×

الكتاب: ابتسامة الأنين

المؤلف: أ.د. نور الدين أبو لحية

الناشر: دار الأنوار للنشر والتوزيع

الطبعة: الثانية، 1437 هـ

عدد الصفحات: 326

صيغة: PDF

صيغة: DOCX

ISBN: 978-3-330-80370-1

لمطالعة الكتاب من تطبيق مؤلفاتي المجاني وهو أحسن وأيسر: هنا

التعريف بالكتاب

تحاول هذه الرسالة أن تعالج جراح الروح التي أحدثها ألم الجسد.. لتحول من أنين الجسد ابتسامة للروح ثقة بربها، وسلاما معه، ومع نظامه الذي أبدعه، ومقاديره التي قدرها.

وقد قاد الرحلة في هذه الرسالة (معلم السلام) الذي أخذ تلميذه المتألم المصارع إلى (مستشفى السلام) ليرى كيف يحول أهل السلام من الألم أملا، ومن الأنين ابتسامة، ومن الحزن صلة مع الله، ومن المصائب جسورا للوصول إلى فضل الله ورحمته التي وسعت كل شيء.

وهذه الرسالة تحاول كذلك أن تصحح المفاهيم حول الرؤية الشرعية للطب الروحاني، فهو طب معقول المعنى، لا ينكره علماء النفس، ولا غيرهم من العلماء، لأنه يعتمد على زرع الثقة في نفس المريض بربه، وتجعله يستهين بالآلام التي تنزل به لرؤيته ما هو أعظم منها وأفضل، وهي بذلك ترد على التشويهات الخطيرة التي أحدثها الدجالون والمشعوذون والخرافيون الذين يسمون أنفسهم رقاة، فشوهوا الدين في هذا المجال كما شوهوه في غيره من المجالات.

ابتسامة الأنين (7)

المقدمة

لا شك أن الكثير من المتألمين الذين تذوقوا بعض الجرعات الشديدة من الحزن والألم والمصائب يشعرون في قرارة أنفسهم ـ عبروا أو لم يعبروا ـ بأنواع من الصراع والاعتراض على مقادير الله.. فهم يتساءلون عن سرها.. وعن سر نزولها بهم دون غيرهم.. وعن علاقتها بالرحمة الإلهية التي هي منبع كل شيء ومنتهاه..

وكل تلك الاعتراضات المتصاعدة مع أناتهم تجعلهم لا يعيشون السلام مع أنفسهم، ولا مع الكون، ولا مع رب الكون، ولا مع النظام الذي أنشأ الله به كونه.. ولذلك كانت آثار ذلك الأنين أخطر بكثير من الأنين نفسه.. وكان أثر الألم أعظم تأثيرا على أرواحهم وعلاقتهم بربهم من الألم نفسه.

ولذلك حاولنا في هذه الرسالة أن نعالج جراح الروح التي أحدثها ألم الجسد.. لنحول من أنين الجسد ابتسامة للروح ثقة بربها، وسلاما معه، ومع نظامه الذي أبدعه، ومقاديره التي قدرها.

وقد قاد الرحلة في هذه الرسالة – كأكثر رسائل السلام – (معلم السلام) الذي أخذ تلميذه المتألم المصارع إلى (مستشفى السلام) ليرى كيف يحول أهل السلام من الألم أملا، ومن الأنين ابتسامة، ومن الحزن صلة مع الله، ومن المصائب جسورا للوصول إلى فضل الله ورحمته التي وسعت كل شيء.

وهذا المستشفى مكون من أربعة حصون.. كل حصن يعالج ألما من آلام الروح، ويزرع ابتسامة عذبة تفيض من قلب المتألم لتمسح آلامه، والصراع الذي أحدثته آلامه، وهي:

حصن الغيبة: وهو الحصن الذي يغيب فيه المتألم عن ألمه بسبب معرفته بربه وحبه له ورضاه عنه وسكونه إليه.. أو بسبب رؤية ما أعد الله لأهل البلاء من أنواع الجزاء.

حصن الأمل: وهو الحصن الذي يمتلئ فيه المتألم ثقة بقدرة ربه على أن يخرجه من

 

ابتسامة الأنين (8)

بلائه نتيجة قراءته العرفانية لأسمائه الحسنى.. وخاصة الأسماء الدالة على القدرة المطلقة، وعلى الفضل الواسع، والكرم العظيم.

حصن الاستعانة: وهو الحصن الذي يلجأ فيه المتألم إلى ربه بدعائه وعمله الصالح متضرعا منيبا ليبدله السعادة بدل الشقاوة، والعافية بدل البلاء.. فيكتسب بذلك صلة بربه، وعبودية تقربه إليه.

حصن الاستعاذة: وهو الحصن الذي يفر فيه المبتلى من كل ما ينغص علاقته بربه، ويحول بينه وبينه.. وقد رددنا في هذا الحصن بتفصيل على المشعوذين الذين استعملوا ما يسمى بالرقية وسيلة للخرافة والشعوذة وصرف الخلق عن الله.

وهذه الرسالة تحاول كذلك أن تصحح المفاهيم حول الرؤية الشرعية للطب الروحاني، فهو طب معقول المعنى، لا ينكره علماء النفس، ولا غيرهم من العلماء، لأنه يعتمد على زرع الثقة في نفس المريض بربه، وتجعله يستهين بالآلام التي تنزل به لرؤيته ما هو أعظم منها وأفضل، وهي بذلك ترد على التشويهات الخطيرة التي أحدثها الدجالون والمشعوذون والخرافيون الذين يسمون أنفسهم رقاة، فشوهوا الدين في هذا المجال كما شوهوه في غيره من المجالات.

وقد أتبعنا هذه الرسالة بثلاث رسائل أخرى من رسائل السلام تحاول جميعا أن تعطي صورة أوضح لهذا الجانب الخطير من الإنسان.. والذي يجعله لا يعيش السلام الذي بنى الله كونه عليه.

ابتسامة الأنين (9)

معلم السلام

جاءني معلم السلام في ذلك اليوم المبارك، وقد رآني أشكو من بعض الآلام، فقال: هلم بنا إلى مستشفى السلام، لتعالج أدواءك، وتبتسم لأنينك.

قلت: وهل للسلام مستشفى.. وبماذا يعالج؟

قال: لا مستشفى بلا سلام.. وكل مستشفى يخلو من السلام هو بيت للداء، لا بيت للدواء..

قلت: المستشفيات ـ يا معلم ـ خاضعة لقوانين معينة لا تعدوها، فهي تعالج العلل بما توصلت إليه الكيمياء الحديثة من تركيبات.

قال: هناك كيمياؤكم، وهي قد تداوي داء، وتعجز عن أدواء، وتنشر أدواء.. وهناك كيمياء السلام.. وهي دواء لكل علة، تنشر العافية المضمخة بعطر السكينة.

قلت: فأين مستشفى السلام؟ ومن أطباؤه؟ وكيف يعالج؟

قال: هذه رحلتنا في هذه الرسالة.

قلت: هل سنرحل من هنا؟ وفي أي طائرة؟ وليس لي جواز سفر.

قال: لا تحتاج إلى طائرة.. أما جواز سفرك فهو الإرادة، ألم تعلم أن الإرادة مفتاح لكل باب.. ونافذة لكل مغلق؟

قلت: عرفت الإرادة.. ولكني لم أر في حياتي شخصا يمتطي طائرة تسمى (الإرادة) ليرحل بها.

قال: من لم يرحل بطائرة الإرادة، فهو لم يفارق مكانه.

قلت: لا ـ يا معلم ـ هم يطيرون في الأجواء، فيقطعون البحار السبعة.

قال: ولكنهم لم يغادروا الأرض.

قلت: لا ـ يا معلم ـ لقد غادروها.. ورحلوا إلى القمر، ويوشك أن يرحلوا إلى المريخ..

ابتسامة الأنين (10)

قال: وما القمر؟.. وما المريخ؟.. كلها حجارة كحجارة جبالكم وقلوبكم.

قلت: فكيف نرحل؟

قال: قبل أن ترحل انظر إلى أعماقك التي تملتئ بهذا الأنين الذي ينشره الألم، وقل لي: ماذا ترى؟

قلت: أنزل إلى أعماقي!؟

قال: نعم.. لن ترحل إلا بعد أن تنزل.. ولن تنبت إلا بعد أن تدفن.. ولن تنتج إلا بعد أن تغرس.. ولن يقوم بنيانك إلا إذا حفرت أساسك.

قلت: فعن أي لؤلؤة أبحث في أعماقي؟

قال: لا تحتاج إلى اللآلئ، فهي حجارة كالحجارة، بل ابحث عن الظلام لتطفئه بالنور، وابحث عن الحراب التي توجهها إلى ربك لتكسرها باليقين.

نزلت إلى أعماقي، فرأيت أناتي حرابا متوجهة إلى السماء، تقول كل أنة بلسان فصيح: (لم يا رب تتفنن في إيلامي؟.. لم تملؤني بالحزن؟.. لم تملأ مشاعري بالأسى؟.. لم تغمرني بالإحباط؟)

صحت خائفا في وجهها: كفي يا أناتي.. أتدري من تخاطبين.. إنه الذي {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الانبياء:23)

كانت الأنات تردد توشيحاتها.. ولا تبالي بي، صحت: يا معلم.. أنقذني من هذه الأنات الكافرة.. فهي تريد أن تزج بي في هاوية جهنم.. إنها لا تستحي من الله.. إنها لا تخجل من ضعفها.

قال المعلم: أناتك هي أنت.. فأنت تختفي في ظل أناتك.

قلت: ولكني أقاومها.

قال: تقاومها بلسانك، وهو مجرد جارحة من جوارحك تتقن النفاق.. أما حقيقتك، فتصيح بما صاحت به أناتك..

قلت: فكيف أنقذ حقيقتي من هذا الانحدار الذي توقعني فيه أناتي؟

ابتسامة الأنين (11)

قال: هيا نرحل إلى مستشفى السلام لتنقذ روحك، وتنقذ معها حقيقتك، وعسى الله أن يهبك ما تقي به جسدك، فالله شكور حليم.

قلت: هيا نرحل..

قال: امتط إرادتك.. وسر معي.

امتطيت الإرادة التي بثها في الألم، فإذا بي، وفي أقل من طرفة عين أرى بنيانا عجيبا.. لست أدري هل نبت كما تنبت الأزهار، أم شيد كما تشيد القصور.. كان يشبه زهرة من الأزهار الجميلة.. لا تفوح منه إلا عطور الشفاء.

قلت للمعلم: أهذا مستشفى، أم فندق؟

قال: بل مستشفى.

قلت: ولكني لا أشم فيه رائحة المرض.

قال: هو مستشفى، فكيف تشم فيه روائح المرض؟

قلت: المستشفيات عندنا لها روائح مميزة.. تتقزز منها أنوف الأصحاء.

قال: تلك مستشفياتكم التي تتعامل معكم كما تتعامل مع الآلات.. لا مع الإنسان.

قلت: فما سر هذه العطور الزكية؟

قال: هي عطور الحقائق، فمستشفى السلام لا يعطيك وصفات لتشتري بها أدوية تعالج بها الخلل الذي أصاب جسدك، وإنما يعطيك الوصفات التي تعالج بها روحك التي تسببت في الخلل الذي حصل لجسدك.

قلت: أهي تعالج المنبع؟

قال: هي لا تتقن فنون الطلاء التي تتقنونها.

قلت: إذن سنرى في هذا المستشفى الحصون التي تحتمي بها الروح من ألم الداء.. فتسالم الله في بلائه..

ابتسامة الأنين (12)

قال: أجل.. وهي حصون أربعة..

قلت: فما هي؟

قال: حصن الغيبة، وحصن الأمل، وحصن الاستعانة، وحصن الاستعاذة.

قلت: فما الغيبة؟

قال: هي الغفلة عن الآلام بالحضور مع الله، أو بالرضى عن الله، أو بالسكون لمقادير الله، أو بالنظر في نعم الله.

قلت: فما الأمل؟

قال: انتظار الفرج من الله، والتعرف عليه ليمتلئ قلبك بالأمل الصادق.

قلت: فما الاستعانة؟

قال: هي الاستعانة بالله في رفع البلاء، أو في تلطيفه.

قلت: فما الاستعاذة؟

قال: الاستعاذة من شياطين الروح الذين ينفخون آلام اليأس والحزن.

قلت: فلم كانت هذه الأقسام أربعة؟

قال: هذه هي الأسس الأربع في التعامل مع البلاء، هي الأسس الصحيحة التي دلت عليها النصوص، وهي التي عاشها أهل الله في صحبتهم لما ينزل عليهم من أمطار البلاء، لكن سوء الفهم تطرق لبعض هذه القواعد، فانخرم عقد نظامها:

فخرج الغافلون من الثورة على البلاء إلى الثورة على المبتلي، فحاربوا الله وخاصموه.

وانشغل آخرون بالبلاء عن المبتلي، فحجبوا بحياة البلاء التي أصابت بعض جوارحهم عن العافية التي تنعم بها كل لطائفهم.

واختار آخرون أن يغفلوا بالمبتلي عن البلاء، لكن سوء الفهم طرق لهم أيضا، فاعتبروا الثورة على البلاء ثورة على المبتلي، ومنازعة الأقدار بالأقدار محاربة لأقدار الله، فحجب سوء

ابتسامة الأنين (13)

فهمهم عن مقاصد أهل الله، وأساء المعرفة بالله.

قلت: فما علامة الشفاء التي تسمح للمريض بالخروج من المستشفى؟

قال: الابتسامة.. ابتسامة الأنين.

قلت: ألا تجرون له أي تحاليل للتأكد من سلامته؟

قال: أما تحاليلكم.. فلا نجريها.. ولكن لنا تحاليلنا الخاصة.

قلت: من أطباؤكم؟

قال: لكل قسم أطباؤه، وسنمر عليهم، ونتعرف بهم، ونستفيد منهم.

قلت: فما أنواع الأمراض التي يستقبلها هذا المستشفى؟

قال: كل الأمراض أمراض.. وكل الأنات أنات.

قلت: لم تفهمني.. نحن لدينا مستشفيات تخصصية.

قال: أنتم تتعاملون مع الجسد المركب.. ونحن نتعامل مع الحقيقة الواحدة، فلذلك لم نحتج لما احتجتم إليه.

قلت: فما نسبة الشفاء في هذا المستشفى؟

قال: سمعتكم تعبرون عن الكمال بالمائة.

ضحكت، وقلت: تقصد مائة بالمائة.

قال: إن أردت الشفاء التام لكل من يدخل، فهو تعبير صحيح.

قلت: فكم من المال يدفع من يدخل المستشفى؟

قال: ما نصحك من طلب منك مالك، ألا تعلم أن العفاف شرط من شروط السلام؟

قلت: فمن أين يعيش أطباء هذا المستشفى؟

قال: من عيون الحكمة النابعة من بحار السلام.

قلت: اعذرني.. لقد نسيت.. تصورت نفسي أجري حوارا مع مستشفى من مستشفياتنا.

ابتسامة الأنين (14)

-------

رأيت أقواما مختلفين يدخولون هذا المستشفى، والكدورات تملأ نفوسهم، والظلمة تغمر وجوههم، قلت: من هؤلاء؟

قال: أنت.

قلت: كيف.. فأنا هو أنا.

قال: كلهم رأى في أعماقه ما رأيت في أعماقك، فجاء يبحث عن شفاء.

-------

رأيت آخرين يخرجون مبتسمين تشرق أسارير وجوههم بالنور، وتسري في أوصالهم العافية، قلت: من هؤلاء؟

قال: هؤلاء الذين أذن لهم بالخروج من المستشفى، بعد أن امتلأت أرواحهم بحقائق السلام.

قلت: أطال مكوثهم؟

قال: منهم من يمكث ثانية.. ومنهم من يظل عشر سنين.. ومنهم من يموت في المستشفى.

قلت: فلماذا تفاوتوا.. ألا يقدم لهم علاج واحد؟

قال: تفاوتوا بتفاوت الهمم.. فمنهم من أنس وسكن، ولم يرحل.. ومنهم من ارتفعت همته.. فراح يبحث عن دور السلام الأخرى ليصعد من خلالها إلى الله.

قلت: فما تنصحني حتى لا أقع فيما وقعوا فيه؟

قال: بالرحلة الدائمة والعبور المستمر.. ضع بين عينيك دائما: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (النجم:42)

ابتسامة الأنين (15)

أولا ـ حصن الغيبة

دخلنا الحصن الأول من حصون الروح.. كان النور يشع فيه من كل النواحي.. وهو نور هادئ مريح تكاد النفس تغيب في جماله.. وكان النور يكتب بإشعاعاته عبارات حاولت قراءتها بعيني، فلم أفلح، قلت لمعلم السلام: ماذا تكتب هذه الأنوار؟

قال: اسمعها ببصيرتك.. ولا تقرأها بعينك.

أصغيت بأذن بصيرتي، فسمعت صوتا حانيا يتوجه إلي قائلا: لا تحزن إن ألمت بك الأدواء، وطافت بجسمك السموم، وانتهض جيش الشيطان ليملأ قلبك هما وحزنا.

لا تحزن.. واجعل من أدواء جسمك أدوية لقلبك، وحول من تثاقل ذاتك الطينية سموا لذاتك الروحية.

قلت: يا معلم.. ما هذا الصوت؟

قال: هذا هو صوت أطباء البصيرة.. فهم يخاطبون أعماقك لا جوارحك.

قلت: أكل أطباء هذ المستشفى بهذه الصفة؟

قال: لا.. لكل قسم طبيعته الخاصة.. أما في هذا القسم، فلن تسمع إلا بالبصيرة.. ولن ترى إلا بالبصيرة.. أليس هو قسم (الغيبة)

قلت: إن هذا الصوت يكلفني ما لا يطيق بشر فعله، فكيف أترفع عن ذاتي الطينية، وأنا حبيسها، وكيف أجعل من الأدواء دواء.. علمني، فإني لا أكاد أفهم شيئا؟

قال: سر معي، ولا تسأل.

نهضت لأسير، فقال: إلى أين؟

قلت: ألم تطلب مني أن نسير؟

قال: ألا سير إلا بالأرجل؟

ابتسامة الأنين (16)

قلت: هذا ما نعرفه.

قال: ما وصل من سار برجله، ولا تحقق من أتعب قدميه؟

قلت: فبم أسير؟

قال: بك.

قلت: وهل رجلاي إلا أنا؟

قال: رجلاك منك لا أنت.

قلت: فها أنذا بين يديك سر بي حيث شئت.

قال: لا يمكن لأحد أن يسير بأحد، كل واحد يسير بنفسه.

قلت: إلى أين؟

قال: إلى رياض الأولياء.

قلت: لماذا؟

قال: ليجيبوا عن سؤالك.

قلت: أي سؤال، فقد نسيت؟

قال: أنت تبحث عن الترفع عن البلاء، والترفع سيما الصالحين، ولذلك سنبحث في سيرهم لنرى ترفعهم وابتسامتهم لأنينهم.

قلت: أنا أسمعك، فارو لي أخبارهم مع الأنين.

قال: تسمعها بصيرتك من أفواه أولياء هذا القسم، فأصخ سمعها.

أصخت سمع بصيرتي، فسمعت صوتا جميلا يخاطبني قائلا: كن ـ أيها المتألم الغارق في أوحال الأنين ـ كتلك المرأة التي عثرت، وانقطع ظفرها، فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.

قال معلم السلام: هذه ابتسامة الثواب.. وهي سلوى الفقراء إلى فضل الله.

ابتسامة الأنين (17)

سمعت صوتا آخر يقول: كن كذلك الذي قطعت رجله من ركبته من أكلة خرجت بها، ثم قال: الحمد لله الذي أخذ مني واحدة، ولئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت.

قلت: ما أجمل هذا! صوت من هذا؟

قال: هذا صوت التسليم والرضى الممزوج بالشكر.

صاح صوت آخر: كن كذلك الذي استسقى بطنه، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد حتى نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته، فدخل عليه أخوه، فجعل يبكي لما يراه من حاله، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة قال: لا تبك فإنّ أحبه إلى الله تعالى أحبه إليَّ، ثم قال له لما رأى جزعه: أحدّثك شيئاً لعل الله أن ينفعك به، واكتم عليَّ حتى أموت، إنّ الملائكة تزورني فآنس بها وتسلم علي فأسمع تسليمها فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة.

قلت: الله! ما أعظم رحمة الله بأوليائه!

قال: هذا صوت السلوى بأهل الله.

صاح صوت آخر: كن كذلك الذي قالت له امرأته: أهلي فداؤك ما نطعمك. ما نسقيك؟ فقال: طالت الضجعة، ودبرت الحراقيف، وأصبحت نضواً لا أطعم طعاماً ولا أسيغ شراباً منذ كذا، وما يسرني أني نقصت من هذا قلامة ظفر.

قلت: هذا التسليم بعينه.. هذا الرضى المحفوف بالسعادة.

صاح صوت آخر: كن كذلك الذي نظر رجل إلى قرحة في رجله، فقال: إني لأرحمك من هذه القرحة، فقال: إني لأشكرها منذ خرجت إذ لم تخرج في عيني.

قلت: هذا الشكر..

قال: وهو سر من أسرار الابتسامة.

ابتسامة الأنين (18)

صاح صوت آخر: كن كذلك الذي جمع أصناف البلاء، فقد كان أعمى مجذوما والنمل يأكل لحمه، فرآه بعض الناس، فحزن عليه، فقال: من هذا الفضولي الذي يدخل بيني وبين ربي، لو قطعني إرباً إرباً ما ازددت له إلا حباً؟

قلت: هذا الحب..

قال: وهو منبع من منابع السكينة، ومخدر من مخدرات الألم.

صاح صوت آخر: كن كالذي عبد الله بابتسامة الأنين، فجعله الله أعبد أهل زمانه، يروى أنّ يونس عليه السلام قال لجبريل: دلني على أعبد أهل الأرض. فدله على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه وذهب ببصره، فسمعه وهو يقول: إلهي متعتني بهما ما شئت أنت، وسلبتني ما شئت أنت، وأبقيت لي فيك الأمل يا بر يا وصول.

قلت: هذا صوت الأمل.

قال: وهو صوت العارفين بالله المحسنين الظن به.. وهو صوت السعادة الطامحة إلى المعالي.

صاح صوت آخر، كأنه يجمع الأصوات جميعا: كن مثلهم، فابتسموا في الوقت الذي أن فيه غيرهم، وفرحوا في الوقت الذي حزن فيه غيرهم، وحمدوا الله في الوقت الذي ضجر فيه غيرهم، فنالوا الرضى، وفازوا بالجنتين جميعا، جنة الدنيا وجنة الآخرة.

قلت لمعلم السلام: فما كان حاديهم في ذلك.. من فتر ثغورهم بالابتسامة العذبة، وخدر آلامهم من غير ترياق؟

قال: بلسمان شافيان: أما الأول فقد غابوا بالله عما سواه، حبا له، ورضى به، وسكونا لمقاديره.. وأما الثاني، فنعم الله التي ينطوي عليها البلاء، فالمبتلى عامل عند الله، وللعامل حظ من اسم الله (الشكور) يناله لا محالة، فيغيب بنواله عن كل ألم.

قلت: فأين نجد هذين البلسمين؟

ابتسامة الأنين (19)

قال: لكل منهما قاعة علاجه الخاصة.. فهلم إليهما.

الغيبة بالله

دخلت القاعة الأولى، وهي أنوار محضة لا يمكن وصفها، وإذا لافتة مكتوب عليها قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف:31)

وسمعت صوتا حانيا قويا يقول ـ وكأنه يخاطب جميع مرضى العالم ـ: (أول ما يكسر سورة الأنين الذي قد يتخذه الشيطان رماحا تحارب بها ربك هو أن تغيب عن الأنين برب الأنين.. فتتخذ من هذا الذي أراد الشيطان أن يجعله نصبا ليستل عقلك وقلبك وروحك، ويضمك إلى حزبه، معراجا تعرجا به إلى ربك، وسلما ترتقي به إلى سموات لم تحلم بها في حال طمأنينة جسدك ورخائه)

قلت لمعلم السلام: ما هذه القاعة؟

قال: هذه قاعة الغيبة بالله، وهي القاعة التي يموت فيها الألم انشغالا بالله.

قلت: فما تلك الآية، وما علاقتها بهذه القاعة؟

قال: ما تقول الآية؟

قلت: هؤلاء نسوة تهن في جمال يوسف، فقطعن أيديهن لفرط ذهولهن، ومع ذلك لم يشعرن بما حصل في أيديهن من الألم (1).

__________

(1) أثبت العلم الحديث هذا، ففي دراسة موثقة تحت عنوان (إشارة قرآنية إلى ظاهرة شد الانتباه في تقليل الشعور بالألم) انطلقت من الآية التي ذكرناها، جاء فيها أنه تم إجراء تجربة استخدام العلاج بشد الانتباه برؤية مناظر خلابة من الطبيعة وسماع شريط يحتوي على أصوات رائعة من الطبيعة في التخفيف من الآلام أثناء عملية منظار الشعب الهوائية وذلك بالإضافة للعلاج المعتاد. وقورنت هذه المجموعة من المرضى بمجموعة أخرى ضابطة لم تتلق العلاج الإضافي بجذب الانتباه (تغيير التركيز الإدراكي).

وخلص هذا البحث إلى أن العلاج بشد الانتباه مع العلاج التقليدي أدى إلى تقليص الشعور بالألم بصورة ذات دلالة إحصائية، وأوصى البحث بأن يقوم الأطباء باستخدام الإجراءات الطبيعية بالإضافة إلى المسكنات المعتادة.

ابتسامة الأنين (20)

قال: فكيف لو رأين جمال رب يوسف، وكيف لو غرقن في بحار حبه المقدسة؟

ثم التفت إلي، وقال: أتدري ما قيمة غيبتك عن الأنين؟

قلت: أجل لقد قال بديع الزمان: (كلما استعظمت المصائب المادية عظُمت، وكلما استصغرتَها صغرت) (1)، وأعظم احتقار واستصغار هو عدم الالتفات إليها، أو الاهتمام بها، كما لا يهتم بكل صغير حقير.

ويضرب الإمام بديع الزمان مثلا على ذلك بقوله: (كلما اهتم الانسان بما يتراءى له من وهم ليلاً يضخم ذلك في نظره، بينما إذا أهمله يتلاشى، وكلما تعرض الانسان لوكر الزنابير ازداد هجومها، وإذا أهملها تفرقت) (2)

قال: صدقت، وقد سمعته، وهو يصرح بالدعوة إلى ما دعا إليه الأولياء من إحلال الابتسامة محل الأنين، فيقول: (نعم..! إن الإنسان مثلما يخفف حدَّة خصمه باستقباله بالبشر والابتسامة، فتتضاءل سَورة العداوة وتنطفئ نار الخصومة، بل قد تنقلب صداقةً ومصالحة، كذلك الأمر في استقبال البلاء بالتوكل على القدير يذهبُ أثره) (3)

قلت: هل سمعته بأذنك؟

قال: دعك من هذا.. وقل لي: ما تشعر؟

قلت: لا أكتمك ـ يا معلم ـ أني لا تزال في روائح الاعتراض المنتنة.

قال: فما تقول لك؟

قلت: تقول لي: (مرضي خطير، ودائي مستعص، والآلام تفتك بي.. فأنى لي أن أنشغل،

__________

(1) اللمعة الثانية: 17.

(2) اللمعة الثانية: 17.

(3) اللمعة الثانية - ص: 17.

ابتسامة الأنين (21)

وكل خلية مني تتألم.. وهل ينشغل عن النار من اشتمل عليه لهيبها، فلم يدع له متنفسا؟)

قال: فاسمع لما يصيح به الربانيون العازفون على أوتار الحقيقة مخبرين عن الترياق الفعال لهذا الألم المكنون.

سمعت صوتا يقول: لقد أخبر بعض الصالحين عن القدرة العجيبة التي يتحملها المنشغل بالله، لما سئل: هل يجد المحب ألم البلاء؟ قال: لا، قال: وإن ضرب بالسيف قال: (نعم وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة، ضربة على ضربة)

قال لي المعلم: أتدري ما سبب بطلان إحساس المحبين بالآلام؟

قلت: لقد مثل الغزالي ذلك بالرجل المحارب، فإنه في حال غضبه أو في حال خوفه قد تصيبه الجراح، وهو لا يحس بألم ذلك لشغل قلبه.. ثم بين علة هذه الحالة وقانونها الذي لا يختص بالمحبين لله، فقال: (وكل ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور مستوفى به لم يدرك ما عداه، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة معشوقه أو بحبه قد يصيبه ما كان يتألم به أو يغتمّ له لولا عشقه، ثم لا يدرك غمه وألمه لفرط استيلاء الحب على قلبه. هذا إذا أصابه من غير حبيبه فكيف إذا أصابه من حبيبه؟) (1)

وقد ذكر الغزالي الأمثلة الواقعية الكثيرة على هذا، فذكر أن هناك من يغفل عن الخلق حتى لا يبصر من يحضر عنده وهو فاتح عينيه، ولا يسمع ما يقال له مع أنه لا صمم به وقد يمرّ على ابنه مثلاً فلا يكلمه.

وذكر عن بعضهم يجري عليه ذلك أنه قال لمن عاتبه: إذا مررت بي فحركني.

وذكر عن بعضهم أنه قيل له: هل تعرف في زمانك هذا رجلاً قد اشتغل بحاله عن الخلق؟ فقال: ما أعرف إلا غلاما سيدخل عليكم الساعة، فما كان إلا سريعاً حتى دخل الغلام، فقال له: من أين جئت يا غلام؟ فقال من موضع كذا ـ وكان طريقه على السوق ـ فقال: من لقيت في

__________

(1) الإحياء: 4/ 347.

ابتسامة الأنين (22)

الطريق؟ فقال: ما رأيت أحداً.

وحكى عن بعضهم أنه قال: مررت بجماعة يترامون وواحد جالس بعيداً منهم، فتقدّمت إليه فأردت أن أكلمه فقال: ذكر الله تعالى أشهى فقلت: أنت وحدك؟ فقال: معي ربي وملكاي فقلت: من سبق من هؤلاء؟ فقال: من غفر الله له، فقلت: أين الطريق؟ فأشار نحو السماء وقام ومشى وقال: أكثر خلقك شاغل عنك.

ودخل بعض الصالحين على أخيه وهو معتكف فوجده ساكناً حسن الاجتماع لا يتحرّك من ظاهره شيء فقال له: من أين أخذت هذه المراقبة والسكون؟ فقال: من سنور كانت لنا، فكانت إذا أرادت الصيد رابطت رأس الحجر لا تتحرّك لها شعرة.

قال المعلم: فإذا كان الحب والعشق من أعظم الشواغل، وكان ذلك في ألم يسير بسبب حب خفيف، فكيف يكون الأمر لو تصوّر في الألم العظيم بالحب العظيم؟

قلت: لقد بين بعض الصالحين كيف يتمكن المحب من قهر كل ألوان البلاء، فقال يحكي عن نفسه: مررت برجل وقد ضرب ألف سوط في شرقية بغداد ولم يتكلم ثم حمل إلى الحبس، فتبعته فقلت له: لم ضربت؟ فقال: لأني عاشق، فقلت له: ولم سكت؟ قال: (لأنّ معشوقي كان بحذائي ينظر إليَّ، فقلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر قال: فزعق زعقة خرّ ميتاً.

قال: أتدري كيف يرى الربانيون المنشغل بذاته عن ربه، أو الذين يعبدون الله على حرف، فلم يعبروا من عبادته إلى معرفته، ولم يخرجوا من أنفسهم إليه.

قلت: كيف يرونه؟

قال: يرونهم قاصرين محاطين بأنواع الشوائب، وقد قيل لبعضهم: هاهنا رجل قد تعبد خمسين سنة، فقصده فقال له: يا حبيب أخبرني عنك هل قنعت به؟ قال: لا، قال: أنست به؟ قال: لا، قال: فهل رضيت عنه؟ قال: لا، قال: فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة؟ قال: نعم، قال: لولا أني أستحي منك لأخبرتك بأن معاملتك خمسين سنة مدخولة.

ابتسامة الأنين (23)

قلت: ما مراده؟

قال: مراده أنك لم يفتح لك باب القلب فتترقى إلى درجات القرب بأعمال القلب، وإنما أنت في طبقات أصحاب اليمين، لأن مزيدك منه في أعمال الجوارح (1).

قلت: هذا كلام الغزالي في الإحياء.

قال: وهو كلام كل عارف، وكل سامع ببصيرته.

التفت لأسأله عن سر ذلك، فلم أره.. تأملت ما قاله، فإذا بي أجد هذا العلاج لا يختص بهذا الجانب فقط، بل إن له علاقة شديدة بكل ما يرتبط بالسلوك من جوانب.

فالمنشغل عن نفسه ـ مثلا ـ بنطر الناس، أو أعرافهم، أو رؤاهم مستعبد للناس، مملوك للمجتمع، ينصرف عن الحق علما وفهما وسلوكا وحياة بقدر انصراف المجتمع.

ولهذا اعتبر الغزالي من (شغل نفسه بطلب رضا الناس عنه وتحسين اعتقادهم فيه) مغرورا، لأنه (لو عرف الله حق المعرفة علم أن الخلق لا يغنون عنه من الله شيئاً؛ وأن ضرره ونفعه بيد الله ولا نافع ولا ضار سواه، وأن من طلب رضا الناس ومحبتهم بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، بل رضا الناس غاية لا تنال، فرضا الله أولى بالطلب) (2)

قال لي معلمي صائحا من أعماقي: ولهذا كان من سنن الصالحين الانشغال بالله عن الناس، كانشغالهم به عن النفس، قال بعضهم لأخيه ناصحا: والله ما أقول لك إلا نصحاً إنه ليس إلى السلامة من الناس من سبيل، فانظر ماذا يصلحك فافعله؟

ونظر آخر إلى رجل من أصحابه فقال له: اعمل كذا وكذا ـ لشيء أمره به ـ فقال: يا أستاذ لا أقدر عليه لأجل الناس، فالتفت إلى أصحابه وقال: لا ينال عبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين؛ عبد تسقط الناس من عينه فلا يرى في الدنيا إلا خالقه، وأن أحداً لا يقدر

__________

(1) الإحياء: 4/ 350.

(2) الإحياء: 4/ 350.

ابتسامة الأنين (24)

على أن يضره ولا ينفعه. وعبد سقطت نفسه عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه.

وقيل لآخر: إن قوماً يحضرون مجلسك ليس بغيتهم إلا تتبع سقطات كلامك وتعنيتك بالسؤال؛ فتبسم وقال للقائل: (هوّن على نفسك، فإني حدثت نفسي بسكنى الجنان ومجاورة الرحمن فطمعت، وما حدثت نفسي بالسلامة من الناس لأني قد علمت أن خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم لم يسلم منهم)

وكيف لا يكون هذا منطق المؤمنين إرضاء لله وقناعة به وانشغالا بطلب رضاه ومدحه عن كل رضا، وغيرهم من الرعاع يقول:

مَنْ رَاقبَ النَّاس ماتَ غمَّا... وفاز باللذة الجسورُ

-------

قلت له، وقد خشيت أن يساء فهم كلام الأولياء: لكن ـ يا معلم ـ قد يتصور قومي أن مراد الأولياء بالانشغال عن البلاء عدم مواجهته والثورة عليه.

قال: لا.. أخطأوا في زعمهم، فإن مرادهم عدم الاستغراق في البلاء، والغفلة عن المصالح الكثيرة التي قد يفوتها ذلك الانشغال، وأهمها ترك الرسالة التي كلف بها الإنسان لأجل ما حصل لمطيته من عطب.

قلت: فهل تضرب لي عن ذلك مثالا أشرح لهم به مقاصد الأولياء؟

قال: مثل ذلك مثل من كلف بمهمة خطيرة يتوقف عليها مصير حياته جميعا، فحصل لسيارته في الطريق ما منعها من السير السليم، فماذا يفعل؟

قلت: هو بين أمرين لا ثالث لهما:

إما أن يتوقف مشتغلا بإصلاحها، منشغلا عن المهمة الخطيرة التي كلف بها، ولو أدى ذلك إلى فناء عمره في إصلاحها.

وإما أن ينظر إلى مدى استعدادها للإصلاح، فإن أطاق إصلاحها أصلحها، لأنها

ابتسامة الأنين (25)

ستختصر له الكثير من مشاق الطريق، فإن أبت الإصلاح تركها، واعتمد على وسائل أخرى يصل بها إلى تحقيق مهمته.

قال: وهكذا حال المنشغل عن بلائه والمنشغل به، فالمنشغل به ضيع مصلحتين: سيارته التي قد لا يفيده إصلاحها، ومهمته التي لا تساوي معها سيارته شيئا.

أما المنشغل عنها، فإنه وإن ضيع سيارته، فقد حفظ مهمته، بل قد يرزق بالسعي ما يعوضه عما فاته.

قلت: ولعل هناك ثمارا أخرى جليلة لما ذكروه، فالأطباء ـ اليوم، كما كانوا قبل اليوم ـ ينصحون بالانشغال عن الداء، ويعتبرونه أسلوبا حكيما من أساليب الشفاء.

فخطر أكثر الأمراض هو ما تسببه لصاحبها من أنواع الإزعاج، وهو ما يؤثر بعد ذلك على الصحة، فإذا ما انشغل المريض عن مرضه بأي شاغل كان ذلك علاجه أو مقدمة لعلاجه.

قال: لقد ذكرتني ببعض الصالحين كان له أخ، وكان يقربه ويقبل عليه، فاعتل، فعاده، فقال:

مَرِضَ الحبيبُ فَعُدتُهُ فمَرَضْتُ مِنْ حَذري عليهِ

وأتى الحبيبُ يعودني... فبَرئْتُ مِنْ نَظَري إليهِ

فالنظر إلى الحبيب والانشغال به كاف في إعادة القوة الحافظة للصحة، وفيه انشغال عن الأوهام التي يسببها فراغ القلب.

قلت: الإحصائيات المعاصرة تثبت أن الكثير ممن يتردد على العيادات مصابون بوسواس المرض، الذي هيجه فيهم فراغ قلوبهم، وانشغالهم بعالم الطين.

قال: ولهذا، فإن كثيرا من نزلاء هذا المستشفى يكتفون بهذه القاعة، فيرجعون إلى أهليهم بوافر الصحة من غير أن ينزلوا على الأقسام الأخرى.

قلت: لقد قال بعض الصالحين يعبر عن هذا المعنى:

ابتسامة الأنين (26)

لقد هاجَ الفراغُ عليكَ شغلاً... وأسبابُ البلاءِ من الفراغِ

وقال آخر، وهو يبين قدرة الروح على ترميم أدواء الجسد:

دَوَاؤكَ فيكَ وما تَشْعُرُ... ودواؤكَ منكَ وما تبصرُ

وتحسبُ أنكَ جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

قال: إن الانشغال بالله، وإحلال الابتسامة بدل الأنين هو العلاج الذي لن تجد البشرية في مستقبل أيامها، بعد أن تتخلص من زهوها، وتتخلى عن عبودية ما سمته إله العلم، إلا ذلك العلاج (1).

قلت: صحيح ما قلت، فهذه الأدوية التي سنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلها ترجع إلى تغليب الانشغال بالله عن الاستماع لوساوس الشياطين، فالانشغال بالله يجعل في الإنسان قوة جبارة تقهر كل الأمراض.

قال: لو تأملنا الأدعية التي كان يدعو بها صلى الله عليه وآله وسلم لوجدنا فيها الكثير من هذه المعاني.. بل لو تأملنا القرآن الكريم لوجدناه علاجا ربانيا لكل الأدواء، لاشتماله من المعارف الإلهية ما ينفي جميع أنواع العلل، قال تعالى: {ونُنَزلُ منَ القُرآن مَا هُوَ شفَاءٌ وَرَحمَةٌ للمُؤمنينَ} و(من) هنا لبيان الجنس لا للتبعيض، فالقرآن الكريم كله شفاء لمن استطب به.

قلت: نعم إن قومي يستشفون بالقرآن، والرقاة ـ بحمد الله ـ ينتشرون في كل مكان، لا

__________

(1) العلم اليوم يقر بهذا بدرجة ما، ومن أمثلة ذلك الإقرار أن دراسة تجريبية كشفت في مراحلها الأولى أن مرضى القلب الذين يملكون إيمانا دينياً قوياً، لديهم قدرة أكبر على التماثل للشفاء وإكمال الفترة التأهيلية التي تعقب الإصابة.

و يحاول الباحثون في مركز غيسرنغ الطبي وجامعة باكنيل توسيع الدراسة لتحديد علاقة الإيمان الديني ومدى تأثيرها الإيجابي على المدى البعيد على صحة القلب والأوعية الدموية.

و يأمل تيموتي ماكونيل رئيس وحدة إعادة تأهيل مرضى القلب في مركز غيسرنغر، وهو مستشفى مركز ضخم لأمراض القلب يضم 437 مريضاً في تأمين موافقة مائة من مرضى القلب لإجراء دراسة موسعة في إطار زمني مدته خمسة أعوام. وفي الدراسة التجريبية استعان ماكونيل ب 21 مريضا بينهم من أصيب مؤخراً بأول نوبة قلبية أو أجريت لهم عملية لتوسيع الشرايين.

ابتسامة الأنين (27)

يسمعون بعليل إلا زاروه، ولا بمسكون بمسكون إلا أحرقوا من يسكنه؟

قال: لا.. ليس العلاج القرآني ما يتوهمه هؤلاء المشعوذون، وإنما هو ماتفرزه معاني القرآن الكريم في قلب متلقيها من إخلاص العبودية لله، وتفويض الأمر كُله إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وسؤاله مجامع النعم كلها.

قلت: ولكن من الذي ينشغل عن النار، وهي تتقد في جسده؟.. ومن الذي لا تحركه الأعاصير، وهي تكاد تجتث من حوله؟.. وكيف لا يلسع بالزنابير من يعيش في قرية الزنابير؟

قال: إن النصوص المقدسة تدلنا على حصون كثيرة يمكن اللجوء إليها لتخفيف حدة البلاء، بل لرفعه، وهي في جمالها وقوتها ومتانتها أعظم من كل لباس يقي من حر النار أو من لسع الزنابير أو من اجتثاث العواصف.

قلت له: فداوني بها.

قال: سأذكر ثلاثة أدوية تجعل القلب منشغلا بالله مجتمعا به جالسا معه، ومن جلس مع الله فني عن غيره.

وهي ثلاث مراتب، كل ينال منها بحسب درجته من الدين، ومحله من القرب، وقد تتعاقب عليه اللحظات، فينال حظه منها جميعا: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ((الاسراء:20)

قلت: فما الأولى؟

قال: محبة الله، وهي أعلى المراتب، من ينالها يغيب عن بلائه، كما يغيب عن نفسه، وعن الكون جميعا.

قلت: والثانية؟

قال: الرضى عن الله، فرحا بما قدر، وسرورا بما أنزل، وهي نتيجة للمعرفة، وثمرة للمحبة.

ابتسامة الأنين (28)

قلت: والثالثة؟

قال: السكون لمقادير الله، وعدم الاعتراض عليه.

قلت: فهل لهذه الأدوية قاعات خاصة بها.

قال: أجل.. فلكل منزلته لا يعدوها، ألم تسمع قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} (الصافات:164)، فكل ما في هذه العوالم لا يجاوز مقامه ولا يحيد عنه، فلذلك لا ترى إلا السلام.

حب الله

دخلت قاعة تكاد تميد بالأشواق.. وقد علقت عليها لافتة كتب عليها بحروف من نور قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة:54)، فأحسست بقلبي يمتلئ بشوق عظيم ومحبة متدفقة، وكأن أعضائي جميعا قلوبا تخفق.. سمعت صوتا في أرجاء القاعة يقول: (هنا إكسير الهموم، من ذاقه لم تحل بواديه المصائب، ولم تنزل بساحته الأحزان)

قلت للمعلم: ما هذا الإكسير؟ وما هذه القاعة؟

قال: هذا إكسير الانشغال بحب الله والشوق إليه، وهو إكسير يغيبك عن البرودة والحرارة، ويفنيك عن الصحة والسقم.. وهذا إكسير الأولياء، فلذلك استغنوا عن الراقي والطبيب.

سمعت أصواتا تتزاحم على بصيرتي، فقلت للمعلم: ما هذه الأصوات؟

قال: أصخ سمعك، فهي أصوات أطباء هذا الباب.

قال الأول: أوحى الله إلى داود عليه السلام: (ما لأوليائي والهم بالدنيا، إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، يا داود إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون)

وقال الثاني يترنم بلحن جميل:

وإنْ خَطَرَتْ يَوماً على خاطِرِ امرئ... أقامَتْ بهِ الأفْراحُ، وارتحلَ الهَمُ... امرِئ ٍ

ولو نَظَرَ النُّدمانُ ختْمَ إنائِها،... لأسكرهمْ منْ دونها ذلكَ الختمُ

ولو نَضَحوا مِنها ثَرى قَبْرِ مَيتٍ،... لعادَتْ إليهِ الرُّوحُ، وانْتَعَشَ الجسْمُر

ولو طرحوا في فئِ حائطِ كرمها... عليلاً وقدْ أشفى لفارقهُ السُّقمُ

ولوْ قرَّبوا منْ حلها مقعداً مشى... وتنطقُ منْ ذكري مذاقتها البكمُ

ولوْ عبقتْ في الشَّرقِ أنفاسُ طيبها... وفي الغربِ مزكومٌ لعادَ لهُ الشَّمُّ

ولوْ خضبتْ منْ كأسها كفُّ لامسٍ... لما ضلَّ في ليلٍ وفي يدهِ النَّجمُ

ولوْ جليتْ سرَّاً على أكمهٍ غداً... بصيراً ومنْ راو وقها تسمعُ الصُّمُّ

ولو أنّ ركْباً يَمّمَوا تُرْبَ أرْضِها،... وفي الرَّكبِ ملسوعٌ لماضرَّهُ السمُّ

ولوْ رسمَ الرَّقي حروفَ اسمها على... جبينِ مصابٍ جنَّ أبرأهُ الرَّسمُ

وفوقَ لِواء الجيشِ لو رُقِمَ اسمُها،... لأسكرَ منْ تحتَ الِّلوا ذلكَ الرَّقمُ

تُهَذّبُ أخلاقَ النّدامى، فيَهْتَدي،... بها لطريقِ العزمِ منْ لالهُ عزمُ

ويَكْرُمُ مَنْ لم يَعرِفِ الجودَ كَفُّهُ،... ويَحلُمُ، عِندَ الغيظِ، مَن لا لَهُ حِلْمُ

ولو نالَ فَدْمُ القَوْمِ لَثْمَ فِدامِها،... لَأكسَبَهُ مَعنى شَمائِلِها اللّثْمُ

قلت: عرفتك.. أنت..

قال: دعك من اسمي، واسمع الحقائق من الله، لا من خلقه.

قال الثالث: إن الحب يحول المر حلواً، والتراب تبراً، والكدر صفاءً، والألم شفاءً، والسجن روضة، والسقم نعمة، والقهر رحمة، وهو الذي يلين الحديد، ويذيب الحجر، ويبعث الميت، وينفخ فيه الحياة..

إن هذا الحب هو الجناح الذي يطير به الإنسان المادي الثقيل في الأجواء، ويصل من السمك إلى السماك، ومن الثرى إلى الثريا.

ابتسامة الأنين (29)

بارك الله لعبيد المادة وعباد الجسم في ملكهم وأموالهم!! لا ننازعهم في شيء. أما نحن فأسارى دولة الحب التي لا تزول ولا تحول..!

حياك الله أيها الحب المضني! يا طبيب علتي وسقمي! يا دواء تخوفي وكبري! يا طبيبي النطاسي! يا مداوي الآسي!

قلت: عرفتك.. أنت جلال الدين الرومي.

قال: دع عنك هذا.. فلم أعد جلال الدين، ولا جمال الدين؟

قلت: فما صرت؟

قال: أنا عبد الله.. أنا النقطة التي تحت الباء.. وحسبي بذلك شرفا.

قلت للمعلم: حدثني كيف عاش الأولياء هذه المعاني.

قال: لقد كان بلال وهو في رمضاء مكة يشعر بهذا الشعور، حين كان المشركون يتفانون معه بأصناف البلاء، فيفنى عنه بـ (أحد أحد)

وكان لبعضهم علة، فقيل له في ذلك فقال: يا دوست ضرب الحبيب لا يوجع.

وكان بعضهم يستشعر هذه المعاني، وهو ينظر إلى تصريف الله في جسده، قال: كنت يوما عند خال لي، وكنا خاليين وهو متزر بمئزر فنظرت إلى جسده كأنه جسد سقيم دنف مضنى كأجهد ما يكون فقال: (انظر إلى جسدي هذا، لو شئت أن أقول إن ما بي من المحبة لله تعالى لكان كما أقول)، وكان وجهه أصفر، ثم أشرب حمرة حتى تورد، ثم اعتل فدخلت عليه أعوده، فقلت له كيف تجدك، فقال:

كيف أشكوا إلى طبيبي ما بي... والذي بي أصابني من طبيبي

فأخذت المروحة أروحه فقال لي: (كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل؟)

وكان عابد المصيصة يستشعر هذه المعاني حين رأى نفسه ملكا يلتذ بها، قال علي بن الحسن: كان رجل بالمصيصة ذاهب نصفه الأسفل لم يبق منه إلا روحه في بعض جسده، ضرير

ابتسامة الأنين (30)

على سرير مثقوب فدخل عليه داخل فقال له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: (ملك الدنيا، منقطع إلى الله عز وجل، ما لي إليه من حاجة إلا أن يتوفاني على الإسلام)

قال لي المعلم: أتعلم سر استغراق هذه المشاعر للوجدان جميعا؟

قلت: ما سر ذلك؟

قال: الحب هو أعظم المشاعر الوجدانية التي تستغرق الكيان، فتمنعه من التفكير في غيره، بل لا شيء يساوي الحب في هذا الدور، فلذلك كان أعظم شاغل عن البلاء هو استعماله دواء لقهر وساوس الداء.

قلت: لكن قومي يعرفون الحب أكثر مما يعرفون غيره.

قال: هم يعرفون الحب المدنس.. لا المقدس.. فلذلك يغرقون في دنسه، وفي مستنقعاته.

قلت: فما الحب المقدس؟

قال: هو حب واحد..

قلت: فما هذا الحب الواحد؟

قال: حب الواحد.. فحب كل ما عداه داء وألم، ألم تسمع قول العارف الذي عبر عن اجتماع كل الآمال والأهواء واللذات في حبه لله؟

قلت: تقصد قوله:

كانت لقلبي أهواءٌ مفرّقة... فاستجمعَتْ مذْ راءَتك العين أهوائي

فصار يحسدني من كنت احسده... وصرتُ مولى الورى مُذْ صرتَ مولائي

ما لامني فيك أحبابي وأعدائي... إلّا لغفلتهم عن عظم بلوائي

تركتُ للناس دنياهم ودينهم... شغلاً بحبك يا ديني ودنيائي

أشعلتَ في كبدي نارين واحدة... بين الضلوع وأخرى بين أحشائي

قال: الغارقون في بحر هذا الحب لا يرون غير محبوبهم، وهو لا يغيب عنهم أبدا.. هم

ابتسامة الأنين (31)

يصيحون في كل حين بما قال حاديهم:

تَملَّكتموا عقلي وطرفِي ومسمَعي... وَرُوحِي وأحشائِي وَكلي بأجمَعي

وتيّهتُمونِي فِي بديع جَمالِكُم... وَلَم أدر فِي مَجرَ الهَوَى أَينَ مَوضعي

وأوصَيتُمونِي لا أبوح بسرِّكُم... فباحَ بِما أُخفِي تفيضُ أدمعي

ولَمَّا فَنَى صبري وقلَّ تَجلُّدي... وفارَقَنِي نَومِي وحُرِّمَت مضجعي

أتَيت لِقاضي الحُبِّ قُلتُ أحبِّتِي... جَفَونِي وقَالُوا أنت فِي الحُبِّ مدَّعي

وعندي شهودٌ للصَبابةِ والأسا... يزكُّونَ دعوايَ إذا جئتُ أدَّعي

سُهادي وَوَجدي واكتئابِي ولوعتِي... وشوقي وسقمي واصفراري وأدمعي

ومن عجبٍ أَنِّي أَحنُّ إِلَيهِم... واسألُ شوقاً عنهم وهمُ معي

وتبكيهُم عينِي وهم فِي سوادِها... ويشكو النَّوى نبِي وهم بين أضلُعي

فَإِن طَلبونِي فِي حُقوقِ هَواهُم... فإنِّي فَقِيرٌ لا عليَّ ولا معي

وَإِن سجنونِي فِي سجونِ جفاهُم... دخَلتُ عليهم بالشفيعِ المُشَفَّع

لقد قال بعضهم: رأيت جارية حبشية فقلت: من أين؟ قالت: من عند الحبيب قلت: وإلى أين؟ قالت: إلى الحبيب قلت: ما تريدين من الحبيب قالت: الحبيب.

وعندما تعجب بعض أصحاب معروف من كثرة مجاهداته في الله سأله: (أخبرني يا أبا محفوظ أي شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق؟ فسكت فقال: ذكر الموت، فقال: وأي شيء الموت؟ فقال: ذكر القبر والبرزخ، فقال: وأي شيء القبر؟ فقال: خوف النار ورجاء الجنة، فقال: وأي شيء هذا؟ إن ملكاً هذا كله بيده إن أحببته أنساك جميع ذلك وإن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا.

ابتسامة الأنين (32)

قلت: لقد ذكرتني ـ يا معلم ـ بحديث امرأة صالحة (1) فيها نبصر مدى القوة التي يمنحها حب الله في النفس فتواجه كل صعب وتتحدى كل ألم.

قال: تقصد (بدعة).. سنزورها في (بحار الحب)، فحدثنا عن بعض شأنها هنا.

قلت: قال المحدث بخبرها (2): ضاقت علي نفسي يوما فقلت في نفسي: أخرج إلى المارستان، وأنظر إلى المجانين فيه، وأعتبر بأحوالهم فخرجت إلى بعض المارستانات، وإذا بامرأة مغلولة يدها إلى عنقها، وعليها ثياب حسان وروائح عطرة، وهي تنشد:

أعيذك أن تغل يدي... بغير جريمة سبقت

تغل يدي إلى عنقي... ما خانت ولا سرقت

وبين جوانحي كبد... أحس بها قد احترقت

وحقك يا مدى أملي... يمينا برة صدقت

فو قطعتها قطعا... وحقك عنك لا نطقت

فقلت لصاحب المارستان: (ما هذه)، فقال: (مملوكة خبل عقلها، فحبست لتصلح)، فلما سمعت كلامه أنشدت:

معشر الناس ما جننت ولكن... أنا سكرانة وقلبي صاح

لم غللتم يدي ولم آت ذنبا... غير هتكي في حبه وافتضاحي

أنا مفتونة بحب حبيب... لست أبغي عن بابه من براح

فصلاحي الذي زعمتم فسادي... وفسادي الذي زعمتم صلاحي

ما على من أحب مولى الموالي... وارتضاه لنفسه من جناح

قال سري فسمعت كلاما أبكاني فلما رأت دموعي قالت: (يا سري هذه دموعك على الصفة، فكيف لو عرفته حق المعرفة؟)

فقلت: (هذا أعجب.. من أين عرفتني؟)

قالت: (ما جهلت منذ عرفت أن أهل الدرجات يعرف بعضهم بعضا)

فقلت: (يا جارية أراك تذكرين المحبة فمن تحبين؟)

قالت: (لمن تعرف إلينا بآلائه، وتحبب إلينا بنعمائه، وجاد علينا بجزيل عطائه، فهو قريب إلى القلوب مجيب تسمى بأسمائه الحسنى، وأمرنا أن ندعوه بها فهو حكيم كريم قريب مجيب)

قال معلم السلام: سق هذا الحديث لقومك ليستعملوا هذا العلاج في مداواة الأمراض النفسية والعصبية التي تعج بها مستشفياتكم.. فذلك خير لكم من تلك السموم التي تسممونهم بها.

الرضى عن الله

خرجت من قاعة الحب بإلحاح شديد من المعلم، فقد أنست لأنوارها وأصوات أوليائها، وما استشعره كياني من مواجيد وأشواق تنسي كل ألم، وتثمر كل راحة.

قال لي المعلم: ألم أقل لك: لا تسكن لشيء.. ارحل دائما، فلا يتعلم من لا يرحل؟

قلت: أجل.. ولكني رأيت نفسي في ذلك المحل، فلم أرد الخروج منه.

قال: ستجد نفسك في كل محل.. ولن تعرفها إلا بعد أن تدخل كل المحلات.

قلت: فأين نسير الآن؟

قال: إلى قاعة (الرضى)، فهو العلاج الثاني الذي تغيب به النفس عن نفسها، فتنشغل عن بلائها.

__________

(1) أما كامل حديثها فقد ذكرناه في رسالة (بحار الحب)، وقد ذكرنا في بدايتها أنه لا يهمنا في هذه الحكايات التحقيق في سندها، فليست هي بالعلم الذي نبني عليه عقيدة، أو ننهج من خلاله سلوكا.

أما ما قد يبديه البعض من الاستغراب وتوهم التلفيق فيها، فلا نراه كذلك، فلأولياء الله وأهله من الشؤون ما لا يمكن التعبير عنه.

(2) ننقل الحكاية مع بعض التصرف.

ابتسامة الأنين (33)

دخلنا قاعة ممتلئة سكينة وجمالا، وقد علقت عليها لافتة من نور كتب عليها قوله تعالى: {وَرَضُوا عَنْهُ} (المائدة:119)، وسمعنا أصواتا عذبة عند مدخل الباب تقول: (إذا رأيت قلبك ممتلئا بالأغيار، واستحال عليك الاجتماع مع الله، والفناء عن ذاتك، فانظر إلى صفات كرمه، ورتل أسماء لطفه وإحسانه، وتأمل مراده من ذلك البلاء، فإنك إن لم تبلغ درجة أن ترضى به، فلا تنزل عن درجة أن ترضى عنه)

قلت: يا معلم، لقد ذكرني هذا الصوت الجميل بقول بعضهم يوماً عند رابعة: اللهم ارض عني، فقالت: أما تستحي من الله أن تسأله الرضا، وأنت عنه غير راض؟ فقال: أستغفر الله، فقيل لها: فمتى يكون العبد راضياً عن الله تعالى؟ قالت: (إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة)

قال المعلم: لقد أشارت إلى أن للمصيبة سرورا عند العارف كما أن للنعمة سرورا، لأن ما يلحظه العارف في ثنايا المصيبة يبدد الظلمات التي ينفخها الحزن واليأس.

قلت: وهل للرضى من لذة؟

قال: هي لذة لا تقل عن لذة الحب، بل إنه لا يمكن أن يرضى من لا يحب، كما لا يحب من لا يرضى، ألم تعلم بأن الرضوان أعلى الدرجات؟

قلت: لقد بين الله تعالى أن هذا هو مقام الصادقين مع ربهم، لا يزال رضاهم بالله ورضاهم عنه رائد علاقتهم بربهم إلى يوم يلقونه، قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً مْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (المائدة:119)

قال: بل نجد في القرآن الكريم أن كل الآيات التي تتحدث عن الرضوان المتبادل بين الله تعالى وعباده الصالحين مرتبطة بالجنة، وكأنها تشير إلى أن الرضوان جنة أخرى من جنان الله، وهي جنة لا تختص بالآخرة، بل تعجل للمؤمنين في الدنيا.

قلت: لقد ذكر الفخر الرازي ـ تعليقا على ارتباط الرضوان بالجنة في قوله تعالى: {، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً مْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ

ابتسامة الأنين (34)

خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة:8) فقال: (ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود، وكيف والجنة مرغوب الشهوة، والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما) (1)

قال: ويدل على هذا قوله تعالى وهو يخاطب النفس المطمئنة التي لا تقبض انتزاعا ـ كما تقبض أرواح المتمردين على الله ـ وإنما تقبض بأمرها، بالرجوع إلى بارئها فتطير شوقا إليه، قال تعالى: {، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (الفجر:27،28)

وقوله ـ وهو يخبر عن حزبه الذي اعتبر رضوانه فوق كل رضوان ـ: {، لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا مْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (المجادلة:22)

فالرضى عن الله شامل لكل ما جاء عن الله تشريعا كان أم قضاء، فلا فرق بينهما، فكلاهما مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا.

وقد قال تعالى عن الأول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب:36)

__________

(1) التفسير الكبير، والفخر الرازي يخالف ـ بهذا ـ الأسلوب الجاف الذي يتعامل به المتكلمون عادة مع مثل هذه الأمور، وقد عقب على قوله هذا بقوله: (وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري، ولكن كل ميسر لما خلق له)، وقال في موضع آخر: (وأما قوله تعالى: {مْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (المائدة:119) فهو إشارة إلى التعظيم. هذا ظاهر قول المتكلمين، وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى، فتحت قوله: {مْ وَرَضُوا عَنْهُ} أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها)

وقد بين الغزالي علة إنكار بعض المتكلمين للرضى بقوله: (اعلم أنّ من قال: ليس فيما يخالف الهوى وأنواع البلاء إلا الصبر فأما الرضا فلا يتصوّر؟ فإنما أتى من ناحية إنكار المحبة، فأما إذا ثبت تصوّر الحب لله تعالى واستغراق الهم به فلا يخفى أنّ الحب يورث الرضا بأفعال الحبيب)، الإحياء: 4/ 347.

ابتسامة الأنين (35)

وقال عن الثاني: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام:164)، وقال في أول السورة: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:14) أي معبودا وناصرا ومعينا وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.

قلت: لقد ورد في السنة ما يدل على هذه اللذة التي يجدها الراضي، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن اللّه بحكمته وجلاله جعل الروح (1) والفرح في الرضا واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط) (2)

فأول جزاء للراضي عن الله أن يرضى الله عنه ويرضيه، فإذا أرضاه رزقه من السعادة والسرور ما يهون أمامه كل ألم.. والرضا عن الله علاج يرسم الابتسامة بدل الأنين، فينشغل الراضي بفضل الله وأوصاف الله عما ألم به.

قال: وقد ورد في الأثر الإلهي: (أنا الله لا إله إلا أنا قدرت المقادير ودبرت التدابير وأحكمت الصنع فمن رضي فله الرضا مني حتى يلقانى، ومن سخط فله السخط حتى يلقاني)

قلت: فكيف كان حال الصالحين مع الرضا؟

قال: كل الصالحين متفقون على أن الرضا عن الله نعمة، ولكنه لا يجدها إلا من ذاقها، فلذلك ينقلون للخلق من باب التشويق أذواقهم في ذلك، وقد ورد في الأثر في أخبار موسى عليه السلام أن ن بني إسرائيل قالوا له: سل لنا ربك أمراً إذا نحن فعلناه يرضى به عنا، فقال موسى عليه السلام: (إلهي قد سمعت ما قالوا)، فقال: (يا موسى قل لهم يرضون عني حتى أرضى عنهم)

ويروى عن بعض العباد أنه قال: إني أذنبت ذنباً عظيماً، فأنا أبكي عليه منذ ستين سنة ـ وكان قد اجتهد في العبادة لأجل التوبة من الذنب ـ فقيل له: وما هو؟ قال: (قلت مرة لشيء كان،

__________

(1) بفتح الراء أي الراحة وطيب النفس.

(2) رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي.

ابتسامة الأنين (36)

ليته لم يكن)

وقال ابن مسعود: (الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيهما ركبت إن كان الفقر فإن فيه الصبر وإن كان الغنى فإن فيه البذل)

قلت: فكيف ذاق العارفون من هذه المشارب الطاهرة؟

قال: لا يهم العارف كل ما يصيبه ما دام له فيه حظ من العبودية، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر وكان خير له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) (1)

وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن) دليل على أن الخيرية والتي تعني الرضا والسرور لا ينالها إلا من تحقق بحقيقة الإيمان.

ولهذا، فإن الصالحين لا يهمهم شيء مما قد يصيب وجودهم في الدنيا بقدر ما تهمهم علاقتهم بربهم، وقد حدث بعضهم، فقال: سمعت عابدا من أهل البحرين يقول في جوف الليل، ونحن على بعض السواحل: (قرة عيني، وسرور قلبي، ما الذي أسقطني من عينك يا مانح العصم قال: ثم صرخ وبكى ثم نادى: طوبى لقلوب ملأتها خشيتك واستولت عليها محبتك فمحبتك مانعة لها من كل لذة غير مناجاتك، والاجتهاد في خدمتك، وخشيتك قاطعة لها عن كل معصية خوفا لحلول سخطك)، ثم بكى، وقال: (يا إخوتاه ابكوا على خوف فوت الآخرة حيث لا رجعة ولا حيلة)

فهمة الصالحين منصرفة للبحث عن رضوان الله، والخوف من سخطه، ولا يهمها بعد ذلك ما يحل بها، فهي تبحث عن رضى الله عنها لا عن رضاها هي على الله.

قلت: يا معلم.. فكيف أتحقق بهذا الرضى الذي يمسح عن قلبي كل الآلام؟.. وكيف ألتحق بركب الأولياء الشاربين من هذه العين؟

__________

(1) أحمد ومسلم عن صهيب.

ابتسامة الأنين (37)

قال: بترتيل أسماء لطفه، والنظر في جميل صنعه، والاستغراق في سابق إحسانه، والأمل في جميل أفضاله.

قلت: كيف أستعمل هذا العلاج؟

قال: أرأيت لو أحسنت إلى أحدهم دهرك جميعا بمعشار ما أحسن الله إليك، بل بمعشار المعشار، أترضى أن يسخط عليك.

قلت: كلا.. فهذا فعل الجحود.

قال: فكيف لا ترضى على من لا خير إلا منه، ولا فضل إلا في يديه الكريمتين؟

قلت: لقد ذكرتني بقول بعض الصالحين: إنَّ الله تعالى من كرمه قد رضي من عبيده بما رضي العبيد من مواليهم فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: أليس مراد العبد من الخلق أن يرضى عنه مولاه؟ قيل: نعم، قال: فإن محبة الله من عبيده أن يرضوا عنه.

قال: أجل.. فالرضى عن الله هو ما يوجبه حسن الخلق مع الله، ولو تأمل المعترض على ربه حقيقته لوجدها أهون من أن تعارض الحق، فكيف يجسر على ذلك، وهو لا يعدو أن يكون حفنة تراب.

قلت: لقد قال بعضهم في هذا: (لن يصيب العبد حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر كرضاه عند الغنى، كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفا لهواك، ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك فيه هلكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك؟ ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا)

قال: بل، لقد اتفقت كلمة الصالحين على هذا المعنى، فهذا أحدهم يقول: (الإنسان خزف، وليس للخزف من الخطر ما يعارض فيه حكم الحق تعالى)

وعبروا عن أحوالهم في ذلك، فقال عبد الله بن مسعود: (لأن ألحس جمرة أحرقت ما أحرقت وأبقت ما أبقت أحب إليَّ من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن أو لشيء لم يكن ليته كان)

ابتسامة الأنين (38)

وقال بعض الصالحين: (لو قرض جسمي بالمقاريض لكان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى سبحانه ليته لم يقضه)

وحدث آخر، فقال: قال رجل: لأمتحنن أهل البلاء. قال: فدخلت على رجل بطرسوس وقد أكلت الآكلة أطرافه. فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت والله وكل عرق وكل عضو يألم على حدته من الوجع، وإن ذلك لبعين الله أحبه إلي أحبه إلى الله، وما قدر ما أخذ ربي مني؟ وددت أن ربي قطع مني الأعضاء التي اكتسبت بها الإثم، وأنه لم يبق مني إلا لساني يكون له ذاكرا. قال: فقال له رجل: متى بدأت بك هذه العلة؟ فقال: الخلق كلهم عبيد الله وعياله، فإذا نزلت بالعباد علة فالشكوى إلى الله ليس يشتكى إلى العبيد.

قلت: هذا سبيل صالح.. فما السبيل الثاني؟

قال: إذا اشتقت أن تلبس لباس الرضى، وتسكن مع الراضين في جنة الأمن والفرح والسرور، فردد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الدعاء الذي يسأل الله فيه أن يرزقه بالرضى بالقضاء فلا ينال ما عند الله إلا من يد الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين) (1)

وردد معه: (اللهم إني أسألك الصحة والعفة والأمانة وحسن الخلق والرضى بالقدر) (2)

فإن صدقت في دعائك، وألححت فيه كما يلح الغريق طالبا النجدة، فسسيرزقك الله فهم

__________

(1) الترمذي والحاكم، والنسائي.

(2) البيهقي.

