى مثل الذي يرحم رحمة مادية حسية بالإحسان المادي الحسي، ويغفل عن مراعة الجانب النفسي بهذا المثال البديع: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (البقرة:264)

ويضرب المثل الأعلى للرحمة، وهو هو الجمع بين الحسنيين: الإحسان النفسي والإحسان المادي، بهذا المثال الجامع قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:265)

بناء على هذا التحديد القرآني لمعنى الرحمة، بشقيها الحسي والمعنوي، سنتحدث في هذا المبحث عن الكيفية المثلى لتحقيق هذبن المطلبين اللذين تتطلبهما الرحمة الزوجية، سواء في تعامل الزوج مع زوجته أو الزوجة مع زوجها:

1 ـ المتطلبات المعنوية

ونقصد بها ما يحتاجه كلا الزوجين من تعامل نفسي مع الطرف الآخر، وهذه المباحث عادة لا يتكلم عليها في أبواب الفقه، لأن الفقه قصره المتأخرون على التكاليف العملية الظاهرة المنضبطة، أما التكاليف التي ورد الأمر بها بل التصريح بالأمر، فالكثير من الفقهاء إذا تحدثوا عنها حكموا لها بالاستحباب، وهذا وإن عذر بالتخصص إلا أن خطره كان عظيما على الأسرة المسلمة، بل الفقه الإسلامي جميعا، فالزوج الذي يستفتي عن التعامل مع زوجته فيجاب بأن المهر فرض، لكن المعاشرة بالمعروف مستحبة، وهو في نفسه يعتبر المستحب مباحا فحسبه أن يؤدي الفرائض، فكيف سيتعامل

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (380)

مثل هذا مع زوجته، وهل يصلح بمثل هذا القول المجتمع المسلم والأسرة المسلمة.

لذا، فإن ما سنتكلم عنه هنا وما تكلمنا عنه في المبحث السابق، مما قد يعتبر دخيلا على الفقه، لا نعتبره دخيلا، بل نراه لب الفقه، ونرى الفقه غير محصور في التكاليف العميلة فحسب، وإنما هو معرفة النفس ما لها وما عليها.

وسنذكر في هذا المطلب بعض مجامع هذه المتطلبات، وقد قسمناها إلى ناحيتين: ناحية سلبية، تتناقض مع الرحمة، يلزم اجتنابها، وناحية إيجابية هي أثر من آثار الرحمة يستحب أو يلزم التخلق بها، وفيما يلي بعض ما تحتاجه هاتان الناحيتان من تفاصيل وأدلة:

أ ـ النواحي السلبية في المعاملة النفسية

واجتناب هذه النواحي أضعف مراتب الرحمة، وضابطها هو كل ما يؤذي أي طرف إيذاء نفسيا، سواء كان ذلك كلاما أو صمتا أو نظرة أو تصعير خد، فكل ما يؤذي الطرف الآخر، فإن الشرع قد صرح بتحريمه مطلقا سواء كان ذلك الطرف زوجا أو زوجة أو أجنبيا، وعلى ذلك النصوص القرآنية والنبوية.

ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (1)، فذكره صلى الله عليه وآله وسلم لمال المسلم وعرضه لا يلغي نفسه، بل هي أولى من مال وعرضه، فكيف نتصور الحرمة في أخذ دينار من ماله، ثم لا نتصوره في إهانته واحتقاره وملأ صدره حزنا وأسفا.

ونلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم في الحديث النهي عن احتقار المسلم، وهو رعاية ناحيته النفسية على عرضه وماله، وقد أخره في رواية أخرى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل

__________

(1) البخاري: 2/ 862، مسلم: 4/ 1986، ابن حبان: 2/ 291، الترمذي: 4/ 34، البيهقي: 6/ 94، أحمد: 2/ 68.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (381)

المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) وأكده بأن احتقار المسلم وحده كاف لأن يكون شرا محضا.

هذه حقائق نؤمن بها ونصدقها، ويؤمن بها كل الناس ويصدقون، ولكنه ونتيجة للإلفة الدائمة بين الزوج والزوجة يتغافل عن هذه الناحية إذا تعلق الأمر بالأهل، فيتصور البعض حرمتها مع الأجانب، فيكون معهم لطيفا ودودا، ويكون مع أهله وقحا، جلفا غليظا، فلذلك كان من حق الزوجين على بعضهما مراعاة هذه الأمور، وقد ذكر الغزالي عند بيانه لحقوق الأخوة في الله بعض المؤذيات المتعلقة باللسان، ولا بأس من ذكرها هنا، فإن الزوج كما ذكرنا لا يقل حقها عن حق الأخ والصديق، فما وجب للإخوة وجب لها من باب أولى:

قال الغزالي: (أما السكوت، فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته، بل يتجاهل عنه ويسكت عن الرد عليه فيما يتكلم به ولا يماريه، ولا يناقشه وأن يسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله، وليسكت عن أسراره التي بثها إليه ولا يبثها إلى غيره البتة ولا إلى أخص أصدقائه ولا يكشف شيئاً منها ولو بعد القطيعة والوحشة، فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث الباطن، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده، وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه، فإنّ الذي سبَّك من بلَّغك. والتأذي يحصل أولاً من المبِّلغ ثم من القائل.

نعم لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه فإنّ السرور به أولاً يحصل من المبلغ للمدح ثم من القائل، وإخفاء ذلك من الحسد. وبالجملة، فليسكت عن كل كلام يكرهه جملة وتفصيلاً إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ولم يجد رخصة في السكوت فإذ ذاك لا يبالي بكراهته فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق وإن كان يظن أنها إساءة في الظاهر) (1)

وسنذكر هنا باختصار خصلتين من أخطر أنواع الإساءات، لهما علاقة كبيرة بإفساد العلاقة الزوجية، هما الجحود والمن:

__________

(1) إحياء علوم الدين:2/ 176.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (382)

الجحود

وهو إنكار النعمة، وعدم الاعتراف بها، وقد سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا كفرا، وحذر النساء منه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير) (1)

وهذا التحذير الخاص من هذه الخصلة يدل على خطورتها وتأثيرها السلبي على العلاقات الزوجية، والنهي أو الإخبار الوارد في الحديث والمقتصر على ذكر النساء لا يدل على إباحة الجحود للرجال، فهو محرم على الرجال والنساء جميعا.

ومن النصوص الدالة على أثر هذا التحريم لا على الحياة الاجتماعية فحسب، بل على العقيدة أيضا، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) (2)، وقد قيل في معنى الحديث: إن الله تعالى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر أمرهم، لاتصال أحد الأمرين بالآخر، وقيل: إن من كان عادته وطبعه كفران نعمة الناس وترك شكره لهم كان من عادته كفر نعمة الله تعالى وترك الشكر له، وقيل معناه أن من لا يشكر الناس كان كمن لا يشكر الله عز وجل، وإن شكره كما تقول لا يحبني من لا يحبك أي: أن محبتك مقرونة بمحبتي فمن أحبني يحبك، ومن لا يحبك فكأنه لم يحبني.

ولهذا وردت السنة بالحث على شكر النعمة، ولو كانت في ظاهرها قليلة، بأي نوع من أنواع الشكر سواء كان مكافأة أو جائزة تسلم لصاحب المعروف جزاء عل إحسانه أو بكلمة الشكر يسمعها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أتى إليه معروف فليكافئ به، فإن لم يستطع فليذكره فمن ذكره فقد شكره (3)

ولنتصور مشهد رجل يأتي بهدية لزوجته، ويقول لها: هذا جزاء بعض إحسانك، فتقابله

__________

(1) سبق تخريجه.

(2) الترمذي: 4/ 339، أبو داود: 4/ 255، البيهقي: 6/ 182، مسند البزار: 8/ 226.

(3) أحمد: 6/ 90، مجمع الزوائد: 8/ 181.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (383)

الزوجة بالشكر الجميل والثناء الحسن، إن هذا المشهد الذي يستقر في ذاكرة الزوجين كاف وحده لتجنب كل الخلافات العائلية، وإنزال السكينة والمودة في قلوب الأسرة جميعا.

بل إن الأمر أيسر من تكلف المكافأة، فالكلمة الطيبة سواء كانت ثناء أو شكرا أو دعاء وحدها تكفي لغرس ذلك الأثر، وقد كان ذلك من سنته صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية، فقد كان إذا أفطر عند بعض أصحابه قال: (أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة) (1)

ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم ينظر ليدعو مثل هذا الدعاء، أو يثني ذاك الثناء إلى نوع الطعام المحضر، بل كان يشكر على القليل والكثير، فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل أهله الأدم فقالوا: (ما عندنا إلا خل)، فدعا به، فجعل يأكل به ويقول: (نعم الأدم الخل) (2)، وقد ذكر الشراح في معنى الحديث أن فيه مدح الاقتصار في المأكل ومنع النفس من ملاذ الأطعمة، وجعلوا تقدير الحديث على ذلك: ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخف مؤنته، ولا يعز وجوده، ولا تتأنقوا في الشهوات، فإنها مفسدة للدين، مسقمة للبدن، وقيل أنه مدح للخل نفسه، وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر.

والذي نراه أنه ليس المراد كلا الوجهين، فلم يرد صلى الله عليه وآله وسلم الحث على التقلل، أو مدح عين الخل، وإن كان قد يفهم ذلك من الحديث، ولكن المراد، والله أعلم، هو تطييب خاطر أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم، عندما ذكرن أنه لا يوجد غير الخل، فذكر صلى الله عليه وآله وسلم تطييبا لخواطرهن أنه (نعم الإدام)،لأن من الثناء على الزوجة الثناء عل ما تقدمه من طعام، ولهذا كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما عاب طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وفي رواية أخرى: إن لم يشتهه سكت (3)، قال ابن بطال: هذا من حسن الأدب، لأن المرء قد لا يشتهي الشيء ويشتهيه غيره، وكل مأذون في أكله من قبل الشرع ليس فيه عيب.

__________

(1) ابن حبان: 12/ 107، مجمع الزوائد: 8/ 34، البيهقي: 7/ 287، النسائي: 4/ 202، ابن ماجة: 1/ 556.

(2) سبق تخريجه.

(3) مسلم: 3/ 1633، أحمد: 2/ 427، شعب الإيمان: 5/ 84.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (384)

وكما كان صلى الله عليه وآله وسلم يثني على الطعام مهما كان بسيطا كان يدعو لأصحابه مهما كان قليلا، فعن عبد الله بن بسر قال: قال أبي لأمي لو صنعت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعاما، فصنعت ثريدة، وقال بيده يقلل، فانطلق أبي فدعاه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على ذروتها، ثم قال: خذوا باسم الله، فأخذوا من نواحيها، فلما طعموا دعا لهم فقال: (اللهم اغفر لهم وارحمهم وبارك لهم في رزقهم) (1)

وفي السنة القولية ورد الحث منه صلى الله عليه وآله وسلم على الشكر والثناء على أصحابه وبين وجوه ذلك، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أعطي عطاء فوجد فليجز به، ومن لم يجد فليثن، فإن من أثنى فقد شكر ومن كتم فقد كفر (2)، وبين الصيغ التي يجازى بها الإحسان بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء (3)

وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم الجزاء الأخروي العظيم لهذا الثناء بالإضافة لما ينتجه ذلك الثناء من تأليف القلوب، فعن أنس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أتاه المهاجرون، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوما أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنإ حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم (4)

ومن الشكر الحديث عن النعمة والثناء على أصحابها سواء في حضورهم أو غيابهم، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من أبلى بلاء فذكره فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره (5)

بهذه السنن القولية والفعلية تتآلف القلوب، وتتنزل الرحمات على النفس المسلمة والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، أما الجحود، فقد شبه الشاعر أصحابه بقوله:

__________

(1) ابن حبان: 12/ 110، الدارمي: 2/ 130.

(2) البيهقي: 6/ 182، الترمذي: 4/ 379، شعب الإيمان: 6/ 514، أبو داود: 4/ 255.

(3) ابن حبان: 8/ 202، الترمذي: 4/ 380، الدارمي: 2/ 143، النسائي: 6/ 53.

(4) الترمذي: 4/ 653، أبو داود: 4/ 255.

(5) أبو داود: 4/ 256.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (385)

كحمار السوء إن أشبعته رمح الناس وإن جاع نهق

وقال الآخر:

لعمرك ما المعروف في غير أهله... وفي أهله إلا كبعض الودائع

فمستودع ضاع الذي كان عنده... ومستودع ما عنده غير ضائع

وما الناس في شكر الصنيعة عندهم... وفي كفرها إلا كبعض المزارع

فمزرعة طابت وأضعف نبتها... ومزرعة أكدت على كل زارع

المن

وهو الصفة السلبية المقابلة للجحود، فإن الجحود هو نكران النعمة، أما المن فهو مبالغة المنعم في الثناء على نعمته، إلى درجة إحراج من أنعم عليه، والكمال المضاد لهاتين الصفتين أن يكون الثناء من المنعم عليه، والجحود واعتقاد التقصير من المنعم، فالمنعم يجحد بنعمته ولا يراها والمنعم عليه يثني عليها ويبالغ في الثناء، فإذا ما انعكس الحال، كان ذلك سلوكا سيئا مشينا له خطره على العلاقات، ولهذا اعتبر العلماء المن من الكبائر، بدليل ترتيب عدم دخول الجنة عليه وقرنه بأصحاب الكبائر كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة لاينظر إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة تتشبه بالرجال، والديوث، وثلاثة لايدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر والمنان بما أعطى) (1)

وقد بلغ الحس المرهف ببعض الصالحين أن قال: (لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه)، وقالت له امرأة: دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا، فإنهم إنما يخرجون يأكلون الفواكه، فإني عندي أسهما وجعبة، فقال: لا بارك الله في أسهمك وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم.

ومما يساعد على رفع المن، بل هو الأصل في رفعه أن يبتغي بأي خير يقدمه لأهله وجه الله، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة تبين أن نفقة الرجل على أهله من الصدقات، فاعتقاد ذلك ينفي المن

__________

(1) النسائي: 2/ 42، المعجم الأوسط: 3/ 51، أحمد: 2/ 134.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (386)

نفيا قاطعا، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (نفقة الرجل على أهله صدقة) (1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فم امرأتك) (2)، وقد ورد هذا الحديث في قصة سعد المشهورة، ووجه تعلقها بها كما قال ابن حجر: (أن سؤال سعد يشعر بأنه رغب في تكثير الأجر، فلما منعه الشارع من الزيادة على الثلث، قال له على سبيل التسلية: إن جميع ما تفعله في مالك من صدقة ناجزة، ومن نفقة ولو كانت واجبة تؤجر بها، إذا ابتغيت بذلك وجه الله تعالى) (3) وقد قيد هذا الحديث بابتغاء وجه الله لينفي المن وكل الأمراض النفسية الناتجة عن اعتقاد التفضل، قال ابن أبي جمرة: (وقيده بابتغاء وجه الله، وعلق حصول الأجر بذلك، وهو المعتبر ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية، لأن الإنفاق على الزوجة واجب، وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره بذلك) (4)

وقد أخبر الله تعالى عن موقف عباده الصالحين بعد تقديمهم لأصناف الخير، فقال تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (الإنسان:9)

ب ـ النواحي الإيجابية في المعاملة النفسية

ونقصد بها التصرفات الإيجابية التي توثق عرى المحبة بين الزوجين، وهي تصرفات لا تكلف شيئا، ومع ذلك لها الأثر الخطير في الإصلاح وتأليف القلوب، وإدامة المودة، وسنذكر منها وصفين جامعين وردت بهما النصوص الكثيرة جمعهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق) (5)

__________

(1) البخاري:1/ 29، الترمذي: 4/ 344، البيهقي:7/ 58، أحمد:5/ 273.

(2) البخاري: 1/ 30، النسائي: 383.

(3) فتح الباري:5/ 367.

(4) نقلا عن فتح الباري:5/ 367.

(5) مسلم: 4/ 2026، ابن حبان: 2/ 282، أحمد: 3/ 360.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (387)

وجمعهما الشاعر بقوله:

أبني إن البشر شيء هين... وجه طليق وكلام لين

وأشار إليهما الماوردي بقوله عند عده لخصال البر: (أما القول فهو طيب الكلام وحسن البشر والتودد بجميل القول، وهذا يبعث عليه حسن الخلق ورقة الطبع) (1)

وسنشير هنا إلى فضل هذين الوصفين وكيفية تحقيقهما في حياة الزوجين:

الكلمة الطيبة

وهي كل كلام مثمر ثمرة مقصودة من الشارع، ويختلف ذلك بحسب الأحوال والمواقف، فما يكون كلمة طيبة هنا قد يكون كلمة خبيثة هناك، فالصدق مثلا طيب مطلقا، لكن الصدق الذي يثمر ثمرة غير شرعية يكون صدقا خبيثا، ويكون الكذب في ذلك الموضع أطيب منه، وعن هذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي (2) خيرا أو يقول خيرا) (3)

فالذي يصدق زوجته مثلا في موقف من المواقف، فيخبرها عما في نفسه مما يسوئها صدق لا خير فيه، لأن ثمرته الإيذاء المحرم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس) (4)، قال الخطابي: كذب الرجل زوجته أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه يستديم بذلك صحبتها ويصلح به خلقها (5).

__________

(1) أدب الدنيا والدين: 1/ 201.

(2) أي يبلغ، تقول نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير، فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نميته بالتشديد.

(3) مسلم: 4/ 2011، البخاري: 2/ 958، ابن حبان: 13/ 40، البيهقي: 10/ 197..

(4) الترمذي: 4/ 331، ابن ماجة: 1/ 18.

(5) نقلا عن: عون المعبود: 13/ 179.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (388)

وقد رغب صلى الله عليه وآله وسلم في الكلمة الطيبة لما تثمره من مودة في القلوب، فاعتبرها من الصدقات، بل ذكر للكلمة الطيبة من الفضل ما يتجاوز فضل الصدقة فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه) (1) والكلمة من رضوان الله مطلقة كما وردت في الحديث فلا يجوز تقييدها بأي قيد، فتشمل لذلك الكلام الطيب الذي يثمر الثمرة الطيبة في أي موضع من المواضع.

وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر بعض الجزاء الذي أعد لهذه الكلمة الطيبة فقال: (إن في الجنة لغرفا يرى بطونها من ظهورها وظهورها من بطونها (فقال أعرابي: يا رسول الله لمن هي؟ قال: (لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى لله بالليل والناس نيام) (2)

وأحسن ضابط عملي للكلام الطيب أن يتملى الإنسان قبل حديثه ويتبصر نتائج قوله، فإن كان خيرا ثمرته طيبة قاله، وإلا كان سكوته أفضل وأعظم أجرا من كلامه، ومثل هذا لا يمكن ضبطه بنماذج تحصره، لأن الكلمة الواحدة قد تكون طيبة في موضع خبيثة في غيره، ومع ذلك سنذكر بعض النماج العملية من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للكلام الطيب تكون مرشدة لغيرها:

التبشير والتفاؤل

لأن التبشير يبعث على انشراح الصدر، وهو غاية شرعية مقصودة، لأن الصدر المنقبض والعقل الحزين والجوارح المهمومة لا تتحرك أي حركة خير لنفسها أو للمجتمع، ولهذا أرشد صلى الله عليه وآله وسلم إلى التنفيس على المريض وتقوية عزيمته، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئا ويطيب نفسه) (3)

__________

(1) البخاري: 5/ 2377، ابن حبان: 1/ 514، الحاكم: 1/ 106، الترمذي: 4/ 559.

(2) الترمذي: 4/ 354، أحمد: 1/ 155.