ابتسامة الأنين (39)

حقيقة الرضا، والشرب من شرابه.

قلت: فكيف يرزقني؟

قال: أول رزق يسوقه إليه هو تعريفك به، فإذا عرفته عرفت حقيقة العلم، قال بعض الصالحين: (الرضى هو صحة العلم الواصل إلى القلب، فإذا باشر القلب حقيقة العلم أداه إلى الرضى)، فقد اعتبر الرضى علامة على وصول العلم للقلب، لأن العلم المحجوز في زوايا العقل أضعف من أن يحقق لصاحبه هذا المقام الرفيع.

قلت: ولكنا نعرف حقيقة العلم من دون هذا؟

قال: لا.. حقيقة العلم أن تشربه لا أن تسمعه، وأن تعيشه لا أن تكتبه.. فالعلم الذي لم يوصل صاحبه إلى الحقيقة كالدواء الذي لم يستعمل، فإن صاحبه يظل مريضا، ولو ظل يردده أبد الدهر.

وقد شبه الغزالي من لم يعش علمه برجل في برية، وله عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى، وكان الرجل شجاعا وأهل حرب، فحمل عليه أسد عظيم مهيب، (فما ظنّك؟ هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها!؟)

وقياسا على هذا (لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها، ولم يعمل بها: لا تفيده إلا بالعمل) (1)

قلت: فما طريق وصول القلب لهذه المعاني؟

قال: بالمجاهدة، والمصابرة، وقد قيل لبعضهم: (متى يبلغ العبد إلى مقام الرضى)، فقال: (إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه، فيقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت)

__________

(1) رسالة (أيها الولد) لأبي حامد الغزالي.

ابتسامة الأنين (40)

السكون لمقادير الله

خرجت مع المعلم إلى القاعة الثالثة من قاعات الغيبة بالله، وهي قاعة (السكون لمقادير الله)، وقد علق على بابها لوح من نور كتب عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب:36)

سمعت في مدخلها أصواتا حانية قوية تقول: (إن لم تستطع أن تبلغ تلك الدرجات الرفيعة التي نزلها الأولياء، فنالوا بها الفرح والرضوان، فلا تنزل إلى دركات المعرضين المعارضين لله، فتخسر خسارتين عظيمتين: تخسر ربك الذي لا يرضى أن يعارض في ملكه أو يعقب عليه في تدبيره.. وتخسر صحتك وراحتك التي لن يعوضها اعتراضك)

قلت: يا معلم.. ماذا تقول هذه الأصوات؟.. وما هذه القاعة؟.. وما الفرق بينها وبين القاعة السابقة؟.. فإني لا أرى الرضى إلا سكونا لمقادير الله.

قال: هذه القاعة تجيب الشبهة التي ينفخها الشيطان في نفسك، وفي كل النفوس الضعيفة، ليقول لها: (كيف ترضي عنه، وهو يسومك بأنواع البلاء، أليس هو الطبيب الشافي؟)

قلت: فهي ترد إذن على أحزاب المعارضة لله.

قال: وهي أحزاب كثيرة، كل حزب يرفع راية من الرايات يدعو فيها إلى عزل الله عن التصريف في الكون.

قلت: وأين هي؟

قال: في نفسك.. وفي كل النفوس التي لم تذق لذة الرضا عن الله.

قلت: فكيف أقمع هذه الأحزاب المعارضة لله.. وليس لدي شرطة ولا جيش؟

قال: السلام لا يعرف الشرطة والجيش.

قلت: فكيف أقضي على هذه الأحزاب المعارضة لله؟

قال: بالمعرفة.. ألم يكن أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بالقراءة؟

ابتسامة الأنين (41)

قلت: فماذا أقرأ؟ وكيف أقرأ؟

قال: اقرأ المعارف التي تجعلك ساكنا لمقادير الله، لا معارضا لها.

قلت: فأين أجد هذه المعارف؟

قال: ستسمع من أطباء هذه القصر بسمع بصيرتك ما يضع في نفسك بذور ذلك، وليس عليك بعدها إلا أن تسقيها وتتعاهدها إلى أن تنبت شجرة الرضا في نفسك.

سمعت أصواتا كثيرة تزدحم على أذن بصيرتي، وهي من كثرتها شوشت علي، فلم أدر ما أسمع.

قال لي المعلم: هل تسمع ببصيرتك.

قلت: أسمع.. ولكني لا أسمع.

قال: لم؟

قلت: الأصوات تزدحم على بصيرتي، فلا تكاد تفهم ما تقول.

قال: اسكن.. ألست في قاعة السكون لمقادير الله.. فمن لم يسكن لم يسمع.. أو سمع ولم يفهم.. ألم تسمع قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة:16

قلت: بلى.

قال: فقد أمره بالسكون ليحصل له العلم.

استرخيت.. وسكنت سكونا هادئا أشبه بالنوم، فسمعت أصواتا مختلفة (1)، منها الحانية، ومنها الشديدة تتردد في جوانب القاعة تمتلئ بها بصيرتي.

قال الأول: ما أصابك لم يكن ليخطِئَك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.

قلت: بلى.. هذا صحيح، فقد قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ

__________

(1) اقتبسنا أكثر هذه المعاني من الكتب المرتبطة بهذا الجانب، مثل حكم ابن عطاء الله والإحياء وكليات رسائل النور، وغيرها من المراجع، وقد لخصناها بهذا الأسلوب لتسهل الاستفادة منها.

ابتسامة الأنين (42)

إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد:22)

ويعقب على ذلك بأثر هذه المعرفة في النفس الإنسانية بقوله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد:23)

ويقول تعالى في آية أخرى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التغابن:11) فالعوض الإلهي في هذه الآية عن النقص الذي جلبته المصيبة هو الهداية المرتبطة بقلب الإنسان، وهي الهداية الحقيقية التي تجر إلى المعرفة التي لا يشوبها الجهل، وإلى العلم الذي لا يختلط مع الأهواء.

ويعلمنا في آية أخرى ما ينبغي أن نقوله، ثم النتيجة التي جعلها الله لمن يفعل ذلك، فقال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:156)

والفضل الإلهي النازل على هؤلاء هو ما عبر عنه تعالى بقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:157)

قال المعلم: فإذا استقر في النفس الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن الذي أصابه لا بد أن يصيبه، وأنه أمر لا مفر منه، ولا مهرب منه لأن الله قد كتبه في الأزل؛ فإن نفسه تهدأ، وقلبه يسكن، ويكون هذا بداية ومقدمة للسكون لمقادير الله.

قال صوت آخر: لا تعترض.. فأنت تجمع الجهل بأشكاله وألوانه.. تجهل نفسك ومصيرك، وعواقب أمورك، أما سيدك الذي يدبر أمرك، فعلام الغيب: {يَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام:59)

وقال آخر: لا تعترض.. فإن ما تراه مما تكرهه رحمة من رحمات الله، ولطف من خفي ألطافه ساقه إليك في ثوب ما تكره ليمتحن عبوديتك، ويملأ قلبك بحسن الظن به:

رب أمر تتقيه... جر أمرا ترتضيه

ابتسامة الأنين (43)

خفي المحبوب منه... وبدا المكروه فيه

قلت: هذا صحيح، وقد قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216)، وقال: {، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء:19)

وقال آخر: لا تعترض.. فإن كل مقادير الله خير لك إن استقبلتها ببصيرة الإيمان.

قلت: هذا صحيح، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر وكان خير له إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) (1)

وقال آخر: لا تعترض.. وكن كذلك العبد الصالح الذي لم تغره مباهج جنة صاحبه، وقال في ثقة المؤمن: {عَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} (الكهف:40)

وقال آخر: لا تعترض.. فإن من ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور نظره، فإن العارفين يشهدون المنن في المحن، والعطايا في البلايا.

وقال آخر: لا تعترض.. فإن من تمام عبوديتك أن تجري عليك مقادير الله بأنواعها، وتهب عليك رياح البلاء لتمتحن عبوديتك.

وقال آخر: كيف تعترض، وأنت لن ترقى في مقامات العبودية إلا بهذا الذي تعترض عليه؟

وقال آخر: كيف تعترض، وأنت لن تكون صابرا، ولا متوكلا ولا راضيا ولا متضرعا ولا مفتقرا ولا ذليلا ولا خاضعا إلا باستقبالك لمقادير الله ببصيرة الإيمان؟

وقال آخر: كيف تعترض، وأنت تعلم أن رضاك عن ربك زرع لرضى ربك عنه، بل رضاك عن ربك علامة على رضا ربك عنك، فلو لم يرض عنك لم ترض عنه.

__________

(1) مسلم.

ابتسامة الأنين (44)

وقال آخر: لا تعترض.. فإن جميع ما يحدث في الكون أثر من آثار أسماء الله وصفاته، وفيض من فيوضات مشيئة الله وحكمته، فإن لم ترض بمقادير الله خاصمت أسماء الله وصفاته، وخاصمت الله بمخاصمتها؟

وقال آخر: لا تعترض.. فإن حكمه تعالى فيك ماض، وقضاؤه فيك عدل، كما أخبرك الناصح الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (ماض في حكمك عدل في قضاؤك) (1)

وقال آخر: كيف لك أن تعترض، وأنت تعلم أنه لا تبديل لكلماته ولا راد لحكمه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

وقال آخر: كيف لك أن تعترض، وقد علمت كمال حكمته ورحمته ولطفه وحسن اختياره.

وقال آخر: لا تعترض.. وسلم لربك، فقد فوضت أمرك إليه، ومن ضرورات التفويض الرضى التام باختيارات المفوض.

وقال آخر: كيف لك أن تعترض، وأنت عبد محض، والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن، بل يتلقاها بالرضى به وعنه.

وقال آخر: كيف لك أن تعترض، وأنت تدعي محبته، والمحب الصادق من رضي بما يعامله به حبيبه.

وقال آخر: لا تعترض.. فإنك باعتراضك تعبد الله على حرف، فتتلون كما تتلون رياح المقادير، والعبد الكامل ثابت على عبودية سيده، لا تزعزعه الرياح، ولا تجتثه عن غايته الأعاصير؟

وقال آخر: لا تعترض.. فإن أول معصية عصي الله بها في هذا العالم حصاد نبات الاعتراض، فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا من تفضيل آدم وتكريمه، ولا بحكمه

__________

(1) أحمد والطبراني والحاكم.

ابتسامة الأنين (45)

الديني من أمره بالسجود لآدم.

وقال آخر: لا تعترض.. فإن اعتراضك عن اختيار الله لك ناشئ من جهلك بالله، وأنه كلما قويت معرفتك صرت كالريشة في مهب الرياح، تقلبها الرياح كما شاءت، فلا تعترض ولا تختار.

وقال آخر: لا تعترض.. فإن من عرف أن البلايا من مولاه وسيده (1) الذي هو أرحم به

__________

(1) ربما ترد شبهة هنا، وهي انه قد يظن أن للشيطان سلطة على عباد الله، وأن له القدرة على إذيتهم وربما يستدل لهذا بقوله تعالى على لسان أيوب - عليه السلام -: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (صّ:41)، وبما روي أن إبليس سأل ربه، فقال هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله: نعم عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ولا يلتفت إليه، فقال: يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله، وكان يجيئه ويقول له: هلك من مالك كذا وكذا، فيقول الله أعطى والله أخذ، ثم يحمد الله، فقال: يا رب إني أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده، فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه، فقال يا رب لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده، فأذن فيه، فنفخ في جلد أيوب، وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه، فمكث في ذلك البلاء سنين، حتى صار بحيث استقذره أهل بلده، فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد، فجاء الشيطان إلى امرأته، وقال لو أن زوجك استعان بي لخلصته من هذا البلاء، فذكرت المرأة ذلك لزوجها، فحلف بالله لئن عافاه الله ليجلدنها مائة جلدة، وعند هذه الواقعة قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}

وهذا خطأ عظيم، فالشيطان لا قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآلام، بل هو أضعف من ذلك، والله أرحم بعباده من أن يسلمهم للشيطان، وقد قال تعالى في بيان قدرات الشيطان وعلى لسانه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} (ابراهيم:22)، ومما استدل به الفخر الرازي على رد تلك الشبهة:

1. أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان، فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان، ولعل كل ما حصل عندنا من الخيرات والسعادات، فقد حصل بفعل الشيطان، وحينئذ لا يكون لنا سبيل إلى أن نعرف أن معطي الحياة والموت والصحة والسقم هو الله تعالى.

2. أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء، ولم لا يخرب دورهم، ولم لا يقتل أولادكم.

وقد أجاب على الاعتراض القائل بأنه (لم لا يجوز أن يقال إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله تعالى لكن على وفق التماس الشيطان؟) بقوله: (إذا كان لا بد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى، فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك؟)

أما المراد من الإخبار بمس الشيطان، فإن القول الصحيح في ذلك هو أن المراد منه هو إلقاء الوساوس الفاسدة والخواطر الباطنة، وكل ذلك كان يضعه في أنواع العذاب والعناء، وقد اختلف القائلون بهذا في تلك الوساوس كيف كانت وذكروا فيه وجوها، منها:

1. أن علته كانت شديدة الألم، ثم طالت مدة تلك العلة، والشيطان كان يذكره النعم التي كانت والآفات التي حصلت، وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله، وقال: {أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب} لأنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أشد.

2. أنها لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان وكان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع فخاف من تأكد خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال: {أنى مسنى الشيطان}

3. أن الشيطان لما قال لامرأته لو أطاعني زوجك أزلت عنه هذه الآفات فذكرت المرأة له ذلك، فغلب على ظنه أن الشيطان طمع في دينه فشق ذلك عليه فتضرع إلى الله تعالى وقال ذلك.

وكل هذا يمكن قبوله، ووراء هذا أقوال أخرى يجب تنزيه الأنبياء عنها، ولا تصح روايتها.

ابتسامة الأنين (46)

من والدته ووالده، كيف يبقى له بالألم إحساس؟ أم كيف لا يتلذذ به كما يتلذذ بالنعمة سائر الناس؟

قلت: لقد ذكرني هذا بقول الشاعر الصالح:

وخفف عني ما ألاقي من العنا... بأنك أنت المبتلي والمقدر

وما لامرئ عما قضى الله معدل وليس له منه الذي يتخير

وبقول ابن عطاء الله: (ليخفف ألم البلاء عنك علمك بأنه سبحانه هو المبلي لك، فالذي واجهتك منه الأقدار، هو الذي عودك حسن الاختيار)

وقال آخر: كيف تعترض، والله يراك ويسمعك، وهو ما أنزل عليك البلاء إلا ليختبر موقفك، فهل ترضى أن تسقط في الاختبار؟

وقال آخر، وهو بديع الزمان: لا تعترض.. فإن السكون والهدوء والرتابة والعطالة نوع من العدم والضرر، وبعكسه الحركة والتبدل وجودٌ وخير، فالحياة تتكامل بالحركة، وتترقى بالبلايا، وتنال حركات مختلفة بتجليات الاسماء، وتتصفى وتتقوى وتنمو وتتسع، حتى تكون

ابتسامة الأنين (47)

قلماً متحركاً لكتابة مقدراتها، وتفى بوظائفها، وتستحق الأجر الأخروي (1).

وقال آخر، وهو كذلك بديع الزمان، ولكن بصوت مختلف: لا تعترض.. واعلم انه ليس لك حق في الشكوى، بل عليك الشكر، عليك الصبر؛ لأن وجودك واعضاءك وأجهزتك ليست بملكك أنت، فانت لم تصنعها بنفسك، وانت لم تبتعها من اية شركة او مصنع ابتياعاً، فهي ملكٌ لآخر. ومالك تلك الاشياء يتصرف في ملكه كيف يشاء.

قلت: عهدي بك ـ سيدي ـ تمثل لما تقول، فاضرب لي على ذلك مثالا.

قال: هب أن صانعاً ثرياً ماهراً بكلّف رجلاً فقيراً لقاء أجرة معينة ليقوم له لمدة ساعة بدور النموذج، لإظهار صنعته الجميلة وثروته القيمة، فيكلفه بلبس القميص المزركش الذي حاكه، والحلة القشيبة المرصعة التي نسجها، ويطلب منه أن يظهر أوضاعاً وأشكالاً شتى لبيان خوارق صنعته وبدائع مهارته، فيقصّ ويبدل، ويطوّل، ويقصر، وهكذا..

فهل يحق لذلك الفقير الاجير ان يقول لذلك الصانع الماهر: (إنك تتعبني وترهقني وتضيّق عليّ بطلبك مني الانحناء مرة والاعتدال أخرى.. وانك تشوّه الجمال المتألق على هذا القميص الذي يجمّل هندامي ويزيّن قامتي بقصّك وتقصيرك له.. إنك تظلمني ولا تنصفني؟)

قلت: فأنزل هذا المثل على ما نحن فيه.

قال: هكذا الأمر بالنسبة للصانع الجليل سبحانه وتعالى - ولله المثل الاعلى - الذي البسك أيها المريض قميص الجسد، وأودع فيه الحواس النورانية المرصعة كالعين والأذن والعقل، فلأجل اظهار نقوش اسمائه الحسنى، يبدّلك ضمن حالات متنوعة ويضعك في اوضاع مختلفة. فكما انك تتعرف على اسمه (الرزاق) بتجرعك مرارة الجوع، تتعرف على اسمه (الشافي) بمرضك (2).

__________

(1) المكتوب الثاني عشر: 54.

(2) الكلمات: الكلمة السادسة والعشرون: 554.

ابتسامة الأنين (48)

سمعت صوتا آخر يقول: لم يختر الله لك إلا ما يصلح.. فلا تطلب ما لا يصلح لك.

قلت: لقد ذكرني هذا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الأثر الإلهي: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه) (1)

قال المعلم، وقد رأى استرواحي لسكوني: قم لنسر إلى قاعة أخرى من هذا المستشفى.

قلت: دعني ـ يا معلم ـ لأسمع لجميع هذه الأصوات، فقد ملأت نفسي سكينة.

قال: لو ظللت تسمعها دهرك جميعا ما خرجت، فكل الكون، وكل حقائق الوجود تدعوك إلى السكون إلى الله.. فارحل.. فلا ينبغي أن تسكن لغير الله.

الغيبة بنعم الله

دخلنا القسم الثاني من أقسام الغيبة، وهو قسم (الغيبة بنعم الله)، وقد كتب على بابه قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (النحل:18) ورأيت داخل القاعة جوائز شتى، كل جائزة تشير إلى فضل من فضل الله ونعمة من نعمه.

قلت للمعلم: ما هذه الجوائز؟

قال: هذه جوائز الفضل الإلهي المخزنة في خزائن البلاء.

قلت: ألهذه الجوائز كانت تنظر تلك المرأة الصالحة، حين عثرت، وانقطع ظفرها، فضحكت، فقيل لها: أما تجدين الوجع؟ فقالت: إن لذة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.

قال: تلك جائزة من هذه الجوائز.

قلت: فكم هذه الجوائز؟

قال: هي كثيرة.. ولكن أي مريض يمر على هذا المستشفى ينال عشر جوائز، كل جائزة

__________

(1) الخطيب في التاريخ وغيره.

ابتسامة الأنين (49)

منها بالدنيا وما فيها.

قلت: ألهذا أمر الله تعالى بتبشير الصابرين، فقال تعالى: {وَلَنَبلُوَنكُم بِشَيء منَ الخَوف وَالجُوعِ وَنَقصٍ منَ الأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثمَراتِ وَبَشرِ الصابِرِينَ الذِينَ إِذَا أَصَابَتهُم مصِيبَةٌ قَالُوا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَيهِ راجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ من ربهِم وَرَحمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ} (البقرة:155 - 157)

قال: أجل.. فالبشارة لا تكون إلا على نعمة وفضل.

قلت: ألهذا ذكر الله تعالى كثرة الخير المخزن في طيات ما نكره، فقال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء:19

قال: أجل، وقد قال بعضهم تعليقا على الآية: (لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أم تحبه فيه عطبك)

قلت: ألهذا بشر صلى الله عليه وآله وسلم المبتلين بأنهم سيكونون موضع غبطة الخلق يوم القيامة عندما يعاينون ما أعد الله لهم من جزاء، فقال: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض) (1

قال: أجل، ولذلك كان من الحزم الانشغال بالمكاسب وتقليل الخسائر.. فانظر إلى مكاسب بلائك، لتنسيك المكاسب ما خسرته من جسدك وراحتك.

قلت: لقد ذكرتني بتعداد بعضهم للمعاني الجمالية المصبوبة في قوالب البلاء، فقال: (إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للإسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني)

قال: هي أربع مكاسب، كل مكسب منها كاف في شغلك عن البلاء، وفي رسم الابتسامة في شفتيك بدل الأنين.

__________

(1) الترمذي كتاب الزهد رقم (2403) عن جابر وقال: هذا حديث غريب.

ابتسامة الأنين (50)

قلت: قرأت عن بعض الصالحين أنه برئ من علة كان فيها، فجلس للناس، وهنؤوه بالعافية، فلما فرغ الناس من كلامهم، قال: (إن في العلل لنعماً لا ينبغي للعاقل أن يجهلها: تمحيص للذنب، وتعرض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء للمثوبة، وحض على الصدقة، وفي قضاء الله وقدره بعد، الخيار)

قال: فللنطلق من هذه المعاني لننال هذه الجوائز العشرة.

قلت: وما هي؟

قال: التمييز، والتمحيص، والتأديب، والتذكير، والافتقار، والمحدودية، والسكينة، والتطهير، والمعاينة، والثواب.

نعمة التمييز

قلت: فما نعمة التمييز؟

قال: هي ما أشار إليه قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ (1) اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:142)، وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (التوبة:16)

قلت: فما وجه الإشارة إلى هذه النعمة؟

قال: الله تعالى يبتلي خلقه بأصناف البلاء ليميز المحق من المبطل، والطيب من الخبيث.

قلت: فما سر ذلك؟

__________

(1) هذه التعبيرات وأشباهها في القرآن الكريم لا تعني عدم علم الله بالشيء قبل حصوله، وإنما تعني تحققه الواقعي، ويشبه هذا ـ كما يذكر الشيرازي ـ علم المهندس بكل تفاصيل البناء عند وضعه التصميم. ثم يتحول التصميم الى بناء عملي. والمهندس يقول حين ينفذ تصميمه على الارض: اريد ان ارى عمليا ما كان في علمي نظريا.. وقد فصلنا الحديث عن هذه الشبهة في رسالة: (أسرار الأقدار)

ابتسامة الأنين (51)

قال: الله تعالى بحكمته جعل هذه الدار محلا لاختبار عباده، لينزل كل واحد منهم ـ في النشأة الآخرة ـ المحل الذي ينسجم مع طبيعته، وتبرزه أهليته، فلذلك كانت هذه الدار هي دار التمييز التي يتميز فيها المحسن من المفسد، والراضي من الساخط (1).

قلت: ولكن الله يعلم بأحوال عباده محسنهم ومسيئهم، وراضيهم وساخطهم.

قال: ولكنه لعدله لا يكتفي بعلمه، بل يجعل من أعمال العباد حجة لهم أو عليهم.

قلت: فما وجه كون التمييز نعمة؟

قال: دخل جماعة على بعض الصالحين، وهو في مارستان قد حبس فيه، وقد جمع بين يديه حجارة، فقال: من أنتم؟ فقالوا: محبوك، فأقبل عليهم يرميهم بالحجارة فتهاربوا فقال: ما بالكم ادعيتم محبتي، إن صدقتم فاصبروا على بلائي.

قلت: لم أفهم هذا المثال.

قال: فاسمع لآخر يقربه لك، فقد قال: كنت نائما عند بعض الصالحين، فانبهني فقال لي: (يا فلان، رأيت كأني قد وقفت بين يدي الله تعالى فقال لي: خلقت الخلق فكلهم ادعى محبتي، وخلقت الدنيا فهرب مني تسعة أعشارهم، وبقي معي العشر، وخلقت الجنة فهرب مني تسعة اعشار العشر، وبقي معي عشر العشر، فسلطت عليهم ذرة من البلاء، فهرب مني تسعة اعشار عشر العشر، فقلت للباقين: معي، لا الدنيا اردتم، ولا الجنة اخذتم ولا من النار هربتم، فماذا تريدون، قالوا: انك تعلم ما نريد، فقلت لهم: فاني مسلط عليكم من البلاء بعدد انفاسكم ما لا تقوم له الجبال الرواسي اتصبرون؟ قالوا: اذا كنت انت المبتلي لنا، فافعل ما شئت فهؤلاء عبادي حقا)

قلت: لا يزال عقلي كالا دون فهم وجه كون التمييز نعمة.

__________

(1) وهذا كما ينص عليه قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (لأنفال:37)

ابتسامة الأنين (52)

قال: فقد قال بعض الصالحين: (الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه)

قلت: فما وجه النعمة في هذا، بل إن هذا بلاء.. محض بلاء؟

قال: أرأيت لو جاورك في بيتك الأدنى من لا تطيق عشرته.. أترضى بذلك؟

قلت: لا.. بل إني سأرحل عنه..

قال: ولو خسرت مالك.

قلت: ولو خسرت مالي..

قال: لم؟

قلت: طلبا للراحة منه.

قال: فهذا منزل محدود.. لأمد معدود.. فكيف بالمجاورة المستمرة الدائمة التي لا حدود لها.

قلت: الكامل لا يرضى صحبة الناقص، والطيب لا يطيق معاشرة الخبيث.

قال: ولذلك كان التمييز الذي يحصل في الآخرة بين الأجناس والأنواع نعمة من النعم العظمى التي يستشعرها المؤمنون، فلا يدخل الجنة إلا الطيبون، بل إنهم في نفس الجنة متميزون بحسب مراتبهم ودرجاتهم.

قلت: ولهذا يبين القرآن الكريم المواقف المختلفة من أنواع البلاء، ففي موقف الخوف مثلا يخبر تعالى عن صنفين من الناس:

أما الأول، وهو الناجح في الاختبار، فيذكر تعالى وقوفه كالطود الأشمّ أمام كل المخاوف، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173)

وأما غيرهم من الجبناء الساقطين في الاختبار فقد قال تعالى في شأنهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي

ابتسامة الأنين (53)

قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} (المائدة:52)

وقد أخبر تعالى عن الناجحين في الاختبار بأنه من المنعم عليهم، قال تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:23)، وهذا في مقابلة الساقطين الجبناء الذين قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (المائدة:22)، وقالوا بكل تبجح: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)

وهكذا في كل المواقف، نجد المؤمنين الصادقين الناجحين فيما أنعم به عليهم من البلاء، ونجد الراسبين الساقطين في الامتحان الذين قال تعالى في شأنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج:11)

فهذا الخاسر لا يعبد الله في الحقيقة وإنما يعبد أهواءه التي قد تتفق أحيانا مع ما يأمر به الله، فيتوهم الخلق أنه يعبد الله، فلذلك يبتلى بما يظهر حقيقته، ويكشف عن سريرته.

نعمة التمحيص

قلت: فما نعمة التمحيص؟

قال: هي التي أشار إليها قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران:141)، فقد أخبر تعالى أن العلة في البلاء الذي حصل للمؤمنين هو تمحيصهم، كما أن علة البلاء الحال بغيرهم هو محقهم.

ابتسامة الأنين (54)

قلت: فما التمحيص (1

قال: هو التنقية والتطهير والتمييز لتظهر أهلية كل واحد منهم ما يستحقه من جزاء.

قلت: فما يظهر تلك الأهلية؟

قال: لا تبرز الأهلية إلا بأسياف البلاء، ورياح الفتن، وأنواع التمحيص، فالدعاوى سهلة، ولكن الصعب إثباتها، ولذلك رد الله تعالى على من حسبوا الأمر سهلا، تكفي فيه مجرد الدعاوى، فقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة:214)

قلت: ولكن هذه الآية نزلت في محل خاص.

قال: ولكنها في حقيقتها تفسر سنة الله في تمحيص عباده ليبرز كل شخص ما في صدره من تسليم أو اعتراض، أو عبودية أو ربوبية، كما قال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران:154)

فالقلب كالمجتمع كلاهما يحتاج إلى أنواع البلاء والمحن والفتن التي تميز الطيب عن الخبيث، والطاهر من النجس.

سمعت صوتا كأني أعرفه، قلت: ما هذا الصوت يا معلم؟

قال: هذا صوت سيد.

قلت: أهو طبيب من أطباء هذا المستشفى؟

قال: كل الأولياء أطباء بهذا المستشفى.

قلت: فما الذي جعله يتكلم الآن؟

__________

(1) المحص: في اللغة التنقية، والمحق في اللغة النقصان، وقال المفضل: هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء، ومنه قوله تعالى: {يمحق الله الربا} (البقرة: 276) أي يستأصله.

ابتسامة الأنين (55)

قال: سمع قراءتنا للآية، فأراد أن يتحدث عنها، فأصخ سمعك إليه.

قال سيد: التمحيص درجة بعد الفرز والتمييز.. التمحيص عملية تتم في داخل النفس، وفي مكنون الضمير.. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيدا لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب.

قلت: فما الحاجة إليه؟

قال: كثيرا ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها. وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير!

وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله - سبحانه - بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية.

فقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص.. ثم إذا هو يكشف - على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية - إن في نفسه عقابيل لم تمحص، وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد (1).

قلت: ألهذا كان الألم علاجا مشخصا للأدواء؟

قال: أجل.. وهو في ذلك كتلك المحاليل الكاشفة التي تميز أنواع العناصر، ليتبين الأصيل من الدخيل، وتتميز الصحة عن المرض.

قلت: فما وجه كونه نعمة؟

__________

(1) في ظلال القرآن: 1/ 482.

ابتسامة الأنين (56)

قال: لا يمكن العلاج إلا بالتشخيص، فمن السهل ادعاء الصبر، ومن الصعب التحقق به، فلذلك كان التمحيص مقدمة للتأديب.

نعمة التأديب

قلت: فما نعمة التأديب؟

قال: هي التي أشار إليها قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الانبياء:87)

قلت: فما وجه الإشارة فيها؟

قال: لقد جعل الله البلاء الذي حل بيونس عليه السلام مؤدبا له، وزاجرا عما وقع فيه.

قلت: فيمكن لهذا الاستشهاد بما وقع لآدم عليه السلام من أكله من الشجرة بعد أن نهي عنها.

قال: أجل.. فقد ابتلي ليؤدب أمام أوامر ربه، وليعرف مدى عداوة الشيطان له، فكان ظاهر بلائه نقمة، وباطنه رحمة، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} (لأعراف:22)

قلت: ولكنه ـ مع ذلك ـ وللأسف ـ خرج من الجنة.

قال: من أكبر نعم الله على آدم عليه السلام أنه خرج من الجنة.

قلت: ما هذا ـ يا معلم ـ أكانت الجنة نارا حتى يكون خروجه منها نعمة؟

قال: لم تكن نارا، ولكن سكونه إليها هو النار.. لقد انقلب آدم عليه السلام بعد خروجه من الجنة شخصا آخر.

قلت: كيف.. فآدم الذي دخل الجنة، هو آدم الذي خرج منها.

قال: ولكنه ـ عندما خرج منها بأسياف البلاء ـ تحقق فيه ما أريد منه من منصب الخلافة

ابتسامة الأنين (57)

العظيم الذي خلق له.

قلت: لقد ذكرتني بكلام لبعضهم على لسان الحضرة الإلهية يقول فيه مخاطبا آدم عليه السلام: (يا آدم لا تجزع من قولي لك: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} (لأعراف:24)، فلك ولصالح ذريتك خلقتها.. يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك.. يا آدم لا تجزع من قولي لك: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} (البقرة:216)) (1)

قال: ولهذا ورد في النصوص الإخبار بابتلاء الله لعباده بسبب الذنوب التي يقعون فيها، وهو ابتلاء يشبه تماما تقريع المعلم لتلميذه رادعا له ومؤديا، وقد قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30)، فالآية الكريمة تبيّن بوضوح أن المصائب التي تصيب الإنسان هي نوع من التحذير والعقاب الإلهي إلا ما كان من البلاء المتعلق بالمقربين من الأنبياء والصديقين، فله نواح أخرى غير هذا.

قلت: لقد روي أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر) (2)

قلت: فما وجه كون التأديب نعمة؟

قال: لقد كانت ملاحظة الصديقين لهذا سبب سرور عظيم، فقد لحظوا عناية الله بهم وتأديبه لهم، وغابوا بهما عن ألم الأنين الذي حل بهم.

ولهذا قال على بن أبي طالب: (ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30)، ثم قال: (يا علي ما أصابكم من مرض أوعقوبة أوبلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم

__________

(1) الفوائد:35.

(2) ابن عساكر.

ابتسامة الأنين (58)

العقوبة في الآخرة وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه) (1)

قلت: إني أرى البلاء لا ينزل على الأفراد فقط، بل هو يعدوها إلى المجتمعات، فهل هو من التأديب؟

قال: أجل.. فإن الله برحمته ولطفه وحكمته يرسل تنبيهاته للمجتمعات حتى تعود إلى ربها وتتأدب بين يديه، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41)، وهذا يدل على كون هذا سنة اجتماعية.

وفي قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} تنبيه إلى أن العلة في ذلك ليس الانتقام وإنما التأديب، فما: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (النساء:147)

ويشير إلى هذا قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (لأنفال:53)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11)

قلت: لقد ذكرتني بما يقول أهل الأدب في هذا، فقد قال بعضهم: (المحن آداب الله عز وجل لخلقه، وتأديب الله بفتح القلوب، والأسماع، والأبصار)

وكتب آخر إلى صديق له في محنة لحقته: (إن الله تعالى ليمتحن العبد، ليكثر التواضع له، والاستعانة به، ويجدد الشكر على ما يوليه من كفايته، ويأخذ بيده في شدته، لن دوام النعم والعافية، يبطران الإنسان، حتى يعجب بنفسه، ويعدل عن ذكر ربه، وقد قال الشاعر:

لا يترك اللّه عبداً ليس يذكره... ممن يؤدّبه أو من يؤنّبه

أو نعمة تقتضي شكراً يدوم له أو نقمة حين ينسى الشكر تنكبه

قال: فالبلاء مدرسة من مدارس الله لتأديب عباده.. ألا تدربون جنودكم بالجوع

__________

(1) أخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً، ورواه مرفوعاً من وجه آخر.

ابتسامة الأنين (59)

والعطش؟

قلت: بلى.. بل لا يصح أن يحمل جندي اسم الجندية إلا إذا جاع وعطش ونزلت به كل المصائب.

قال: لم؟

قلت: ليتمرن، وتمتلئ نفسه صبرا، وقلبه شجاعة.

قال: فكذلك رحمة الله اقتضت أن يذيقكم بعض البلاء ليتربى في نفوسكم ما يعجز الترف على تربيته.

نعمة التذكير

قلت: فما نعمة التذكير؟

قال: هي التي أشار إليها قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (فاطر:37)، فمن الأقوال في تفسيرها أن المراد بالنذر الأمراض (1).

قلت: لقد ورد في هذا حديث لا أدري مدى صحته، هو: (الحمى رائد الموت، وسجن الله في الأرض) (2)

__________

(1) ومن الأقوال في تفسير الآية: أن النذير هو القرآن، وقيل الرسول؛ وقال ابن عباس: هو الشيب، وقيل: النذير الحمى، وقيل: موت الأهل والأقارب، وقيل: كمال العقل.

وكل هذه الأقوال صحيحة، ولا تعارض بينها، فالشيب نذير، لأنه يأتي في سن الاكتهال، قال الشاعر:

رأيت الشيب من نذر المنايا... لصاحبه وحسبك من نذير

وأما موت الأهل والأقارب والأصحاب والإخوان فإنذار بالرحيل في كل وقت وأوان، قال الشاعر:

وأراك تحملهم ولست تردهم... فكأنني بك قد حملت فلم ترد

وأما كمال العقل فبه تعرف حقائق الأمور، فالعاقل يعمل لآخرته ويرغب فيما عند ربه؛ فهو نذير.

وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فبعثه الله بشيرا ونذيرا إلى عباده قطعا لحججهم؛ قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء:165 انظر: القرطبي: 14/ 354.

(2) ابن السني وأبو نعيم في الطب.

ابتسامة الأنين (60)

قال: وقد ورد في الآثار ما يدل على هذا المعنى أيضا، فقد روي أن بعض الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ قال لملك الموت عليه السلام: أمالك رسول تقدمه بين يديك ليكون الناس على حذر منك؟ قال: نعم، لي والله رسل كثيرة من الإعلال والأمراض والشيب والهموم وتغير السمع والبصر، فإذا لم يتذكر من نزل به ولم يتب، فإذا قبضته ناديته: ألم أقدم إليك رسولاً بعد رسول ونذيراً بعد نذير؟ فأنا الرسول الذي ليس بعدي رسول، وأنا النذير الذي ليس بعدي نذير، فما من يوم تطلع فيه شمس ولا تغرب إلا وملك الموت ينادي: يا أبناء الأربعين، هذا وقت أخذ الزاد، أذهانكم حاضرة وأعضاؤكم قوية شداد. يا أبناء الخمسين قد دنا وقت الأخذ والحصاد، با أبناء الستين نسيتم العقاب وغفلتم عن رد الجواب فما لكم من نصير: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (فاطر:37)) (1)

قلت: فما وجه كون التذكير بهذا نعمة؟

قال: إذا علم المؤمن بقرب أجله سارع إلى المبادرة، قبل أن يفوت الأوان.. وليس ذلك فقط، بل إن البلاء في صوره المؤلمة يجعل صاحبه يقلع عما هو فيه من الغي، فلا يلقى الله وهو في سكرات غيه.

قلت: لقد ذكرتني ببديع الزمان حين قال..

ضحك، وقال مقاطعا لي: لا تحتاج لأن تذكره، فهو طبيب بصير من أطباء هذا المستشفى، فأصخ بصيرتك لتسمع إليه.

قال بديع الزمان: ثم إن الشيخوخة والمرض والبلاء، وما يحدث من وفيات هنا وهناك، تقطّر ذلك الألم المرير إلى نفس كل إنسان، وتُنذره دوماً بمصيره المحتوم، فلا جرم أن أولئك الضالين وأرباب السفاهة والمجون سيتأجج في قلوبهم جحيمٌ معنوي، يعذبهم بلظاه حتى لو تمتعوا بمباهج الدنيا ولذائذها، بيد أن الغفلة وحدها هي التي تحول دون استشعارهم ذلك

__________

(1) ذكره ابن الجوزي في كتاب: (روضة المشتاق والطريق إلى الملك الخلاق)

ابتسامة الأنين (61)

العذاب الأليم (1).

قلت: الله!.. ما أدق بصيرته! وما أحد نظره!

قال: أصخ سمعك ولا تقاطعه.

أصخت سمعي، فإذا به يقول، وكأنه يخاطب مريضا متألما يذكره بالكنوز المخبأة في طيات المرض: أيها المسكين الشاكي من المرض! إن المرض يغدو كنزاً عظيماً لبعض الناس، وهدية إلهية ثمينة لهم.. وباستطاعة كل مريض أن يتصور مرضه من هذا النوع، حيث أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يكون الأجلُ مجهولاً وقته، إنقاذاً للإنسان من اليأس المطلق أو من الغفلة المطلقة، وإبقاءاً له بين الخوف والرجاء، حفظاً لدنياه وآخرته من السقوط في هاوية الخسران.. أي أن الأجل متوقع مجيئه كل حين، فإن تمكّن من الإنسان وهو سادر في غفلته يكّبده خسائر فادحة في حياته الأخروية الأبدية. فالمرض يبدد تلك الغفلة ويشتتها، وبالتالي يذكّر بالآخرة ويستحضر الموت في الذهن فيتأهب له. بل يحدث أن يربّحه ربحاً عظيماً، فيفوز خلال عشرين يوماً بما قد يستعصي استحصاله خلال عشرين سنة كاملة (2).

قلت: يا بديع الزمان.. يا من تنور هذا المستشفى ببصيرته.. أخبرني بمثال على ذلك تثبت به قلبي.. فقد عهدتك صاحب أمثلة.

قال: كان هناك فَتَيان - يرحمهما الله -، ورغم كونهما أُميين من بين طلابي، فقد كنتُ ألحظُ بإعجاب موقعَهما في الصف الأول في الوفاء والصدق وفي خدمة الايمان، فلم أدرك حكمة ذلك في حينها، ولكن بعد وفاتهما علمت انهما كانا يعانيان من دائين عضالين، وبإرشاد من ذلك المرض أصبحا على تقوى عظيمة يسعيان في خدمة راقية، وفي وضع نافع لآخرتهما، على خلاف سائر الشباب الغافلين الساهين حتى عن فرائضهم، فنسأل الله أن تكون سنتا المرض والمعاناة اللتان

__________

(1) الكلمة الثالثة عشرة - ص: 158

(2) اللمعة الخامسة والعشرون: 326، بتصرف.

ابتسامة الأنين (62)

قضياهما في الحياة الدنيا قد تحولتا الى ملايين السنين من سعادة الحياة الابدية (1).

ثم سكت برهة، وقال: ومالي أذهب إلى أصحابي.. سأحدثك عن نفسي.. (حينما وطأت قدماي عتبة الشيخوخة، كانت صحتي الجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتمدّها قد اعتلّت أيضاً فاتفقت الشيخوخة والمرض معاً على شن الهجوم عليّ، وما زالا يكيلان على رأسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عنّي. ولم يكن لي ثمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدت أن عصارة عمري الذي أضعته بغفلة الشباب، إنما هي آثام وذنوب، فاستغثتُ صائحاً مثلما صاح نيازي المصري:

ذهب العُمر هباءً، لم أفز فيه بشيء

ولقد جئت أسير الدرب، لكنْ

رحل الرّكبُ بعيداً وبقيتْ

ذلك النائي الغريب وبكيتْ

همتُ وحدي تائهاً أطوي الطريق

وبعينيّ ينابيع الدموع

وبصدري حرقة الشوق

حار عقلي..!) (2)

نعمة الافتقار

قلت: فما نعمة الافتقار؟

قال: هي التي أشار إليها قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6

__________

(1) اللمعة الخامسة والعشرون: 326.

(2) اللمعة السادسة والعشرون: 345.

ابتسامة الأنين (63)

ـ 7)

قلت: لقد أخبر تعالى بأن رؤية الإنسان لغناه، تجعله طاغية ظالما متعديا لحدوده.

قال: ولذلك يكون الافتقار، وكل ما يؤدي إليه نعمة من النعم تخلص الإنسان من الطغيان، وتعيده إلى وضعه الطبيعي.

قلت: هذا تشير إليه آيات كثيرة، فالله تعالى يقول، وهو يبين سنة اجتماعية لا تكاد تتخلف: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} (الشورى:27)

قال: هذه حقيقة لا تدل عليها النصوص فقط، بل يدل عليها الواقع.. واقع كل الناس، فهم إن عاشوا الترف نسوا الخالق والمخلوق.. وظلموا وبغوا.

قلت: لقد قد ذكر الفخر الرازي علة لكون التوسع موجبا للطغيان، فقال: (الإنسان متكبر بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر، وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر فعاد إلى الطاعة والتواضع) (1)

قال: هذا صحيح، ولهذا كان من العقوبة التي تنزل على عباد الله الغافلين أن تفتح عليهم زهرة الدنيا، ويفاض عليهم نعيمها، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام:44)

ويروى في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا رأيتم الله تعالى يعطي العباد ما يشاءون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم)، ثم تلا قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام:44)) (2)

قلت: فقد قيل: إن السبب الذي حمل فرعون على قوله: {أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى}

__________

(1) التفسير الكبير.

(2) ابن أبي حاتم.

ابتسامة الأنين (64)

(النازعات:24) طول العافية والغنى، فإنه لبث أربعمائة سنة لم يتصدع رأسه، ولم يضرب عليه عرق.

قال: لو أخذته الشقيقة ساعة واحدة لشغله ذلك عن دعوى الربوبية.

قلت: ألهذا لا ينزل الله تعالى فرجه ابتداء في أكثر الأحوال؟

قال: أجل.. وهذا من رحمة الله بعباده.. لأن ما يأتيهم قبل الفرج من فضله الذي لم يلتفتوا إليه أعظم من الفرج نفسه.

قلت: هو يتركهم حتى يستشعروا فقرهم وحاجتهم الله.

قال: وحينذاك يفيض عليهم عطاؤه وغيثه.

قلت: لقد ذكر تعالى ذلك، فقال: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى:28)، وقال: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} (الروم:49)، وقال: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)

قال: ولهذا، فإن المتوسمين من عباد الله يستدلون بوجود الفاقات على قرب الصدقات، لأن الفاقة تحقق صاحبها بالافتقار، والافتقار يؤهل صاحبه للفضل.

قلت: فالفاقات إذن رسائل رحمة؟

قال: هذا ما يفهمه العارفون منها، فهم يعتبرون أفعال الله تعالى فيهم وفي غيرهم رسائل رحمة ومودة.. ولا يفهمون من تلك الأنات والبلايا إلا أنها حروف من الله تشهدهم وجود فاقتهم، وتشعرهم بحقيقتهم، لتشغلهم بالله عن أنفسهم.

قلت: لقد أشار ابن عطاء الله إلى هذا فقال: (خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وترد فيه إلى وجود ذِلتك)

وأشار إلى هذا المعنى في الحكمة الأخرى بقوله: (فاقتك لك ذاتية، وورود الأسباب

ابتسامة الأنين (65)

مذكرات لك بما خفي عليك منها، والفاقة الذاتية لا ترفعها العوارض)

قال: نعم، فإنه إذا علم العبد أن العدم سابق على وجوده، وأن وجوده مفتقر إلى المدد في كل وقت، وإلا تلاشى وانعدم، علم أن فاقته ذاتية، وأن الاضطرار لازم لوجوده، وأن ورود العلل المختلفة من الفقر والمرض مذكرات له بما خفي عليك من الفاقة الذاتية، فإن غالب الناس يغفلون عن الفاقة الذاتية إذا دامت عليهم صحة أبدانهم وكثرة أموالهم.

قلت: لقد تحدث بديع الزمان عما يحدثه البلاء من أنواع الفاقة والعجز، والتي تقرب المبتلى إلى ربه.

قال: فأصخ سمع بصيرتك إليه.. ألا تعلم أنه من أطباء هذا المستشفى؟

سمعت صوته، وهو يقول: إن البلايا والضر والأمراض تجعل صاحبها يشعر بعجزه وضعفه، فيلتجئ إلى ربه الرحيم، ويتوجه اليه ويلوذ به، فيؤدي بهذا عبادة خالصة، هذه العبادة خالصة زكية لا يدخل فيها الرياء قط، فإذا ما تجمل المصاب بالصبر وفكّر في ثواب ضره عند الله وجميل أجره عنده، وشكر ربه عليها، تحولت عندئذ كل ساعة من ساعات عمره كأنها يوم من العبادة، فيغدو عمره القصير جداً مديداً طويلاً، بل تتحول - عند بعضهم - كل دقيقة من دقائق عمره بمثابة يوم من العبادة.

قلت: فالبلاء إذن ـ يا بديع الزمان ـ مسجد من مساجد العبودية ومحراب من محاريبها؟

قال: ليس هذا فقط، بل هناك حكم أجل يبرزها فقر الإنسان، لها علاقة بالعرفان.

قلت: أفقر الإنسان يعرفه بالله؟

قال: بل يوصله إليه.

قلت: كيف ذلك؟

قال: (ان الله سبحانه قد أدرج في الانسان عجزاً لا حد له، وفقراً لانهاية له، إظهاراً لقدرته المطلقة وإبرازاً لرحمته الواسعة. وقد خلقه على صورة معينة بحيث يتألم بما لا يحصى من الجهات،

ابتسامة الأنين (66)

كما أنه يتلذذ بما لا يعد من الجهات، إظهاراً للنقوش الكثيرة لأسمائه الحسنى. فابدعه سبحانه على صورة ماكنة عجيبة تحوي مئات الآلات والدواليب، لكل منها آلامها ولذائذها ومهمتها وثوابها وجزاؤها، فكأن الاسماء الإلهية المتجلية في العالم الذي هو إنسان كبير تتجلى أكثرها أيضاً في هذا الانسان الذي هو عالم أصغر، وكما أن ما فيه من أمور نافعة - كالصحة والعافية واللذائذ وغيرها - تدفعه الى الشكر وتسوق تلك الماكنة الى القيام بوظائفها من عدة جهات، حتى يغدو الانسان كأنه ماكنة شكر. كذلك الامر في المصائب والأمراض والآلام وسائر المؤثرات المهيجة والمحركة، تسوق الدواليب الأخرى لتلك الماكنة الى العمل والحركة وتثيرها من مكمنها فتفجّر كنوز العجز والضعف والفقر المندرجة في الماهية الانسانية. فلا تمنح المصائبُ الانسانَ الالتجاء الى البارئ بلسان واحد، بل تجعله يلتجئ اليه ويستغيثه بلسان كل عضو من أعضائه) (1)

قلت: هذه نعم جليلة ينبتها غرس البلاء، المضمخ بعطر الافتقار.

قال: ليس هذا فقط بل إنه يلقن المريض أهم عرى الحياة الاجتماعية.. فهو لا يربطه بالله فقط، بل يربطه بالمجتمع أيضا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لأنه ينقذ الانسان من الاستغناء عن الآخرين، ذلك الاستغناء الذي يسوق الى الوحشة ويجرد الانسان من الرحمة، فالنفس الأمارة الواقعة في شباك الاستغناء - الناجم عن الصحة والعافية - لن تشعر بالاحترام اللائق تجاه العلاقات الاخوية، ولن تحس بالرحمة والرأفة بالمبتلين بالمصائب والامراض الجديرين بالرحمة والعطف، ولكن متى ما انتاب الانسان المرض وأدرك مدى عجزه، ومدى فقره، تحت ضغوط المرض وآلامه وأثقاله فانه يشعر بالاحترام لأشقائه المؤمنين اللائقين بالاحترام الذين يقومون برعايته، أو الذين يأتون لعيادته، ويشعر كذلك

__________

(1) اللمعة الثانية: 19.

ابتسامة الأنين (67)

بالرأفة الانسانية وهي خصلة إسلامية تجاه اهل المصائب والبلايا - قياساً على نفسه - فتفيض من قلبه الرحمة والرأفة بكل معناهما تجاههم، وتضطرم عنده الشفقة حارة ازاءهم، واذا استطاع قدّم لهم يد العون، وان لم يقدر عليه شرع بالدعاء لهم، أو بزيارتهم والاستفسار عن راحتهم وأحوالهم مؤدياً بذلك سنةً مشروعة كاسباً ثوابها العظيم) (1)

قلت: هنيئا للفقراء هذه النعم العظيمة التي يحملها فقرهم.

قال المعلم: لقد عرفت عند رحلتك لكنوز الفقراء كيف يطير الافتقار بالمؤمن، فلا يقف به إلا على باب الله تعالى، فيتوجه بكل كيانه إلى الرحيم الرحمن، كما يتوجه الصبي إلى أحضان أمه، فيكسب بالتجائه من اللذة ما ينسيه إلى كل ألم، بل يكون ذلك الألم هو طريق الأشواك القصير المحدود الذي أوصله إلى الجنان المزهرة.

قلت: لكانك تشير بقولك هذا، وبهذه الرحمة المكسوة بكساء الألم إلى قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} (الاسراء:28)

قال: هذا صحيح، ولذلك كان في الافتقار الذي ينشئه البلاء لذة يشعر بها العارفون لا تقل عن لذة شعور الصبي بالأمن، وهو يعود إلى أحضان أمه الدافئة.

قلت: فهذا من معاني قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216)

قال: أجل.. وكل هذا المستشفى تفسير لهذا القول.

قلت: لقد سمعت بعضهم يعبر عن هذا بسجود القلب؟

قال: أجل.. وقد سئل سهل التستري: (أيسجد القلب؟)، فقال: (نعم، يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء)

قلت: فهذا السجود الخاشع الدائم الذي يسجده القلب لا يكون إلا بالافتقار إلى الله.

__________

(1) اللمعة الخامسة والعشرون: 329.

ابتسامة الأنين (68)

قال: يحكى في هذا عن بعض العارفين أنه قال: (دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام، فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته، فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه) (1)

قلت: لهذه الآثار الجميلة التي يحدثها البلاء في النفس، ومع الله، ومع المجتمع، كان الحمد لله والشكر له يخرج من أفواه الصالحين غضا طريا مشفوعا بالشعور بالمنة لاعتقادهم أن الله ما ابتلاهم ليعذبهم، وإنما ابتلاهم ليخلصهم من أوزار نفوسهم، وليجعلهم أهلا له، وقد روي في الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: (إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل: مرحبا بشعار الصالحين، وإذا رأيت الغني مقبلا إليك فقل: ذنب عجلت عقوبته) (2)

وكان بعضهم إذا اشتد مرضه وجوعه يقول: (إلهي ابتليتني بالمرض والجوع، وكذلك تفعل بأوليائك، فبأي عمل أؤدي شكر ما أنعمت به علي)

وكان آخر يقول: (إلهي أجعتني، وأجعت عيالي وتركتني في ظلم الليالي بلا مصباح، وإنما تفعل ذلك بأوليائك فبأي منزلة نلت هذا منك؟)

وسر ذلك هو خوف الصالحين من الاستدراج بالنعيم، كما قال قائلهم: (والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخفف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه)

بل هذا ما صرح به صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما

__________

(1) مدارج السالكين: 1/ 430.

(2) وهذا ـ طبعا ـ ليس على عمومه، بل له محله الخاص، وقد ذكرنا المعنى الصحيح لهذا الخبر في رسالة (كنوز الفقراء)

ابتسامة الأنين (69)

أهلكتهم) (1)

نعمة المحدودية

قلت: فما نعمة المحدودية؟

قال: من نعم الله العظيمة في البلاء كونه محدودا.

قلت: من أي الجهات كان محدودا؟

قال: من جهة محله، أو من جهة الزمن الذي يستمر فيه.

قلت: فكيف كان البلاء محدودا من جهة المحل؟

قال: إن الله تعالى برحمته لم يبتل منك إلا أعضاء محدودة، أو محال محدودة، ورزقك بدلها من العوض ما يهون عليك ذلك الألم، أو ما تستأنس به بدل ذلك المفقود، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء:104)

قلت: فما وجه الإشارة في هذه الآية؟

قال: لقد رزق الله المؤمنين الرجاء عوضا عن الألم الذي أصابهم، وهو ما يخفف من حدة البلاء، ويجعله محدودا لا يتجاوز إلى أرواحهم التي هي محل الرجاء.

قلت: فهل تشير إلى هذا آيات أخرى؟

قال: أجل.. آيات كثيرة، فالله تعالى يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة:155)

فقد ذكر تعالى أن البلاء يكون بشيء من الخوف والجوع، أي بقليل منهما، وبنقص من الأموال والانفس والثمرات، أي ذهاب بعضها فقط وبقاء البعض الآخر.

__________

(1) أحمد والترمذي وابن ماجة عن عمرو بن عوف.

ابتسامة الأنين (70)

قلت: هذه إشارة جميلة ودقيقة.. ولكنها قد لا تفهم.

قال: إشارات القرآن الكريم لا يفهمها إلا المتدبرون.

قلت: فلنبسطها حتى يفهموها، ألم يجعل الله تعالى القرآن الكريم ميسرا للذكر؟

قال: إن الله تعالى ذكر في الآية أمرين: ذكر الابتلاء بصيغة المحدودية، وذكر التبشير بصيغة الإطلاق، فلم يحدد الجوائز المرتبطة بالبشارة.

قلت: لم؟

قال: لينمحق البلاء في البشارة، بالإضافة إلى انمحاقه في محدوديته.

قلت: فاضرب لي مثالا على ذلك.

قال: إذا جاز أن نمثل البلاء بشيء، فإن أقرب شيء إليه هو الحفرة التي تدمل الأرض بالجراح.

قلت: نعم هذا تقريب حسن، فالحفرة كالألم الذي أصاب جسد الإنسان.

قال: فإذا كانت الحفرة محدودة من حيث حجمها، ثم ملأناها بأكياس.. لا من الرمل.. بل من الذهب الخالص.. بل بما هو أشرف من الذهب وأغلى قيمة.. أيبقى للحفرة وجود؟

قلت: لو أن الأمر كذلك لتمنى صاحب الحفرة أن تكون حفرته أخدودا عظيما، بل بحرا عميقا، بل محيطا لا حدود له.

قال: الأمر كذلك.. ولكنكم لا تبصرون.

قلت: فهل هناك إشارة أخرى؟

قال: قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (البقرة:124)، فقد أخبر الله تعالى بأنه ابتلى إبراهيم عليه السلام بكلمات، أي ببعض البلاء، لا بكل البلاء، ومثل ذلك ما ذكر من أنواع البلاء التي حصلت للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فهي كلها من البلاء المحدود، والذي ينتهي غالبا بالفرج التوسعة.

ابتسامة الأنين (71)

قلت: فهل هناك إشارة أخرى؟

قال: قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30)، فقد أخبر تعالى أن من أسباب المصائب الذنوب، وأنه برحمته لا يعاقب على كل الذنوب، بل لو عاقب عليها لما ترك على ظهرها من دابة، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (فاطر:45)

قلت: لقد ورد في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30)، قول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عثرة قدم، إلا بذنب، وما يعفو اللّه عنه أكثر) (1)

وورد فيها ما رواه أبو جحيفة قال: دخلت على علي بن أبي طالب، فقال: ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه؟ قال، فسألناه، فتلا هذه الآية: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى:30)،، فقال: ما عاقب اللّه تعالى به في الدنيا، فاللّه أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة، وما عفا اللّه عنه في الدنيا، فاللّه أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة) (2)

قال: فالبلاء بهذا يصبح محدودا غاية المحدودية.. لأنك لا تقارنه ببلاء مثله، وإنما تقارنه بقدرة الله التي لا تحد، مع مشيئته النافذة في خلقه، فالله مع كونه ابتلاك إلا أنه ابتلاك بشيء محدود لا قيمة له بجنب ما صرف عنك.

قلت: لقد ذكرتني بحكاية رجل الصالح ذكره بعضهم، فقال: كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظهم للصلاة والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم والكلب يحرسهم، قال: فجاء الثعلب فأخذ الديك، فحزنوا له وكان الرجل صالحاً فقال: عسى أن يكون

__________

(1) أخرجه ابن أبي حاتم.

(2) أخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً، ورواه مرفوعاً من وجه آخر.

ابتسامة الأنين (72)

خيراً، ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله فحزنوا عليه فقال الرجل: عسى أن يكون خيراً، ثم أصيب الكلب بعد ذلك فقال عسى أن يكون خيراً، ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم، قال: وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة، فكانت الخيرة لهؤلاء في هلاك هذه الحيوانات كما قدّره الله تعالى.

فقد كانت هذه المصائب كبيرة في لحظة نزولها، ولكنها كانت بدلا عن مصائب أكبر، فنابت المصائب الصغيرة عن الكبيرة.

قال: بل أشار إلى هذا قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام حين خرق السفنية، وكانت مصيبة صغيرة أقل بكثير من أن يسلبوا السفينة، قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} (الكهف:79)

أو حين قتل الغلام، وهو مصيبة كبيرة في نفسه، ولكنه صغيرة إذا ما قورن بنتيجته، قال تعالى: {، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} (الكهف:80 ـ 81)

قلت: فهمت هذا.. وأدركت سر كونه نعمة.

قال: ليس هذا فقط.. بل إن من نعم هذه المصيبة التي حلت بك أنها كانت في الدنيا، ولم تكن في الدين، وكانت في الجسد، ولم تكن في الروح، وتعلقت بالدنيا، ولم تتعلق بالاخرة.

قلت: لا يفقه سر هذا إلا من عرف نسبة الدين إلى الدنيا، ونسبة الروح إلى الجسد، ونسبة النشأة الأولى إلى النشأة الآخرة.. فاضرب لي مثالا يقرب لي هذا المعنى.

قال: صاحب السيارة الذي تعرض لحادث، مات فيه من مات لكنه نجا، وتأثرت سيارته، فإن هذا وإن تأسف على ما أصابها، إلا أنه يحمد الله على أن المصيبة حلت بالسيارة، ولم تحل به.

قلت: هذا صحيح.. فكيف نطبق هذا المثل على ما نحن فيه؟

قال: لقد عرفنا أن الجسد مطية الروح ومركوبها، وأن غذاء الروح هو الدين، وسمها هو

ابتسامة الأنين (73)

التعلق بالدنيا.

قلت: أجل.. وقد ذكرتني بكلام جميل لبديع الزمان في هذا.

سمعت صوته، وهو يقول: (إن المصيبة التي تعدّ مصيبة حقاً والتي هي مضرة فعلاً، هي التي تصيب الدين. فلابد من الالتجاء الى الله سبحانه والانطراح بين يديه والتضرع اليه دون انقطاع. أما المصائب التي لاتمس الدين فهي في حقيقة الامر ليست بمصائب، لأن قسماً منها تنبيه رحماني! يبعثه الله سبحانه الى عبده ليوقظه من غفلته.. أما القسم الآخر من المصائب فهو كفارة للذنوب، وقسم آخر أيضاً من المصائب هو منحة إلهية لتطمين القلب وافراغ السكينة فيه، وذلك بدفع الغفلة التي تصيب الإنسان، وإشعاره بعجزه وفقره الكامنين في جبلته) (1)

قال: وهناك ناحية أخرى مهمة يمكن الاعتبار منها هنا تخفف من البلاء وتجعله محدودا، بل تكاد تلغيه.

قلت: ما هي؟ فقد شوقتني.

قال: هي محدودية آلام الدنيا مهما عظمت بآلام الآخرة ومصائبها.

قلت: يشير إلى هذا المعنى آيات كثيرة، فالله تعالى يقول: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (الشعراء:25 ـ 207)، أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأمهلناهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وإن طال، ثم جاءهم أمر اللّه، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم.

قال: لأنهم في ذلك الحين يدركون قصر عمر الدنيا التي كانوا يتفانون من أجلها.

قلت: وقد دل على ذلك آيات كثيرة، فالله تعالى يقول: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغ} (الاحقاف:35)، وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (النازعات:46)

__________

(1) اللمعة الثانية: ص 16. بتصرف.

ابتسامة الأنين (74)

قال: وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه (يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له هل رأيت خيراً قط؟ هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا واللّه يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا واللّه يا رب) (1)، فلحظة واحدة في الجنة تنسي أشد الناس بؤسا في الدنيا كل ما عاناه فيها.

قلت: فهمت الناحية الأولى، وعرفت أثرها ووجه كونها نعمة، فما الناحية الثانية؟

قال: محدودية الزمان.

قلت: فسرها لي.

قال: هي ما أشار إليه قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:156)

قلت: فما وجه الإشارة فيها؟

قال: كلمة الاسترجاع تحمل دلالة عظيمة على محدودية البلاء، فالمؤمن المبتلى سيرجع إلى ربه، وستنتهي برجوعه كل أصناف البلايا.

قلت: فاضرب لي مثالا على ذلك.

قال: أرأيت لو أن مسجونا سجن أياما معدودة.. وكان آمر السجن رحيما، فكان يرسل له كل يوم من يملؤه بالبشر، ويقول له: (إن هي إلا أيام وتعود إلى أهلك ومالك) ألا يستبشر هذا المسجود ويستأنس؟

قلت: بلى..

قال: فالله تعالى المبتلي لم يرسل لنا من يؤنسنا بذلك، بل هو الذي ملأنا بالأنس، فأخبرنا برجوعنا إليه ليمسح عنا كل دمعة، ويبرئ لنا كل جرح.

قلت: فهمت الإشارة.. فهل هناك إشارة أخرى؟

__________

(1) مسلم.

ابتسامة الأنين (75)

قال: قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} (الضحى:4)

قلت: هذه الآية في تبشير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال: لا.. هذه الآية تبشر الكل.. تبشر كل من يسمع من الله.. فلا يصح أن نحجر على كلام الله.

قلت: فما فيها؟

قال: ذكر الآخرة بعد ذكر البلاء يفيد عظم الجزاء الذي يشهده المبتلون بعد أن تنقضي فترة بلائهم.

قلت: ألهذا التفت السحرة إلى المدة التي يمكن لفرعون أن يعذبهم فيها؟

قال: أجل، لقد وجدوها قصيرة لا تساوي شيئا أمام ما عند الله، فقالوا له عندما وضعهم في ذلك الخيار الصعب: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (طه:72)

قلت: ولهذا يعبر تعالى عن عذاب الآخرة وبلائها بكونه: {أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه:127)

قال: ليملأ القلوب المتألمة بالأنس بانتهاء عذابها المحدود.

قلت: لا ـ يا معلم ـ فهي آية تخويف لا تأنيس.

قال: هي تخويف وتأنيس.. هي كالزرع الذي يسقى بماء واحد، ويفضل بعضه على بعض في الأكل، ألم تسمع قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد:4)

قلت: بلى.

قال: فذلك مطره النازل إلى الأرض، وهذا مطره النازل على القلوب.

قلت: فكيف يزرع هذا البسمة في القلوب المتألمة؟

ابتسامة الأنين (76)

قال: يروى أنّ يونس عليه السلام قال لجبريل: دلني على أعبد أهل الأرض، فدله على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه وذهب ببصره، فسمعه وهو يقول: إلهي متعتني بهما ما شئت أنت، وسلبتني ما شئت أنت، وأبقيت لي فيك الأمل يا بر يا وصول.

قلت: ما معنى هذا؟

قال: معناه ما صرح به باب مدينة العلم (1) فيما رواه عنه الأحنف بن قيس قال: ما سمعت بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحسن من كلام أمير المؤمنين علي حيث يقول: (إن للنكبات نهايات، لا بد لكل أحد إذا نكب من أن ينتهي إليها، فينبغي للعاقل إذا أصابته نكبة أن ينام لها حتى تنقضي مدتها، فإن في دفعها قبل انقضاء مدتها زيادة في مكروهها)

قلت: لقد استشهد الأحنف لهذا بقول الشاعر:

الدهر تخنق أحيانا قلادته...

فاصبر عليه ولا تجزع ولا تثب...

حتى يفرجها في حال مدتها...

فقد يزيد اختناقا كل مضطرب

قال: وزيادة على هذا كله، فإن المؤمن لا يغفل بالنظر إلى البلاء الذي نزل به عن الرخاء الذي عاشه، والذي لا تزال ترتسم ذكرياته في ذهنه يستأنس بها.

قلت: ألهذا إشارة من القرآن الكريم؟

قال: أجل، قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} (التوبة:25)، فقد وردت هذه

__________

(1) إشاة إلى قوله (: (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب) رواه ابن عدي والطبراني في الكبير، والحاكم.

ابتسامة الأنين (77)

الآية في موضع من مواضع الألم تذكرهم بأفضال الله السابقة لتملأهم أنسا بها.

قلت: لقد قال الشاعر في هذا وأحسن:

فلا تجزع وإن أعسرت يوماً... فقد أيسرت في الزمن الطويل

ولا تظنن بربّك ظنّ سوءٍ... فإنّ الله أولى بالجميل

قال: هذه سنة الله في عباده، فهو يبتلي بالسراء والضراء، فمن ابتلي بالسراء لا بد أن يبتلى ببعض الضراء، ومن رحمة الله محدودية الضراء بجنب السراء.

قلت: لقد أشار ابن مسعود إلى هذا بقوله: (لكل فرحةٍ تَرْحة، وما مُلِئَ بيتٌ فرحاً إلا مُلِئَ تَرحاً)

قلت: فما سر جعل البلاء محدودا؟

قال: لأن القصد منه هو الاختبار، والاختبار محدود من حيث الأسئلة المطروحة فيه، ومن حيث المدة التي تطرح فيها تلك الأسئلة.

قلت: فما هي المكاسب التي أنالها من هذه المحدودية؟

قال: أول مكسب لك في هذا هو تقليل عدد مصائبك وتحجيمها، بل تقزيمها، كما قال بعض الصالحين: (إذا نزلت بك مصيبة فصبرت، كانت مصيبتك واحدة، وإن نزلت بك ولم تصبر، فقد أُصبت بمصيبتين: فقدان المحبوب، وفقدان الثواب)

قلت: لقد ذكرتني ـ يا معلم ـ بأحاديث جميلة للصالحين، فإنهم لا يغفلون بما حل بهم من بلاء عما بهم من نعم الله:

فقد حدث بعض الصالحين، قال: مررت بعريش من مصر وأنا أريد الرباط، فإذا أنا برجل في مظلة قد ذهبت عيناه ويداه ورجلاه، وبه أنواع البلاء وهو يقول: الحمد لله حمدا يوافي محامد خلقك بما أنعمت علي وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا. فقلت: لأنظرن أشيء علمه أم ألهمه الله إلهاما؟ فقلت: على أي نعمة من نعمه تحمده؟ أم على أي فضيلة تشكره؟ فوالله لو أرسل

ابتسامة الأنين (78)

السماء علي نارا فأحرقتني، وأمر الجبال فدكدتني، وأمر البحار فغرقتني ما ازددت له إلا حمدا وشكرا وإن لي إليك حاجة: بنية لي كانت تخدمني وتتعاهدني عند إفطاري انظر هل تحس بها؟ وقال عبد الوهاب بني كان لي فقلت: والله إني لأرجو أن يكون لي في قضاء حاجة هذا العبد الصالح قربة إلى الله عز وجل. فخرجت أطلبها بين تلك الرمال فإذا السبع قد أكلها. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، من أين آتي هذا العبد الصالح أخبره بموت ابنته؟ فأتيته فقلت له: أنت أعظم عند الله منزلة أم أيوب عليه السلام؟ ابتلاه الله في ماله وولده وأهله وبدنه حتى صار عرضا للناس؟ فقال: لا بل أيوب. قلت: فإن ابنتك التي أمرتني أن أطلبها أصبتها وإذا السبع قد أكلها. فقال: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا وفي قلبي منها شيء. فشهق شهقة فمات. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، من يعينني على غسله ودفنه؟ فإذا أنا بركب يريدون الرباط، فأشرت إليهم فأقبلوا إلي فأخبرتهم بالذي كان من أمره فغسلناه وكفناه ودفناه في مظلته تلك، ومضى القوم. وبت ليلتي في مظلته آنسا به حتى إذا مضى من الليل قد ثلثه إذا أنا به في روضة خضراء، وإذا عليه حلتان خضراوان، وهو قائم يتلو القرآن. فقلت ألست صاحبي بالأمس؟ فقال: بلى. فقلت: فما صيرك إلى ما أرى؟ قال: وردت من الصابرين على درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء.

نعمة السكينة

قلت: فما نعمة السكينة؟

قال: هي تلك الطمأنينة التي يجدها المؤمن عقب بلائه، وهي تثبيت الله تعالى للقلوب المتألمة، ولولاه لزلزل بها.

قلت: أهي الصبر؟ فالثبات هو ثمرة الصبر.. وهو نعمة تجعل في القلوب قدرة عجيبة على التحمل والتعايش مع البلاء.

ابتسامة الأنين (79)

قال: هي قريبة من نعمة الصبر.. ولكنها أعظم شأنا.

قلت: كيف؟

قال: السكينة هبة ربانية تنزل على من توفرت فيهم الأهلية، بينما الصبر عمل إنساني وجهد يمارسه المكلف ليتحقق به (1).

قلت: ألهذا ورد الأمر بالصبر، ولم يرد الأمر بالسكينة، فقد قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة:45)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ((البقرة:153)، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران:186)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران:200)، ولم يأت في آية واحدة الأمر بالسكينة.

قال: السكينة لا يؤمر بها، لأنها تتنزل.. وما يتنزل لا يؤمر به.. وإن صح أن يؤمر به، فإنه يؤمر بالتحقق بأهلية التنزل.

قلت: وما أهلية التنزل؟

قال: وقوف المؤمن في مواقف الخوف والشدة والزلزلة.

قلت: لقد نهينا عن طلب البلاء.

قال: لا أقصد ذلك.. ولكني أقصد أن تتعرض للبلاء المرتبط بالخوف والشدة والزلزلة.

قلت: فكل الخلق يتعرضون لذلك.. هذا من ضرورات الاختبار.

قال: فيهم من يتعرض لها بالله، وفيهم من يتعرض لها بنفسه.

قلت: فمن تعرض لها بنفسه؟

__________

(1) وقد يتفق الصبر السكينة في كونهما هبة ربانية، كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة:250)

ابتسامة الأنين (80)

قال: يوكل إليها.. وقد يلتجئ إلى الصبر.. وقد يضيق به الصبر، فينتحر بجسده أو بروحه.

قلت: فمن تعرض لها بالله؟

قال: تتنزل عليه السكينة لتخبره بتولي الله له، وقيامه بشأنه.

قلت: ألهذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مواقف الشدة يطلب السكينة؟.. فقد حدث بعضهم، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلدة بطنه، وهو يرتجز بكلمة عبدالله بن رواحة:

لاهم لولا أنت ما اهتدينا... ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا... وثبت الأقدام إن لاقينا

إن الأولى قد بغوا علينا... وإن أرادوا فتنة أبينا

قال: أجل.. ولهذا وردت السكينة في القرآن الكريم في مواضع الشدة (1).

قلت: وهي في أغلبها تتعلق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعصبة المؤمنة معه (2).

قال: أجل.. والعصبة المؤمنة معه تشمل صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنتجبين إلى يوم القيامة.

قلت: الصحابة المنتجبون ماتوا.

قال: من اصطلح على تسميتهم كذلك ماتوا.. ولكن من صاحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأرواحهم لا تخلو منهم الأرض.. ولو خلت منهم الأرض لأذن الله للقيامة أن تقوم.

نعمة التطهير

__________

(1) قال تعالى: {، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ((التوبة:26) وقال تعالى: {، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ((الفتح:4)

(2) ما عدا ما ورد في سورة البقرة في قوله تعالى: {، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (البقرة:248) فإن السكينة هنا ارتبطت بالتابوت، قال ابن عباس: (كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة)

ابتسامة الأنين (81)

قلت: فما نعمة التطهير؟

قال: الله تعالى برحمته ولطفه يحب عبادة المتطهرين (1)، فلذلك يهيء لهم من أسباب الطهارة ما يغسل به الأدران عنهم.

قلت: لقد قال تعالى في المطر الذي أنزله يوم بدر: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (لأنفال:11)، وقال في الصدقات: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة:103)، وقال في المحسنين: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الزمر:35)

قال: أجل.. فالله تعالى ينزل على عباده من أسباب الطهارة ما يجعلهم أهلا لكل فضيلة.

قلت: والبلاء من هذه الأسباب؟

قال: أجل.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها) (2)

وعندما نزل قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} (النساء:123) بلغت من المسلمين مبلغا شديدا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها) (3)

والنصوص الكثيرة تنطق بهذا المعنى، فعندما دخل عبد الله بن مسعود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه وجده وهو يوعك وعكا شديدا، فقال: إنك لتوعك وعكا شديدا، إن ذاك بأن لك أجرين

__________

(1) كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة:108)

(2) البخاري ومسلم.

(3) البخاري ومسلم.

ابتسامة الأنين (82)

قال: (أجل ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات ورق الشجر) (1)

ولذلك يتخلص المؤمن في مرضه ـ بقدر سعة صبره ورضاه ـ من كل الذنوب التي رانت على قلبه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما مثل المريض إذا برأ وصح كالبردة تقع من السماء في صفائها ولونها) (2)

ويخبر ابن عباس قال: شكا نبى من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ إلى ربه فقال: (يا رب، العبد المؤمن يطيعك ويجتنب معاصيك تزوى عنه الدنيا وتعرض له البلاء ويكون الكافر لا يطيعك ويجترئ عليك وعلى معاصيك تزوى عنه البلاء وتبسط له الدنيا فأوحى الله تعالى إليه إن العباد والبلاء لي وكل يسبح بحمدى فيكون المؤمن عليه من الذنوب فأزوى عنه الدنيا وأعرض له البلاء فيكون كفارة لذنوبه حتى يلقانى فأجز به بحسناته ويكون الكافر له الحسنات فأبسط له فى الرزق وأزوى عنه البلاء فأجزيه بحسناته فى الدنيا حتى يلقانى فأجزيه بسيئاته)

قلت: ألهذا إذن وردت النصوص بالنهي عن سب المرض، فقد دخل صلى الله عليه وآله وسلم على أم السائب، فقال: (ما لك يا أم السائب تزفزفين؟) قالت: (الحمى، لا بارك الله فيها)، فقال: (لا تسبي الحمى،

__________

(1) البخاري ومسلم.

(2) الترمذي: 4/ 411.

ابتسامة الأنين (83)

فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد (1) (2)

قال: أجل.. فهو رحمة من رحمات الله.. ولا ينبغي أن يسب عاقل رحمة الله.

قلت: ألهذا ـ أيضا ـ ورد في النصوص كراهية العافية الدائمة، فقد روي أن رجلا جاءه الموت في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رجل: (هنيئا له مات ولم يبتل بمرض)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ويحك وما يدريك لو أن الله ابتلاه بمرض يكفر به عنه من سيئاته)

وروي عن الربيع بن عميلة قال: كنا مع عمار بن ياسر، وعنده أعرابي، فذكروا المرض، فقال الأعرابي: ما مرضت قط، فقال عمار: (لست منا، إن المسلم يبتلى بالبلاء، فيكون كفارة خطاياه، فتتحات كما تتحات ورق الشجر، وإن الكافر يبتلى فيكون مثله كمثل البعير عقل فلا يدري لم عقل؛ ويطلق، فلا يدري لم أطلق) (3)

قال: ليس ذلك على إطلاقه.. فالله أعلم أين يضع عافيته وبلاءه، والمؤمن لا يختار مع الله.. ولكنه إن ابتلي ببلاء شكر.

قلت: أيشكر أم يصبر؟

__________

(1) ثبت علميا أنه عند الإصابة بالحمى تزيد نسبة مادة (الأنترفيرون) لدرجة كبيرة كما ثبت أن هذه المادة التي تفرزها خلايا الدم البيضاء تستطيع القضاء على الفيروسات التي هاجمت الجسم وتكون أكثر قدرة على تكوين الأجسام المضادة الواقية... فضلا عن ذلك فقد ثبت أن مادة (الأنترفيرون) التي تفرز بغزارة أثناء الإصابة بالحمى لا تخلص الجسم من الفيروسات والبكتريا فحسب ولكنها تزيد مقاومة الجسم ضد الأمراض وقدرتها على القضاء على الخلايا السرطانية منذ بدء تكوينها وبالتالي حماية الجسم من ظهور أي خلايا سرطانية يمكن أن تؤدى إلى إصابة الجسم بمرض السرطان ولذا قال بعض الأطباء إن كثيرا من الأمراض نستبشر فيها بالحمى كما يستبشر المريض بالعافية فتكون الحمى فيها أنفع من شرب الدواء بكثير مثل مرض الرماتيزم المفصلى الذي تتصلب فيه المفاصل وتصبح غير قادرة على التحرك ولذلك من ضمن طرق العلاج الطبي في مثل هذه الحالات الحمى الصناعية أي إيجاد حالة حمى في المريض يحقنه بمواد معينة ومن هنا ندرك حكمة رسول الله (في رفض سب الحمى بل والإشادة بها بوصفها تنقى الذنوب كما تنقى النار خبث الحديد كما أشار هذا الحديث الشريف، انظر: الإعجاز العلمي في الإسلام والسنة النبوية " لمحمد كامل عبد الصمد.

(2) رواه مسلم.

(3) ابن عساكر.

ابتسامة الأنين (84)

قال: النعم تشكر.. وقد عرفت أن البلاء نعمة.

قلت: ولكنه ورد بالأمر بالصبر معه.

قال: الصبر هو الثبات في وجهه.. والشكر هو النظر إلى المحاسن التي يختزنها البلاء.. والصبر هو مقام الغافلين.. والشكر هو مقام العارفين.

قلت: ألهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يبشر المرضى، فقد عاد صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من وعك كان به فقال: (أبشر، فإن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المذنب لتكون حظه من النار) (1)

وعاد صلى الله عليه وآله وسلم أم العلاء، وهي مريضة فقال: (أبشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة) (2)

قال: أجل.. ليخبرهم أن ما نزل بهم نعمة تستحق الشكر لا الأنين.

قلت: والمعاندون المعارضون.. كيف نبشرهم؟

قال: بما يبشر به العارفون.

قلت: فإن أعرضوا؟

قال: تعرض عنهم.. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أعرابي يعوده وهو محموم، فقال: (كفارة وطهور)، فقال الأعرابي: (بل حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور)، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتركه (3).

قلت: فما سر كون البلاء مطهرا من الذنوب؟

قال: هو ما يحدثه في القلب من ترفع عن الدنيا، وعدم تعلق بها، ونوع من الزهد فيها، فحب الدنيا رأس كل خطيئة.. ألم تسمع ببصيرتك ما يقول الغزالي.. فهو من أطباء هذا المستشفى

__________

(1) أحمد والحاكم وابن ماجة.

(2) مسلم.

(3) البيهقي في شعب الإيمان.

ابتسامة الأنين (85)

وكل مستشفى؟

أصخت ببصيرتي، فإذا بي أسمعه، وهو يقول: رأس أسباب النجاة التجافى بالقلب عن دار الغرور، ومواتاة النعم على وفق المراد من غير امتزاج ببلاء ومصيبة تورث طمأنينة القلب إلى الدنيا وأسبابها، وأنسه بها حتى تصير كالجنة فى حقه، فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته، وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه عن الدنيا، ولم يسكن إليها، ولم يأنس بها وصارت سجنا عليه (1)، وكانت نجاته منها غاية اللذة كالخلاص من السجن.

قلت: البلاء نعمة من هذا الوجه يجب الفرح بها.. ولكن الألم مع ذلك موجود.

قال: هو ضرورى، وهو يضاهى فرحك عند الحاجة إلى الحجامة بمن يتولى حجامتك مجانا، أو يسقيك دواء نافعا بشعا مجانا، فإنك تتألم، وتفرح، فتصبر على الألم وتشكره على سبب الفرح، فكل بلاء فى الأمور الدنيوية مثاله الدواء الذى يؤلم فى الحال وينفع فى المآل.

قلت: هذا مثال رائع.. وهو يجعل المعنى قريبا إلى الخيال كقرب الحس.

قال: وعكس ذلك من دخل دار ملك للنظر فيها، وعلم أنه يخرج منها لا محالة، فرأى وجها حسنا لا يخرج معه من الدار.. فإن ذلك وبال عليه وبلاء..

قلت: لم.. فقد رأى حسنا.

قال: لأنه يورثه الأنس بمنزل لا يمكنه المقام فيه، ولو كان عليه فى المقام خطر من أن يطلع عليه الملك فيعذبه، فأصابه ما يكره حتى نفره عن المقام كان ذلك نعمة عليه.

وهكذا الدنيا، فهي (منزل وقد دخلها الناس من باب الرحم، وهم خارجون عنها من باب اللحد، فكل ما يحقق أنسهم بالمنزل فهو بلاء، وكل ما يزعج قلوبهم عنها ويقطع أنسهم بها فهو نعمة، فمن عرف هذا تصور منه أن يشكر على البلايا ومن لم يعرف هذه النعم فى البلاء لم يتصور منه الشكر لأن الشكر يتبع معرفة النعمة بالضرورة ومن لا يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر

__________

(1) وفي هذا يقول (: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) رواه مسلم.

ابتسامة الأنين (86)

من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة) (1)

نعمة المعاينة

قلت: فما نعمة المعاينة؟

قال: هي نعمة رؤية الله لموقف عبده، ومعاينته لصبره ورضاه.

قلت: الله يرى الكل، ويعاين الكل، فإنه {لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} (آل عمران:5)، فما وجه الاختصاص في هذه النعمة؟

قال: الله يرى الكل.. ولكن لا يشعر برؤيته إلا خواص الخواص.

قلت: من هم؟

قال: الذين رفع الله عن أعينهم الغشاوة، وعن قلوبهم الحجب.

قلت: فما يفيدهم استشعار رؤية الله لهم؟

قال: الأنس الذي يقضي على بلائهم.

قلت: هم يأنسون بالله دائما.. فما علاقة ذلك بالألم والبلاء؟

قال: ألم يبتلهم الله لينظر كيف يعملون؟

قلت: بلى، فقد قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:105)

قال: أليس الثبات في وجه البلاء بالأنس بالله عملا من الأعمال الصالحة؟

قلت: بلى.. بل هو من أعظم الأعمال الصالحة، ولذلك ينزل الله البلاء على عبده بحسب درجة إيمانه.

قال: فإذا شعرت بأن الله الذي ابتلاك ينظر إليك ألا تتقن عملك؟

__________

(1) إحياء علوم الدين: 4/ 130.

ابتسامة الأنين (87)

قلت: تقصد إتقان موقفي مع البلاء.

قال: أجل.

قلت: نعم، فشعوري برؤية الله لي لا يزيدني أنسا فقط، بل أشعر بشعور لست أدري مدى صحته.

قال: وما تشعر؟

قلت: ممارسو الرياضات عندنا يستقدمون مشجعيهم، فلذلك كلما كثر مشجعوهم كلما زاد ذلك من حماستهم، فشعوري برؤية الله يعطيني نوعا من هذه القوة.

قال: هذا صحيح.. ولو أن الله أعظم من كل المتفرجين..

قلت: أجل، فلله المثل الأعلى.

قال: لقد دلت النصوص هذا المعنى، فالله تعالى يقول لنوح عليه السلام وهو يواجه أعظم المصائب والضغوط من قومه حين صنعه للفلك: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} (هود:37)

قلت: لا شك أن هذه الكلمة كان لها أثرا خطيرا في نفس نوح عليه السلام.

قال: أجل.. وقد قيل مثلها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال الله تعالى له، وهو في مواقف لا تقل عن موقف نوح عليه السلام: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور:48)

قلت: لقد ذكرتني بسيّد الشهداء الحسين بن علي، فقد قال بعد أن تفاقم الخطب أمامه في كربلاء، واستشهد أصحابه وأهل بيته: (هون علي ما نَزَلَ بِي أَنهُ بِعَيْنِ اللهِ)

قال: ولهذا اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم الإحسان الذي هو قمة الأعمال الصالحة، أو أداء الأعمال بأحسن الكيفيات متعلقا بالشعور برؤية الله سواء كان رؤية معاينة أو رؤية مراقبة.

قلت: ولكن هذه النعمة ـ يا معلم ـ مختصة بالمحسنين، وهذا المستشفى يداوي عموم الناس، فكيف يعطى لهم مثل هذا الدواء الذي قد لا يستسيغونه؟

قال: أطباؤكم يعطون مرضاكم أدوية كثيرة لا تستسيغها أجسامهم، ولا تأنس لها، بل هي

ابتسامة الأنين (88)

تثير فيها عللا كثيرة، فهل منعهم ذلك من استعمالها؟

قلت: لا.. فشعورهم بخطر الداء الذي يقفون في وجهه يدعوهم لممارسة كل الأساليب.

قال: فكذلك الأولياء يعالجون الخلق بأدوية كثيرة، منها ما يفهمونه، ومنها ما لا يفهمونه، فما استساغوه انتفعوا به، وما لم يستسيغوه أعطاهم نوعا من الشوق لاستساغته.

قلت: فما ينفع الشوق؟

قال: من لم يحترق جوفه بلهيب الأشواق، لم يستسغ تلك الأذواق.

قلت: كيف؟

قال: لا يعرف لذة الماء إلا من أحرق العطش جوفه.

قلت: فهمت.

قال: ما فهمت.

قلت: سر الإغراب والغموض الذي يضع هالة جميلة على كلام الحكماء من أهل الله.

قال: هو يضع تلك الهالة لتثير الأشواق.. فإذا ثارت الأشواق كان الوصول بقدرها.

نعمة الثواب

قلت: فما نعمة الثواب؟

قال: حينما تزاح الغشاوة التي تكسو العيون في الدنيا، فتفسد بسببها المقاييس يدرك الخلق الكنوز التي كان يخفيها البلاء، فيودون ما أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض) (1)

قلت: هذا حديث عظيم.

قال: فبشر به.

__________

(1) الترمذي كتاب الزهد رقم (2403) عن جابر وقال هذا حديث غريب.

ابتسامة الأنين (89)

قلت: كيف؟

قال: علقه على أبواب المستشفيات.. واكتبه على كل وصفة مريض.. واذكره لكل مبتلى.

قلت: لا أعرف أن مثل هذا من الأعمال الخيرية التي يؤجر عليها.

قال: هذا من أعمال الرسل وخلفاء الرسل، فهم الذين أرسلوا بالبشارة وللبشارة.. أليس دين الله أعظم بشارة؟.. ألم يرسل المسيح عليه السلام لأجل هدف واحد هو البشارة؟

قلت: أجل، بل إن لفظ (الإنجيل) نفسها تعني البشارة.

قال: ألم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكل ما يملأ المبتلى بالبشر والأنس؟

قلت: بلى.

قال: فهذا من ذاك.

قلت: فما الثواب المعد لأهل البلاء غير ما ذكرنا من النعم؟

عدم الحساب

قال: أول ثواب عدم حسابهم يوم القيامة.

قلت: هذه نعمة عظيمة لا يمكن تصورها، فإن أعظم ما يخافه كل مؤمن هو الحساب.. أن تنشر صحفه، فيعاين جرائمه.. أو يفضح بين الخلائق.. إنه موقف صعب جدا.. فأحدنا لا يطيق الوقوف في محكمة الدنيا ليحاسب، فكيف يطيق الوقوف في محكمة الآخرة؟

قال: ومع ذلك، فقد وردت البشارات لأهل البلاء الناجحين بهذا النوع من الثواب، فقد روي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها لمم فقالت: (يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني) قال: (إن شئت دعوت الله أن يشفيك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك)، قالت: (بل أصبر ولا حساب علي) (1)

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى بالشهيد يوم القيامة، فينصب للحساب، ويؤتى

__________

(1) أحمد وابن حبان والحاكم.

ابتسامة الأنين (90)

بالمتصدق، فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض، من حسن ثواب الله لهم) (1)

قلت: هذه بشارة عظيمة ترفع المبتلى إلى درجات تفوق درجات الشهداء والمتصدقين.

قال: ليس ذلك على الله بعزيز، فإن من المبتلين من يموت في اليوم مائة مرة، بينما الشهيد لا يموت إلا مرة واحدة (2).

قلت: أهذا احتقار للشهادة؟

قال: لولا عظمة الشهادة ما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموقف.

قلت: فما سر هذا الجزاء؟

قال: ألم نعلم أن البلاء الذي يقع على المؤمن المحتسب يطهره من ذنوبه.

قلت: عرفنا ذلك عند معاينة نعمة التطهير.

قال: فلذلك إن عظم البلاء، وصبر عليه المبتلى، لقي الله وليس عليه ذنب يحاسبه عليه.

قلت: لقد روي في هذا عن أنس قال دخلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعود زيد بن أرقم وهو يشتكي عينيه فقال له: (يا زيد، لو كان بصرك لما به كيف كنت تصنع؟)، قال: (إذا أصبر وأحتسب)، قال: (إن كان بصرك لما به ثم صبرت واحتسبت لتلقين الله عز وجل وليس لك ذنب) (3)

قال: ولكن هذه البشارة العظيمة لها فئة محدودة.

قلت: وكيف عرفت ذلك.. هل اطلعت على قوائم أهل الآخرة فترى من يعفى منهم من الحساب؟

__________

(1) الطبراني في الكبير.

(2) بل إن البلاء العام الذي يصاحبه الرضا شهادة في سبيل الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: (الطاعون شهادة لكل مسلم) البخاري ومسلم.

(3) أبو يعلى، وابن عساكر.

ابتسامة الأنين (91)

قال: أنا أضعف من أطلع.. ولكن الله أطلعنا.

قلت: أين؟

قال: ألم تقرأ قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عُرِضَت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط (1)، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رُفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلِدوا في الإسلام فلم يُشركوا بالله شيئاً-وذكروا أشياء- فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما الذي تخوضون فيه؟) فأخبروه فقال: (هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون) (2)

قلت: إذن هم سبعون ألفا.. هو عدد لا بأس به.

قال: وقد ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأوصافهم ليتنافس في الوصول إلى درجاتهم.

قلت: أجل، فهم الذين لا يطلبون من أحد أن يرقيهم أو يكويهم، فهم لا يسألون أحداً إلا الله، حتى في ساعات الضعف والمرض.

الجنة

قال: وأما الثواب الثاني الذي الذي وردت به النصوص، فهو دار السعادة الأبدية.

قلت: الجنة!؟

قال: لقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن البلاء الذي يصاحبه الرضا والصبر يقود صاحبه إلى الجنة، ومما يروى في ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد

__________

(1) تصغير رهط وهو ما دون العشرة أنفس.

(2) البخاري ومسلم.

ابتسامة الأنين (92)

عينيه) (1)

قلت: هذا ثواب عظيم.. فالجنة هي الدار التي تهفو لها القلوب.

قال: ومن رحمة الله بعباده أن جعل لها هذا الجزاء الذي لا يستدعي غير الثبات.

قلت: ولكن يبدو أن هذا الجزاء العظيم لا يكون إلا في البلاء العظيم المستمر، ولأهل العزيمة في الصبر.

قال: هذا صحيح، وهو ما توحي به النصوص، فقد روي عن عطاء قال، قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة مِنْ أهل الجنة؟ فقلت: بلى. قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع اللَّه تعالى لي، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت اللَّه تعالى أن يعافيك)، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع اللَّه أن لا أتكشف، فدعا لها) (2)

وعن أبي سنان قال: دفنت ابناً لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولاني) فأخرجني وقال لي: ألا أبشِّرك؟ قلت: بلى، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (قال اللّه: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم، قال: فما قال؟ قال: حمدك واسترجع، قال: ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد) (3)

رفع الدرجات

قلت: فما الثواب الثالث؟

قال: رفع الدرجات.

قلت: وما رفع الدرجات؟

__________

(1) رواه البخاري والترمذي.

(2) البخاري ومسلم.

(3) أحمد والترمذي.

ابتسامة الأنين (93)

قال: ترقية العبد من محل في الجنة إلى محل أعلى.. ألا تعرفون الترقيات؟

قلت: بلى.. نعرفها.. ونتنافس فيها.

قال: فقل لقومك: (تنافسوا في درجات الجنة.. ودعوا عنكم الصراع على تلك الدرجات التي ينشغل بها الأطفال)

قلت: هم لا يسمعون مني.

قال: فأسمعهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى) (1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيصبر إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة) (2)

قلت: يبدو أن هذا الجزاء العظيم يرتبط كذلك بالبلاء العظيم.

قال: أجل، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل يكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها، وبأن عظم الجزاء مع عظم البلاء (3).

قلت: ألهذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن أكثر الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل، فالأمثل.

قال: أجل، فقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الانبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة) (4)

قلت: فالطامحون للدرجات العليا معرضون للبلاء إذن أكثر من غيرهم.

قال: يروى في ذلك أن رجلا قال لموسى: يا موسى، سل الله لي حاجة يقضيها لي هو أعلم

__________

(1) رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط.

(2) ابن جرير.

(3) الترمذي وقال حديث حسن غريب.

(4) أحمد والبخاري وابن ماجة والترمذي وابن حبان والحاكم.

ابتسامة الأنين (94)

بها؛ ففعل موسى؛ فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزق السبع لحمه وقتله؛ فقال موسى: ما بال هذا يا رب؟ فقال الله تبارك وتعالى له: (يا موسى انه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها بعمله فأصبته بما ترى لأجعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة)، فكان أبو سليمان الداراني إذا ذكر هذا الحديث يقول: سبحان من كان قادرا على أن ينيله تلك الدرجة بلا بلوى، ولكنه يفعل ما يشاء.

صلاة الله

قلت: فما الثواب الرابع؟

قال: هو ما نص عليه قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:155 ـ 157)

قلت: فما في هذا من الثواب؟

قال: لقد أخبر تعالى عن صلاته ورحمته بهؤلاء الصابرين، وهل هناك جزاء أعظم من صلاة الله على عبده.

قلت: فهل صلاة الله على عبده جزاء؟

قال: جزاء فوق الأجزية.. بل لا تعدلها أي جائزة أخرى.

قلت: فما تعني؟

قال: هي تقريب الله لعبده، والقرب لا يساويه جزاء ولا يطاوله ثواب، فهو إخراج من الظلمات إلى النور، ومن الحجاب إلى المشاهدة، ألم تسمع قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب:43

قلت: بلى، فما يعني هذا؟

قال: البلاء نافذة عظيمة من نوافذ التعرف على الله والتقرب منه، والتعرف على الله هو النور الذي يرفع كل الظلمات، والحق الذي يقتل كل باطل.

ابتسامة الأنين (95)

قلت: لقد ذكرتني بحكمة لابن عطاء الله يقول فيها: (إذا فتحَ لكَ وِجْهةً من التَّعرُّفِ فلا تبالِ معها أن قلَّ عملُكَ؛ فإنه ما فَتَحَها لك إلا وهو يريد أن يتعرَّفَ إليكَ.. ألم تعلم أن التَّعَرُّفَ هو مُورِدُهُ عليك، والأعمال أنت مهديها إليه، وأين ما تُهديه إليه مما هو مُورِدُهُ عليكَ)

استمرار الثواب

قلت: يا معلم.. كل ما ذكرته، وما وردت به النصوص ثواب عظيم، ولكنه مع ذلك قد يحال بين المريض وبين كثير من أعمال البر، وتلك خسارة عظيمة.

قال: لا.. فالله الشكور الحليم لا يضيع عمل عبده إن قعد به الداء عنه، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد إذا مرض أوحى الله تعالى إلى ملائكته: أنا قيدت عبدي بقيد من قيودي، فإن أقبضه اغفر له، وإن أعافه فحينئذ يقعد لا ذنب له) (1).

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم يصاب في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة: اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير ما كان يعمل، ما دام محبوسا في وثاقي) (2)

وفي الأثر الإلهي: (قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني وصبر على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر وهو صحيح) (3)

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأن مجرد الاسترجاع عند تذكر المصيبة له ثوابه عند الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة فيذكرها، وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد اللّه له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب) (4)

__________

(1) الحاكم عن أبي أمامة.

(2) الحاكم عن ابن عمرو.

(3) أحمد والطبراني في الكبير وأبو نعيم عن شداد بن أوس.

(4) أحمد وابن ماجة.

ابتسامة الأنين (96)

ثانيا ـ حصن الأمل

دخلنا الحصن الثاني من حصون الروح.. وقد كانت تفوح منه روائح عطرة تنشرح لها الصدور.. وتشع من جنباته أنوار تسر لها العين، ويبتهج لها القلب.

وقد شد انتباهي في هذا الحصن وجود مرضى فيه، وهو ما لم أره في القسم السابق، ولكنهم مرضى، لا كالمرضى.. يجلسون مسترخين ـ كما نسترخي أمام شواطئ البحار ـ ولكن البحار التي كانوا ينظرون إليها، والتي كان نسيمها يهب عليهم لم تكن كالبحار.. كان كل شيء ليس ككل شيء.

قلت: ما هذا القسم يا معلم؟

قال: هذا حصن الأمل.

قلت: فهل ينتظر هؤلاء المرضى دورهم في العلاج؟.. إني لا أرى الضيق في وجوههم كما أراه في عيون المرضى الذين ينتظرون في قاعات الانتظار عندنا.

قال: هؤلاء يتنعمون بانتظارهم.

قلت: يتنعمون!؟.. لم أعلم إلا أن الانتظار ضيق للصدر، وقتل للوقت، فكيف يكون نعمة؟

قال: انتظاركم ضيق للصدر وقتل للوقت، أما انتظار أهل السلام فهو عمل وعبادة وقرب.. وهو لذلك روح من روح الجنة، وعطر من عطرها.

بينما أنا كذلك سمعت صوتا جميلا مادت لجماله أجساد المرضى المسترخين، وكان ينشد:

إذا ضاق أمر فانتظر فرجا... فأصعب الأمرأدناه من الفرج

فلما سكت هب صوت آخر يردد بلحن عذب:

كن عن أمورك معرضا... وكل الأمور إلى القضا

فلربما اتسع المضيق:... وربما ضاق الفضا

ولرب أمر متعب... لك في عواقبه رضا

الله يفعل ما يشاء... فلا تكن متعرضا

الله عودك الجميل... فقس على ما قد مضى

فلما سكت هب صوت ثالث يردد بلحن عذب:

رب أمر ضاقت النفس... جاءها من قِبَل الله فرج... به

لا تكن في وجه روح آيسا... ربما قد فرجت تلك الرتج

بينما المرء كئيب دنف... جاءه الله بروح وفرج

قلت: أهذا مجلس إنشاد.. أم مجلس علاج؟

قال: في هذا القسم يعالج المرضى بكل المراهم.. كل ما يزيد في أملهم في الله، وفي تحقيق مرادهم يذكر هنا.

قلت: ولكن هؤلاء بجلوسهم هذا واسترخائهم وقعودهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويضيعون ما أمر الله به أن يؤدى، ألم يعرفوا أن وظيفة الإنسان في الحياة هي عبادة الله؟

قال: بلى.. وهم يعبدون الله في استرخائهم، كما يعبدون الله بقيامهم.

قلت: لم أعلم أن هناك عبادة تسمى الاسترخاء.

قال: ألم تقرأ قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران:191)

قلت: بلى.. فالله يثني على هؤلاء خير ثناء.

قال: فإن العابد لله حقا من لا يغفل عن عبادته في كل محل.. فالله لا يعبد فقط بالقيام.

قلت: نعم.. هو يعبد بالركوع والسجود.

قال: وبالاسترخاء والقعود والانتظار كما ينتظر هؤلاء المرضى.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (

ابتسامة الأنين (97)

سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج) (1)، فقد اعتبر صلى الله عليه وآله وسلم انتظار الفرج عبادة، وما الانتظار إلا جلوس لا يختلف عن هذا الجلوس.

قلت: ولكن ما سر اعتبار هذا الانتظار عبادة.. بل أفضل عبادة؟

قال: لأن القصد من العبادة هو خلاص القلب من كل الشوائب، وقطعه لكل العلائق.. أيمكن للشخص أن يصلي، وهو يحادث صاحبه؟

قلت: لا.. إن الصلاة يبطلها هذا الشغل وغيره.. فهي أفعال تتنافى مع روح الصلاة.

قال: فكذلك العبد إذا خلص قلبه لله منتظرا فرجه.. فهو في ذلك الحال لا ينظر إلا لله.. ولا ينتظر إلا من الله.

قلت: عرفت كونه عبادة.. ولكن كيف يكون أفضل العبادة؟

قال: لأنك في الصلاة قد تغفل عن صلاتك.. قد لا تحدث صاحبك، ولكنك تحادث نفسك وتمازحها.. ولكن القلب المتعلق بالله قلب عارف.. لا يغفل عن الله لحظة.. وأنت في الصلاة قد تشوب صلاتك بنوازع الشرك.. بينما في هذا الانتظار لا تحدثك نفسك بأي رياء أو مسمعة.. وأنت في الصلاة..

قلت: فهمت هذا يا معلم.. وقد عرفت سر تفضل الله على عباده الصالحين بقطع العلائق عنهم.

قال: لقد ورد في بعض الكتب الإلهية: (لأقطعن أمل من أمل سواي وألبسه ثوب المذلة بين الناس، أتقرع بالفقر باب غيري وبابي خير لك؟)

قلت: هذا صحيح، فإن كل أمل في غير الله يأس، وكل رجاء في غيره طمع، وكل استعانة بغيره خذلان.

قال: ولهذا لم تجد خبرتكم الطبية العظيمة، ولا مستشفياتكم الضخمة، ولا جيوشكم

__________

(1) الترمذي.

ابتسامة الأنين (98)

الهائلة من الأطباء في دحر جيش اليأس القاتل الذي يدفع أعدادا هائلة منكم إلى الانتحار.

قلت: هذا صحيح.. ولكن ما عسى الأطباء أن يفعلوا.. لقد استعملوا كل قواهم العقلية.

قال: فلم لا يبعثونهم إلى هذا المستشفى؟

ضحكت، وقلت: ومن يسمع بهذا المستشفى.. إنني أقف فيه.. ولكن لا أعلم عنه شيئا.. ففي أي مكان هو؟.. لعلي أفلح في إقناعهم بالإرشاد إليه.

قال: هو في كل مكان..

قلت: ولكنا لا نراه..

قال: لأنكم لا تبصرون..

قلت: نحن نبصر.. بل نزيد في قوة أبصارنا كل يوم بما نخترعه من ألوان العدسات المكبرة.. فنحن نرى المجرات كما نرى دقائق الميكروبات.

قال: أنتم تبصرون بأبصاركم، ولا تبصرون ببصائركم.. فلذلك تعشى عيونكم عن رؤية مثل هذه الأدوية.

بينما أنا كذلك إذ سمعت صوتا عذبا تميد له قلوب الجالسين يردد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، فإذا سألت، فسل الله، وإذا استعنت، فاستعن بالله، جف القلم بما كان وما هو كائن، فلو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عز وجل لك، لم يقدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل لله بالصدق واليقين، فافعل، فإن لم تستطع، فإن في الصبر على ما تكره، خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) (1)

قلت: الله!.. لكأني أسمع هذا الحديث لأول مرة.. ما أحسن قراءة هذا الصوت لهذا الحديث.

__________

(1) الحديث بهذا اللفظ رواه الطبراني في الكبير وابن حبان.

ابتسامة الأنين (99)

قال: هذا صوت القلب..

قلت: أليس هذا صوتا للسان؟

قال: هو صوت اللسان النابع من القلب.

قلت: لقد رأيت هؤلاء المسترخين يميدون كما تميد السنابل تحركها الأعاصير.

قال: أرواحهم تبع لأجسادهم.. ومن يسمع مثل هذا ولا يميد!؟.. أتعلم لمن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث؟

قلت: بلى.. لقد قاله لابن عباس.

قال: فأي شيخ هو؟

قلت ضاحكا: شيخ.. لا.. لقد كان غلاما صغيرا.

قال: أرأيت كيف يربي صلى الله عليه وآله وسلم الأمل في الله في قلوب الأطفال.. سمعت أنكم تلقحون صبيانكم في صغرهم لتحفظوهم من شرور الأوبئة.

قلت: بلى، فنحن نلقحهم ضد السِلِّ والتيتانس، وشلل الأطفال، والجدري، والشاهوق، والحميراء، والخناق.. وقد نلقحهم في حال الضرورة ضد التهاب السحايا، والكوليرا، والتيفوئيد، والحمَّى الصفراء، والكَلَب..

قال: فلا تنسوا أن تضيفوا هذا اللقاح.

قلت: أي لقاح؟

قال: لقاح الأمل في الله.. وفي حفظ الله.. وفي فرج الله.. فهذا اللقاح هو الذي يقي أرواحهم من فيروسات اليأس القاتلة.

قلت: فهمت كل هذا ـ يا معلم ـ ولكني لا أعرف أن مثل هذا يمكن اعتباره علاجا؟

قال: لم؟

قلت: لأن العلاج هو الذي يقضي على المرض، أما هذا، فلا يفعل شيئا.. بل المرض هو

ابتسامة الأنين (100)

المرض.

قال: فهل جميع أدويتكم تقضي على الأمراض؟

قلت: منها ما يقضي، ومنها ما يخدر.

قال: أفلا تلجأون إلى هذا النوع من الأدوية المخدرة في كثير من الأمراض؟

قلت: بلى.. نلجأ إليها.. بل لا تكاد تخلو وصفة منها.

قال: فاعتبروا هذا من ذاك.

قلت: ولكني أعتبر هذا نوعا من الكذب على النفس.. وكأني أقول لها: لقد شفيت، مع أن الطعنات التي يواجهها بها المرض لا تزال تنخر قواها.

قال: لا.. ليس هذا من الكذب.. بل هو من سياسة النفس.

قلت: ما معنى هذا؟

قال: ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئا، وهو يطيب بنفس المريض) (1)

قلت: بلى..

قال: فقد شرع صلى الله عليه وآله وسلم في عيادة المريض أن ننفس عنه، ونبسط له جناح الأمل، فالأمل وحده سعادة، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل (2).

قلت: ولكن الجسد ـ مع ذلك ـ يبقى عليلا، فهو كالتبن الذي يخفي النار التي تلتهمه.

قال: والأمل هو الماء الذي يطفئ تلك النار، فلذلك قد يكون فيه من القوة بحيث يستطيع

__________

(1) الترمذي وابن ماجة.

(2) ويدل لهذا قوله تعالى ـ وهو يبين قيمة الأمل وثمرته النفسية ـ: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آل عمران:126)، أي وما أنزل اللّه الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييباً لقلوبكم وتطميناً، وإلا فإنما النصر من عند اللّه الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم. فمع أن النصر من عند الله، إلا أن إحبار المؤمنين بمدد الله من الملائكة كان له تأثيره الجميلة في نفوس العصبة المؤمنة.

ابتسامة الأنين (101)

القضاء على المرض..

قلت: إذن دور هو القسم من أقسام المستشفى هو البحث عن كل ما يشرح صدر المريض من الأعشاب والأغذية.

قال: لا.. ليس هذا فقط.. وهذا ميدان أطباء هذا القسم من المختصين.. ولكن هناك شيء آخر، وهو أهم من تلك الأدوية.

قلت: أهم من تلك الأدوية!؟

قال: أجل.. فتلك الأدوية قد يفلح مفعولها، وقد لا يفلح.. بينما هذه الأدوية التي سنزور أقسامها لا شك في جدواها.

قلت: فما هو منبع هذه الأدوية؟

قال: حسن الظن بالله.

قلت: لم كان حسن الظن منبع الأمل؟

قال: لأنه يجعل القلب متوجها لخير الله منتظرا فضله، والله عند ظن عبده، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الأثر الإلهي: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) (1)

-------

سمعت أصواتا جميلة تترنم بلحن، لست أدري هل كان من السماء أم من الأرض، تقول:

أحسن الظن برب عودك... حسنا أمس وسوى أودك

إن ربا كان يكفيك الذي... كان بالأمس سيكفيك غدك

قلت: الله! ما هذا لصوت الجميل.. ومن أين يصدر.. لا أرى مذياعا هنا.. ولا آلة تسجيل.

__________

(1) البخاري ومسلم، وتتمته: (فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)

ابتسامة الأنين (102)

قال: أصوات البصائر لا تحتاج إلى الآلات.

قلت: فمن لحن هذا اللحن؟

قال: ألحان القلوب لا تحتاج إلى ملحنين، فهي عذبة بذاتها.

قلت: فلم كان حسن الظن بالله منبع انتظار الفرج وأساسه؟

قال: لأن الشعور بقرب الله ورحمته، والتفكر في فضله ورأفته، يجر إلى إحسان الظن به، وإحسان الظن به، سبيل للاستعانة به.. فلا يمكن أن تستعين بمن تشك في فضله أو قدرته.

بينما أنا كذلك إذ رأيت شخصا يربت على كتفي، لعله أول شخص ينتبه لي في هذا المستشفى، فالكل كان غارقا في توحده، قال لي: (استعمل في كل بلية تطرقك حسن الظن بالله عز وجل، في كشفها، فإن ذلك أقرب بك إلى الفرج)، ثم مضى.. لا يهتم بردي.. ولا ينتظر سؤالي.

بعدها سمعت صوتا جميلا.. لا يقل عن الصوت السابق جمالا يردد:

يا صاحب الهم إن الهم منفرج... أبشر بخير فإن الفارج اللهُ

إذا بليت فثق بالله وارض به... إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ

اليأس يقطع أحيانا بصاحبه... لا تيأسن فإن الفارج اللهُ

الله يحدث بعد العسر ميسرة... لا تجزعنّ فإن الكافي... اللهُ

والله ما لك غير الله من أحد... فحسبك الله في كلّ لك اللهُ

قلت: الله.. ما أجمل هذه القصيدة.. كثيرا ما كنا نترنم بها.. ولكني أسمعها بلحن لم أسمعه من قبل..

قال: هذه ألحان القلوب كما قلت لك.

قلت: لقد اكتفى الشاعر بذكر أوصاف الله ليغرس الأمل في القلوب.

قال: حسن الظن بالله يستدعي التعرف على الله، فلا يمكن أن تحسن الظن بمن لا تعرفه.

قلت: هذا صحيح، فالمريض المتألم لا يرتاح إلا إذا وصف له الطبيب الخبير النطاسي،

ابتسامة الأنين (103)

والسائل المحتاج لا يطمع إلا إذا أخبر عن الغني الكريم.

قال: وهكذا، فإن المتألم لا يشعر بالأمل فيما عند الله إلا بمعرفته.

قلت: ولكن معرفة الله بحر لا ساحل له.

قال: ولهذا سنكتفي ـ هنا ـ بالاغتراف من بعض أسماء الله الحسنى التي ورد التنصيص عليها، والتي تدل على قدرة الله التي لا يعجزها شيء، وعلى فضله العظيم الذي لا يحده شيء.

قلت: تعني أن حسن الظن يعتمد على معرفة القدرة والفضل.

قال: أجل.. فقد يكون العاجز كريما.. فيقف عجزه حائلا بينه وبين كرمه.. وقد يكون البخيل مالكا القدرة على التكرم عليك، ولكن بخله يحول بينه وبين ذلك.

قلت: ولهذ كان حسن الظن لا يكتمل إلا فيمن له القدرة المطلقة، والفضل العظيم.

قال: وليس ذلك إلا الله.

قلت: فكيف أتحقق بهذا؟

قال: بترتيل أسماء قدرته وفضله.

قلت: فهل لهذه الأسماء أقسام في هذا المستشفى؟

قال: أجل.. هلم بنا إليها.

القدرة المطلقة

دخلنا القسم الأول من أقسام حسن الظن بالله، وقد كتب على بابه ـ بحروف تحمل قوة عظيمة، ممزوجة بلطف عظيم ـ: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (آل عمران:40)

قلت للمعلم: لا شك أن هذا هو قسم القدرة المطلقة.

قال: أجل، وهو من الأقسام الهامة التي يحتاج المرضى اليائسون من المرور عليها.

قلت: لم؟.. وأي داء يعالجون؟

ابتسامة الأنين (104)

قال: أول ما ينفخه الشيطان من بذور اليأس في نفسك هو إخبارك باستحالة إصلاح ما حل بك، فلذلك كان علاج هذا الداء بقتل هذه البذور في مهدها قبل أن تنبت.

قلت: وما تنبت؟

قال: شجرة اليأس القاتل.

قلت: وكيف تقطع هذه الشجرة إن نبتت؟

قال: بدلالاتها على القادر الذي لا يستحيل معه شيء.

قلت: أالله؟

قال: وهل هناك قادر غيره.. فاعتقاد المؤمن بقدرة الله المطلقة، والتي لا يقف المستحيل أمامها تجعله يشعر باستناده إلى ركن عظيم، وهذا الشعور هو الذي يولد فيه الأمل من جهة، ويحضه على التوجه إلى الله من جهة أخرى، وفي كلا الأمرين يبتسم أنينه، وتنفرج أسارير قلبه.

-------

بينما كنت أستمع للمعلم رأيت رجلا يمر على المرضى، ويقول لهم: (اذكروا زكريا.. اذكروا زكريا)

قلت: أرغب هذا عن دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى دين زكريا عليه السلام.. ما باله لا يدعوهم إلى ذكر الله.. ويدعوهم إلى ذكر زكريا؟

قال: ذكر زكريا هو ذكر لمحمد.. وذكرهم جميعا هو ذكر لله.. فلا يحجب أهل الله عن الله.. الصراع هو الذي تكون فيه الحجب.

قلت: أستغفر الله.. لكن لماذا خص زكريا عليه السلام؟

قال: هو ينبههم إلى التدبر في قصة زكريا عليه السلام عندما رأى مريم ـ عليها السلام ـ وعندها من رزق الله ما احتار في سببه، فقال لها: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَت هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران:37)

ابتسامة الأنين (105)

ففي ذلك الحين امنزج الشعوران لدى زكريا عليه السلام: الشعور بقدرة الله المطلقة التي لا يقف في وجهها الزمن ولا المستحيل، والشعور بفضل الله العظيم، فهو يرزق من يشاء بغير حساب.

وعندما امتزج الشعوران توجه لله طالبا ما كان يتصوره مستحيلا يستحي أن يسأل الله تحقيقه، قال تعالى مؤرخا لتلك اللحظة التي كانت فتحا عظيما على زكريا عليه السلام: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران:38)

قلت: حينها جاءته الملائكة ـ عليهم والسلام ـ بالبشارة، وبتحقيق الأمل الذي كان حبيس القلب، واستحيا اللسان من إبرازه، قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران:39)

قال: وحينها ـ كذلك ـ انحلت عقدة لسان زكريا عليه السلام متعجبا من هذا، لا منكرا له، فسأل الله عن كيفية ذلك كما سأله الخليل عليه السلام من قبل عن كيفية إحياء الموتى، فرده الله إلى مشيئته المطلقة، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} (آل عمران:40)

قلت: وحينها أجابه الملك: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (آل عمران:40)

قال: أعرفت الآن لم كتبت هذه الآية في مدخل هذا القسم؟

قلت: أجل..

قال: ولهذا يملأ القرآن الكريم نفوسنا وضمائرنا بقدرة الله المطلقة، لنتوجه بكل كياننا إليه، فلا نعتقد أن هناك مستحيلا أمام الله، وأمام قدرة الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر:44)

-------

مر رجل آخر على المرضى، وهو يقول لهم: (اذكروا السموات والأرض.. اذكروا العرش والكرسي)

ابتسامة الأنين (106)

قلت: لم يذكرهم بهذا؟

قال: لينبههم إلى قدرة الله المطلقة.

قلت: يا معلم، لم نرى القرآن الكريم يمتلئ بذكر السموات والأرض في مواضع الحديث عن القدرة؟

قال: لأن أكبر ما ترونه هو السموات والأرض، وهما ماهما.

قلت: يا معلم.. نحن نرى الأرض، ولكنا لا نرى إلا جزءا بسيطا من السماء.

قال: نعم.. أنتم لا ترون إلا جزءا بسيطا من السماء الدنيا، وهي لا تساوي شيئا أمام ملك الله الواسع.

قلت: لقد ورد في النصوص ذكر الكرسي، وهو خلق غير السموات والأرض، بل أخبر تعالى أنه أوسع منهما، قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (البقرة:255)

قال: ومع ذلك، فإنه لا يساوي شيئا أمام العرش (1)، فعن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكرسي، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة) (2)

قلت: ولكن الله مع ذلك يخاطب عباده بما تعيه عقولهم.

قال: ليقرب لهم الحقيقة التي لا يمكن تقريبها.. لأن تقريبها يؤدي إلى التشبيه، والله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى:11)

قلت: ولهذا يضرب الله تعالى المثل على قدرته بإمساك السموات والأرض وحفظهما،

__________

(1) النصوص الكثيرة تدل على أن العرش مخلوق يدار الكون منه بأمر الله تعالى، فهو أشبه بـ (سنترال) الكون، وليس كما يتصورالمشبهون أنّه مكان يجلس عليه الله تعالى!

(2) ابن حبان، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر.

ابتسامة الأنين (107)

تقريبا لعظمة القدرة من القلوب، وإلا فإن قدرة الله لا نهاية لها، ولا حدود تحدها، ألم تسمع قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (فاطر:41)

قلت: لقد أخبر تعالى أنه لا يؤوده ولا يثقله حفظهما، قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255)

وعندما افترى الغافلون من اليهود ما افتروا على الله من ركونه إلى الراحة بعد خلق السموات والأرض (1) رد عليهم قائلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (قّ:38)

وعندما تعجب الغافلون من إمكانية إحياء الموتى بعد أن يصبحوا رمما بالية، رد عليهم الله تعالى بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الروم:27)

قال: سبب ذلك أن هؤاء المتعجبين قارنوا قدرتهم بقدرة الله، وعلمهم بعلم الله، ونسوا أن ينظروا إلى أنفسهم ليروا الآيات العظيمة التي ينطوي عليها وجودهم، فلذلك نرى القرآن الكريم ينبه كثيرا إليها، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يّس:78)

ثم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالرد عليهم بإعادة النظر إلى منشئها الأول، فقال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يّس:79)

أو بتقليب أطرافهم في السماء والأرض، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الاحقاف:33)

__________

(1) ذكر المفسرون في سبب نزول الآية أنّ اليهود كانوا يتصوّرون أنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام (ستّة أيّام من أيّام الأسبوع)! ثمّ استراح في اليوم السابع (السبت) فوضع رجلا على رجل أُخرى.

ابتسامة الأنين (108)

والقرآن الكريم لا يسوق هذه التنبيهات لهؤلاء الغافلين وحدهم من اليهود والمنكرين للبعث، بل يسوقها لكل ضمير قد توسوس له خواطر السوء أن هناك شيئا ما من شئون الحياة قد يعجز الله، أو قد يستحيل على الله.

ولذلك يخبر تعالى أن الخلق ما قدروه حق قدره حين نسبوا العجز له في أي محال من المحال، قال تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:74)، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام:91)

فلذلك يذكرهم بقدرته التي لا تحد، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر:67)

بل يقسم الله تعالى على قدرته التي لا تحد، ليؤكد هذا المعنى في الضمير المؤمن، قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ((المعارج:40)

-------

سرت مع معلم السلام في أرجاء هذا القسم، فرأيت بابا قد كتب عليه (باب معاينة مظاهر القدرة)

قلت للمعلم: هيا بنا ندخل إلى هذه القاعة ففيها معاينة مظاهر القدرة.

قال: أخاف أن لا تخرج منها.

قلت: لم؟

قال: كثير ممن دخل هذه القاعة وعاين بعض مظاهر قدرة الله لم يطق فراقها، فلم يخرج منها منذ دخلها.

قلت: لا تخف ـ يا معلم ـ فقد أخبرتك أني لا أسكن إلا لغاية الغايات وقدس الأقداس.

قال: فادخل، ولا تطل المكث، فالأقسام الأخرى في انتظارنا.

دخلت القاعة، وهي كقاعات السنما إلا بفارق بسيط هو أن السينما تنقل الصور إلى

ابتسامة الأنين (109)

العيون، أما هذه القاعة، فتنقل العيون إلى الصور، كانت صورا كثيرة مزدحمة تملتئ بها القلوب والعقول.

أما الحضور.. فقد كانت أفواههم مشدوهة لعظم ما يرون.. وقد غابوا عن كل الآلام التي لا تخفيها الإعاقات التي تنم بها جوارحهم.

سألت المعلم: من هؤلاء؟

قال: هؤلاء مرضى يئس أطباؤكم من علاجهم.. فهداهم الله لهذا المستشفى.

قلت: ولكن عللهم لا تزال تنخر في أجسادهم.

قال: وما يهمهم من عللهم.. هم يعيشون في سعادة لا يعيشها أعظم ملوككم.

أشار إلى أحدهم، فقال: أتعلم من هذا؟

قلت: لا.. ولكن يبدو أن المشيب بدأ يشتعل في شعره ليقضي على سواد شبابه.

قال: هذا الرجل الذي تراه، جلس هنا منذ ثمانين سنة، ولم يفارق مجلسه.

قلت: ثمانين.. عجيب هذا.. لا يبدو عليه التقدم في العمر.

قال: إنما يعمر الجسد البالي.. أما المعاينون، فقد ذاقوا إكسير الشباب الدائم، فلا ينشغلون بشيخوخة ولا هرم.

قلت: يا معلم.. دعني أجلس معهم.

قال: ألم نتفق على عدم السكون لشيء؟

قلت: أجل..

قال: فهيا.. فبالله إن تسر ترى العجائب.

-------

خرجت من القاعة، وعند خروجي ربت على كتفي شيخ وقور بحنان، وقال: (أليس في قدرة هذا الذي خلق كل هذا أن يخفف عني ما أنا فيه، أو يرمي بدائي إلى الهاوية التي لا حدود

ابتسامة الأنين (110)

لها!؟)

قلت: نعم.. فمن أنت؟.. فما أعظم وقارك؟

تركني وانصرف، قال المعلم: هذا نزيل أقنعه الأطباء بكل أجهزتهم أنه ميئوس منه، وقد جاء إلى هنا.. وهو يعيش في سلام منذ جاء.

-------

بعد خروجي لقيني شاب لا يقل عن الشيوخ وقارا، وقال: بعد هذه المظاهر التي تدل على قدرة الله المطلقة، والتي لا يعجزها شيء، هل تظل أيها المتألم حبيس آلامك، متصورا استحالة تفريجها.

أليس الذي خلق السموات والأرض، ودبر أمر الدقيق والجليل، أعظم من أن يقف المستحيل في طريقه، وأكبر شأنا من أن يعجزه ما نفخه شيطان اليأس في نفسك.

أردت أن أسأله عنه، فقاطعني، وقال: قد تقول: (نعم إنه قادر على كل شيء، ولكن من أنا حتى يتوجه إلي فاكا أزمتي، مفرجا كربتي، وما أنا إلا قطرة من بحر محيطه، أو هباءة في فضاء أثيره.. إذا راودك هذا الخاطر، وأوحت لك شياطين الإنس والجن بهذه الوساوس، فاذهب إلى ذلك القسم، فستجد فيه ضالتك)

الفضل الواسع

دخلنا القسم الثاني من أقسام حسن الظن بالله، وقد كتب على بابه ـ بحروف تحمل رحمة ممزوجة بحكمة ـ قوله تعالى: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (البقرة:105)

قلت للمعلم: لا شك أن هذا هو قسم الفضل الواسع.

قال: أجل، وهو من الأقسام الهامة التي يحتاج المرضى اليائسون إلى المرور عليها.

قلت: لم؟.. وأي داء يعالجون؟

ابتسامة الأنين (111)

قال: الفضل مكمل للقدرة.. ولا تبرز القدرة إلا بالفضل.. ولا يكتمل الفضل إلا بقدرة.

قلت: اشرح لي هذا، فإني أرى القدرة منفضلة عن الفضل انفصالا تاما.

قال: من كان قادرا، ولكنه بخيل، فإنه لا يصدر منه شيء، فإن صدر كان محفوفا ببخله.. ومن كان متفضلا، ولكنه عاجز كتم عجزه فضله، أو رماه عجزه بالبخل.

قلت: ففضل الله عظيم كقدرته؟

قال: لا يوازي قدرته إلا فضله، ألم تقرأ قوله تعالى: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (البقرة:105)

قلت: هذه الآية هي آية هذا الباب، وهي تذكر فضل الله الواسع العظيم.. ولكن القرآن الكريم يذكر أن فضل الله موزع حسب مشيئة الله، فهو: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (آل عمران:74)

قال: لا تفهم من هذه الآية غير ما تريد.. فضل الله واسع، ولكن من الخلق من تعرض له، فصار مخصوصا بالرحمة، ومنهم من أعرض فصار مخصوصا بالشقاوة.. فضل الله كالمطر من تعرض له ترابا أنبت طيبا، وأثمر طيبا، ومن تعرض له صخورا قاسية، فإن المطر ينزل عليه، ولكنه لا يؤثر فيه.

قلت: أرى القرآن الكريم يقصر الفضل على الله، كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد:29)

قال: أجل ففضل الله بيد الله.. وهذا معنى جميل، تطرب له النفوس، لأنه ينفي الوسائط بين عباد الله، وفضل الله، فيكفي العبد أن يتوجه لله صادقا مخلصا ليرى يد الله، وهي تمتد إليه بالفضل والكرم والجود، كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة:186)

ابتسامة الأنين (112)

وهذا الشعور هو الذي يتولد منه الرجوع إلى الله والاستمداد منه..

بينما نحن كذلك مر علينا رجل، والابتسامة تشع من عينيه، وهو يقول: الله! ما أعظم فضل الله!.. إنه الجدار الذي تتحطم أمامه كل الآلام.

ثم قصدني، وكأنه يعرفني، وربت على كتفي، وقال: ابتسم ـ أيها المتألم لأناتك ـ وطالع أسماء ربك التي تنطق بها حروف المكونات، وتضرع إليه بها كما يتضرع الكون جميعا، ففي نفس تضرعك تكمن الاستجابة، وفي نفس طلبك تتحقق الأماني.

قلت: من هذا؟، ومن أين خرج؟

قال: هذا الرجل كان في أقسام أسماء الفضل.. وهي أقسام تعرف بفضل الله انطلاقا من أسماء الله.

قلت: أهناك أقسام غير هذه؟

قال: أجل.. فهناك أقسام تعرف فضل الله من خلال أكوان الله.

قلت: فأي القسمين نزور؟

قال: سنقتصر من زيارتنا في هذا المحل على أسماء وردت في أكثرها النصوص المتعلقة بتفريج الكروب، وإجابة الدعوات وتنزل الفضل، لنزرع في قلوبنا قرب الله منا، وفضله العظيم علينا.

قلت: والفضل الذي تختزنه أكوان الله متى نراه.. أو متى نزوره؟

قال: سنزوره في درس آخر من دروس السلام، عندما نسبح في (بحار النعم)

الحي القيوم

دخلنا قسما من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه: (الحي القيوم)

قلت للمعلم: هذان اسمان من أسماء الله الحسنى.

ابتسامة الأنين (113)

قال: نعم.. هما اسمان.. وهما اسم واحد؟

قلت: ما هذا التناقض؟

قال: كل واحد منهما إذا انفرد كان اسما من أسماء الله الحسنى، وفي اجتماعهما يتشكل اسم جديد له دلالة جديدة.

قلت: فما هي الدلالة الجديدة التي يحملها؟

قال: لا تعرفها إلا إذا عرفت دلالة كل اسم منفردا.

قلت: فما الحي.. ولماذا كان من أسماء الفضل؟

قال: هو من الأسماء الدالة على الفضل وغيره، فلا يمكن للقادر أن يكون قادرا إلا إذا كان حيا.. فالحياة هي الصفة التي تعتمد عليها جميع الصفات.

قلت: عرفت هذا.. فنحن لا يمكن أن نقوم بأي عمل إلا إذا كنا أحياء.

قال: مع فارق عظيم بين حياتكم البدائية البسيطة وحياة الله.. ألا تعلم أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى:11)

قلت: فما علاقة الحياة بفضل الله؟

قال: لا يمكن أن تدعو ميتا.. ولا أن يستجيب لك ميت.

قلت: صدقت.. لقد عبر الشاعر عن ذلك، فقال:

لقد أسمعت لو ناديت حيا... ولكن لا حياة لمن تنادي

قال: بل عبر الحق تعالى عن ذلك، فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (الفرقان:58)، فقد ربط بين التوكل والحياة.. والتوكل هو استعانة بالله واستسلام مطلق لله ناتج عن ثقة عظيمة بفضل الله.

قلت: ألهذا إذن يقترن هذا الاسم بالأمر بدعاء الله، كما قال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (غافر:65

ابتسامة الأنين (114)

قال: أجل، أي لأنه حي، فادعوه، لأن الدعاء لا يكون إلا لحي، وقد ورد الدعاء بهذا الاسم في هذا الباب، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما كربني أمر إلا تمثل لي جبريل، فقال يا محمد: قل توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا) (1)

وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أعلمك كلمات تذهب عنك الضر والسقم، قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا) (2)

وقد روي في الاستعاذات المأثورة: (أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا تموت والجن والإنس يموتون) (3)

قلت: فما القيوم.. ولماذا كان من أسماء الفضل؟

قال: هو القائم بنفسه المقيم لغيره.

قلت: فما القائم بنفسه؟

قال: هو الذي عظمت صفاته، فاستغنى عن جميع مخلوقاته.

قلت: فكيف قام غيره به؟

قال: هو الذي أوجد الأشياء، وأمدها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها.

قلت: فالقيوم إذن هو الغني عن الأكوان من كل وجه، وهي التي افتقرت إليه من كل وجه.

قال: ومن كان كذلك، فحري أن يستغاث به، ويلجأ إليه، ويطرق بابه.

__________

(1) ابن أبي الدنيا في الفرج والبيهقي في الأسماء.

(2) ابن السني في عمل يوم وليلة.

(3) البخاري.

ابتسامة الأنين (115)

قلت: فلهذا الاسم إذن تأثيره الخاص في زرع الثقة بقدرة الله المطلقة، وفضله العظيم.

قال: أجل.. فقد جمع هذا الاسم بين المعنيين جميعا، ولذلك كان من الأسماء التي ورد الدعاء بها في الكربات.

قلت: عرفت المفردات، فما معنى التركيب؟

قال: يتشكل من ذينك الاسمين اسم جديد (1) له دلالته الخاصة والمؤثرة.

قلت: فما هي؟

قال: هي مثل دلالة اجتماع القدرة مع الفضل، فقد يكون قادرا غير متفضل، أو متفضلا غير قادر.

قلت: وهنا: قد يكون حيا غير قيوم، أو قيوما غير حي.

قال: أجل، فإذا كان حيا لم ترجه لحياته فقط، فقد يكون حيا ضعيفا.. ولو كان قيوما غير حي، لا ترجوه كذلك، لأنه لا يسمعك إلا إذا كان حيا.

قلت: وبكونه حيا قيوما تجتمع فيه جميع مواصفات من يدعى فيجيب.

قال: أجل، ولهذا ورد في النصوص ما يشير إلى كون هذا الاسم المقترن يحمل معنى اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى (2)، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلاً

__________

(1) انظر في اقتران الأسماء ودلالاتها رسالة (أسرار الأقدار)

(2) اختلف العلماء في (الاسم الأعظم) الذي إذا دُعي به لا يرد، اختلافا عظيما:

فمنهم من أنكره مثل أبي جعفر الطبري، وأبي الحسن الأشعري، وجماعة بعدهما كأبي حاتم ابن حبان، والقاضي أبي بكر الباقلاني، فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض، وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم العظيم، وجعلوا اسم التفضيل على غير بابه، وهو أسلوب معروف عند علماء العربية، وأن أسماء الله كلها عظيمة.

ومنهم من ذكر أن الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها مزيد ثواب الداعي بذلك، كما إذا أطلق ذلك في القرآن، المراد به مزيد ثواب القارئ.

ومنهم من ذكر أن المراد بالاسم الأعظم، كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به مستغرقاً بحيث لا يكون في فكره حينئذ غير الله تعالى، فإن من تأتى له ذلك استجيب له، ونقل معنى هذا عن جعفر الصادق، وعن الجنيد وعن غيرهما.

ومنهم من ذهب إلى أن الله تعالى استأثر بعلم الاسم الأعظم، ولم يُطْلِعْ عليه أحداً من خلقه وأثبته آخرون، واضطربوا في ذلك.

ومنهم من ذهب إلى تحديد الاسم، واختلفوا في ذلك اختلافا شديدا، منها هذا الاسم المركب، وسنعرض للمسألة بتفاصيلها في محلها الخاص من هذه الرسائل.

ابتسامة الأنين (116)

يقول: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك المنان يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار)، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب) (1)

قلت: فما السر في هذه الأفضلية؟

قال: لأن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، ولا يتخلف عنها صفة منها إلا ضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة، لذلك اقترن هذا الاسم بالتوكل في قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (الفرقان:58).. وأما القيوم: فهو متضمن كمال غناه، وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، القائم على غيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته.

ولهذا، كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أهمَّهُ الأَمْرُ، رفع طرفه إلى السماء فقال: (سُبْحَانَ الله العظيمِ)، وإذا اجتهد فى الدعاء قال: (يا حَىُّ يا قَيُّومُ)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يستغيث بالله مستنجدا متوسلا بهذا الاسم، ففي الحديث أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ قال: (يا حَىُّ يا قَيُّومُ برحمتِكَ أستغيثُ) (2)

رأيت كثيرا من الناس يجتمعون في حلقة رجل يبدو عليه الوقار، قلت للمعلم: من هذا؟

قال: هذا طبيب من أطباء هذا المستشفى.

قلت: هلم نستفيد منه..

__________

(1) أهل السنن الأربع وابن حبان وأحمد والحاكم.

(2) الترمذىّ.

ابتسامة الأنين (117)

قال: حسبك بهذا هنا.. فالأقسام الأخرى في انتظارنا.

الصمد

دخلنا قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه: (الله الصمد)

قلت للمعلم: لقد ورد ذكر هذا الاسم في القرآن الكريم مرة واحدة، قال تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} (الاخلاص:2

قال: ولكن في سورة اختصت بالتعريف بالله، وهي تعدل ثلث القرآن (1)، فلذلك كانت له لذلك مزية خاصة.

قلت: لقد ورد في اللغة لهذا الاسم دلالات كثيرة جدا، ولذلك ورد اختلاف كبير في تحديد معناه.

قال: ما نحتاج إليه هنا دلالة واحدة وهو الصمد الذي يعني في اللغة القصد، فيكون الصمد بذلك بمعنى المصمود أي المقصود في الحوائج والنوازل، المستحق أن يُلجَأ إليه لتحقيق الحاجات ونيل الرغبات وتفريج الكربات ودفع الملمات.