(3) الترمذي: 4/ 412، ابن ماجة: 1/ 462، ابن أبي شيبة: 2/ 445، شعب الإيمان: 6/ 541.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (389)

فلم يلحظ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث التصديق الواقعي لما يقوله العواد، لأن ذلك من أمر الله وكلامهم لا يرد شيئا من ذلك، وإنما نظر إلى أثر ذلك التنفيس، وهو تطييب نفس المريض وانشراح صدره، لأن الحياة لحظات محدودة، فانشراح صدره في تلك اللحظة مكسب من مكاسبه، ولو تسببنا في حزنه وأسفه تحت اسم الصدق والصراحة لن نكون قد فعلنا شيئا أكثر من تدمير بعض اللحظات من حياته.

ولأجل ملاحظة هذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب الفأل ويكره التشاؤم، لأن ثمرة الفأل الانطلاق للعمل المنتج بصدر منشرح منطلق، وثمرة التشاؤم انقباض قد يجر إلى هم أو كسل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا عدوى ولا طيرة قال: ويعجبني الفأل فقلت: ما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة (1)

ولهذا كان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم تغيير الأسماء التي تبعث على التشاؤم، قال ابن القيم: (غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسماء المكروهه إلى أسماء حسنة، فغير اسم برة إلى زينب، وغير اسم حزن إلى سهل، وغير اسم عاصية فسماها جميلة، وغير اسم أصرم إلى زرعة، وسمى حربا سلما، وسمى المضطجع المنبعث، وسمى أرضا يقال لها عفرة خضرة، وشعب الضلالة سماه شعب الهدى، وبنو الزينة سماهم بني الرشدة) (2)

وقد علل ابن القيم هذا التغيير بقوله: (لما كانت الأسماء قوالب للمعاني ودالة عليها اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب، وأن لا يكون المعنى معها بمنزلة الأجنبي المحن الذي لا تعلق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبى ذلك، والواقع يشهد بخلافه بل للأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثر عن أسمائها في الحسن والقبح والخفة والثقل واللطافة والكثافة كما قيل:

وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه إن فكرت في لقبه) (3)

__________

(1) أحمد: 3/ 173.

(2) الوابل الصيب:197.

(3) زاد المعاد:2/ 336.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (390)

المواساة

والمقصود منها العلاج المعنوي للجراح النفسية (1)، فالكلمة الطيبة بلسم تداوى به الأمراض وتضمد به الجراح، وتسكن به السكينة القلوب، وتحل به المودة في الصدور، وقد كان ذلك من سنته صلى الله عليه وآله وسلم مع الناس جميعا ومع زوجاته خصوصا، فعن صفية بنت حيي، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد بلغني عن حفصة وعائشة كلام فذكرت ذلك له، فقال: ألا قلت: فكيف تكونان خيرا مني، وزوجي محمد، وأبي هارون وعمي موسى، وكان الذي بلغها أنهم قالوا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، وقالوا نحن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبنات عمه (2).

وفي حديث آخر أو حادثة أخرى عن أنس قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي تبكي: فقال: ما يبكيك فقالت قالت لي حفصة: إني بنت يهودي فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لابنة نبي وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي ففيم تفخر عليك؟ ثم قال: (اتقي الله يا حفصة) (3)

طلاقة الوجه

ونعني بها ما هو أكثر من الابتسامة، لأن الابتسامة مختصة بعضو واحد، ولها وقتها المحدود بخلاف طلاقة الوجه، فإنها مستمرة دائمة يعبر بها الوجه عما يختلج في صدر صاحبه.

ولهذا لا تذكر وجوه المؤمنين في القرآن إلا مستبشرة منطلقة مسفرة ضاحكة، ولا تذكر وجوه غيرهم إلا وعليها غبرة ترهقها قترة، وعندما عبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موقف من المواقف نزل النهي

__________

(1) وهو نفس أصل هذه الكلمة لغة حيث يرجع معناها إلى المداواة والعلاج، قال ابن منظور: الأَسا: المُداواة والعِلاج والأَسُوُّ، على فَعُول: دواء تَأْسُو به الجُرْح. وقد أَسَوْتُ الجُرح آسُوه أَسْواً أَي داويته، فهو مأْسُوٌّ وأَسِيٌّ أَيضاً؛ والآسِي: الطَّبيب، لسان العرب:14/ 24.

(2) الترمذي: 5/ 708.

(3) الترمذي: 5/ 709، مسند أبي يعلى: 6/ 158، مسند عبد بن حميد: 373.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (391)

القرآني عن ذلك العبوس ونزل الأمر بتبديله بشرا وانطلاقا حتى لا يؤثر في وجه المؤمن أي موقف من المواقف.

ولهذا كان من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلاقة الوجه وانشراح الأسارير والابتسامة إلى درجة أن لوحظ ذلك عليه، عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: (ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (1)

فليت الذين يعبسون في وجه الناس ويقطبون أن يلتفتوا لهذه السنة فيحيوها، فهي أكبر أثرا وأصح نقلا، وأعظم أجرا من كثير من سنن الأكل والشرب واللباس.

ولم تكن هذه السنة كذلك من السنن الفعلية التي قد يختلف في تفسيرها أو يقال بتخصيصها أو يعتقد جبليتها، وإنما وردت بها الأحاديث الكثيرة العامة والصريحة، فاعتبرت طلاقة الوجه من المعروف، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحقرن أحدكم شيئا من المعروف، وإن لم يجد فليلق أخاه بوجه طليق، وإن اشتريت لحما أو طبخت قدرا فأكثر مرقته واغرف لجارك منه) (2)

واعتبرت من الصدقات، بل قرنت مع أصول للدين، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة) (3)

وجمعه صلى الله عليه وآله وسلم بين هذه الخصال جميعا يدل على أن هناك علاقة بينها جميعا، وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ليس الكمال أن تفعل الخير، ولكن الكمال أن تفعله، وأنت منشرح الصدر منطلق الأسارير، فإذا أمرت بالمعروف أو نهيت عن المنكر أو أرشدت الضال أو فعلت الخير مما ذكر، فافعله مبتسما لا ضجرا، لأن

__________

(1) الترمذي: 5/ 601، أحمد: 4/ 191، شعب الإيمان: 6/ 251.

(2) الترمذي: 4/ 274.

(3) ابن حبان: 2/ 287، الترمذي: 4/ 339، مجمع الزوائد: 3/ 134، مسند البزار: 9/ 458.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (392)

ضجرك سيرفع ثواب عملك، بل يحيل خيريته شرا وحلاوته مرا.

وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يخص هذا السلوك من اشتد في الدين عوده، بل كان يبدأ به من دخل في الإسلام لتوه، فعن بعضهم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أنت رسول الله، أو قال: أنت محمد فقال: نعم، قال: فإلام تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده من إذا كان بك ضر فدعوته كشفه عنك ومن إذا أصابك عام سنة فدعوته أنبت لك، ومن إذا كنت في أرض قفر فأضللت فدعوته رد عليك قال: فأسلم الرجل ثم قال: أوصني يا رسول الله فقال: له لا تسبن شيئا، ولا تزهد في المعروف ولو ببسط وجهك إلى أخيك وأنت تكلمه وأفرغ من دلوك في إناء المستسقي واتزر إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الإزار قال: فإنها من المخيلة والله لا يحب المخيلة (1)

وقد بين صلى الله عليه وآله وسلم الثمرة التي تجنى من هذا السلوك السهل البسيط الذي ينتفع به الجسم والروح والأهل والمجتمع بقوله: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الخلق (2)

2 ـ المتطلبات الحسية

وهي المتطلبات المادية التي تخاطب الحس، ومع ذلك لها تأثيرها المعنوي والنفسي، نتيجة للعلاقة المتشابكة بين الحس والمعنى والجسد والروح، فلذلك قد يختلط بعض ما سنذكره هنا بما ذكرناه في المطلب السابق.

ولكن الفارق بينهما أن الرحمة في الحالة السابقة لا تستدعي جهدا عظيما، بل يغلب عليها الحال، فهي إما كلمة طيبة أو ابتسامة عذبة أو طلاقة وجه، وكل ذلك لا يكلف شيئا، ومع ذلك اعتبر برحمة الله وإحسانه من وجوه البر، أما الرحمة في هذه الحالة، فتحتاج نوعا من الجهد والصبر، وقد

__________

(1) أحمد: 5/ 377.

(2) ابن أبي شيبة: 5/ 212.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (393)

سمى صلى الله عليه وآله وسلم هذه الناحية من الجهد الحسي رحمة، فقد روى أنس بن مالك أن بلالا بطأ عن صلاة الصبح فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما حبسك؟ فقال: مررت بفاطمة،، وهي تطحن، والصبي يبكي، فقلت لها: إن شئت كفيتك الرحا وكفيتني الصبي، وإن شئت كفيتك الصبي وكفيتني الرحا، فقالت: أنا أرفق بابني منك، فذاك حبسني، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (فرحمتها رحمك الله) (1)

ولعله لأجل هذه العلاقة بين الجهد والرحمة في هذه الناحية قرنت الرحمة بالصبر في القرآن الكريم، ومن أمثلتها قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد: 17)

وقد ذكر ابن القيم مواقف الناس في الجمع بين الصبر والرحمة، فقال: (من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع، والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في المتولي: ينبغي أن يكون قويا من غير عنف، لينا من غير ضعف فبصبره يقوى، وبلينه يرحم وبالصبر ينصر العبد، فإن النصر مع الصبر، وبالرحمة يرحمه الله تعالى) (2)

وننبه هنا كما نبهنا سابقا إلى أن المرجع في تحديد متطلبات الرحمة الحسية الشرع لا العرف، والخالق لا الخلق، والفقه لا الهوى، فلذلك لا يجوز باسم الرحمة أن نلغي الأحكام الشرعية رحمة بمن حكمنا عليهم بها، وقد قال تعالى عن عقوبة الزناة: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} (النور:2)، وقال عن الكفار المحاربين: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التوبة:73) وهذا لا يتناقض مع كونه صلى الله عليه وآله وسلم رحمة مهداة.

ولذلك فإن الرحمة لا تعني المسارعة لما يطلبه المرحوم من أنواع الهوى، بل هي منضبطة بما يصلحه ويصلح له، فلذلك قد تلبس الرحمة ثوب الشدة كما قيل:

__________

(1) أحمد: 3/ 150، مجمع الزوائد: 10/ 316.

(2) دقائق التفسير:2/ 312.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (394)

قسا ليزدجروا ومن يك راحما فليقس أحيانا على من يرحم

وقد عرف ابن القيم الرحمة وبين هذا المقتضى فقال: (ومما ينبغي أن يعلم أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك، فمن رحمة الأب بولده أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم، ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به (1)

ولعله لأجل هذا جمع صلى الله عليه وآله وسلم بين الرحمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر) (2)

ولذلك، فإن الرحمة ليس كما يتصور الكثير من الناس من الليونة والضعف والرقة، بل قد يكون كل ذلك نوعا من أنواع انحراف المزاج، فالرحمة إذا انحرفت عن خطها) انحرفت إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن لا يقدم على ذبح شاة ولا إقامة حد وتأديب ولد، ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك، وقد ذبح أرحم الخلق بيده في موضع واحد ثلاثا وستين بدنة، وقطع الأيدي من الرجال والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود، ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم، وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم (3)

انطلاقا من هذه التنبيهات والضوابط نذكر هنا بعض النماذج عن كيفية تطبيقه صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الناحية

__________

(1) مدارج السالكين:2/ 311.

(2) الترمذي: 4/ 321، أبو يعلى: 7/ 238، المعجم الكبير: 11/ 449، شعب افيمان: 6/ 481 الأدب المفرد: 130.

(3) مدارج السالكين:2/ 311.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (395)

من الرحمة في بيته ومع أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم، وسنذكر نموذجين من جوامع هذه الناحية ترجع إليهما التفاصيل الكثيرة:

أ ـ تلبية الرغبة المباحة لكلا الطرفين

ونعني بها أن يعامل كل طرف من الزوجين الطرف الآخر لا بما تملي عليه طبيعته، وأهدافه ومنهجه في الحياة، وينسى حاجات الطرف الآخر، وإنما يتعامل معه وفق ما تتطلبه طبيعة ذلك الآخرو اهتماماته، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يعامل كل أحد بما يليق به، فكان وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحمل أكبر رسالة، ويتحمل أعظم وظيفة، وتنوء بظهره جميع الأعباء، لا يمنعه كل ذلك من أن يهتم لاهتمامات الصبيان، فيعاملهم بحسب طبيعتهم.

فعن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ يقال له أبو عمير، قال: أحسبه فطيما، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ لنغر كان يلعب به، فربما حضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته، فيكنس وينضح ثم يقوم ونقوم خلفه فيصلي بنا (1)، وفي رواية عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل على أم سليم، ولها ابن من أبي طلحة يكنى أبا عمير، وكان يمازحه فدخل عليه فرآه حزينا، فقال: مالي أرى أبا عمير حزينا؟ فقالوا: مات نغره الذي كان يلعب به، قال: فجعل يقول: (أبا عمير ما فعل النغير؟) (2)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إن عاد من سفر استقبله الصبيان، فيردفهم معه، قال عبد الله بن جعفر: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم من سفر تلقي بنا، قال: فتلقي بي وبالحسن أو بالحسين، فحمل أحدنا بين يديه والآخر خلفه حتى قدمنا المدينة (3).

بل كان صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي كلف بإخراج أمة كاملة إلى الوجود ينظم الصبيان للسباق، فعن عبد

__________

(1) البخاري: 5/ 2291، البيهقي: 5/ 203.

(2) انظر هذه الرواية في: أحمد: 3/ 188، 3/ 288.

(3) ابن ماجة: 2/ 1240.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (396)

الله ابن الحارث قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصف عبد الله وعبيد الله وكثيرا من بني العباس، ثم يقول: من سبق إلي فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم (1).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا مر على الصبيان يسلم عليهم، فعن أنس قال: مر علينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نلعب فقال: السلام عليكم يا صبيان (2).

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يفعل كل هذا وغيره في مجتمع كان من شدة جفاوته يعتبر التعامل مع الصبيان، بل مجرد تقبيلهم منقصة، عن عائشة، قالت: قدم ناس من الأعراب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم فقالوا: لكنا والله ما نقبل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وأملك أن كان الله قد نزع منكم الرحمة) (3)

هذه المعاملة مع الصبية والتي تنسجم مع مرحلتهم الحياتية، كانت تراعي المرأة وطبيعتها وحبها لأصناف اللهو واللعب، ولهذا اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم لهو الرجل مع أهله ومداعبته لهن من الحق، فقال: (كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق) (4)

واعتبر ذلك من حسن الخلق ومن كمال الإيمان، فقال: (إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله) (5)

ب ـ الانبساط والملاطفة

وهو أن لا ينشغل الزوج أو الزوجة بأحوالهما الخاصة عن الحديث والمباسطة، وقد كان ذلك

__________

(1) أحمد: 1/ 214، مجمع الزوائد: 9/ 17.

(2) أحمد: 3/ 183، مجمع الزوائد: 8/ 34، ابن أبي شيبة: 5/ 251.

(3) ابن ماجة: 2/ 1209.

(4) ابن أبي شيبة: 4/ 229.

(5) الحاكم: 1/ 119، الترمذي: 5/ 9، أحمد: 6/ 99، شعب الإيمان: 6/ 232، ابن أبي شيبة: 5/ 210.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (397)

من سنته صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يراعي حاجة أهله لهذه الناحية، وفي نفس الوقت يجمع في انسجام عجيب بينها وبين حق ربه وما أنيط به من مسؤولية، فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا صلى، فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة (1).

وهو أدب عظيم منه صلى الله عليه وآله وسلم يجمع فيه بين حاجتها للحديث في حال استيقاظها، وعدم إزعاجها بالإيقاظ إن كانت نائمة.

وكان من سنته صلى الله عليه وآله وسلم أن يسير بالليل مع زوجاته يحدثهن، فلسير الليل نكهته الخاصة، فلذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم يراعي حق أزواجه فيها، أخبرت عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة لعائشة وحفصة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث، فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر فقالت: بلى فركبت فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها ثم سار حتى نزلوا وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وتقول: يا رب سلط علي عقربا أو حية تلدغني ولا أستطيع أن أقول له شيئا (2).

وقد حفظ لنا الرواة حديثا مما كان يدور بينه صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة، وهو من الطول والغرابة بحيث يحتاج إلى صبر عظيم لاستماعه، مع عدم تعلقه بأي شأن من شؤون الدين، فقد ذكرت عائشة، وهي تحكي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر إحدى عشرة امرأة ووصفهن لأزواجهن، ومن جملة هؤلاء النسوة وهي آخرهن امرأة يقال لها أم زرع، وكان من حديثها ووصفها لزوجها وأهله قولها كما تذكر عائشة: (زوجي أبو زرع وما أبو زرع؟ أناس من حلي أذني وملأ من شحم عضدي وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح وأرقد فأتصبح وأشرب فأتقنح، أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟ عكومها رداح وبيتها فساح، ابن أبي زرع

__________

(1) البخاري: 1/ 389، مسلم: 1/ 511، ابن خزيمة: 2/ 168، البيهقي: 3/ 46، أبو داود: 2/ 21، مسند أبي يعلى: 8/ 93، ابن أبي شيبة: 2/ 55.

(2) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (398)

فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة ويشبعه ذراع الجفرة، بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها وطوع أمها وملء كسائها وغيظ جارتها، جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنقث ميرتنا تنقيثا ولا تملأ بيتنا تعشيشا، قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سريا ركب شريا وأخذ خطيا وأراح علي نعما ثريا، وأعطاني من كل رائحة زوجا وقال: كلي أم زرع وميري أهلك قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع)

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد سماعه حديث عائشة تعالى بطوله متجاوبا معها مؤنسا لها: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع) (1)

ولكن هذا الانبساط والملاطفة مع ذلك تبقى مقيدة بالقيود الشرعية، فلا تحل الغيبة ولا النميمة ولا كل ما يخرج من اللسان من آفات، وتروي عائشة، من ذلك أنها قالت: حكيت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا فقال: ما يسرني أني حكيت رجلا وأن لي كذا وكذا، قالت: فقلت: يا رسول الله إن صفية امرأة وقالت: بيدها هكذا كأنها تعني قصيرة، فقال: لقد مزجت بكلمة لو مزجت بها ماء البحر لمزج (2).

__________

(1) البخاري: 5/ 1989، النسائي: 5/ 355، مسند ابي يعلى: 8/ 156.

(2) الترمذي: 4/ 660، أحمد: 6/ 189، شعب الإيمان: 5/ 301.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (399)

الفصل الخامس

حق الزوجات في العدل

نتناول في هذا الفصل حقا من الحقوق المعنوية للزوجة، وهو مرتبط بحالة تعدد الزوجات، وهو العدل الذي أبيح على أساسه التعدد، وقد قسمنا الكلام عن هذا الموضوع إلى المباحث التالية:

1. حكم تعدد الزوجات وحكمته والرد على الشبهات المتعلقة بالتعدد، باعتبار ذلك مدخلا أساسيا للفصل.

2. مفهوم العدل في القسمة وأحكامه.

3. أنواع الميل، هو الجور بين الزوجات وأحكامه.

4. أحوال الزوجين في القسمة.

5. القسمة العادلة بين الزوجات وضوابطها الشرعية.

ونرى أن هذه الجوانب تحيط بأكثر المسائل المتعلقة بهذا الباب، وهي في نفس الوقت أكبر دليل عملي على مراعاة الشريعة للعدل في أسمى صوره.