قلت: لقد قرأت كلاما جميلا لابن عباس في تعريف هذا الاسم.

قال: وما قال؟

قلت: قال: (هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد، وهو اللّه سبحانه، ليس له كفء وليس كمثله شيء، سبحان اللّه الواحد القهار)

__________

(1) لقوله (: (أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة فإنه من قرأ قل هو الله أحد الله الصمد في ليلة فقد قرأ ليلته ثلث القرآن) أحمد والترمذي والنسائي.

ابتسامة الأنين (118)

قال: ولهذا ورد في النصوص ما يدل على أن هذا الاسم هو الاسم الأعظم، فقد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد فقال: (لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب) (1)

وهو من الأسماء التي كان صلى الله عليه وآله وسلم يتوسل بها في علاج المرضى، ففي الحديث أن رسول الله عاد رجلا، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم أعيذك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد من شر ما تجد) ثلاث مرات (2).

الكافي

دخلنا قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه (الكافي)

قلت للمعلم: ما الكافي (3

قال: هو الذي يكفي عباده ما يحتاجون إليه، بحيث يستغنون به عن غيره، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (الزمر:36)

قلت: لم كان كذلك؟

قال: لأنه حي قيوم عالم بجميع المعلومات، قادر على كل الممكنات، غني عن كل الحاجات، يعلم حاجات العباد، ويقدر على دفعها، وهو ليس بخيلا ولا محتاجا حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء ذلك المراد.

قلت: ألهذا وعد الله كل من ينصره بكفاية الله فقال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ

__________

(1) أبو داود والترمذي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم،.

(2) ابن زنجويه في ترغيبه، والعقيلي، والبغوي.

(3) كلمة (كافي) مأخوذة من (كفاية)، وهي تعني الإقدام على عمل معين والتمكن منه، قال الراغب في مفرداته: (الكفاية) هي رفع حاجة والوصول إلى المقصود، وكفية على وزن كنية تعني الغذاء الكافي، وكفي على وزن خفي تعني المطر.

ابتسامة الأنين (119)

اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة:137)

قال: بل أخبر تعالى بأنه كفى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أمر المستهزئين، قال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} (الحجر:95)

قلت: فما يكفينا الله؟

قال: كل شيء.. فكفاية الله لعباده شاملة لكل شيء، فالله هو الذي يكفي عباده كل ما يهمهم من العظيم والحقير، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوى إلى فراشه؛ قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا؛ فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي) (1)

وقد ورد في قصة الغلام مع الساحر والراهب: أنه كلما ذهبوا به إلى مكان لقتله؛ قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت) (2)

قلت: فهذا يدعو العارفين إلى الاكتفاء بالله.

قال: أجل.. ولذلك أخبر الله تعالى عن اكتفاء المؤمنين بالله وبحفظ الله، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173)

وقال عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40)

قلت: ولهذا إذن ورد الدعاء بهذا الاسم في السنة، وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثيره العجيب في دفع الضرر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة الزهراء: (إذا أخذت مضجعك فقولي: (الحمد الله الكافي، سبحان الله الأعلى، حسبي الله وكفى، ما شاء الله قضى، سمع الله لمن دعا، ليس من الله ملجأ ولا وراء الله

__________

(1) مسلم.

(2) مسلم.

ابتسامة الأنين (120)

ملتجأ، توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا)، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من مسلم يقولها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فتضره) (1)

-------

بينما نحن كذلك إذ سمعت حركات في القاعة، فسألت المعلم: فقال: هذا عبد الوكيل قد جاء، ومعه عبد الحسيب.

قلت: ومن عبد الوكيل.. ومن عبد الحسيب.. فلا أعلم في الأسماء التي تختزنها ذاكرتي هذين الاسمين؟

قال: هما طبيبان من أطباء هذه القاعة.

قلت: وما علاقتهما باسم الله الكافي؟

قال: سيشرحانها لك، فهذه وظيفتهما.

قال عبد الوكيل: (الوكيل) من الأسماء القريبة من اسم الله الكافي.

قلت: فما يعني؟ وما وجه القرابة بينهما؟

قال: الوكيل هو من توكل إليه الأمور، وتفوض إليه، كما قال تعالى: {وكفى بالله وكيلاً} (الأحزاب:3) أي القائم بأمور عباده، المتكفل بمصالحهم، الكفيل بأرزاقهم، فالخلق والأمر له، لا يملك أحد من دونه شيئاً.

قلت: فما علاقته بالكافي؟

قال: من توكل لك، فقد كفاك، ولهذا ورد هذا الاسم في ذكر من الأذكار العظيمة التي تتعلق بهذا الجانب، وهو (حسبنا الله ونعم الوكيل)

قلت: هو ذكر قرآني أثنى الله على من قاله، فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ

__________

(1) ابن السني.

ابتسامة الأنين (121)

قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173)

قال: وكان هذا الالتجاء سببا في حصول خير عظيم للمؤمنين، قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران:174)

قلت: كان هذا الذكر هو الذي نطق به إبراهيم عليه السلام في أحرج مواقف حياته، قال ابن عباس في الآية السابقة: (قالها: إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين قال لهم الناس {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (آل عمران:173)) (1)

قال: ولهذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن لهذا الذكر تأثيره العميق في النفس بإعطائها القوة وتخليصها من العجر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى يحمد على الكيس ويلوم على العجز فإذا غلبك الشيء فقل: حسبي الله ونعم الوكيل) (2)

وقد ورد في النصوص استعمال هذا الذكر في الموضع الذي نحن فيه، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصابه غم أو كرب يقول: (حسبي الرب من العباد، حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرازق من المرزوقين، حسبي الله الذي هو حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم) (3)

-------

بمجرد انتهاء عبد الوكيل قال عبد الحسيب: الحسيب (4) من كفاك جميع ما أهمك من أمر دينك ودنياك، وهو الذي يجلب لك المنافع، ويدفع عنك المضار، وهو الذي يحميك من كل المخاطر، ويؤمن لك كل السبل، وهو الذي..

قلت للمعلم: ألهذا قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ((الطلاق:3)

__________

(1) البخاري.

(2) الطبراني في الكبير.

(3) ابن أبي الدنيا في الفرج من طريق الخليل بن مرة عن فقيه أهل الأردن بلاغا.

(4) قد يحمل هذا الاسم معنى الكفاية ومعنى المحاسبة، كما في قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} (النساء:6)

ابتسامة الأنين (122)

قال: أجل.. من توكل على الله فهو حسبه.

الشافي

دخلنا قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه (الشافي)

قلت للمعلم: الله! ما أجمل هذا الاسم.. وما أعظم تفريجه لكربات المعتلين.. فإن المريض لا يحن لاسم كما يحن للطبيب؟

قال: ولهذا ورد اسم (الطبيب) مقترنا بالله، فالله هو الطبيب: طبيب القلوب والنفوس والأجساد، فقد ورد في الحديث عن أبي رمثة قال: دخلت مع أبي على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فرأى أبي الذي بظهره (1)، فقال: (دعني أعالجه فإني طبيب)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (اللّه الطبيب) (2)

وقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم علة كون الله هو الطبيب الحقيقي، فقال: (الله الطَّبِيبُ، بل أنت رجلٌ رفيقٌ، طَبِيبُها الذي خلقها)

قلت: ما سر هذا؟، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل اسم الطبيب خاصا بالله.

قال: لأن الطبيب هو العالم بحقيقة الدواء والداء، والقادر على الصحة والشفاء، وليس ذلك إلا اللّه، فهو العالم وحده بتفاصيل العلل، جميع العلل، والعالم وحده بعلاجها: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ((الملك:14)

قلت: ولهذا توسل إبراهيم عليه السلام إلى الله بالشفاء، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء:80)

قال: أجل.. يشفي من كل شيء.. من أمراض الحس وأمراض المعنى، هو خالق الدواء، وملهم الأطباء، ورازق الشفاء، فما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء.

__________

(1) وهو خاتم النبوة.

(2) الترمذي والنسائي مختصرا ومطولا، وقال الترمذي: حسن غريب.

ابتسامة الأنين (123)

قلت: لقد ورد في النصوص ما يدل على هذا، فقد وورد في القرآن الكريم التنصيص على ما جعل الله في العسل من الشفاء، فقال تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل:69)

وورد طلب الشفاء من الله تعالى في الأمراض الحسية، قالصلى الله عليه وآله وسلم: (من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض) (1)

وأما المعنوية والنفسية، فقد قال تعالى في بيان خصائص كلامه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57)

قال: ولهذا ورد هذا الاسم في أدعية الاستشفاء، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعوِّذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: (اللهم رب الناس أذهب البأس واشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً) (2)

المغيث

دخلنا قسما آخر من أقسام الأسماء المرتبطة بفضل الله، وقد كتب على بابه (المغيث)

قلت للمعلم: الله! ما أجمل هذا الاسم.. لكأني به يمد يده إلى ضعف الإنسان وقصوره وحاجاته الكثيرة لينقذه منها؟

قال: أجل.. فله هذه الدلالة النفسية العميقة التي تشهد لها كل الحقائق، وكل الفطر، وكل الموجودات:

__________

(1) أبو داود، والترمذي، وقال: حسن غريب، والحاكم عن ابن عباس.

(2) البخاري وغيره.

ابتسامة الأنين (124)

فالله تعالى هو الذي يغيث عباده عندما تنزل بهم الكربات، وعندما تمتد أيديهم إليه طالبة نجدته، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (لأنفال:9)

ولله تعالى هو الذي يغيث البشر بإنزال الغيث، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} (لقمان:34)، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى:28)

قلت: ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم في الاستسقاء يصرخ مستغيثا بالله، فقد روي أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، ثم قال يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: (اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا.. اللهم أغثنا)

بينما نحن كذلك إذ ظهرت أنوار عظيمة تحمل صورا مختلفة تملأ القلوب أنسا وثقة، قلت للمعلم: ما هذه الصور؟

قال: هذه بعض مظاهر اسم الله المغيث، وهي تدعوا للتأمل فيها لامتلاء القلب معانيها.

قلت: فهيا نلبي نداءها.. فما أعظم أن تمتلئ قلوبنا بالثقة بالله.. وفي إغاثة الله.

قال: سنقتصرعلى أربعة مظاهر لاسم الله المغيث وردت بها النصوص، ولها علاقة بهذا الباب، أما ما عداها فسنمر بالكثير منها في دروس السلام، فلا تعجل، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه:114)

فارج الكرب

رأيت صورة سواد عظيم يغمر الكون فيملأه بالكآبة، وإذا بإغاثة إلهية تنزل على ذلك السواد، فترفع ما علاه من الظلام، وتحوله إلى نور تمتلئ بجماله أرجاء القاعة.

سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال: هذا مظهر من مظاهر الإغاثة أرسله فارج الكروب، ليمحو الغين الذي ران على الكون والقلوب.

ابتسامة الأنين (125)

قلت: وما الكروب؟

قال: الكرب هو الغم الشديد، والمصيبة العظيمة، ولذلك لم يرد في النصوص المقدسة إلا في مواضع الشدة الشديدة، والدواهي العظيمة.

قلت: نعم، فقد ورد في حديث الشفاعة الطويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون) (1)

قال: وورد قبل ذلك في قوله تعالى مخبرا عن إنجائه لنوح عليه السلام من الكرب: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (الانبياء:76)، وقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ((الصافات:76)

وأخبر عن إنجائه لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ، فقال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (الصافات:115)

قلت: الله!.. ما أعظم رحمة الله بأنبيائه!

قال: وبجميع خلقه، ألم يخبر تعالى عن سنته في إنجاء كل الخلق من كل الكربات، فقال تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (الأنعام:64)

قلت: بلى.. واستشعار هذا المعنى ينفي اليأس من قلب المؤمن عندما تحل به المصيبة العظيمة التي يرى استحالة حلها بالأسباب التي لديه.

قال: ولهذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذكارا نقولها عند الكرب تذكرنا بالله وبقدرة الله التي لا يعجزها شيء، قال صلى الله عليه وآله وسلم لأسماء بنت عميس: (ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب؟ الله الله ربي لا أشرك به شيئا) (2)

__________

(1) البخاري ومسلم.

(2) أحمد وأبو داود.

ابتسامة الأنين (126)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بني عبد المطلب، إذا نزل بكم كرب أو جمة أو جهد أو لأواء فقولوا: الله الله ربنا لا شريك له) (1)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من قرأ آية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة عند الكرب أغاثه الله تعالى) (2)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (دَعَواتُ المكروبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرجُو، فَلا تَكِلْنِى إلى نَفْسى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وأصْلِحْ لى شَأنى كُلَّهُ، لا إله إلا أنْتَ) (3)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عز وجل عنه، كلمة أخي يونس: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الانبياء:87)) (4)

قلت: الله! الله! ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه.

قال: أجل.

قلت: هذا ترياق عجيب، فكيف نغفل عنه؟

قال: وهل تغفلون عن هذا فقط؟.. من نسي الله غفل عن كل شيء.

قلت: فما سر ارتباطها بتفريج الكربات؟

قال: سنرحل إلى هذا في درس من دروس السلام (5).

باعث اليسر

رأيت صورة عقد كثيرة يستحيل على أي يد أن تفكها.. وفجأة وجدت هذه العقد تنحل عقدة عقدة.. بل يذهب كل ما بها من آثار العقد.

سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال: هذه مظاهر العسر الذي يعقد القلوب بعقده..

__________

(1) الطبراني في الكبير.

(2) ابن السني.

(3) أبو داود.

(4) ابن السني في عمل يوم وليلة.

(5) انظر: رسالة (كنوز في بطن الحوت)

ابتسامة الأنين (127)

فإذا علمت القلوب شدة عقدها، ويئست منها بعث الله بيسره، فالله هو الذي يعقب العسر باليسر، ألم تسمع إلى قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق:7)

تدخل رجل من الحاضرين، وقد سمع هذا الكلام من المعلم، فقال: بل يعقب العسر بيسرين (1)، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح:5، 6)، قال ابن عباس يفسر هذه الآية: (يقول اللّه تعالى خلقت عسرا واحدا، وخلقت يسرين، ولن يغلب عسر يسرين)

وقال ابن مسعود: (والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حجر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين)

بل ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوما مسرورا وهو يضحك ويقول: (لن يغلب عسر يسرين {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} (الشرح:5، 6) (2)

تدخل آخر، فقال: والله تعالى واضع المخارج، فهو الذي يضع المخارج عندما تنسد الأبواب، وتضيق المسالك، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} (الطلاق:2)

ولذلك أمرنا أن نقول: {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} (الاسراء:80)

قلت للمعلم: من هذين؟

قال: هذان مقيمان بهذا القسم لا يبرحانه.. يعبدان الله بهذين الاسمين.

كاشف الضر

رأيت صورة قروح وأدواء كثيرة تمزق لها قلبي.. ثم رأيت مرهما ينزل من السماء.. فيقع على تلك القروح، فيشفيها شفاء تاما، ولا يدع أثرا لعلة.

__________

(1) نص المفسرون على أن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه، فهو هو، وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره. وهما اثنان، ليكون أقوى للأمل، وأبعث على الصبر.

(2) عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي.

ابتسامة الأنين (128)

سألت المعلم عن سر هذه الصورة، فقال: هذا مظهر من مظهر الإغاثة أرسله كاشف الضر، ليمحو القروح التي تجثم على القلوب والأجساد.. فالله تعالى هو كاشف الضر، بل لا يكشف الضر غيره، ألم تسمع قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنعام:17)، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس:107)

قلت: بلى، ولهذا كان من دواعي تسليم المؤمنين لله وإذعانهم له وحده ما نص عليه العبد الصالح بقوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} (يّس:23)

قال: بل هذا ما أمر كل مؤمن أن يقوله، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (الزمر:38)

تدخل رجل من نزلاء المستشفى، فقال: إن هذه الحقيقة يذعن لها الكل حتى أولئك الذين يجهلون الله عند الرخاء، فإنه إذا ما حلت بهم الشدائد لا يجدون غير باب الله، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (يونس:12)، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (الروم:33)، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (الزمر:8)، وقال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر:49)

ابتسامة الأنين (129)

تدخل آخر، فقال: والله تعالى لا يعاتب هؤلاء على تذكرهم إياه وقت الكرب والشدة، بل يعاتبهم على نسيانهم وغفلتهم حال الأمن والعافية.

جاء ثالث، وهو يقول: يخبرنا القرآن الكريم عن رجل من الزمن السالف رأى قرية قد دب إليها الخراب، وكساها الموت بسرابيله، بل كفنها بأكفانه، فتأسف حزنا عليها، فأماته الله مائة عام، ليراها وقد دبت إليها الحياة، فلا يحزن ولا ييأس، قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:259)

شارح الصدور

رأيت صورة غيوم كثيرة لكنها غير ممطرة، ولا تبقى في السماء، بل كانت تنزل إلى الأرض، ثم تدخل إلى الصدور، فيصيح أصحابها من الألم والضيق.. فيأتي نسيم عليل يذهب ما بها من ضيق، ويملأها انشراحا وعافية.

قلت للمعلم: لا شك أن هذه صورة بعض الغازات السامة التي يتفنن قومي في اختراعها.. ولكن ما سر ذلك النسيم؟

قال: لا.. هذه صورة الضيق الذي يملأ القلوب والصدور، وذلك النسيم، هو مظهر من مظاهر الإغاثة الإلهية، فالله تعالى هو شارح صدر المتألمين، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (طه:25)، وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الزمر:22)، وقال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح:1)

والله تعالى هو المنجي من الهم والغم، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً} (آل

ابتسامة الأنين (130)

عمران:154)، وقال تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} (طه:40)، وقال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الانبياء:88)

تدخل أحد الحاضرين، فقال: ولهذا أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستعين بالله في دفع الهم والغم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا) فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: (بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها) (1)

__________

(1) أحمد.

ابتسامة الأنين (131)

ثالثا ـ حصن الاستعانة

ذهبنا إلى الحصن الثالث من حصون الروح، وهو حصن (الاستعانة بالله)، وقد كتب على بابه بحروف من نور: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5)

قلت للمعلم: لم كانت الاستعانة بالله تالية لحسن الظن بالله؟

قال: أول نتيجة للمعرفة بالله هي حسن الظن به والثقة فيه، وهما مفتاح الأمل الذي يجعل القلب متوجها لله طالبا غوثه مستمدا عونه.. فمن ثمرات حسن الظن بالله الاستعانة به، كما أن من ثمرات سوء الظن بالله عدم الالتفات إليه.

ولهذا عقب الله تعالى العبادة بالاستعانة في سورة الفاتحة، فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5)، فمن عبد الله كما أمر لا بد أن يصل إلى نصيبه من المعرفة الذي يضعه في عبودية الاستعانة بالله.

قلت: فما ثمرة الاستعانة بالله؟

قال: القوة التي تتحدى كل الصعاب، وتنفرج لها كل الكروب، أرأيت لو استعنت بأقوياء قومك على بناء بيتك.. ألا تبنيه؟

قلت: بل أبنيه.. وأبني قصورا معه.. فلا قوة كقوة الاستعانة.

قال: هذا أثر الاستعانة بالبشر، وبجهد البشر، فكيف بالاستعانة بالله الذي يملك الكل؟

قلت: فما يحقق هذه الاستعانة بالله؟

قال: الإيمان بالله، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي يبين فيه أسس القوة التي يتمتع بها المؤمن، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان

ابتسامة الأنين (132)

كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فان لو تفتح عمل الشيطان) (1)

قلت: فما حدود القوة التي أحققها بالاستعانة؟

قال: لا حدود لهذه القوة، فكل ما يخطر ببالك قليل بالنسبة للحقيقة.. ألم يواجه الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الانحراف بجميع أشكاله، مستعينين بقوة الله!؟.. ألم تسمع قوله تعالى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في لحظة من اللحظات الحرجة التي مر بها: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:40)

وقوله عن موسى عليه السلام وهو بين عدو يتربص به، وبين بحر يحول بينه وبين الفرار: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشعراء:62)

وقول موسى عليه السلام لقومه من الجبناء: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (لأعراف:128)

قلت: فما مكامن القوة في الاستعانة بالله؟

قال: لا تكمن قوة الاستعانة بالله في المدد الذي يحصل ثمرة لها فقط، وإنما قوتها في نفس الاستعانة بما تحدثه من أمل في القلب، وانشراح في الصدر، وابتسامة للأنين.

بينما أنا كذلك إذ رأيت طبيبا يظهر عليه من خلال مظهره، ومن خلال صعوبة نطقه بالعربية أنه أعجمي، فسألت المعلم عنه، فقال: هذا طبيب من قومك (2).

قلت: وما الذي حضر به إلى هنا؟

قال: هو أستاذ زائر بهذا القسم.. ألا تعرف الأستاذ الزائر؟

__________

(1) أحمد.

(2) هو بول إرنست أدولف، أستاذ مساعد التشريح بجامعة سانت جونس وعضو جمعية الجراحين الأمريكية.

ابتسامة الأنين (133)

قلت: بلى.. فجامعاتنا تفعل هذا.. حيث تستقدم بعض الأساتذة ليحاضروا في جامعاتها مدة، ثم يعودون إلى مراكز عملهم الأصلية.

قال: فهذا الطبيب كان يتصور العلاج عملية رياضية محضة، تكفي فيها المواد الكيميائية، ولا علاقة لها بالحالة النفسية أو التوجه الإيماني (1)، ولكنه تحول بعد ذلك ليقر بدور الإيمان والاستعانة بالله في الشفاء، فلهذا استقدمته إدارة المستشفى ليدلي بشهادته هنا.. فهلم نقترب لنسمع ما يقول.

تقدمنا، فسمعته يقول: لقد درست ـ عندما كنت أتعلم الطب ـ أحد المبادئ المادية الأساسية التي تفسر ما يحدث من تغيرات داخل الجسم عندما يصيبها عطب أو تلف، تفسيراً مادياً صرفاً، كما فحصت قطاعات مجهرية لهذه الأنسجة، وتبينت أن الظروف المناسبة تعينها على أن تلتئم بسرعة وتتقدم نحو الشفاء، وعندما اشتغلت جراحاً في أحد المستشفيات بعد ذلك، كنت أستخدم المبدأ السابق استخداما يتسم بالثقة فيه والاطمئنان إليه. ولم يكن علىّ إلا أن أهيئ الظروف المادية والطبية المناسبة، ثم أدع الجرح يلتئم، وكلي ثقة بالنتيجة المرتقبة.

قلت: هذه هي المعرفة التي يؤمن بها أكثر الأطباء، ويكتفون بها.

قال المعلم: ولكن هذا الطبيب انتقل إلى مرحلة أخرى، سار من خلالها نحو الإيمان، فاسمع لما يقول.

قال الطبيب: ولكنني لم ألبث غير قليل حتى اكتشفت أنني قد فاتني أن أُضِّمن علاجي وأفكاري الطبية أهم العناصر وأبعدها أثراً في إتمام الشفاء ألا وهو الاستعانة بالله.

قلت: فهل ذكرت لنا سر تحولك هذا؟

قال: سأذكر مثالا على التجارب التي مرر بها، والتي جعلتني أتحول إلى هذه القناعة..

__________

(1) عن كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) جمعها: جون كلوفر مونسما، ترجمة الدكتور الدمرداش عبد المجيد سرحان، الناشر مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع القاهرة.

ابتسامة الأنين (134)

عندما كنت أعمل جراحاً في أحد المستشفيات، جاءتني ذات يوم جدة جاوزت السبعين تشكو من شدخ في عظام ردفها، وبعد أن وضعت فترة تحت العلاج أدركت من فحص سلسلة الصور التي أخذت لها على فترات تحت الأشعة أنها تتقدم بسرعة عجيبة نحو الشفاء، ولم تمض أيام قليلة حتى تقدمت إليها مهنئاً بما تم لها من شفاء نادر عجيب، عندئذ استطاعت السيدة أن تتحرك فوق المقعد ذي العجلات، ثم سارت وحدها متوكئة على عصاها، وقررنا أن تخرج تلك السيدة في مدى أربع وعشرين ساعة وتذهب إلى بيتها، فلم يعد بها حاجة إلى البقاء في المستشفى.

وكان صباح اليوم التالي هو الأحد، وقد عادتها ابنتها في زيارة الأحد المعتادة حيث أخبرتها أنها تستطيع أن تأخذها والدتها في الصباح إلى المنزل لأنها تستطيع الآن أن تسير متوكئة على عصاها.

ولم تذكر لي ابتنها شيئاً مما جال في خاطرها، ولكنها انتحت بأمها جانباً وأخبرتها أنها قد قررت بالاتفاق مع زوجها أن يأخذا الأم إلى أحد ملاجيء العجزة لأنهما لا يستطيعان أن يأخذاها إلى المنزل.

ولم تكد تنقضي بضع ساعات على ذلك حتى استدعيت على عجل لإسعاف السيدة العجوز، ويا لهول ما رأيت.. لقد كانت المرأة تحتضر، ولم تمض ساعات قليلة حتى أسلمت الروح.

إنها لم تمت من كسر في عظام ردفها، ولكنها ماتت من انكسار في قلبها، لقد حاولت دون جدوى أن أقدم لها أقصى ما يمكن من وسائل الإسعاف، وضاعت كل الجهود سدى.

لقد شفيت من مرضها بسهولة، ولكن قلبها الكسير لم يمكن شفاؤه برغم ما كانت قد تناولته في أثناء العلاج من الفيتامينات والعقاقير المقوية وما تهيأ لها من أسباب الراحة، ومن الاحتياجات التي كانت تتخذ لتعينها على المرض وتعجل لها الشفاء.. لقد التأمت عظامها المكسورة التئاماً تاماً ومع ذلك فإنها ماتت.

ابتسامة الأنين (135)

صحت: لماذا؟

نظر إلي، وقال: إن أهم عامل في شفائها لم يكن الفيتامينات ولا العقاقير ولا التئام العظام، ولكنه كان الأمل، وعندما ضاع الأمل تعذر الشفاء.

قلت: فما نواحي الأمل التي غابت عن ذهن هذه العجوز في تصورك كطبيب؟

قال: أثرت هذه الحاثة في نفسي تأثيراً عميقاً، وقلت في نفسي: لو أن هذه السيدة وضعت أملها في الله ما ضيعها وما انهارت ولما حدث لها ما حدث.. وبرغم أنني كنت أومن بالله خالق كل شيء بحكم اشتغالي بالعلوم الطبية، فإنني كنت أفضل بين معلوماتي الطبية والمادية، وبين اعتقادي في وجود الله كما لو لم تكن هنالك صلة بين هذين الأمرين.

قلت: فقد وصلت إذن إلى ضرورة الإيمان للشفاء والعافية والسعادة؟

قال: لقد أيقنت أن العلاج الحقيقي لابد أن يشمل الروح والجسم معاً وفي وقت واحد، وأدركت أن من واجبي أن أطبق معلوماتي الطبية والجراحية إلى جانب إيماني بالله وعلمي به، ولقد أقمت كلتا الناحيتين على أساس قويم.. بهذه الطريقة وحدها استطعت أن أقدم لمرضاي العلاج الكامل الذي يحتاجون إليه.. ولقد وجدت بعد تدبر عميق أن معلوماتي الطبية وعقيدتي في الله هما الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الفلسفة الطبية الحديثة.

قلت: أهذه قناعتك وحدك؟.. أم ترى من زملائك من اقتنع بهذه القانعة؟

قال: الواقع أن النتيجة التي وصلت إليها تتفق كل الاتفاق مع النظرية الطبية الحديثة عن أهمية العنصر السيكولوجي في العلاج الحديث، فقد دلت الإحصائيات الدقيقة على أن 80 بالمائة من المرضى بشتى الأمراض في جميع المدن الأمريكية الكبرى ترجع أمراضهم إلى حد كبير إلى مسببات نفسية، ونصف هذه النسبة من الأشخاص الذين ليس لديهم مرض عضوي في أية صورة من الصور.. وليس معنى ذلك أن هذه الأمراض مجرد أوهام خيالية حقيقة، وليست أسبابها خيالية ولكنها موجودة فعلاً ويمكن الوصول إليها عندما يستخدم الطبيب المعالج

ابتسامة الأنين (136)

بصيرته بها.

-------

قلت للمعلم: هاهو الطب بدأ يسلم وجهه إلى الله، ويرتفع عنه ذلك الغرور الذي أصابه بعد اكتشافه لأسباب العلل، وكيفية علاجها.

قال: وسيرى من آيات الله ما يحمله إلى الله حملا.. ويوشك لو امتد بك العمر أن ترى المستشفيات مساجد يعبد فيها الله، ويذكر فيها بالله، لا تختلف عن سائر المساجد.

قلت: أرى بابان مقابلان.. إلى أين يؤديان؟

قال: إلى ركنين عظيمين من أركان الاستعانة.

قلت: ما أولهما؟

قال: التضرع إلى الله ودعاؤه وطلب مدده وعونه، وهو الذي يقصد بالاستعانة عند الإطلاق.

قلت: وما الثاني؟

قال: العمل الصالح، فالله تعالى يمد بعونه من أطاعه، كما يحرم منه من عصاه، وقد ورد في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين) (1)

قلت: فكيف يكون العمل الصالح ركنا من أركان الاستعانة؟

قال: ألا تمد بالعون من استغاث بك طالبا النجدة؟

قلت: بلى.. وهذا هو الركن الأول.. وسؤالي عن الركن الثاني.

قال: ألا تمد بالعون من نطق لسان حاله بالحاجة مع صلاحه وعفافه؟

__________

(1) البخاري في خلق أفعال العباد، وابن شالهين في الترغيب في الذكر، وأبو نعيم في المعرفة.

ابتسامة الأنين (137)

قلت: لم أفهم هذا.

قال: إذا سألك مسكين ألا تعطيه؟

قلت: بلى.. وهذا هو الركن الأول.

قال: فإذا رأيت فقيرا طيبا عفيفا استحيا من مد يده.. ألا تعطيه؟

قلت: بل أقدمه على السائل.

قال: لم؟

قلت: الله تعالى هو الذي أمرنا بذلك، فقد قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة:273)

قال: فكذلك من عرف بسيما الصلاح كان الله في عونه، سأل، أو لم يسأل.

الدعاء

اقتربنا من الباب الأول من أبواب الاستعانة بالله، وقد كتب عليه بحروف من نور قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة:186)

فقال لي المعلم: أول مفتاح من مفاتيح الاستعانة بالله هو الدعاء، فبه تطرق أبواب الجود، وتمد أيدي العون، وترسل أمداد الإغاثة.

قلت: ما سر أمر الله لنا بالدعاء، مع كونه لا يتضمن إلا مصالحنا، وهي من الفطرية بحيث لا تحتاج إلى الإلحاح في طلبها؟

قال: هذا سر من أسرار كرم الله.. فالكريم ليس من أعطاك بعد أن تسأله، وإنما الكريم هو الذي يسألك أن تسأله.

قلت: كيف؟

ابتسامة الأنين (138)

قال: لأنك إذا اضطررت إلى سؤال من لم يطلب منك أن تسأله قد يشق عليك السؤال خوفا من الرد.. ولكنه إن فتح لك المجال بطلبه حل عقدة لسانك بالسؤال.

قلت: لهذا ـ إذن ـ كان من رحمة الله ودلائل فضله أنه يحثنا على دعائه وطلب الحاجات منه، واعدا إجابة من دعاه وتحقيق سؤله، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60)

قال: ليس ذلك فقط، بل اعتبر عدم رفع الأيدي بالدعاء نوعا من أنواع الكبر، فقال تعالى تتمة للآية التي ذكرتها: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60)

قلت: لم كان عدم رفع الدعاء كبرا؟

قال: لأنه ناتج عن إعظام النفس لنفسها، فلم تر الله كفؤا لتسأله حاجاتها.

قلت: أتتجرأ النفوس على هذا؟

قال: وكيف لا تتجرأ.. والكبر ابن إبليس.. ألم يكن في وسع إبليس أن يقول ما قال آدم عليه السلام طالبا مغفرة الله؟

قلت: بلى..

قال: فما الذي منعه من ذلك.. متحملا غضب الله في سبيل ذلك؟

قلت: الكبر الكاذب الذي امتلأت به نفسه.

قال: فهكذا من يرث من إبليس كبره.

قلت: لقد أدركت الآن سر قول الشاعر الصالح:

لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجة... وسل الذي أبوابه لا تُحجَبُ... ولإضافة شطر

الله يغضب إن تركت سؤالَهُ... وبُنَيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ

قال: أجل.. فترك الدعاء نوع من أنواع الكبر، أو درك من دركات الغفلة، وكلاهما موجب لغضب الله.

-------

ابتسامة الأنين (139)

سمعت صوتا في القاعة يردد بصوت جميل: ورد في بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى يقول: (وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأخيبنه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، ولأجعلنه متفكرا حيران يؤمل غيري في الشدائد، والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجو غيري، ويطرق بالفكر أبواب غيري، وبيدي مفاتيح الأبواب، وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني)

قلت للمعلم: ما هذا؟.. أيتلى غير القرآن الكريم؟

قال: معناه موجود في القرآن الكريم، ألم يقل الله تعالى موبخا المتكبرين الذين أصابهم ببلائه ليرفعوا أيديهم إليه طالبين نجدته، ولكن كبرهم حال بينهم وبين ذلك: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ((المؤمنون:76)

بل بين تعالى أن غاية البلاء المرسل على الخلق هو دعوتهم إلى طرق أبواب الله، والاستمداد من فضله، ليكون ذلك سببا لاتصالهم بالله وعبوديتهم له، فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:42 ـ 43)، أي هلا إذ جاءهم بأس الله ورأوه في الدنيا تضرعوا ورجعوا إلى الله سبحانه وتعالى، فعلموا أنه ربهم وإلههم ومولاهم، وأنه كما أنه قادر على نفعهم قادر على ضرهم، فاستفادوا من ذلك بالعودة إلى الله، وطاعة رسله..

-------

جاءني رجل.. وكأنه يعرفني، فقال: ولكن..

قلت له: ولكن ماذا؟

قال: مع أهمية الدعاء وتأثيره الفاعل في تحقيق المطالب، وفي بث السكينة في النفوس المضطربة، إلا أن وحي الشيطان لا يزال يتسرب إليك ـ أيها المتألم لدائك ـ لينفخ فيك داء اليأس القاتل، ويبعدك عن جوار ربك القوي إلى جوار نفسك القاصرة.

ابتسامة الأنين (140)

قلت ـ وقد تصبب مني العرق حياء ـ: أجل، وأستغفر الله.. فما المخرج؟

قال: لقد توصل أطباء هذا المستشفى ـ انطلاقا من القرآن الكريم ـ إلى وضع أربعة أدوية تعالج الأوهام التي يبني بها الشيطان الأبراج التي تحول بينك وبين الاستمداد من ربك.

قلت: أأنا الآن مريض بأربعة علل؟

قال: كل من رأى يده قاصرة عن الدعاء، أو لسانه خافتا بالطلب، فهو مريض بأحد أوهام أربعة.

قلت: فما الأول؟

قال: وهم الضعف الذي يقول لك: (اعمل وراع الأسباب، فالكون كله أسباب، لا مكان فيه للخوارق)

قلت: فما الوهم الثاني؟

قال: وهم المعارضة الذي يقول لك: (من أنت حتى تعارض مقادير ربك، فقد جف القلم بما كان، ولن يؤخر دعاؤك، ولن يقدم)

قلت: فما الوهم الثالث؟

قال: وهم النقص الذي يقول لك: (الدعاء سلوى القاصرين، أما الكمل، فليس لهم خيار مع ربهم، ولا يريدون إلا ما أراد:

وليس لي في سواك حظ... فكيفما شئت فاختبرني)

قلت: فما الوهم الرابع؟

قال: وهم اليأس الذي يقول لك: (كل الناس يرفعون أيديهم، ولكن كل أيديهم ترجع صفرا.. فالتمس لك أسبابا أخرى)

قلت: هذه الأمراض، فأين الأدوية؟

قال: فبأي الأمراض أصبت أنت حتى أدلك على موضع الدواء.

ابتسامة الأنين (141)

قلت: لعلي مريض بجميعها.. لا أدري.

قال: فسر إلى هذه العيادات الأربع بصحبة معلمك، ففيها أدوية الأوهام الأربع.

وهم الضعف

سرنا إلى القاعة التي يعالج فيها وهم الضعف، فقرأت على بابه مكتوبا: (هذا وهم ينفخه الشيطان في النفوس التي تتصور الكون بصورة معادلات رياضية، تتحكم في الله، ولا يتحكم الله فيها، فلذلك قد تنكر الخوارق، أو لا تنسبها إلا للأنبياء والصديقين، أما من عداهم فهم تحت رحمة القوانين حلوة كانت أو مرة، والتعامل معها ينبغي أن يكون بالسعي والاجتهاد لا بالسؤال والتواكل)

قلت للمعلم: إن هذا الكلام يحتوي على بعض الحق على الأقل، فالله تعالى قدر للكون مقادير ثابتة ووضعه بنظام دقيق، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49)

وأخبر أن ما ينزل من فضله ينزل بمقادير محددة، فقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر:21)

بل أخبر أن الغيث النازل نازل بمقادير دقيقة محددة، فقال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (الزخرف:11)

قال: ولكن مع ذلك، فإن الله تعالى رب القوانين، وهو الذي يتحكم فيها، وليست هي التي تتحكم فيه، ولذلك من الخطأ اعتقاد عدم ربوبية الله على القوانين، والله هو رب كل شيء.. أرأيتم لو أن أحدكم وضع نظاما من أنظمة هذا الجهاز الذي تدمنون على الجلوس بجانبه.

قلت: الحاسب الآلي..

قال: أجل.. فهل يمكن له أن يضع له من الاختيارات والخصائص ما يشاء.. ثم يغيرها كما يشاء؟

ابتسامة الأنين (142)

قلت: مثل ماذا؟

قال: بأن يغير نوع الخط مثلا أو لونه، أو يضع صورا بدل صور أخرى.

قلت: ذلك بإمكانه.. بل بإمكانه أشياء أخرى كثيرة.

قال: فلو أن أحدا من مستعملي برنامجه تعود على لون معين.. فتصور أن ذلك اللون هو اللون الوحيد لذلك النظام.

قلت: هذا إما جاهل أو مكابر.. ومن البساطة الرد على دعواه.

قال: كيف؟

قلت: نتصل بمصم النظام ليضع له واجهة أخرى تفند رأيه ومذهبه.

قال: فهذا الاتصال هو الدعاء.. والله هو واضع قوانين الخلق وبرامجهم.

قلت: ولكن.. كيف نرد على من يعتبر الدعاء نوعا من التواكل والقعود؟

قال: لا.. الدعاء نوع من الاستعانة بالله، وهو لما يحدثه في النفس من الأمل قوة فاعلة لها تأثيرها الإيجابي في الخروج من الأزمات.. واسمع لما يقول الشهود.

قلت: أهنا شهود أيضا؟

قال: الشهود في كل مكان..

رأيت أعجميا يقول بعربية مختلطة بعجمة: (الدعاء ـ إضافة إلى قدرته في بث الطمأنينة في النفس ـ يؤدي إلى نوع من النشاط الدماغي في الإِنسان، وإلى نوع من الانشراح، والانبساط الباطني وأحياناً إلى تصعيد روح البطولة والشجاعة فيه. الدعاء يتجلى بخصائص مشخصة فريدة.. صفاء النظرة، وقوة الشخصية، والانشراح والسرور، والثقة بالنفس، والاستعداد للهداية، واستقبال الحوادث بصدر رحب، كل هذه مظاهر لكنز عظيم دفين في نفوسنا، وانطلاقاً من هذه القوّة يستطيع حتى الأفراد المتخلفون أن يستثمروا طاقاتهم العقلية والأخلاقية بشكل

ابتسامة الأنين (143)

أفضل، وأكثر) (1)

سرنا قليلا، فرأينا أعجميا آخر يقول بعربية مختلطة بعجمة: (حينما ندعو فإننا نربط أنفسنا بقوة لا متناهية تربط جميع الكائنات مع بعضها.. إنّ أحدث العلوم الإِنسانية ـ أعني علم النفس ـ يعلّمنا نفس تعاليم الأنبياء، لماذا؟ لأن الأطباء النفسانيين أدركوا أن الدعاء والصلاة والإِيمان القوي بالدين يزيل عوامل القلق والاضطراب والخوف والهيجان الباعثة على أكثر أمراضنا) (2)

قلت: فالدعاء إذن عامل قوة لا عامل الضعف.

قال المعلم: الضعيف المؤمن بالله المتوكل عليه قد يتوجه للأعمال العظيمة، ويقوم بها خير قيام، لأنه لم يقم بها بذاته، بل قام بها بمعونة الله، وبمدده وفضله.. بينما القوي ـ الذي يتصور نفسه قويا ـ قد يقف أمام أبسط الأمور، لأن المعادلات التي رسمها له شيطان الأسباب لا تسمح له بالإقدام.

بينما نحن كذلك دخل طبيب بمئزره الطبي، فرنت له العيون، فقلت للمعلم: من هذا؟

قال: هذا الطبيب مختص بذكر النماذج التي تحطم أوهام المختبئين تحت عباءة الأسباب والقوانين الغافلين عن رؤية مسبب الأسباب.

قلت: فهو عالم بالرجال إذن.

قال: عالم بالأولياء.. لا بكل الرجال.. فأصخ سمعك إليه.

قال: أما النموذج الأول، فهو موسى عليه السلام عندما وقع في الحصار، البحر أمامه، والعدو من ورائه، حينذاك قال الغافلون من قومه: (أين المفر؟ {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (الشعراء:61)

ولكن موسى عليه السلام قال بثقة المؤمن: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ((الشعراء:62)

وعندما قالها انخرمت قوانين السيولة في البحر، واستسلم البحر لربه، وتحول إلى طريق

__________

(1) نقلا عن: الأمثل للشيرازي: 1/ 462.

(2) الأمثل: 1/ 462.

ابتسامة الأنين (144)

يبس سار فيه موسى عليه السلام ومن معه.

صاح المرضى: الله! الله!

وصحت معهم بلا شعور: الله! الله! لقد كان الدعاء هو مدد موسى عليه السلام، وهو مصدر قوته، كما أن الاعتماد على الأسباب هو سبب ضعف قومه المخذولين.

قال الطبيب: والنموذج الثاني، مع موسى عليه السلام أيضا، وهو موقف قومه من أمر موسى عليه السلام لهم بدخول الأرض المقدسة، قال لهم باعتباره الزعيم الذي أنقذهم من بطش فرعون، وباعتباره محل ثقتهم، فالخوارق يرونها أمامهم كما نرى القوانين العادية: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (المائدة:21)

لكنهم غفلوا عن قدرة الله التي شقت البحر لتنقذهم، وواجهوا هذا الأمر الإلهي ـ كما واجهوا غيره ـ بتخاذلهم، قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (المائدة:22)

ولكن رجلين صالحين قويين منهم دلوهم على الطريق الذي يدخلون به إلى هؤلاء القوم، قال تعالى واصفا هذا الموقف: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة:23)

فقد دلوهم على أمرين:

مراعاة الأسباب: بالدخول عليهم من الباب.

مراعاة قدرة الله: بالتوكل عليه والاستعانة به.

لكن هؤلاء أبوا إلا النظر إلى قوتهم وحدها وأسبابهم وحدها، فقالوا، وبإصرار عظيم: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)

حينذاك لم يجد موسى عليه السلام حلا إلا الفرار إلى ربه، فقال: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي

ابتسامة الأنين (145)

وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (المائدة:25)

واستجاب له ربه كما عوده، وطمأنه، قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (المائدة:26)

صاح المرضى: الله! الله!

وصحت معهم بلا شعور: الله! الله!

قلت للمعلم: إن حياة موسى عليه السلام في القرآن الكريم مثال عظيم على التوجه إلى الله في جميع الساعات: ساعات الشدة، وساعات الرخاء.

قال: أجل.. فإنه بعد أن قتل نفسا، وهو الذي يملك شفافية الإيمان وحساسيته، لم ينهد كيانه، ولم تخر قواه، بل قال متوجها لربه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص:16)، وما إن قالها حتى غفر له، بل نجاه من الغم الذي يصيب المؤمنين بعد وقوعهم في الخطأ، قال تعالى يذكر فضله عليه: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} (طه:40)

وحينذاك لم ينس الله الذي أجاب دعاءه، بل توجه إليه بقلبه الرقيق شاكرا: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} (القصص:17)

وعندما جاءه الرجل يسعى محذرا قائلا: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (القصص:20)، قدم موسى الأسباب وهو ملتجئ لرب الأسباب، قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (القصص: 21)

أما الأسباب فخروجه خائفا مترقبا محتاطا متخذا كل الأسباب المادية، أما لجوؤه لرب الأسباب، فهو دعاؤه الله بأن ينجيه من القوم الظالمين، وهو يؤمل في فضله: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} (القصص:22)

وعندما ورد ماء مدين، ولم يكن الوقت كافيا لأي عمل يمكن أن يكسب منه قوته توجه إلى ربه ـ كما يتوجه الصغير إلى والديه ـ قائلا: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}

ابتسامة الأنين (146)

(القصص:24)

وفي تلك اللحظة جاءه المدد الإلهي الذي لم يتخلف عنه لحظة من اللحظات.

قلت: إن من قومي من يقرأون هذه الأحداث التي يقصها القرآن الكريم كما يقرأون ألف ليلة وليلة، وهم يملأونها بالأساطير فوق ذلك.

قال: لا.. هذا تحريف خطير.. إن القرآن الكريم لا يرسم هذه الصور، ولا يعيد الحياة في هذه الأحداث إلا ليزيل عنكم الأوهام التي تحول بينكم وبين ربكم متلبسة ثياب العلم والحكمة.. فلا تتخذوا آيات الله هزؤا..

قلت: أهذا من ذاك؟

قال: بل هو أخطر من ذاك.. فالمستهزئ قد يتوب، أما هؤلاء فتشغلهم غفلتهم وما زين لهم عن مد أيديهم لله بالتوبة.

وهم المعارضة

سرنا إلى القاعة التي يعالج فيها وهم المعارضة، فقرأت على بابها مكتوبا: (هذا وهم ناشئ عن سوء الفهم للقدر، ولعلاقة الله بعباده، وعنه تنشأ أوهام كثيرة تصور الله صورا لا تليق بجلاله وجماله ورحمته وحكمته)

قلت للمعلم: فسنبحث في هذا الباب إذن مسألة القدر.

قال: لا.. ليس بتفاصيلها.. فلذلك رحلة خاصة ودرس خاص نعرفه عندما نبحث في (أسرار الأقدار)

قلت: والآن.. وفي هذه القاعة؟

قال: سنعرف عدم التعارض بين الدعاء والقدر.

قلت: فما أول علاج نستفيده لعلاج هذا الوهم؟

ابتسامة الأنين (147)

قال: أول ما نستضيء به لدفع هذا الوهم هو التسليم لله واعتقاد عجزنا عن فهم حقائق الكون.

قلت: لا أرى الوهم يزال إلا بالعلم، فكيف تدلنا على التسليم الذي يبقي الجهل راسبا في محله؟

قال: ألستم تستفيدون من الكهرباء؟

قلت: لو انقطعت الكهرباء على البشرية يوما واحدا لأصبحت الأرض غير الأرض.

قال: فكم من الخلق يعرفون أسرارها؟

قلت: أفراد معدودون اختصوا في هذا الجانب.. ومع ذلك.. فإنهم كل يوم يكتشفون أشياء جديدة، ويصححون معلومات كانت خاطئة.

قال: فإذا سلمتم لهؤلاء، فلم لا تسلمون لله الذي خلق كل شيء وقدر كل شيء.

قلت: ما نسلم؟

قال: ما يتوهمه الغافلون تناقضا.

قلت: كيف ذلك؟

قال: الله تعالى أخبرنا بأنه قدر مقادير كل شيء، ودعانا في نفس الوقت أن ندعوه، ووعدنا بإجابة دعواتنا.

قلت: هذا صحيح، وليس في ذلك أي تناقض.

قال: لا.. الغافلون اعتبروا هذا تناقضا، فقالوا: كيف يجيب دعواتكم، وقد قدر المقادير وانتهى منها، وما سجل سيكون (1

__________

(1) ذكر الفخر الرازي ما استدل به المتعلقون بهذا الوهم، ومما ذكره:

1. أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع، فلا حاجة إلى الدعاء، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا حاجة أيضا إلى الدعاء.

2. أن حدوث الحوادث في هذا العالم لا بد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته، وإلا لزم إما التسلسل، وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب إنتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم، فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديما أزليا كان واجب الوقوع، وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديما أزليا كان ممتنع الوقوع، ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء أثر.

3. أن الأقدار سابقة والأقضية متقدمة والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئا منها، فأي فائدة في الدعاء،.

4. أنه سبحانه علام الغيوب يعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور، فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء؟

5. أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله وإن لم يكن من مصالحه لم يجز.

6. أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالإلتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر.

7. أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب.

ابتسامة الأنين (148)

قلت: ألم ينتبهوا إلى أن الذي أخبر عن قدره هو الذي أمر بدعائه؟

قال: هم يأخذون ببعض الكتاب، ويهجرون بعضه.

قلت: والمؤمنون المسلمون لله؟

قال: لا يسألون هذا السؤال، بل لا يخطر ببالهم، كما لا يخطر ببال كل الناس ما يقوله الطبيب أو المهندس ما داما يتكلمان انطلاقا من خبرتهما واختصاصهما.

قلت: ألهذا إذن يخبر صلى الله عليه وآله وسلم بأن البلاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يغنى حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء فيعتلجان الى يوم القيامة) (1)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرد القدر الا الدعاء، ولا يزيد في العمر الا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) (2)

قال: أجل ليكون ذلك زادا للمؤمنين المسلمين لله، ويكون علاجا نافعا للغافلين المتوهمين.

قلت: فما البذرة التي أنبتت هذا الوهم؟

__________

(1) ابن عدي، والحاكم.

(2) البيهقي في الشعب، والطبراني في الكبير.

ابتسامة الأنين (149)

قال: كيف وأخواتها.

قلت: لم أفهم قصدك.

قال: هو سؤالهم عن الكيفية، وهي تعني البحث عن أمور لا طاقة للعقل بفهمها أو للخيال بتصورها، فلذلك كان الكمال في التسليم للخبير لا معارضته.

قلت: ولكن هؤلاء يقعون في خطأ عظيم، فهم يمارسون في حياتهم العادية خلاف ما يقتضيه تصورهم لمسألة الدعاء.

قال: أجل.. فهم يأكلون إذا جاعوا، ويشربون إذا عطشوا، ويتداوون إذا مرضوا، ولا يقول أحد منهم: إن ذلك معارضة للمقادير، ولو شئنا لقلنا لهم: لماذا تفرون من الموت بأسباب الحياة التي تتفننون في الحرص عليها، ألا تعارضون بذلك المقادير التي حددت آجالكم؟

قلت: فالدعاء سبب من الأسباب، لا يختلف عن سائر الأسباب التي يمارسها كل البشر في جميع الأحوال.

قال: أجل.. هكذا أخبرت النصوص.

رأيت رجلا في تلك القاعة، قد التف حوله جمع من المرضى، سألت المعلم عنه، فقال: هذا الغزالي، وهو ـ كما تعلم ـ من أطباء هذا المستشفى.

اقتربنا من الغزالي، فسمعته يقول بحماسة، وكأنه يرافع في محكمة من المحاكم ـ وهو يشير إلى بعض المرضى الجدد ـ: (فإن قلت: فما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فالدعاء سبب لرد البلاء ووجود الرحمة، كما أن الترس سبب لدفع السلاح، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان، فكذلك الدعاء والبلاء، وليس من شرط الاعتراف بالقضاء ألا يحمل السلاح، وقد قال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (النساء:102)، فقدَّر الله تعالى الأمر وقدَّر أسبابه) (1)

__________

(1) الإحياء: 1/ 328.

ابتسامة الأنين (150)

قال المعلم: لقد تحقق هذا المعنى في منتهى كماله في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يعطي لكل مقام حقه من العبودية، ولعل أدل مثال على ذلك ما وقع منه في غزوة بدر، فقد أراه الله مصارع المشركين حتى أنه أخذ يرها للصحابة، ومع ذلك لم يكف صلى الله عليه وآله وسلم من الإلحاح على ربه في الدعاء، عن علي قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح.

وفي يوم المعركة نام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم استيقظ فزعا، وهو رافع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول: (اللهم إن تظهر على هذه العصابة يظهر الشرك ولا يقم لك دين)

قلت للمعلم: لكن بعض سالكي طريق المعرفة تأدبوا، فقالوا بشرعية الدعاء، ولكنهم قصروه على المعنى التعبدي المحض الذي يطلب به العبد مجرد الثواب من غير أن يكون له أي تأثير في تحقيق المطلوب.. فلا فرق عند هؤلاء بين الدعاء والامساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب.. بل إن ارتباط الدعاء عندهم بتحقيق المطلوب كارتباط السكوت، لا فرق بينهما.

قال: هذا الرأي يتناقض مع ما صرحت به النصوص من جعل الله تعالى الدعاء سببا في تحقيق المطالب، بل هو يتناقض أصلا مع تشريع الدعاء، بل يعتبر قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60) قولا لا معنى له.. بل يعتبر كل ما ورد من النصوص الحاثة على الدعاء، والمخبرة عن إجابة الله تعالى دعاء الداعين وتضرع المتضرعين لا حقيقة لها.

قلت للمعلم: لقد ذهب بعضهم إلى اعتبار الدعاء علامة جعلها الله تعالى أمارة على قضاء الحاجة، فمتى وفق العبد للدعاء كان ذلك علامة له على أن حاجته قد قضيت، وشبهوا ذلك بدلالة الغيم الأسود في الشتاء على أنه يمطر.

وعمموا هذا القول على جميع الطاعات والمعاصي، فهي أمارات محضة عندهم لوقوع الثواب والعقاب، لا أسباب حقيقية له.

ابتسامة الأنين (151)

بل عمموا ذلك في جميع ما يحدث في الكون من آثار، فكلها أمارت فالكسر مع الانكسار ليس سببا، بل لا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد الاقتران، لا التأثير السببي.

قال: فهل يمنع هذا القول الداعين من رفع أيديهم لله بالدعاء؟

قلت: لا..

قال: فلا حرج في هذا القول ما دام لا يمنعهم من رفع أيديهم إلى الله بالدعاء.

قلت: لقد أنكر بعضهم هذا القول، واشتدا في الإنكار، بل اعتبراهم مخالفين لـ (الحس والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء، بل أضحكوا عليهم العقلاء) (1)

قال: لا نرى صحة هذا الإنكار، بل نرى أن الاختلاف فيها مجرد اختلاف نظري لا مبرر له، ولا حاجة إليه، أو هو اختلاف تنوع، أو هو اختلاف في التفسير لا أثر له، فسواء قلنا بأن الدعاء أمارة أو سبب لا يختلف الأمر بالنسبة للداعي، ولا يقعده ذلك عن الدعاء.

قلت: ولكن القول بالسببية له تأثيره الخاص.

قال: لا.. بل إن القول بكون الدعاء أمارة قد يكون أكثر تأثيرا في الدعوة إلى استعمال الدعاء من القول بالسببية.

قلت: كيف هذا؟

قال: لأن الداعي إذا عرف أن الدعاء علامة على استجابة الله قد يجعله أكثر إقبالا عليه من اعتقاده سببا، فالسبب قد يقصر عن تحقيق المطلوب بخلاف جعله علامة..

قلت: لقد ذكرتني بشاعر اقتبس هذا المعنى، فأحسن، فقد قال:

لو لم ترد نيل ما أرجوه وأطلبه... من جود كفيك ما علمتنى الطلبا

قال: وهناك ناحية أخرى أهم من هذه.

قلت: وما هي؟

__________

(1) انظر: مدارج السالكين: 3/ 409.

ابتسامة الأنين (152)

قال: هي الأثر الروحي الذي يتركه اعتقاد كون الدعاء أو العبادة أمارة لا سببا في حد ذاته.

قلت: أإلى هذه الناحية أشار العارفون عند حديثهم عن الدعاء، فقد نبه أبو الحسن الشاذلي إلى الاشتغال بمناجاة الله قبل الاشتغال بتحقيق المطالب، فقال: (لا يكن همك في دعائك الظفر بقضاء حاجتك فتكون محجوباً، وليكن همك مناجاة مولاك)؟

وقال ابن عطاء الله: (لا يكن طلبك تسبباً إلى العطاء منه، فيقل فهمك عنه. وليكن طلبك لإظهار العبودية، وقياماً بحقوق الربوبية)؟

ثم علل كون الطلب لا يكون سبباً للعطاء بثلاث علل:

أما العلة الأولى، فعبر عنها بقوله: (كيف يكون طلبك اللاحق سبباً في عطائه السابق؟)، فعطاء الله للعبد عطاء أزلي سابق، وهو السبب في العطاء الحادث، والسبب لا بد من تقدمه على المسبب، وهو كما قال الواسطي: أقسام قسمت، وأحكام أجريت، كيف تستجلب بحركات أو تنال بسعايات؟

أما العلة الثانية، فعبر عنها بقوله: (جل حكم الأزل أن ينضاف إلى العلل)، أي أن حكم الله يتنزه ويتقدس أن يؤثر فيه أي مؤثر.

أما العلة الثالثة، فعبر عنها بقوله: (عنايته فيك لا لشيء منك، وأين كنت حين واجهتك عنايته، وقابلتك رعايته؟ لم يكن في أزله إخلاص أعمال، ولا وجود أحوال. بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال، وعظيم النوال)

قال: هذا صحيح.. وهو لا يتناقض مع ما سبق ذكره، بل يكمله ويضفي على الدعاء من المعاني الجميلة والارتباط بالله ما يرفعه إلى مستويات عالية من العبودية.. فإن معرفة كون عناية الله الأزلية هي السبب في كل نعمة يشعر القلب بمحبة الله واصطفائه على الكثير من خلقه، وهو ما يجعله يعبد الله مستشعرا منته عليه، وإحسانه السابق إليه.

قلت: أهذا هو مقصود العارفين من ذكر التوحيد بجانب الدعاء؟

ابتسامة الأنين (153)

قال: أجل.. الدعاء سبب شرعي معتبر، ولكن الشرع الذي شرع الدعاء وبين تأثيره في قضاء الحوائج هو الذي بين سبق عناية الله بعبده، فيفنى العارف في الفضل السابق، وينشغل الغافل بالسبب اللاحق.

وهم النقص

سرنا إلى القاعة التي يعالج فيها وهم النقص، فقرأت على بابها مكتوبا: (هذا الوهم ناشئ من سوء فهم لكلام الأولياء) (1)

قلت: ما هذا الوهم ـ يا معلم ـ؟

قال: هو ما كتب على الباب.

قلت: ولكنه لم يحدد الموضوع الذي أسيء فهمه.

قال: الأولياء والمقربون ربما تركوا الدعاء رضى بالقسمة الإلهية.

قلت: لقد عبر على موقفهم هذا ابن عطاء الله بقوله: (ربما دلهم الأدب على ترك الطلب؛ اعتماداً على قسمته؛ واشتغالاً بذكره عن مسألته)

قال: فهذه الحكمة لا تدل على تركهم الدعاء مطلقا، بل يدل على أنهم ربما تركوا الدعاء في بعض الأحيان لاشتغال بعبادة أو رضى بما قسم لهم.

قلت: ولكن مع ذلك.. أليس فيه مخالفة للنصوص، فإنها تحث على الدعاء مطلقا؟

قال: لا.. ليس الأمر بهذه الصورة، فإن ما ذكروه في هذا الباب صحيح لا مشاحة فيه، وقد ورد ما يؤيده من النصوص كقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (من شغله ذكري عن مسألتي

__________

(1) ذكرنا في هذه الرسائل كثيرا أن دور العارفين التربوي هو الحديث عن الجوانب المعرفية المتعلقة بالتكاليف الشرعية، وجمع القلوب على حقائق التوحيد، تكميلا لدور الفقهاء، لا مناقضة لهم، لهذا تحدثوا في هذا الباب عن جانب مراعاة العبودية في الدعاء مع الاعتقاد بالمنة لله في الدعاء أو في تحقيقه.

ابتسامة الأنين (154)

أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) (1)

ألم نقل في بداية هذا القسم: إن الاستعانة بالله قد تتحقق بالسؤال، وقد تتحقق بالعمل الصالح؟

قلت: بلى، وقد ضربنا المثل على ذلك بالفقير المتسول، والمسكين المتعفف.. ولكن كيف نتعفف مع الله، وهو الذي أمرنا بالسؤال؟

قال: ليس الأمر كذلك.. بل إن الأمر لا يعدو مجرد رضا بقسمة الله، وانشغالا بطاعته.

قلت: ولكني قد قرأت للواسطي قولا يجعل العلة غير هذا.. فقد قال: (أخشى إن دعوت أن يقال لي: إن سألتنا مالك عندنا فقد اتهمتنا، وإن سألتنا ما ليس لك عندنا فقد أسأت الثناء علينا، وإن رضيت أجرينا لك من الأمور ما قضينا لك في الدهور)

قال: هذا القول من الواسطي تعبير عن حالة وجدانية معينة، وليس تعبيرا عن مذهب أو فكرة كما قد يتصور.

قلت: ولكنه قد يكون معارضا للدعاء، أو يكاد يعتبره نقصا.

قال: لا.. سوء الفهم هو الذي جر إلى هذا المعنى.. لم يحتقر أحد من الأولياء ما عظمه الله، ولكن هذا تعبير عن أحوال معينة.

قلت: ولكن كلامه واضح.. فلماذا نتعسف في تأويله.. وهو ليس قرآنا حتى ندافع عنه.

قال: القرآن الكريم أعظم من أن يحتاج للدفاع عنه.. ولكنا ندافع عن الحقيقة التي أسيء فهمها.. فلا ينبغي أن نقول: أخطأت إلا لمن أخطأ.

قلت: فلماذا لا نقول لهذا: أخطأت؟

قال: ألم يمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمواقف كثيرة كان يكتفي فيها بتصاريف الأقدار عن الإلحاح في الدعاء.

__________

(1) البخاري في خلق أفعال العباد، وابن شالهين في الترغيب في الذكر، وأبو نعيم في المعرفة، والبيهقي.

ابتسامة الأنين (155)

قلت: بلى.. ويكفي من ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع.. ومع ذلك لم يسأل الله رغيفا واحدا.

قال: بل إن في القرآن الكريم ما قد يستدل به على هذا.

قلت: أين؟

قال: تأخر طلب أيوب تعالى وصبره تلك الفترة الطويلة، كما قال تعالى: {، وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ((الانبياء:83)

قلت: لقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له، كان يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم واللّه لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه اللّه فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل، حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه السلام: ما أدري ما تقول غير أن اللّه عزَّ وجلَّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه، فارجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا اللّه إلا في حق) (1)

قال: والأصرح من ذلك تأخر دعاء نوح تعالى على قومه كل تلك السنين الطويلة.

قلت: أجل، فقد ذكر الله تعالى مدة ذلك، فقال: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} (العنكبوت:14)

قال: ومن ذلك تأخر دعاء إبراهيم وزكريا ـ عليهما السلام ـ في طلب الولد إلى أن بلغا من العمر عتيا.

قلت: أجل، فقد ذكر الله تعالى تعالى عن زكريا عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا ً} (مريم:4 ـ 5)

__________

(1) ابن أبي حاتم.

ابتسامة الأنين (156)

قال: فزكريا عليه السلام مع علمه بأنه لم يكن بدعاء ربه شقيا، أي ولم يعهد من الله إلا الإجابة في الدعاء، إلا أنه لم يستعمل هذا السلاح إلا بعد أن اضطر إليه اضطرار.

قلت: فكيف نوفق بين هذا وذاك؟

قال: بأن يوضع كل شيء في محله.

قلت: كيف ذلك؟

قال: الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ دعوا الله في مواقف كثيرة، وتركوا الدعاء في مواضع أخرى اكتفاء بالله.. فالكمال في الجمع بين الأمرين.

قلت: ما ضوابط ذلك؟

قال: ليس لذلك ضوابط محددة، ولو كانت هناك ضوابط لما اختلف الناس في هذا الباب.

قلت: فالأمر يرجع إلام؟

قال: يرجع إلى الحالة الوجدانية.. أليس الدعاء علاقة وجدانية بين الله وعبده، فقد يدفع العبد أحيانا، وبدون شعور إلى أن يسأل الله أمرا معينا، فيسأل الله، وقد لا يشعر بذلك الدافع، فيكتفي بنظر الله.

وهم اليأس

سرنا إلى القاعة التي يعالج فيها وهم اليأس، فقرأت على بابها مكتوبا: (هذا الوهم ناشئ عن علتين، إحداهما فطرية، والثانية مكتسبة)

العلة الفطرية

قلت: فما الفطرية؟

قال: العجلة، ألم تسمع قوله تعالى: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (الانبياء:37)، وقوله تعالى: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} (الاسراء:11)

ابتسامة الأنين (157)

قلت: بلى.. فالاستعجال صفة فطرية في الإنسان باعتبار عمره القصير، وبسببها آثر العاجلة على الآجلة، والنقد على النسيئة، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} (الاسراء:18)

وبسببها طلب المشركون العذاب ليتأكدوا من صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (العنكبوت:54)

قال: وقد أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه العلة، واعتبرها حجابا بين العبد واستجابة ربه له، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يَعجَل فيقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي) (1)، فالله عز وجل لا يعجل بعجلة ابن آدم، ولكن لكل قضاء عنده موعد.

قلت: فما علاج هذه العلة؟

قال: هنا أربعة رقاة مختصون في علاج هذه العلة.

قلت: أيدخل لهذا المستشفى الجن أيضا؟

قال: الجن خلق من خلق الله، وفيهم الصالحون، فما الذي يمنع دخولهم؟

قلت: ويسكنون بني آدم.

ضحك، وقال: ولم يسكنونهم؟.. أضاقت عليهم الأرض حتى يسكنوا الإنسان؟.. ما مناسبة هذه الأسئلة؟

قلت: لقد ذكرت الرقاة.

قال: الرقاة هم الأطباء الذين يعالجون هذه العلل.. انظر لقد بدأوا في العلاج، فهلم نستمع إليهم.

قال الراقي الأول: أول ما يجرك من هذا الوهم هو تسليمك الأمر لله في تحقيق المطلوب أو عدم تحقيقه، لأن الله أعلم بمصالح العباد منهم بمصالح أنفسهم.

__________

(1) البخاري ومسلم.

ابتسامة الأنين (158)

ويكون الإنسان في هذه الحالة كصبي صغير بين يدي والديه، يطلب منهما كل ما يلوح لبصره، وقد يكون في بعض ما يطلبه داؤه وضرره، فيمنعانه لا بخلا وشحا، وإنما حرصا ورحمة.

وهكذا، فقد يدعو الإنسان بما يتراءى له خيرا، غافلا عن الشر المنطوي في ذلك الخير، والذي أعمته العجلة عن تبصره، ولهذا قال تعالى: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} (الإسراء:11)

زيادة على ذلك، فإن الإنسان في مواقف الغفلة قد يدعو دون نظر لعواقب ما يدعو، ومما دعا به المشركون كما نص القرآن الكريم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (لأنفال:32)

بل قد يدعو المؤمن في موقف من مواقف الغفلة أو الضجر، فيلعن نفسه وأهله وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من اللّه ساعة إجابة يستجيب فيها) (1)

وإلى هذا المعنى يشير العارفون ـ كما يعبر على لسانهم ابن عطاء الله ـ بقوله: (لا يكُنْ تَأخُّرُ أَمَد العَطاء مَعَ الإلْحاح في الدّعَاءِ موجبَاً ليأسِك؛ فهو ضَمِنَ لَكَ الإجابَةَ فيما يختارُهُ لكَ، لا فيما تختاره لنَفْسكَ وفي الوقْتِ الذي يريدُ، لا في الوقْت الذي تُريدُ)

وإلى ذلك أشار في الحكمة الأخرى بقوله: (ربما منعك فأعطاك وربما أعطاك فمنعك)

بل ذلك ما يدل عليه قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216)

قال الراقي الثاني: أما الرقية الثانية، فهي أن الدعاء قد يكون مجابا، ولكنه ينتظر الحين الذي يبرز فيه، وتكون الرحمة في ذلك التأجيل.

وإلى هذا أشارت الحكمة السابقة: (لا يكُنْ تَأخُّرُ أَمَد العَطاء مَعَ الإلْحاح في الدّعَاءِ موجبَاً

__________

(1) أبو داود عن جابر.