أولا ـ حكم تعدد الزوجات وحكمته

نعتذر مقدما على طول هذا المبحث لأن الغرض الذي دعانا إليه يحتم هذا الطول، فالغرب الآن ومعه جحافل المستغربين لا هم لهم من الأسرة المسلمة إلا إزاحة هذا الحكم الشرعي القطعي بحجة منافاته للفطرة والطبيعة البشرية وانتهاكه لحقوق الإنسان..

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (400)

ولذلك أصبح الاعتقاد بأن تعدد الزوجات فيه انتهاك عظيم لكرامة المرأة وحقوقها المعنوية، وهذا ما يستدعي التفصيل في المسألة والإطناب فيها، لاستبيان المصالح المرعية التي قصدها الشرع من هذا الحكم.

وقد قسمنا الحديث فيه إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ حكم تعدد الزوجات

اتفق الفقهاء على جواز تعدد الزوجات، واستدلوا على ذلك بصراحة النصوص الدالة على ذلك، وقد سبق ذكر بعضها في محله.

ولكن هذا الحكم مع ذلك لقي معارضة شديدة من بعض مرضى القلوب، ممن سنتعرض للرد عليهم عند ذكر الحكمة من هذا الحكم.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هناك من الدول الإسلامية من قننت لتحريم التعدد، وقد نجح هؤلاء فعلاً في بعض البلاد العربية والإسلامية، فصدرت قوانين تحرم ما أحل الله من التعدد، اتباعا لسنن الغرب، ولا زال منهم من يحاول ذلك في بلاد أخرى.

ففي مصر يحكي لنا العلامة الجليل الأستاذ محمد أبو زهرة (1) أنه بعد نحو من عشرين سنة من وفاة الأستاذ الإمام وجدت مقترحات تتضمن تقييد تعدد الزواج قضائياً، بقيدين وهما: العدالة بين الزوجات، والقدرة على الإنفاق، وكان ذلك في اللجنة التي أُلفت في أكتوبر 1926 م، إذ قدمت مشروعاً مشتملاً على ذلك، ولكن بعد الفحص والتمحيص والمجاوبات المختلفة بين رجال الفقه ورجال الشورى، رأى أولياء الأمر العدول عن ذلك، وجاء المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 خالياً منه.

__________

(1) في كتابه (محاضرات في عقد الزواج وآثاره) ص 127.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (401)

وفي سنة 1943 همَّت وزارة الشئون الاجتماعية المصرية أن تنشر المقبور، ولكنه عدل وشيكاً عما هم به فكان له بذلك فضل.

ثم جاء من بعد ذلك وزير آخر، وجعل من أعظم ما يعنى به هذه المسألة، فأعاد نشر ذلك الدفين، وهمَّ بأن يقدمه لدار النيابة ليأخذ سيره، ولكنه بعد أن خطا بعض الخطوات، ونبه إلى ما فيه من خطر اجتماعي - وممن كتب في ذلك الأستاذ أبو زهرة نفسه في مجلة القانون والاقتصاد في العددين الأول والثاني للسنة الخامسة عشرة - أعاده إلى حيث كان.

وبعد أن طبع الأستاذ أبو زهرة كتابه هذا، أعيد الجدل مرة أخرى في سنة 1961 م. على صفحات الصحف، وقد أيدت عناصر مختلفة منع التعدد أو وضع القيود له، وعارضه علماء الإسلام وعلى رأسهم العلامة الشيخ أبو زهرة معارضة قوية.

ومن الطريف أن رئيس تحرير مجلة كبرى في القاهرة - آخر ساعة - وهو الأستاذ محمد التابعي كتب مقالاً مدعماً بالاحصاءات الرسمية عن تركيا وكيف أن منع التعدد قانوناً لم يمنع الشعب التركي من التعدد فعلاً، وقد انتهى فيه إلى أن أي تشريع يمنع التعدد سيلقى الفشل الذي لقيه قانون منع التعدد في تركيا.

وفي تونس، صدر قانون بمنع التعدد تماماً، وفرض عقوبة على من يتزوج أكثر من واحدة، يقول الشيخ القرضاوي: والعجب العجاب أن تأخذ بعض البلاد العربية الإسلامية بتحريم تعدد الزوجات في حين أن تشريعاتها لا تحرم الزنى، إلا في حالات معينة مثل الإكراه، أو الخيانة الزوجية إذا لم يتنازل الزوج.

وقد حكى في ذلك حكاية نقلها عن الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود رحمه الله: أن رجلاً مسلماً في بلد عربي أفريقي يمنع التعدد، تزوج سراً بامرأة ثانية على زوجته الأولى وعقد عليها عقداً عرفياً شرعياً مستوفى الشروط، ولكنه غير موثق، لأن قانون البلد الوضعي يرفض

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (402)

توثيقه ولا يعترف به، بل يعتبره جريمة.. وكان الرجل يتردد على المرأة من حين لآخر.. فراقبته شرطة المباحث، وعرفت أنها زوجته، وأنه بذلك ارتكب مخالفة القانون.

وفي ليلة ما ترصدت له وقبضت عليه عند المرأة، وساقته إلى التحقيق بتهمة الزواج بامرأة ثانية!. وكان الرجل ذكياً، فقال للذين يحققون معه: من قال لكم إنها زوجتي؟ إنها ليست زوجة، ولكنها عشيقة، اتخذتها خدناً لي، وأتردد عليها ما بين فترة وأخرى!

وهنا دهش المحققون وقالوا للرجل بكل أدب: نأسف غاية الأسف؛ لسوء الفهم الذي حدث. كنا نحسبها زوجة، ولم نكن نعلم أنها رفيقة!.وخلوا سبيل الرجل، لأن مرافقة امرأة في الحرام، واتخاذها خدناً يزانيها يدخل في إطار الحرية الشخصية التي يحميها القانون!

وفي الباكستان وفي عهد رئيس جمهوريتها (أيوب خان) أصدر قانوناً - بصفته الحاكم العسكري - يضع قيوداً شديدة جداً للزواج بأكثر من واحدة، منها أن يعرض ذلك على مجلس عائلي، وأن يدفع مبلغاً ضخماً من المال.

وقد قوبل هذا القانون في الباكستان في الأوساط العالمية الإسلامية وفي الأوساط الشعبية بالسخط والاستنكار، كما قوبل من السيدات المثقفات ثقافة أجنبية وأمثالهن من المثقفين كذلك باستحسان وسرور، وقد أيدته الصحف الاستعمارية والأوساط التبشيرية وأثنت عليه كثيراً.

وفي مصر حاولت جيهان زوج الرئيس الراحل أنور السادات استصدار قانون يمنع التعدد، لكن رجال الأزهر الشريف والتيار الإسلامي الجارف نجحوا في إحباط المحاولة، وإن كانت جيهان قد نجحت في تمرير قانون يجعل اقتران الرجل بأخرى إضرارا بالزوجة الأولى يعطيها الحق في طلب الطلاق، وبعد مقتل السادات وانهيار سطوة جيهان تم إلغاء هذه المادة.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (403)

ولكن وسائل الأعلام المختلفة لم تتوقف عن مهاجمة التعدد الشرعي والسخرية منه، والتندر على معددي الزوجات في الأفلام والمسلسلات الساقطة التي تقوم في ذات الوقت بتزيين الفواحش، وتعرض اتخاذ العشيقات على أنه أمر للتسلية والفكاهة.

ومن العجيب أن يراد تبرير هذا باسم الشرع، وأن يحتجوا لها بأدلة تلبس لباس الفقه، والفقه منها بريء، ومن الشبه التي استندوا إليها في ذلك:

أولا: أن من حق ولي الأمر أن يمنع بعض المباحات جلباً لمصلحة أو درءاً لمفسدة.

ثانيا: إن القرآن الكريم اشترط لمن يتزوج بأكثر من واحدة أن يثق من نفسه بالعدل بين الزوجتين أو الزوجات، فمن خاف ألا يعدل وجب أن يقتصر على واحدة، وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النساء:3) وأنه جاء في نفس السورة بآيه بينت أن العدل المشروط غير ممكن وغير مستطاع، وهى قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء:129)، وبهذا نفت هذه الآية اللاحقة ما أثبتته الآية السابقة!

ومن الردود التي أجاب بها العلماء المعاصرون على ذلك:

1. أن العدل المشروط في الآية الأولى هو غير العدل المقطوع باستحالته في الآية الثانية، فالعدل المشروط في الأولى هو العدل الذي يمكن للزوج أن يفعله، وهو العدل المادي في مثل المسكن والمبيت واللباس والطعام وغير ذلك، والعدل المقطوع بعدم استطاعته هو العدل الذي لا يمكن في الواقع للزوج أن يفعله وهو العدل المعنوي في الحب والمكانة القلبية، فما تزوج الثانية إلا وهو معرض عن الأولى بسبب من الأسباب، فكيف يعدلها بها ويساويها معها في حبه وعواطفه؟

2. وعلى هذا فلا تعلق بين العدلين في الآيتين، إلا من حيث إنه عدل بين الزوجات! ويكون

3.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (404)

4. تعليق التعدد بالعدل المادي بين الزوجات لا يزال مشروطاً وقائماً، فمن علم أنه لا يعدل بينهن كان آثماً في التعدد، وإذا تزوج فلم يعدل كان آثماً، وأما عدم عدله في حبه بينهن فلا يؤاخذه الله عليه إلا إذا أفرط في الجفاء، وبالغ في الانصراف.

5. إن نص الآية الثانية قاطع بالمراد من العدل الذي لا يستطيعه الإنسان، وهو الحب، وذلك أن الله تبارك وتعالى بعد أن علم طبيعة النفس الإنسانية، وأنها لا تستطيع العدل بين الأولى والثانية، خاطبه بما يستطيع، فنهاه عن أن يميل عن الأولى كل الميل، فيذرها كالمعلقة ومعنى ذلك أن الميل (بعض) الميل جائز، بل هو الذي لا بد أن يقع وهو مما لا يحاسب الله عليه الزوج، ولذلك ختم الآية الكريمة بقوله: (وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً) وهذا حث آخر للزوج على أن يصلح الوضع فيما بينه وبين زوجته الأولى ويتقي الله في أمرها فلا يهجرها ويسيء عشرتها، وأنه إن فعل ذلك فإن الله يغفر له ما يكون منه من ميل إلى زوجته الثانية أكثر من الأولى، وأن الله رحيم بتلك الزوجة، بما سيلقي في قلب زوجها من وجوب العدل معها وحسن معاملته لها.

6. أنه لو كان الأمر كما زعمه هؤلاء لما كان لقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النساء:3) معنى، ولا أدى إلى غرض ولكان الأولى أن يمنع التعدد رأسا وبلفظ واحد، لا أن يبيح التعدد ويعلقه بشرط مستحيل، فهذا عبث من الكلام يصان عنه أي واحد من العقلاء، فكيف بكلام رب العالمين، الذي هو الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة والبيان العربي المبين؟..

7. أليس مثل ذلك – في دعواهم – كمثل من قال: أبحت لك أن تسلك هذه الطريق أو هذه الطريق، أو هذه الطريق، ولكن من المستحيل عليك أن تسلك إلا طريقاً واحداً لكذا وكذا؟ ما معنى مثل هذا الكلام؟ وما فائدته؟ وهل يقع مثل هذا في قانون؟ أو دستور أو

8.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (405)

9. كتاب علمي فضلاً عن كتاب رب العالمين.

10. أنه من المعلوم في الدين بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفسر لكتاب الله، وأنه لا يفعل حراماً، ولا يسمح بحرام ولا يقر عليه، وقد ثبت أن العرب الذين دخلوا في الإسلام كان منهم كثيرون تحتهم أكثر من أربع زوجات، منهم من كان عنده ست، ومنهم من كان عنده ثمان، ومنهم من كان عنده عشر، ومنهم من كان عنده ثمان عشرة.. وهكذا فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يختار كل واحد أربعاً من زوجاته ويفارق سائرهن، ولو كان التعدد حراماً بنص هاتين الآيتين لأمرهم أن يختاروا واحدة منهن ويفارقوا سائرهن.

11. أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عدّد زوجاته، وأن أصحابه قد عددوا الزوجات في حياته وعلى مسمع منه وعلم، ولم ينكر عليهم، فإذا قيل: إن تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاص به - مع أن خصوصيته في الزيادة على الأربع، لا في الزيادة على واحدة بإجماع المسلمين - فكيف أقر النبي تعدد زوجات أصحابه، وكيف رضي بذلك وسكت عنه؟

12. أن القول بأن التعدد قد جر وراءه مفاسد ومضار أسرية واجتماعية قول يتضمن مغالطة واضحة، لأن الشريعة لا تحل للناس شيئاً يضرهم، كما لا تحرم عليهم شيئاً ينفعهم، بل الثابت بالنص والاستقراء أنها لا تحل إلا الطيب النافع، ولا تحرم إلا الخبيث الضار، وهو ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى في وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف:157)، فثبت بذلك إبمانا واعتقادا عدالة هذا الحكم الشرعي.

13. أن كل ما أباحته الشريعة منفعته خالصة أو راجحة، وكل ما حرمته الشريعة مضرته خالصة أو راجحة، فقد قال تعالى مثلا عن الخمر والميسر: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (البقرة:219)، وهذا هو ما راعته الشريعة في تعدد الزوجات فقد وازنت بين المصالح والمفاسد، والنافع والضار، ثم أذنت

14.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (406)

15. به لمن يحتاج إليه، ويقدر عليه بشرط أن يكون واثقا من نفسه برعاية العدل، غير خائف عليها من الجور والميل، فمن خاف ذلك وجب عليه الاقتصار على واحدة، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النساء:3)، فإذا كان من مصلحة الزوجة الأولى أن تبقى وحدها، ورأت أنها ستتضرر بمزاحمة زوجة أخرى لها، فإن من مصلحة الزوج أن يتزوج بأخرى تحصنه من الحرام، أو تنجب له ذرية يتطلع إليها، وأن من مصلحة الزوجة الثانية أن يكون لها نصف زوج تحيا في ظله، وتعيش في كنفه وكفالته، بدل أن تعيش عانسا أو أرملة أو مطلقة محرومة طوال الحياة.

16. أن من مصلحة المجتمع أن يصون رجاله، ويستر على بناته، بزواج حلال يتحمل فيه كل من الرجل والمرأة مسئوليته فيه، عن نفسه وصاحبه، بدل ذلك التعدد الذي عرفه الغرب، وهو تعدد غير أخلاقي وغير إنساني، يستمتع فيه كلاهما بصاحبه دون أن يتحمل أية تبعة.

17. أن الذي أعطاه الشرع لولي الأمر هو حق تقييد بعض المباحات لمصلحة راجحة في بعض الأوقات أو بعض الأحوال، أو لبعض الناس، لا أن يمنعها منعاً عاماً مطلقاً مؤبداً، لأن المنع المطلق المؤبد أشبه بالتحريم الذي هو من حق الله تعالى.

18. أن الله تعالى أذن في تعدد الزوجات بشرط الثقة بالعدل، ثم بين العدل المطلوب في نفس السورة حين قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء:129)، فهذه الآية تبين أن العدل المطلق الكامل بين النساء غير مستطاع بمقتضى طبيعة البشر، لأن العدل الكامل يقتضي المساواة بينهن في كل شيء حتى في ميل القلب، وشهوة الجنس، وهذا ليس في يد الإنسان، فهو يحب واحدة أكثر من أخرى، ويميل إلى هذه أكثر من تلك، والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء.

2 ـ حكم العدل في القسمة

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (407)

اتفق الفقهاء على أن القسمة العادلة بين الزوجات واجبة تستوي في ذلك المسلمة والكتابية (1)،قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، على أن القسم بين المسلمة والذمية سواء، كذلك قال سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والنخعي والزهري والحكم، وحماد، ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي) (2)، بل نصوا على أن جحود هذا الحكم كفر، قال البجيرمي: (وجوب القسم مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فيكفر

__________

(1) لم يختلف الفقهاء في هذا إلا في حالة واحدة غير موجودة الآن، وهي حكم العدل في القسمة بين الزوجة الحرة والزوجة الأمة، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:

القول الأول: من كانت له زوجة حرة وزوجة مملوكة فللحرة ليلتان وللمملوكة ليلة، وقد روي عن علي، ومسروق، ومحمد بن علي بن الحسين، والشعبي، والحسن، وعطاء، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعثمان البتي، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ومن الأدلة على ذلك:

1. عموم أمر الله تعالى بالعدل بين النساء عموما.

2. أن قياس القسمة على العدة فباطل.

3. أنه لما كانتا في النفقة سواء وجب أن يكونا في القسمة سواء.

القول الثاني: القسمة لهما سواء، وهو قول مالك، والليث، وأبي سليمان، ومن الأدلة على ذلك، أنه لما كانت عدة الأمة وحدها نصف عدة الحرة وحدها وجب أن تكون قسمتها نصف قسمة الحرة، انظر: المحلى:9/ 175.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني لأن لفظ الزوجية يطلق على كليهما، فلذلك يدخلان جميعا في عموم النص القرآني ولا تخصيص بدون مخصص، وإنما ذكرنا هذه المسألة هنا لما نبهنا إليه سابقا من أن إلغاء الرق في العصر الحاضر لا يعني إعدامه إذا ما دعت دواعيه.

(2) الإجماع لابن المنذر:78.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (408)

جاحده، فإن تركه مع اعتقاده وجوبه فسق (1)، واستثني من ذلك ما لو كانت إحدى زوجته ناشزا، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قول الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النساء:3)

2. قول الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء:129)، أي لا هي مطلقة ولا ذات زوج، وهو تشبيه بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر، ولا على ما علق عليه انحمل.

3. قول الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (النساء:34) فلم يبح الله عز وجل هجرانها في المضجع إلا إذا خاف نشوزها

4. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من كانت عنده امرأتان، فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة، وشقه ساقط (2)، وقد علل المناوي هذا بقوله: (وعلى ما هو المتبادر من الحمل على الحقيقة فحكمته أن النساء لما كانت شقائق الرجال، وكانت الزوجة نفس الرجل ومسكنه ولباسه، وعطل واحدة من بينهن جوزي بتعطيل نصفه) (3)

__________

(1) حاشية البجيرمي على الخطيب:3/ 463.

(2) قال المنذري: رواه الترمذي وتكلم فيه والحاكم، وقال صحيح على شرطهما، ورواه أبو داود، ولفظه) من كانت له امرأتان فمال إلى إحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل (، والنسائي ولفظه) من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل (، ورواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه بنحو رواية النسائي هذه إلا أنهما قالا:) جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط (الترغيب والترهيب:3/ 40، وانظر: الدارمي:2/ 193، البيهقي:7/ 197، أبو داود:2/ 242، النسائي:5/ 280، المجتبى: 7/ 63.

(3) فيض القدير:1/ 430.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (409)

وقد استفاد بعضهم من إشارة الحديث إلى ميل شق واحد بسبب ميل إلى امرأة واحدة إلى أن الشق يتعدد بتعدد الميل، فقال: (وفيه ما فيه للزوم تعطيل ربعه لواحدة من أربع وثلاثة أرباعه لثلاثة (لكن مثل هذا يفتقر إلى الدليل، لأن الشق المائل قد يكون بسبب ميله لا بسبب كون الممال عليه امرأة واحدة)

3 ـ حق الزوجات في القسمة

اختلف الفقهاء في حق الزوجة أو الزوجات في القسمة على قولين:

القول الأول: لا يجب قسم الابتداء، إلا أن يترك الوطء مصرا، فإن تركه غير مصر لم يلزمه قسم، ولا وطء، وهو قول لأحمد، وقال الشافعي: لا يجب قسم الابتداء بحال، واستدل على ذلك بأن القسم لحقه، فلم يجب عليه، قال النووي: (مذهبنا أنه لا يلزمه أن يقسم لنسائه، بل له اجتنابهن كلهن، يكره تعطيلهن مخافة من الفتنة عليهن والاضرار بهن) (1)

واختلف قول أبي حنيفة، ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه قال:

إذا تشاغل الرجل عن زوجته بالصيام أو بالصلاة قسم لامرأته من كل أربعة أيام يوما، ومن كل أربع ليال ليلة، وذكر الجصاص أن هذا ليس مذهبنا، لأن المزاحمة في القسم إنما تحصل بمشاركات الزوجات، فإذا لم يكن له زوجة غيرها لم تتحقق المشاركة، فلا يقسم لها، وإنما يقال له: لا تداوم على الصوم، ووف المرأة حقها كذا قاله الجصاص وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن أبا حنيفة كان يقول: أولا كما روى الحسن عنه لما أشار إليه كعب، وهو أن للزوج أن يسقط حقها عن ثلاثة أيام بأن يتزوج ثلاثا أخر سواها، فلما لم يتزوج، فقد جعل ذلك لنفسه، فكان الخيار له في ذلك، فإن شاء، صرف ذلك إلى الزوجات، وإن شاء، صرفه إلى صيامه، وصلاته، وأشغاله، ثم رجع عن ذلك. وقال: هذا ليس بشيء، لأنه لو تزوج أربعا، فطالبن

__________

(1) شرح النووي عل مسلم:10/ 46.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (410)

بالواجب منه يكون لكل واحدة منهن ليلة من الأربع، فلو جعلنا هذا حقا لكل واحدة منهن لا يتفرغ لأعماله، فلم يوقت في هذا وقتا (1).

القول الثاني: يلزمه المبيت عندها ليلة من كل أربع ليال، ما لم يكن له عذر يمنعه من ذلك، وإن كان له نساء فلكل واحدة منهن ليلة من كل أربع، وهو قول الثوري، وأبي ثور ورواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن عمرو: يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل، صم، وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا) (2)، فأخبر أن للمرأة عليه حقا، ومن حقها معاشرتها جنسيا.

2. أنه لو لم يكن ذلك حقا لها لم تستحق فسخ النكاح لتعذره بالجب والعنة، وامتناعه بالإيلاء.

3. أنه لو لم يكن ذلك حقا للمرأة، لملك الزوج تخصيص إحدى زوجتيه به، كالزيادة في النفقة على قدر الواجب.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو وجوب القسم سواء لامرأة واحدة أو لأكثر من امرأة مع ترك التقدير لظروف كلا الزوجين.

ثانيا ـ أنواع الميل لإحدى الزوجات وأحكامها

لتفضيل الزوج إحدى زوجاته على سائر نسائه أربعة أنواع هي:

النوع الأول ـ الميل القلبي

__________

(1) بدائع الصنائع: 2/ 333.

(2) البخاري: 2/ 697، ابن حبان: 14/ 118، البيهقي: 3/ 16، النسائي: 2/ 128، أحمد: 2/ 200.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (411)

وهو الميل بالمحبة لإحدى زوجاته، وهذا الضرب لا يملك أحد دفعه ولا الامتناع منه، وإنما الإنسان مضطر إلى ما جبل عليه منه، لأن المحبة وميل القلب ليس مقدورا للعبد، بل هو من الله تعالى لا يملكه العبد، ويدل عليه من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بعد قوله {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (الأنفال:63) ومثلها في الدلالة قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال:24)

وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء:129)، فقد أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء وذلك في ميل الطبع بالمحبة، والحظ من القلب فوصف الله تعالى حالة البشر، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض، فالمنهي ليس هو الميل القلبي، وإنما هو أن {تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} (النساء:129)

ولكن مع ذلك لا يجوز أن يؤذيها بذكر محبته لضرتها لأن إذية المسلم حرام، ولأجل هذا الاعتبار فرض لكل زوجة من الزوجات بيتها الخاص حتى لا ترى أي أثرة عليها، وقد قيل في قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} (الأحزاب:51) أي ذلك أقرب ألا يحزن، إذا لم يجمع إحداهن مع الأخرى، ويعاين الأثرة والميل (1).

وقد يقال هنا: أليس في هذا جورا عظيما على المرأة أن تكون في بيت رجل وهو يحب غيرها، وقد يتحذلق مثل هذا بقصائد من الخيال، وقد يأتي بدراسات مبنية على إحصائيات دقيقة، ولكن كل ذلك لا ينفع مع نظرة تبصر واحدة للواقع.

فلو ترك الأمر للحب وحده لخربت البيوت، فإن البيوت لا تقوم على الحب بقدر قيامها على الرحمة والشعور بالمسؤولية، ولنتصور أن للرجل أولادا من زوجته الأولى، ثم علق بغيرها

__________

(1) القرطبي:14/ 218.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (412)

فتزوجها، وكان حبه لها أكثر من حبه للأخرى، فنحن بين أمرين: إما أن نشرط عليه العدالة في هذه الناحية، فبالتالي لا يجد أمامه حلا إلا تطليق زوجته الأولى حتى لا يأتي يوم القيامة وشقه مائل، أو أن يحتفظ بالزوجة الأولى مع جميع حقوقها، فتنتفع ببقائها في كنفه مع أولادها، ولا حرج عليها من قلبه، فلا أثر لذلك في سلوكه معها.

ثم إن القلب بعد ذلك سريع التقلب، فقد يعود ميله لزوجه الأولى إذا عرفت كيف تتعامل مع الوضع الجديد بهدوء وسكينة وعقل، أما التحذلق بأنواع الخيال، ففيه خراب البيوت وتشريد الأولاد، وإفساد المجتمع.

النوع الثاني ـ الميل الجنسي

اتفق الفقهاء على عدم اشتراط القسمة في المعاشرة الجنسية بين الزوجات لأن ذلك لا يكون إلا عن شهوة وميل، ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك، فإن قلبه قد يميل إلى إحداهما دون الأخرى، قال ابن قدامة: (ولو وطئ زوجته ولم يطأ الأخرى، فليس بعاص، ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه لا تجب التسوية بين النساء في الجماع، وهو مذهب مالك والشافعي، وذلك لأن الجماع طريقة الشهوة والميل ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك، فإن قلبه قد يميل إلى إحداهما دون الأخرى (1)

ومثل الجماع المباشرة ونحوها، قال ابن قدامة: ولا تجب التسوية بينهن في الاستمتاع بما دون الفرج من القبل واللمس ونحوهما لأنه إذا لم تجب التسوية في الجماع ففي دواعيه أولى (2)، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء:129) وقد فسرت الآية بأنها في الحب والجماع.

__________

(1) المغني:7/ 234.

(2) المغني:7/ 234.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (413)

واختلف الفقهاء في كون العدل في هذه الناحية مستحبا أم لا على قولين (1):

القول الأول: أنه يستحب للزوج أن يسوي بين زوجاته في جميع الاستمتاعات من الوطء والقبلة ونحوهما، وهو قول الجمهور والإمامية، لأنه أكمل في العدل بينهن، وليحصنهن عن الاشتهاء للزنا والميل إلى الفاحشة،، لأنه أبلغ في العدل، وهو من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم بينهن فيعدل، وأنه كان يسوي بينهن حتى في القبل (2).

القول الثاني: أن الزوج يترك هذه الناحية لطبيعته في كل حال، إلا إذا قصد الإضرار بإحدى الزوجات بعدم الوطء - سواء تضررت بالفعل أم لا - ككفه عن وطئها مع ميل طبعه إليها، وهو عندها لتتوفر لذته لزوجته الأخرى، فيجب عليه ترك الكف، لأنه إضرار لا يحل، وهو قول المالكية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة أن هذه الناحية من العشرة الزوجية من أهم الحقوق التي تلزم عن الحياة الزوجية، وللتقصير فيها خطره سواء من الناحية النفسية أو الناحية الاجتماعية، فلذلك لا نرى القول بالاستحباب كافيا في مثل هذا، فكيف بما قال المالكية بترك ذلك للطبع، بل إن الوجوب هو الذي يليق بمثل هذه المسائل لنفي الضرر الذي يلحق الزوجة نفسيا، وقد يلحق بعدها المجتمع، لأن الغالب على الكثير من الناس الآن عدم اعتبار المستحب اكتفاء بفعل الواجبات.

__________

(1) نقل ابن عابدين عن بعض أهل العلم أن الزوج إن ترك الوطء لعدم الداعية والانتشار عذر، وإن تركه مع الداعية إليه لكن داعيته إلى الضرة أقوى فهو مما يدخل تحت قدرته.

(2) ذكره في المغني:7/ 235، ولم أجد تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (414)

ولذلك نرى وجوب رعاية الزوج لمثل هذه الناحية في حق زوجاته جميعا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيجب عليه لذلك إذا لم تتوفر داعية الطبع أن يوفرها، وإلا كان مقصرا في حق زوجته إلا إذا تسامحت لسبب من الأسباب ككبر ومرض في ذلك.

أما داعية القول بالوجوب، فإنه يكفي أن نتصور بيتا فيه ضرتان مثلا إحداهما محصنة والأخرى تجد الرغبة، ولكنه يحول بينها وبين تحقيقها طبع الزوج، فكيف يكون حال مثل هذا البيت؟ وكيف يكون حال الزوجة؟ وهل هي زوجة، أم معلقة؟ وهل يكفي للوفاء بحقوق الزوجية أن ينفق عليها؟

ولكن مع ذلك لا تشترط التسوية التامة، بل يكفي حصول التحصين، والوفاء بحق الرغبة، وللمسألة مزيد تفصيل في الفصل الخاص بالمعاشر الجنسية.

النوع الثالث ـ الميل في النفقة

اختلف الفقهاء فيما لو قام الزوج بالواجب من النفقة والكسوة لكل واحدة من زوجاته، هل يجوز له بعد ذلك أن يفضل إحداهن عن الأخرى في ذلك، أم يجب عليه أن يسوي بينهن في العطاء فيما زاد على الواجب كما وجبت عليه التسوية في أصل الواجب على قولين:

القول الأول: أن الزوج إن أقام لكل واحدة من زوجاته ما يجب لها، فلا حرج عليه أن يوسع على من شاء منهن بما شاء، وهو قول الشافعية والحنابلة، وهو الأظهر عند المالكية، بل نص الباجي على أن هذا الإيثار واجب، فليس للأخرى الاعتراض فيه، ولا للزوج الامتناع منه ولو امتنع الحكم به عليه (1) لأن ذلك بحسب ما تستحقه كل واحدة منهما لأن لكل واحدة منهما نفقة مثلها ومؤنة مثلها ومسكن مثلها على قدر شرفها وجمالها وشبابها وسماحتها.

__________

(1) المنتقى:3/ 353.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (415)

وفي العتبية ومن رواية ابن القاسم عن مالك أن ذلك له، فهذا الضرب من الإيثار ليس لمن وفيت حقها أن تمنع الزيادة لضرتها لا يجبر عليه الزوج وإنما له فعله إذا شاء (1).

قال القرطبي: (قال مالك: ويعدل بينهن في النفقة والكسوة إذا كن معتدلات الحال ولا يلزم ذلك في المختلفات المناصب (وأجاز مالك أن يفضل إحداهما في الكسوة (2)

ونقل ابن قدامة عن أحمد في الرجل له امرأتان قال: له أن يفضل إحداهما على الأخرى في النفقة والشهوات والكسوة إذا كانت الأخرى كفاية، ويشتري لهذه أرفع من ثوب هذه وتكون تلك في كفاية، وهذا لأن التسوية في هذا كله تشق، فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج، فسقط وجوبه، كالتسوية في الوطء، لكنهم قالوا: إن الأولى أن يسوي الرجل بين زوجاته في ذلك، وعلل بعضهم ذلك بأنه للخروج من خلاف من أوجبه (3).

القول الثاني: يجب على الزوج التسوية بين الزوجات في النفقة، وهو قول للحنفية (4) وقول للحنابلة، وكذا الكسوة (5)، وقال ابن نافع: يجب أن يعدل الزوج بين زوجاته فيما يعطي من ماله بعد إقامته لكل واحدة منهن ما يجب لها، ونص الحنفية على وجوب التسوية بين الزوجات في النفقة على قول من يرى أن النفقة تقدر بحسب حال الزوج، أما على قول من يرى

__________

(1) المنتقى:3/ 353.

(2) القرطبي:14/ 217.

(3) المغني:7/ 232.

(4) نص عليه الكاساني في البدائع، على أنه يجب عليه التسوية بين الحرتين أو الأمتين في المأكول، والمشروب، والملبوس، والسكنى، والبيتوتة، ومثله في الغاية: اتفقوا على التسوية في النفقة، وقد رد على هذا ابن نجيم، بقوله:) والحق أنه على قول من اعتبر حال الرجل وحده في النفقة فالتسوية فيها واجبة أيضا، وأما على قول المفتى به من اعتبار حالهما فل، ا لأن إحداهما قد تكون غنية، والأخرى فقيرة فلا يلزمه التسوية بينهما مطلقا في النفقة (البحر الرائق:3/ 236.

(5) الفتاوى الكبرى:5/ 482.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (416)

أن النفقة تقدر بحسب حالهما فلا تجب التسوية وهو المفتى به، فلا تجب التسوية بين الزوجات في النفقة لأن إحداهما قد تكون غنية والأخرى فقيرة (1).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة ـ حسبما ذكرنا في فصل النفقة ـ وجوب العدل في هذه الناحية، بل إن العدل لا يتجلى في شيء كما يتجلى فيها، فكيف يستقيم شرعا أو عقلا أن يتزوج رجل امرأتين إحداهما يلبسها الحرير ويطعمها الخمير، والأخرى يكسوها الوبر ويطعمها الشعير، ثم يعتبر مع ذلك عادلا بين زوجاته، لأن مبرره في هذا الجور العظيم، وهذه القسمة الظيزى أن الأولى كانت غنية ميسورة، والأخرى كانت فقيرة مسكينة، وكأن الغنى كتب على الأولى في بيت والدها وزوجها، وأن الفقر قد نحت في جبين الثانية حيثما حلت يحل معها الفقر.

فأي عقل أو شرع يقر هذا؟ وهل هناك جور أعظم من هذا؟ وليشتط بنا الخيال، لنرى المرأتين تجتمعان في وليمة من الولائم حيث تبرز النساء ما شئن من زينة، كيف يكون حال الزوجتين؟ وبماذا تشعر الزوجة الثانية؟ وماذا يقول الناس؟

إن تصور هذا وحده كاف للدلالة على عدم صحة هذا القول، وعلى أنه أقرب إلى الاعتبار المبالغ فيه للأعراف على حساب الشريعة، لأن السنة وردت بخلاف ذلك.

النوع الرابع ـ الميل في المبيت

وهو أن يؤثر إحدى زوجاته بنفسه بأن يبيت عند إحداهما ولا يبيت عند الأخرى أو يكون مبيته عند إحداهما أكثر، فهذا النوع من التفضيل والميل لا يحل للزوج فعله إلا بإذن المؤثر لها، فإن فعله كان لها حق الاعتراض فيه والاستعداء عليه، ويتعلق بهذا النوع من الميل المسألتين التاليتين:

__________

(1) البحر الرائق:3/ 236.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (417)

تنازل الزوجة عن حقها في القسمة

اتفق الفقهاء على أنه للمرأة أن تهب حقها من القسمة لزوجها، أو لبعض ضرائرها، أو لهن جميعا، ولكن ذلك يتوقف على رضى الزوج، مراعاة لحقه في الاستمتاع بها، ولا عبرة بإباء الموهوبة قبول الهبة، لأن حق الزوج في الاستمتاع بها ثابت في كل وقت، فإذا زالت المزاحمة بهبتها، ثبت حقه في الاستمتاع بها.

ومن مقاصد هذا التشريع تضييق مسالك الطلاق، فقد تكون للرجل المرأة مع عدم رغبته فيها، وعدم قدرته لذلك على العدل بينها وبين غيرها، فهو بين أمرين إما أن يطلق، وفي ذلك من المفاسد ما فيه، وإما أن يمسكها، ولكنه يتضرر بعدم العدل، فجاء الشرع بهذا الحل الوسط الذي هو جعل الخيار للمرأة إما أن تصبر على الأثرة، بأن تهب بعض حقها لزوجها أو أن تختار الفراق.

وهذا الحل الواقعي أفضل الحلول، فقد تكون المرأة كبيرة أو لا حاجة لها في زوجها، ولها أولاد تحرص على مصلحتهم، فترضى بأن تبقى في كنف زوجها مع التقصير في حقها في البيتوتة، أما أي حل خلاف ذلك، فهو إما خيال يطير في الأبراج العاجية، أو تشريع تهدم به الأسر وتقوض به البيوت.

وقد جاءت لتشريع هذا الحكم لأهميته آية خاصة، قال تعالى: {وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء:128)، فهذه الآية نص في حل مثل هذا المشكل حلا يخدم الجميع، ويحفظ جميع المصالح، يقول سيد قطب: (فإذا خشيت المرأة أن تصبح مجفوة؛ وأن تؤدي هذه الجفوة إلى الطلاق - وهو أبغض الحلال إلى الله - أو إلى الإعراض، الذي يتركها كالمعلقة، لا هي زوجة ولا هي مطلقة، فليس هنالك حرج عليها ولا على زوجها، أن تتنازل له عن شيء من فرائضها المالية أو فرائضها الحيوية، كأن تترك

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (418)

له جزءا أو كلا من نفقتها الواجبة عليه، أو أن تترك له قسمتها وليلتها، إن كانت له زوجة أخرى يؤثرها، وكانت هي قد فقدت حيويتها للعشرة الزوجية أو جاذبيتها.. هذا كله إذا رأت هي - بكامل اختيارها وتقديرها لجميع ظروفها - أن ذلك خير لها وأكرم من طلاقها (1)

ومن صور تنازل المرأة عن حقها في القسمة أن تهب ليلتها لجميع ضرائرها، فيصير القسم بينهن على اعتبار عدم وجود الواهبة، أما إن وهبت ليلتها للزوج، فله الحق في جعلها لمن شاء من نسائه، وله جعلها للجميع، أو أن يجعل لبعضهن فيها أكثر من بعض، ولكن الشافعية نصوا على أنه ليس للزوج أن يجعل الليلة الموهوبة له حيث شاء من بقية الزوجات، بل يسوي بينهن ولا يخصص، لأن التخصيص يورث الوحشة والحقد، فتجعل الواهبة كالمعدومة، ونصوا كذلك على أن إحدى الزوجات لو وهبت ليلتها للزوج ولبعض الزوجات، أو له وللجميع، فإن حقها يقسم على الرءوس، كما لو وهب شخص عينا لجماعة، وما قالوه أوفق بالمقاصد الشرعية، وأحوط من حيث العدل من قول الجمهور.

ويصح رجوع الواهبة في ليلتها، لأنها هبة لم تقبض، وليس لها طلب قضاء ما مضى، لأنه بمنزلة المقبوض، ولو رجعت في بعض الليلة التي وهبتها وجب على الزوج أن ينتقل إليها، إلا إذا لم يعلم حتى أتم الليلة، فلا يقضي لها شيئا، لأن التفريط بسببها.

أما ما يتصالح عليه، فقد قال الجصاص مستندا إلى الآية السابقة: (وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية، إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي، فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه، وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه، وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها، فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا) (2)

__________

(1) في ظلال القرآن:2/ 769.