ابتسامة الأنين (159)

ليأسِك؛ فهو ضَمِنَ لَكَ الإجابَةَ فيما يختارُهُ لكَ، لا فيما تختاره لنَفْسكَ وفي الوقْتِ الذي يريدُ، لا في الوقْت الذي تُريدُ)

وقد روي في الآثار أن موسى عليه السلام حين دعا على قوم فرعون فقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} (يونس:88)، وقال الله تعالى له: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ((يونس:89) أربعين سنة.

قال الراقي الثالث: أما الرقية الثالثة، فعبر عنها محمد بن علي حين مر على رجل رآه مغموما، فقال: ما لي أراك مغموماً؟ فقال: لدين فدحني، قال محمد بن علي: أفتح لك في الدعاء؟ قال: نعم، قال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها دعاء ربه، كانت ما كانت.

وعبر عنها النورسي بقوله: (ولهذا فان عدم القبول الظاهري لدعوتي بالشفاء من مرضي طوال ثلاثين سنة لم يصرفني أبداً من أن أفكر في يوم من الأيام بتركه والتخلي عنه، ذلك لأن المرض أوان الدعاء ووقته، والشفاء ليس نتيجة الدعاء بل إذا وهب الله سبحانه - وهو الحكيم الرحيم - الشفاء فإنه يهبه من فضله وكرمه، وان عدم قبول الدعاء بالشكل الذي نريده لا يقودنا إلى القول بأن الدعاء لم يُستَجب، فالخالق الحكيم يعلم أفضل منا ونحن نجهل، وأنه سبحانه يسوق إلينا ما هو خير لنا وانفع، وأنه يدّخر لنا الأدعية الخاصة بدنيانا أحياناً لتنفعنا في أُخرانا، وهكذا يقبل الدعاء. ومهما يكن فان الدعاء الذي اكتسب الإخلاص والنابع من سرّ المرض والآتي من الضعف والعجز والتذلل والاحتياج، قريبٌ جداً من القبول. والمرض أساس لمثل هذا الدعاء الخالص ومداره. فالمريض والذين يقومون برعايته من المؤمنين ينبغي أن يستفيدوا من هذا الدعاء) (1)

قال الراقي الرابع: أما الرقية الرابعة، فهي أن تعلم ـ أيها اليائس الحزين ـ أنك في كل

__________

(1) اللمعة الخامسة والعشرون: 331.

ابتسامة الأنين (160)

الأحوال لن ترجع صفر اليدين، بل الغنائم التي تنالها من عند ربك لا تعد ولا تحصى، بل هي أبلغ بكثير مما طلبته.

وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم يعبر عن هذا العلاج: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها.. أو صرف عنه من السوء مثلها.. ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم)، فقال رجل: إذاً نُكثر قال: (الله أكثر) (1)

العلة المكتسبة

قلت: عرفنا العلة الفطرية وعلاجها، فما العلة المكتسبة؟

قال: هي سوء المعرفة بالله، والتي ينتج عنها سوء الظن به.

قلت: فما سبب ذلك؟

قال: سببان قد يجتمعان، وقد يفترقان.

قلت: فما الأول منهما؟

قال: الغفلة التي ترين على القلوب، فتجعلها محجوبة عن الله يائسة من فضله..

قلت: وما الثاني؟

قال: ما سبق من الإنسان من المعاصي، فيتصورها جدارا يحول بينه وبين دعوة ربه أو استجابة ربه لدعائه.

قلت: فأين الرقاة الذين اختصوا بعلاج كلا العلتين؟

قال: أما من كان سبب علته الغفلة، فإنه يرسل إلى قسم (حسن الظن بالله)، ليتعرف على الأسماء الحسنى الكثيرة التي تستدعي حسن الظن بالله، فتنزاح غفلته.

قلت: والسبب الثاني؟

قال: بتقوية الصلة بالله، ألم يقل الله تعالى بعد الأمر بالدعاء: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي

__________

(1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

ابتسامة الأنين (161)

لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة:186)

قلت: بلى..

قال: فمن أراد أن يستجيب الله له، فليستجب هو لله.

قلت: ألا يجيب الله إلا الصالحين.

قال: تعالى الله.. فهو أكرم من ذلك، إنما الدعاء الذي يخرج من فم الخطيئة غير معطر بمسك التذلل والتضرع لا يخرج طاهرا نقيا، فإذا نزلت الإجابة لا تجد المحل الملائم لها.

قلت: لم أفهم هذا.. اضرب لي مثالا يوضحه لي.

قال: لقد استبعد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستجاب لمن هذا حاله، فقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك) (1)

قلت: لا أزال أحتاج إلى توضيح أكثر.

قال: لتمثيل حيلولة الجسم الذي نبت من حرام بين الداعي وبين الإجابة نستعير ما تسمونه بصحون الاستقبال الفضائي، فإن هذه الصحون إن حصل لها ما يشوش الصورة بانحنائها أو عدم توجيهها الوجهة المعينة، فإنها لا تستقبل البث الفضائي مع أن موجاته تملأ الأثير.

قلت: فالبخل ليس في الموجات، وإنما في المستقبل لها.

قال: فلذلك ورد في النصوص التنبيه إلى شروط الدعاء، وهي ترجع جميعها إلى الاستقامة والتأدب بين يدي الله ظاهرا وباطنا، قال تعالى مبينا أدب الدعاء: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (لأعراف:55)، أي بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهاراً مراءاة.

__________

(1) مسلم.

ابتسامة الأنين (162)

قلت: لقد ذكرتني بقول علي لنوف البكالي: (يا نوف، إن اللّه أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأيد نقية، فإني لا أستجيب لأحد منهم، ما دام لأحد من خلقي مظلمة)

وقد ذكر ابن عطاء شروط الدعاء ودعائمه التي يقوم عليها، فقال: (إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم)

وعندما سئل إبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال بقوة وصراحة: (لأنكم عرفتم اللّه فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم اللّه فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس)

قال: ولكن مع ذلك، لا ييأس المؤمن من رحمة الله مهما كثرت خطاياه أو حالت الحوائل بينه وبين الإجابة، فرحمة الله أشمل وأعم، وقد قال بعضهم: (لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن اللّه قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس، قال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} (الحجر:36 ـ 37))

قلت: فهذا هو علاج هذه العلة إذن.

قال: هذه ناحية من العلاج.

قلت: أهناك ناحية أخرى؟

قال: أجل.. فإن الدعاء يقتضي اليقين في الله وفي فضله وقدرته، فلذلك إن دعا يائسا من الإجابة كان ذلك حائلا بينه وبين استجابة دعائه.

ابتسامة الأنين (163)

قلت: فاضرب لي مثالا يقرب لي هذا.

قال: إن أي أحد من الناس إن طلب منك شيئا، وهو ينظر إليك بعين الاحتقار، احتقار قدرتك أو كرمك، فإنك لا تعامله وفق ما قال بلسانه، بل وفق ما دل عليه حاله.

وكذلك الله تعالى فإنه لا يجرب، فمن دعا مجربا الله ردت عليه دعوته.

قلت: ألهذا ـ إذن ـ ورد في النصوص النهي عن الاستثناء في الدعاء مع كونه مرغبا فيه في كل الأحوال، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم (إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني، فإنه لا مستكره له) (1)

قال: أجل، وذلك لما قد ينشره في النفس من احتمال عدم الإجابة، وذلك لأن في قوله (إن شئت) نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته، كقول القائل: إن شئت أن تعطيني كذا فافعل، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته، ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله.

-------

خرجنا من هذا القسم، وفي طريقنا لقيت حلقة يجتمع فيهم قوم حول رجل، وكأن على رؤوسهم الطير، فسألت المعلم من هذا؟

قال: هذا القاص.

قلت: الذي يقص القصص.

قال: أجل..

قلت: هلم بنا إليه.. فإن في طبعي ولعا عظيما بالقصص.

قال: ذلك طبع جميع بني جنسك.. فاستخدموه في طاعة الله.

اقتربنا من القاص، فسمعناه يقول: أيها اليائس الذي ينظر بعينه الكئيبة إلى الكون ورب

__________

(1) البخاري ومسلم.

ابتسامة الأنين (164)

الكون، تخلص من قنوطك وارفع يديك بالدعاء، فإن رحمة الله الشاملة ستشملك ما دمت مادا يدك إلى الله.

قالت الجماعة المحيطة به: حدثنا عن تضرعات الصالحين لتكون نبراسا يطفئ نيران أوهامنا.

سكن القاصا قليلا، وقلب صفحات كتاب بجانبه، ثم قال: لقد حدث بعضهم، قال: إني لفي الحجر ذات ليلة، إذ دخل علي بن الحسين، فقلت: رجل صالح من أهل بيت الخير، لأستمعن إلى دعائه الليلة، فصلى، ثم سجد، فأصغيت بسمعي إليه، فسمعته يقول: عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك. قال الراوي: فحفظتهن، فما دعوت بهن في كرب، إلا فرج الله عني.

قلت للمعلم: هذا لم يدعو.. بل وصف حاله.

قال المعلم: أعظم الدعاء هو الفقر والمسكنة.

قال القاص: ويروى عن عبد الله بن جعفر: أن رجلاً أصابه مرض شديد، منعه من الطعام والشراب والنوم، فبينا هو ذات ليل ساهراً، إذ سمع وجبة شديدة في حجرته، فإذا هو كلام، فوعاه، فتكلم به، فبرأ مكنه، وهو: اللهم أنا عبدك، وبك أملي، فاجعل الشفاء في جسدي، واليقين في قلبي، والنور في بصري، والشكر في صدري، وذكرك بالليل والنهار- ما بقيت- على لساني، وارزقني منك، رزقاً غير محظور ولا ممنوع.

وحدث آخر، قال: أخبرت أن رجلاً، أخذ أسيراً، فألقي في جب، وألقي على رأس الجب صخرة، فتلقن فيه: قل: سبحان الله الحي القدوس، سبحان الله وبحمده، فأخرج من غير أن يكون أخرجه إنسان.

وروي أن الحجاج بن يوسف أتي برجل كان جعل على نفسه، إن ظفر به، أن يقتله، قال: فلما دخل عليه، تكلم بكلام، فخلى سبيله، فقيل له: أي شيء قلت؟ فقال: قلت: يا عزيز، يا حميد،

ابتسامة الأنين (165)

يا ذا العرش المجيد، اصرف عني ما أطيق، وما لا أطيق، واكفني شر كل جبار عنيد.

العمل الصالح

اقتربنا من الباب الثاني من أبواب الاستعانة، وقد كتب عليه بحروف من نور قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ((البقرة:45)

فقال لي المعلم: المفتاح الثاني من مفاتيح الاستعانة العمل الصالح، فبه تطرق أبواب الجود، وتمد أيدي العون، وترسل أمداد الإغاثة.

قلت: ولكن الآية التي كتبت على الباب لم تتحدث عن المستعان عليه، بل اكتفت بإطلاق الاستعانة، ومثل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة:153)

قال: لقد جاء لفظ الاستعانة مطلقا ليبين دور الصبر والصلاة في كل شيء، فهما عون في الدين كما أنهما عون في الدنيا، وعون في الأمراض النفسية كما أنهما عون في الأمراض الجسدية.

قلت: ولكن الله تعالى قد رتب على الأعمال أجورها المعلومة، كما ورد في الحديث القدسي: (إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة) (1)

قال: إن الله شكور حليم، فلذلك يمن على عباده بأجور الدنيا وأجور الآخرة.

قلت: كيف ذلك؟

قال: سنعرف تفاصيل هذا في محلها من: (أسواق التجارة الرابحة) (2).. ولكن ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) (3)

__________

(1) البخاري ومسلم.

(2) من رسائل المجموعة الثالثة.

(3) الترمذي، وقال حسن صحيح.

ابتسامة الأنين (166)

قلت: بلى.. وقد روي في أخبار الأنبياء أن يونس عليه السلام حين بدا له أن يدعو الله بالكلمات حين ناداه وهو في بطن الحوت، فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء:87)، فأقبلت الدعوة نحو العرش فقالت الملائكة: يا رب! هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة، فقال: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب! من هو؟ قال: ذلك عبدي يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة، قالوا: يا رب! أفلا ترحم من كان يصنع في الرخاء فتجيبه في البلاء، قال: بلى! فأمر الحوت فطرحه بالعراء (1).

قال: فلذلك يكون العمل الصالح شفيعا لصاحبه عند الله.

قلت: ولهذا إذن توسل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة إلى الله بأعمالهم الصالحة، فنجاهم الله، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (بينما ثلاثة رهط من بني إسرائيل يسيرون، إذ أخذهم المطر، فأووا إلى غار، فانطبقت عليهم صخرة، فسدت الغار، فقالوا: تعالوا فليسأل الله تعالى كل رجل منا بأفضل عمله.

فقال أحدهم: اللهم إنه كانت لي ابنة عم جميلة، وكنت أهواها، فدفعت إليها مائة دينار، فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة، قالت: اتق الله يا ابن عم، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، وتركت المائة دينار، اللهم إن كنت تعلم، أني فعلت هذا خشية منك، وابتغاء ما عندك، فأفرج عنا، فانفرج عنهم ثلث الصخرة.

وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت أغدو عليهما بصبوحهما، وأروح عليهما بغبوقهما، فغدوت عليهما يوماً، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أنصرف عنهما، فيفقدا غداءهما، فوقفت حتى استيقظا، فدفعت إليهما غداءهما، اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك ابتغاء ما عندك، وخشية منك، فأفرج عنا، فانفرج الثلث الثاني.

وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم، أني استأجرت أجيراً، فلما دفعت إليه أجره، قال: عملي

__________

(1) ابن أبي الدنيا.

ابتسامة الأنين (167)

بأكثر من هذا، فترك علي أجره، وقال: بيني وبينك يوم يؤخذ فيه للمظلوم من الظالم، ومضى، فابتعت له بأجره غنماً، ولم أزل أنميها وأرعاها، وهي تزيد وتكثر، فلما كان بعد مدة، أتاني، فقال لي: يا هذا إن لي عندك أجراً، عملت كذا وكذا في وقت كذا وكذا، فقلت: خذ هذه الغنم، فهي لك، فقال: تمنعني من أجري، وتهزأ بي، فقلت: خذها فهي لك، فأخذها ودعا لي، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا خشية منك، وابتغاء ما عندك، فأفرج عنا، فانفرج عنهم باقي الصخرة، وخرجوا يمشون) (1)

قال: هذا الحديث لا يدل فقط على جواز التوسل لله بالأعمال الصالحة، وإنما يدل على أن الأعمال الصالحة شافعة لصاحبها، سأل أو لم يسأل.

-------

رأيت بابين مفتوحين، وكأنهما يطلبان منا الدخول منهما، فقلت للمعلم: ما هذان البابان اللذان ينفتحان لنا طالبين منا الدخول؟

قال: هذان البابان يشيران إلى أركان العمل الصالح الذي يرضي الله تعالى، ويمد صاحبه بالعون.

قلت: الأعمال الصالحة كثيرة، فكيف يشير إليهما هذان البابان؟

قال: هذان البابان يجمعان شتاتهما.

قلت: فما الأول منهما؟

قال: هو النوع الذي يجعل العبد متصلا بالله، ذاكرا له، متوجها إليه، مناجيا له، جالسا معه.

قلت: فما دليل تأثيره في الاستعانة؟

قال: لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا اشتدت به الأمور هرع إلى الصلاة، فعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم

__________

(1) البخاري ومسلم.

ابتسامة الأنين (168)

إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى (1).

وعن أبى هريرة قال: رآنى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا نائم أشكو مِن وجع بطنى، فقال لى: (يا أبا هُرَيْرَة؛ أشِكَمَتْ دَرْدْ (2)؟)، قال: قلتُ: نعم يا رسولَ الله، قال: (قُمْ فَصَلِّ، فإنَّ فى الصَّلاةِ شِفَاءً) (3)

قلت: وما الباب الثاني؟

قال: هو باب إغاثة الملهوف، ورحمة الخلق، وقضاء حوائجهم.

قلت: فما دليل تأثير هذا النوع من الأعمال الصالحة؟

قال: وردت النصوص الكثيرة في تأثير ذلك في رفع البلاء، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).. فمن رحم الخلق استعد لرحمة الله، ومن أغاثهم استعد لغوثه، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

قلت: فهل هما بابان على الخيار أم يجبر على الدخول من كليهما؟

قال: ألا تعلم أن السلام يتنافى مع الجبر؟

قلت: أقصد أن كلا الركنين أساسيان بحيث لا يغني أحدهما عن الآخر.

قال: أجل، فمن قصر في أحدهما كان له تأثيره في قضاء حاجته.. ولهذا يجمع الله كلا الوصفين للمؤمنين الصالحين، كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة:55)، فقد وصفهم بإقامة الصلاة التي تدعم صلة العبد بربه، ووصفهم بإيتاء الزكاة، وهي التي تنمي علاقتهم بربهم.

قلت: ألهذا إذن اقترنت الصلاة بالزكاة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم.

__________

(1) أبو داود، وقد رُوى هذا الحديثُ موقوفاً على أبى هُرَيرةَ، وأنه هو الذى قال ذلك لمجاهد، وهو أشبهُ.

(2) معنى هذه اللفظةِ بالفارسى: أيوجعُكَ بطنُكَ؟

(3) ابن ماجه.

ابتسامة الأنين (169)

قال: أجل.. فلا يمكن أن يصل القلب إلى الله بالصلاة، وفي قلبه قسوة على الخلق.

قلت: لقد ذكرتني بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في المرأة التي قيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها، فقال: (هي في النار)

قال: وأذكرك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في المرأة التي قيل له: إنها تصلي المكتوبة وتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها: (هي في الجنة) (1)

قلت: فهل ندخل لكلا البابين.. فقد عرفنا ما فيهما؟

قال: لا مناص لنا من ذلك.. ألا ترى انفتاحهما لنا، وترحيبهما بنا؟

الصلة بالله

دخلنا قاعة الصلة بالله، وكانت أشبه بمحراب للعبادة، وقد فوجئت بوجود مرضى في هذه القاعة، ولكن لا كالمرضى، فإن كل واحد منهم يفترش سجادته، ثم يختلفون.. منهم من يمد يديه بالدعاء والمناجاة، ومنهم من هو قائم أو راكع أو ساجد.

قلت للمعلم: ما يفعل هؤلاء في هذا المستشفى؟.. أأخطأوا الطريق، أم تصوروا المستشفى مسجدا؟

قال: لا.. هؤلاء يتدربون على تقوية الصلة بالله.

قلت: يتدربون!؟.. أراهم يصلون ويدعون.

قال: هناك من يدربهم على الصلاة الموصلة والدعاء المجاب.

قلت: أليس كل صلاة موصلة؟

قال: لا.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها،

__________

(1) ابن النجار في حقوق الراكب والمركوب.

ابتسامة الأنين (170)

وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها) (1).. ألم يتفق الصالحون على عدم اعتبار الصلاة الخالية من الحضور مع الله؟

قلت: أجل.. فقد قال بعضهم: (من لم يخشع فسدت صلاته)، وقال آخر: (كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع)

قال: بل قال آخر: (من عرف من على يمينه وشماله متعمدا وهو في الصلاة فلا صلاة له)

قلت: فكيف يدربونه على الخشوع؟

قال: ألستم تدربون المرضى على أشياء معينة لينسجموا مع حياتهم؟

قلت: أجل.. لدينا أقسام كثيرة خاصة بالتدريب في مستشفياتنا.

قال: وقد لاحظ هذا المستشفى أهمية الصلاة في العلاج.. ولاحظوا في نفس الوقت التقصير في القيام بها.. حيث صارت مجرد حركات، وصار الدعاء مجرد تمتمات، فلذلك قررت إدارة المستشفى وضع هذا القسم لتدريب المرضى على الصلاة النافعة المؤثرة.

قلت: لقد ظفرت ببغيتي.. كم أشتاق لأتعلم صلاة الخاشعين.

قال: لا.. لن نبحث ذلك هنا.. لذلك محله الخاص من دروس السلام.

بينما أنا كذلك إذ أخذ بيدي أحدهم، وقال: إن أرادت دوام الصحة والعافية، فعليك بقيام الليل، فقد جربت فوائده العلاجية.

قلت: وما أدلة اعتبار قيام الليل دواء، والمريض مرخص له في النوم والراحة، فكيف يطالب بقيام الليل؟

فقال: أما الدليل، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعدد فضائل قيام الليل: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن

__________

(1) أبو داود والنسائي وابن حبان.

ابتسامة الأنين (171)

الجسد) (1)، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه مطردة للداء عن الجسد.

قلت: ولكن المريض يعجز عن صلاة الفرض، فكيف تطلب منه القيام؟

قال: القيام يتحقق بأي صورة، فإن كان المريض لا يستطيع أن يصلي التهجد قائماً يتهجد قاعداً أو مضجعاً والأجر يكتب له كاملاً.

زيادة على ذلك، فإنه لو طلب الطبيب من المريض أن ينهض ساعة في جوف الليل ليتحرك حركات معينة، ألا يؤخذ قول الطبيب الخبير بثقة ويقين بدون أن يجادله أحد؟

قلت: بلى، وكيف يجادل الخبير؟

فقال: فقد أخبر المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى بهذا، فخذ بما يقول وسلم.

تدخل رجل عليه سيما الخبراء، وقال: دعه لي، فإني أعرف اللغة التي يفهم بها.

قلت: فحدثني بلساني.

قال: لقد جاء في كتاب (الوصفات المنزلية المجربة وأسرار الشفاء الطبيعية)، وهو كتاب بالإنكليزية لمجموعة من المؤلفين الأمريكيين (2) أن القيام من الفراش أثناء الليل، والحركة البسيطة داخل المنزل والقيام ببعض التمرينات الرياضية الخفيفة، وتدليك الأطراف بالماء، والتنفس بعمق له فوائد صحية عديدة، وهذه النصائح تماثل تماماً حركات الوضوء والصلاة عند قيام الليل.

وسر علاقة هذه الأمور بالصحة أنها تؤدي إلى تقليل إفراز هرمون الكورتيزون (3) خصوصاً قبل الاستيقاظ بعدة ساعات، وهو ما يتوافق زمنياً مع وقت السحر، مما يقي من الزيادة المفاجئة في مستوي سكر الدم، والذي يشكل خطورة علي مرضي السكر، ويقلل

__________

(1) الإمام أحمد والترمذي والبيهقي والحاكم في المستدرك عن بلال وابن عساكر.

(2) انظر: مقالة لـ د. صلاح أحمد حسين أستاذ بطب أسيوط، جريدة الأهرام 27/ 7/2004 بتصرف.

(3) وهو الكورتيزون الطبيعي للجسد.

ابتسامة الأنين (172)

كذلك من الارتفاع المفاجئ في ضغط الدم، ويقي من السكتة المخية والأزمات القلبية في المرضى المعرضين لذلك، كما يقلل من مخاطر تخثر الدم في وريد العين الشبكي، الذي يحدث نتيجة لبطء سريان الدم في أثناء النوم، وزيادة لزوجة الدم بسبب قلة تناول السوائل، أو زيادة فقدانها. أو بسبب السمنة المفرطة وصعوبة التنفس مما يعوق ارتجاع الدم الوريدي من الرأس.

ويؤدي قيام الليل إلى تحسن وليونة عند مرضى التهاب المفاصل المختلفة، سواء كانت روماتيزمية أو غيرها نتيجة الحركة الخفيفة والتدليك بالماء عند الوضوء.

كما أن قيام الليل علاج ناجح لما يعرف باسم (مرض الإجهاد الزمني) لما يوفره من انتظام في الحركة ما بين الجهد البسيط والمتوسط، الذي ثبتت فاعليته في علاج هذا المرض.

ويؤدي قيام الليل إلى تخلص الجسد من ما يسمي بالجليسيرات الثلاثية (نوع من الدهون) التي تتراكم في الدم خصوصاً بعد تناول العشاء المحتوي علي نسبه عالية من الدهون والتي تزيد من مخاطر الإصابة بأمراض شرايين القلب التاجية بنسبة 32 بالمائة في هؤلاء المرضي مقارنة بغيرهم.

ويقلل قيام الليل من خطر الوفيات بجميع الأسباب، خصوصاً الناتج عن السكتة القلبية والدماغية وبعض أنواع السرطان.

ويقلل قيام الليل من مخاطر الموت المفاجئ بسبب اضطراب ضربات القلب لما يصاحبه من تنفس هواء نقي خال من ملوثات النهار، وأهمها عوادم السيارات ومسببات الحساسية.

وقيام الليل ينشط الذاكرة وينبه وظائف المخ الذهنية المختلفة لما فيه من قراءه وتدبر للقرآن وذكر للأدعية واسترجاع لأذكار الصباح والمساء. فيقي من أمراض الزهايمر وخرف الشيخوخة والاكتئاب وغيرها.

-------

جاء آخر، وقال: عليك بالاستغفار، فقد جربت التداوي به، فوجدته علاجا ناجعا لا

ابتسامة الأنين (173)

تقف أمامه الأدواء.

قلت: فكيف وصلت إلى هذا النوع من العلاج؟

قال: لقد قرأت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) (1)، فدلني هذا على البحث في سر هذه الوصفة، فوجدت نصوصا كثيرة تدل عليها، فقد قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} (نوح:10 ـ 11)، وقال على لسان هود عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (2) وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود:52)، فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية جوامع النعم (3)، واعتبر الاستغفار سببا لها.

قلت: فما السر الذي وجدته لذلك؟

قال: لقد اتفق العقلاء على أن المعاصى والفساد توجب الهم والغم، والخوف والحزن، وضيق الصدر، وأمراض القلب، حتى إن أهلها إذا قضوا منها أوطارهم، وسئمتها نفوسهم، ارتكبوها دفعا لما يجدونه فى صدورهم من الضيق والهم والغم، كما قال شاعرهم:

وكأس شربت على لذة... وأخرى تداويت منها بها

وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب، فلا دواءَ لها إلا التوبةُ والاستغفار.

قلت: ففصل لنا علل ذلك وأسبابه.

__________

(1) أحمد والحاكم.

(2) متتابعا مرة بعد أخرى.

(3) وقد فصل الفخر الرازي سر اجتماع النعم في هذه الآية، فقال: (ثم إنه - عليه السلام - قال: (إنكم متى فعلتم ذلك فالله تعالى يكثر النعم عندكم ويقويكم على الانتفاع بتلك النعم) وهذا غاية ما يراد من السعادات، فإن النعم إن لم تكن حاصلة تعذر الانتفاع وإن كانت حاصلة، إلا أن الحيوان قام به المنع من الانتفاع بها لم يحصل المقصود أيضا، أما إذا كثرت النعمة وحصلت القوة الكاملة على الانتفاع بها، فههنا تحصل غاية السعادة والبهجة فقوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} إشارة إلى تكثير النعم لأن مادة حصول النعم هي الأمطار الموافقة، وقوله: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} إشارة إلى كمال حال القوى التي بها يمكن الانتفاع بتلك النعمة، ولا شك أن هذه الكلمة جامعة في البشارة بتحصيل السعادات، وأن الزيادة عليها ممتنعة في صريح العقل)

ابتسامة الأنين (174)

قال المعلم: لذلك قسم خاص في هذا المستشفى، سنمر عليه في حصن الاستعاذة.

-------

بينما كنت مع المعلم في هذه القاعة نتأمل الصلوات الخاشعة، ونستمع إلى الأدعية الرقيقة مر رجل بنا هو يقول: (صلوا على رسول الله.. صلوا على رسول الله)

قلت: من هذا؟

قال: هذا ممرض بهذا القسم يسقي المرضى دواء الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: أعلم أن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبادة.. ولكني لا أعلم أنها دواء.

قال: كل عبادة دواء.. والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصوصا أعظم دواء.. ألم تقرأ ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: (يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه)، فقال له رجل: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي، قال: ما شئت، قال الرجل: الربع؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير، قال الرجل: فالنصف؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير، قال الرجل: فالثلثين؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير، قال الرجل: أجعل لك صلاتي كلها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا تكفى همك، ويغفر لك ذنبك) (1)، فقد أخبره صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يكفى كل ما أهمه.

قلت: وقد روي حديث آخر يقارب هذا، فقد روي أن رجلا قال: يا رسول الله أجعل ثلث صلاتي عليك؟ قال نعم إن شئت، قال: الثلثين؟ قال: نعم إن شئت، قال فصلاتي كلها؟، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك) (2)

قال: فقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة عليه علاجا لهموم الدنيا والآخرة.

قلت: فهمت هذا.. ولكن ما سر ذلك؟

__________

(1) أحمد وعبد بن حميد وابن منيع والروياني والحاكم والبيهقي.

(2) الطبراني في الكبير وأبو النعيم.

ابتسامة الأنين (175)

قال: سر ذلك يسير، فالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تربط المؤمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتملأ قلبه محبة له وشوقا إليه.

قلت: وما في ذلك من العلاج؟

قال: المحبة تحرق كل من عداها.. فتحرق الهم والغم.. وتملأ صاحبها بالبشر والسرور.

قلت: لقد ورد في النصوص الإخبار أن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تجعل صاحبها أهلا لصلاة الله عليه، كما ورد في الحديث: أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه، فقالوا: يا رسول اللّه إنا لنرى السرور في وجهك، فقال: (إنه أتاني الملك فقال: يا محمد أما يرضيك ربك عزَّ وجلَّ يقول: إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً) قلت: (بلى) (1)..

لكن ما سر ذلك؟ وهل له علاقة بالاستشفاء بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال: أجل.. له علاقة عظيمة، فقد ورد في القرآن الكريم الإخبار بالتأثير العظيم الذي تحدثه صلاة الله على عبده، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب:43)

قلت: لقد أخبر الله تعالى بأن صلاة الله على عباده تخرجهم من الظلمات إلى النور.

قال: وهل الهموم والأحزان والمصائب إلا ظلمات، وهل النور إلا الفرج والعافية وانشراح الصدر.. ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن النور إذا دخل الصدر انفسح) (2)

-------

دخل ممرض آخر على المرضى، وهو يقرأ قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} (الأحزاب:41).. اذكروا الله يشرح الله صدوركم، وينور قلوبكم)

__________

(1) أحمد ورواه النسائي بنحوه.

(2) الحاكم، وتعقب، عن ابن مسعود.

ابتسامة الأنين (176)

قلت للمعلم: أهذا الممرض مكلف بدواء الذكر؟

قال: أجل.. فهو يحضهم في كل حين، لا على الذكر فقط.. بل على كثرة الذكر.. فالذكر لا يؤتي أكله إلا بكثرته، ألم تسمع الحق تعالى وهو يقول: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} (الأحزاب:35)

قلت: بلى إن الله تعالى لم يقرن أي عمل صالح بالكثرة ما عدا الذكر، وفي هذه الآية قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:35)، فجعل الذكر وحده مخصوصا بالكثرة.

قال: أتدري علة ذلك؟

قلت: لطرد الغفلة.. فالغفلة تعتري الإنسان كل لحظة، فيحتاج إلى مقاومتها بالذكر.

قال: أجل.. والغفلة عن الله هي التي تجر إلى اليأس، وتملأ القلب ظلمة، فلا يعرف الله ولا يشاهد أفضاله، فإن سمع باسمه كان كسماعه أي اسم لا علاقة له به، ولا صلة بينه وبينه.

قلت: ألهذا كان من أسباب انشراح الصدر وطمأنينته الإكثار من ذكر الله؟

قال: أجل.. فإن له تأثيراً عجيباً في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همه وغمه، وامتلائه أملا وثقة بالله، ألم تسمع الحق تعالى، وهو يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} ((الرعد:28)، أي تطيب وتركن إلى جانب اللّه وتسكن عند ذكره، وترضى به مولى ونصيراً.

قلت: بلى، فما سر ذلك؟

قال: لقد جعل الله تعالى القلب محلا لمعرفته، ولا يكون كذلك إلا إذا كان طاهرا نظيفا منورا بنور الإيمان، وإلا أثرت فيه الأنجاس التي يحملها، فتجعله معرفته بالله معرفة مشوهة تؤدي

ابتسامة الأنين (177)

إلى إساءة الظن بالله، كما قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (فصلت:23)

قلت: فما دور الذكر في هذا؟

قال: دور الذكر هو أنه جلاء القلوب وصقالتها، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لكل شئ صقالة، وان صقالة القلوب ذكر الله عز وجل وما من شئ انجى من عذاب الله عز وجل من ذكر الله عز وجل) قالوا: (ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل)، قال: (ولو أن يضرب بسيفه حتى ينقطع) (1)

قلت: ألهذا نهي عن مصاحبة أهل الغفلة، كما قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (الكهف:28

قال: أجل، لما يملأون به القلوب من وساوس.

قلت: ولهذا إذن وردت النصوص الكثيرة تصف الأذكار الرافعة للهم والحزن، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال في كل يوم أربع مرات: أشهد أن الله هو الحق المبين، وأنه يحي ويميت، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، صرف الله عنه السوء) (2)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كلمات الفرج: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع، ورب العرش الكريم) (3)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال لا إله إلا الله، قبل كل شيء، ولا إله إلا الله بعد كل شيء ولا إله إلا الله يبقى، ويفنى كل شيء، عوفي من الهم والحزن) (4)

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا حول ولا قوة إلا بالله دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم) (5)

__________

(1) البيهقي.

(2) الحاكم في تاريخه.

(3) ابن أبي الدنيا.

(4) الطبراني في الكبير.

(5) ابن أبي الدنيا في الفرج.

ابتسامة الأنين (178)

قال: أجل، وكلها تضمنت المعارف الإلهية التي تنزع الهم والغم، وتبشر بالفرج، ومن أيقن بالفرج حصل له، فالله لا يخلف ظن عبده.

-------

دخل ممرض آخر على المرضى، وهو يقرأ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57)، وقوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء:82)

قلت: هذا الممرض يرشد المرضى إلى الاستشفاء بالقرآن الكريم.

قال: نعم، فهو الكتاب الوحيد في العالم الذي يعرف بالله المعرفة الصحيحة، لأنه كلام الله.. ولا يعرف الله إلا الله.

قلت: إن قومي خبراء بالعلاج بالقرآن الكريم ولهم تجارب كثيرة في هذا تمتلئ بها كتب الرقية.

قال: أولئك يتاجرون بالقرآن الكريم، ولا يعالجون به.. القرآن الكريم يعالج بالحقائق لا بالدجل.

قلت: كيف؟.. هم يستخدمون القرآن الكريم في العلاج.

قال: سنعرف دجلهم في محله من أقسام هذا المستشفى..

قلت: فكيف يعالج القرآن الكريم المرضى؟

قال: يعالجهم بالتعريف بالله، وإحسان الظن به، ولهذا كان شفاء لما في الصدور.

قلت: ألهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يرشد من أصابه الهم والحزن بهذا الدعاء، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أصاب عبدا هم ولا حزن، فقال اللهم إني عبدك، وابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هم لك سمّت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي، إلا

ابتسامة الأنين (179)

أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحا)، قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلّمهن؟ قال: (بلى، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلّمهن) (1)..؟

قال: أجل.. فالقرآن ربيع القلوب، وفي الربيع يكون الأنس والفرحة والسرور والابتسامة، ولهذا كان بعض الصالحين يقول: (ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن، إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض)

الإحسان إلى الخلق

دخلنا قاعة الإحسان إلى الخلق، وقد كتب على بابها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) (2)

قلت للمعلم: لم كان الإحسان إلى الخلق قرينا للصلة بالله؟

قال: لأنه ثمرة أساسية من ثمار الصلة بالله، فيستحيل على القلب المنور بنور الذكر، المؤدب بتأديب القرآن الكريم أن يقعد عن إغاثة الملهوف أو إجابة المحتاج أو الإحسان إلى الضعفاء.

ويستحيل على القلب المنور بنور الإيمان أن يؤذي إخوانه، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صعد المنبر، فنادى بصوت رفيع فقال: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) (3)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته) (4)

__________

(1) أحمد والبيهقي في الشعب، والحاكم، والطبراني في الكبير.

(2) الترمذي.

(3) الترمذي، وقال: حسن صحيح.

(4) أبو داود.

ابتسامة الأنين (180)

قلت: عرفت صلة الصلة بالله بالاستعانة بالله، فما صلة الإحسان إلى الخلق بالاستعانة؟

قال: الله تعالى يعامل عباده بحسب ما يعامل به بعضهم بعضا، ألم تقرأ ما كتب على لافتة الباب؟

قلت: بلى.

قال: فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن معاملة الله لعباده بجنس ما يعامل به بعضهم بعضا، وقد أخبر في الحديث القدسي عن صلته لمن وصل رحمه وقطعه لمن قطعها، فقال: (أنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته) (1)

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) (2)

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيام، ة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) (3)

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أنه (لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره يوم القيامة) (4)

قلت: أمن هذا الباب ما ورد من علاج المرضى بالصدقة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع) (5)

قال: هذا الحديث يؤخذ على ظاهره، ويسلم لقائله.

__________

(1) الترمذي وصححه.

(2) مسلم وأبو داود واللفظ له والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه.

(3) أبو داود واللفظ له والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب.

(4) مسلم.

(5) أبو داود في المراسيل ورواه الطبراني والبيهقي وغيرهما.

ابتسامة الأنين (181)

قلت: فما السر في ذلك؟

قال: إن لم يدع لك لسان الفقير دعا لك قلبه، فإن جحد قلبه دعت لك الملائكة، فإن لم يدع لك أحد، فالله شاكر حليم، يعطيك ما عجز الكل عن إعطائه لك، فسلم لقول نبيك، ولا تسأل عن الكيفية.

قلت: ليطمئن قلبي.

قال: سأورد لك ما يطمئن به قلبك، لقد جاء بعضهم لبعض الصالحين، وشكا له عن قرحة خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال الرجل الصالح: (اذهب فاحفر بئراً في مكان الناس بحاجة إلى الماء، فإني أرجوا أن ينبع هناك عينً ويمسك عنك الدم)، ففعل الرجل فبرأ.

فهكذا يفعل الصالحون والربانيون، فأنبئني لو أن هذا الرجل جاء لقومك من الرقاة، بماذا سيشيرون عليه؟

قلت: يخبرونه ـ بعد رقية التشخيص ـ بأن الشيطان ركضه ركضة يحتاج معها إلى التجول على الرقاة جميعا ليجد من يحرق له شيطانه، وقد يموت قبل ذلك.

قال: وسأزيدك أخرى لترى منهج الصالحين في التسليم للنصوص المقدسة، حدث بعضهم قال: مرضت مرضا خطرا، فرآني جار لي صالح، فقال استعمل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة)، وكان الوقت ضيقا، فاشتريت بطيخا كثيرا، واجتمع جماعة من الفقراء والصبيان، فأكلوا ورفعوا أيديهم إلى الله عز وجل، ودعوا لي بالشفاء، فوالله ما أصبحت إلا وأنا في كل عافية من الله تبارك وتعالى.

قلت: تلك أزمنة الصالحين.

فقال: كل الأزمة أزمنة الصالحين، ولا زمان للصالحين، وإن شئت أن أزيدك، فانشر إعلانا في الصحف، تطلب فيه استعمال هذا الدواء بيقين وتسليم، لترى آلاف الرسائل تنهال

ابتسامة الأنين (182)

عليك تخبرك بمدى جدواه، فمن وصفه لا ينطق عن الهوى.

ابتسامة الأنين (183)

رابعا ـ حصن الاستعاذة

دخلنا الحصن الرابع من حصون الروح.. كان مهيبا مخيفا.. لست أدري كيف شعرت بقشعريرة تسري في أوصالي.. كنت أتشبث بمعلم السلام، وكأني لا أتشبث بشيء.. خالطني رعب لست أدري ما سببه.. قف شعري.. اختلطت في خيالي صور كثيرة مرعبة.. وزاد من رعبي انطفاء الأضواء وامتلاء القاعة بظلمة شديدة.. فازداد رعبي.

فجأة لاحت أنوار عظيمة بددت مخاوفي، كانت الأنوار تكتب بحروف من نور سورة الفلق.

ضحكت مع نفسي، وقلت: عجبا لك يا نفس.. كيف تخافين.. وسورة الفلق موجودة!؟

قال: لقد عرفت سر هذا الحصن.

قلت: ما عرفت.. لم أر شيئا بعد.. إن هو إلا رعب بسيط سرى في أوصالي.. ولكني بحمد الله وجدت الحصن الذي أتحصن به.

قال: ما وجدت؟

قلت: الله.. فالله رب كل شيء.. وما دام كذلك فلم أخاف؟.. ومن أخاف؟.. ألم يقل الله تعالى وهو يعلمنا التحصن به: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (الفلق:2

قال: ما دمت قد علمت هذا.. فاعلم أن هذا الحصن الذي تمثله سورة الفلق يحفظك من كل الأعداء ما يختفون، وما يبرزون.

قلت: عرفت الأعداء الظاهرين، فمن الأعداء المتسترين بستار الغيب؟

قال: كثيرون.. وهم يتربصون بك.. وما وجدته من وحشة كان نوعا من تلك الأنواع المتسترة.

قلت: فاذكر لي ما ورد في النصوص من هؤلاء الأعداء لأتقيهم.

ابتسامة الأنين (184)

قال: سأذكر لك ثلاثة.. ورد في النصوص ذكرهم.. وورد في النصوص الحث على الاستعاذة منهم.

قلت: من هم؟

قال: الشياطين، والسحرة، والحسدة.

قلت: لا أكتمك ـ يا معلم ـ فإن النصوص، وإن وردت بالاستعاذة من هذه الأمور.. وضمنت تحصين الله لمن التجأ إليه منها إلا أن من قومي من يفتت قلوبهم الخوف منها، وكأن ما وعدهم الله به لغو من القول أو مواعيد عرقوب.

قال: فابتدعوا لذلك بدعا كثيرة.

قلت: لست أدري هل يصح إطلاق هذا اللفظ في هذا المحل، أم لا؟

قال: بل لا يصلح هذا اللفظ إلا في هذا المحل.. فإنهم هجروا كلام الله الذي أمرنا بالاستعاذة به، وهجروا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وملأوا الكتب والمصنفات بخرافاتهم.. فرموا دين الله بالخرافة، وملأوه بالشعوذة.

قلت: يا معلم.. أنت تشتد في النكير عليهم.

قال: غيرة على دين الله.. فلم أر قوما يحرفون الكلم عن مواضعه كما رأيت هؤلاء.

قلت: فهل قامت إدارة المستشفى بعلاج هذه الظاهرة؟

قال: ليست إدارة المستشفى وحدها.. بل إدارة المستشفى، ووزارة الحياة.. ووزارة الحزم.

قلت: أكل هذه الجنود المجندة من أجل هذا؟

قال: ألم أقل لك: إن مدائن السلام تهتم بسلام الإنسان كاهتمامكم بسلام العمران؟

قلت: بلى..

قال: فوزارات الحرب عندكم تشهر دباباتها من أجل مصالح بسيطة، ولكنها لا تقف وقفة حزم واحدة للإنسان، وهو يخرب، ويحارب، ويكذب عليه.

ابتسامة الأنين (185)

قلت: أهؤلاء يكذبون؟

قال: أبشع الكذب.. ألم تسمع الحق تعالى وهو يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام:21)

قلت: أهؤلاء يفترون على الله كذبا؟

قال: ويكذبون بآياته.

قلت: لا.. إنهم مؤمنون.

قال: يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض.

كان الغضب باديا على معلم السلام، وهو يتحدث.. لست أدري هل يصيب جنسه من الخطأ حين الغضب مثلما يصيب جنسنا.. أم أنه معصوم الغضب، معصوم الرضا؟

قال لي، وكأنه قرأ ما في عيني: لقد عجبت لغضبي.

قلت: كنت أراك هادئا كصفحة الماء التي لم تعكر.

قال: الغضب لله سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولا ينبغي أن نميت سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم مساكم (1).

قلت: أجل.. وقد غضب صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع.. ولم يكن غضبه إلا لله.. ففي الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف، فقال لا إله إلا اللّه فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لأسامة: (أقتلته بعدما قال لا إله إلا اللّه؟ وكيف تصنع بلا إله إلا اللّه يوم القيامة؟)، فقال: يا رسول اللّه إنما قالها تعوذاً، قال: (هلاّ شققت عن قلبه) وجعل يقول ويكرر عليه: (من لك بلا إله إلا اللّه يوم القيامة؟) قال أسامة: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا

__________

(1) ابن ماجة، وابن حبان والحاكم.

ابتسامة الأنين (186)

يومئذ (1).

رأيت جماعة من المرضى تبدو عليهم الكآبة يدخلون من أربعة أبواب في ذلك الحصن، سألت المعلم عنهم، فقال: هؤلاء مساكين.. أصابهم رقاتكم بأنواع من الكآبة.. ولكن الله هداهم، فجاءوا إلى هذا المستشفى ليغسلوا ما أصابهم من سوء الفهم.. وما ملأ قلوبهم من العلل.

قلت: فهل ندخل معهم؟

قال: لا مناص لنا من ذلك.. فلا ينبغي أن تعود إلى قومك بعلم لا تعرف تفاصيله.

الاستعاذة من الشياطين

دخلنا الباب الأول من أبواب هذا الحصن، وقد كتب على بابه قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} (فاطر:6)

قلت للمعلم: ما سر تحذير النصوص من الشياطين؟

قال: الشيطان هو العدو الأول للإنسان، ألم يأب السجود لأبيكم آدم عليه السلام؟

قلت: ليس الشيطان وحده.. بل من معه من ذريته.. فإن قومي يحذرون منه ويحذرون.. ولذلك تمتلئ بيوتهم بالمعوذات، ويكثرون بين الحين والحين من زيارة الرقاة.

قال: أخطأتم.. أنتم تخافون الشيطان على دنياكم لا على دينكم.. تخافون منه أن يصيبكم بالأمراض، أو يصيب أموالكم بالمحق.. أو يصيب ذراريكم بالفقر.. وكأنه إله يوزع الأرزاق، لا شيطان يعلم المروق.

قلت: أصدقك.. فإن قومي لا يقصدون الرقاة إلا لأجل هذا.

قال: هذا كيد من كيد الشيطان، وأحبولة من أحابيله.. الشيطان لا يهمه غناكم، أو فقركم، بل إنه قد يحب غناكم الذي يصرفكم عن الله أكثر من حبه لفقركم الذي يقربكم إلى الله.

__________

(1) البخاري ومسلم.

ابتسامة الأنين (187)

قلت: فلماذا نستعيذ من الشيطان؟

قال: لما قاله تعالى في الآية المعلقة على لافتة الباب، فقد قال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر:6)، فقد ذكر علة واحدة لاتخاذه عدوا، وهي كونه يدعو إلى السعير.

قلت: قومي لا ينكرون هذا..

قال: ولكنهم يتيهون عنه.. يجعلونه أمرا هينا بجانب ما يتصورونه من أباطيل.

قلت: لا أفهم قصدك.

قال: في أي موضع يستدل قومك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) (1

قلت: يستدلون به على قدرة الشيطان على استعمار جسد الإنسان، واضطراره إلى الرقاة ليخلصوه.

قال: وهل هذا الحديث الشريف ورد في هذا الموضع؟

قلت: لا.. لقد ورد في مواضع مختلفة، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تدخلوا على هؤلاء المغيبات، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، قيل: يا رسول الله ومنك؟ قال: ومني إلا أن الله أعانني عليه فأسلم (2).

قال: فهم يحرفون الحديث إن فهموا منه ما فهموا.. فلا ينبغي صرف ألفاظ النصوص عن السياق الذي وردت فيه.

قلت: ولكنهم يستدلون بهذا من باب العموم، لا من باب الخصوص.

قال: أي عموم، وأي خصوص.. لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليغفل عن هذا حتى نذكره.. ولم

__________

(1) النسائي.

(2) النسائي.

ابتسامة الأنين (188)

يكن ليجهل حتى نعلمه.. ولم يكن ليترك دينه ناقصا حتى نكمله.

-------

ينما نحن كذلك إذ دخل شيخ مهيب ممتلئا وقارا، فرنت عيون المرضى إليه، فقلت للمعلم: من هذا المهيب الذي امتلأ قلبي هيبة له.

قال: هذا ولي صالح.. وعالم جليل.. وهو خبير بعالم الشياطين.

قلت: إذن هو راق ناجح.. ولكني لا أرى الغنى يبدو عليه!؟..

قال: هو راق للقلوب، وبالحقائق.. لا ما يفعله قومك من الدجل.

قلت: ولكنهم يستندون للقرآن الكريم والسنة المطهرة.

قال: فهذا الرجل المهيب لم يكتسب هيبته إلا من القرآن الكريم، فاستمع إليه ليبين لك موقف القرآن الكريم من هذا العالم.. فهو الكتاب الوحيد الذي يمدنا بالحقائق.

قلت: وما شأن هؤلاء المساكين بهذا الرجل؟

قال: هؤلاء المساكين أقنعهم رقاتكم أنهم مستعمرون بعوالم من الجن والشياطين.. ثم استلوا كل ما في جيوبهم.. يحرقون كل يوم جنا بمال من مالهم وعرق من عرقهم.. فلما فرغت جيوبهم لجأوا إلى الله.. فدلهم على هذا المستشفى.. فأرسلتهم إدارة هذا المستشفى لهذا القسم ليصححوا ما أوقعهم فيه قومك من أخطاء ومن كآبة.

القرآن الكريم

عم القاعة سكون مهيب، بعده تكلم الرجل المهيب بصوت يكاد يكون من السماء، قال، وكأنه يواصل كلاما قديما: لتقرير هذه الحقائق ـ الغائبة للأسف ـ نسوق هنا أكثر ما ورد في القرآن الكريم من ذكر الشيطان وعلاقته بالإنس، باختصار، لنفهم المسألة على ضوء القرآن الكريم، لا على ضوء ما يشرعه الرقاة المشعوذون:

ابتسامة الأنين (189)

فالله تعالى يقرر أن المس الذي يمس به الشيطان لا يعدو هذه الوساوس التي يلقيها، فتملأ القلوب هما وحزنا، وقد يمتد تأثيرها إلى الجوارح مرضا وأنينا، وقد يكون محل الوسوسة مريضا مستعدا لحصول الصرع، فيصرع ويتخبط، لتأثير تلك الوساوس على نفسه، بل هو يتخبط لأي وساوس من الجن أو من الإنس.

وهذا التأثير الذي يحدثه الشيطان في القلوب والنفوس، وقد يمتد إلى الجوارح والأعضاء، لا يكون إلا لأوليائه المقترنين به، قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:175)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً ((النساء:38)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً ((النساء:119)، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (لأعراف:175)، وقال تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل:63)

أما المؤمنون، فلا يضرهم الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (لأعراف:201)، وقال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (المجادلة:10)

وذلك لأن معهم أسلحة مقاومته، قال تعالى: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (صّ:83)، وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (لأعراف:200)

وذلك لأن كيده ضعيف مثل ضعفه، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء:76)، وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (لأنفال:48)

والشيطان يخوف معتنقي وساوسه من الفقر، ويأمرهم لذلك بالفحشاء، قال تعالى: {

ابتسامة الأنين (190)

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة:268)

والغاية الكبرى من وساوس الشيطان هي الإضلال وتوابعه، قال تعالى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} (النساء:60)، وقال تعالى: {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (الزخرف:62)، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (لقمان:21)، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر:6)

قلت للمعلم: صدق الرجل، فضحايا هذه الحروب كما يصورها هؤلاء الرقاة ليست كما ورد في القرآن الكريم من تزيين المنكر والغواية وأصناف الوساوس الصارفة عن الله، وإنما هي حروب متصلة بالحياة المادية التي تلتصق التصاقا شديدا بمصالح الناس ورغباتهم.

قال: أتدري ما الدافع إلى اختصار هؤلاء الرقاة علاقة الجن بالإنس في هذه الناحية، أو تضخيمها على حساب غيرها من النواحي؟

قلت: ما سر ذلك؟

قال: لأنهم رأوا ذلك هو الاهتمام الوحيد للمجتمع، فهو لا يهمه أن يعرف مسالك الغواية أو مداخل الشيطان أو ضروب الوسوسة مادام ذلك لا يصيبه بصرع أو تخبط أو فقر أو حاجة، ولا يصيب مصالحه بأي نوع من الأذى سحرا أو مسا أو عينا أو غيرها من مصادر البلاء التي وكل بها الجن وتسلطوا على بني آدم في تصور هؤلاء.

واصل الشيخ يقول: وهو لذلك يبهرج لهم الوساوس ليتبعوه، قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} (النساء:120)، وقال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:43) وقال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ

ابتسامة الأنين (191)

الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} (لأعراف:20)، وقال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} (طه:120)، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج:52)... وهو يبحث عن كل الوسائل المؤدية إلى الإضلال، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:91)، وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} (الاسراء:53)، وقال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} (الاسراء:64)، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (لأعراف:27)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (النور:21)

وبعد هذا كله، فإن الشيطان يخون من اتبعه، ويتركه في أهم مواضع الحاجة، قال تعالى: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} (الفرقان:29)، وقال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الحشر:16)

قال: أسمعت هذا العرض لكثير مما ورد في القرآن الكريم من ذكر الشيطان.

قلت: أجل..

قال: الأمر أخطر من هذا.. فهؤلاء الرقاة لا يقصرون خطر الجني أو الشيطان على

ابتسامة الأنين (192)

الصرع، بل يتعدونه إلى أشياء كثيرة تدل النصوص القطعية على أنها من خصوصيات الله.

قلت: أوصل بهم الأمر إلى هذه الدرجة؟

قال: أجل.. ماذا يقول الله تعالى في الأولاد؟

قلت: يعتبرهم نعمة من الله تعالى على عباده يجب شكرها، فالله تعالى يقول: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (الشورى:49)

قال: إلا أن التفسيرات التي يتولاها رقاتكم تجعل الأولاد هبة من الشياطين، لا هبة من الله.

قلت: لم أسمع هذا.

قال: هم يجعلون العقم وليدا لتصرف جني يستقر في الرحم ليحول بين البويضة وحصول التلقيح، أو (ينفث في الجنين بعد تخلقه فيموت وتسقط المرأة حملها) (1)

أو أن الجن (يترك الإخصاب يتم ويكتمل الحمل، ولكن بعد عدة شهور من الحمل يركض الشيطان عرقا في رحم المرأة، فينزل الدم فيحدث الإجهاض) (2)

قلت: نعم.. هم يقولون هذا، ويتفقون عليه، ويرقون من به عقم على هذا الأساس.. أو على أسس أخرى قريبة.

قال: هذا التفسير الغريب الذي يكاد يجمع عليه الرقاة وبه يجتذبون كل من لديهم مشاكل في العقم أو حنين للأولاد يحمل ظلالا كثيرة من الشرك.

قلت: الشرك!؟ هذه تهمة خطيرة.

قال: ولكنها واقع.. فإن قولهم ذلك يؤدي إلى اعتبار الجني هو الواهب للأولاد بكف أذاه عنهم، وبتركهم يخرجون من أرحام أمهاتهم بسلام، وكأن الملك الموكل بالرحم والوارد في

__________

(1) الحاج خليفة معامرة، تجربتي الواقعية في الرقية الشرعية، عنابة: مطبعة الريام،1997،ص 45.

(2) وحيد عبد السلام البالي، الصارم البتار في التصدي للسحرة الأشرار، ص 112.

ابتسامة الأنين (193)

الأحاديث الصحيحة الإخبار عنه، وهو يؤمر بنفخ الروح فيه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقي وسعيد يقف عاجزا أمام تسلط الجني المارد الذي وصلت قوته وجبروته إلى أن يتحدى وجود كائن أذن الله له بالتخلق.

قلت: هذا صحيح.. ولقد لاحظت هذا.

قال: وهذا التفسير وما يحمله من خرافة وشرك هو الذي يشير إليه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (لأعراف: 189 ـ 190)

فالقرآن الكريم يذكر في هاتين الآيتين حالة حمل خاف الزوجان خلالها أن يسقط الحمل أو يولد على غير الخلقة البشرية، ويمكن أن يكونا قد التجآ إلى أي وسيلة من والوسائل لحفظ الحمل، ولكن بعد أن من الله عليهما بالولد السوي نسباه لغير الله، وقصراه على تلك الوسائل.

قلت: لم أفهم علاقة الآيات الكريمة بواقع الرقاة عندنا.

قال: إن الشبه بين الشرك المنصوص عليه في تينك الآيتين والشرك الذي تعيشونه قريب، فالراقي وزبناؤه يعتقدون أن تلك الرقية التي خلص بها الرحم من الجن المارد هي السبب المباشر لحصول نعمة الولد مع أنه هبة ربانية لا ارتباط لها بالراقي ولا بالجن، وكان يجب أن يولد ذلك الولد مادام مقدرا له أن يولد، ولو ذهبت أمه لساحر أو كاهن أو مشعوذ.

وبهذه التصورات الشركية تمكن كل مشعوذ ودجال من السيطرة على عقول الناس وقلوبهم وجيوبهم، لأن الله تعالى شاء أن يبسط عليهم من فضله وهم في صحبة ذلك المشعوذ، فيعتقد العامي الساذج أن تلك الصحبة هي السبب والواسطة والمحل والمؤثر.

قلت: نعم.. هذا شرك واضح.. وكثيرا ما أراهم ينسبون حصول الولد لراق معين.

قال: وهم لا يكتفون بهذا.. بل يضيفون لهذا تحريفات أخرى للقرآن الكريم.

ابتسامة الأنين (194)

قلت: فماذا يقولون؟

قال: هم يستندون إلى تفاسير عجيبة للقرآن تتنافى مع المسلمات الشرعية، فهم مثلا يفسرون قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام:128) بالاستمتاع بين الجن والإنس (1).

قلت: سمعت هذا.. وهو من المسلمات عند العامة والخاصة.. بل لعلهم ينقلون عليه الإجماع.

قال: مع أنه لم يدل أي دليل نصي على ذلك، وإنما هي أخبار تتلقى عادة من المرضى النفسيين والمجانين لتبنى منها قضايا عقدية يحتاج التسليم لها إلى نصوص صريحة قطعية.

قلت: نعم.. هذه حقيقة عشتها.. فهم يصدقون كل ما يقال.. المهم أن يصب فيما يرونه.

قال: ليس هذا فقط.. بل إنهم يتنازلون كذلك عن كل مواقفهم من البدعة، فيضعون الأوراد الطويلة التي يبحث بها عن الجن أو التي يحرق بها، أو التي يعاهد على أساسها الجني، أو التي يفك بها السحر.

قلت: من العجيب ـ يا معلم ـ أن توظف الآيات الكريمة بواسطة هذه الفهوم توظيفا لا يليق بقدسيتها، فبعضهم مثلا يذكر من أوراد فك الربط قوله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} (الكهف:71)

قال: الأمثلة عن ارتباط الخرافة بالعالم الغيبي واستغلالها في العبث بمشاعر الناس وصحتهم كثيرة، وخطرها لا يكمن في كونها خرافة أو شعوذة، ولكنه في استعمال القرآن الكريم في إشاعتها ونشرها واعتبارها علاجا شرعيا، وهو ما ينذر بخطر عظيم، فهؤلاء لا يكتفون بالقراءة، بل قد يلجئون إلى الضرب المبرح أو الكي أو الكهرباء أو غيرها من وسائل التعذيب

__________

(1) انظر: محمد الصايم، حوار مع الشياطين، ص 61.

ابتسامة الأنين (195)

لأنهم في تصورهم لا يعذبون المريض وإنما يعذبون الجن الذي يتلبسه، وقد يأتي يوم يسقون فيه مرضاهم السم ليقتلوا الجن، وما ذلك منهم ببعيد (1).

قلت: ولكنهم ـ يا معلم ـ يستدلون لذلك بنص من القرآن الكريم لا ينبغي تجاوزه.

قال: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (البقرة:275)

__________

(1) لم يعد الضرب هو الوسيلة الوحيدة التي يعامل بها الجن عند هؤلاء الرقاة، بل إنهم كل يوم يطورون المزيد من الطرق، ويستفتون العلماء الذين لا يجدون منهم إلا التشجيع، وقد أورد بعض الرقاة هذه الطرق من أنواع الأذى والتي عنونها بقوله: (لحاق الأذى بالجن المعتدي الساكن بالجسد)، ومن هذه الطرق:

1. استخدام الماء الساخن المقروء عليه في تعذيب الجن وابعاده عن مكان أذاه بالجسم بوضع الماء الساخن على العضو المراد

2. استخدام الموجات الصوتية بواسطة سماعات عالية التردد موصلة بجهاز تسجيل عليه آيات الرقية والحرق والحفظ وبعض السور والآيات ووضع السماعة على مكان وجود الجن أو مكان تأثيره في عضو من الأعضاء فيبدأ الجن في ترك العضو غير السليم.

3. استخدام الثلج المقروء عليه آيات معينة ووضعه على وجه الشخص المصاب وخاصة في حالة الجن المجوسي عابد النار.

4. استخدام جلسات الكهرباء على الدماغ أو على أي عضو من أعضاء الجسم لصرف الجني المسبب للألم أو المرض.

5. غمر الجسد أو جسم المصاب في حوض به ماء مقروء عليه (برميل ماء مثلا) مع تغطيس الجسم كله بالرأس صعودا وهبوطا لخنق الجن.

6. كتابة آيات قرآنية على جسم المصاب أو أماكن وجوده لحبس الجني العارض وتكتفيه.

7. صرفه من الرحم وخاصة في سحر النزيف بواسطة الأعشاب (شرب مغلي نبات البرداقوش والينسون والحرمل) وينفع كذلك شرب مغلي الشبت والبقدونس ويحلى المشروب بالعسل المقروء عليه 0

8. هناك مأكولات تضر بالجن اليهودي مثل ان يحرص المريض على أن يأكل لحم الأرانب لأن اليهود لا يأكلون الأرانب.

9. الحجامة أثناء القراءة وأثناء وضع حقنة الجلوكوز في وريد المريض

10. استخدام العطس، ويتم باستنشاق النشوق في الأنف عدة مرات وتحميد الله فإن ذلك يؤذي الجن وخاصة إذا كان النشوق مقروءا عليه.

11. إنزال الجن الساكن بالدماغ والمقارن للحالة (حاضر على الحالة طوال الوقت) بواسطة جلسات الكهرباء على الدماغ وعمل الحجامة اللازمة والضرب بقوة على أعلى الظهر ونقرة القفا.

ابتسامة الأنين (196)

قلت: أجل.. ففي هذه الآية تصريح بأن الشيطان يتخبط الإنسان من المس.

قال: في أي سياق وردت الآية.. ألم تعلم أنه لا ينبغي فصل الآية عن سياقها؟

قلت: وردت في سياق تحريم الربا، تشبه المرابين بهذه الصورة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:275)

قال: فأنتم حرفتم هذه الآية تحريفا شنيعا.. انشغلتم بالتشبيه عن الحقيقة.. تركتم بنوككم وجيوبكم وحياتكم تمتلئ بالربا.. ورحتم للتشبيه تملؤون عيونكم وقلوبكم وحياة الناس به.

قلت: ولكن مع ذلك فهو قرآن كريم، وهو {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:42)

قال: فما يقول قومك في هذه الآية؟

قلت: هم يتشددون في تفسيرها.. ويرون من خالف ما ذهبوا إليه مخالفا للسنة ولأهل السنة وشاذا عن جماعة المسلمين.. وهم ينقلون أقوال المفسرين في ذلك كدليل على هذا الإجماع.

قال: فأخبرني بما قالوا؟

قلت: نقلوا عن الطبري قوله: (فقال جلَّ ثناؤه للذين يأكلون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا لا يقومون في الآخرة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، يعني بذلك: يتخبطه فيصرعه من المس، يعني من الجنون، وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل (1).

قال: صدق الطبري.. وهو لم يعدو ما ورد في الآية.

قلت: كيف هذا.. فأنت توافقهم إذن.

قال: لقد قال الطبري: (فيصرعه من المس) وهو لم يخالف نص الآية بذلك.

__________

(1) الطبري: 3/ 101.

ابتسامة الأنين (197)

قلت: كيف هذا؟

قال: اذكر لي أولا ما قالوا.. ثم نشرح هذا.

قلت: نقلوا عن أبي إسحاق الزجاج قوله: (المعنى: الذين يأكلون الربا لا يقومون في الآخرة إلا كما يقوم المجنون من حالة جنونه، يقال بفلان مس، وهو أَلمْسَ وأَوْلقَ: إذا كان به جنون) (1)

قال: صدق أبو إسحاق.. بل وقف إلى جنب أهل الحق.

قلت: ونقلوا عن الماوردي قوله: (لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، يعني الذي يخنقه الشيطان في الدنيا من المس، يعني الجنون) (2).

قال: هو لم يعدو ما ذكر أصحابه.

قلت: ونقلوا عن عبد الرحمن بن الجوزي قوله: (قال ابن قتيبة: لا يقومون أي يوم البعث من القبور، والمس: الجنون، يقال رجل ممسوس: أي مجنون) (3).

قال: أراهم يكررون نفس الكلام.. فما الحاجة إلى كل هذه التطويلات؟

قلت: ليؤكدوا ما قالوا.. وليستدلوا على الإجماع بسبب ذلك.

قال: فليفهموا ـ أولا ـ ما يقولون قبل أن ينقلوه.. فإن كل ما قالوه صحيح لا يختلف فيه المسلمون جميعا سنتهم وشيعتهم سنيهم ومعتزليهم.

قلت: لا.. المعتزلة يختلفون اختلافا شنيعا مع أهل السنة في هذا، وقد جروا أنفسهم إلى سهام أهل السنة ورميهم لهم بالبدعة.

قال: فما يقولون؟

__________

(1) الزجاح، معاني القرآن وإعرابه:1/ 358.

(2) الماوردي: النكت والعيون: 1/ 348.

(3) زاد المسير: 1/ 286.

ابتسامة الأنين (198)

قلت: ذهبوا إلى القول بعدم قدرة الجن على التأثير في بدن الإنسان وصرعه له (1).

قال: أهذا ما ذهبوا إليه؟

قلت: لم يكتفوا بهذا، بل جروا إليهم نفرا من أهل السنة.

قال: ومن هؤلاء المغفلون من أهل السنة الذين تركوا أنفسهم في أيدي المعتزلة ليجروهم إلى البدعة!؟

قلت: كثيرون.. كثيرون جدا.

قال: مساكين.. فاذكر لي من هم لعلي أشفع لهم.

قلت: من الأقدمين: محمد بن علي القفال الشافعي المذهب، والبيضاوي وأبو السعود، وكلاهما من أصحاب التفاسير الذين اختصروا كتاب الكشاف للزمخشري المعتزلي، ومن المحدثين الشيخ محمود شلتوت، والشيخ طنطاوي جوهري، والشيخ أحمد مصطفى المراغي، والشيخ محمد الغزالي.

قال: هؤلاء من فحول العلماء، فكيف يتسلط المعتزلة على عقولهم!؟

قلت: اسمع ما قالوا لتدرك ذلك.. يقول القفال في تفسيره للآية السابقة: (إن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن، فخوطبوا على ما تعارفوا من هذا، وأيضاً من عادة الناس إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات:65)) (2).

قال: هذا رأي ذهبوا إليه.. ولهم في اللغة ما يدل عليه.. ولو أني أرى أن القرآن الكريم أعظم من أن ينقل خرافة جاهلية..

قلت: فأنت مع المؤيدين إذن؟

__________

(1) انظر مقالات الإسلاميين: 1/ 133.

(2) الرازي: 7/ 89.

ابتسامة الأنين (199)

قال: لأي شيء؟

قلت: لدخول الجني في الإنسي وصرعه له.

قال: وهل نص القرآن الكريم على ما ذكرت.. وهل قال من قال من المفسرين الذي ذكرت أقوالهم ذلك؟

قلت: أجل.. وهو ما يستند إليه الرقاة في جهادهم لتخليص الإنس من استعمار الجن.

قال: وهل ذكر القرآن الكريم الدخول.. أم ذكر المس؟

قلت: ذكر المس.

قال: فهل المس في لغة القرآن الكريم ولغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم يعني الدخول.

قلت: لا.. ولكنه قد يعنيه على سبيل المجاز.

قال: والأصل في اللغة الظاهر لا المجاز.. هل ورد هذا اللفظ مرتبطا بالشيطان في غير هذا الموضع؟

قلت: بلى، فقد قال تعالى عن حال المتقين إذا تعرضوا لمس الشياطين: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (لأعراف:201)

قال: فلم لم يقل الله تعالى: (إذا مسهم طائف من الشيطان ذهبوا إلى الرقاة ليخرجوه منهم)

وهل تتصور أن هؤلاء الأتقياء الذين ذكرهم الله تعالى يتخبطون من المس الذي أصابهم به الشياطين.