(2) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 399.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (419)

طلب التنازل عن القسمة بعوض

اختلف الفقهاء في أخذ الزوجة المتنازلة عن قسمها عوضا على ذلك من أجل تنازلها على قولين:

القول الأول: أنه لا يجوز لها ذلك، لا من الزوج ولا من الضرائر، فإن أخذت لزمها رده واستحقت القضاء، وهو قول الجمهور، ومن الأدلة على ذلك:

1. أن العوض لم يسلم لها.

2. أن حقها في كون الزوج عندها، وهو ليس بمال، فلا يجوز مقابلته بمال، فإذا أخذت عليه مالا، لزمها رده، ووجب عليه قضاء ما غاب عنها

3. أن مقام الزوج عندها ليس بمنفعة ملكتها.

القول الثاني: أنه يجوز ذلك إذا تراضى عليه الطرفان، وهو قول المالكية، وقول للحنابلة، فقد ذهب المالكية إلى أن أخذ العوض على ذلك جائز، فقالوا: جاز للزوج إيثار إحدى الضرتين على الأخرى برضاها، سواء كان ذلك بشيء تأخذه منه أو من ضرتها أو من غيرهما، أو لا، بل رضيت مجانا، وجاز للزوج أو الضرة شراء يومها منها بعوض، وتختص الضرة بما اشترت، ويخص الزوج من شاء بما اشترى، وعقب الدسوقي بقوله: وتسمية هذا شراء مسامحة، بل هذا إسقاط حق لأن المبيع لا بد أن يكون متمولا (1)، وقال ابن تيمية: (قياس المذهب جواز أخذ العوض عن سائر حقوقها من القسم وغيره ووقع في كلام القاضي ما يقتضي جوازه (2)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الجواز مطلقا بعض وغير عوض، وأن قياس مثل هذا على البيع ونحوه لا يصح، فللحياة الزوجية أحكامها الخاصة التي تختلف جذريا عن أنواع

__________

(1) حاشية الدسوقي: 2/ 341.

(2) الفتاوى الكبرى:5/ 483.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (420)

المعاوضات، فمبنى الحياة الزوجية عل المعاشرة بالمعروف بخلاف مبنى الحياة الاقتصادية التي تراعي الضبط والتدقيق والتحديد.

بل نرى مثل هذا التصرف مما قد يضفي نوعا من العشرة بالمعروف بين الزوجات، وهي مقصودة شرعا، ولهذا يمكن لإحدى الزوجات مثلا في حال مرضها أو حيضها أن تتنازل عن ليلتها بما تشاء من حظوظ نفسها سواء كان ذلك من زوجها أومن ضرائرها.

قال القرطبي: (قال علماؤنا: وفي هذا أن أنواع الصلح كلها مباحة في هذه النازلة بأن يعطى الزوج على أن تصبر هي، أو تعطى هي على أن يؤثر الزوج، أو على أن يؤثر ويتمسك بالعصمة، أو يقع الصلح على الصبر والأثرة عطاء فهذا كله مباح، وقد يجوز أن تصالح إحداهن صاحبتها عن يومها بشيء تعطيها كما فعل أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم (1)

أما إذا كان المعوض عليه هو الرجل، وكان الطلب فاسدا، بأن جعلت له إحدى زوجاته مثلا جعلا على أن يزيدها في القسم يوما، ففعل، فإن ذلك لا يجوز بلا شك، بل هي رشوة، ومقتضاها حرام، لأنها تستلزم الميل المحرم، قال السرخسي: (وهذا بمنزلة الرشوة في الحكم وهو من السحت، فلهذا تسترد ما أعطت وعليه التسوية في القسم، وكذلك لو حطت له شيئا من المهر على هذا الشرط (2)

ثالثا ـ أحوال الزوجين في القسمة

ويتعلق بهذا مسائل كثيرة، منها:

حق المريضة في القسمة

__________

(1) القرطبي:5/ 405.

(2) المبسوط:5/ 221.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (421)

اتفق الفقهاء على أنه لا يعتبر في القسمة للزوجات المرض والصحة، فلذلك يقسم للمريضة ولو كان مرضها تناسليا، ويقسم للحائض، والنفساء، والمحرمة، والصغيرة الممكن وطؤها، كما يقسم للصحيحة البالغة الطاهرة سواء بسواء، لأن القصد من القسمة الإيواء والسكن والأنس، وهو حاصل لهن، بل يجب عليه القسمة بالعدل ولو للمجنونة التي لا يخاف منها فإن خاف منها، لا يقسم لها، لأنه لا يأمنها على نفسه، ولا يحصل لها أنس به ولا يحصل له أنس بها، قال السرخسي: (المسلمة والكافرة والمراهقة والمجنونة والبالغة في استحقاق القسم سواء للمساواة بينهن في سبب هذا الحق وهو الحل الثابت بالنكاح فلا ينبغي أن يقيم عند إحداهن أكثر مما يقيم عند الأخرى، إلا أن تأذن له فيه) (1)

حق الناشز في القسمة

اتفق الفقهاء على أن الناشز لا حق لها في القسمة فلو قسم لإحدى زوجتيه، ثم جاء ليقسم للثانية، فمنعته من معاشرتها، فإنه يسقط حقها من القسمة. فإن عادت بعد ذلك إلى المطاوعة، استأنف القسم بينهما، ولم يقض للناشز، لأنها أسقطت حق نفسها.

وكذلك إن كان له أربع نسوة، فأقام عند ثلاث منهن ثلاثين ليلة، لزمه أن يقيم عند الرابعة عشرا، لتساويهن، فإن نشزت إحداهن عليه، وظلم واحدة فلم يقسم لها، وأقام عند الاثنتين ثلاثين ليلة، ثم أطاعته الناشز، وأراد القضاء للمظلومة، فإنه يقسم لها ثلاثا، وللناشز ليلة خمسة أدوار، فيكمل للمظلومة خمس عشرة ليلة، ويحصل للناشز خمس، ثم يستأنف القسم بين الجميع.

وإن كان له ثلاث نسوة، فقسم بين اثنتين ثلاثين ليلة، وظلم الثالثة، ثم تزوج جديدة، ثم أراد أن يقضي للمظلومة، فإنه يخص الجديدة بسبع إن كانت بكرا، وثلاث إن كانت ثيبا لحق

__________

(1) المبسوط:5/ 218.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (422)

العقد، ثم يقسم، بينها وبين المظلومة خمسة أدوار، على ما تقدم للمظلومة من كل دور ثلاثا، وواحدة للجديدة.

حق البعيدة في القسمة

اتفق الفقهاء على أنه لا يسقط حق البعيدة في القسمة، فلو كان له زوجتان في بلدين، فعليه العدل بينهما، لأنه اختار المباعدة بينهما، فلا يسقط حقهما عنه بذلك، وهو مخير في ذلك بين أن يمضي إلى الغائبة في أيامها، وإما أن يقدمها إليه، ويجمع بينهما في بلد واحد، فإذا امتنعت من القدوم مع قدرتها على ذلك سقط حقها لنشوزها، ويجوز له أن يقسم بينهما في بلديهما، فيجعل المدة بحسب إمكانه، كشهر وشهر، أو أكثر، أو أقل، على حسب ما يمكنه، وعلى حسب تقارب البلدين وتباعدهما.

حق المسافرة في القسمة

نص الفقهاء القائلون بوجوب قضاء حق المبيت، وهم الشافعية والحنابلة، على أن حكم القضاء للزوجة إن سافرت بعد رجوعها يتوقف على حسب إذنه وحاجتها كما يلي:

1. إن سافرت بغير إذنه لحاجتها أو حاجته أو لغير ذلك فلا قسم لها، لأن القسم للأنس وقد امتنع بسبب من جهتها فسقط حقها في القسمة.

2. إن سافرت بإذنه لغرضه أو حاجته فإنه يقضي لها ما فاتها بحسب ما أقام عند ضرتها، لأنها سافرت بإذنه ولغرضه، فهي كمن عنده وفي قبضته وهو المانع نفسه بإرسالها.

3. أما إن سافرت بإذنه لغرضها أو حاجتها لا يقضي لها عند الحنابلة وفي الجديد عند الشافعية، لأنها فوتت حقه في الاستمتاع بها ولم تكن في قبضته، وإذنه لها بالسفر رافع للإثم خاصة.

4. إن سافرت لحاجة ثالث - غيرها وغير الزوج - فهو كحاجة نفسها، وهذا إذا لم يكن خروجها بسؤال الزوج لها فيه، وإلا فيلحق بخروجها لحاجته بإذنه.

5.

6.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (423)

7. إن سافرت وحدها بإذنه لحاجتهما معا لم يسقط حقها كما قال بعض الشافعية.

وللمسألة تفصيلها الخاص بلزوم القضاء وعدمه في المبحث الأخير من هذا الفصل.

حق المرأة الجديدة في القسمة

اختلف الفقهاء في حكم المدة التي يقيم فيها الرجل مع زوجته الجديدة قبل أن يستأنف الدور (1) على قولين:

القول الأول: لا يجوز أن يخص الجديدة بأكثر من حقها، فلا فضل للجديدة في القسمة، فإن أقام عندها شيئا قضاه للباقيات، وهو قول الحكم وحمادوالحنفية، لأنه فضلها بمدة، فوجب قضاؤها، كما لو أقام عند الثيب سبعا، واستدلوا على ذلك بما ورد من الأمر بالعدل بين الزوجات من نصوص عامة، أما النصوص الخاصة، فقد أولها الطحاوي كما يلي، قال: (فإن قيل: ما معنى قول أدور؟ قيل لهم يحتمل: أدور بالثلاث عليهن جميعا لأنه لو كانت الثلاث حقا لها دون سائر النساء لكان إذا أقام عندها سبعا كانت ثلاث محسوبة عليها، ولوجب أن يكون لسائر النساء أربع أربع فلما كان الذي للنساء إذا أقام عندها سبعا سبعا لكل واحدة منهن، كان كذلك إذا أقام عندها ثلاثا لكل واحدة منهن ثلاث ثلاث هذا هو النظر الصحيح مع استقامة تأويل هذه الآثار عليه، وهو قول أبي حنيفة أبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين (2) (

__________

(1) نص الفقهاء على أنه يكره أن يزف إليه امرأتان في ليلة واحدة، أو في مدة حق عقد إحداهما، لأنه لا يمكنه أن يوفيهما حقهما، فإن فعل، فأدخلت إحداهما قبل الأخرى، بدأ بها، فوفاها حقها، ثم عاد فوفى الثانية، ثم ابتدأ القسم، فإن زفت الثانية في أثناء مدة حق العقد، أتمه للأولى، ثم قضى حق الثانية. وإن أدخلتا عليه جميعا في مكان واحد، أقرع بينهما، وقدم من خرجت لها القرعة منهما، ثم وفى الأخرى بعدها، المغني:7/ 241.

(2) شرح معاني الآثار:3/ 29.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (424)

وقد فسر ابن نجيم بعد إيراده لأحاديث الباب: (فالمراد التفضيل في البداءة بالجديدة دون الزيادة، ولا شك أن الأحاديث محتملة، فلم تكن قطعية الدلالة، فوجب تقديم الدليل القطعي، والأحاديث المطلقة وحينئذ فلا معنى لتردده) (1)

القول الثاني: أن له أن يقيم مدة مع زوجته الجديدة قبل أن يستأنف القسمة، وهو قول الجمهور، وقد اختلفوا في تعيين المدة على الرأيين التاليين:

الرأي الأول: أن للبكر ثلاثا وللثيب ليلتين، وقد روي عن سعيد بن المسيب والحسن وخلاس بن عمرو، ونافع مولى ابن عمر، وبنحوه قال الأوزاعي، واستدلوا على ذلك بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (للبكر ثلاث) (2)، وبما روي عن أنس بن مالك أنه قال: للبكر ثلاث، وللثيب ليلتان، وري مثله عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب (3).

الرأي الثاني: أن عليه أن يقيم عندها سبع ليال إن كانت بكرا، وثلاثا إن كانت ثيبا، دون أن يقضي ذلك للباقيات، إلا أن تشاء الثيب أن يقيم عندها سبعا، فإنه يقيمها عندها، ويقضي الجميع للباقيات، وقد روي هذا القول عن أنس، وبه قال الشعبي والنخعي ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد، وابن المنذر، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. عن أنس قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب، أقام عندها ثلاثا، ثم قسم. قال أبو قلابة: لو شئت لقلت: أن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (4).

2. عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما تزوج أم سلمة، أقام عندها ثلاثا، وقال: ليس بك على

3.

__________

(1) البحر الرائق: 3/ 236.

(2) قال ابن حزم: هذا مرسل ولا حجة فيه، المحلى: 9/ 213، انظر: مصنف عبد الرزاق:6/ 237.

(3) المحلى: 9/ 213، مصنف عبد الرزاق: 3/ 236.

(4) انظر: التمهيد:17/ 246.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (425)

4. أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي، وفي لفظ: (وإن شئت ثلثت ثم درت). وفي لفظ: (وإن شئت زدتك، ثم حاسبتك به، للبكر سبع، وللثيب ثلاث)، وفي لفظ للدارقطني: (إن شئت أقمت عندك ثلاثا خالصة لك، وإن شئت سبعت لك، ثم سبعت لنسائي) (1)، قال ابن عبد البر: (الأحاديث المرفوعة في هذا الباب على ما قلناه، وليس مع من خالفنا حديث مرفوع، والحجة مع من أدلى بالسنة) (2)

وعماد القسمة الليل، ولذلك له الخروج نهارا لمعاشه، وقضاء حقوق الناس، وإن تعذر عليه المقام عندها ليلا، أو ترك ذلك لغير عذر، قضاه لها، وله الخروج لصلاة الجماعة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يترك الجماعة لذلك، ويخرج لما لا بد له منه، فإن أطال قضاه، وإن كان يسيرا فلا قضاء عليه.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو ما صرحت به النصوص من الترخيص في القسمة للجديدة رعاية لمشاعرها، وحتى تتأقلم مع الحياة الجديدة، وليس في ذلك أي جور على الأخريات لأن العدل والجور بتقدير الشرع لا بتقديرنا، وقد اشتد ابن حزم على الحنفية القائلين بعدم التحديد للجديدة، فقال: (الذي قال هذا القول هو الذي حكم للبكر بسبع زائدة، وللثيب بثلاث زائدة، ولا يحل لأحد أن يترك قولا له صلى الله عليه وآله وسلم لقول له آخر ما دام يمكن استعمالها جميعا، بأن يضم بعضها إلى بعض، أو بأن يستثني بعضها من بعض، ومن تعدى هذا فهو عاص لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم (3)

__________

(1) مسلم:2/ 1083، الحاكم:4/ 19، الدارمي: 2/ 194، البيهقي: 7/ 300، الموطأ: 2/ 530، مسند الشافعي: 261.

(2) التمهيد:17/ 246.

(3) المحلى: 9/ 215.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (426)

وقد ذكر ابن العربي الحكمة من هذا التقسيم للجديدة، والتفريق بين البكر والثيب في ذلك، فقال: (هذا لا يقتضيه قياس إذ لا نظير له يشبه به ولا أصل يرجع إليه، والعلماء يقولون: حكمة ذلك النظر إلى تحصيل الألفة والمؤانسة، وأن يستوفي الزوج لذته فإن لكل جديد لذة، ولما كانت البكر حديثة عهد بالرجل وحديثة بالاستصعاب والنفار لا تلين إلا بجهد، شرعت لها الزيادة على الثيب، لأنه ينفي نفارها ويسكن روعها، بخلاف الثيب فإنها مارست الرجال، فإنما يحتاج مع هذا الحدث دون ما تحتاج إليه البكر (1)

بل نرى أن هذا الحق لا يتوقف على المرأة التي لها ضرات، بل هو حق مطلق، وقد اختلف الفقهاء في هذا على قولين:

القول الأول: أنه حق للمرأة مطلقا، قال ابن عبر البر: جمهور العلماء على أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف سواء كان عنده زوجه أم لا لعموم الحديث إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا لم يخص من لم يكن له زوجه، قال النووي: (والأول أقوى، وهو المختار لعموم الحديث) (2)

القول الثاني: أنه مختص بمن له نساء أخريات، وهو قول بعض المحدثين، وقد رجح القاضي هذا القول وبه جزم البغوى، لأن من لا زوجة له فهو مقيم مع هذه كل دهره مؤنس لها متمتع بها مستمتعة به بلا قاطع بخلاف من له زوجات فله جعلت هذه الأيام للجديدة تأنيسا لها متصلا لتستقر عشرتها له وتذهب حشمتها ووحشتها منه ويقضى كل واحد منهما لذته من صاحبه ولا ينقطع بالدوران على غيرها.

رابعا ـ أحوال الزوج في القسمة

__________

(1) عون المعبود:3/ 176.

(2) شرح النووي على مسلم:10/ 45.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (427)

نص الفقهاء على أن القسم للزوجات مستحق على كل زوج بدون تفريق بين حر وعبد، وصحيح ومريض، وفحل وخصي ومجبوب، وبالغ ومراهق ومميز يمكنه في الوطء، وعاقل ومجنون يؤمن من ضرره، وفي بعض هؤلاء تفاصيل خاصة نوردها فيما يلي:

قسمة الصبي

نص الفقهاء على أن الزوج الصبي المراهق أو المميز الذي يمكنه الوطء يستحق عليه القسم، لأنه لحق الزوجات، وحقوق العباد تتوجه على الصبي عند تقرر السبب، وعلى وليه إطافته على زوجاته، والإثم على الولي إن لم يطف به عليهن أو جار الصبي أو قصر وعلم بذلك.

قسمة المريض

اتفق الفقهاء على وجوب القسمة بين الزوجات من غير مراعاة في ذلك لصحة الزوج أو الزوجة فيقسم المريض والمجبوب والعنين والخنثى، واستدلوا على ذلك بأن وجوب القسم والعدل للصحبة والمؤانسة دون المجامعة، وحال هؤلاء في هذا كحال الرجل العادي.

واختلفوا فيما لو شق على المريض الطواف بنفسه على زوجاته على الأقوال التالية:

القول الأول: إذا كان لا يقدر على التحول إلى بيت الأخرى، فإنه يمكث عندها حتى إذا صح ذهب عند الأخرى بقدر ما أقام عند الأولى مريضا، وهو قول الحنفية.

القول الثاني: إذا لم يستطع الزوج الطواف بنفسه على زوجاته لشدة مرضه أقام عند من شاء الإقامة عندها، أي لرفقها به في تمريضه، لا لميله إليها فتمتنع الإقامة عندها، ثم إذا صح ابتدأ القسم، وهو قول المالكية.

القول الثالث: من بات عند بعض نسوته بقرعة أو غيرها لزمه - ولو عنينا ومجبوبا ومريضا - المبيت عند من بقي منهن، وهو قول الشافعية، ومن الأدلة على ذلك:

1. عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه

2.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (428)

3. ساقط) (1)

4. أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسم بين نسائه ويطاف به عليهن في مرضه.

5. أن العذر والمرض لا يسقط القسم.

القول الرابع: إن شق على الزوج المريض القسم استأذن أزواجه أن يكون عند إحداهن، فإن لم يأذن له أن يقيم عند إحداهن أقام عند من تعينها القرعة أو اعتزلهن جميعا إن أحب ذلك تعديلا بينهن.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة إمكانية الأخذ بالحلول التالية على الترتيب:

1. أن يخصص بيتا خاصا إن أمكنه، بحيث تبيت عنده كل ليلة إحدى زوجاته.

2. أن يستأذن زوجاته في المقام عند إحداهن لتمريضه، ولمشقة الانتقال من بيت إلى بيت.

3. إن لم يأذن له في ذلك، وكان مرضه يحتاج إلى رعاية خاصة، أو أن حالته الصحية تستدعي وجوده مع امرأة بعينها، فإن له أن يقيم عندها لهذه الضرورة، ولا نرى أن يقضي بعد ذلك لنسائه، لأن البيتوتة حال المرض لا تشبه البيتوتة في الصحة، فلذلك تتضرر من مرضته بذهاب حقها من القسمة.

قسمة المجنون

ذهب الفقهاء إلى أن المجنون الذي أطبق جنونه لا قسم عليه، لأنه غير مكلف، لكن القسم المستحق عليه لزوجاته يطالب به - في الجملة - وليه، على التفصيل التالي:

القول الأول: يجب على ولي المجنون إطافته على زوجتيه أو زوجاته، كما يجب عليه نفقتهن وكسوتهن، لأنه من الأمور البدنية التي يتولى استيفاءها له أو التمكين حتى تستوفى منه

__________

(1) سبق تخريجه.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (429)

كالقصاص، فهو من باب خطاب الوضع، وهو قول المالكية.

القول الثاني: لا يلزم الولي الطواف بالمجنون على زوجاته، أمن منه الضرر أم لا، إلا إن طولب بقضاء قسم وقع منه فيلزمه الطواف به عليهن قضاء لحقهن كقضاء الدين، وذلك إذا أمن ضرره، فإن لم يطالب فلا يلزمه ذلك، لأن لهن التأخير إلى إفاقته لتتم المؤانسة، ويلزم الولي الطواف به إن كان الجماع ينفعه بقول أهل الخبرة، أو مال إليه، فإن ضره الجماع وجب على وليه منعه منه، فإن تقطع الجنون وانضبط كيوم ويوم، فأيام الجنون كالغيبة فتطرح ويقسم أيام إفاقته، وإن لم ينضبط جنونه وأباته الولي في الجنون مع واحدة وأفاق في نوبة الأخرى قضى ما جرى في الجنون لنقصه، هو قول الشافعية.

القول الثالث: المجنون المأمون الذي له زوجتان فأكثر يطوف به وليه وجوبا عليهن، لحصول الأنس به، فإن خيف منه لكونه غير مأمون فلا قسم عليه لأنه لا يحصل منه أنس لهن، فإن لم يعدل الولي في القسم ثم أفاق الزوج من جنونه قضى للمظلومة ما فاتها استدراكا لظلامته، لأنه حق ثبت في ذمته فلزمه إيفاؤه حال الإفاقة كالمال، وهو قول الحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح هو أن حكم ذلك يختلف باختلاف نوع الجنون وحال المجنون، فمن الجنون ما هو أقرب إلى العقل، فيكون له بذلك حظ من التكليف بقدر عقله،، ومنه ما لا يمكن تكليفه بشيء، ومن الصعوبة الحكم في هذه المسائل حكما عاما.

ونرى كذلك إن كان الجنون دائما أن يكتفى للمجنون بزوجة واحدة، لارتباط التعدد بالعدل، وافتقار المجنون للتكليف، والعدل لا يقيمه غير المكلف.

قسمة المسافر

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (430)

إذا أراد الزوج سفرا، فأحب حمل نسائه معه كلهن، أو تركهن كلهن، صح ذلك دون قرعة، أما إن أراد تعيين واحدة منهن أو اثنتين، فقد اختلف الفقهاء في كيفية الاختيار على قولين (1):

القول الأول: أن له الاختيار بينهن من غير قرعة، وهو قول الحنفية، وقول للمالكية (2)، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. أنه لا حق للمرأة في القسم عند سفر الزوج، لأن له أن يسافر ولا يستصحب واحدة منهن، فليس عليه التسوية بينهن في حالة السفر.

2. أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان يفعل ذلك تطبيبا لقلوبهن ونفيا لتهمة الميل عن نفسه، قال الطحاوي: (أجمع المسلمون أن للرجل أن يسافر إلى حيث أحب، وإن طال سفره ذلك، وليس معه أحد من نسائه، وأن حكم القسم، يرتفع عنه بسفره، فلما كان ذلك كذلك، كانت قرعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين نسائه، في وقت احتياجه إلى الخروج بإحداهن لتطيب نفس من لا يخرج بها منهن، وليعلم أنه لم يحاب التي خرج بها عليهن، لأنه لما كان له أن يخرج ويخلفهن جميعا، كان له أن يخرج ويخلف من شاء منهن. فثبت بما ذكرنا أن القرعة إنما تستعمل فيما يسع تركها، وفيما له أن يمضيه بغيرها (3)

3.

4.

__________

(1) ومثل هذالخلاف خلافهم في الخروج للغزو، قال ابن العربي:) واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات عند الغزو على قولين ; الصحيح منهما الاقتراع، وبه قال أكثر فقهاء الأمصار ; وذلك لأن السفر بجميعهن لا يمكن، واختيار واحدة منهن إيثار، فلم يبق إلا القرعة (أحكام القرآن:4/ 31.

(2) إلا أن الحنفية استحبوا القرعة تطييبا لقلوبهن، وأوجب المالكية القرعة بين الزوجات في سفر القربة كالغزو والحج في المشهور عندهم ; لأن المشاحة تعظم في سفر القربة. وفي قول آخر عند المالكية أن القرعة تجب مطلقا، فللمالكية بهذا أربعة أقوال: هي الاختيار مطلقا، القرعة مطلقا، القرعة في الحج والغزو فقط، القرعة في الغزو فقط. انظر: منح الجليل:3/ 544، حاشية الصاوي:2/ 511..

(3) شرح معاني الآثار:4/ 283، وانظرك المبسوط:5/ 219.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (431)

5. أن بعض النسوة قد تكون أنفع في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة للتي لا نفع بها في السفر لأضر بحال الرجل، وكذا بالعكس قد يكون بعض النساء أقوم ببيت الرجل من الأخرى، وقال القرطبي: (ينبغي أن يختلف ذلك باختلاف أحوال النساء، وتختص بما إذا اتفقت أحوالهن لئلا تخرج واحدة معه فيكون ترجيحا بغير مرجح) (1)

القول الثاني: لا يجوز له السفر ببعضهن إلا بعد إجراء قرعة بينهن (2)، فإذا سافر بإحداهن بغير قرعة أثم، وقضى لغيرها بعد سفره، وهو قول جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك بما يلي:

1. ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد سفرا، أقرع بين نسائه، وأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه (3).

2. أن في المسافرة ببعضهن من غير قرعة تفضيلا لها، وميلا إليها، فلم يجز بغير قرعة كالبداية بها في القسم.

3. أنهم اتفقوا على أن مدة السفر لا يحاسب بها المقيمة، بل يبتدئ إذا رجع بالقسم فيما يستقبل، فلو سافر بمن شاء بغير قرعة، فقدم بعضهن في القسم للزم منه إذا رجع أن يوفي من تخلفت حقها، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن ذلك لا يجب، فظهر أن للقرعة فائدة، وهي أن

4.

__________

(1) نقلا عن: فتح الباري:9/ 311.

(2) وقد نصوا على أنه لا يلزم الزوج إذا خرجت القرعة لإحداهن، على السفر بها، بل له تركها والسفر وحده، لأن القرعة غير ملزمة وإنما تعين من تستحق التقديم، فلذلك لا يجوز له السفر بغيرها، لأنها تعينت بالقرعة، فلم يجز العدول عنها إلى غيرها إلا إذا وهبت حقها من ذلك لغيرها، فإنه يجوز بشرط رضي الزوج.

فإذا امتنعت من السفر معه، فله إكراهها عليه، أما إن رضي فإنه يسقط حقها ويستأنف القرعة بين الباقيات، فإن رضي الزوجات كلهن بسفر واحدة معه من غير قرعة، جاز ذلك، لأن الحق لهن، إلا إذا لم يرض الزوج، ويريد غير من اتفقن عليها، فيصار إلى القرعة.

(3) مسلم: 4/ 2130، البخاري: 2/ 955، البيهقي: 7/ 296، أبو داود: 2/ 243، النسائي: 5/ 295، أحمد: 6/ 195.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (432)

5. لا يؤثر بعضهن بالتشهي لما يترتب على ذلك من ترك العدل بينهن (1).

فإن أحب المسافرة بأكثر من واحدة، أقرع أيضا لما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خرج أقرع بين نسائه، ويجب عليه أن يسوي بينهن كما يسوي بينهن في الحضر.

الترجيح:

نرى أن الأرجح هو النظر إلى المسألة من جهتين ترتبطان بمصالح الزوجين، ولا يحصل بهما الضرر لكليهما، ويمكن بهما الجمع بين محاسن القولين:

أولا ـ إذا كانت حاجته لإحداهن في سفره، أو لتواجدها في بيته أكثر من حاجته لغيرها، فإن الأولى هو خضوع الأمر لهذه الحاجة بشرط عدم تدخل الميل المحرم في ذلك، وقد قال ابن القاسم بعد عرضه لرأي مالك في المسألة: (أما رأيي فذلك كله عندي سواء الغزو وغيره يخرج بأيهن شاء إلا أن يكون خروجه بإحداهن على وجه الميل لها على من معها من نسائه، ألا ترى أن الرجل قد تكون له المرأة ذات الولد وذات الشرف وهي صاحبة ماله ومدبرة ضيعته، فإن خرج بها فأصابها السهم ضاع ذلك من ماله وولده ودخل عليه في ذلك ضرر، ولعل معها من ليس لها ذلك القدر ولا تلك الثقة، وإنما يسافر بها لخفة مؤنتها ولقلة منفعتها فيما يخلفها له من ضيعته وأمره وحاجته إليها وفي قيامها عليه فما كان من ذلك على غير ضرر ولا ميل فلا أرى بذلك بأسا (2) (، وهي نظرة مقاصدية معتبرة، ولكنها تختلف من حيث نوع النظر إلى المصلحة باختلاف الأحوال والعصور.

ثانيا ـ إن لم توجد أي مصلحة تستدعي سفر إحداهن، فإن الأرجح هو الالتجاء إلى القرعة، بل نراه أصلا في حل كثير من المشاكل التي تستوي فيها الأطراف، ولا يمكن الجمع بين مصالح الجميع، لأن الزوج المسافر بين ثلاثة أمور: أن يسافر بهن جميعا، ولا طاقة له بذلك،

__________

(1) فتح الباري:9/ 312.

(2) المدونة:2/ 189.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (433)

أو في ذلك ـ حال توفر الطاقة ـ مشقة شديدة عليه، والشرع إنما جاء برفع الحرج، أو أن يتركهن جميعا، وفي ذلك مفاسد كثيرة، فقد يتضرر بفراقهن ضررا شديدا، فلم يبق إلا أن يسافر بإحداهن، فإن اجتمعن على الإذن له بواحدة منهن، فإن لهن ذلك إن رضي وإلا كانت القرعة هي الحل الأوحد لمثل هذه الحالة، لأن سفره ببعضهن من غير رضاهن نوع من الميل والاستئثار الذي يترك أثره في نفس المؤثر عليها، بخلاف القرعة، فإنها تسلم لها، وترضى بها، لأن الأذى الذي يصيبها ليس عدم سفرها مع زوجها بقدر ما هو إيثار غيرها عليها.

وقد استنبط الشافعي مما ذكر الله تعالى من القرعة في القرآن الكريم من مواضع القرعة الأصل الجامع لذلك، وطبقه عل هذه الحالة، فقد ذكر الله تعالى القرعة في القرآن الكريم في موضعين:

1. قال الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} (الصافات:141) فقد وقف الفلك بالذين ركب معهم يونس، فقالوا: إنما وقف لراكب فيه لا نعرفه فيقرع فأيكم خرج سهمه ألقي فخرج سهم يونس، فألقي فالتقمه الحوت، ثم تداركه بعفوه تعالى.

2. قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران:44)، فلا يعدو الملقون لأقلامهم يقترعون عليها أن يكونوا سواء في كفالتها، لأنه إنما يقارع من يدلي بحق فيما يقارع ولا يعدون إذا كان أرفق بها وأجمل في أمرها أن تكون عند واحد لا يتداولها كلهم مدة مدة.

قال الشافعي: (فلما كان المعروف لنساء الرافق بالنساء أن يخرج بواحدة منهن، فهن في مثل هذا المعنى ذوات الحق كلهن، فإذا خرج سهم واحدة كان السفر لها دونهن، وكان هذا في معنى القرعة في مريم وقرعة يونس حين استوت الحقوق، أقرع لتنفرد واحدة دون الجميع) (1)

__________

(1) الأم:5/ 119.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (434)

أما اعتبار القرعة أصلا في هذا ومثله، فقد وردت القرعة في الشرع في ثلاثة مواطن، منها هذا الموطن فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، والثاني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفع إليه أن رجلا أعتق في مرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، والثالث أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست، فقال: اذهبا وتوخيا الحق واستهما، وليحلل كل واحد منكما صاحبه.

ففي هذه المواطن الثلاث جرت القرعة فيها لرفع الإشكال وحسم داء التشهي، لأن السفر بجميعهن لا يمكن، واختيار واحدة منهن إيثار، وكذلك الأعبد الستة فإن كل اثنين منهم ثلث، وهو القدر الذي يجوز له فيه العتق في مرض الموت، وتعيينهما بالتشهي لا يجوز شرعا، فلم يبق إلا القرعة، ومثلهما التشاجر إذا وقع في أعيان المواريث لم يميز الحق إلا القرعة، فصارت أصلا في تعيين المستحق إذا أشكل. قال ابن العربي: (والحق عندي أن تجري في كل مشكل، فذلك أبين لها، وأقوى لفصل الحكم فيها، وأجلى لرفع الإشكال عنها) (1)

ومن هذا الباب ما لو أهدي له شيء خاص بالنسوة، ولم تعين صاحبته من النساء، فإن الحل الوحيد لذلك هو إجراء قرعة على من تسلم لها تلك الهدية، لما في إيثار إحداهن دون غيرها من المفاسد.

حكم القضاء بعد الرجوع من السفر

اختلف الفقهاء في إلزام من سافر ببعض زوجاته بالقضاء للحاضرات بعد قدومه على قولين:

__________

(1) أحكام القرآن لابن العربي:4/ 31.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (435)

القول الأول: لا يلزمه القضاء لهن، وهو قول جمهور العلماء (1)، واستدلوا على ذلك بأن المسافر بها يلحقها من مشقة السفر بقدر ما لها من السكن، فلذلك لا يحصل لها من السكن مثل ما يحصل في الحضر، فلو قضي للحاضرات، لكان قد مال على المسافرة كل الميل.

القول الثاني: وجوب القضاء عليه للحاضرات من النساء، وهو قول داود الظاهري، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء:129)

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن استحقاق الحاضرات للقضاء يختلف باختلاف نوع السفر، فإن كان السفر سياحيا مثلا، فإن الواجب هو القضاء، لأن تواجد الزوج مع زوجته مستغرق جميع الأوقات، وهي أهنأ وأسكن في هذه الحالة من تواجدها في بيتها، ثم إن السفر في عصرنا يختلف عن السفر في ما مضى، فقد أصبح من وسائل المتعة، وليس فيه من المشقة ما كان فيما مضى، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فلذلك استحق غيرها حقهن من القسمة في بيوتهن مثل استحقاقها.

أما لو كان السفر سفر عمل، بحيث انشغل فيه الزوج عن أهله، فإنه لا يجب عليه القضاء، وعلى هذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن أسفاره كلها كانت من النوع الثاني، فلا يصح الاستدلال بها على النوع الأول.

وقد أشار إلى هذا التفريق ابن حجر في قوله: (ولا يخفى أن محل الإطلاق في ترك القضاء في السفر ما دام اسم السفر موجودا، فلو سافر إلى بلدة فأقام بها زمانا طويلا، ثم سافر راجعا، فعليه قضاء مدة الإقامة، وفي مدة الرجوع خلاف عند الشافعية، والمعنى في سقوط القضاء أن

__________

(1) وقد اختلفوا في هذا بين السفر الطويل والقصير، فقيل بعدم التفريق بينهما لعموم الخبر والمعنى، وهو قول الجمهور، وقيل بوجوب القضاء للبواقي في السفر القصير، لأنه في حكم الإقامة، وهو وجه لأصحاب الشافعي.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (436)

التي سافرت وفازت بالصحبة لحقها من تعب السفر ومشقته ما يقابل ذلك والمقيمة عكسها في الأمرين معا) (1)

خامسا ـ القسمة العادلة بين الزوجات وضوابطهأ

ذكر الفقهاء بناء على الاحتياط من الوقوع في الميل المحرم، كثيرا من التفاصيل المتعلقة بكيفية القسمة العادلة، وما يراعى فيها، وقد لخصنا الكثير من مجامع تلك المسائل في أن القسمة محددة زمانا ومكانا، فالزوج في حال القسمة مرتبط بهذين القيدين، وتفاصيل أحكامهما في ما يلي:

1 ـ زمان القسمة

يتعلق بهذا القيد من قيود القسمة العادلة المسائل التالية:

مدة القسمة

نص الفقهاء على أن أقل مدة القسمة لمن عمله نهارا ليلة، فلا يجوز ببعضها لما في التبعيض من تشويش العيش وتنغيصه، إلا أن ترضى الزوجات بذلك، واختلفوا في أكثر مدة القسم، أي أطول مدة زمنية للنوبة الواحدة من القسم على الأقوال التالية:

القول الأول: للرجل أن يقدر المدة التي يقيمها عند إحداهن، بشرط أن لا تزيد على أربعة أشهر، وهي مدة الإيلاء، والأفضل أن يقسم الزوج بينهن بما يزيل الوحشة بحيث لا يتركها مدة تتألم فيها، وهو قول الحنفية، وهو وجه شاذ عند الشافعية (2).

القول الثاني: الأصل في القسمة بين الزوجات أن يقسم بينهن ليلة ليلة، ولا يجوز له الزيادة على ذلك إلا برضاهن، أو يكن في بلاد متباعدة فيقسم الجمعة أو الشهر على حسب ما

__________

(1) فتح الباري:9/ 312.

(2) مصنف عبد الرزاق:7/ 152.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (437)

يمكنه بحيث لا يناله ضرر لقلة المدة، وهو قول المالكية والحنابلة في المعتمد عندهم، قال الشافعية: (ويجوز أن يقسم ليلة ليلة وليلتين ليلتين وثلاثا ثلاثا، ولا يجوز أقل من ليلة، ولا يجوز الزياة على الثلاثة الا برضاهن (،قال النووي: هذا هو الصحيح في مذهبنا وفيه أوجه ضعيفة) (1)

القول الثالث:: الأصل في القسمة بين الزوجات أن يقسم بينهن ليلة وليلة، فما زاد إلى سبع لكل واحدة، ولا يجوز له أن يزيد على سبع، وهو قول ابن حزم (2).

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو أن ذلك يخضع لرضى الجميع سواء الزوج أو زوجاته، لعدم ورود دليل يحدد مدة القسمة لكل واحدة من الزوجات، وأن ذلك أيضا يختلف باختلاف عدد الزوجات، فمن له زوجتان ليس كمن له أربع، لأنه كلما كثرت النسوة طالت المدة الفاصلة بين النوبتين وحصل الضرر، فلذلك كان الأفضل هو ما ورد في فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقسم بينهن ليلة ليلة.

وقت القسمة

اتفق الفقهاء على أن الأصل في القسم في الحالة العادية الليل، ومن الأدلة على ذلك:

1. أن التسوية الواجبة في القسم تكون في البيتوتة.