قلت: لا.. بل أرى أنهم أعظم شأنا من ذلك.

قال: قل لي: أنتم تدرسون خصائص الأنبياء.

قلت: أجل.. فمن صفاتهم الأمانة والصدق والتبيليغ والفطانة، ومن خصائصهم..

قاطعني، وقال: هل يمكن أن يكون النبي مجنونا؟

ابتسامة الأنين (200)

قلت: هذا عظيم.. كيف تقول هذا، فهذا من المنفرات.. والنبي أذكى الأذكياء وأعظم العباقرة، فكيف يكون مجنونا؟

قال: رقاتكم يقولونه.

قلت: كيف.. لم أسمعهم يقولون هذا.. ولو قالوه لرماهم الناس بالحجارة.

قال: ألم يقل الله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (صّ:41).. فقد ذكر أن الشيطان مسه.. والمس عند رقاتكم يعني الدخول والصرع والتخبط.. وقد فسرتموه بالجنون.

قلت بيني وبين نفسي: هذا صحيح.. فكيف غاب عن بالهم هذا؟ ولكن كيف تفسر علاقة المس بالتخبط الذي ورد في القرآن الكريم؟

قال: ذلك شيء بسيط.. وسأضرب لك مثالا لتوضيحه.

قلت: هات.. فبالمثال يتضح المقال.

قال: سمعتكم تتحدثون عن مرض تسمونه (الحساسية)

قلت: أجل.. فبعض الناس لا يطيقون أشياء معينة، فتصيبهم لأجل ذلك علل قد لا تصيب سائر الناس.

قال: مثل ماذا؟

قلت: لعل أقرب مثال لذلك القطط.

قال: ما بها؟

قلت: فمع أنها من الطوافين علينا والطوافات (1)، إلا أن بعض الناس تصيبهم بالحساسية.

__________

(1) نص الحديث: (إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات) رواه مالك وأحمد وابن حبان والترمذي، وقال: حسن صحيح.

ابتسامة الأنين (201)

قال: أي أنهم يصيبهم التخبط كلما رأوا القطط.

قلت: ليست الرؤية وحدها.. هناك أشياء أخرى فقد أوردت وكالات الأنباء أن فريقا من الباحثين الفرنسيين نجح فى عزل الجين المسئول عن الحساسية التى تسببها القطط المنزلية لأصحابها..

قال: ألهذه الدرجة تهتمون بهذا؟

قلت: وأكثر من ذلك.. فلبعض الناس ولع شديد بالقطط قد لا تساعدهم عليه الحساسية التي تصيبهم جراء احتكاكهم بها.

قال: فما الرقية التي وضعتموها لهذا؟

قلت: لا.. هذا ليس ميدان الرقاة.. ولكن الباحثين في الولايات المتحدة يسعون أن ينجزوا في المستقبل مشروعا للتكييف الجيني يهدف إلى إنتاج قطط خالية مما يثير الحساسية عند البعض ممن يواجهون مشاكل باقترابهم من القطط.

وقد تدخلت الشركات في هذه البحوث، حيث أن شركة ترانسجينيك بيتس، وهي شركة للتكنولوجيا الحيوية تعتزم بيع هذا النوع الجديد من القطط بأسعار تصل إلى ألف دولار للقط.

قال: دعنا من شذوذكم.. قل لي: كيف تؤثر القطط في الحساسية التي تصيب هؤلاء.. هل تدخل في هؤلاء الممسوسين بها؟

قلت: لا.. ـ يا معلم ـ بل هي بما فيها من روائح تسبب لهم تلك النوبات.

قال: فهل السبب منهم أم من القطط؟

قلت: منهم.. بدليل أن القطط من الطوافين علينا والطوافات، ومع ذلك لا يصيبنا منها شيء.

قال: فإذا أراد المريض أن يتجنب ما تثيره القطط فيه من حساسية ماذا يفعل؟

قلت: هناك حلان: إما أن يجتنبها تماما، وإما أن يستعمل من الأدوية ما يخفف أو يزيل

ابتسامة الأنين (202)

تأثيرها عنه.

قال: فإذا صادف وأصيب أحد بنوبة حساسية جراء رؤيته لقط هل تستقدمون الرقاة ليقول له: (اخرج أيها القط)

قلت: نحن لا نفعل هذا.. بل نعطيه الأدوية التي تعيد له هدوءه.. ولكن ما علاقة هذا بما نحن فيه؟

قال: نفس المثال الذي ذكرته عن القطط ينطبق على المس الشيطاني.

قلت: كيف؟

قال: في بعض الناس أمراض عضوية، سنعرفها من الأطباء في هذا القسم.. وهذه الأمراض تجعل لهم حساسية تجاه وساوس معينة.

قلت: مثل ماذا؟

قال: كأن يخوفوا مثلا خوفا شديدا.. فإن ذلك الخوف يتسبب لهم في حصول هذه النوبات.

قلت: فالخوف هو الجين المسؤول عن هذه الحالة؟

قلت: ليس وحده، فهناك جينات أخرى.. ولكنا نقتصر على مثال التخويف.. فهذا الذي يصرع لأجل الخوف لو لاقاه أي مخلوق وخوفه ألا تصيبه نوبة الصرع؟

قلت: أجل.. فهو لا يختلف عن الحساسية.. يظهر بظهور السبب، ويختفي باختفائه.. ولكن ما دور الشيطان في هذا؟

قال: الشيطان خبير ماهر بطبيعة من يوسوس له.. فإذا علم من قرينه هذا.. راح يوسوس له بالمخاوف إلى أن يتخبطه من المس، كما قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:175)

قلت: فأنت تفسر المس بالتخويف.

ابتسامة الأنين (203)

قال: التخويف بعض المس.. فمن الناس من لا يخاف.. ولكن يغضب، فيأتيه الشيطان.. وينفخ فيه من الوساوس ما يملؤه غضبا.. ألم تقرأ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) (1)

قلت: بلى.. ولهذا سن لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في هذه الحال، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلين يستبان، وأحدهما قد احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عَنْه ما يجد، لو قال أعوذ باللَّه مِنْ الشيطان الرجيم ذهب عَنْه ما يجد)، فقالوا له إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تعوذ باللَّه مِنْ الشيطان الرجيم (2).

قال: فالشيطان يوسوس لكل الناس، كما أن القطط تخالط جميع الناس، ولكن بعض الناس لهم استعدادات معينة كالحساسية والصرع، فيصيبهما ما يصيب.

قلت: فأنت تقر أن للشيطان دورا.

قال: صحيح.. وما كان لي أن أخالف القرآن الكريم.. ولكن: أجبني إن حصلت الوساوس من الإنسان بأن كان هو المتسبب في التخويف أو الغضب، فلماذا ننسب الصرع حينها للشيطان؟

قلت: ولكن القرآن الكريم ذكر الشيطان.

قال: ولكن القرآن الكريم لم يقصر الشيطان على إبليس، بل قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام:112)، وأمرنا بالاستعاذة منهم جميعا، فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (الناس:1) إلى قوله تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس:6)

قلت: فما العلاج في رأيك؟

__________

(1) أحمد وأبو داود عن عطية السعدي.

(2) البخاري ومسلم.

ابتسامة الأنين (204)

قال: علاجان: أحدهما لأهل الله يملؤون قلب الخائف طمأنينة، وغضبه سكينة، والآخر للأطباء يستأصلون مكامن الداء.. هو نفس علاجكم لوساوس القطط.. ألستم تعزلونها، أو تحاولون استنساخ السليم منها، أو تعالجون العليل بالمراهم، لا بأمر القطط بالخروج.

-------

قلت: ولكن الأمر مخوف.

قال: لماذا؟

قلت: أخشى أن أخرج عن إجماع المفسرين، فهم يتفقون على أن المس يرتبط بالتخبط.

قال: هذا صحيح، وقد شرحنا ذلك.

قلت: والتخبط يكون عن دخول.. لا عن مجرد وسواس.. وهم يتشددون في المخالف لهذا ويرمونه بالبدعة، فقد قال القرطبي: (وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان، ولا يكون منه مس) (1)

ويقول بن جزي الكلبي: (أجمع المفسرون أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلا كالمجنون، ويتخبطه يتفعله من قولك: خبط يخبط، والمس: الجنون) (2)

ويقول محمد الطاهر بن عاشور: (والذي يتخبطه الشيطان هو المجنون الذي أصابه الصرع، فيضطرب به اضطرابات، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام.. وإنما احتيج إلى زيادة قوله {من المس} ليظهر المراد من تخبط الشيطان، فلا يُظن أنه تخبط مجازي بمعنى الوسوسة) (3)

قال: فهل تترك ما فهمت إلى ما قالوا لمجرد خوفك أن تخرج عن قومك؟

قلت: صعب جدا أن يخالف المرء قومه.

__________

(1) القرطبي:3/ 355، وانظر نفس القول في تفسير الشوكاني:1/ 295.

(2) ابن جزي الكلبي، التسهيل لعلوم التنزيل: 1/ 94.

(3) التحرير والتنوير: 3/ 82.

ابتسامة الأنين (205)

قال: فمن قومك من ذهبوا إلى ما فهمت واقتنعت.. واسمع لهذا المتخصص في آراء الرجال يخبرك ويخبر هؤلاء المرضى المساكين الذين حرف لهم كلام ربهم بكلام الرجال.

دخل رجل القاعة، وبمجرد دخوله بادره المرضى يقولون: نخشى أن نخالف الإجماع.

قال لهم بنبرة الواثق: ومن قال بالإجماع حتى تخالفوه؟

قالوا: أقوامنا.

قال: أليس القفال، والبيضاوي وأبو السعود، ومحمود شلتوت، وطنطاوي جوهري وأحمد مصطفى المراغي، ومحمد الغزالي من أقوامكم؟

قالوا: بلى.. بل هم من خيارنا.. وبنو خيارنا.

قال: فهم، وغيرهم كثير يقولون بهذا.

فهذا محمود شلتوت يقول: (ليس للجن مع الإنسان شيء وراء الدعوة والوعد والوسوسة والإغراء والتزيين) (1).. وهو ينفي أن تكون للجن مقدرة على أن يلبس جسم الإنسان، فينطق على لسانه، ويتحرك الإنسان بحركته وقال: (هذا من أوهام الناس، ومصدره خارج عن المصادر الشرعية، ذات القطع واليقين)

وهذا محمد الغزالي، فقد ذهب إلى أن عداوة الشيطان للإنسان لا تعدو سوى الوسواس والخداع والاستغفال، وأنكر تلبس الجن بالإنسان، واعتبر هذا الاعتقاد من الأوهام والخرافات التي شاعت بين الناس (2).

وغيرهم كثير..

قال أحد المرضى: ولكن أحمد بن حنبل ونعله.

قال: ما تقصد؟

__________

(1) الفتاوى، دار الشروق، الطبعة العاشرة 1400 هـ-1980 م، ص 24.

(2) انظر كتابه: السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث، دار الشروق -القاهرة، بيروت- الطبعة الرابعة 1989 م ص 93.

ابتسامة الأنين (206)

قال المريض: لقد جاء في طبقات الحنابلة.. وآكام المرجان في أحكام الجان.. ولقط المرجان في أحكام الجان.. و.... الجان

قال العالم: ووساوس الشيطان في أحكام الجان.. قل قولك ولا تبالغ في التوثيق.

قال المريض: هم يقولون لنا هذا.

قال: ليملأوا قلوبكم رعبا.

قال المريض: لقد رووا أن أحمد بن حنبل كان يجلس في مسجده، فأنفذ إليه الخليفة العباسي المتوكل صاحباً له يعلمه أن جارية بها صرع، وسأله أن يدعو الله لها بالعافية، فأخرج له أحمد نعلي خشب بشراك من خوص للوضوء فدفعه إلى صاحب له، وقال له: امض إلى دار أمير المؤمنين وتجلس عند رأس الجارية وتقول له، يعني الجن: قال لك أحمد: أيما أحب إليك تخرج من هذه الجارية، أو تصفع بهذه النعل سبعين.

فمضى إليه، وقال له مثل ما قال أحمد، فقال له المارد على لسان الجارية: السمع والطاعة، لو أمرنا أحمد أن لا نقيم بالعراق ما أقمنا به، إنه أطاع الله، ومن أطاع الله أطاعه كل شيء، وخرج من الجارية وهدأت ورزقت أولاداً، فلما مات أحمد عاودها المارد، فأنفذ المتوكل إلى صاحبه أبي بكر المروذي وعرفه الحال، فأخذ المروذي النعل ومضى إلى الجارية، فكلمه العفريت على لسانها: لا أخرج من هذه الجارية ولا أطيعك ولا أقبل منك، أحمد بن حنبل أطاع الله، فأمرنا بطاعته.

ضحك العالم وقال: لا شك أن هذه الرواية من اختلاق المتعصبين للإمام أحمد، فقد كان أورع من ذلك.

قال المريض: كيف هذا.. وقد رويت في تلك المصادر.

قال العالم: الإسناد المظلم يبقى مظلما، ولو طبعوه في نسخة واحدة مع القرآن الكريم.

قال المريض: وكيف ترد هذا؟

قال: أما الأول، فما فائدة النعل؟.. ألم يكن في إمكانه أن يدعو الله لها في مكانه؟

ابتسامة الأنين (207)

والثاني: هل كان أبو بكر المروذي من الغباء بحيث يحمل نعل ابن حنبل.. فهل كانت النعل هي الشافية!؟

ثم إن هؤلاء ينكرون التبرك بآثار الصالحين، فكيف يتبركون بنعل ابن حنبل!؟

ثم ألم يكن في الدنيا جميعا من الصالحين إلا الحنابلة، بحيث لم يجد المتوكل إلا أبا بكر المروذي الذي هو تلميذ ابن حنبل؟

ومع ذلك.. فإني أرى أن للقصة أصلا صحيحا.

قال المريض: كيف هذا، وقد فندتها بهذه الوجوه؟

قال: لقد فطن ابن حنبل إلى أن الجارية ربما كانت تتلاعب بذلك التصرف.. فلذلك اكتفى بإخافتها لترتدع..

ثم بعد هذا: من روى هذه القصة: هل مالك في الموطأ، أم البخاري في الصحيح؟

قال المريض: لا هذا ولا ذاك، فهذه الرواية ليست حديثا.

قال: فهل ادعى أحمد في يوم من الأيام أنه رسول مشرع؟

قال المريض: لا... كان أروع من ذلك.

قال: فهل تدعون له العصمة؟

قال المريض: نحن لا نقول بعصمة الأئمة.

قال: فهل كان أحمد أو من عاصره راقيا يجلس الناس إليه كما يجلسون إلى رقاتكم؟

قال المريض: ما في مسنده، وما رواه عنه تلاميذه لا يدل على هذا.

قال: فلماذا تزجون بهذا الإمام في هذه المتاهات؟

تركنا الرجل يتحدث مع المرضى، وهم يذكرون له ما قيل، فيرد أو يصحح أو يدافع.. قال لي المعلم: دعنا من الرجال.. ولنذهب إلى سيد الرجال.

قلت: تقصد سيد الأولين والآخرين محمدا صلى الله عليه وآله وسلم.

ابتسامة الأنين (208)

قال: أجل.

قلت: أنخرج الآن من المستشفى لنزور المدينة المنورة.

قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم شأنا من أن ينحصر في المدينة المنورة.

قلت: فأين نذهب إذن؟

قال: إلى سنته.. ألم يأمر الله بالرد إلى رسول الله عند التنازع؟

قلت: بلى.

قال: فلنترك آراء الرجال، ولنذهب إلى السنة.

السنة المطهرة

قال المعلم: أقرأت الأصول الكبرى للسنة؟

قلت: وكيف لا أقرؤها، وفيها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. ولكني لا أكتمك بأني اكتفيت منها بالمصادر الصحيحة أو السنن، أما المعاجم وغيرها، فقد اكتفيت منها بما كتب النقلة عنهم.

قال: ففي تلك المصادر توجد أبواب خاصة بالرقى.

قلت: أجل.. توجد أبواب خاصة بالطب والرقى.. وهي تختلف في تصنيفها باختلاف المصنفين.

قال: فهل تجد الرقية من العين؟

قلت: أجل.. العلماء ينقلون التفاصيل المرتبطة بذلك، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم تحدث عن العين وبين خطرها، وعلمنا كيف نستعيذ منها.

قال: وقد أثبت المحدثون ذلك في تلك الأبواب؟

قلت: أجل.

قال: فهل فيها حديث واحد فيه الرقية من الجن، وكيفيتها؟

ابتسامة الأنين (209)

قلت: لا أذكر أني قرأت حديثا في هذا المعنى.

قال: بل لم تقرأ.. فلا يوجد نص فيما يمارسه قومك من أنواع الشعوذة.. ولم يرد نص صحيح واحد يخبر بما يدعيه الرقاة من استعمار الجني للإنسي.

قلت: ولكن العين تختلف عن المس؟

قال: ما الفرق بين أذى العين، وأذى الجن؟ أليس كلاهما أذى؟..

قلت: أجل.. هذا صحيح، بل إن قومي يزعمون أن العين بسبب الجن.. والمس على كل حال أخطر من العين.

قال: وأزيدك شيئا آخر.. ألم تسمع حديث المرأة التي تصرع؟

قلت: أجل.. لقد روي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع اللَّه تعالى لي. قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت اللَّه تعالى أن يعافيك)، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع اللَّه أن لا أتكشف، فدعا لها (1).

قال: في هذا الحديث دليل على أن الصرع مرض من الأمراض التي يجازى الصابر عليها.. وليس مرضا شيطانيا كما يزعمون.

قلت: إنهم يستدلون به على عكس ذلك، فقد ذكر ابن حجر العسقلاني عدة طرق لهذا الحديث ثم قال: (وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان من صرع الجن لا من صرع الخلط) (2)، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب وابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة أم زفر أنها هي التي كان بها مس من الجن (3)، وقال ابن القيم: (ويجوز أن صرع هذه المرأة السوداء من جهة الأرواح الخبيثة) (4)

__________

(1) البخاري.

(2) فتح الباري: 10/ 115.

(3) انظر ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 6/ 333.

(4) زاد المعاد:3/ 181.

ابتسامة الأنين (210)

قال: لا.. هذا تحريف خطير للحديث.. فأين ذكر الشياطين هنا، لقد طلبت المرأة الدعاء، ولم تطلب الرقية، وقد كان التفريق بينهما مشهورا لا شك في ذلك بدليل ما سنعرفه من نصوص، فقد ذكرت فيها الرقية بكونها مرخص فيها بخلاف الدعاء الذي هو عبادة من العبادات.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أرشدها إلى الصبر، ولا نرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتركها للشيطان يسيمها سوء العذاب.

-------

بينما نحن كذلك إذ دخل رجل مهيب، فقلت للمعلم: من هذا الشيخ الممتلئ هيبة ووقارا؟

قال: هذا عالم من علماء الحديث..

قلت: فلم جاء هنا؟

قال: ليجيب عن الشبهات التي امتلأت بها نفوس هؤلاء المرضى.

سأل بعض الحاضرين هذا العالم، فقال: ولكنهم يروون في هذا أحاديث، وقد عرفناك معظما لها.

قال المحدث: وما يروون؟ إني أتحدى أي واحد منهم محدثا كان أو فقيها أن يأتيني بحديث واحد يبرهن على ما يأتونه من الدجل.

ارتعد القلم في يدي، وأنا أسمع تحديه، فتوقفت عن الكتابة، فقال لي: (ما بالك؟، ألم نتفق على كتابة كل ما يقال؟

قلت: ولكن التحدي صعب.

قال: ولكنا لا نتحدى لنظهر عجز غيرنا، وإنما نتحدى لطلب الحق ونصرة الحق، وقد قال تعالى متحديا بني إسرئيل: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آل عمران:93)

ابتسامة الأنين (211)

قال أحد الحاضرين: لا.. يا شيخ، فقد رووا في الباب أحاديث.

قال المحدث: فما رووا؟

الحديث الأول

قال: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (على رسلكما، إنها صفية بنت حيي)، فقالا: (سبحان الله يا رسول الله!) فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو شيئاً)

فقد استدل بهذا الحديث على قدرة الجن سلوك بدن الإنسان جماعة من العلماء منهم القرطبي في تفسيره (1)، وابن تيمية في فتاواه (2)،وابن حجر الهيثمي وردَّ به على المعتزلة منكري ذلك (3)، والبقاعي في تفسيره (4)، وابن حجر العسقلاني في بذل الماعون (5)، والعلامة موفق الدين بن عبد اللطيف البغدادي (6)، والقاسمي في تفسيره (7) و....

قال المحدث: هذا حديث صحيح لا شك فيه.. ولا علاقة له بهذا.

قال: كيف؟.. وكل هؤلاء استدلوا به.

قال المحدث: أليس معك عقلك.. وهو لا يختلف عن عقول الذين استدلوا به؟

__________

(1) انظر تفسير القرطبي 2/ 50.

(2) انظر مجموع الفتاوى 24/ 277

(3) انظر الفتاوى الحديثية: 72.

(4) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور:1/ 531.

(5) بذل الماعون في فضل الطاعون: 83.

(6) الطب من الكتاب والسنة: 231.

(7) محاسن التأويل 3/ 360.

ابتسامة الأنين (212)

قال: بلى..

قال المحدث: لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم.. فهل الإنسان إنسان مخصوص، أم كل الناس؟

قال: بل كل الناس.

قال المحدث: وهل ذلك خاص بوقت من الأوقات؟

قال: نص الحديث يدل على عدم الخصوص.. أي أنه يجري دائما.

قال المحدث: وهل يجوز التخصيص بدون مخصص؟

قال: لا..

قال المحدث: فلم يخصصون المصروع بدخول الشيطان إليه وحده من دون سائر الناس.

قال: فما تقول في هذا الحديث؟

قال المحدث: هذا الحديث يذكر قرب الشيطان من الإنسان وسرعة تأثيره فيه بدليل قوله: (وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً، أو شيئاً)

قال: فأنت تؤول الحديث إذن، أو تنفيه، أو تقول بما قال من استدل بقول الشاعر:

وقد كنت أجري في حشاهن مرة... كجري معين الماء في قصب الآس

قال المحدث: أنا لا أقول بكل هذا.. بل إن لي نزعة ظاهرية مع النصوص، ولكني أرفض أن يحمل القائل غير ما أراده، فكيف إذا كان القائل هو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم.. ثم لماذا لم يهرع صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء الذي خشي عليهم من الشيطان يرقيهم.. بل اكتفى بما يبعد الوساوس عنهم!؟

الحديث الثاني

قال آخر: فقد روى ابن ماجه وابن أبي عاصم وغيرهما عن عثمان بن أبي العاص قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ابن العاص؟ قلت نعم يا رسول الله، قال: ما

ابتسامة الأنين (213)

جاء بك؟ قلت: يا رسول الله عرض لي شيء في صلاتي حتى ما أدري ما أصلي، قال: ذاك الشيطان، أدنه، قال: فدنوت منه، فجلست على صدور قدمي، قال: فضرب صدري بيده وتفل في فمي، وقال: اخرج عدو الله، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: الحق بعملك، فقال عثمان: فلعمري ما أحسبه خالطني.

فالحديث صحيح الإسناد، فرجاله ثقات وإسناده صحيح، كما قال البوصيري (1)، وصححه الحاكم في المستدرك، ومحمد ناصر الدين الألباني (2)، ودلالة الحديث على تلبس الجن بالإنسان ظاهرة، فقولهصلى الله عليه وآله وسلم: (اخرج عدو الله) تدل على وجود الشيطان داخل بدن الإنسان، فلذا أمَرَه صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج منه.

قال المحدث: مع أن الحديث فيه مقال من جهة السند.

قال: لا.. ليس فيه أي مقال.

قال المحدث: انفراد ابن ماجة به يجعل فيه ألف مقال.. ثم إن صحة السند وحدها لا تكفي.. فقد يكون الحديث معلولا.. وما فيه من العلل هو الذي صرف كبار المحدثين ممن التزموا الصحة أو الحسن عن قبوله.

قال:..!؟

قاطعه، وقال: لا.. لن أناقشك في هذا الباب، ولكني أسألك: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر:30).. ولا يزال يعترينا ما اعترى هذا الرجل من الوساوس في الصلاة.. فلمن نلجأ؟ وهل ترضون أن يتفل هؤلاء الرقاة في أفواهكم ليبعدوا عنكم وساوس الشياطين؟.. ومن من الرقاة يفعل هذا مع أنه هو الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حسب ما تذكرون؟.. وهل انتفت الوساوس عن هذا الرجل بهذا، وصار من الخاشعين..

__________

(1) مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة:4/ 36.

(2) انظر سلسة الأحاديث الصحيحة:2/ 273.

ابتسامة الأنين (214)

وبذلك يصير الخشوع شيئا سهلا، لن نحتاج فيه إلى أي مجاهدة، بل يكفي أن يبصق في أفواهنا الصالحون والرقاة لنصير ربانيين خاشعين.. وبذلك نضمن الفردوس الأعلى من غير أ ي مجاهدة.

قال: فما تقول؟

قال المحدث: لقد أخبر القرآن الكريم بأن المحل الذي يوسوس فيه الشيطان هو صدور الناس، كما قال تعالى عنه: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (الناس:5)، وكما ورد في الحديث: (إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر اللّه خنس، وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس) (1)

فلذلك ـ إن صح الحديث ـ فقد زجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشيطان عن صدره ليكف عن وسوسته.. ولكن ذلك مرتبط بحالة معينة، وفي وقت معين.. لأن الشيطان لا ييأس من ابن آدم.. وإلا فأجبني: هل صار عثمان بن أبي العاص معصوما بما فعل معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال: لم يكن معصوما.. بل إنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وفد ثقيف.

قال المحدث: فقد أجبتني.. لقد كان ـ كما يقول المؤرخون ـ حدثا، وأسلم عام أسلمت ثقيف، أي في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. أي أنه ـ بموقفه هذا ولجوئه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجل هذا ـ لم يكن يعلم بما حض عليه الشرع في هذا الباب من الاكتفاء بالاستعاذة وذكر الله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (لأعراف:201).. وإلا، فكيف لم يصدر هذا من الصحابة الكبار.. بل والصغار!؟

قال: فما تقول في ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدره.. أليس ذلك من السنة؟

قال المحدث: لا.. لقد نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وآله وسلم، فهل كان ذلك من السنة.

قال: تلك معجزة له صلى الله عليه وآله وسلم.

__________

(1) أخرجه الموصلي.

ابتسامة الأنين (215)

قال المحدث: فقد وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على الجذع لما حن فسكن، وأمسك بلسان بعض المنافقين، ودعا له فأصبح مؤمنا، كما في حديث حرملة بن زيد الأنصاري حين جلس بين يديه، وقال: يا رسول الله، الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق هاهنا، ووضع يده على صدره، ولا نذكر الله إلا قليلاً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وردد ذلك حرملة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسان حرملة، وقال: (اللهم اجعل له لساناً صادقاً وقلباً شاكراً وارزقه حبي وحب من أحبني، وصير أمره إلى خير)، فقال له حرملة: يا رسول الله، إن لي إخواناً منافقين، وكنت رأساً فيهم، أفلا أدلك عليهم، فقال رسول الله: (من جاءنا كما جئتنا استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن أصر على ذلك فالله أولى به، ولا تخرف على أحد ستر) (1)

الحديث الثالث

قال آخر: فقد روى أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم، والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً)

والحديث صحيح الإسناد، صححه الحاكم ووافقه الذهبي (2)، والألباني (3) وقال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: وإسناده حسن (4)

قال المحدث: فما موضع الاستدلال في هذا الحديث؟

قال: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أن يتخبطني الشيطان عند الموت)، ففيه دلالة واضحة على المس الحقيقي.. وقد استدل بهذا الحديث على إثبات صرع الشيطان للإنسان غير واحد من أهل

__________

(1) ابن منده وأبو نعيم.

(2) المستدرك 1/ 713.

(3) صحيح الجامع الصغير وزياداته: 1/ 275.

(4) هامش جامع الأصول 4/ 361.

ابتسامة الأنين (216)

العلم (1).

قال المحدث: فهل كان صلى الله عليه وآله وسلم يخاف أن يصيبه الصرع عند الموت، فلهذا استعاذ بالله من ذلك؟

قال: معاذ الله.. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعظم شأنا من أن يتسلط عليه الشيطان.

قال المحدث: فما وجه استدلالهم بالحديث؟

قال: هم يستدلون بقوله: (يتخبط)

قال المحدث: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يتخبطني)، ولم يقل: (يتخبط)، فلم يحرفون الكلم عن مواضعه؟

قال: لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لنذكره نحن.. ومنه استغفاره صلى الله عليه وآله وسلم مع عصمته، ومع أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

قال المحدث: فلم خص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموت بالاستعاذة من تخبطه.. وهل يخاف الإنسان على صحته وهو مقبل على الموت؟

قال: فما تقول أنت؟

قال المحدث: التخبط الذي يريده صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث هو الوساوس التي يلقيها في قلب الإنسان..

قاطعه، وقال: فلماذا لم يستعذ من الوساوس مطلقا.. ولم خص ذلك بالموت؟

قال المحدث: لأن الشيطان يدخر أعظم وساوسه للحظة الموت، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يسأل الله حسن الخاتمة..

وقد ورد في الحديث أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند النوم: (باسم اللّه، أعوذ بكلمات اللّه

__________

(1) انظر تفسير القرطبي 3/ 355، فتح القدير للشوكاني 1/ 295، برهان الشرع ص 129، وحيد الدين بالي: وقاية الإنسان من الجن والشيطان، دار البشير -القاهرة- ص 61.

ابتسامة الأنين (217)

التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون) (1)

قال:..!؟

قال المحدث: وأزيدك شيئا آخر: إن هذا الحديث الذي ذكرت تصحيحه يفسر معنى التخبط في الآية من غير أن نضطر لتأويلها.

قال: كيف؟

قال المحدث: التخبط لا يعني فقط ما نراه من المصروع من حركات.. بل قد يكون الإنسان هادئا سليم الجسم.. ومع ذلك فإنه يتخبط من داخله بالوساوس.. وهذا الحديث يشير إلى هذا المعنى.

قال: كيف؟

قال المحدث: لقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم التخبط وربطه بالموت، ولا نرى في العادة المحتضر ـ سواء كان صالحا أو غير صالح ـ إلا هادئا ساكنا لضعفه الشديد عن أي حركة.. فالتخبط في ذلك الحين ليس تخبط الحركات، وإنما تخبط الوساوس.

الحديث الرابع

قال آخر: فقد روى أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام من الليل كبَّر، ثم قال: (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، ثم يقول: الله أكبر كبيراً ثم يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه ونفثه)

قال المحدث: فما محل الشاهد من الحديث؟

قال: استعاذته صلى الله عليه وآله وسلم من همز الشيطان، فقد قال أهل اللغة: نفثه: الشعر، ونفخه: الكبِر، وهمزه: الموتة، قال ابن الأثير: والموتة: الجنون، لأن المجنون ينخسه الشيطان، والهمز والنخس

__________

(1) أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن غريب.

ابتسامة الأنين (218)

أخوان (1)، وقال ابن كثير: (فهمزه الموتة، وهو الخنق الذي هو الصرع) (2)

قال المحدث: إن أصل الهمز في اللغة هو الغَمْزُ، والضَّغْطُ، والنَّخْسُ، والدَّفْعُ، والضَّرْبُ، وهذه جميعا فسرت في النصوص بالوساوس، ولا حرج عليها بعد ذلك إذا فعلت ما فعلت في صاحبها المستعد لتقبلها.

ثم هل تتصورون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو يقوم الليل خاشعا منيبا ـ يلتفت إلى ما تلتفتون إليه من المخاوف؟

الحديث الخامس

قال الخامس: لقد روى أحمد والطبراني وابن عبد البر وغيرهم عن يعلى بن مرة قال: (لقد رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً ما رآها أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي، لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها، فقالت يا رسول الله هذا صبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة، قال: ناولينه، فرفعته إليه، فجعلته بينه وبين واسطة الرَّحل ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثاً، وقال: بسم الله، أنا عبد الله، اخسأ عدو الله، ثم ناولها إياه، فقال: ألقينا في الرجعة في هذا المكان فأخبرينا ما فعل، قال: فذهبنا، ورجعنا، فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما فعل صبيك؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئاً حتى الساعة، فاجترر هذه الغنم، قال: انزل فخذ منها واحدة ورُدَّ البقية)

والحديث صحيح الإسناد، وقد ذكر الحافظ ابن كثير عدة طرق لهذا الحديث، ثم قال: (فهذه طرق جيدة متعددة، تفيد غلبة الظن أو القطع عند المتبحرين أن يعلى بن مرة حدّث بهذه القصة في الجملة) (3)

__________

(1) النهاية في غريب الحديث والأثر 5/ 273، جامع الأصول 4/ 186.

(2) البداية والنهاية: 1/ 61.

(3) البداية والنهاية: 6/ 139 - 140.

ابتسامة الأنين (219)

قال المحدث: فما وجه الاستدلال بالحديث؟

قال: هذا الحديث هو الحجة الكبرى في هذا الباب، بل هو حديث هذا الباب، ووجه الدلالة في الحديث واضحة، فقول الراوي: (ثم فغر فاه، فنفث فيه ثلاثاً)، ثم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بسم الله، أنا عبد الله، اخسأ عدو الله) دليل على أن الصبي كان يعاني المسّ الشيطاني الذي سبب له بلاء وغماً.

قال المحدث: سنبدأ مناقشة الحديث من مبدئه.. لقد ذكر يعلى بن مرة ثلاثة أمور اختص برؤيتها.. أتستطيع ذكرها لي؟

قال: لقد وردت في الحديث.. أما الأولى، فهي ما ذكره، وأما الثانية، فقال: وخرجت ذات يوم إلى الجنان، حتى إذا أبرز قال: (انظر ويحك هل ترى شيئا يواريني؟) قلت: (ما أرى إلا شجرة، ما أراها تواريك)، قال: (فما قربها؟) قلت: (شجرة مثلها أو قريب منها) قال: (اذهب إليهما، فقل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركما أن تجتمعا بإذن الله)، قال: فاجتمعتا، فبرز لحاجته، ثم رجع، قال: اذهب إليهما فقل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركما أن ترجع كل واحدة منكما إلى مكانها، فرجعت.

قال المحدث: وما الثالثة؟

قال: ما ذكره بقوله: وكنت معه جالسا ذات يوم، إذ جاء جمل يخبب حتى ضرب بجرانه بين يديه، ثم ذرفت عيناه، فقال: (ويحك انظر لمن هذا الجمل، إن له لشأنا)، فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه، فقال: (ما شأن جملك هذا؟) قال: (وما شأنه؟) قال: (لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية فأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه) قال: (لا تفعل، هبه لي، أو بعنيه) قال: (بل هو لك يا رسول الله) قال: فوسمه بميسم الصدقة، ثم بعث به.

وفي رواية أنه قال لصاحب البعير: (البعير يشكوك زعم أنك سناته حتى كبر تريد أن تنحره) قال: (صدقت والذي بعثك بالحق قد أردت ذلك والذي بعثك بالحق لا أفعل)

ابتسامة الأنين (220)

وفي رواية: (ثم سرنا ونزلنا منزلا فنام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ ذكرت له، فقال: (هي شجرة استأذنت ربها عز وجل أن تسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأذن لها)

قال المحدث: أترى كل هذه المعجزات التي ذكرها تمر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أحد يهتم بها أو يرويها ما عدا يعلى بن مرة، ثم يرويها ولا يهتم لها التابعون، ولا من بعدهم.. ولا أئمة الحديث الذين التقطوا أقل شيء مما يتعلق بدلائل النبوة..

قال: ولكن السند صحيح؟

قال المحدث: ليس كل سند صحيح يقبل، فلولا أن في الحديث عللا لذكره الذين اهتموا بالصحيح.. ألا تعلم عدد الذين رووا نبع الماء بين أصابعه الشريفة؟

قال: بلغوا مبلغ التواتر.

قال المحدث: وأحاديث انشقاق القمر؟

قلت: كذلك.. هي أحاديث متواترة.

قال المحدث: حتى حنين الجذع ـ مع كونه أقل بكثير مما ذكرت ـ إلا أنه روي بالتواتر.

قال: لا يشترط التواتر لصحة الأحاديث.

قال المحدث: أنا لا أشترط التواتر لصحة الأحاديث، ولكني أعجب أن يمر هذا الحديث على الصيارفة، ثم لا يروونه مع كون الحاجة إليه ماسة..

قال: ولكن مع ذلك..

قال المحدث: نحن في مدائن السلام نكره الجدل.. فلذلك سأسلم لك جدلا بأن الحديث صحيح ومقبول، بل ومتواتر.. في أي محل يورد هذا الحديث: هل في باب دلائل النبوة أم في باب الرقى؟

قال: هم يوردونه في باب الدلائل.

ابتسامة الأنين (221)

قال المحدث: ولماذا يطبقونه في باب الرقى.. أيزعمون لأنفسهم ما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النبوة؟

قال: حاشا لله.

قال المحدث: فهل قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتم صبيا حصل له ما حصل لهذا، فافعلوا مثلما فعلت)؟

قال: لا يشترط أن يقول هذا.

قال المحدث: ولكنه قال مثله في الصلاة والحج.. طلب منهم أن يقلدوه في أفعاله.

قال:....!؟

قال المحدث: لا بأس.. سأسلم جدلا بأن هذا من السنة التي يمكن العمل بها.. ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الصبي؟

قال: فغر فاه فنفث فيه ثلاثاً، وقال: بسم الله، أنا عبد الله، اخسأ عدو الله، ثم ناولها إياه.

قال المحدث: أهذا كل ما فعله؟

قال: هذا ما ورد به النص.

قال المحدث: فكيف عرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ما به من الشيطان؟

قال: هو رسول الله، فكيف لا يعرف؟

قال المحدث: فهل رقاتكم رسل لله يميزون بين الشياطين وغيرهم؟

قال:....!؟

قال المحدث: فهل حاور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الشيطان!؟.. وهل دعاه إلى الإسلام!؟.. وهل أجرى مسامرة معه كالمسامرات التي تجرونها!؟

قال: هم يستدلون بهذا على جواز استعمار الشيطان للإنسان.

قال المحدث: لقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: اخسأ عدو الله.. فمن قال بأن هذا العدو هو

ابتسامة الأنين (222)

الشيطان، ومن قال بأن (اخسأ) تدل على الدخول.

قال: يمكن أن يقال ذلك.

قال المحدث: لا بأس.. سأسلم جدلا بصحة ذلك.. لقد تفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عيون بعض الصحابة فبرئت، فلماذا لا تفتحون عيادات للعيون يعالج بها رقاتكم العيون المريضة بالبصاق؟

قال: ولكن ذلك من دلائل النبوة.. لا من الرقية.

قال المحدث: ولكن كلا الحديثين يوضعان في دلائل النبوة.. فكيف جوزتم العمل بأحدهما وخصصتم الآخر؟

قال:....!؟

قال المحدث: الصحابة المنتجبون أحيوا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فمن من الصحابة فتح عيادة يخرج فيها الجان؟

قال: لا يشترط أن يذكر هذا.

قال المحدث: أنتم تشترطونه، فمع أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) (1)، وظاهر الحديث يدل على جواز القراءة جماعة إلا أنكم تنكرون العمل بذلك، بل وتعتبرونه بدعة بحجة أنه لم يؤثر عن السلف العمل به.

سكت قليلا، ثم قال: فماذا تقول أنت في هذا الحديث؟

قال المحدث: أنا يراودني شك كبير في مدى صحة الحديث.. بل إن فيه من الغرابة ما يحيل صحته، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم ترو عنه الخوارق إلا في مواضع محددة، وللمصلحة العامة تتحرك له الأشجار لأجل ستره في قضاء الحاجة.. ثم لا يكون هو الآمر، بل يكلف صاحبه بأن يأمر

__________

(1) أبو داود.

ابتسامة الأنين (223)

الأشجار بالتقدم والتأخر!؟

ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال له ربه: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام:90)، وقال له: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى:23) كيف يقبل من المرأة عرضها عليه ما عرضت.

وما لم أستطع فهمه هو البعير الذي لا يشكو المجاعة، ولكن يشكو هم أهله بذبحه، ونهيه لهم صلى الله عليه وآله وسلم عن ذبحه.. أذبح البعير بعد انتهاء العمل به جريمة؟.. أو من السنة أن لا يذبح، وماذا يفعل به في ذلك الحين؟

قال:....!؟

قال المحدث: أتدري ما الذي رغب رواتكم في هذا الحديث.. فحفظوه عن ظهر قلب؟

قال: ما هو؟

قال: قول المرأة، وهي تشير إلى غنمها: (انزل فخذ منها واحدة، ورُدَّ البقية) (1).. فلولا هذا الكلمة ما عبئوا بالحديث كما لم يعبأوا بغيره.

العلم

تركنا المحدث مع المرضى يناقشهم ويناقشونه.. وسرت مع المعلم إلى محل آخر لعلاج هؤلاء المرضى الذين تلاعب بهم الرقاة، قلت للمعلم: إلى أين نذهب الآن؟

قال: إلى الخبراء.. ألم يدعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مراجعة الأطباء في حال المرض؟

قلت: بلى..

قال: فهؤلاء الأطباء والخبراء الذين شرحوا الإنسان عضوا، وعرفوا وظائف أعضائه

__________

(1) وفي رواية:: فبرأ، فأهدت له كبشين وشيئا من إقط وسمن، فقال رسول الله (: (يا يعلى خذ الإقط والسمن، وخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر)

ابتسامة الأنين (224)

عضوا عضوا لا يصح أن نعزلهم.

قلت: ولكن هؤلاء الرقاة يعزلونهم.

قال: لولا جهلهم ما عزلوهم.. فلا يعرف أهل الفضل إلا أهل الفضل.

قلت: ولكني أرى أنهم في بعض الأحيان قد يتعاونون.

قال: كيف!؟

قلت: الأطباء يرسلون المرضى إلى الرقاة، والرقاة يرسلون بعض من يأتيهم للأطباء.

قال: تلك تجارة محرمة.. فلا تحل التجارة في بني آدم.

دخلنا القاعة، رأينا فيها مرضى وأطباء، والمرضى يسألون، والأطباء يجيبون، اقتربنا من بعض الأطباء (1)، فسمعنا هذا الحديث:

قال بعض المرضى: هل يسبب الشيطان المرض النفسي؟

قال الطبيب: بحكم عملي في الطب النفسي فإن نسبة لا تقل عن 70 بالمائة من المرضى يذهبون في البداية إلى المعالجين الشعبين أو المشعوذين قبل أن يفكروا في زيارة الطبيب النفسي.

ورغم أنه لا يوجد دليل واحد على علاقة الشيطان بالأمراض النفسية فإن بعضا من المتعلمين إلى جانب البسطاء لا يستطيع فهم الحقائق العلمية التي تؤكد أن غالبية الأمراض النفسية الرئيسية قد تم التوصل إلى معرفة أسبابها، وأنها نتيجة تغييرات كيميائية في الجهاز العصبي يمكن علاجها عن طريق تعديل الخلل الذي يعاني منه المريض باستخدام الأدوية النفسية الحديثة.

قال مريض آخر: إن سلوك الجن في بدن الإنسان وصرعه له ونطقه على لسان المصروع أمر مشاهد محسوس، تكاد حوادثه تقع في كل عصر ومصر، ويعد منكره معانداً مكابراً للمشاهدة والمحسوس، وأخبار ذلك كثيرة جداً، شاهدها ورواها العلماء الثقات المشهورون بعلمهم

__________

(1) انظر: أضواء على بعض الجوانب الخفية للأمراض النفسية: المرض النفسي وأعمال الشيطان، د 0 لطفي الشربيني، استشاري الطب النفسي.

ابتسامة الأنين (225)

وتقواهم، مما يوجب معه القطع بهذا الاعتقاد.

قال الطبيب، وكأنه لم يلتفت لما قال، أو لم يفهم ما قال: من الحالات الغريبة التي يتناقل الناس الحديث حولها في المجتمعات العربية حالات لمرضى يغيبون عن الوعي ويبدأ الشيطان أو الجن في الحديث من داخلهم!!! فالكلام يصدر عنهم لكنه بنبرات وأسلوب يختلف عن طريقتهم المعتادة في الحديث، والكل هنا يؤكد أن المتحدث هو المخلوق الغريب بداخلهم، وربما يذكر هذا المتحدث اسمه وديانته والمكان الذي حضر منه، فهناك الجن الكافر، وهناك الشيطان الصغير، والفتاة المثقفة، والمرأة التي تبدي رغبتها في الزواج من المريض، أو الرجل الذي يؤكد أن يحب ضحيته ولن يتركها، وكل هذه نماذج من الشياطين الذين يتحاورون مع المحيطين بالمريض، وكثيرا ما يقدم الواحد منهم بعض المطالب حتى يتخلى عن المهمة التي يقوم بها مع هذا المريض ويتركه وشأنه.

قال آخر: هذا صحيح.. وقد روى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إن الجن لا يدخل في بدن المصروع من الإنس، فقال: يا بني يكذبون، وهو ذا يتكلم على لسانه) (1)

وقال ابن تيمية: (إن دخول الجني بدن الإنس، وتكلمه على لسانه بأنواع الكلام وغير ذلك أمر قد علمه كثير من الناس بالضرورة) (2)

قال آخر: بل قد عالج ابن تيمية الإنسان المصروع بسبب الجني مرات كثيرة، وحدَّث عن نفسه في ذلك فقال: (كما قد فعلنا نحن هذا، وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين) (3)

__________

(1) مجموع الفتاوى: 19/ 12، 24/ 277.

(2) الرد على المنطقيين ص 407.

(3) مجموع الفتاوى: 19/ 60.

ابتسامة الأنين (226)

وقد ذكر مقالة أحمد في الرد على استفسار ابنه، ثم قال: (وهذا الذي قاله أمر مشهود، فإنه يصرع الرجل، فيتكلم بلسان لا يُعرف معناه، ويُضرب على بدنه ضرباً عظيماً لو ضُرب به جمل لأثر به أثراً عظيماً، والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله) (1)

قال آخر: ومن أدلة الحس والمشاهدة على دخول الجن بدن الإنسان وتسببه له بالصرع ونحوه من الأمراض أن كثيراً من العلماء والمشايخ المعاصرين المشهورين قاموا بمعالجة مرضى المس الشيطاني بالطرق الشرعية، ومنها قراءة القرآن على المصروع، ومن هؤلاء الشيخ أحمد القطان (2)، والشيخ عبد العزيز بن باز مفتي السعودية (3)، والشيخ محمد الصايم (4)، والشيخ وحيد الدين بالي (5).. وغيرهم كثير.

واصل الطبيب حديثه دون أن يلتفت لهم: هذا الكلام مؤكد وتسمعه من مصادر كثيرة لدرجة أن بعض الناس يقول لك: إن لديه تسجيلات لهذه الوقائع بصوت الشيطان نفسه حتى يصدق الجميع ذلك.

خشيت أن يتدخل المرضى ليغيروا مجرى الحديث، فصحت: فما تفسير هذا من وجهة نظر الطب النفسي؟

التفت إلي، وقال: الواقع أنني شخصيا قد استمعت إلى مثل هذه الأشياء في حياتي العملية عدة مرات، لكن هذه الحالة أيضا لا علاقة لها بالشيطان نهائيا، والمتحدث هنا هو المريض النفسي.

__________

(1) مجموع الفتاوى: 24/ 277.

(2) انظر تجاربه حكاية عنه: مجدي محمد الشهاوي: العلاج الرباني للسحر والمس الشيطاني، مكتبة القرآن -مصر- ص 63 - 66.

(3) انظر مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 3/ 299.

(4) انظر تجاربه في كتابيه: المنقذ القرآني لإبطال السحر وعلاج المس الشيطاني، حوار مع الشياطين وتجربتي العملية في إخراج الجان وإبطال السحر.

(5) انظر تجاربه في كتابه: وقاية الإنسان من الجن والشيطان.

ابتسامة الأنين (227)

قلت: كيف هذا؟

قال: هي في حالة نطلق عليها التحول الهستيري يغيب فيها عن الوعي مؤقتا، وتظهر بعض محتويات عقله الباطن، فيقوم بالتنفيس عن بعض رغباته المكبوتة، ويهرب من الواقع والضغوط التي لا يحتملها، فيتصور الجميع أن بداخله شيطان يتكلم، وهذه الحالات لا تحتاج إلى الذهاب إلى الدجالين، أو ضرب المريض بقسوة لإخراج الجن، كل ما في الأمر هو تهدئة المريض وبحث حالته النفسية والتعامل مع الضغوط التي يتعرض لها، وهنا تتحسن الحالة دون تعامل مع الشيطان.

قال أحد المرضى، وكأنه يصف حالته: والأصوات، والخيالات والوساوس أأمراض هي أم مس شياطني!؟

قال: مرض الوسواس القهري هو أحد الأمراض النفسية الشائعة بصورة لم نكن نحيط بها من قبل، حيث اعتقد الأطباء النفسيون أنه من الحالات النادرة لكن الدراسات الحديثة تؤكد أنه يصيب 3 بالمائة من الناس.. وقد ارتبط هذا المرض في الأذهان بوساوس الشياطين بسبب التشابه بين مسمى (الوسواس القهري) ووصف الشيطان بالوسواس الخناس الذي ورد في القرآن الكريم، لكن إذا علمنا أن الوسواس القهري قد أصبح من الأمراض التي تم كشف النقاب عن الكثير من أسرارها، وأن هذه الحالات لها علاقة ببعض المواد الكيميائية في المخ مثل مادة (السروتونين) التي يتسبب اختلالها في أعراض الوسواس القهري، وهي تشمل أعراضا كثيرة.

قلت: مثل ماذا؟

قال: مثل أعمال وسواسية في صورة تكرار أفعال وطقوس لا معني لها، مثل غسل الأيدي أو الطهارة عند ملامسة أي شيء، أو التمتمة بكلمات، أو أعداد معينة قبل بدء أي عمل، أو إعادة الوضوء عدة مرات قبل الصلاة.

ابتسامة الأنين (228)

قال أحد المرضى: أنا مريض بهذه الحالة، وقد اكتشف الراقي أن سبب ما أصابني جن خطير لم يكشف عن اسمه.

قال الطبيب مازحا: قل لراقيك لقد عرفته إنه (السروتونين)، فغيابه هو الذي سبب لك ما سبب.

قلت: اذكر لنا أمثلة أخرى على هذا؟

قال: من أمثلتها الأفكار الوسواسية، كالانشغال والاستغراق في التفكير في موضوعات تافهة وقضايا لا حل لها مثل مسألة البيضة والدجاجة ومن الذي أتى أولا؟ أو البحث في شكل الشيطان وماذا يأكل وكيف يعيش؟ أو أفكار دينية لا معني لها تشغل التفكير وتعوق الشخص عن مزاولة حياته..

ومن أمثلتها: مخاوف وسواسية لا أساس لها من أشياء ليست مصدر خوف على الإطلاق.

قلت: فكيف يتعامل الطب النفسي مع هذه الحالات؟

قال: الطب النفسي بتعامل حاليا مع هذه الحالات بالعلاج الدوائي الذي يعيد الاتزان النفسي ونسبة الشفاء عالية حاليا باستخدام أجيال الأدوية الحديثة، ولا علاقة للشيطان بكل هذه الوساوس المرضية.

قال بعض المرضى: ولكني أرى أشباحا، وأسمع أصواتا تتحاور معي، بل وتهددني أو تأمر بأن يفعل أشياء معينة.

قلت: فماذا قال لك الرقاة؟

قال: وهل هناك غير المردة من العفاريت؟

قلت: فما فعلوا؟

قال: ظلوا يرقونني إلى أن نفذ ما في جيبي، فطردوني، وقالوا: جنك طيار، لا نقدر على إمساكه.

ابتسامة الأنين (229)

قلت للطبيب: بم تفسر هذا؟

قال الطبيب: من جهة نظر الطب النفسي هذا يرجع إلى وجود خلل في جهاز الاستقبال لدى المريض، يجعله يستقبل صورا وأصواتا لا وجود لها، وهذه الحالات أيضا تتحسن بالعلاج بالأدوية الحديثة، ولا دخل للشيطان في هذه الأعراض النفسية المرضية التي تحدث في مرضى الفصام والأمراض العقلية الذهنية.

-------

انتقلنا إلى محل آخر من القاعة، اجتمع فيه مجموعة مرضى مع طبيب، يتحدثون عن مرض الصرع وعلاقته بمس الشيطان.

قال الطبيب: يعتبر الصرع من أكثر الأمراض العصبية انتشارا حيث يصيب 1 بالمائة من الصغار والكبار، ومن أعراضه حدوث نوبات غياب عن الوعي قد تكون شديدة أو خفيفة، وفي حالة النوبة الكبرى يسقط المريض على الأرض في حالة تشنج يهتز لها كل جسده ويغيب عن الوعي نهائيا ولا يفيق الا بعد مرور وقت طويل، وتتكرر هذه النوبات في أي وقت وأي مكان.

قلت: نعرف هذا، فما تفسيره من وجهة نظركم؟

قال: لقد ظل مرض الصرع موضوعا للكثير من الخرافات والأوهام وتعرض المرضى لكثير من الممارسات غير الطبية ظنا من الناس أن الأرواح والشياطين وراء حدوثه حتى كشف الطب الحديث حقيقة هذا المرض.. فقد تبين من خلال الأبحاث الطبية أنه نتيجة لخلل في موجات المخ الكهربائية نتيجة شحنات زائدة من بؤرة نشطة تسبب إثارة الخلايا العصبية وتحدث النوبة نتيجة لذلك.

قلت: أهذا افتراض افترضه الأطباء ليهربوا من التفسير الغيبي، أم هو حقيقة علمية دلت عليها التجارب؟

قال: إن العلم الحديث يؤكد هذا المعنى الذي ذكرته، فقد ذكر أن كلمة صرع لا تعني شيئا

ابتسامة الأنين (230)

سوى القابلية للتعرض لنوبات تشنّج متكرّرة، وهو يتم على مستوى الدماغ الذي يتحكم بحركاتنا وأحاسيسنا وأفكارنا وعواطفنا، فهو مقر الذاكرة، وهو الذي يقوم بتنظيم الأعمال الداخلية اللاإرادية في الجسم كوظائف القلب والرئتين.. وتعمل خلايا الدماغ معا وتتصل ببعض من خلال إشارات كهربائية.. وفي بعض الأحيان يكون هناك تفريغ كهربائي غير عادي في مجموعة من الخلايا وتكون نتيجة ذلك حدوث النوبة، ويتوقف نوع النوبة على جزء الدماغ الذي حصل فيه التفريغ الكهربائي، الجزئي غير العادي.

قلت: لا أقصد هذا.. أقصد هل يمكن كشف هذا بالأجهزة كما تكشفون الأمراض بالأشعة وغيرها؟

قال: أجل.. ويمكن كشف ذلك ببساطة حاليا عن طريق جهاز رسم المخ EEG الذي يلتقط هذه الإشارات، ويحدد شدتها ومكانها.

قلت: لقد عرفتم الحقيقة.. ولكن العلاج بقي غائبا.

قال: إن الأبحاث جارية في هذا الموضوع.. والعلم الحديث يقترب يوما بعد يوم من علاج هذا النوع من الأمراض، وقد ورد في بعض الدراسات العلمية تحت عنوان: (دور الغذاء الكيتونى (1) فى علاج الصرع المستعصى) بأن دراسات عديدة سريريه أظهرت أن من 41 بالمائة - 95 بالمائة من الأطفال الذين عولجوا بهذا الغذاء تحسنت نسبة الصرع لديهم بنسبة أكثر من 50 بالمائة هذا فيما بين عامي 1920 و1930 م، ولكن بعد ظهور دواء الفينوتوين قل وغيره استعمال الغذاء واعتمد الأطباء على أدوية الصرع.

ثم عاد الاهتمام بهذا النوع من العلاج - أى (الغذاء الكيتونى) - في السنوات الأخيرة

__________

(1) هذا الغذاء محسوب بدقة ومصمم بطريقة معينة وموزونة وهو يتكون من: أربعة أجزاء من الدهون (زبدة، قشطة، زيوت نباتية)، جزء واحد بروتين وكربوهيرات (لحم أو فول +أرز أو بطاطس). سعرات حرارية محددة حسب حاجة المريض ووزنه ويقصد بها زيادة أو نقص الوزن حتى يصل المريض إلى الوزن النموذجى لعمره. فيتامينات وأملاح معدنية مضافة حتى يتجنب المريض فقدان هذه العناصر الهامة والإصابة بنقص الفيتامينان أو الملاح.

ابتسامة الأنين (231)

ففي عام 1998 م أجريت دراسة على مراكز متعددة لمئة وخمسين طفلاً يعانون من الصرع المستعصي وعولجوا بالغذاء الكيتونى وقلت لديهم التشنجات، وثبت أن الغذاء الكيتونى عندما يستعمل بطريقة صحيحة فإن له تأثير جيدا على نسبة تحسن التشنجات)

التفت إلي المعلم ضاحكا، وقال: لعل هذا النوع من الغذاء رشوة جيدة للجن تكف شره عن الصبيان.

قلت: هو على كل حال أفضل من الملح أو الضرب الذي يقدمه الرقاة لهم.

قال الطبيب: يجتهد العلم الحديث الآن في السيطرة على نوبات الصرع، فمعظم النوبات الصرعية تخف نتيجة استعمال الأدوية المقاومة للصرع، فحوالي (50) بالمائة من الذين يتناولون هذه الأدوية تنتهي النوبات لديهم وحوالي (30) بالمائة منهم تقلّ درجة تكرارها لديهم لدرجة يمكنهم معها العيش والعمل بشكل اعتيادي، أما الـ (20) بالمائة المتبقية فهي إما حالات مستعصية للعلاج، أو أنها بحاجة إلى جرعات أكبر للسيطرة على النوبات.

بالإضافة إلى أن هناك الحل الجراحي، ويتم اللجوء إليه عندما يفشل العلاج الدوائي، وفي نسبة قليلة جدا من الحالات التي يتحدد فيها الجزء الدماغي المصاب والمسبب للنوبات وتكون إزالته مأمونة، وبدون أن تترك خللاً أو ضرراً بوظائف المخ.

العلاج البديل

خرجنا من تلك القاعة، وقد تركنا المرضى مع الأطباء يفسرون لهم، ويحاولون إقناعهم، وهم يجهدون أنفسهم في ذلك جهدا عظيما، فالمسألة قد تغلغلت في قلوب وعقول المرضى، بل ربطت في أذهانهم بقضايا الإيمان والكفر، والسنة والبدعة (1)، فكان من الصعب اقتلاعها.

__________

(1) أول ما يفاجئك به من يتحدث عن هذه المسألة هو ربطها بالسنة وربط خلافها بالبدعة، فهذا أحدهم يقول في الموقع الذي خصصه لذلك: (فعلى من يُنكر دخول الجني بدن الإنسي أن يلجم فاه عن الإنكار والاستنكار ومخالفة أئمة أهل السنة والجماعة، وأن لا يشوش أفكار المسلمين بأفكاره الملوثة بأفكار أهل البدع والفلسفة، فإن قال: هذا رأي، فإن الرأي يحتمل الخطأ والصواب، فما تراه صوابا فإنه يحتمل الخطأ وما تراه خطأ فإنه يحتمل الصواب، ولعله يأتي اليوم الذي يتحول فيه رأيك إلى رأي غيرك... وإن العاقل إذا سمع أمرا عجبا جائزا لا دليل من الشرع ينفيه، استحسنه ولم يكذب قائله، والجاهل إذا سمع ما لم يشاهده قطع بتكذيب قائله، وتزييف ناقله.

جَهلتَ ولا تدري بأنك جاهلٌ ومن لي بأن تدري بأنك لا تدري

ثم يقول: (ولعل السبب في إنكار البعض لدخول الجان بدن الإنسان هو إتباع الهوى، والجهل وقلة العلم في أحوال الجن والشياطين، وتحجر العقول وإتباع منهج {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، وكذلك إبراز الشخصية وإتباع منهج خالف تعرف، وأيضا حسد طلبة العلم والأطباء الرقاة على ما آتاهم الله من فضله)

ابتسامة الأنين (232)

قلت: يا معلم.. قدرت هذا الجهد الذي يبذله هذا الحصن في وقاية الناس من هذه الشعوذة.. ولكنها على أي حال خففت على الناس كثيرا مما يعانونه.. أليس من الأجدى ألا نترك المرضى أسارى مرضهم؟

قال: بالصدق لا بالكذب.. وبالشرع لا بالدجل.. وبالحقائق لا بالأباطيل.

قلت: فهل يضع هذا المستشفى هذا الحق الذي يواجه به الباطل.. وهل يضع البديل الذي يقي الناس شرور هؤلاء الرقاة؟

قال: أجل.. فلا ينبغي لمن نهاك عن شيء أن يتركك تعاني الحيرة.. بل إنه يعطيك من الحلول والبدائل ما يريحك، ويملأ الفراغ الذي تركه نهيه.

قلت: فأين هذا البديل؟

قال: هيا إلى القاعة المخصصة لذلك، فهي آخر قاعات هذا الحصن.

قلت: ولم لم يبدأ المرضى بها؟

قال: لا.. ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفرغ أصحابه من تصورات الجاهلية، ثم يملؤهم بحقائق الإسلام؟

قلت: أجل.

قال: أتدري لماذا؟

ابتسامة الأنين (233)

قلت: حتى لا يختلط الإسلام بالجاهلية.

قال: فلهذا لا يصفون العلاج البديل إلا بعد أن يملأوا قلوب المرضى وعقولهم بالقناعات الصحيحة.

اقتربنا من قاعة مهيبة كانت تمتلئ بأنوار الإيمان، سألت المعلم عنها، فقال: هذه القاعة هي التي يعطى فيه المصل الذي يحمي من وساوس الشياطين، ومن آثار الدجل الذي يزرعه الرقاة.

رأيت شخصا مهيبا.. يبدو كأولئك الأولياء الصالحين الذين غمروا الكون بعطرهم.

قلت: من هذا؟

قال: هذا نموذج الراقي البديل، وقد دربه هذا المستشفى ليميت هذه البدعة.

قلت: راق بديل.

قال: نعم.. من باب المشاكلة سميناه كذلك.

قلت: فما دوره؟

قال: يبدأ دوره بنفسه.. يربيها ويطهرها ويعمق فيها حقائق الإيمان.. ولا يكتفى بذلك، بل يضيف إليه من العلم ما يجعله فطنا يعرف كيف يواجه الأمور وكيف يتحدى الصعاب.. فإذا آنست منه إدارة المستشفى القدرة على ممارسة هذه الوظيفة أعطته الإجازة بذلك.

قلت: وما هو دوره؟

قال: بسيط جدا، وعميق جدا.. أما الأمراض الجسدية، فيرشد أهلها إلى الأطباء، أما الوساوس الشيطانية، فيضع لها من برامج التربية ما يقهر كل وسواس.

قلت: إذن هو لا يعالج في جلسة واحدة؟

قال: لا.. هو يقنع مرضاه بالبرنامج المعطى لهم.. ولا يكتفي بذلك، بل يتابعهم إلى أن يرى مدى جدوى استفادتهم.

قلت: إذن هو يحصل على أجور لا بأس بها.

ابتسامة الأنين (234)

قال: تشترط إدارة مستشفى السلام فيمن يتولى هذا الزهد والعفاف.

قلت: لم؟.. هو ينفع الناس ويقدم لهم خدمات.

قال: لأن المال يجر المغرضين.. أما الزهد والعفاف، فلا يبقي غير المخلصين.

قلت: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله) (1)

قال: ذلك في موضع مخصوص، لا يصح القياس عليه.

قلت: فبم يبدأ البرنامج التربوي الذي يمارسه هذا الراقي؟

قال: بربطهم بالله.. واسمع إلى هذا الراقي، وهو يخاطب مرضاه.

اجتمع المرضى حول ذلك الراقي، فراح يخاطبهم بقوله:.. أول ما يطهرنا به القرآن الكريم من الانحرافات العقدية المرتبطة بالعوالم الغيبية حصر تدبير الكون في الله تعالى إجمالا وتفصيلا، فالله تعالى هو المتصرف الواحد في الكون لا ينازع في تصريفه، فهو الذي يرسل الرياح وينزل المطر ويحيي ويميت ويخفض ويرفع ويبسط ويقبض ويعطي ويمنع وكل ما حدث في الكون أو يحدث فبإذنه وتقديره وتصريفه وفعله، فالله في القرآن الكريم ليس منعزلا كإله أرسطو المنشغل بكماله عن غيره، وليس كآلهة اليونان المنعزلة في جبال الألب، بل هو متصرف حاضر {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (المجادلة:7)

قلت: يشير إلى كل هذه المعاني اسمه تعالى [القيوم]،فهو القائم بنفسه المقيم لغيره، فلا قيام لشيء إلا بإقامته تعالى.

قال: ولأجل هذا كانت آية الكرسي من الآيات التي ورد في الأحاديث اعتبارها من الاستعاذات النافعة لما تحتوي عليه من التنبيه لقيومية الله تعالى لكل شيء فهو {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا

__________

(1) البخاري.

ابتسامة الأنين (235)

بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255)

قال الراقي، وكأنه كان يسمعنا: فالتالي لهذه الآية المستغرق في معانيها يرى كل شيء من العرش إلى الفرش لا يملك شيئا ولا يقد ر على شيء ويحتاج إلى الله في كل شيء، وهو ما يشعر الضعيف بالقوة والذليل بالعزة والمريض بالشفاء، لأن الله تعالى لا يغفل عن حاله، فهو لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو تعالى الذي حفظ السماوات والأرض ولم يؤده حفظهما لن يعجزه من شيء في الأرض ولا في السماء، ثم تنفي عن الاتصال بالله كل الوسائط والشفعاء الذين كانوا في جميع الديانات الحجب بين الله وعباده، ولذلك لن يحتاج المستغرق في هذه الآية إلى السعي للبحث عن أي وسيط لأن الله تعالى أقرب إليه من الوسيط.

قلت: ما شاء الله.. أظن هذا وحده يكفي علاجا لكل داء.

صاح أحد المرضى: والجن.. والعفاريت.. والشياطين.. أليس لهم تأثير؟

قال الراقي: الجن والشياطين أضعف شأنا من أن يتسلطوا على حياة الناس ويوجهوها حيث شاءوا، فليس لهم أي سلطان على الإنسان، وليس لهم إلا بعض الطاقات المحدودة بحدود طبيعتهم وجبلتهم، فلكل شيء في الكون طبيعته وطاقاته الخاصة به.

ولهذا ورد في أكثر آيات القرآن الكريم الإخبار عن عجز الجن وعدم تسلطهم على بني آدم إلا لمن تعرض لهم، كما أن الطاقة الكهربائية لا سلطان لها إلا على من مد يده إليها.

ويبرز ذلك واضحا فيما يسمى بخطبة الشيطان التي يلقيها على أهل النار يوم القيامة لينفي عن نفسه اللوم ويبين علاقته بالبشر والسلطات الوحيدة التي مكن منها، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (ابراهيم:22)

ابتسامة الأنين (236)

فالشيطان يتجلى في هذه الآية بمظهره الحقيقي مظهر الضعيف العاجز الذي نفخ فيه البشر وألبسوه من ثياب العظمة والكبرياء ووهبوه من أسباب التسلط ما يزاحم به الألوهية.

صحت: ما سبب هذه النظرة التي جعلت للشيطان كل تلك السلطات؟

قال: التصور الوثني..

قلت: التصور الوثني!؟

قال: أجل.. فهو الذي يجعل من الشيطان إلها قائما بذاته يتحدى الله سبحانه وتعالى مع أنه ليس إلا جنديا بسيطا ومتواضعا من جنود الله خلقه الله ليقوم بعكس الدور الذي تقوم به الملائكة، فهو لا يتحدى الألوهية وإنما يطبق إرادتها وينفذ مشيئتها ليتم الاختبار.