2. أن الليل للسكن والإيواء، يأوي فيه الرجل إلى منزله، ويسكن إلى أهله، وينام في فراشه مع زوجته عادة، والنهار وقت العمل لكسب الرزق والانتشار في الأرض طلبا للمعاش، كما قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النبأ:10 ـ 11)، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُون} (يونس:67)

__________

(1) شرح النووي على مسلم:10/ 46.

(2) المحلى:9/ 218.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (438)

واتفقوا على أنه يدخل في القسمة النهار تبعا لليل، وإن أحب الزوج أن يجعل النهار في القسم لزوجاته مضافا إلى الليل الذي بعده جاز له ذلك، لأنه لا يتفاوت، والغرض العدل بين الزوجات وهو حاصل بذلك.

وقد نص الفقهاء على أن هذا التقسيم جار على الحالة العادية، أما في الحالة غير العادية، فهو كما قال الشافعي: (إنما القسم على المبيت كيف كان المبيت)، ولهذا، فمن عمله الليل، وكان النهار سكنه كالحارس ونحوه يكون النهار، لأنه وقت سكونه، وأما الليل فإنه وقت عمله، ومثله القسم للمسافر، فإنه وقت نزوله، لأنه وقت خلوته ليلا كان أو نهارا، قل أو كثر، وإن تفاوت حصل لواحدة نصف يوم ولأخرى ربع يوم، فلو كانت خلوته وقت السير دون وقت النزول - كأن كان بمحفة وحالة النزول يكون مع الجماعة في نحو خيمة - كان هو وقت القسم.

وقت بدء القسمة

اختلف الفقهاء في الوقت الذي يبدأ فيه الزوج القسم بين زوجاته، وفيما يكون به الابتداء على قولين:

القول الأول: أن البدء في القسم ملك الزوج، وهو قول الحنفية والمالكية، وهو مقابل الصحيح عند الشافعية، ونص المالكية على أنه يندب الابتداء في القسم بالليل، لأنه وقت الإيواء للزوجات، ويقيم القادم من سفر نهارا عند أيتهن أحب ولا يحسب، ويستأنف القسم بالليل لأنه المقصود، ويستحب أن ينزل عند التي خرج من عندها ليكمل لها يومها.

القول الثاني: وجوب القرعة على الزوج بين الزوجات للابتداء إن تنازعن فيه، وليس

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (439)

له إذا أراد الشروع في القسم البدء بإحداهن إلا بقرعة (1) أو برضاهن، وهو قول الشافعية - في الصحيح عندهم - والحنابلة، ومن الأدلة على ذلك:

1. أن البدء بإحداهن تفضيل لها على غيرها، والتسوية بينهن واجبة.

2. أنهن متساويات في الحق، ولا يمكن الجمع بينهن، فوجب المصير إلى القرعة إن لم يرضين.

وقالوا: للزوج أن يرتب القسم على ليلة ويوم قبلها أو بعدها، لأن المقصود حاصل بكل ولا يتفاوت، لكن تقديم الليل أولى، لأن النهار تابع لليل وللخروج من خلاف من عينه.

حكم قضاء ما فات من حق الزوجة

اختلف الفقهاء فيما لو جار الزوج وفوت على إحداهن قسمها (2)، هل يجب عليه قضاء ما فات من القسم أم لا على قولين:

القول الأول: لا يقضي الزوج المبيت الذي كان مستحقا لإحدى زوجاته ولم يوفه لها، وهو قول الحنفية والمالكية، ومن الأدلة على ذلك:

1. أن القصد من المبيت دفع الضرر وتحصين المرأة وإذهاب الوحشة، وهو يفوت بفوات زمنه.

2. أنه لو جعل لمن فاتت ليلتها ليلة عوضا عنها، يظلم حينئذ صاحبة تلك الليلة التي جعلها عوضا.

3.

4.

__________

(1) طريقة القرعة عندهم هو أن يبدأ بمن خرجت قرعتها، فإذا مضت نوبتها أقرع بين الباقيات، ثم بين الأخريين، فإذا تمت النوبة راعى الترتيب ولا حاجة إلى إعادة القرعة، بخلاف ما إذا بدأ بلا قرعة فإنه يقرع بين الباقيات، فإذا تمت النوبة أقرع للابتداء.

(2) أسباب فوات القسم متعددة سبق ذكر بعضها منها أن سافر الزوج بإحدى الزوجات فيفوت القسم لسائرهن، وقد يتزوج الرجل أثناء دورة القسم لزوجاته وقبل أن يوفي نوبات القسم المستحقة لهن، فيقطع الدورة ليختص الزوجة الجديدة بقسم النكاح، مما يترتب عليه فوات نوبة من لم يأت دورها فيجب القضاء لها.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (440)

5. أن المبيت لا يزيد على النفقة وهي تسقط بمضي المدة كما اختاره الحنفية.

القول الثاني: على الزوج أن يقضي ما فات من القسم للزوجة إذا لم يكن ذلك بسبب من جانبها كنشوزها أو إغلاقها بابها دونه ومنعها إياه من الدخول عليها في نوبتها، وهو قول الشافعية والحنابلة.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو القول الثاني بناء على الأخذ بالأحوط في مثل هذه المسائل، والحق في الشريعة لا يسقط بمضي زمانه.

وقد نص الفقهاء القائلون بوجوب القضاء على أن للقضاء طرقا مختلفة يخير الزوج في اختيار طريقة منها للتعويض عن قسمتها، وهذه الطرق هي:

1. أن يجعل قضاءه لذلك غيبته عن الأخرى، مثل ما غاب عن هذه، لأن التسوية تحصل بذلك، ولأنه إذا جاز له ترك الليلة بكمالها في حق كل واحدة منهما، فبعضها أولى.

2. أن يقضي لها الوقت الذي غاب عنها فيه ويستحب أن يقضي لها في مثل ذلك الوقت، لأنه أبلغ في المماثلة، والقضاء تعتبر المماثلة فيه، كقضاء العبادات والحقوق، وقد اختلف فيما لو فاتها أول الليل، فقضاه في آخره، أو من آخره، فقضاه في أوله، فقيل بالجواز، لأنه قد قضى قدر ما فاته من الليل، وقيل بعدم الجواز لعدم المماثلة.

3. لا يصح قضاؤه ليلة الأخرى، لئلا يفوت حق الأخرى، فتحتاج إلى قضاء، فلذلك له أن ينفرد بنفسه في ليلة، فيقضي منها، وإما أن يقسم ليلة بينهن بحسب ما فاتها مثل أن يترك من ليلة إحداهما ساعتين، فيقضي لها من ليلة الأخرى ساعة واحدة، فيصير الفائت على كل واحدة منهما ساعة.

2 ـ محل القسمة

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (441)

لا يخلو محل القسمة بين أن الزوجات من ثلاثة أحوال:

1. أن يكون لكل زوجة مسكنها الخاص، يأتيها الزوج إليه في وقت نوبتها، وهو أفضل الأحوال.

2. أن يكون لهن مسكن واحد، يسكن معهن فيه الزوج.

3. أن يدعو الزوج كل ليلة إليه من تكون نوبتها، فيكون النسوة هن الذي يأتين للزوج.

وتفصيل هذه الحالات الثلاثة في المسائل التالية:

حكم اختصاص الزوجة بسكن خاص

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز الجمع بين امرأتين في مسكن واحد، لأن ذلك ليس من المعاشرة بالمعروف، ولأنه يؤدي إلى الخصومة التي نهى الشارع عنها، قال الكاساني: (لو أراد الزوج أن يسكنها مع ضرتها أو مع أحمائها، كأم الزوج وأخته وبنته من غيرها وأقاربه فأبت ذلك، عليه أن يسكنها في منزل مفرد، لأنهن ربما يؤذينها ويضررن بها في المساكنة وإباؤها دليل الأذى والضرر، ولأنه يحتاج إلى أن يجامعها ويعاشرها في أي وقت يتفق ولا يمكنه ذلك إذا كان معهما ثالث) (1)

وأما الجمع بينهما في دار لكل واحدة من الزوجتين بيت فيها فذهب إلى جواز ذلك جمهور الفقهاء، بشرط أن يكون لكل بيت مرافقه الخاصة به، وغلق يغلق به، ولا يشترط رضاهما في الجمع بينهما (2).

فقد نص المالكية على جوز جمع الرجل بين المرأتين في دار واحدة بشرطين:

1. أن يكون لكل واحدة منهما منزل مستقل بمرافقه ومنافعه من كنيف ومطبخ ونحو ذلك مما

2.

__________

(1) بدائع الصنائع:4/ 23.

(2) وذهب بعض المالكية، إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في هذه الدار إلا برضاهما، فإن أبين منه أو كرهته إحداهما فلا يصح الجمع بينهما.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (442)

3. يحتاج إليه.

4. أن يرضيا بذلك، ولا فرق بين الزوجتين والثلاثة فأكثر، فإن لم يرضيا بذلك فإنه لا يجوز له أن يجمع بينهما في منزلين من دار واحدة، بل يلزمه أن يفرد كل واحدة بدار ولا يلزمه أن يبعد ما بينهما (1).

وقد اختلف الفقهاء في هذا الحكم هل هو حق خالص للمرأة يسقط برضاها، أم أنه واجب شرعي على قولين:

القول الأول: إن منع الجمع بين امرأتين في مسكن واحد حق خالص لهما فيسقط برضاهما، وهو قول الجمهور.

القول الثاني: أن هذا الحق لا يسقط ولو رضيت الزوجة به، وهو قول ابن عبد السلام من المالكية.

الترجيح:

نرى أن الأرجح في المسألة هو الجمع بين القولين، مع وضع كل قول لحالة خاصة، ففي الحالة العادية، يكون هذا حقا للمرأة يجوز أن تتنازل عنه، فتسكن مع ضراتها مسكنا واحدا، أما إذا خشي الزوج الفتنة بين ضراته فإن هذا لا يصير حقا قد يتنازلن عنه، بل يصبح واجبا لعدم استقامة الحياة الزوجية بدونه.

حكم المعاشرة الجنسية للزوجتين في مسكن واحد

اتفق الفقهاء على حرمة معاشرة الرجل لإحدى زوجتيه جنسيا بحيث ترى الأخرى ذلك، قال ابن نجيم: (لو اجتمعت الضرائر في مسكن واحد بالرضا يكره أن يطأ إحداهما

__________

(1) الخرشي:4/ 5.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (443)

بحضرة الأخرى، حتى لو طلب وطأها لم تلزمها الإجابة، ولا تصير بالامتناع ناشزة)، ثم قال: (ولا خلاف في هذه المسائل) (1)

والتعبير بالكراهة هنا لا يعني الكراهة المعروفة، وإنما هي صيغة من صيغ التحريم، قال ابن قدامة: (إن رضيتا بأن يجامع واحدة بحيث تراه الأخرى، لم يجز، لأن فيه دناءة وسخفا وسقوط مروءة، فلم يبح برضاهما) (2)

أما النوم معا من دون معاشرة، فلا حرج فيه للضرورة، وقد نص في المغني على جواز ما لو رضيتا بنومه بينهما في لحاف واحد (3)، بل نص الفقهاء على أنه يجوز نوم الرجل مع امرأته بلا جماع بحضرة محرم لها (4).

ذهاب الزوج إلى زوجاته أو دعوتهن إليه

اتفق الفقهاء ـ كما سبق بيانه ـ على أن الأولى في حالة تعدد الزوجات أن يكون لكل منهن مسكن يأتيها الزوج فيه اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان يقسم لنسائه في بيوتهن، ولأنه أصون وأستر حتى لا تخرج النساء من بيوتهن، ويجوز للزوج - إن انفرد بمسكن - أن يدعو إليه كل واحدة من زوجاته في ليلتها ليوفيها حقها من القسم، وقد اختلف الفقهاء في بعض تفاصيل هذا نورده في ما يلي على حسب المذاهب الفقهية:

الحنفية: نص الحنفية على أنه لو مرض الزوج في بيته دعا كل واحدة في نوبتها، لأنه لو كان صحيحا وأراد ذلك ينبغي أن يقبل منه.

المالكية: نص المالكية على أنه يجوز للزوج برضاء زوجاته طلبه منهن الإتيان للبيات معه

__________

(1) البحر الرائق:3/ 237.

(2) المغني:7/ 229.

(3) المغني:7/ 229.

(4) كشاف القناع:5/ 197.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (444)

بمحله المختص به، ولا ينبغي له هذا إذ السنة دورانه هو عليهن في بيوتهن لفعله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن رضي بعضهن لم يلزم باقيهن، بل نص بعض المالكية على أنه يقضى على الزوج أن يدور عليهن في بيوتهن ولا يأتينه إلا أن يرضين.

الشافعية: إن لم ينفرد الزوج بمسكن وأراد القسم دار عليهن في بيوتهن توفية لحقهن، وإن انفرد بمسكن فالأفضل المضي إليهن صونا لهن، وله دعاؤهن بمسكنه، وعليهن الإجابة، لأن ذلك حقه، فمن امتنعت وقد لاق مسكنه بها فيما يظهر فهي ناشزة إلا ذات شرف لم تعتد البروز، فيذهب لها، وإلا نحو معذورة بمرض فيذهب أو يرسل لها مركبا إن أطاقت مع ما يقيها من نحو مطر.

قال النووي: (يستحب للزوج أن يأتى كل امرأة في بيتها ولا يدعوهن الى بيته لكن لو دعا كل واحدة في نوبتها الى بيته كان له ذلك وهو خلاف الأفضل ولو دعاها الى بيت ضرائرها لم تلزمها الاجابة ولا تكون بالامتناع ناشزة بخلاف ما اذا امتنعت من الاتيان الى بيته لأن عليها ضررا في الاتيان الى ضرتها وهذا الاجتماع كان برضاهن (1)

والأصح عندهم تحريم ذهابه إلى بعضهن ودعاء غيرهن إلى مسكنه لما فيه من الإيحاش، ولما في تفضيل بعضهن على بعض، من ترك العدل، إلا لغرض كقرب مسكن من مضى إليها، أو خوف عليها لنحو شباب دون غيرها فلا يحرم، والضابط أن لا يظهر منه التفضيل والتخصيص.

ويحرم أن يقيم بمسكن واحدة ويدعو الباقيات إليه بغير رضاهن، ولو لم تكن هي فيه حال دعائهن، فإن أجبن فلها المنع، وإن كان البيت ملك الزوج لأن حق السكنى فيه لها.

الحنابلة: إن اتخذ الزوج لنفسه مسكنا غير مساكن زوجاته يدعو إليه كل واحدة في ليلتها ويومها ويخليه من ضرتها جاز له ذلك، لأن له نقل زوجته حيث شاء بمسكن يليق بها، وله

__________

(1) شرح النووي على مسلم:10/ 47.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (445)

دعاء بعض الزوجات إلى مسكنه والذهاب إلى مسكن غيرهن من الزوجات، لأن له أن يسكن كل واحدة منهن حيث شاء، وإن امتنعت من دعاها عن إجابته وكان ما دعاها إليه مسكن مثلها سقط حقها من القسم لنشوزها، وإن أقام عند واحدة ودعا الباقيات إلى بيتها لم يجب عليهن الإجابة لما بينهن من غيرة والاجتماع يزيدها.

الإمامية:: لا يجب عليه أن يضع كل واحدة في غرفة، ويزور كل واحدة في غرفتها عند نوبتها، وإنما له أن يختص نفسه في غرفه ويدعو إليه كل واحدة في نوبتها، وله أيضاً إن يجعل بعضهن في غرفة مخصوصة لهن لكثرة أولادها أو لمرضها أو لانشغالها والبعض الآخر يدعوها إليه في نوبتها، فلا بأس إذا لم يوجب النزاع بينهن، والمهم تطييب خاطرهن إلا إذا كان بعضهن سيء الخلق فلا ترضى بكل محاولات الإرضاء فلا يهتم لسوء خلقها.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (446)

المصادر والمراجع

1. إبطال الحيل، عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري العقبل، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403، الثانية.

2. أنوار البروق في أنواع الفروق، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس [القرافي]، عالم الكتب.

3. الإتقان والأحكام في شرح تحفة الحكام، محمد بن أحمد ميارة الفاسي وغيره، دار المعرفة.

4. الإجماع، أحمد بن المنذر النيسابوري أبو بكر، تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم أحمد، دار الدعوة، الإسكندرية، 1402، الثالثة.

5. إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، خليل بن كيكلدي العلائي، تحقيق: د. محمد سليمان الأشقر، جمعية إحياء التراث الإسلامي، الكويت، 1407، الأولى.

6. الأحاديث المختارة، أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي، تحقيق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة: مكة المكرمة، 1410، الأولى.

7. أحكام أهل الذمة، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: يوسف أحمد البكري - شاكر توفيق العاروري، رمادى للنشر - دار ابن حزم، الدمام – بيروت، 14181997، الأولى.

8. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، تقي الدين أبي الفتح ابن دقيق العيد، دار الكتب العلمية، بيروت.

9. أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي الجصاص أبو بكر، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405.

10. أحكام القرآن، محمد بن إدريس الشافعي أبو عبد الله، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400.

11. إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، دار المعرفة، بيروت.

12. الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل البخاري، دار البشائر الإسلامية، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، بيروت، 14091989، الثالثة.

13. الأدلة الرضية لمتن الدرر البهية في المسائل الفقهية، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، تحقيق: محمد صبحي الحلاق، دار الندى، بيروت، 1413، الأولى.

14.

15.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (447)

16. الأشباه والنظائر، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403، الأولى.

17. إعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر أبو عبد الله، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973.

18. إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: محمد عفيفي، المكتب الإسلامي، مكتب فرقد الخاني، بيروت – الرياض، 14061986، الأولى.

19. الإفصاح عن أحاديث النكاح، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي أبو العباس، تحقيق: محمد شكور أمرير المياديني، دار عمار، عمان – الأردن، 1406، الأولى.

20. الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، محمد الشربيني الخطيب، دار الفكر، بيروت، 1415.

21. الإقناع للماوردي، الماوردي، دون معلومات.

22. الألفاظ المختلفة في المعاني المؤتلفة، محمد بن عبد الملك بن مالك الطائي الجياني أبو عبد الله، تحقيق: د. محمد حسن عواد، دار الجيل، بيروت، 1411، الأولى.

23. الأم، محمد بن إدريس الشافعي أبو عبد الله، دار المعرفة، بيروت، 1393، الثانية.

24. الإمام في بيان أدلة الأحكام، عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي، تحقيق: رضوان مختار بن غريبة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1407، الأولى.

25. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، مؤسسة البعثة، بيروت، 1413 ق، الأولى.

26. أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاوي، دار الفكر، بيروت،

27. اختلاف العلماء، محمد بن نصر المروزي أبو عبد الله، تحقيق: صبحي السامرائي، عالم الكتب، بيروت، 1406، الثانية.

28. البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن بكر، دار المعرفة، بيروت.

29. البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، المهدي لدين الله أحمد بن يحي المرتضى، دار الكتاب الإسلامي، بيروت.

30. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين الكاساني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1982، الثانية.

31. بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا، مكتبة نزار مصطفى، مكة المكرمة، 1416، الأولى.

32.

33.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (448)

34. بداية المجتهد ونهاية المقتصد، محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي أبو الوليد، دار الفكر، بيروت.

35. تأويل مختلف الحديث، عبدالله بن مسلم بن قتيبة أبو محمد الدينوري، تحقيق: محمد زهري النجار، دار الجيل، بيروت، 13931972.

36. التاج والإكليل لمختصر خليل، محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري أبو عبد الله، دار الفكر، بيروت، 1398، الثانية.

37. التاج المذهب لأحكام المذهب، القاضي أحمد بن قاسم العنسي الصنعاني، مكتبة اليمن الكبرى، اليمن.

38. تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي [ابن فرحون]، دار الكتب العلمية.

39. تحرير ألفاظ التنبيه (لغة الفقه)، يحيى بن شرف بن مري النووي أبو زكريا، تحقيق: عبد الغني الدقر، دار القلم، دمشق، 1408، الأولى.

40. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري أبو العلا، دار الكتب العلمية، بيروت.

41. تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفداء، تحقيق: عبد الغني بن حميد بن محمود الكبيسي، دار حراء، مكة المكرمة، 1406، الأولى.

42. تحفة الفقهاء، محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405، الأولى.

43. تحفة المحتاج إلى أدلة المنهاج، عمر بن علي بن أحمد الوادياشي الأندلسي، تحقيق: عبد الله بن سعاف اللحياني، دار حراء، مكة المكرمة، 1406، الأولى.

44. تحفة الملوك (في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان)، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، تحقيق: د. عبد الله نذير أحمد، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1417، الأولى.

45. التحقيق في أحاديث الخلاف، عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي أبو الفرج، تحقيق: مسعد عبد الحميد محمد السعدني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415، الأولى.

46. تخريج الفروع على الأصول، محمود بن أحمد الزنجاني أبو المناقب، تحقيق: د. محمد أديب صالح، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1398، الثانية.

47. التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني، تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت،

48.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (449)

49. 1405، الأولى.

50. تفسير القرآن العظيم، إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفداء، دار الفكر، بيروت، 1401.

51. تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني، تحقيق: السيد عبدالله هاشم اليماني المدني، المدينة المنورة، 13841964.

52. التلويح على التوضيح، سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، مكتبة صبيح، مصر.

53. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي ، محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387.

54. التنبيه في الفقه الشافعي، إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزأبادي الشيرازي أبو إسحاق، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر، عالم الكتب، بيروت، 1403، الأولى.

55. تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، عبدالرحمن بن أبي بكر أبو الفضل السيوطي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 13891969.

56. الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، صالح عبد السميع الآبي الأزهري، المكتبة الثقافية، بيروت.

57. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري أبو جعفر، دار الفكر، بيروت، 1405.

58. الجامع الصحيح المختصر، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير ، اليمامة، بيروت، 14071987، الثالثة.

59. الجامع الصحيح سنن الترمذي، محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

60. الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب، الربيع بن حبيب بن عمر الأزدي البصري، تحقيق: محمد إدريس ، عاشور بن يوسف، دار الحكمة ، مكتبة الاستقامة، بيروت ، سلطنة عمان، 1415، الأولى.

61. جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، دار المعرفة، بيروت، 1408، الأولى،

62.

63.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (450)

64. الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، دار الشعب، القاهرة، 1372، الثانية.

65. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت.

66. جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود، محمد بن أحمد المنهاجي الأسيوطي، تحقيق: مسعد عبد الحميد محمد السعدني، دار الكتب العلمية، بيروت، 14171996، الأولى.

67. حاشية ابن القيم على سنن أبي داود، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، دار الكتب العلمية، بيروت، 14151995، الثانية.

68. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، محمد عرفه الدسوقي، دار الفكر، بيروت.

69. حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني، علي الصعيدي العدوي المالكي، دار الفكر، بيروت، 1412.

70. حاشية على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح، أحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي الحنفي، مكتبة البابي الحلبي، مصر، 1318، الثالثة.

71. الحجة على أهل المدينة، محمد بن الحسن الشيباني أبو عبد الله، تحقيق: مهدي حسن الكيلاني القادري، عالم الكتب، بيروت، 1403، الثالثة.

72. الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري أبو يحيى، تحقيق: د. مازن المبارك، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1411، الأولى.

73. حواشي الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، عبد الحميد الشرواني، دار الفكر، بيروت.

74. خبايا الزوايا، محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي أبو عبد الله، تحقيق: عبد القادر عبد الله العاني، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، 1402، الأولى.

75. خلاصة البدر المنير في تخريج كتاب الشرح الكبير للرافعي، عمر بن علي بن الملقن الأنصاري، حمدي عبد المجيد إسماعيل السلفي، مكتبة الرشد، الرياض، 1410، الأولى.

76. الدراري المضية شرح الدرر البهية، محمد بن علي الشوكاني، دار الجيل، بيروت، 14071987.

77. الدراية في تخريج أحاديث الهداية، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني أبو الفضل، دار المعرفة، بيروت.

78. الدر المنثور، السيوطي، دار الفكر، بيروت، 1993.

79.

80.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (451)

81. درر الحكام شرح مجلة الأحكام، علي حيدر، دار الجيل.

82. دليل الطالب على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل، مرعي بن يوسف الحنبلي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1389، الثانية.

83. الديباج على صحيح مسلم، عبدالرحمن بن أبي بكر أبو الفضل السيوطي، أبو إسحاق الحويني الأثري، دار ابن عفان، الخبر-السعودية، 14161996.

84. الروض المربع شرح زاد المستقنع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، 1390.

85. روضة المحبين، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412.

86. الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية، زين الدين بن علي العاملي الجبعي [الشهيد الثاني]، دار العالم الإسلامي.

87. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، محمود الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

88. زاد المستقنع، موسى بن أحمد بن سالم المقدسي الحنبلي أبو النجا، تحقيق: علي محمد عبد العزيز الهندي، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة.

89. زاد المسير في علم التفسير، عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404، الثالثة.

90. الزواجر عن اقتراف الكبائر، أبو العباس أحمد بن علي بن حجر المكي الهيثمي، دار الفكر.

91. سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام، محمد بن إسماعيل الصنعاني الأمير، تحقيق: محمد عبد العزيز الخولي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1379، الرابعة.

92. السنة، محمد بن نصر بن الحجاج المروزي أبو عبد الله، تحقيق: سالم أحمد السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1408، الأولى.

93. سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر.

94. سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت.

95. سنن البيهقي الكبرى، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى أبو بكر البيهقي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا،

96.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (452)

97. مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 14141994.

98. سنن الدارقطني، علي بن عمر أبو الحسن الدارقطني البغدادي، تحقيق: السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 13861966.

99. سنن الدارمي، عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمد الدارمي، تحقيق: فواز أحمد زمرلي ، خالد السبع العلمي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407، الأولى.

100. السنن الصغرى، أحمد بن الحسين بن علي البيهقي أبو بكر، تحقيق: د. محمد ضياء الرحمن الأعظمي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، 14101989، الأولى.

101. السنن الكبرى، أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري ، سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، 14111991، الأولى.

102. سنن سعيد بن منصور، سعيد بن منصور، دار العصيمي، تحقيق: د. سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد، الرياض، 1414، الأولى.

103. السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405، الأولى.

104. شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411، الأولى.

105. شرح النيل وشفاء العليل، محمد بن يوسف بن عيسى أطفيش، مكتبة الإرشاد، جدة.

106. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، أبو القاسم جعفر بن الحسن الهذلي [المحقق الحلي]، مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان.

107. شرح العمدة في الفقه، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، تحقيق: د. سعود صالح العطيشان، مكتبة العبيكان، الرياض، 1413، الأولى.

108. الشرح الكبير، سيدي أحمد الدردير أبو البركات، دار الفكر، بيروت.

109. شرح فتح القدير، محمد بن عبد الواحد السيواسي، دار الفكر، بيروت، الثانية.

110. شرح معاني الآثار، أحمد بن محمد بن سلامة أبو جعفر الطحاوي، تحقيق: محمد زهري النجار، دار الكتب العلمية، بيروت، 1399، الأولى.

111.

112.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (453)

113. شعب الإيمان، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، 1410، الأولى.

114. حاشية البجيرمي على شرح منهج الطلاب (التجريد لنفع العبيد)، سليمان بن عمر بن محمد البجيرمي، المكتبة الإسلامية، ديار بكر – تركيا.

115. صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 14141993، الثانية.

116. صحيح ابن خزيمة، محمد بن إسحاق النيسابوري، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 13901970.

117. صحيح مسلم بشرح النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1392، الطبعة الثانية.

118. صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

119. الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، تحقيق: د. محمد جميل غازي، مطبعة المدني، القاهرة.

120. طلبة الطلبة، عمر بن أحمد بن إسماعيل النسفي، دار الطباعة العامرة.

121. زاد المعاد في هدى خير العباد، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: شعيب الأرناؤوط عبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، مكة ـ بيروت ـ الكويت، 1407، الرابعة عشر.

122. العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، محمد أمين بن عمر [ابن عابدين]، دار المعرفة.

123. عمدة الأحكام، تقي الدين أبي الفتح ابن دقيق العيد، دار الكتب العلمية، بيروت.

124. عمدة الفقه، عبد الله بن أحمد بن قدامه المقدسي، تحقيق: عبد الله سفر العبدلي ، محمد دغيليب العتيبي، مكتبة الطرفين، الطائف.

125. عمل اليوم والليلة، أحمد بن شعيب بن علي النسائي أبو عبد الرحمن، تحقيق: د. فاروق حمادة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1406، الثانية.

126. عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب، دار الكتب العلمية،

127.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (454)

128. بيروت، 1415، الثانية.

129. غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني، مؤسسة قرطبة.

130. الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة، أبي حفص عمر الغزنوي الحنفي، تحقيق: محمد زاهد بن الحسن الكوثري --- قدم له وعلق عليه، مكتبة الإمام أبي حنيفة، بيروت، 1988، الثانية.

131. غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر، أحمد بن محمد الحنفي الحموي، دار الكتب العلمية.

132. الفتاوى الكبرى، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، دار الكتب العلمية.

133. فتاوى السبكي، أبو الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، دار المعارف.

134. فتاوى الرملي، شهاب الدين أحمد بن حمزة الأنصاري الرملي الشافعي، المكتبة الإسلامية.

135. الفتاوى الفقهية الكبرى، شهاب الدين أحمد بن محمد بن حجر الهيثمي، المكتبة الإسلامية.

136. الفتاوى الهندية، جماعة من علماء الهند، دار الفكر.

137. فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي ، محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379.

138. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني، دار الفكر، بيروت.

139. الفردوس بمأثور الخطاب، أبي شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي الهمذاني، تحقيق: السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، 1986، الأولى.

140. فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك، أبو عبد الله محمد بن أحمد [الشيخ عليش]، دار المعرفة.

141. الفروع وتصحيح الفروع، محمد بن مفلح المقدسي أبو عبد الله، تحقيق: أبو الزهراء حازم القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418، الأولى.

142. الفروق، أسعد بن محمد بن الحسين النيسابوري الكرابيسي، تحقيق: د. محمد طموم، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، 1402، الأولى.

143. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، أحمد بن غنيم بن سالم النفراوي المالكي، دار الفكر، بيروت، 1415.

144. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، بيروت.

145.

146.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (455)

147. فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، 1356، الأولى.

148. قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أبي محمد عزالدين عبدالعزيز بن عبدالسلام السلمى، دار الكتب العلمية، بيروت.

149. القواعد النوارنية الفقهية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، 1399.

150. القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام، علي بن عباس البعلي الحنبلي، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 13751956.

151. القوانين الفقهية لابن جزي، محمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي.

152. القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد، محمد بن عبد العظيم المكي الرومي الموري الحنفي، تحقيق: جاسم مهلهل الياسين ، عدنان سالم الرومي، دار الدعوة، الكويت، 1988، الأولى.

153. الكافي في فقه أهل المدينة، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407، الأولى.

154. الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، عبد الله بن قدامة المقدسي أبو محمد، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، 14081988، الخامسة.

155. كتاب السنن، أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، الدار السلفية، الهند، 1982، الأولى.

156. الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق: كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد، الرياض، 1409، الأولى.

157. كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه، أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، تحقيق: عبد الرحمن محمد قاسم العاصمي النجدي الحنبلي، مكتبة ابن تيمية.

158. كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، تحقيق: هلال مصيلحي مصطفى هلال، دار الفكر، بيروت، 1402.

159. كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري، دار الكتاب

160.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (456)

161. الإسلامي.

162. كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي، تحقيق: أحمد القلاش، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405، الرابعة.

163. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى بن عبدالله القسطنطيني الرومي الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت، 14131992.

164. كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني، أبو الحسن المالكي، تحقيق: يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر، بيروت، 1412.

165. لسان الحكام في معرفة الأحكام، إبراهيم بن أبي اليمن محمد الحنفي، البابي الحلبي، القاهرة، 13931973، الثانية.

166. لسان الميزان، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 14061986، الثالثة، دائرة المعرف النظامية - الهند -

167. المبدع في شرح المقنع، إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي أبو إسحاق، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400.

168. المبسوط، محمد بن أبي سهل السرخسي أبو بكر، دار المعرفة، بيروت، 1406.

169. متن بداية المبتدي في فقه الإمام أبي حنيفة، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني، تحقيق: حامد إبراهيم كرسون ، محمد عبد الوهاب بحيري، مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة، 1355، الأولى.

170. مجلة الأحكام العدلية، جمعية المجلة، تحقيق: نجيب هواويني، كارخانه تجارت كتب.

171. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الريان للتراث ، دار الكتاب العربي، القاهرة ، بيروت، 1407.

172. المجموع شرح المهذب، محيى الدين بن شرف، تحقيق: محمود مطرحي، دار الفكر، بيروت، 14171996، الأولى.

173. المحصول في علم الأصول، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، تحقيق: طه جابر فياض العلواني، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1400، الأولى.

174. المحلى، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري أبو محمد، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق

175.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (457)

176. الجديدة، بيروت.

177. مختصر اختلاف العلماء، الجصاص /أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، تحقيق: د. عبد الله نذير أحمد، دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1417، الثانية.

178. مختصر الخرقي من مسائل الإمام أحمد بن حنبل، أبو القاسم عمر بن الحسين الخرقي، تحقيق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403، الثالثة.

179. المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد القادر بن بدران الدمشقي، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1401، الثانية.

180. المدونة الكبرى، مالك بن أنس، دار صادر، بيروت.

181. المدخل، أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري المالكي الفاسي [ابن الحاج]، دار التراث.

182. مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري أبو محمد، دار الكتب العلمية، بيروت.

183. المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 14111990، الأولى.

184. المستصفى في علم الأصول، محمد بن محمد الغزالي أبو حامد، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413، الأولى.

185. مسند أبي داود الطيالسي، سليمان بن داود أبو داود الفارسي البصري الطيالسي، دار المعرفة، بيروت.

186. مسند أبي عوانة، أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرائيني، تحقيق: أيمن بن عارف الدمشقي، دار المعرفة، بيروت، 1998، الأولى.

187. مسند أبي يعلى، أحمد بن علي بن المثنى أبو يعلى الموصلي التميمي، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، 14041984، الأولى.

188. مسند إسحاق بن راهويه (4 - 5)، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي، تحقيق: د. عبدالغفور عبدالحق حسين بر البلوشي، مكتبة الإيمان، المدينة المنورة، 1995، الأولى.

189. مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني، مؤسسة قرطبة، مصر.

190. مسند الروياني، محمد بن هارون الروياني أبو بكر، تحقيق: أيمن علي أبو يماني، مؤسسة قرطبة، القاهرة،

191.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (458)

192. 1416، الأولى.

193. مسند الشافعي، محمد بن إدريس أبو عبد الله الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت.

194. مسند الشاميين، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 14051984، الأولى.

195. مسند الشهاب، محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 14071986، الثانية.

196. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ، المكتبة العلمية.

197. المصنف، أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403، الثانية.

198. معالم القربة في معالم الحسبة، محمد بن احمد القرشي [ابن الإخوة]، دار الفنون، كمبردج.

199. المعتصر من المختصر من مشكل الآثار، يوسف بن موسى الحنفي أبو المحاسن، عالم الكتب ، مكتبة المتنبي، بيروت ، القاهرة.

200. المعجم الأوسط، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: طارق بن عوض الله بن محمد ، عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415.

201. المعجم الكبير، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، الموصل، 14041983، الثانية.

202. معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، علاء الدين أبو الحسن علي بن خليل الطرابلسي، دار الفكر.

203. المغرب في ترتيب المعرب، أبو الفتح ناصر بن عبد السيد بن علي المطرزي، دار الكتاب العربي.

204. مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، محمد الخطيب الشربيني، دار الفكر، بيروت.

205. المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي أبو محمد، دار الفكر، بيروت، 1405، الأولى.

206. مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، دار الكتب العلمية، بيروت.

207.

208.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (459)

209. مقتنيات الدرر، مير سيد علي الحائري الطهراني، دار الكتب الإسلامية، طهران.

210. من وحي القرآن، محمد حسين فضل الله، دار الزهراء للطباعة والنشر، بيروت، الثالثة.

211. منار السبيل في شرح الدليل، إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان، تحقيق: عصام القلعجي، مكتبة المعارف، الرياض، 1405، الثانية.

212. المنار المنيف في الصحيح والضعيف، محمد بن أبي بكر الحنبلي الدمشقي أبو عبد الله، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1403، الثانية.

213. المنتخب من كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب الزبيري أبو عبد الله، تحقيق: سكينة الشهابي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403، الأولى.

214. المنثور في القواعد، محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي أبو عبد الله، تحقيق: د. تيسير فائق أحمد محمود، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، 1405، الثانية.

215. المنخول في تعليقات الأصول، محمد بن محمد بن محمد الغزالي أبو حامد، تحقيق: د. محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، 1400، الثانية.

216. منهاج الطالبين وعمدة المفتين، يحيى بن شرف النووي أبو زكريا، دار المعرفة، بيروت.

217. منهج الطلاب، زكريا الأنصاري، دار المعرفة، بيروت.

218. المهذب في فقه الإمام الشافعي، إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي أبو إسحاق، دار الفكر، بيروت.

219. الموافقات في أصول الفقه، إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي، تحقيق: عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت.

220. مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، محمد بن عبد الرحمن المغربي أبو عبد الله، دار الفكر، بيروت، 1398، الثانية.

221. الموسوعة الفقهية، جماعة من العلماء، تصدرها وزارة الأوقاف الكويتية، وزارة الأوقاف الكويتية، الكويت.

222. موطأ الإمام مالك، مالك بن أنس أبو عبدالله الأصبحي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، مصر.

223. الميزان في تفسير القرآن، سيد محمد حسين الطباطبائي، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1397، الثالثة.

224.

225.

الحقوق المادية والمعنوية للزوجة (460)

226. نصب الراية لأحاديث الهداية، عبدالله بن يوسف أبو محمد الحنفي الزيلعي، تحقيق: محمد يوسف البنوري، دار الحديث، مصر، 1357.

227. نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، دار الجيل، بيروت، 1973.

228. الهداية شرح بداية المبتدي، علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغياني أبو الحسين، المكتبة الإسلامية، بيروت.

229. الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية، قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن قاسم النصاري، المكتبة العلمية.

230. الوسيط في المذهب، محمد بن محمد بن محمد الغزالي أبو حامد، تحقيق: أحمد محمود إبراهيم ، محمد محمد تامر، دار السلام، القاهرة، 1417، الأولى.

231. روضة الطالبين وعمدة المفتين، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، المكتب الإسلامي، بيروت: 1405.

232. القواعد، أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة، 1999 م.

233. المنتقى شرح الموطإ، أبو الوليد سليمان بن خلف التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي، مطبعة السعادة - بجوار محافظة مصر، الطبعة: الأولى، 1332 هـ.