قلت: ما هذا القول الخطير؟

قال: كونه جنديا لله لا يحمل أي صفة مدح، لأن كل شيء جندي لله يفعل ما يراد منه وقد يذم على فعله أو يحمد وقد يعاقب أو يجازى {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (الفتح:7) {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (المدثر:31)

قلت: فتعظيم الشيطان نوع من الشرك إذن؟

قال: أجل.. ولهذا اعتبر القرآن الكريم من أعطوا الجن من السلطات ما ليس لهم أو وضعوهم كمدبرين ومؤثرين بذواتهم في الكون مشركين بذلك التعظيم، قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنعام:100)

وقد أخبرت الملائكة ـ عليهم السلام ـ أن أكثر البشر كانوا يعبدون الجن ويشركونهم بالله، ومن أساليب العبودية التعظيم والخوف والذي لا يقتصر على المشركين من عرب الجاهلية فقط، قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (سبأ:41)

ابتسامة الأنين (237)

صاح مريض آخر: يا حكيم.. فهمنا ما قلت.. ولكن لم سلط الله علينا الشياطين يسوموننا الخسف.. ويضطرونا إلى هؤلاء المشعوذين؟

قال الراقي: إن تأثير الجن على الإنسان بحسب قابليته واستعداده، وتلك القابلية تتجلى في الشعور بالضعف والقصور أمامه، ولهذا كان الرهق وهو كل معاناة وأذى بسبب الخوف من الجن أو الالتجاء إليه أو الشعور بقوة تأثيره، قال تعالى على لسان الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (الجن:6)

ولهذا جاءت الآيات الكثيرة تخبر عن عدم تسلط الجن أو الشياطين على المؤمنين الذين يتوكلون على ربهم ويلوذون بحفظه، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الحجر:42)، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:99)، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (سبأ:21)

وقد حكي عن بعض الصالحين أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: هذا يطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنع من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي. قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك.

قلت: ألهذا ورد النهي عن تعظيم الشيطان والجن بنسبة المصائب والنكبات إليها؟

قال الراقي: أجل.. لأن ذلك مما يعظمها في نفس الإنسان، وكلما عظم الإنسان شيئا كلما أزال من نفسه من الشعور بعظمة الله بحسبه فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل مظهر ينم عن هذا التعظيم ولو كان في صيغة سب، قال بعض الصحابة: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعثرت دابة فقلت: تعس الشيطان، فقال: لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت ويقول:

ابتسامة الأنين (238)

بقوتي ولكن، قل: بسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب) (1)

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاه أن يعظم الشيطان ولو بنسبة تعثر الدابة إليه، فكيف بمن يجعله متصرفا كليا وحيدا في حياة الناس؟

-------

تركنا ذلك الحصن بعد طول مكثنا فيه، وقد رأيت على المرضى في قاعة العلاج البديل ارتياحا عظيما، وأنوارا تسري في وجوههم تحطم تلك الكآبة والسوداوية التي ملأهم بها الرقاة.

سألت أحد المرضى: ما حالك؟.. كيف تجد نفسك؟

قال: بحمد الله.. لقد كانت الوساوس تطاردني.. كانت العفاريت التي ملأ الرقاة عقلي بها تزاحمني وجودي.. تحطم حياتي.. أما اليوم فقد عرفت الله.

قلت: فماذا أفادتك معرفته؟

قال: نسخت كل تلك الظلمات.. وحطمت كل تلك الأساطير.. وأنا الآن أعيش في سعادة عميقة.

قلت: ما هو وردك؟

قال: ما حض عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أذكار، فأنا أسبح الله وأحمده وأكبره..

قلت: فما كان وردك؟

قال: الاستعاذة من الجن والعفاريت والمردة.. حتى أني كنت إذا قرأت القرآن الكريم لا أقرؤه لوجه الله، وإنما أقرؤه لأطرد العفاريت.

ثم تركني، وانصرف، وهو يسبح الله.. أما الشيطان.. فقد سلك فجا غير فجه، وقد عض أصابعه من الندم.. أما الرقاة.. فقد ضاع زبون من زبائنهم، ويوشك أن يضيع جميع زبائنهم.. وما ذلك على الله بعزيز.

__________

(1) أبو داود وغيره.

ابتسامة الأنين (239)

الاستعاذة من السحر

قصدنا القاعة الثانية من قاعات حصن الاستعاذة، فرأيت لافتة مكتوبا عليها قوله تعالى: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} (يونس:81)

قلت: لا شك أن هذه القاعة قاعة علاج السحر.

قال: السحر.. وأوهام السحر..

قلت: وما علاقة أوهام السحر بهذا؟

قال: أوهام السحر أخطر من السحر.. بل هي نوع من أنواع السحر.

قلت: كيف؟

قال: لأن السحرة محدودون.. وأفعالهم محدودة.. وتأثيراتها أضيق من ذلك كله.. ولكن مع ذلك لا ترى أحدا إلا وهو يشكو أنه سحر في يوم من الأيام.. أو سحرت سيارته أو محله أو شواربه التي اشتعل فيها الشيب.

قلت: صدقت.. وأنا أعرف من لا يأكل أي طعام خارج بيته خشية أن يكون قد ملئ سحرا.

قال: وبسببه فرق الشيطان بين المرء وزوجه، وبين الأخ وأخيه.

قلت: هذا واقع نشكو منه.

قال: فمن ساهم فيه؟

قلت: لا شك في ضلوع الرقاة في هذه الجريمة.. فإنه ما يأتيهم أحد إلا ويصفون له أحد أقانيم هذا الثالوث: الجن والعين والسحر.

رأيت بابين داخل القاعة المخصصة للتحصين من السحر، ورأيت المرضى يدخلون منهما، فسألت المعلم عنهما، فقال: أما الباب الأول، فيؤدي إلى القاعة المخصصة لتشخيص السحر، وأما الباب الثاني، فيؤدي إلى القاعة التي يتم فيها العلاج.

ابتسامة الأنين (240)

قلت: فلم لا يذهبون مباشرة للقاعة الثانية للمعالجة؟

قال: إن أكثر من تراهم يتهمون السحر والسحرة مصابون بأوهام السحر.. لا بالسحر.. أو بأعراض لأمراض جسدية أو نفسية، ولكن الدجالين أوهموهم بأنهم مسحورون، فلذلك كان تخليصهم من الأوهام مقدما على علاجهم.

قلت: أمستشفى السلام يعالج المرضى في هاتين القاعتين فقط؟

قال: لا.. جميع الوزارات التي لها علاقة بالإنسان تخدم المرضى أو تقيهم من جهتها.

قلت: وما انشغال الوزارات بهذا؟

قال: إن لم تنشغل الوزارات بالإنسان، فبمن تنشغل؟

تشخيص السحر

دخلنا القاعة الأولى، فوجدنا رجلا على منصة، والدموع تنهمر من عينيه، وهو يتكلم بصوت ضعيف تظهر عليه علامات الحزن، والمرضى مقبلون عليه يسألونه، سألت المعلم عنه، فقال: هذا عيسى بن شقفى (1).

قلت: ومن عيسى بن شقفى؟

قال: كان ساحرا.. ثم تاب الله عليه.. وقد دعته إدارة هذا المستشفى ليبين للمرضى قدرات الساحر.

قلت: ولم ذلك؟ ألأجل اتقائها؟

قال: لا.. ليس ذلك فقط.. بل الغرض الأصلي هو أن يفسر لهم قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة:102)

قلت: لم؟

__________

(1) كان عيسى بن شقفى ساحرا يأتيه الناس ويأخذ على ذلك أجرا، فجاء إلى الامام جعفر الصادق، وتاب على يديه.

ابتسامة الأنين (241)

قال: لأن الخوف من السحر، وتعظيم السحر، والاعتقاد بقدرات الساحر العجيبة جعلت الخلق يخافون من الساحر أكثر من خوفهم من الله.

قلت: وهذا غرض مقصود للساحر؟

قال: كما أنه غرض مقصود للشيطان.. فكما أن الشيطان يحب أن يراه الخلق مدبرا مصرفا للأمور.. فكذلك السحرة الذين اتبعوا الشيطان ومنهج الشيطان، ألم تسمع قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة:102

قلت: فالسحر من تعليم الشياطين؟

قال: هذا ما نص عليه القرآن الكريم.

قلت: فما هي الأشياء التي يطيقها الساحر.. فإني أسمع أن له قدرات هائلة.

قال: هي ـ بحسب ما ينص عليه القرآن الكريم ـ قدرتان.

قلت: ما هما؟

قال: التخييل، والتأثير.. وكلا القدرتين محدودتان، لا يستطيع الساحر مهما أوتي من علم أن يتجاوزحدودهما.

قلت: فما الحدود التي تحدهما.

قال: سنعرف ذلك من عيسى.

قلت: أي عيسى!؟

قال: ذاك التائب الذي يجتمع عليه الناس.

السحر التخييلي

اقتربنا منه، فسمعنا سائلا يسأله، قائلا: عرفنا أن الشياطين يعتمدون على استعداد الإنسان للوسوسة، فلذلك يأتونه من هذا الجانب، فعلام يعتمد السحرة؟

ابتسامة الأنين (242)

قال عيسى: على التخييل.. على مخيلة الإنسان (1).. فإن كان الشيطان يضع خرطومه على صدر الإنسان، فإن هؤلاء السحرة يضعون خراطيمهم على مخيلته.

قال السائل: لم؟

قال عيسى: ليرى الأشياء على غير ما هي عليه.. ألم ير الناس حبال السحرة وعصيهم حيات تسعى؟

قال السائل: بلى، فقد قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه:66)

قال عيسى: فهكذا الساحر يلجأ إلى المخيلة ليتلاعب بها..

قاطعه سائل، وهو يقول:.. نعم.. لقد سمعت بعض العلماء يروي عن بعض العامة أن ساحراً أتى إلى صاحب غنم ومعه شاه يقودها بأذنها، وطلب من صاحب الغنم أن يعطيه بدلها كبشاً ليذبحه لرفقته، ففعل ذلك صاحب الغنم، فبعد أن ذهب بالكبش تبين أن تلك الشاة التي جاء يقودها كانت حشرة من دواب الأرض قد لبس بها على عين الراعي الذي ذهب في أثره حتى أدركه مع رفقته وقد ذبحوا الكبش، فسألهم عن صاحب الكبش الذي لبس عليه، فدلوه على الساحر فجعل يوبخه، ثم مد يده إليه ليبطش به، وقبض على رأسه فانقلع رأسه في يده وتعلق بحنجرته، فذهل الراعي وهرب معتقداً أنهم من الشياطين (2).

قال عيسى: لا.. هذه حكاية ظاهرة التزوير.. وما كان للعلماء أن يقبلوا مثل هذا من العامة، ولو كان هذا في طاقة السحرة لاستولوا على أملاك الدنيا جميعا، ولكانوا أغنى الناس.

__________

(1) يقول ابن خلدون: (سحر التخيل هو أن يعمد الساحر إلى القوى المتخيلة فيتصرف فيها بنوع من التصرف، ويلقي فيها أنواعا من الخيالات والمحاكاة وصوراً مما يقصده من ذلك، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه، فينظر الراؤن كأنها في الخارج وليس هناك شيء من ذلك) مقدمة ابن خلدون: 498.

(2) الحكاية حكاها الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، انظر: الصواعق المرسلة في التصدي للمشعوذين والسحرة، ص 113، 114.

ابتسامة الأنين (243)

قال السائل: ولكن العامة يؤكدون مثل هذا.

قال عيسى: لا تؤخذ الحقائق من العامة، بل تؤخذ من أصحابها، وأنا أدرى بقدرات السحرة، إنهم أضعف بكثير.. أضعف مما تتصورون.

قال سائل آخر: لقد علمونا أن لسحر التخييل أنواعا.. فنرجوا أن تبين لنا مدى وقعيتها؟

قال: سل.. فستجد عندي ـ إن شاء الله ـ ما يشفي غليلك.

قال السائل: من الأمثلة التي ذكروها لما يسمى (سحر التخييلات) قلب الحقائق المتعلقة بالأفراد في نظر المسحور، فيرى الشخص على غير شاكلته كأن يرى الصغير كبيرا والكبير صغيرا، والطويل قصيرا والقصير طويلا، وهكذا في كثير من الصفات البشرية الأخرى.

قال: يمكن للساحر أن يفعل هذا.. ولكنه لفترة محدودة، وببعض التلاعبات.. هو تماما مثلما يتلاعب السحرة في نواديكم.. فإن طاقاتهم محدودة بزمن محدد لا تتجاوزه.

قال السائل: ومن الأمثلة التي ذكروها لهذا النوع قلب الحقائق المتعلقة بالحيوانات في نظر المسحور فيرى الحيوان على غير شاكلته، كأن يرى القط فأرا، أو أن يرى القط الهزيل بشكل ضخم مرعب، وقس على ذلك الكثير من الصفات الحيوانية الأخرى.

قال: هذا ممكن بحدود ضيقة جدا.. ولكنها لا تصل أبدا لما حكى عنه ذلك العامي.. وإلا لأقلع تجار الماشية عن إرهاق أنفسهم بعلف الحيوانات، واكتفوا بسحر أعين المشترين.

قال السائل: إنهم يتورعون عن ذلك..

قال: لا.. لو تورعوا عن هذا لتورعوا عن غيره.

قال السائل: من الأمثلة التي ذكروها: سحر التخييل للانتقال من صفة بشرية أو حيوانية أو عينية لصفة مضادة أخرى، فيرى المسحور من خلال هذا النوع من أنواع السحر الإنسان حيوانا، كأن يرى الزوج بشكل حمار أو قرد أو أن يرى كأحد أعمدة المنزل، وقس على ذلك الكثير للانتقال من صفة إلى صفة مضادة أخرى.

ابتسامة الأنين (244)

قال: من أين عرفتم أن هذا من السحر؟

قال السائل: من يصابون بمثل هذا يذهبون إلى الرقاة فيقرؤون عليهم رقية التشخيص، فيعرفون أنه سحر.

قال: وما رقية التشخيص؟

قال السائل: هي أوراد معينة يتم من خلالها كشف نوع العلة التي يعاني منها المسترقي.

قال: في أي مصادر الحديث وردت هذه الأوراد؟

قال السائل: لا.. لم ترد هذه الأوراد في السنة.

قال: ما لم يرد في السنة فهو بدعة؟

قال السائل: أما الخلف المتقدمون، فلم يبتدعها أحد منهم، بل ابتدعها الخلف المتأخرون؟

قال: أهي وحي أوحي إليهم، أم علم لدني نالوه؟

قال السائل: لا هذا.. ولا ذاك.. ولكنهم مع ذلك مجمعون عليه.

قال: أي إجماع هذا.. هذا إجماع لا يختلف عن إجماع اليهود والنصارى..

قال: فكيف يعرفون أن المسترقي مسحور بهذا النوع من السحر؟

قال السائل: يذكرون لذلك علامات.. منها قلب الحقائق دائما في نظر المسحور، مما يؤدي في بعض الأحيان لاعتقاد الآخرين بإصابة الشخص بالجنون.

ومنها الشرود والنظرات غير الطبيعية، ومنها ما يلاحظ في نظرات المسحور من الدهشة والاستغراب، وذلك نتيجة لما يراه المسحور من قلب للحقائق والأمور.

ومنها محاولة الصدود عن الآخرين والعزلة عن الناس خوفا من قذفه بالجنون ونحو ذلك من أمور أخرى.

قال: فأكثر الناس قد يصاب بهذا لأي سبب من الأسباب!؟.. ومن لم يتعلم الشرود لم يتعلم التركيز..

ابتسامة الأنين (245)

ثم انصرف.. وهو يقول: حسبتنا ـ معشر السحرة ـ شر الناس، ولم أدر أن في الخلق من يجرؤ على كل هذه الدعاوى.

قلت للمعلم: ما بال عيسى ينصرف غاضبا؟

قال: هذا حال عيسى منذ تاب الله عليه، فهو لا يحب الكذب ولا الدجل.

قلت: لم؟

قال: لأن السحر يعتمد على الكذب والدجل.. ألا يصور الساحر الحقائق على خلاف ما هي عليه؟

قلت: بلى..

قال: فكل من فعل هذا تشبه بالساحر.

قلت: فالسحرة كثيرون إذن؟

قال: بهذا الاعتبار أكثر مما تتصور.. فالنمام الذي يفسد العلاقات شر من الساحر..

قلت: كيف هذا؟

قال: لأن الساحر ترد كيده بالمعوذتين، أما شر هذا فإنك لا ترده، ولو قرأت القرآن الكريم جميعا إلا أن تغلق أذنيك عن سماع نميمته.

قلت: يا معلم.. ما سر قدرة الساحر على التلاعب بالخيال (1

قال: لن تعرف هذا حتى تعرف حقيقة بناء الإنسان.

قلت: والآن..

__________

(1) قال الدكتور محمد محمود عبدالله: (سحر التخييل: هو أن ترى الثابت متحركاً، والمتحرك ثابتاً، والكبير صغيراً، والعكس، والمريض صحيحاً، وعكسه، والقبيح حسناً... وخلاصته: أن الأشياء ترى على غير حقيقتها على سبيل المثال: ما رآه الناس من سحرة الزمان: الحجر طفلاً؛ والعصا ثعباناً 0 فكل زمان له سحرة، لكنهم يختلفون في منهجية السحر التنفيذية: يقوم الساحر بإحضار شيء يعرفه الناس، ثم يتلو عزيمته وطلاسمه الشيطانية؛ فيرى الناس الشيء على غير حقيقته) انظر: إعجاز القرآن في علاج السحر والحسد ومسّ الشيطان: 85.

ابتسامة الأنين (246)

قال: لو أن أحدهم وضع نظاره محدبة أو مقعرة على عينيك.. كيف ترى الأشياء؟

قلت: أراها كما توحيها لي النظارة.. بل أستطيع أن أرى العالم كله يشع احمرارا أو يونع اخضرارا.

قال: فالسحر بما تعلمه من الشياطين يضع مثل هذه النظارة على العيون ليقلب بها الحقائق، وتظهر الأشياء على غير ما هي عليه.

قلت: ولكني لا أرى على عيون المسحورين نظارة.

قال: الساحر يتعامل مع البصيرة لا البصر (1).. والبصيرة هي التي توحي للبصر بما يراه.

قلت: صحيح هذا.. فإني قد أكون جائعا، فأرى كل ما حولي خبزا يدعوني لأكله.. وأكون عطشانا فأجري خلف السراب لأبل به ريقي.

قال: ولهذا اعتبر البيان سحرا، فالساحر لا يقدر على ما يقدر عليه من آتاه الله لسانا.

قلت: فكل دعاة جهنم بهذا سحرة.

قال: أجل.. وليت الرقاة من قومك ينبتبهون لصد أباطيلهم، فهي أشد فتكا في الخلق من السحرة المشعوذين.

قلت: ولكنهم لن يبطلوا سحرهم إلا بتعلم السحر.

قال: فليتعلموه.. فذلك خير لهم من السحر الذي يمارسونه.

قلت: أهم يمارسون سحرا؟

قال: هم بتخليطهم على من يأتيهم وكذبهم عليه وتفريقهم بين المرء وزوجه بسببه أعظم خطرا من السحرة.

__________

(1) وقد يتعامل مع البصر، فمن ألوان السحر ما كان يمارس عن طريق الاستفادة من خواص المواد الكيميائية والفيزيائية لخداع الناس، وقد ذكر أن سحرة فرعون وضعوا داخل حبالهم وعصيهم مادة كيميائية خاصة لعلها الزئبق، كانت تتحرك بتأثير حرارة الشمس أو أية حرارة أخرى، توحي للمشاهد أنها حية.

ابتسامة الأنين (247)

السحر التأثيري

قلت للمعلم: هذا هو سحر التخييل، فما سحر التأثير؟

قال: سحر التأثير هو أثر لسحر التخييل.

قلت: ما تقصد؟

قال: تأثير السحر لا يعدو التخييل.

قلت: أتقصد أن الساحر لا يستطيع أن يؤثر في الأشياء؟

قال: كما أن الشيطان لا يستطيع، فالساحر أكثر عجزا منه.

قلت: إن من قومي.. ومن الرقاة خصوصا من يذكرون للساحر قدرات عجيبة.

قال: فما يقولون؟

قلت: اصبر علي معلم.. فإنهم يقولون أشياء كثيرة.

قال: اذكرها.. فلا يمكن أن نسكت عن ذكر عيوب الباطل.

قلت: من السحر ما يسمونه: (سحر المرض)، وقد ذكروا بأن الغرض منه إصابة الشخص بالآلام والأسقام، فتراه طريح الفراش عليل البدن، وقد تكون العلة في موضع واحد، وقد تنتقل من موضع إلى موضع، وكل ذلك بناء على ما يمليه ويفعله الساحر.

قال: أللساحر كل هذه القدرة؟

قلت: لقد قال بعض المشايخ في هذا: (وأما سحر المرض، فقد قيل إن أغلب الأمراض المستعصية هي بسبب الجن الذين يسخرهم الساحر فيلابسون الإنسان، ويحدث ذلك تعطيل بعض الأعضاء عن منافعها فينهك البدن، ويعظم الضرر، ولا يوجد في الطب له علاج سوى الأدوية المهدئة، والأولى استعمال الرقى النافعة المؤثرة، فلها تأثير كبير في تخفيف ذلك المرض

ابتسامة الأنين (248)

كالسرطان والجلطة والشلل ونحوها) (1)

قال: وما ذكروا من أعراض هذا النوع من السحر؟

قلت: أعراض كثيرة جدا، فمنها مثلا ما يسمى: (سحر التشنجات العصبية)، ويقسمونه إلى قسمين:

قسم التشنجات العصبية قصيرة الأمد: وفيه يتعرض المسحور لتشنجات عصبية من فترة لأخرى دون أن تحدد بزمان أو مكان، وتستمر تلك التشنجات لفترات قصيرة الأمد نسبيا، وقد ترتبط تلك التشنجات أحيانا مع المؤثرات الاجتماعية للمريض، وتعتمد تلك التشنجات في قوتها على قوة السحر والساحر.

وقسم التشنجات العصبية طويلة الأمد: وفيه يتعرض المسحور لتشنجات عصبية من فترة لأخرى دون أن تحدد بزمان أو مكان، وتستمر تلك التشنجات لفترات طويلة نسبيا، وقد ترتبط تلك التشنجات أحيانا مع المؤثرات الخارجية للمريض، وتعتمد تلك التشنجات في قوتها على قوة السحر والساحر.

قال: فأعصاب الخلق بيد الساحر إذن؟

قلت: ليس أعصابهم فقط، بل أعضاؤهم أيضا.. فقد ذكروا ما يسمى بسحر الأمراض العضوية، ويقسمونه أقساما كذلك.

منها سحر الأمراض العضوية بتأثير كلي: وفيه يتعرض المسحور لأمراض وآلام تصيب جميع أنحاء الجسد، ويشعر المسحور من خلال هذا النوع بالتعب والإرهاق والخمول وعدم القدرة على القيام بأية أعمال.

ومنها سحر الأمراض العضوية بتأثير جزئي: وفيه يتعرض المسحور لمرض يتركز في جهة

__________

(1) الصواعق المرسلة في التصدي للمشعوذين والسحرة – 158، 159، والكلام للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.

ابتسامة الأنين (249)

محددة من الجسم، وله أعراض معينة، وعند قيام المريض بالفحص الطبي يتبين سلامة كافة الفحوصات الطبية، وسلامة الجسم من أية أمراض عضوية.

ومنها سحر الأمراض العضوية المتنقلة: وفيه يتعرض المسحور لأمراض وآلام متنقلة في جميع أنحاء الجسم، فتارة يشعر بألم في الرأس وتارة أخرى يشعر بألم في المفاصل وهكذا، وكل ذلك يحصل دون تحديد أية أمراض عضوية محددة.

قال: فالساحر هو الذي لديه خزائن الآلام إذن؟

قلت: لا.. بل لديه خزائن الحواس والمدارك أيضا، فقد ذكروا ما يسمى بسحر تعطل الحواس، ويقسمونه كذلك أقساما:

منها سحر تعطل حواس دائم: يتعرض المسحور من خلال هذا النوع لتعطل الحواس الخاصة بالسمع والإبصار والشم تعطلا دائما، فلا تعود تلك الحواس للمسحور إلا بعد إبطال السحر وشفاء المريض بإذن الله تعالى.

ومنها سحر تعطل حواس مؤقت: يتعرض المسحور من خلال هذا النوع لتعطل الحواس الخاصة بالسمع والإبصار والشم تعطلا مؤقتا، ويتقلب الحال من وقت إلى وقت ومن زمن إلى زمن.

ومنها سحر الشلل: ويقسمونه أقساما:

منها سحر شلل كلي: يتعرض المسحور من خلال هذا النوع لشلل كلي في جميع أنحاء الجسم، فلا يستطيع الحراك مطلقا، ولا تعود له عافيته إلا بعد إبطال السحر بإذن الله تعالى.

ومنها سحر شلل جزئي: ويتعرض المسحور من خلال هذا النوع لشلل جزئي يختص بمنطقة معينة كاليد أو القدم أو الرأس ونحوه، ويبقى العضو معطلا فترة من الزمن ثم يعود إلى سابق عهده، وتنتهي المعاناة بإذن الله تعالى عند انتهاء وإبطال السحر.

ومنها سحر شلل متنقل: يتعرض المسحور من خلال هذا النوع لشلل جزئي متنقل، فتارة

ابتسامة الأنين (250)

يصيب الشلل منطقة اليد، وتارة أخرى منطقة القدم وهكذا، وكل ذلك دون تحديد أسباب طبية معينة، ولا ينقطع هذا الأمر إلا بعد إبطال السحر بإذن الله تعالى.

قال: فأراهم لم يتركوا علة إلا نسبوها للسحر؟

قلت: ليس ذلك فقط.. بل حتى الذرية، فإنها تحت تصرف السحرة.

قال: ولكن الله تعالى اعتبر ذلك من الهبة التي لا يجوز التأثير فيها لغير الله.

قلت: وهم يشركون السحرة في ذلك، فلا يولد الولد إلا إذا كف الساحر شره عن والديه، فقد ذكروا ما يسمى بسحر: (العقم وعدم الإنجاب) وذكروا أن هذا النوع من السحر يؤدي لإحداث عقم وعدم إنجاب لدى كل من الزوج والزوجة دون اتضاح أية أسباب طبية لمثل ذلك، وقد ذكروا في هذا الباب قدرات عظيمة للسحرة.

ومنها قتل البويضة: وهذا النوع يؤدي لقتل البويضة عند المرأة وبالتالي لا تتم عملية التلقيح، أو حصول أي حمل يذكر.

ومنها عدم قابلية تلقيح البويضة من قبل الحيوان المنوي: وهذا النوع يؤدي لمنع وصول الحيوان المنوي إلى البويضة لتلقيحها، وفي بعض الأحيان قد تصل بعض الحيوانات المنوية، ولكنها لا تستطيع اختراق الغلاف الخارجي الخاص بالبويضة مع قوتها ونشاطها.

ومنها إجهاض الحامل بعد شهرها الثالث: وهذا النوع يؤدي لقتل الجنين بعد عدة شهور من تكونه بعد نفخ الروح فيه، مما يتسبب في إجهاض المرأة، ويتبع السحرة أساليب شيطانية خبيثة للوصول إلى هذا الهدف ومنها تسليط الشياطين على الحامل وضربها في نومها وإسقاط الحمل أو إرعابها ومن ثم إسقاط الحمل ونحو ذلك من طرق خبيثة.

قال: فقد جعلوا السحرة آلهة مع الله يتصرفون في خلق الله.

قلت: هم يستدلون لهذا بحديث صحيح.

قال: لا أعلم أن هناك حديثا صحيحا ينص على مثل هذه الخرافات.

ابتسامة الأنين (251)

قلت: هم يستدلون بما روي عن أسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة. قالت: فخرجت، وأنا متم - أي مقاربة للولادة -، فأتيت المدينة، فنزلت بقباء، فولدته بقباء، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوضعه في حجره، فدعا بتمرة، فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام – للمهاجرين بالمدينة -، قالت: ففرحوا به فرحا شديدا، وذلك أنهم قيل لهم: (إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم) (1)

قال: فما وجه الاستدلال بالحديث؟

قلت: ما ورد فيه من إخبار اليهود بأنهم قد سحروهم.

قال: فقد أصبحت أخبار اليهود إذن من مصادر الشريعة.. لماذا لم يستدلوا عن عجز السحر عن هذا بولادة عبد الله.. ألم يقرؤوا ما ورد في وفاة سليمان عليه السلام، فقد قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (سبأ:14)

قلت: بلى.. فقد بين الله تعالى للجن بما حدث لسليمان عليه السلام عجزهم عن إدراك علم الغيب.

قال: وكذلك بين لليهود بولادة عبد الله عجزهم عن التحكم في مخلوقات الله.

قلت: وهم لا يكتفون بهذا.. بل يجعلون للسحرة القدرة على بث الخمول والكسل في المجتمع بالسحر الخاص بهذه الناحية.

قال: وإلى ما يقسمونه؟

قلت: إلى قسمين:

قسم يسمونه سحر خمول دائم: يتعرض المسحور من خلال هذا النوع لخمول دائم ينتاب

__________

(1) البخاري ومسلم.

ابتسامة الأنين (252)

جميع أنحاء الجسم، فيشعر المريض دائما بالفتور والخمول وعدم القدرة على العمل أو ممارسة أي نشاط يذكر.

ومنها سحر خمول مؤقت: ويتعرض المسحور من خلال هذا النوع لخمول مؤقت ينتابه بعض الفترات ويتراوح ذلك بحسب قوة السحر وتأثيره، فيشعر المريض أحيانا بالفتور والخمول وعدم القدرة على العمل أو ممارسة أي نشاط يذكر، وتارة أخرى يكون نشيطا قويا يعيش كأي إنسان طبيعي آخر.

قال: فقد عرف الرقاة إذن علل تخلف الأمة.. فلماذا يجهد مفكروكم عقولهم في البحث عنها.

قلت: لا.. هم لم يتكلموا عن هذه المسألة، ولم يبحثوا فيها..

قال: لا.. بل بحثوا فيها.. فسحرة قومك استأجرهم بعض اليهود.. أو بعض جن اليهود ليسحروا الأمة جميعا بالخمول.. فلذلك كل ما تراه من خمول هو بسبب هذا السحر.. ولن تستطيعو النهوض إلا بعد البحث عن المكان الذي وضعوا فيه سحرهم لتعود الأمة إلى رشدها.

قلت: فالحل بسيط إذن..

قال: بل الحل معقد جدا.. فمكان العمل الذي عملوه لن تصلوا إليه أبدا إلا إذا وصلتم إلى ما وصل إليه اليهود من تكنولوجيا متطورة.. فقد استعمل اليهود ما وصلوا إليه من تطور لإخفاء العمل الذي عملوه.

قلت: يا معلم.. أراك تنكر كل ما ذكرته.. فإلى ما تستند في إنكارك؟

قال: إلى قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء:36)

قلت: فما في هذه الآية من الاستدلال؟

قال: لقد نهانا الله تعالى أن نتكلم فيما ليس لنا به علم.. وهذا مما ليس لنا به علم.

ابتسامة الأنين (253)

قلت: كيف ذلك؟

قال: متى تكلم العلماء عن أنواع الجراثيم؟

قلت: بعد أن اكتشفوها.

قال: بم اكتشفوها؟

قلت: بالأجهزة المكبرة.

قال: فإذا وصلتم إلى أجهزة تكشف السحر.. ففصلوا وقسموا كما تشاءون.

قلت: وقبل ذلك.. هل نترك السحرة يعيثون في الأرض فسادا؟

قال: لن يطيقوا أن يفعلوا شيئا إلا إذا أعطيتموهم أنتم جواز السفر إلى ذواتكم.

قلت: فما ترى من الأضرار التي يمكن للسحرة فعلها؟

قال: شيء واحد.. لا علاقة له بأجسادكم (1)، فلا تخافوا عليها.

قلت: وما هو؟

قال: لقد ذكر الله تعالى ضرر السحرة حاصرا له في ضرر واحد.

قلت: وما هو؟

قال: التفريق بين المرء وزوجه، ألم تسمع قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} (البقرة:102)

قلت: وما وجه الاستدلال في الآية.. ألا يمكن أن يكون ما ذكر هو بعض آثار السحر وتأثيراته؟

قال: لا.. النص لا يحتمل ذلك.. فالله تعالى جعل قوله: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} تعريفا للسحر بذكر آثاره.. ولا يمكن للتعريف إلا أن يكون جامعا للمعرف.

قلت: أريد مثالا على ذلك؟

__________

(1) إلا إذا احتوى السحر على مواد ضارة.

ابتسامة الأنين (254)

قال: أرأيت لو أن شخصا عرف الطب بأنه العلم الذي يداوي الزكام، أيكون هذا التعرف صحيحا؟

قلت: لا شك في كونه غير صحيح.

قال: لم؟

قلت: لأنه قصر الطب على وظيفة بسيطة من وظائفه.

قال: ولو عرفه بأنه: (ما يداوي العلل المختلفة)

قلت: حينها سيكون تعريفا صحيحا مقبولا؟

قال: فكيف يتهم القرآن الكريم إذن بالقصور في تعريف السحر؟

قلت: فالسحر إذن يقتصر على قدرة واحدة هي التفريق بين الأزواج.

قال: نعم.. وهو ما نص عليه القرآن الكريم.. وهو تفريق يعتمد على التخييل الذي هو وسيلة الساحر الوحيدة.

قلت: كيف يكون التخييل؟

قال: الساحر المتقن لسحره قد ينجح في التأثير في مخيلة الزوج مثلا، فيرى زوجته في صورة بشعة تتقزز منها نفسه، فيبغضها أو يطلقها.

قلت: إذن علاقته مع الأزواج فقط.

قال: لا.. بل مع كل المتحابين.

قلت: هذا معروف ومشتهر، ويسمونه: (العطف والصرف)، فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء، والصرف بالعكس من ذلك (1).

وفي النصوص ما يشير إليه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، والتولة (2):

__________

(1) مرجع المعالجين من القرآن الكريم والحديث الشريف - ص 327 – 328.

(2) بكسر التاء وفتح الواو، انظر: النهاية في غريب الحديث - 1/ 200.

ابتسامة الأنين (255)

ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره، وجعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر ويفعل خلاف ما قدره الله تعالى.

وقد يسمون العطف: (سحر المحبة)، وهو عمل وتأثير يسعى الساحر من خلاله للجمع بين المتباغضين والمتنافرين، أو الجمع بين الأشخاص عامة لأسباب معينة بناء على توصية من قام بعمل السحر.

وقد ذكر بعض العلماء من آثار هذا النوع من السحر قصة عجيبة يتداولها العامة لست أدري مدى صدقها.

قال: وما قال؟

قلت: ذكر أن امرأة رأت من زوجها شيئاً من الإعراض وعدم المودة التي تريدها منه، فهو يعطيها حقها ويعاملها كسائر النساء، لكنها تريد منه أكثر من ذلك من المحبة والبقاء عندها والملازمة لها، فدخلت عليها عجوز تعمل السحر، فأخبرتها بخبر زوجها، فأعطتها العجوز دواء في صرة، وأمرتها أن تجعله في طعامه، ولكن المرأة تورعت فجعلت الدواء في رغيف وأطعمته داجناً عندهم، فبعد أن أكله ذلك الداجن علق بها، فصار يتبعها ولا يفارقها ولا يستقر حتى يلصق رأسه ببطنها أو يجعله في حجرها وصار يلاحقها أينما ذهبت، فعجب زوجها من أمرها وأمره، ثم إنها أخبرت زوجها بأنها صرفت هذا الدواء عنه، ولو أعطته الدواء لفعل كما فعل الداجن، فلما أخبرته بادر بطلاقها، وقال: أخشى في المرة الثانية أن تجعليه في طعامي (1).

قال: ما لعلمائكم وهذه الأمور!؟.. وأي فرق بين العامة والعلماء إذا خاض العلماء في هذا!؟

قلت: أتنكر هذا؟

قال: يجب أن أنكره.. لقد ذكر الله تعالى أن هؤلاء السحرة يفرقون بين المرء وزوجه، ولم

__________

(1) الصواعق المرسلة في التصدي للمشعوذين والسحرة- ص 141،142.

ابتسامة الأنين (256)

يقل يحببون بين المرء وزوجه.. وما كان لي أن أغادر ما نص عليه القرآن الكريم لأي لغو يرويه عامي أو ينقله عالم.

قلت: والتولة؟

قال: لقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أنها من الشرك، ولم يذكر أنها من السحر.. ولم يذكر لها صلى الله عليه وآله وسلم أي أثر.

قلت: لقد ذكروا لهذا النوع من السحر آثارا وأعراضا من خلالها يقوم الرقاة برقاهم؟

قال: ما هي؟

قلت: من الأعراض التي ذكروها 1. تغير الأحوال بشكل فجائي من كراهية وبغض إلى ود وحب.. ومنها عدم حصول أية مشكلات اجتماعية مع توفر كافة الأسباب الصغيرة والكبيرة لمثل تلك المشكلات.. ومنها القدرة الكبيرة على التكيف الاجتماعي والعاطفي مع الآخرين ممن عطفوا على المريض بواسطة السحر.. ومنها 4. المحبة المطلقة للأقوال والأفعال الصادرة عن هؤلاء الأشخاص.. ومنها حسن الظن والثقة المطلقة بهؤلاء الأشخاص.. ومنها رؤية هؤلاء الأشخاص بأشكال حسنة جميلة محببة للنفس.. ومنها المحبة المطلقة لأماكن تواجد هؤلاء الأشخاص.

قال: أرى رقاتكم هؤلاء يحرمون المحبة بين الناس بنشر مثل هذه الخرافات.

علاج السحر

ذهبنا للقاعة الثانية، وهي القاعة المتخصصة في علاج من أصيب بالسحر، وقد فوجئت بأني لم أجد فيها إلا أفرادا محدودين بخلاف القاعة السابقة، فسألت المعلم عن سر ذلك، فقال: إن أكثر من جاءوا هذا المستشفى لعلاج السحر تبين لهم في قاعة التشخيص أنهم كانوا متوهمين، فلذلك رجعوا من حيث أتوا، مكتفين بذلك.

قلت: ولكني رأيت الخارجين مستبشرين.

ابتسامة الأنين (257)

قال: وما لهم لا يستبشرون.. لقد كان ما أوهموا به من سحر يقيد أرجلهم عن كل حركة، فلما علموا عجز السحر انطلقوا ونشطوا.. وكأنما نشطوا من عقال.

قلت: وهؤلاء الحاضرون في هذه القاعة؟

قال: هؤلاء شكوا في إمكانية أن يكون ما أصابهم نوع من السحر.

قلت: شكوا فقط.. ولم يتيقنوا.

قال: ليس في هذا الباب شيء يسمى اليقين.. إلا إذا أخبرك معصوم بهذا..

قلت: فما العلاج الذي يعطى لهؤلاء هنا؟

قال: لقد أنزل الله برحمته المعوذتين.. وهما رحمة من الله تكفيان الأمة عن كل تعويذة، وعن اللجوء لأي راق.

قلت: كيف هذا؟.. أيمكن أن نكتفي بالمعوذتين من دون الرجوع لأي راق لفك السحر؟

قال: أجل.. ألم يرو في الحديث أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما (1).

قلت: ولكن العلماء يبالغون كثيرا في وجوب البحث عن السحر لفكه، وقد قال ابن باز: (ومن علاج السحر أيضا - وهو من أنفع علاجه - بذل الجهد في معرفة موضع السحر من أرض أو جبل أو غير ذلك فإذا عرف واستخرج وأتلف بطل السحر) (2)

قال: لا.. هذا ليس صحيحا.. فبدل أن نكلف العامة بالبحث عن موضع السحر، وببذل الجهد في ذلك نكلفهم بالالتجاء إلى الله، وهو يكفيهم كل سوء رأوه أو لم يروه.. ثم من قال للعامة بأنهم مسحورون حتى يبذلوا جهودهم في البحث عن موضع السحر.

قلت: الأعراض التي يراها الرقاة.

__________

(1) الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(2) فتوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز – برقم (8016) – الصادرة بتاريخ 22/ 1 / 1405 هـ.

ابتسامة الأنين (258)

قال: لو طبقنا الأعراض التي ذكروها على جميع الناس لوجدنا الخلق جميعا مسحورون.. ولو راعينا ما ذكروا لأغلقنا جميع المستشفيات أو لحولناها إلى مراكز رقية، وحولنا مراكز البحوث إلى مراكز بحوث عن مواضع السحر.

قلت: وقد ذكروا من أساليب العلاج السدر، فقد ورد في كتب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ آية الكرسي والقواقل (1)، ثم يحسو منه ثلاث حسيات، ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به، وقد ذكروا أنه جيد للرجل إذا حبس عن أهله) (2)

قال: ومن وهب بن المنبه؟

قلت: رجل من اليهود أسلم، فكان من التابعين.

قال: وهل أسلم لتعلموه، أم ليعلمكم؟

قلت: لا أخفي عليك ـ يا معلم ـ لقد تعلمنا عنه كثيرا.

قال: فارموا بكل ما تعلمتموه منه عرض البحر.. فقد أتاكم بها صلى الله عليه وآله وسلم نقية صافية، فأبيتم إلا تدنيسها برجس اليهود والنصارى.

قلت: ولكن قومي تلقوا قوله هذا بالقبول، وهم يفتون الناس بهذا.. ولهذا أصبح السدر عندنا من السلع الغالية.. وقد ذكر بعض كبار المفتين عندنا وصفة يبيعها الرقاة بوزنها ذهبا (3).

قال: وما للمفتين وهذا!؟.. إن دورهم هو تبيين أحكام الله التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا التي نص عليها وهب بن منبه.

قلت: ولكنها مجربة، وقد قال بعض علمائنا المعتبرين عن تلك الوصفة: (وكذا رقيت على

__________

(1) القواقل: هي السور التي تبدأ بـ (قل) وهي: الجن، الكافرون، والإخلاص، الفلق، والناس.

(2) فتح الباري: 10/ 233.

(3) انظر: مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: 3/ 279 – 280.

ابتسامة الأنين (259)

بعض الأقارب أو الأحباب الذين حبسوا عن نسائهم، بما ذكره ابن كثير من ورقات السدر، وقراءة الآيات التي ذكرها، فوقع الشفاء بإذن الله) (1)

قال: عجبا لكم ولعلمائكم.. لا تعد لرواية مثل هذه الأمور.. فإني أشعر بالأسى عندما أسمع هذا.. إن العالم في الأمة خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا ينبغي أن يجاوز ما كان صلى الله عليه وآله وسلم يفعله.. فهل رأيت صلى الله عليه وآله وسلم فعل هذا؟

قلت: لا..

قال: فاكتفوا بما فعله.. ولا تبتدعوا، فكل بدعة ضلالة.

قلت: ولكن الرقية مما يجوز فيه الاجتهاد.

قال: ومن قال ذلك؟.. ومن قال بأن هناك رقية للسحر أصلا، ألم يحصر صلى الله عليه وآله وسلم الرقى في العين وذوات السموم؟

قلت: بلى.. ولكن العلماء يقيسون.

قال: ما أورد إبليس في الضلالة إلا قياسه..

قلت:..

قال: سنذهب إلى قاعات الرقى، وسنرى الأحكام المرتبطة بها، فلا تعجل.

الاستعاذة من العين

قصدنا القاعة الثالثة من قاعات حصن الاستعاذة، فرأيت لافتة مكتوبا عليها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (استعيذوا بالله من العين، فإن العين حق) (2)

قلت للمعلم: أهذه هي القاعة التي تعالج فيها العين؟

__________

(1) الصواعق المرسلة في التصدي للمشعوذين والسحرة: 606.

(2) ابن ماجه كتاب الطب باب العين، رقم (3508).

ابتسامة الأنين (260)

قال: أجل.. فقد ذكر هذا الحديث المرض وعلاجه.. وفيه ما يغني عن كل تلك الأسفار التي اشتغلتم بها، وشغلتم الناس.

قلت: هذا صحيح.. فإن قومي يبالغون في أمر العين كثيرا.. بل لو تتبعت كلامهم لتصورت أن كل ما يحدث في الكون من حوادث ليس إلا أثرا من آثار بعض العيون السامة.

قال: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ لذلك ـ أثبت تأثير العين، ولكنه لم يكتف بذلك، بل أعطى العلاج الشرعي الذي يكف شرها.

قلت: تقصد الاستعاذة.

قال: أجل.. فهي وحدها الكافية الشافية، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يعوّذ الحسن والحسين بقوله: (أعيذكما بكلمات اللّه التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، ويقول: (هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ) (1)

قلت: ولكن العين خطيرة، إنها تدخل الرجل القبر، والجمل القدر (2

قال: وهل يمكن للعين، أي عين أن تقتحم أسوار قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الفلق:5).. الحق أقول لك: إن العين أضعفا شأنا، وصاحبها أهون أمرا من أن نلتفت إليه أو يستعبدنا..

ولهذا لم يأت في آية واحدة من القرآن الكريم: (إن العين لكم عدو مبين)، بل عدونا الوحيد المبين هو الشيطان الرجيم بوساوسه، لا بصرعه، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (فاطر:6)

ثم سكت هنيهة، وصاح، وكأنه يخاطب اللاشيء: ارجع أيها الخائف من العين إلى ربك، واسأله مزيد نعمه، ولا تخف أن يسلبها منك أي عائن، بل خف معاصيك وانحرافك وجحودك

__________

(1) البخاري وأهل السنن.

(2) روي في هذا: (العين تدخل الرجل القبر وتدخل الجمل القدر) ابن عدي وأبو نعيم في الحلية.

ابتسامة الأنين (261)

ولجوءك لغير حصون الله.. أما إذا أبيت إلا أن تخاف هؤلاء، فاسمع لما يقول الله تعالى فيمن استجار من الرمضاء بالنار، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} (الجن:6).. فلن يزيدك هؤلاء إلا رهقا وخوفا، ولن تشعر بلذة أي نعمة وعيون الناس ترمقك لتسلبها منك.

قلت: ولكن ورد في السنن ما يدل على الاسترقاء من العين بالاغتسال وغيره، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا) (1)

قال: هذا صحيح.. ولكن الرقية ـ كما سنرى رخصة ـ والكمال في الاكتفاء بالاستعاذة التي كان يفعلها صلى الله عليه وآله وسلم، ويخبر أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ كانوا يفعلونها، ألم تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم (هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون) (2)

قلت: ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم لا يرقأ) (3)

قال: هذا صحيح، ولكنه لا ينافي كونها رخصة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفهم بكونهم لا يكتوون مع ورود النصوص بإباحة الكي.

قلت: فلم كان الأمر كذلك؟

قال: لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السبعين ألفا بكونهم (على ربهم يتوكلون) والمتوكل هو الواثق في الله الراضي بتحصين الله المكتفي به، أما القاصر عن هذه الرتبة، فإنه يحتاج إلى أسلحة أخرى رخص فيها صلى الله عليه وآله وسلم كالاغتسال ونحوه..

__________

(1) مسلم.

(2) البخاري ومسلم.

(3) أبو داود.

ابتسامة الأنين (262)

قلت: ولكن ـ يا معلم ـ ألم يبلغك حديث سهل بن حنيف، فقد روي أن أباه حدّثه: أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم خرج وساروا معه نحو مكة، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من (الجحفة) اغتسل سهل بن الأحنف، وكان رجلاً أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة أخو بني عدي بن كعب وهو يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط سهل، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل له: يا رسول اللّه هل لك في سهل؟ واللّه ما يرفع رأسه ولا يفيق، قال: (هل تتهمون فيه من أحد؟)، قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة، فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عامرا فتغيظ عليه، وقال: (علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برّكت؟)، ثم قال: (اغتسل له)، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبته وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صبَّ ذلك الماء عليه، فصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه، ثم يكفأ القدح وراءه ففعل ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس (1).

قال: هذه حادثة خاصة (2).. ولا يمكن القياس عليها (3)، ولا اعتبارها من الكمال.

__________

(1) أحمد ورواه ابن ماجة بنحوه.

(2) نرى أن هذا النوع من العلاج خاص بمن حصل منه ما حصل من عامر بن ربيعة، حيث أنه لم يكتف بإذيته بعينه بل صرح بذلك، حيث قال: (ما رأيتُ كاليوم ولا جِلْدَ مُخَبَّأة) بدون أن يبرك، أما من لم يتلفظ بمثل هذا، واتهم مجرد تهمة، فإنه من الحرج العظيم تكليفه بالاغتسال، ففي ذلك ما قد يؤثر في العلاقات الاجتماعية التي جاء الشرع بطلب تماسكها.

(3) بنى المتأخرون على هذا، لتصورهم جواز القياس في مثل هذه المسائل، فأضافوا أمورا كثيرة كلها من البدع المحدثة، وخطرها ليس في كونها بدعة فقط، مع خطورة البدع، بل في تأثيرها الخطير علىلعلاقات الاجتماعية بين المسلمين، والوساوس الكثيرة التي تبثها في صفوفهم.

فمما أضيف في عصرنا من أساليب استخدام آثار المريض الداخلية أو الخارجية ووضعها بالماء ورشه بعد ذلك على المعين، وقد أفتى بجواز ذلك الشيخ محمد بن صالح العثيمين، حيث يقول: (وهناك طريقة أخرى - لعلاج العين - ولا مانع منها أيضا، وهي أن يؤخذ شيء من شعاره أي ما يلي جسمه من الثياب كالثوب، والطاقية والسروال وغيرها، أو التراب إذا مشى عليه وهو رطب، ويصب على ذلك ماء يرش به المصاب، أو يشربه. وهو مجرب) انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد: 1/ 94.

والأخطر من ذلك قوله في موضع آخر: (وقد جرت العادة عندنا أنهم يأخذون من العائن ما يباشر جسمه من اللباس مثل الطاقية وما أشبه ذلك ويربصونها بالماء ثم يسقونها المصاب ورأينا ذلك يفيده (حسبما تواتر عندنا من النقول)) [انظر: فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين – 1/ 196.]، فأي طبيب يسمح بمثل هذا السلوك، وأي طبع سليم يسمح لنفسه أن يتناول مثل هذا الشراب.

ومن الأساليب المعاصرة التي وجدت من يفتي بجوازها، بل يحث عليها استخدام أثر العائن على أي صفة كانت كالماء والقهوة والنوى.

فقد سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عن أخذ بعض الأثر المتبقي من بعض الناس الذين يشك بأنهم أصابوا شخص ما بالعين، كأخذ المتبقي في الكأس من ماء أو شراب، أو فضلات الأكل، وهل هذا صحيح معتمد؟

فأجاب: (نعم كل ذلك صحيح ونافع بالتجربة، وكذا غسل ثوبه الذي يلاصق بدنه أو يعرق فيه، أو غسل رجليه أو يديه لعموم (وإذا استغسلتم فاغسلوا) فهو يعم غسل البدن كله، أو غسل بعض البدن، وحيث جرب أن أخذ شيء من أثره يفيد، فإن ذلك جائز كغسل نعله الذي يلبسه، أو جوربه الذي يباشر جلده، لأمره في الحديث بغسل داخله إزاره، أي الذي يلي جسده، وكذا ما مست يداه من عصى أو قفاز، وكذا فضل وضوئه الذي اغترف منه، أو ما لفظه من النوى، أو تعرق من عظم أو نحو ذلك، وهذا بحسب التجربة، وقد يصيب بإذن الله، وقد يستعصي ذلك بحسب قوة نفس العائن وضعفها)

ومن الأساليب المعاصرة التي وجدت من يفتي بجوازها، بل يحث عليها استخدام آثار عتبات الأبواب أو أقفالها ونحوه ووضعها بالماء والاستحمام بها لإزالة أثر العين، فقد سئل الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين عن جواز استخدام آثار عتبات الأبواب والأقفال وذلك عن طريق مسح المكان ووضع ذلك في الماء واغتسال المعين منه؟

فأجاب: (قد عرف بالتجربة أن غسل كل ما مسه العائن ثم شرب المعين من غسالته أو صبه عليه يكون سببا في الشفاء من تلك العين بإذن الله تعالى، وحيث أن العائن يمس قفل الباب أو مفتح السيارة وقد يطأ حافيا على عتبة الباب أو يمس العصا أو المظلة أو الفنجان للقهوة أو الشاي، أو يأكل من التمر ويلفظ النوى بعد أن يمصه بفمه، فإن غسل هذه كلها مما جرب وحصل معه زوال أثر العين بإذن الله قياسا على أمره بالاغتسال كما في الحديث الصحيح) انظر: المنهل المعين في إثبات حقيقة الحسد والعين – ص 237)

ابتسامة الأنين (263)

قلت: كيف هذا؟

قال: أرأيت لو أن شخصا مثل سهل مر في شارع، فأصابته عيون الشارع جميعا، أو ظهر على هذه الشاشات التي تعتكفون عليها، فأصابته عيون الملايين، كيف يتعامل مع عيونهم؟

قلت: في ذلك الحين يكفيه أن يستعيذ.

قال: فكيف تأمره بالاستعاذة إذا صوبت إليه سهام الملايين، ولا تأمره بها إذا أصابه سهم واحد؟

قلت: السهم الواحد يمكن استغساله بخلاف السهام الكثيرة.

قال: وهل الاستعاذة تكفي من غير حاجة إلى الاغتسال؟

ابتسامة الأنين (264)

قلت: ورد النص بالاغتسال.

قال: وورد النص بغيره، بل ورد ما يدل على أن الكمال في غيره ألم تقرأ رقية جبريل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قلت: بلى.. فعندما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أتاه جبريل عليه السلام، فقال: (باسم اللّه أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من كل حاسد وعين واللّه يشفيك) (1)

قال: فهذه الاستعاذة كافية شافية، وهي لا تحتاج إلى ما يفعله رقاتكم مما يسمونه رقية التشخص.

قلت: كيف هذا؟

قال: لقد دعا جبريل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعاء شاملا، فقال: (من كل شيء يؤذيك)، وهذا يكفي.. فلا يضرك أن تعلم المصدر الذي يؤذيك أو لا تعلمه.

قلت: اضرب لي مثالا يوضح لي هذا.

قال: أرأيت لو اشتريت ما تسمونه بالمبيد، وكان في هذا المبيد قدرات هائلة بحيث تقتل جميع أنواع الحشرات، ثم جهلت أنت بعض هذه الأنواع.. أفترى المبيد فاتكا بها، أم أنه لا يفتك بها حتى تعرف ذلك النوع؟

قلت: لا يحتاج المبيد مني إلى معرفة ذلك.

قال: فهكذا فعل جبريل عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: ولكنه جبريل.. وما أدراك ما جبريل؟

قال: فإن لم تقتدوا بجبريل عليه السلام، فبمن تقتدون؟.. أبإبليس؟

قلت: من الأمور التي نصوا عليها من باب الوقاية من شر العين، ستر محاسن من يخاف عليه من العين.

__________

(1) أحمد.

ابتسامة الأنين (265)

قال: فبم استدلوا على ذلك؟

قلت: هذا أمر يكاد يكون متفقا عليه، فقد روي أن عثمان رأى صبيا مليحا، فقال: (دسموا نونته (1)، لئلا تصيبه العين) (2)

وقد قال الشاعر:

ما كان أحوج ذا الكمال إلى... عيب يوقيه من العين

ونتيجة لهذا، نص كل من تكلم في هذا الباب على هذا النوع من الوقاية، وقد قال محمد بن مفلح: (وليحترز الحسن من العين والحسد بتوحيش حسنه) (3)

وقد اعتبر بعضهم هذا مما شرعه الله من أسباب الوقاية مستدلا عليه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء – الآية 71) قائلا: (وهو يعم الحذر من كل ما فيه ضرر على النفس أو المال) (4)

قال: إن هذا الكلام يحمل أنفاسا من شؤم التطير، وخطره عظيم، لأن الأدلة الشرعية تأمر بإظهار نعمة الله لا سترها، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان له شعر فليكرمه) (5)، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تعالى جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس) (6)

قلت: ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة

__________

(1) أى: سَوِّدُوا نونته، والنونة: النُّقرة التى تكون فى ذقن الصبىِّ الصغير.

(2) البغوىُّ فى كتاب (شرح السُّنَّة)

(3) الآداب الشرعية – 3/ 60

(4) انظر: المنهل المعين في إثبات حقيقة الحسد والعين - 218، 219.

(5) أبو داود.

(6) البيهقي عن أبي سعيد.

ابتسامة الأنين (266)

محسود) (1)

قال: إن هذا الحديث لا يدل على هذا المعنى، بل هو من جنس قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (يوسف:5)

فالخوف الذي خافه يعقوب عليه السلام هنا ليس خوفا من العين، وإنما الخوف من كيد إخوته له، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكتمان عن الحسدة حتى لا يسعوا في خلاف مقصود المحسود.

قلت: وما تقول فيما قال المفسرون من قوله تعالى: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (يوسف:67)، فقد أطبق المفسرون على اعتبار نهيه إياهم عن الدخول من باب واحد من باب الخوف من العين.

قال: لا ينافي ذلك ما ذكرنا، لأنه لا يحصل بدخولهم من أبواب متفرقة أي مضرة، فهم لم يكتموا أي نعمة.

زيادة على أن مراد يعقوب عليه السلام هو الاحتياط الأمني لهم، ذلك أن دخول هذه المجموعة إلى مصر والسير في شوارعها، قد يثير الحسد والبغضاء في بعض النفوس الضعيفة فيسعون ضدّهم عند السلطان ويظهرونهم كمجموعة أجنبية تحاول العبث بأمن البلد ونظامه، فحاول يعقوب عليه السلام أن يجنبهم بنصيحته عن هذه المشاكل (2).

قلت: وما الخطر في هذا النوع من الوقاية؟

قال: خطره أنه جر سلوكيات كثيرة منحرفة في المجتمع، تقرب من التطير المنهي عنه،

__________

(1) العقيلي، وابن عدي، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والخرائطي في إعتلال القلوب وابن عساكر، قال المناوي في فيض القدير (1/ 493): الحديث ضعيف ومنقطع، ولما ساق الحافظ العراقي الخبر المشروح جزم بضعفه واقتصر عليه.

(2) انظر: الأمثل، وهو قول للجبائي، مع العلم أن الشيرازي لم ينف ما ذكره المفسرون من العين.

ابتسامة الأنين (267)

فلذلك كان الأولى منعه، والاكتفاء بما ورد في النصوص الصحيحة من التعويذات.

فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدسم نونة الحسن والحسين مع جمالهما وكمالهما وكونهما من آل بيت النبوة، وإنما كان يعوذهما بقوله: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة) ويقول: (هكذا كان إبراهيم يعوذ اسحق واسماعيل عليهما السلام) (1)

وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوى إلى فراشِهِ نَفَثَ فى كَفَّيْهِ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} والمُعَوِّذَتَيْن. ثم يمسحُ بهما وجهه، وما بلغت يدُه من جسده.

قلت له: مما ذكروه من أساليب الوقاية من العين (الإحسان إلى من عرفت أصابته بالعين كإحسان الغني إلى الفقير المستشرف لما في يد الغني) (2) كأسلوب من أساليب الوقاية.

قال لي: بأي نص استدلوا؟

قلت: لا أعلم أنهم ذكروا نصا.

فقال: فهذا كلام بلا علم، بل بما يناقض العلم، فمن أي الأبواب يدخل هذا الإحسان؟، هل هو من الصدقات؟ أو من الهبات؟

قلت مازحا: لعله يخرجه من الزكاة ليضعه في نصيب المؤلفة قلوبهم.

ضحك، وقال: وأخير تحول الحاسد إلى المؤلفة قلوبهم.

قلت له: ما تقول فيما ذكره العلماء من معاقبة العائن، كقول ابن القيم: (وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء أن من عرف بذلك حبسه الإمام وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت وهذا هو الصواب قطعا) (3)

ومثله قول العيني ناقلا عن القاضي عياض ناقلا عن بعض العلماء: (ينبغي إذا عرف

__________

(1) البخاري.

(2) قاله الدكتور عبدالله الطيار والشيخ سامي المبارك بتقريض الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، انظر: فتح الحق المبين في علاج الصرع والسحر والعين – ص 192.

(3) الطب النبوي، ص 168.

ابتسامة الأنين (268)

واحد بالإصابة بالعين أن يجتنب وأن يحترز منه وينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس، ويلزمه بلزوم بيته، وإن كان فقيرا لزمه ما يكفيه فضرره أكثر من آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دخول المسجد لئلا يؤذي الناس ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر) (1)

قال: كيف يقولون هذا، وهم يعلمون أن العقوبات في الشرع مقدرة، وأنها مع ذلك تدرأ بأبسط الشبهات، فكيف يسمح لموسوس مغرور منبهر بكمالاته أن يحبس الناس مدى الحياة لكونهم أعجبوا بطلعته البهية، أو جماله الرائع؟

ثم ما هذا القياس الذي قاسوه، وهل حبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آكل الثوم والبصل؟

ثم كيف يقاس الثوم والبصل والجذام، وهما من الشهادة على العين، وهي غيب؟

ثم لماذا لم يحكموا بفقأ عينه، فهي المعاقبة، لا هو، ولعل ذلك أرحم له من الحبس مدى الحياة؟

قلت: فقد ذكروا صيغا وأورادا مجربة في دفع شر العين.

قال: فاعرض علي ما ذكروا.

قلت: من الأمثلة القديمة على ذلك ما ذكره ابن القيم في الكتاب الذي خصصه لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث قال: (من الرقى التى ترد العين ما ذكر عن أبى عبد الله الساجى، أنه كان فى بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة، وكان فى الرفقة رجل عائن، قلما نظر إلى شئ إلا أتلفه، قيل لأبى عبد الله: احفظ ناقتك من العائن، فقال: ليس له إلى ناقتى سبيل، فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبى عبد الله، فجاء إلى رحله، فنظر إلى الناقة، فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله، فأخبر أن العائن قد عانها، وهى كما ترى، فقال: دلونى عليه. فدل، فوقف عليه، وقال: بسم الله، حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، ردت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ

__________

(1) عمدة القاري بشرح صحيح البخاري: 17/ 405.

ابتسامة الأنين (269)

}(الملك: 3 - 4) فخرجت حدقتا العائن، وقامت الناقة لا بأس بها) (1)

قال: ما هذا؟ لا يصح أن يذكر هذا في كتاب خصص لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: فما تنكر منه؟

قال: لا شيء في هذا النص معروف، بل كله منكر، فهذه صيغ غريبة، تحمل عقائد غريبة وسلوكا غريبا لا علاقة له بعقائد الإسلام ولا سلوكه.

فما كل تلك الثقة بتلك الألفاظ المسجوعة التي لا تختلف عن ألفاظ مسيملة؟

أو ليس في ذكرها بتلك الثقة دعوة للاستعاضة عن استعاذت القرآن والسنة، فقد ذكرها، وكأنها الطلسم الذي ينفي كل سحر، ويحل كل تعويذة؟

ثم لماذا ترد العين على أحب الناس إليه، وما ذنب المسكين حتى يتحمل جريرة العائن؟

ثم لماذا تحور معاني القرآن الكريم لغير ما أنزلت له؟

ثم لماذا كانت الناقة أهم عنده من أخيه، فقد أقام ناقته بتعويذته، وأخرج حدقتي عين أخيه؟

ثم ما معنى (حَبْسٌ حابسٌ، وحَجَرٌ يابِسٌ، وشِهابٌ قابِسٌ)؟

وأسئلة غيرها كثير لا نوجهها إلى ابن القيم، وإنما نوجهها لمن ينشر مثل هذه الشعوذات لينسخ بها المعوذات التي وردت بها النصوص.

قلت: والخطر الأكبر فيما ذكره ابن القيم لا يقتصر على إقراره مثل هذا، بل في إتاحة الفرص لمن يضع مثل هذا الدجل.

قال: أهناك غير هذا؟

قلت: كثير جدا.. وسأقتصر على مثال يكفي وحده لبيان مدى الدجل الذي تحمله الرقية المعاصرة، فقد ذكر بعضهم كيفيات مختلفة لعلاج الحسد، كوصفات تتعلق بالأمراض المختلفة.

__________

(1) زاد المعاد: 4/ 174.

ابتسامة الأنين (270)

فمنها كيفية علاج الحسد في الصحة والجمال، وهذه الكيفية ننقلها بحروفها فيما يلي: (يستمر علاج الحسد في الصحه والجمال إلى ثلاثة أيام وهي على النحو التالي: في اليوم الأول: الاغتسال بماء الوضوء غسلا شرعيا بعد صلاة الفجر وقبل بزوغ الشمس، وبعد الاغتسال، قراءة مجموعة المعوذات، وبعد صلاة الضحى قراءة سورة يس، وبعد صلاة الظهر قراءة الرقى الشرعية، وبعد صلاة العصر قراءة سورة يوسف وبعد صلاة المغرب قراءة مجموعة التسابيح، وبعد صلاة العشاء قراءة الرقى الشرعية، وبعد صلاة قيام الليل قراءة مجموعة الاستغفار

وفي اليوم الثاني: الاغتسال بماء الوضوء غسلا شرعيا بعد صلاة الفجر وقبل بزوغ الشمس، وبعد الاغتسال قراءة الرقى الشرعية، وبعد صلاة الضحى قراءة الأذكار الصباحية، وبعد صلاة الظهر قراءة مجموعة المعوذات، وبعد صلاة العصر قراءة سورة الكهف، وبعد صلاة المغرب قراءة مجموعة التسابيح، وبعد صلاة العشاء قراءة الرقى الشرعية.

وفي اليوم الثالث: الاغتسال بماء الوضوء بعد صلاة الفجر وقبل بزوغ الشمس غسلا شرعيا، وبعد الاغتسال قراءة الرقى الشرعية، وبعد صلاة الضحى قراءة سورة المزمل، وبعد صلاة الظهر قراءة مجموعة المعوذات، وبعد صلاة العصر قراءة سورة المدثر، وبعد صلاة المغرب قراءة الرقى الشرعية، وبعد صلاة العشاء قراءة مجموعة المعوذات، وبعد صلاة قيام الليل قراءة مجموعة الاستغفار)

وهذه كيفية أخرى خاصة بعلاج الحسد في المال والبنين..

قاطعني المعلم قائلا: حسبك.. بأي سند نقل هذا المبتدع كل هذه الكيفيات؟

قلت: لا سند لهذا..

قال: فهي شريعة جديدة وضعوها.. فحذر قومك منها.. وحذرهم من هؤلاء الذين يريدون أن ينسخوا شريعة العقل والحكمة بشريعة الشعوذة والخرافة.

قلت: ألا يمكن أن يقي العائن شر عينه عن الناس؟

ابتسامة الأنين (271)

قال: بلى، فقد ورد في النصوص ما يدل على إمكانية دفع العائن شر عينه عن الناس.

قلت: فماذا ورد من ذلك؟

قال: أن يقول: (اللَّهُمَّ بَارِكْ عليه)، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حُنيف: (ألا برَّكْتَ) أى: قلتَ: اللَّهُمَّ بارِكْ عليه.

ومثله كل الصيغ القريبة من هذا، كقول (ما شاء الله لا قُوَّة إلا بالله)

قلت: وما علاقة هذه الألفاظ بالوقاية من العين؟

قال: هذا يقودنا إلى سبب العين.

قلت: فما سببها؟

قال: العين القاصرة الحاسدة التي لا ترى فضل الله عليها، فدلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النظر إلى قدرة الله الذي لا يعجزه شيء، فتكسر بقوة الإيمان رماح الحسد.

قلت: لا أقصد هذا.

قال: فما تقصد؟

قلت: لقد خاطبنا المؤمنين.. وبينت وجه الصواب في كيفية التعامل مع العين، فكيف نخاطب من ينكرها، ونبين له صدق اعتباره صلى الله عليه وآله وسلم العين حقا.

قال: هذا متكلم يبحث عن الشبهات ليرد عليها.. وسيجيبك.

قلت: إنها صدفة غريبة أن يحضر معنا.

قال: ليس هناك مكان للصدفة.. ألم تسمع قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر:49

تدخل الرجل الذي أشار إليه من غير أن أسأله، فقال: لقد كشفت الدراسات الحديثة (1)

__________

(1) انظر: كتاب: The Field: The Quest for Secret Force of the Universe نقلا عن: فراس نور الحق محرر موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

ابتسامة الأنين (272)

أن للإنسان قدرات فوق القدرات التي نراها.. وهي ليست حكراً على أحد أو خاصية يتمتع بها أناس متميزون عن غيرهم، بل هي موجودة في معظم البشر، وأقل البشر، شريطة أن يدرك قدراته ويعرف الطرق لاستخدامها.

قلت: ما تقصد؟

قال: أنا لا أخاطبك أنت.. بل أخاطب الذين ينكرون العين.. والقوى الخارقة.

قلت: أنت تذكر أخبار الدراسات الحديثة.. فعلام استندت هذه الدراسات؟

قال: من الأمثلة الكثيرة التي رأتها القدرة على اختراق المادة بالنفس والتي امتلكها الشاب ماثيومانينغ من قرية لينتون قرب مدينة كامبردج، فقد كان باستطاعته طي الملاعق والسكاكين، وتغيير شكلها بمجرد النظر، وكان ينظر إلى عقارب الساعة فيوقفها عن الحركة، بل يستطيع إيقاف التيار الكهربائي.. وثبتت لديه القدرة على التأثير في سريان الدم في الأوعية والشرايين وكذلك التأثير على مرض السرطان.

ويعرف عن نابليون بونابرت أنه كان ذا نظرة حسد ثاقبة، فقد عرف عنه أنه إذا ثبت نظره على خصمه سبب له متاعب كبيرة، وإذا نظر بنظرته الحاسدة إلى شيء ما حطم ذلك الشيء.

قلت: فكيف تعرفت الدراسات الحديثة على مدى صدق هذا؟

قال: بوسائلها المعروفة.. وسأذكر لك نموذجا عن هذا بأكثر هذه الحالات غرابة، وأكثرها مصداقية، وذات توثيق علمي، وهي التجربة التي أجريت على نيليا ميخايلوفا التي كان باستطاعتها أنها بمجرد النظر من على بعد ستة أقدام أن تفصل بياض البيضة عن صفارها مستخدمة في ذلك مقدرتها الخاصة جداً في تحريك الأجسام المادية عن بعد، ودون أن تقربها.

وقد أجريت هذه التجربة وسط حشد من العلماء بجامعة ليننجراد، وباستخدام آلات التصوير لتسجيل الحدث لحظة بلحظة، وباستعمال العديد من الأجهزة التي تقيس الضغط والنبض وأنواع الإشعاعات التي تسود المخ أثناء التجربة، وقد نجحت السيدة نيليا في فصل

ابتسامة الأنين (273)

صفار البيضة عن بياضها خلال نصف ساعة، وقد كشفت الملاحظة وأجهزة القياس على جسد السيدة نيليا عن نشاط غير منتظم في القلب مع زيادة النبض.. وارتفاع شديد في نسبة السكر.. وفقدت رطلين من وزنها.. وخرجت من التجربة تعاني من الضعف بشكل عام.. وأصيبت بما يشبه فقدان البصر المؤقت.. وتعانى من آلام شديدة في الأطراف.. وظلت لعدة أيام بعد التجربة غير قادرة على النوم.. وفقدت قدرتها على التذوق.

وقد كان اكتشاف حالة السيدة نيليا بفضل العالم البيولوجي إدوارد فاموف، الأستاذ بجامعة موسكو، والذي أعد دراسات على قدراتها، وذلك باستخدام عيدان الثقاب التي تستطيع نيليا تحريكها بتمرير يدها عليها، وهي مبعثرة على طاولة، ثم باستخدام لوح زجاجي بين يديها وبين عيدان الثقاب.

قلت: فكيف فسرت هذه الدراسات هذه الأمور الخارقة؟

قال: لقد ذكرت الكاتبة والباحثة الإنجليزية والصحفية التي جمعت أخطر دراسات في مجال الطاقة (لين ماكتاجارات) في كتابها: (البحث عن سر قوة الكون) ما يبين تصورهم لسر هذا، فقد ذكرت أن الكون مزود بطاقة ومتصل ببعضه البعض، ويؤثر كل جزء فيه بالآخر، ويبنى على ما توصلت إليه دراسات الـ (Quanum Physics) التي خرجت بعد نيوتن، ونظريات ألبرت آينشتاين في الطاقة والزمان.

فإحدى هذه الدراسات، على سبيل المثال، درست الذرة، وما داخلها (نواة والكترون)، ويسمى هذا العلم الفيزياء الذرية، ثم درسوا النواة في الداخل والإلكترون، ويسمى هذا العلم الفيزياء النووية، ثم درسوا جزيئات النواة ويسمى هذا العلم فيزياء الأشياء أو الجزيئات.

ومعلوم أن الإلكترون يلف حول النواة بعكس مدار الساعة ولما نظروا في دوران وحركة الجزيئات الصغيرة في النواة توصلوا إلى حقيقة مذهلة حيث أنها تتحرك يميناً أو شمالاً أو بدوران بحسب فكرة الباحث حيثما توقع تسير.

ابتسامة الأنين (274)

ولذلك توصلوا إلى أن الفكرة تؤثر في حركة الجزيئيات الداخلية في النواة، وبالتالي فإن الفكرة بقوتها قد تؤثر في النواة، وإذا كانت أقوى أثرت بالذرة، وإذا كانت أقوى أثرت بالبيئة المليئة بالذرات، كما يحصل للنفس الحاسدة أو التخاطر أو الكشف أو السحر أو الإلهام أو غيرها من أمور.

ملاجئ إلهية

قصدنا القاعة الرابعة من قاعات حصن الاستعاذة، فرأيت لافتة مكتوبا عليها قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} (الانفطار:10)

قلت للمعلم: ما هذه القاعة؟

قال: هذه القاعة تملأ صدرك بالثقة في الملاجئ التي وضعها الله لحمايتك.

قلت: ولكن الآية تتحدث عن الملائكة ـ عليهم السلام ـ

قال: لقد شرفكم الله ـ معشر بني آدم ـ بأن وكل الملائكة بحفظكم، فقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام:61)، وقال تعالى: {، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} (الانفطار:10).. وهل يمكن لأي ظلمة أن تمحو نور الملائكة؟

قلت: لقد وردت الآثار التي تبين الوظائف التي وكل بها هؤلاء الملائكة ـ عليهم السلام ـ فعن علي قال: (ليس من عبد إلا ومعه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط، أو يتردى في بئر، أو يأكله سبع، أو غرق أو حرق، فإذا جاء القدر، خلوا بينه وبين القدر)

وقال: (لكل عبد حفظة يحفظونه، لا يخر عليه حائط أو يتردى في بئر أو تصيبه دابة، حتى إذا جاء القدر الذي قدر له، خلت عنه الحفظة فأصابه ما شاء الله أن يصيبه) (1)

__________

(1) أبو داود في القدر.

ابتسامة الأنين (275)

ومن مظاهر الحفظ ما عبر عنه ابن مسعود بقوله: (إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له فينظر الله إليه، فيقول للملائكة اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار، فيصرفه الله عنه فيظل يتطير بقوله سبني فلان وأهانني فلان، وما هو إلا فضل الله عز جل)

قال: وقد نص القرآن الكريم على تعدد هؤلاء الملائكة الحفظة وتعاقبهم على الإنسان، فقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد:11) أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حرس بالليل، وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر.

قلت: فالإنسان بهذا الاعتبار محاط في كل وقت بأربعة ملائكة، اثنان عن اليمين والشمال، يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، وأحد من ورائه وآخر من قدامه.

قال: بل روي أكثر من هذا العدد بكثير، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وكل بالمؤمن ثلثمائة وستون ملكا، يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك، للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف، وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل، كلهم باسط يديه فاغر فاه، وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين، لاختطفته الشياطين) (1)

وقد روي من شدة حرص الملائكة ـ عليهم السلام ـ على من يوكلان به إلى درجات أنهم لا ينصرفون عنه إلا بعد الاطمئنان إلى تسليمه لمن يعقبهم من الملائكة ـ عليهم السلام ـ، قال أبو أمامة: (ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه، حتى يسلمه للذي قدر له)

قلت: فصحبة الإنسان للملائكة ـ عليهم السلام ـ دائمة؟

قال: أجل.. فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع،

__________

(1) ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان، والطبراني والصابوني في المائتين.

ابتسامة الأنين (276)

فاستحيوهم وأكرموهم) (1)

قلت: ولكن كيف تقول هذا ـ يا معلم ـ والإنسان قد تعتريه العوارض، وتنزل به الآفات، أترى الملائكة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ تقصر في وظائفها؟

قال: لا.. معاذ الله.. إن هذا الحفظ مرتبط بأمر الله، كما قال تعالى: {، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد:11)، قال ابن عباس في تفسيرها: (ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر اللّه خلوا عنه)

قلت: فهل لسلوك الإنسان وعمله تأثير في هذا؟

قال: أجل.. لقد ورد في النصوص ما يدل على أن لأعمال الإنسان دورا في هذا الحفظ، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس: (يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك قضى القضاء وجفت الأقلام وطويت الصحف) (2)

ولهذا ورد بعد قوله تعالى: {، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد:11) قوله تعالى: {، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11)

ويروى في هذا أن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: (إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة اللّه فيتحولون منها إلى معصية اللّه إلا حوّل اللّه عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون)

-------

رأيت أبوابا كثيرة داخل هذه القاعة، فسألت المعلم عنها، فقال: هذه أبواب الملاجئ التي

__________

(1) الترمذي، وقال: غريب.

(2) سبق تخريجه.

ابتسامة الأنين (277)

نصبها الله لعباده ليؤووا إليها فيقيهم من كل بلاء.

قلت: فهل سنزورها جميعا؟

قال: لا.. سنكتفي بزيارة ثلاثة منها.

قلت: فما أولها؟

قال: القرآن الكريم، فهو الكتاب الذي يضعك في محلك من هذا الوجود، وينفي عنك الوساوس التي تنفخها الشياطين.. وهو أكبر الملاجئ وأعظمها.

قلت: والثاني؟

قال: دعاء الله تعالى والاستعاذة به والاطراح بين يديه، وهو لجوء محض، وافتقار خالص.

قلت: والثالث؟

قال: هو الرقى الشرعية التي سنها لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي نوع من العلاج الخاص الممزوج بالوساطة والأسباب.

القرآن الكريم

دخلنا القاعة الأولى، وقد كتب على بابها قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الاسراء:82)

قلت: هل يبحث الأطباء في هذا القسم عن الآيات التي يمكن الاستشفاء بها للحالات المختلفة؟

قال: ما تقصد بذلك؟

قلت: لقد ذكر الله تعالى أن منه ما هو شفاء.. ومن تدل على البعضية.

قال: ولم لم تقل بأنها لبيان الجنس لا للتبعيض؟

قلت: لقد رأيت قومي يستعملون بعض الآيات في التداوي، ويخبرون بأنهم وجدوا لها

ابتسامة الأنين (278)

تأثيرات معينة.

قال: فكيف تتعاملون مع الآيات التي اكتشفوها؟

قلت: نعتبرها من المجربات الناجحة، فنستعملها كما استعملوها.

قال: وتقعون في تحريف لكلام الله بسبب ذلك.

قلت: كيف؟

قال: تنحرفون بالقرآن الكريم عن هدفه.. فتصبح آيات القرآن الكريم طلاسم وتعاويذ.

قلت: وهل القول بكون القرآن الكريم جميعا شفاء يقي من هذا؟

قال: أجل.. لأنك تتعامل معه كليا، لا جزئيا.. وتتعامل مع معانيه وألفاظه، وهو ما يحفظك من مخاطر سوء التعامل معه (1).

قلت: ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأولئك النفر عن الفاتحة: (وما أدراك أنها رقية)، وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم خصص سورا معينة للاستعاذة والدعاء.

قال: صدقت.. وقد ذكرت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي فعل هذا، وقاله.. فإن جاءنا الخبر عنه قبلناه.. أما إن جاءنا عن غيره.. فلا نقبله إلا إذا استدل له بما عرفنا من مصدر الشريعة.

ثم.. ألم تسمع قوله تعالى وهو يقرر كون القرآن الكريم علاجا شاملا لكل الأحوال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57)، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ

__________

(1) والقرآن الكريم ـ من جهة أخرى ـ علاج خاص سواء كان ذلك للأمراض النفسية والفكرية أم للأمراض البدنية.

فمن مرض قلبه بالشهوات عولج بمواعظ القرآن الكريم وتخويفاته، ومن غليه الخوف عولج بما ورد في القرآن الكريم من آيات الرجاء والرحمة.. وهكذا يعالج كل شخص بما يتناسب مع دائه.

ومثل ذلك الأمراض الجسدية، فهناك آيات خاصة أخبرت النصوص بتأثيرها، فهي شفاء، مع أن شفاء في القرآن الكريم في أصله شامل لآياته جميعا.

وسيتعمق هذا المفهوم من خلال ما سنطرحه هنا من سر تأثير القرآن الكريم العلاجي.

ابتسامة الأنين (279)

عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت:44)

قلت: بلى.. وقد وعيت ما قلت.

رأيت رجلين في القاعة التي تعالج بالقرآن الكريم واقفين أمام ملأ من الناس، فسألت المعلم عنهما، فقال: هذان الرجلان يمثلان النوعان الأساسيان للعلاج بالقرآن الكريم، أما أحدهما، فيمثل جانب معانيه، وتأثيراتها التي نعرفها بالحس، وأما الآخر، فيمثل جانب ألفاظه ومعانيه، وتأثيراتها التي تأتينا من الغيب.

قصدنا الرجل الأول، وقد كان على ما يبدو عالما جليلا، قد تشرب معاني القرآن الكريم وانصبغ بها، فسمعناه يقول: إن الأدوية القرآنية التي جعلها الله شفاء لأمراض الصدور.. لا يؤتي أكلها، ولا ينجع التداوي بها إلا لمن تشرب معاني القرآن الكريم وفهمها حق فهمها.

ألم تسمعوا الله تعالى، وهو يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} (الاسراء:82)، فقد اعتبر القرآن الكريم شفاء للمؤمنين، ولكنه في نفس الوقت لا يزيد الظالمين إلا خسارا.

ألم تسمعوا قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت:44)، فقد أخبر تعالى أنه هدى وشفاء للمؤمنين، وأنه ليس سوى بلاء على غيرهم.

ولهذا.. فإن الذي لا يعير القرآن الكريم اهتمامه، ولا يتأدب معه فستنقلب وبالا عليه، فهو شفاء لمن عرف كيف يستخدمه، ووبال على من استعمله في غير ما أنزل له.

قال أحدهم: إنه في ذلك يشبه كل دواء استعمل في غير محله، فإن ضرره أكثر من نفعه.

قال: أجل.. ولهذا، فإن تأمل الآيات التي ورد الاستشفاء بها تدل على هذا المعنى..

تركنا الرجل الأول، وانتقلنا إلى الثاني، وهو المكلف ببيان التأثير الغيبي للعلاج بالقرآن

ابتسامة الأنين (280)

الكريم، فسمعته يقول: لقد وضع الله تعالى في كلامه من الخواص ما يداوي العلل.

وقد ورد في النصوص ما يبين قدرات القرآن الكريم العلاجية، لا مع الأمراض النفسية وحدها، بل مع الأمراض الجسدية أيضا، ففي الحديث أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتوا على حي من أحياء العرب، فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك، فقالوا: (هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا إنكم لم تقرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلاً فجعلوا لهم قطيعاً من الشاء فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ، فأتوا بالشاء فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه فضحك وقال: (وما أدراك أنها رقية خذوها واضربوا لي بسهم) (1)

وفي الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث (2).

قلت: فهل كان لهذه القراءات تأثيرها العلاجي؟

قال: لا شك في ذلك.. وتأثيرها لا يزال يشهده الكثير.. بل قد وفقني الله تعالى، فأجريت (3) بحثاً قيماً حول تأثير القرآن الكريم في هذه الناحية، حيث أخذت ثلاث مجموعات من الناس، وهم من الأميركان الذين لا يتكلمون اللغة العربية ولا يفهموها، ووصلتهم بالمقاييس الطبية الدقيقة كقياس ضغط الدم، ونبضات القلب، وتخطيط الدماغ، وتخطيط العضلات، وقياس درجة التعرق، وقرأت على المجموعة الأولى آيات من القرآن الكريم، وقرأت على المجموعة الثانية كلاما عاديا باللغة العربية، والمجموعة الثالثة للسيطرة.

فوجدت أن المتغيرات الفسلجية (4) عند المجموعة الأولى التي قرأت القرآن الكريم عليها، وارتفاع ضغط الدم، وتقلص العضلات، وانتصاب الشعر، والتعرق، هذه المؤشرات –وظائف الأعضاء الفسلجية- تحسنت كثيراً للذين سمعوا القرآن الكريم، سماعا مجردا مع عدم

__________

(1) البخاري.

(2) البخاري.

(3) هو الدكتور أحمد القاوي في الولايات المتحدة الأميركية.

(4) أي وظائف الأعضاء.

ابتسامة الأنين (281)

فهم معناه، مقارنة بالمجموعات الأخرى.

وللتأكد من صحة هذا، نقلت المجموعات، فحصل للمجموعات الأخرى عندما سمعت القرآن الكريم نفس الاستجابة والتغيرات الإيجابية.

قال له بعض الحاضرين: ولكن نرى أن هناك من يستخدم الآيات القرآنية في هذا المجال، فيسيء الاستخدام.

قال: فماذا يفعلون؟

قال الرجل: أكثرهم لا يقرأ القرآن الكريم لكونه كلام الله يداوي بألفاظه ومعانيه، ولكن لجر من يتوهم أنه سبب العلة، وهو الجني ـ في أكثر الأحيان ـ المستولي على ضحيته الإنسية إلى مسرحية تطول أو تقصر بحسب وقت الراقي المشعوذ.

قال: دعك من أولئك.. فقد شغلهم الجن عن الله، وعن أنفسهم، وعن الرسالة التي كلفهم الله بأدائها.

قلت: ولكن ألا يحتمل أن يكون ما ذكروه صحيحا.. فقد يكون الإنسان مصابا بنوع من المس أو السحر أو العين أو غيرها من أعداء الغيب.

قال: ذلك ممكن.

قال: وهذا ما يدعوهم إلى بذل الجهد في التعرف على الحالات المختلفة لعلاجها.

قال: وهذا ما أخطأوا فيه..

قلت: فما وجه الخطأ؟

قال: المعالجات القرآنية عامة، فلا نحتاج ـ لكف شر السحر أو العين أو إذية الشياطين ـ أن نشخص الداء كما تشخص الأدواء الحسية.

قال أحدهم: أليس التشخيص مقدما على العلاج؟

قال: أجل.. ولكن هذه الأدواء من الغيب الذي لا نعلمه، وليس لدينا وسائل العلم به،

ابتسامة الأنين (282)

زيادة على أن هذه الأدوية الشرعية شاملة، وتقضي على مثل هذه الأدواء عرفناها أو لم نعرفها.

فسورة الفلق مثلا تجمع أنواع الاستعاذات من العين والسحر وغيرها، وهي في ذلك تشبه دواء يقضي على مجموعة كبيرة من الأمراض، فإذا ما جهل متناوله مرضا من الأمراض، أولم يعلم كونه مصابا به، ثم تناول ذلك الدواء شفي منه بغض النظر عن علمه به أو جهله.

ولهذا من الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها هؤلاء الرقاة المشعوذون ـ الذين ابتليت الأمة والدين بهم ـ هو احتكارهم لتشخيص هذه الأنواع من الأدواء، وكأن لديهم أجهزة خاصة تكشف هذه الأنواع من العلل.

قلت: ولكن العامة لا يقبلون منهم غير هذا.. بل إن العامي لا يثق بشفاء القرآن الكريم، إلا إذا أخبرته بأنه معان أو مسحور أو تنهشه أحياء الغيب التي لا يراها.

قال: ولكن هذا العامي لا يجسر عن سؤال الطبيب عن علته ليعرف كيف يتأقلم معها، بل يكتفي بتناول الدواء، ولكنه مع الراقي الذي عوده أن يطلعه على أعداء الغيب لا يسمح له، بل لا تعظم قيمة الراقي في عينه إلا إذا شخص له ذلك.

قلت: ولكن الراقي يتأيد بما يقول العلماء، وقد سمعت أحدهم يقول جوابا لمن سأله عن تشخيص المرض من قبل الراقي: (معلوم أن الراقي الذي تتكرر عليه الأحوال ويراجعه المصابون بالمس والسحر والعين ويعالج كل مرض بما يناسبه أنه مع كثرة الممارسة يعرف أنواع الأمراض النفسية أو أكثرها وذلك بالعلامات التي تتجلى مع التجارب، فيعرف المباشرة بتغير عينيه أو صفرة أو حمرة في جسده أو نحو ذلك، ولا تحصل هذه المعرفة لكل القراء وقد يدعي المعرفة ولا يوافق ذلك ما يقوله، لأنه يبني على الظن الغالب لا على اليقين) (1)

قال: لا ينبغي للعلماء أن يقولوا مثل هذا.. إنهم يفتحون بهذا أبوابا يصعب غلقها.

قال آخر: وقد سمعت بعضهم يحث المريض ـ لا إلى اللجوء إلى الله، ليرفع عنه بلاءه ـ وإنما

__________

(1) الفتاوى الذهبية في الرقية الشرعية – ص 20، 21، والمفتي هو الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.

ابتسامة الأنين (283)

للبحث عن الوسيط الخبير الذي له الحق وحده أن يقرع باب الله، ويعطي صكوك الشفاء للمبتلين، فقد قال: (قد تكون الأعراض مشتركة نتيجة لمعاناة المريض من جراء إصابته بأمراض الصرع والسحر والعين والحسد، بسبب عامل مشترك واحد نتيجة اقتران الأرواح الخبيثة، وهذا بالتالي يحتاج للمعالِج الحاذق المتمرس ليقف على حقيقة المعاناة، ومن ثم يحدد الداء، ويصف الدواء النافع بإذن الله تعالى)

قال: فأين يجد هذا الحاذق المتمرس؟

قال الرجل: لعله يقصد نفسه، فقد ذكر بعد هذا الكلام أنواع الأعراض وصنفها كما تصنف أعراض الأمراض الحسية، وبجرأة دونها جرأة الأطباء الخبراء.

فقد ذكر ـ مثلا ـ من أعراض الاقتران الكلي حال إجراء الرقية: (الإغماء وتشنج الأعصاب، والصراخ الشديد والبكاء، وشخوص البصر، وطرف العينان يمنة أو يسرة، وانتفاخ الأوداج والصدر واحمرار العينين بشكل غير طبيعي، والقوة والقدرة غير الطبيعية وحركة غير طبيعية وغالبا ما تكون في منطقة البطن وانتفاخ غير طبيعي في منطقة البطن، وضيقة شديدة في منطقة الصدر، والقيء والاستفراغ، والاهتزاز والرجفة الشديدتان، وتغير الصوت كليا في بعض الحالات، وإصدار أصوات غريبة)

ومن الطرق الفعالة ـ التي ذكرها ـ للكشف عن صرع الأرواح الخبيثة (المتابعة الخاصة بحركة العين)

وهو ورع فلذلك قال: (ولا يجوز النظر في أعين النساء مطلقا، لكافة الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة)

ولكنه مع ذلك يعطي البديل الذي يعبر عنه بقوله: (ولا بأس بمتابعة ذلك عن طريق أحد المحارم أو المرافقين للمريضة، وتدوين الملاحظات التي تعين المعالِج في قيامه بعمله دون الوقوع في الحرج والمخالفة الشرعية)

ابتسامة الأنين (284)

ثم يذكر الأعراض التي تدل عليها العين من شؤون الجن، فيذكر الأعراض التالية: (ارتعاش.. عدم القدرة على التركيز.. تغير في حجم بؤبؤ العين.. الاتجاه المعاكس في حركة العينين.. إغلاق العينين بسرعة وبصورة متكررة.. الصراخ أو البكاء.. التنميل في بعض الأطراف)

قال: فمن أي المصادر يقتبسون هذه المعاني؟

قال أحدهم: هم يسمون هذا النوع من الرقى (رقى شرعية)

قال: ولكن الشرعية في المصطلح الشرعي تستدعي الرجوع للمصادر الأصلية، ففي أي مصدر من هذه المصادر توجد هذه الأعراض، وتحدد نوع المس؟

قال آخر: بل إن قراءة بسيطة لما ذكروه من الأعراض، تدل على مدى الضياع الذي يعيشه هؤلاء، ويريدون من الأمة أن تعيش معهم فيه، فمن أعراض المس السابقة (الصدود عن المذاكرة أو الدراسة أو العمل أو البيت أو الزوجة).. ولهذا إذا أتاهم من يشكو من هذه الأعراض لا يوجهونه إلى الاجتهاد، ويحضونه على حسن الخلق مع أهله، وإنما يجتهدون في حرق الشياطين التي تسكنه أو دعوتها إلى الإسلام، أما هو فبريء لا حساب عليه، وكيف يحاسب على عمل الجني الذي يستوطنه.

قال آخر: والأخطر من ذلك ما ذكروه من عرض (الصدود عن العبادات وعلى الأخص الصلاة وتلاوة القرآن) وهم يتفقون في هذا العرض، وهم بهذا يبرئون أبا جهل وغيره من المشركين، فلعل بغضهم للقرآن الكريم والصلاة، لم يكن عمدا، بل كان نوعا من المس، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اكتفى برقيتهم وأحرق شياطينهم لأسلموا وأحبوا القرآن الكريم، وتهجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهاجروا معه.

الاستعاذات الشرعية

ابتسامة الأنين (285)

دخلنا القاعة الثانية، وقد كتب على بابها قوله تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (غافر:56)

قلت: أهذه قاعة الاستعاذة من الشياطين؟

قال: هذه القاعة تعلم فيها الاستعاذة بجميع أنواعها.. والشياطين من أنواع المستعاذ منهم.

قلت: ولكن القرآن الكريم ذكر الاستعاذة من الشياطين في مواضع منه، فالله تعالى يقول: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (لأعراف:200)، وهو يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل:98)، وهو يقول: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (فصلت:36)

قال: لقد ذكر الله تعالى أن الشيطان من أخطر أعداء الإنسان، فلذلك وردت هذه النصوص في التشديد بالأمر بالاستعاذة منه.. ولكنها لا تعني الحصر.. فقد ورد في النصوص الكثير من الاستعاذات، ألم تسمع قول موسى عليه السلام: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة:67)،وقول نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (هود:47)، وقول مريم ـ عليها السلام ـ: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} (مريم:18).. ألم تسمع المعوذتين؟

قلت: بلى..

قال: ومثله النصوص الكثيرة.. وهي تملأ الصدر انشراحا، والقلب راحة.

قلت: ألهذه الاستعاذات تأثير نفسي على قائلها؟

قال: أجل.. زيادة على التأثير الغيبي.. فالكثير قد يحزن، ويمتلئ قلبه كآبة لأجل أمور بسيطة، كرؤيا يؤرقه تذكرها، ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أمته كيف تتحصن بحصن الله من الرؤى التي تخافها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث حين

ابتسامة الأنين (286)

يستيقظ ثلاث مرات ويتعوذ من شرها فإنها لا تضره) (1) قال أبو سلمة أحد رواة الحديث يبين أثر هذا الحديث في نفسه: (وإن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من الجبل فما هو إلا أن سمعت هذا الحديث فما أباليها)

وورد في حديث آخر، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها، وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره) (2)

قلت: فلم نهاه عن ذكرها؟

قال: لما يحدثه ذكرها في نفسه من خوف، فيكفي التجاؤه إلى الله في حمايته من شرها، بخلاف التحديث بالرؤيا الصالحة فإن لها من التأثير المعنوي ما يدعو إلى روايتها.

بينما نحن كذلك إذ رأيت أقواما مجتمعين، كل منهم يلقن أخاه شيئا، فسألت المعلم عنهم، فقال: هؤلاء يذكر بعضهم لبعض أنواع الملاجئ التي تعلموها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورأوا تأثيرها في حياتهم.

اقتربت من بعضهم، فسمعته يقول لأخيه: لقد حرصت على كثرة الاستعاذة بـ: (أعوذُ بكلماتِ اللهِ التامَّاتِ مِن شرِّ ما خَلق) فوجدتها ـ مع قلة ألفاظها ـ واقية من كل سوء.

قال صاحبه: أما أنا.. فإني ـ كما تعلم ـ امرؤ لا تمتلئ نفسي بغير التفاصيل.. ليزيل كل ما أذكره وهما من الأوهام وسببا من أسباب الخوف.

قلت: فما تقول؟

قال: أقول إذا امتلأت نفسي بالمخاوف من الشياطين والعيون: (أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)

__________

(1) ابن ماجة.

(2) البخاري ومسلم.

ابتسامة الأنين (287)

وأقول إذا امتلأت بغيرها: (أعوذ بكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ فى الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ش

وقد أقول (اللهم إنى أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم، اللهم إنه لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، سبحانك وبحمدك)

اقتربت من آخر، فسمعته يلقن صاحبه: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون)

فإذا انتهى لقنه صاحبه: (أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وأسماء الله الحسنى، ما علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، إن ربى على صراط مستقيم)

اقتربت من آخر، فسمعته يقول: (اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربى على صراط مستقيم)

وسمعت صاحبه يقرأ بعدها: (تحصنت بالله الذى لا إله إلا هو، إلهى وإله كل شئ، واعتصمت بربى ورب كل شئ، وتوكلت على الحى الذى لا يموت، واستدفعت الشر بلاحول ولا قوة إلا بالله، حسبى الله ونعم الوكيل، حسبى الرب من العباد، حسبى الخالق من المخلوق،

ابتسامة الأنين (288)

حسبى الرازق من المرزوق، حسبى الذى هو حسبى، حسبى الذى بيده ملكوت كل شئ، وهو يجير ولا يجار عليه، حسبى الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله مرمى، حسبى الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم)

تركناهم يلقن بعضهم بعضا، وانصرفت إلى محل آخر، فوجدت شيخا وقورا قد اجتمع عليه نفر من الناس يسألونه، فلما اقتربنا منه سمعته يقول: كما نهتم بتلقيح أنفسنا خوفا من كل داء طارق، أو عدو مهاجم، فينبغي تلقيحها كذلك، بل من باب أولى، بهذه الاستعاذات، فأعداؤها متيقنون، وهم أكثر خطرا من كل طاعون أو وباء.

قال أحدهم: إن قومنا قد وضعوا لنا مواقيت نلقح فيها أنفسنا من طوارق الجراثيم والفيروسات والأوبئة.

قال: وقد رتب لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المواقيت ما نلقح به أنفسنا من كل طوارق السوء.. لأن الأعداء يتربصون بالإنسان في كل وقت، ولذلك وجب أخذ الحذر، وعدم إتاحة الفرصة.

قالوا: فما نحفظ به أنفسنا من طوارق النوم، فلا نرى إلا أنه فرصة للشياطين والهوام وجميع أنواع الشرور؟

قال: لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد النوم يجمع كفَّيْهِ، ثم ينفُث فيهما، ويقرأ فيهما سورة الإخلاص والفلق والناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأُ بهما على رأسه، ووجهه، وما أقبلَ مِنْ جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.

وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يمسح بترياق هذه السور جميع الآفات التي قد تخترق حصن الإنسان، أو يجعل منها تعويذة لمنع الشياطين من التسرب لأي محل من هذا الجسم.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا أوى إلى فراشه: (اللهم رب السماوات والأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل، والفرقان، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك

ابتسامة الأنين (289)

شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر)

قالوا: فما نقول إذا خرجنا من بيوتنا.. فإنا نخشى على أنفسنا طوارق السوء؟

قال: كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج من بيته قال: (بسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل على)

وروي من تأثير هذه الاستعاذات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت، وكفيت، ووقيت، وتنحى عنه الشيطان)

قالوا: فما نقول إذا دخلنا الخلاء، فهو محل للشياطين والقاذورات؟

قال: كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل الخلاء، قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).. وكان يقول: (لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه أن يقول: اللهم إنى أعوذ بك من الرجس النجس، الخبيث المخبث، الشيطان الرجيم).. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا التعويذة التي نستتر بها عن أعين الجن، فيقول: (ستر ما بين الجن وعورات بنى آدم إذا دخل أحدكم الكنيف أن يقول: بسم الله)

قال أحدهم: فكيف نستعيذ من الشر الذي قد يكون مخبأ بين ثنايا الجديد؟

قال: لقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستعاذة من شر كل جديد نستفيده، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أفاد أحدكم دابة، فليأخذ بناصيتها، وليدع الله بالبركة، ويسمى الله عز وجل، وليقل: اللهم إنى أسألك خيرها، وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه)

قال آخر: فما نقول إذ فزعنا؟

قال: كان صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أصحابه عند الفزع أن يقولوا: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه ومن شر عباده، ومن شر همزات الشياطين، وأن يحضرون)

قال آخر: فما نقول إذا عزمنا على السفر، فالسفر والتنقل محل للأخطار، حتى أن المسافر في العصر الحديث يحتاج إلى أخذ بعض التلقيحات لتجنب آثار الأوبئة؟

ابتسامة الأنين (290)

قال: لقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من الاستعاذت التي تحصن المؤمن من مخاطر سفره، والأرض التي يريد أن ينزل فيها.

ومما يروى في ذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سفره: (أنت الصاحب فى السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من الضبنة فى السفر والكآبة فى المنقلب، اللهم اقبض لنا الأرض، وهون علينا السفر)

وكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، ومن الحور بعد الكور، ومن دعوة المظلوم، ومن سوء المنظر في الأهل والمال)

وعلمنا أن نقول إذا نزلنا محلا: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)

وأخبر عن تأثير ذلك، فقال: (من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أشرف على قرية يريد دخولها يقول: (اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وأعوذ بك من شرها، وشر أهلها وشر ما فيها)، وكان يقول: (اللهم إني أسألك من خير هذه القرية وخير ما جمعت فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما جمعت فيها، اللهم ارزقنا جناها، وأعذنا من وباها، وحببنا إلى أهلها، وحبب صالحي أهلها إلينا)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أدركه الليل في سفره، قال: (يا أرض ربى وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما دب عليك، أعوذ بالله من شر كل أسد وأسود، وحية وعقرب، ومن شر ساكن البلد، ومن شر والد، وما ولد)

قال آخر: أما أنا فمقيم لا أكاد أبرح داري.. وإنما مطيتي الصباح والمساء، فما أقول فيهما؟

قال: لقد رويت الاستعاذات الكثيرة في الصباح والمساء، باعتبارهما بداية اليوم ونهايته، وكأن المؤمن بتلك الاستعاذات يحمي نفسه فترة يومه، كما تحمي التلقيحات المختلفة الإنسان

ابتسامة الأنين (291)

فترات مؤقتة.

ويشير إلى هذه الحقيقة قوله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الاستعاذة: (اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، وشر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربى على صراط مستقيم): (من قالها في أول النهار لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالها آخر النهار لم تصيبه مصيبة حتى يصبح)

قالوا: فعلمنا من هذه الاستعاذات ما نسأل الله أن يوفقنا للمحافظة عليه.

قال: من الاستعاذات التي تقال في الصباح والمساء: (أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شئ قدير، رب أسألك خير ما في هذا اليوم، وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر هذا اليوم، وشر ما بعده، رب أعوذ بك من الكسل، وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب القبر) (1)

ومنها (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنى أسألك العفو والعافية فى ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يمينى وعن شمالي، ومن فوقى، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) (2)

قال آخر: إني لا أرب لي في دنياكم التي تتنافسون عليها.. وإنما كل حاجتي منها ركيعات وسجيدات أتقرب بها إلى ربي..

قال: فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يترك الاستعاذة حتى وهو في مناجاة ربه وعبادته، فمن صيغ دعاء الاستفتاح: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله كثيرا، الحمد لله كثيرا، الحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، سبحان الله بكرة وأصيلا، سبحان الله بكرة وأصيلا، اللهم إني أعوذ بك من

__________

(1) مسلم، وآخر الحديث: (وإذَا أمْسَى قَالَ: أمْسَيْنَا وَأَمْسَى المُلْكُ لِلَّهِ..)

(2) صححه الحاكم

ابتسامة الأنين (292)

الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في صلاته قائلا: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)

فإذا انصرف من الصلاة قال: (اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) (1)

وفي الحج وفى الموقف، كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم لك الحمد كالذى نقول، وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتى ونسكى، ومحياى، ومماتى، وإليك مآبى، ولك ربى تراثى، اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إنى أعوذ بك من شر ما تجئ به الريح) (2)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل المسجد يقول: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)، وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن تأثير هذه الاستعاذة فقال: (فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ منى سائر اليوم) (3)

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم فى أول قراءته، فيقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وربما كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه، ونفثه)

وكان يخبر أن سيد الاستغفار أن يقول المستغفر: (اللهم أنت ربى، لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها حين يصبح موقنا بها فمات من

__________

(1) أبو حاتم في صحيحه.

(2) الترمذى.

(3) أبو داود

ابتسامة الأنين (293)

يومه، دخل الجنة، ومن قالها حين يمسى موقنا بها، فمات من ليلته، دخل الجنة)

الرقى الشرعية

انتقلنا إلى القاعة الثالثة، وهي القاعة المختصة بالرقى الشرعية، وقد كتب على بابها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا رقية إلا من عين، أو حمة) (1)

فسألت المعلم عن سر وضع هذا النص هنا، فقال: لقد رأى أهل هذا المستشفى مبالغة قومك في شأن الرقى وتعميمها، وعدم التفريق بينها وبين الاستعاذات الشرعية، فلذلك جعلوا هذا الحديث شعارا لهذا الملجأ من الملاجئ الإلهية.

قلت: لكن هذا الحديث يحصر الرقى في أشياء محدودة جدا.. وقد ورد في النصوص ما يشير إلى أن الرقى غير محصورة في هذين الجانبين.

أشار إلى رجل في القاعة يقلب دفاتر بين يديه، فقلت: من هذا؟

قال: هذا رجل من المتكلمين آتاه الله فهما، وهو يشرح هذا النص ويرد على ما يجادل فيه.. فإن كان لك شيء من الجدل فاقترب منه واطرح عليه ما تشاء.

اقتربت منه، فواجهني بقوله: مثل ماذا؟

قلت: ما تقصد؟

قال: إن سيما وجهك تخبرني بأنك ترى عدم انحصار الرقية فيما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم من العين والحمة.

قلت: أجل.

قال: مثل ماذا!؟

قلت: مثل ما روي عن سهل بن حُنَيفٍ، قال: مررْنا بَسيْلٍ، فدخلتُ، فاغتسلتُ فيه،

__________

(1) أبو داود

ابتسامة الأنين (294)

فخرجتُ محموماً، فنُمِىَ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (مُرُوا أبا ثابتٍ يَتَعَوَّذُ)، قال: فقلتُ: يا سيدى؛ والرُّقَى صالحة؟ فقال: (لا رُقيةَ إلا فى نَفْسٍ، أو حُمَةٍ، أو لَدْغَةٍ) (1).. فقد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم شيئا آخر غير ما ذكر الحديث السابق.

قال: ولكنه ذكرها بصيغة الحصر.. ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر في الأصل بالاستعاذة، ولم يكن حديثه عن الرقية إلا إجابة عن سؤال سألوه عنه ولا علاقة له بما حصل لسهل..

قاطعنا آخر، وقال: أنا لغوي من الله علي بعلم غريب النصوص، وسأشرح لكم من ألفاظه ما يبين توافق الحديثين، أما العين فمعروفة، ويقابلها في الحديث الثاني النَّفْس: وهي العَيْن، يقال: أصابت فلاناً نفسٌ، أى: عَيْن. والنافِس: العائن.

أما الحُمَةُ، فهي ذوات السُّموم كلها، كما قال ثعلب وغيره: هي سم العقرب وقال القزاز: قيل هي شوكة العقرب وكذا قال بن سيده أنها الابرة التي تضرب بها العقرب والزنبور، وقال الخطابي: الحمة كل هامة ذات سم من حية أو عقرب.

ولهذا فلا تعارض بين هذا الحديث والحديث السابق، لأن الحمة أعم من اللدغة، فبالتالي دخلت اللدغة فيها، والمقصود منها الأمراض التي يرجع سببها للسموم.

وإلى هذا أشار ابن حجر، فقد قال بعد إيراد الحديثين: (فغاير بينهما فيحتمل أن يخرج على أن الحمة خاصة بالعقرب فيكون ذكر اللدغة بعدها من العام بعد الخاص)

قلت: ولكن ابن القيم وغيره أجابوا على هذا التعارض بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يُرِدْ به نفىَ جواز الرُّقية فى غيرها، بل المرادُ به: (لا رُقية أولى وأنفعُ منها فى العَيْن والحُمَة)

قال: هذا تأويل للحديث، والأصل الأخذ بما جاء في ظاهر النص، خاصة مع يسر الجمع بينهما.

قلت: ولكن ورد في حديث ثالث، قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا رُقْيَةَ إلا مِن عَيْنٍ، أو حُمَةٍ، أو دَمٍ لا

__________

(1) أبو داود.

ابتسامة الأنين (295)

يَرْقأُ) (1)، فقد أضاف في هذا الحديث الدم الذي لا يرقأ، وهو الدم الذي لا ينقطع.

قال: هذا يستدعي البحث عن سر عدم انقطاع الدم، ولعل له علاقة بالسموم، فيجمع بذلك بين هذا الحديث وما سبقه من الأحاديث.

قلت: وقد ورد في حديث رابع عن أنس قال: (رخَّص رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فى الرُّقية من العَيْن والحُمَةِ والنَّمْلَةِ) (2).. فقد أضاف في هذا الحديث النملة، وقرنها بالعين.

قال اللغوي: النَّمْلَة: قُروح تخرج فى الجنبين، وهو داء معروف، ولعل له علاقة بذوات السموم، فيجتمع مع ما سبق.

قلت: وقد ورد في حديث خامس: (رخَّص رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فى الرُّقْيَة من الحيَّةِ والعقرب) (3)

قال: الحية والعقرب تدخل في ذوات السموم.

قلت:..!؟

قال: أليس لديك غيرها؟

قلت: هذا ما أحفظه منها.

قال: فهذه الأحاديث جميعا تدل على انحصار الرقية في محال معينة لا تتجاوزها.

قلت: كيف ذلك؟

قال: لقد وردت هذه النصوص بصيغ الحصر، ومع أنها وردت بصيغ مختلفة إلا أن التقارب بينها يسير، فهي عموما تدل على العين، وهي محل اتفاق بين النصوص جميعا، والأمراض الناشئة بسبب السموم.

__________

(1) أبو داود.

(2) مسلم.

(3) ابن ماجه.

ابتسامة الأنين (296)

قلت: لقد وضحت لي هذا.

قال: زيادة على هذا، فقد عبر الصحابة عن وقوع الرقية في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الترخيص، والرخصة ـ كما تدل عليها نصوص الشريعة مقدرة بقدرها ـ فقد قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة:173)

زيادة على ذلك، فإن هذا يدل على أن الأصل في الرقية النهي، وهو ما ثبت في أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اعرضوا علي رقاكم)، أي لأنظر مدى شرعيتها.

قلت: فما السر الذي تراه لهذا الترخيص؟

قال: السر في هذا هو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجد الرقية منتشرة في المجتمعات الجاهلية، ووجدها مختلطة بين استعمال أدوية طبيعية، وأخرى مما يمكن تسميته روحانية.

ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم ليحرمها باعتبارها من التجارب التي ربما أثبتت بعض فاعليتها، فلذلك رغب في تركها أولا سدا لذريعة الشرك، فلما انتفت قيدها بالقيود الشرعية، وهي حصرها في أحوال معينة وبأساليب خاصة لا تتجاوزها.

قلت: أهي بذلك تشبه ما يجرب من الأدوية مما يسمى بالطب البديل حيث أن هناك طرقا كثيرة قد يتوهم تلبسها بالشعوذة مع تأكد صلاحيتها في شفاء العلل؟

قال: أجل.. هذا صحيح.. وهو مثال جيد.

قلت: ورقية المس؟

قال: بدعة.. فلم يرد نص واحد بجواز الرقية فيها، فلم يرد في جميع الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بمصروع فرقاه، وأخرج الجن منه كما يفعل الرقاة الآن.

قلت: فما تقول في النصوص الكثيرة التي وردت فيها الاستعاذات والأدعية المختلفة، وهي في النصوص الصحيحة الصريحة؟

قال: إن اصطلاح الرقية في الشرع خاص بنواح محددة، وهي ما نصت عليه النصوص من

ابتسامة الأنين (297)

مجالات وكيفيات، أما ما عداها فهو من الاستعاذات والأدعية، وليس من الرقية، ويدل لذلك ما ورد في حديث أبي سعيد قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذات فأخذ بها وترك ما سواها) (1)

قلت: فما فائدة التفريق بين الرقية والاستعاذات والأدعية؟

قال: الرقية رخصة، والأدعية مسنونة مستحبة، والقول بهذا ينفي التعارض الذي يبدو في حال ما لو سوينا بينهما.

ذلك أن الكثير من النصوص تذكر أنواع الاستعاذات والأدعية التي يدعو بها المريض ربه، وهي ترغب في ذلك، وتستحبه بدليل ما فيها من المعاني.

بينما لا نجد في الرقية أي نص يدل على الاستحباب، بل قد ورد استحباب ترك الرقية في محال معينة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: ((هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون)

فلم يذكر صلى الله عليه وآله وسلم تركهم الاستعاذة، وإنما ذكر تركهم للرقى، ولهذا فمن اكتفى بالاستعاذة من العين، واكتفى من ذوات السموم باستعمال العلاج واللجوء إلى الله كان ذلك كافيا له.

قلت: ولكن العلماء أجابوا على ما يبدو من تعارض بين النهي عن الرقية أو بيان كون الكمال في تركها، وبين ثبوت النصوص الكثيرة الدالة على طرق الدعاء للمريض بإجابات كثيرة كما قال النووي: (فقد يظن مخالفاً لهذه الأحاديث ولا مخالفة بل المدح في ترك الرقى المراد بها الرقى التي هي من كلام الكفار والرقى المجهولة والتي بغير العربية وما لا يعرف معناها فهذه مذمومة لاحتمال أن معناها كفر أو قريب منه أو مكروه، وأما الرقي بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلا نهي فيه بل هو سنة، ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين أن المدح في ترك الرقى للأفضلية وبيان التوكل والذي فعل الرقى وأذن فيها لبيان الجواز مع أن تركها أفضل)

__________

(1) الترمذي وحسنه والنسائي

ابتسامة الأنين (298)

قال: وأفضل من ذلك لو حصروا الرقية فيما حصر من النصوص، وفرقوا بين الاستعاذة والرقية.

قلت: فما كيفية الرقية، وما مدى حرية الاجتهاد فيها؟

قال: من خلال استقراء النصوص نرى طرقا معينة في الرقى المرتبطة بالعين أو المرتبطة بعلاج ذوات السموم، وهي طرق منها ما هو منبن على الأعراف الجاهلية، وأقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها ما شرع أساسا.. وبذلك فإن كيفيات الرقى توقيفية، لا تختلف عن سائر التوقيفات بدليل الحديث المعروف: (اعرضوا علي رقاكم)

قلت له: ولكن الرقاة يستدلون عادة بهذا الحديث على ما يفعلونه ويخترعونه.

قال: فما وجه استدلالهم؟

قلت: وجهه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقر بعض الرقى.

قال: وهل نسوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بعرضها عليه ليقرها، فلمن يعرضوها حتى تعتبر رقية؟

قلت: يعرضوها على قواعد الدين وأصوله، أو يقيسوها على ما ورد في النصوص من الرقى.

قال: لو كان الأمر خاضعا للقياس لبين العلة، وتركهم يقيسون دون أن يطلب منهم عرض آحاد القضايا عليه.

ولكن الرقية شيء مختلف.. إنها دواء، هي مثل أي اختراع لدواء، فإنه يحتاج إلى عرضه على هيئات مختصة لترى مدى فاعليته، وبما أن تأثير الرقية غيبي، فيحتاج فيها إلى معصوم له علاقة بهذا العالم، وليس ذلك إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قلت: فأورد لي كيفية الرقية من خلال النصوص.

قال: بما أن مجالات الرقية محددة بما سبق بيانه، فسأورد لك النصوص الدالة على تلك الكيفيات التي لا يحل تجاوزها، وأورد معها ـ من باب النصيحة للأمة ـ بعض الأخطاء في هذا

ابتسامة الأنين (299)

المجال، ولولا أن المصيبة بها عامة، لما اشتغلت بذكرها والتنبيه عليها.

قلت: فلنبدأ بالعين.

قال: لقد رأينا أنواع الرقى والاستعاذات المرتبطة بها.

قلت: فلم تبق إلا الأمراض السمية.. فما هي؟.. وما كيفية الرقية فيها؟

قال: الأمراض السمية هي الأمراض التي وردت النصوص بجواز الرقية فيها، ولعله يدخل فيها كل الأمراض التي تسببها الجراثيم وغيرها، باعتبارها من أنواع التسممات.

قلت: فما كيفية الرقية فيها؟

قال: لقد ورد في النصوص بعض أنواع الرقى في هذا الجانب، منها الاسشفاء بالقرآن الكريم ممزوجا بالنفث على موضع الداء، وهو الرقية الأولى، وقد ورد فيها هذا النص، فعن أبى سعيد الخدرى، قال: انطلق نفر من أصحاب النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى سفرة سافروها حتى نزلوا على حى من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحى، فسعوا له بكل شئ لا ينفعه شئ، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شئ. فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط؛ إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شئ لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شئ؟ فقال بعضهم: نعم والله إنى لأرقى، ولكن استضفناكم، فلم تضيفونا، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: {الحمد لله رب العالمين}، فكأنما أنشط من عقال، فانطلق يمشى وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذى صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذى رقى: لا تفعلوا حتى نأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنذكر له الذى كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكروا له ذلك، فقال: (وما يدريك أنها رقية؟)، ثم قال: (قد أصبتم، اقسموا واضربوا لى معكم سهما)

قلت: لقد قرأ عليه القرآن الكريم، فكيف اعتبر هذا رقية؟

قال: السر في اعتبارها رقية هو جمع الراقي بين القراءة والنفث عليه.

ابتسامة الأنين (300)

قلت: لقد ذكر ابن القيم السر في تأثير هذا النوع من الرقية، فقال: (وقد جعل الله سبحانه لكل داء دواء، ولكل شيء ضدا، ونفس الراقي تفعل في نفس المرقى، فيقع بين نفسيهما فعل وانفعال، كما يقع بين الداء والدواء، فتقوى نفس الراقي وقوته بالرقية على ذلك الداء، فيدفعه بإذن الله، ومدار تأثير الأدوية والأدواء على الفعل والانفعال، وهو كما يقع بين الداء والدواء الطبيعيين، يقع بين الداء والدواء الروحانيين، والروحاني، والطبيعي، وفى النفث والتفل استعانة بتلك الرطوبة والهواء، والنفس المباشر للرقية، والذكر والدعاء، فإن الرقية تخرج من قلب الراقي وفمه، فإذا صاحبها شيء من أجزاء باطنه من الريق والهواء والنفس، كانت أتم تأثيرا، وأقوى فعلا ونفوذا، ويحصل بالازدواج بينهما كيفية مؤثرة شبيهة بالكيفية الحادثة عند تركيب الأدوية.

وبالجملة.. فنفس الراقي تقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيد بكيفية نفسه، وتستعين بالرقية وبالنفث على إزالة ذلك الأثر، وكلما كانت كيفية نفس الراقي أقوى، كانت الرقية أتم، واستعانته بنفثه كاستعانة تلك النفوس الرديئة بلسعها)

وذكر حكمة أخرى، فقال: (وفى النفث سر آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان. قال تعالى: {ومن شر النفاثات فى العقد}، وذلك لأن النفس تتكيف بكيفية الغضب والمحاربة، وترسل أنفاسها سهاما لها، وتمدها بالنفث والتفل الذى معه شيء من الريق مصاحب لكيفية مؤثرة، والسواحر تستعين بالنفث استعانة بينة، وإن لم تتصل بجسم المسحور، بل تنفث على العقدة وتعقدها، وتتكلم بالسحر، فيعمل ذلك في المسحور بتوسط الأرواح السفلية الخبيثة، فتقابلها الروح الزكية الطيبة بكيفية الدفع والتكلم بالرقية، وتستعين بالنفث، فأيهما قوى كان الحكم له، ومقابلة الأرواح بعضها لبعض، ومحاربتها وآلتها من جنس مقابلة الأجسام، ومحاربتها وآلتها سواء، بل الأصل فى المحاربة والتقابل للأرواح والأجسام آلتها وجندها، ولكن من غلب عليه الحس لا يشعر بتأثيرات الأرواح وأفعالها وانفعالاتها لاستيلاء سلطان الحس عليه، وبعده من عالم الأرواح، وأحكامها، وأفعالها.

ابتسامة الأنين (301)

والمقصود.. أن الروح إذا كانت قوية وتكيفت بمعاني الفاتحة، واستعانت بالنفث والتفل، قابلت ذلك الأثر الذي حصل من النفوس الخبيثة، فأزالته)

قال: هذا كلام جميل.. ولكنه خطير.

قلت: لم؟.. وما هذا التناقض!؟

قال: هذا التحليل قد يقبل، ويعجب بعبقرية صاحبه، ولكن الخطر ليس فيه، وإنما في اعتبار ما ذكره علة يمكن القياس عليها، وهو ما حصل بين الرقاة، حيث أدرجوا في رقاهم أمورا كثيرة، فلم يبق للنفث عندهم قيمة، أو أن النفث صنعة قديمة.

قلت: صدقت.. فقد رأيت مهندسا غرق في بحار الرقية، فاخترع كرسيا عجيبا لها، وكتب في فضائله كتبا، وسر اختراعه يكمن في إيصال موجات القرآن الكريم إلى الدم مباشرة من غير وسيط.

قال: فمن أين تلقى هذا الكرسي العجيب؟

قلت: لقد وهب له من الغيب.

قال: أنبي هو أم ولي؟

قلت: هو لا يزعم كليهما.

قال: فهو دعي إذن.. ارموا به مع كرسيه عرض الحائط.

ابتسامة الأنين (302)

الخاتمة

لست أدري كيف خرجت من مستشفى السلام، ولا كيف التقيت بمعلمي معلم السلام.. فقد رأيت نفسي فجأة في بيتي وعلى فراشي الذي كنت أتكئ عليه، والذي لم يتحرك طرف منه طيلة فترة غيابي.

قال لي معلم السلام، وهو يبتسم: أتدري ما أصل هذا المستشفى الذي رحلنا إليه في هذا الدرس من دروس السلام؟

قلت: لا.. وكم أود أن أعرف؟.. ولكني أخشى أن يكون سؤالي فضولا.

قال: أصل هذا المستشفى مؤسس على نفحة من نفحات الإيمان.. خرجت مع قول الخليل عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء:80).. فسارعت بذرة لزهرة جميلة، فتعلقت بها، فعبق من عطر نفحة الإيمان، وبذرة الزهرة هذا المستشفى.

قلت: أزهرة هذا المستشفى الذي كنا فيه لم تبن كما يبنى البنيان؟

قال: لا.. عوالم السلام لا تعرف الخراسانات المسلحة التي تعرفونها.

قلت: ولكنها آية في الحسن والجمال.

قال: إن أقل زهرة في الكون، بل أقل شيء في الكون يفوق كل ما تعبدونه من عمران.

قلت: من سقى تلك الزهرة حتى نمت هذا النمو العجيب؟

قال: تلك الابتسامات العذبة التي ترسلها أفواه أنات الصالحين.

قلت: فمن عمرها بالأطباء والعلماء والخبراء؟

قال: أريجها العطر هو بطاقة الدعوة التي يرسلها لهم.

قلت: وجواز السفر؟

قال: إرادة السلام وحب السلام هو جوازهم.

ابتسامة الأنين (303)

قلت: فأين توجد؟.. لعلي أدعو قومي لزيارتها..

قال: هي في..

قلت: بالله عليك ـ يا معلم ـ لا تنطق بمكان وجودها، فإني أخاف أن يقتلعها قومي ليزينوا بها قصور ملوكهم.. أو أخاف أن تمتد إليها أيديهم الآثمة، فيحولوها أشواكا كشوك السعدان.. أو أخاف على أهل تلك الأرض التي توجد فيها أن يغزوا في عقر دارهم ليجلوا عن أرضهم.. فتصير زهرتهم سبب شقائهم.. كما صار الذهب الأسود سبب تعاستنا.

-------

في تلك الليلة أصابتني حمى شديدة.. ارتعدت لها فرائصي.. وتقطعت أوصالي.. فبت أسبح في مياه آلامي.. كانت الأنة تريد أن تفلت من لساني.. فتتداركها ابتسامتي لتملأ صدري انشراحا.

عجب أهلي من حالي.. وظنوا الابتسامة التي امتلأ بها ثغري نوعا من المس الذي يصيب المحمومين، فسارعوا بالرقاة ليقتلعوا آثار جنوني.. ضحكت منهم.. فازداد شكهم.

جاءني تلك الليلة أربعة رقاة ليقتلعوا الابتسامة التي امتلأ بها ثغري، أما الأول فكان قارئا متقنا، وأما الثاني، فكان وسيطا ملهما، وأما الثالث، فقد كان يحمل ورقة وقلما ليكتب كل ما يقال، وأما الرابع فكان مدير أعمالهم الذي يقبض الأموال ويعدها، ولا يسمح لهم بمزاولة عملهم إلا بعد امتلاء جيوبه منها.

بدأ القارئ يقرأ، فغمرني الخشوع لقراءته، فأصابني ما يصيب الخاشعين من انكسار، فصاح الوسيط في القارئ: (أعد.. أعد.. أعد ما كنت تقرأ) فعاود القراءة، فأصابني ما أصابني أولا.. فقال: هذا انكسار خطير حصل له.. أعرفه، إنه من جن..!؟)

ثم سألني كما يسأل المحققون، والعصا في يده، وهو يهم بضربي: من أي الجن أنت؟

قلت: لست من الجن.. أنا إنسي، أبي إنسي، وأمي إنسية، ولا أعلم أن أحدهما تزوج من

ابتسامة الأنين (304)

قبائل الجن.

قال: لا تتهرب.. أعرفكم معشر الجن.. تخادعون وتحتالون.. ألم تخلقوا من نار؟

قلت: لا.. أنا خلقت من طين.. أنا من طينة أبيكم آدم.. جدي هو آدم.. لا إبليس.

قال: ما أكذبكم معشر الجن.. لا تكفون عن الاحتيال والكذب.. ولكني أعرف الطريقة التي أتعامل بها معكم.

نادى في أهلي: ائتوني بكأس من الملح الخالص الذي يحرق الكبد.. فإن هذا الجن لا يخيفه شيء كما يخيفه الملح.

صحت: أتوسل إليك.. أنا إنسي.. فلا تسقني ملحا.

قال: أرأيتم.. هو جني.. وإلا فأنبئوني كيف يخاف من الملح؟

قلت: أنا لا أخافه.. ولكني أحبه في الطعام لا في الماء.

قال: ستشرب منه إلى أن تحترق كبدك.

دعا أصحابه، وأخذ الكأس يغرغر لي منها بشدة ملحا خالصا مبللا ببعض الماء، وأهلي ينظرون متأسفين لحالي، ولهذه العفاريت التي تسيمني العذاب.

بعد أن شربت من ملحهم ما لو وزعته على أيام حياتي لفاقها صاح في الراقي، وقد رأى مبلغ الجهد الذي صرت إليه: هل تقر من أنت، أم نتخذ وسيلة أخرى؟

قلت: ما هي؟

قال: هذه العصا، ستنكسر على عنقك.

قلت: ارحموني.. أنا إنسي..

ضحك الجميع، وقالوا: أنت تتحدانا.. لقد رأينا كثيرا من أمثالك.. بل كل من رأيناهم لا يختلفون عنك.. ولكنا سنؤدبك كما أدبنا الكل.. فلا ينبغي لذرية إبليس أن تغلب ذرية آدم.

صحت: ارحموني.. والله.. لست إلا أنا..

ابتسامة الأنين (305)

ابتسموا، وقالوا: هاهو أخيرا بدأ يعترف.

صحت: بم أعترف؟.. لقد قلت لكم: أنا هو أنا.

قالوا: فإذن أنت لن تسمع إلا للعصا..

لم أكن أتصور أنهم سينفذون تهديدهم.. ولكني فوجئت بالعصا تنهال علي.. ولا تترك موضعا إلا وتصيبه بآلامها إلى أن فقدت وعيي..

عندما استفقت في الصباح على آثار تلك الآلام التي خلفتها ابتسامتي فوجئت بنفسي بجنب أولئك الرقاة الأربعة، والناس يدخلون يسلمون علي، ويباركون لي الشفاء والتخلص من الجن الذي كان يستعمرني، وينحنون مقبلين أيدي الرقاة الذين كانوا جنود المعركة.

قال الأول، وهو يخاطب الجماهير المجتمعة: لم يكن جنيا واحدا.. بل كانوا على الأقل سبعة أو ثمانية.

وقال الثاني: ليتههم كانوا من الجن.. بل كانوا من العفاريت الطيارة.. لا يستسلمون أبدا.

وقال الثالث: لولا العصا ما استسلموا.. بورك في عصاك يا موسى.

كنت محتارا فيما حصل، إلا أن رابع الرقاة وكاتبهم جاءني بجريدة، وقد صورت عليها صورتي، وفيها أخبار ما حصل لي، فعجبت، وقلت له: أعرف الناس مستشفى السلام؟

قال: عن أي مستشفى تتحدث؟.. أنا صحفي أعمل بهذه الجريدة، وقد نلت اليوم مكافأة بسببك، وبسبب هذا السبق الصحفي.. فقد استطعت أن أسجل كل ما دار بين من كان يستعمرك من الجن، وهؤلاء الرقاة.. أبشر يا رجل.. فأنت الآن أشهر من نار على علم.

قلت: فادفع لي بعض ما صرف لك من مكافأة بسببي أستعين به على بعض ما أصابني.

قال: لا.. أنا لم آتك لأعطيك.. بل أتيتك لتعطيني.

قلت: ما أعطيك؟

قال: لقد قبض أصحابي أموالهم من أهلك، ولم يقسموا لي.

ابتسامة الأنين (306)

قلت: أقبضوا أموالهم من أهلي!؟.. إذن تركوني فقيرا.

قال: للأسف لم يكن لأهلك من المال ما يكفي، فاقترضوا من الجيران ما سدد بعض تكاليف الرقية.

قلت، وقد امتلأت انقباضا: وما فعلوا حتى يستحقوا كل هذا الأجر؟

قال: ألا تعلم يا رجل أنهم خلصوك من سبع مستعمرين من الجن!؟

قلت: فما تطلب أنت؟

قال: حقي من المال.. فإنه لم يقسم لي.

قلت: وما فعلت أنت؟ لقد ذكرت أنك لم تخرج الجن معهم.. وذكرت أنك نلت مكافأتك.

قال: ولكني نشرت صورتك واسمك.. ألا يكفي هذا لتنيلني أجري؟

قلت: أقرنت اسمي مع اسم الجن، ثم تريد أن أعطيك أجرا!؟

لاحظ بعضهم ما جري بيننا من نقاش، فقال: ما الذي يحصل؟

قعد بي المرض عن شرح ما حصل.. فسبقني يخبر بما حصل لي.. فقال الحكيم الذي أراد أن يصلح بيننا: أعطه حقه يا رجل.. ولا تكن بخيلا.. فلولاهم لكنت الآن في عوالم..!؟

كاد عقلي يفلت مني.. ولولا رحمة الله لي بما تعلمته من دروس السلام لواجهته بما يقضي على عمري وعمره، لكني سكنت، وقلت: صدقت.. لقد خدمتني خدمة لن أنساها لك، ولكني لن أعطيك مالا، فالمال عرض زائل، وهو أقل من أن يفي بحقك.. ولهذا سأجعل اسمك، واسم أصحابك من الرقاة، بل اسم كل من امتهن هذه المهنة الشريفة أشهر من نار على علم.. أليس هذا عدلا؟

نطقت الجماعة مكبرين: أجل.. هذا هو العدل.. هذا هو العدل بعينه.. انظروا حكمة الرجل بعد أن فارقته عفاريته!!

ابتسامة الأنين (307)

-------

في ذلك المساء، وبعد أن سكنت نفسي من هول ما أصابني جاءني معلم السلام، وقال: ما فعلت مع أنينك أمس؟

قلت: وكيف عرفت ذلك؟

قال: ما أكثر نسيانك، أنا معك لا أفارقك، فخبرني، ما فعلت أمس مع أنينك؟

قلت: ابتسمت، أول مرة أبتسم فيها من كل قلبي، وأول مرة تتحول آهاتي بسمات وفرحة.. ولكن أنت أدرى بما أصابني بسببها.

قال: لا عليك.. لقد تعلمت أول درس من دروس السلام، فانشر هذه الرسالة بين الناس لينتفعوا بها.

قلت: إذن يرجموني.

قال: لم؟

قلت: يقولون: مدع للنبوة، أو يزعم أنه ملهم، فمن أنت حتى أتقي أذاهم؟

قال: قل لهم: (واعظ)

قلت: أي واعظ، إمام أي مسجد أنت؟

قال: إمام مساجد القلوب.

قلت: وهل للقلوب مساجد؟

قال: ليست المساجد إلا في القلوب.

قلت: أريد خبر معصوم ينبئ عنك لأتقي ما قد يرميني به قومي من الحجارة.

قال: اقرأ عليهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أراد الله تعالى بعبد خيرا جعل له واعظا من نفسه يأمره وينهاه) (1) فأنا ذلك الواعظ.

__________

(1) الديلمي في مسند الفردوس.

ابتسامة الأنين (308)

قلت: فإن قالوا: الحديث ضعيف، فما عساي أقول لهم؟

قال: قل لهم: هو السلام، فإنه لا يعلم السلام إلا السلام.

قلت: يقولون: السلام معنى، والمعنى لا يتجسم.

قال: قل لهم: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لو كان الحياء رجلا لكان رجلا صالحا، وإن الفحش من الفجور، وإن الفجور في النار، ولو كان الفحش رجلا لكان رجلا سوءا) (1)

قلت: سيقولون: (لو) هنا تعني الافتراض، ولا تعني الوجود.

قال: قل لهم: فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يأتي القرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران، يأتيان كأنهما غيايتان وبينهما شرق، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلتان من طير صواف يجادلان عن صاحبهما) (2)

قلت: سيقولون ذلك في الآخرة.. أنا أعلم أنهم لن يقبلوا هذا، ولن يسلموا به، ولو أتيتهم بجميع أحاديث الدنيا، فاذكر لهم شيئا آخر تهضمه عقولهم.

قال: قل لهم هو: (اللمة)

قلت: أي لمة؟

قال: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان) (3)

قلت: فإن لم يفهموا ذلك؟

قال: قل لهم: هو القرين.

__________

(1) البيهقي في الشعب.

(2) أحمد ومسلم والترمذي.

(3) الترمذي والنسائي ابن حبان.

ابتسامة الأنين (309)

قلت: سيفهمون، ولكني لن ألقاك بعدها أبدا.

فقال: كيف؟.. ولماذا؟

قلت: لأنهم سيحملونني إلى الرقاة، ولعلهم يقومون بحرقك.. وسأنال من الهراوات ما نلته ليلة أمس.

قال: لا.. لم أقصد قرين الجن، بل قصدت قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا: وإياك قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير) (1)

قلت: هم لا يؤمنون إلا بقرين الجن.

قال: فإن أعجبهم ذلك، فقل لهم: هو قرين صالح من الجن.

قلت: فسيقبلون هذا.. ويستبشرون.. لقد أمرتني بنشرها، فبم أسميها؟

قال: هل ابتسمت أمس لأنينك؟

قلت: أجل، ولله الحمد والمنة، ولك الشكر والفضل.

قال: فسمها (ابتسامة الأنين)

__________

(1) أحمد ومسلم.

ابتسامة الأنين (310)

هذا الكتاب

تحاول هذه الرسالة أن تعالج جراح الروح التي أحدثها ألم الجسد.. لتحول من أنين الجسد ابتسامة للروح ثقة بربها، وسلاما معه، ومع نظامه الذي أبدعه، ومقاديره التي قدرها.

وقد قاد الرحلة في هذه الرسالة (معلم السلام) الذي أخذ تلميذه المتألم المصارع إلى (مستشفى السلام) ليرى كيف يحول أهل السلام من الألم أملا، ومن الأنين ابتسامة، ومن الحزن صلة مع الله، ومن المصائب جسورا للوصول إلى فضل الله ورحمته التي وسعت كل شيء.

وهذه الرسالة تحاول كذلك أن تصحح المفاهيم حول الرؤية الشرعية للطب الروحاني، فهو طب معقول المعنى، لا ينكره علماء النفس، ولا غيرهم من العلماء، لأنه يعتمد على زرع الثقة في نفس المريض بربه، وتجعله يستهين بالآلام التي تنزل به لرؤيته ما هو أعظم منها وأفضل، وهي بذلك ترد على التشويهات الخطيرة التي أحدثها الدجالون والمشعوذون والخرافيون الذين يسمون أنفسهم رقاة، فشوهوا الدين في هذا المجال كما شوهوه في غيره من المجالات.

ابتسامة الأنين (310)